تفسير سورة التوبة

آراء ابن حزم الظاهري في التفسير
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب آراء ابن حزم الظاهري في التفسير .
لمؤلفه ابن حزم . المتوفي سنة 456 هـ
قال الله تعالى :
﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ﴾[ التوبة : ١ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ١ ] إذا نزل أهل الحرب على المسلمين تجارا بأمان، ووجدنا معهم أموالا للمسلمين ؛ فهل ننتزعها منهم ؟
يقول ابن حزم رحمه الله تعالى :
( وكذلك لو نزل أهل الحرب عندنا تجارا بأمان، أو رسلا، أو مستجيرين، أو ملتزمين لأن يكونوا ذمة لنا، فوجدنا بأيديهم أسرى مسلمين، أو أهل ذمة، أو عبيدا، أو إماء للمسلمين، أو مالا لمسلم، أو لذمي، فإنه ينتزع كل ذلك منهم بلا عوض، أحبوا أم كرهوا، ويرد المال إلى أصحابه. ولا يحل لنا الوفاء بكل عهد أعطوه على خلاف هذا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل " ١...
وقال مالك وابن القاسم٢ : لو نزل حربيون بأمان، وعندهم مسلمات مأسورات لم ينتزعن منهم، ولا يمنعون من الوطء بهن٣. وقال ابن القاسم : لو تذمم حربيون وبأيديهم أسرى مسلمون أحرار : فهم باقون في أيدي أهل الذمة عبيد لهم كما كانوا. وهذان القولان لا نعلم قولا أعظم فسادا منهما، ونعوذ بالله منهما، وليت شعري ما القول، لو كان بأيديهم شيوخ مسلمون، وهم يستحلون فعل قوم لوط أيتركون وذلك ؟ أو لو أن بأيديهم مصاحف، أيتركون يمسحون بها العذر عن أستاههم ؟ ! نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول أتم البراءة، ونعوذ بالله من الخذلان.
قال ابن حزم :( فإن ذكروا حديث أبي جندل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رده على المشركين٤، فلا حجة لهم فيه لوجوه :
أولها : أنه عليه السلام رده ولم يكن العهد تم بينهم، وهم لا يقولون بهذا.
والثاني : أنه عليه السلام لم يرده حتى أجاره له مكرز بن حفص من أن يؤذى.
والثالث : أنه عليه السلام قد كان الله تعالى أعلمه أنه سيجعل الله له فرجا ومخرجا ونحن لا نعلم ذلك.
والرابع : أنه خبر منسوخ، نسخه قول الله تعالى بعد قصة أبي جندل :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ﴾[ الممتحنة : ١٠ ].
فأبطل الله تبارك وتعالى بهذه الآية عهدهم في رد النساء، ثم أنزل الله تعالى :﴿ براءة ﴾ بعد ذلك فأبطل العهد كله ونسخه بقوله تعالى :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾[ التوبة : ١-٢ ].
وبقوله تعالى في ( براءة ) أيضا :﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ﴾[ التوبة : ٧ ] الآية.
فأبطل تعالى كل عهد للمشركين حاشا الذين عاهدوا عند المسجد الحرام.
وبقوله تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ﴾[ التوبة : ٥ ].
وقال تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾[ التوبة : ٢٩ ].
فأبطل الله تعالى كل عهد ولم يقره، ولم يجعل للمشركين إلا القتل، أو الإسلام، ولأهل الكتاب خاصة إعطاء الجزية وهم صاغرون وأمن المستجير والرسول حتى يؤدي رسالته، ويسمع المستجير كلام الله، ثم يردان إلى بلادهما ولا مزيد، فكل عهد غير هذا فهو باطل مفسوخ لا يحل الوفاء به ؛ لأنه خلاف شرط الله عز وجل وخلاف أمره )٥.
١ أخرجه البخاري (٢١٦٨) في البيوع: باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل، ومسلم في (١٥٠٤): (العتق): باب إنما الولاء لمن اعتق؟ من حديث عائشة رضي الله عنها: قالت: دخلت على بريرة، فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أوراق في تسع سنين، في كل سنة أوقية، فأعييني، فقلت لها: إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك، ويكون الولاء لي، فعلت، فذكرت ذلك لأهلها، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فأتتني فذكرت ذلك قالت: فانتهرتها، فقالت: لاها الله إذا، قالت: فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألني فأخبرته، فقال: "اشتريتها وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن اعتق"، ففعلت، قالت: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية، فحمد الله أثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل، فهو باطل، وإن كان مائة شرط" الحديث..
٢ عبد الرحمن بن القاسم أبو عبد الله العتقي مولاهم المصري صاحب مالك الإمام، كان ذا مال ودنيا فأنفقها في العلم، ولد سنة (١٣٢ هـ). انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (٩/١٢٠)..
٣ ذهب مالك وابن القاسم: أنه إذا كان بين المسلمين وبين الكفار عهد، ومن بنود العهد رد من جاء إلينا منهم مسلما، أنه يجب لهم الوفاء أما النساء، فلا، ولو اشترط كان شرطا فاسدا. فهذا يوهي ما نقله عنهم ابن حزم. سيما مع نص الآية الصريح على النساء، وحرمة بقائهن عند الكفار. انظر: (التاج والإكليل) (٣/٣٨٦-٣٨٧)، (جواهر الإكليل) (١/٢٧٠)..
٤ أخرجه البخاري (٢٧٣٢، ٢٧٣١)، كتاب الشروط: باب الشروط في الجهاد، وأخرج مسلم بعضه دون قصة أبي جندل (١٧٨٤) في (كتاب الجهاد والسير): باب صلح الحديبية في الحديبية).
٥ المحلى (٥/٣٦٠-٣٦٢)..
قال الله تعالى :
﴿ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن ثبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ﴾[ التوبة : ٣ ].
وفيها مسائل أربع، هي :
المسألة الأولى : لماذا سمى الله سبحانه :( يوم النحر ) يوم الحج الأكبر ؟
المسألة الثانية : حكم المبيت بمزدلفة.
المسألة الثالثة : حكم طواف الإفاضة.
المسألة الرابعة : حكم رمي جمرة العقبة.
المسألة الأولى :
[ ٢ ] لماذا سمى الله سبحانه :( يوم النحر ) يوم الحج الأكبر ؟
قال ابن حزم :( وأما يوم النحر، فإنما سماه الله تعالى :( يوم الحج الأكبر ) ؛ لأن فيه فرائض ثلاثا من فرائض الحج – وهو الوقوف بمزدلفة لا يكون جازئا إلا غداة يوم النحر، وجمرة العقبة، وطواف الإفاضة، ويجوز تأخيره )١.
المسألة الثانية :
[ ٣ ] حكم المبيت بمزدلفة.
يرى ابن حزم أن الوقوف بمزدلفة فرض من فرائض الحج، فيقول :( وأما يوم النحر فإنما سماه الله – تعالى - : يوم الحج الأكبر ؛ لأن فيه فرائض ثلاثا من فرائض الحج، وهو الوقوف بمزدلفة لا يكون جازئا إلا غداة يوم النحر، وجمرة العقبة، وطواف الإفاضة، ويجوز تأخيره ؛ فصح أن مزدلفة أشد فروض الحج تأكيدا وأضيقها وقتا )٢.
ويستدل بقول الله تعالى :﴿ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ﴾[ البقرة : ١٩٨ ].
ويقول :
( وقال تعالى :﴿ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ﴾.
فوجب الوقوف بمزدلفة – وهي المشعر الحرام – وذكر الله تعالى عندها فرض يعصي من خالفه، ولا حج له، لأنه لم يأت بما أمر، إلا أن إدراك صلاة الفجر فيها مع الإمام هو الذكر المفترض ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور )٣.
المسألة الثالثة :
[ ٤ ] حكم طواف الإفاضة
يرى ابن حزم أن طواف الإضافة ركن من أركان الحج لا يصح الحج بدونه٤.
المسألة الرابعة :
[ ٥ ] حكم رمي جمرة العقبة.
يرى ابن حزم – رحمه الله – أن رمي جمرة العقبة فرض من فرائض الحج وأن ( من لم يرم جمرة العقبة يوم النحر، أو باقي ذي الحجة ؛ فقد بطل حجه )٥
قال :
( وأما وجوب رمي جمرة العقبة ؛ فلما رويناه من طريق أبي داود : نا نصر بن على الجهضمي، نا يزيد بن زريع، أنا خالد – وهو الحذاء -، عن عكرمة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رجلا، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أمسيت ولم أرم ؟ قال : " ارم ولا حرج " ٦.
ومن طريق البخاري عن عبد الله بن يوسف، نا مالك، عن ابن شهاب، عن عيسى بن طلحة بن٧ عبيد الله، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع، فجعلوا يٍسألونه، فقال له رجل : لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي ؟ قال : " ارم ولا حرج " )٨.
فأمر عليه السلام برميها، فوجب فرضا )٩.
١ المحلى (٥/١٢٨)، وانظر : (حجة الوداع) (ص ٤٧٩)..
٢ المحلى (٥/١٢٨-١٢٩، ١٢٧)..
٣ (المحلى) (٥/١٢٦-١٢٧) ويعني ببيان السنة: حديث عروة بن مضرس وسيأتي،.
٤ انظر : المحلى (٥/١٢٧-١٢٨) ودليله قد ذكرناه في المسألة السابقة فأغنى عن إعادته ههنا..
٥ المحلى (٥/١١٢، ١٢٧) وانظر (٥/١٨١)..
٦ رجال الإسناد:
نصر بن علي بن علي الجهضمي، ثقة ثبت، من العاشرة مات سنة خمسين، أو بعدها التقريب [٧١٧٠].
يزيد بن زريع، بتقديم الزاي، مصغر، البصري، أبو معاوية، يقال له: ريحانة البصرة، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة اثنتين وثمانين. التقريب [٧٧٦٤].
خالد بن مهران، أبو المنازل، بفتح الميم، وقيل بضمها، وكسر الزاي، البصري، الحذاء، وهو ثقة يرسل، من الخامسة التقريب [١٦٩٠].
تخريجه: أخرجه البخاري (١٧٢٣)، في الحج: باب الذبح قبل الحلق. وأبو داود (١٩٨٣)، في كتاب (المناسك): باب الحلق والتقصير..

٧ في هذا الموضع من المحلى كتبت عن بدل بن، وهو خطأ مطبعي، وقد كتبت على الصواب في (٥/١٩١)..
٨ رجال الإسناد:
عبد الله بن يوسف التنيسي، أبو محمد الكلاعي، ثقة متقن، من أثبت الناس في الموطأ، من كبار العاشرة، مات سنة ثماني عشرة (التقريب) [٣٧٤٥].
عيسى بن طلحة بن عبد الله التيمي، أبو محمد المدني، ثقة فاضل من كبار الثالثة، مات سنة مائة (التقريب) [٥٣٣٥].
تخريجه: أخرجه البخاري (٨٣)، في كتاب العلم: باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، وفي (١٧٢٢، ١٧٣٦، ١٧٣٧)، ومسلم في (الح)، (١٣٠٦)، باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي..

٩ (المحلى) (٥/١٣٠)..
قال الله تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ﴾[ التوبة : ٥ ]
وفيها تسع مسائل وهي :
المسألة الأولى : هل يقتل الساحر ؟
المسألة الثانية : هل المراد بالمشركين في هذه الآية، المشركون في الآية السابقة ؟
المسألة الثالثة : من بدل كفرا بكفر ؛ هل يقر عليه ؟
المسألة الرابعة : من عدم الماء والتراب، كيف يصلي ؟
المسألة الخامسة : بيان القرآن للسنة.
المسألة السادسة : هل النسخ من البيان ؟
المسألة السابعة : حكم الإيفاء بالشروط التي لا نص فيها.
المسألة الثامنة : من يجوز قتله من المشركين.
المسألة التاسعة : الجهاد مع كل إمام.
المسألة الأولى :
[ ٦ ] هل يقتل الساحر ؟
يرى ابن حزم أن الساحر مسلم، وعليه ؛ فلا يجوز قتله يقول :( فوجدنا الله تعالى يقول :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ﴾[ النساء : ٢٩ ]
وقال تعالى :﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[ التوبة : ٥ ].
وقال تعالى :﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ﴾[ الأنعام : ١٥١ ].
وقال تعالى :﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا ﴾ الآية [ النساء : ٩٣ ].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام " ١.
فصح بالقرآن والسنة : أن كل مسلم فدمه حرام إلا بنص ثابت أو إجماع متيقن. فنظرنا هل نجد في السحر نصا ثابتا بتبيان ما هو ؟
فوجدنا من طريق مسلم : نا هارون بن سعيد الأيلي، نا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن ثور بن يزيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات "، قيل : يا رسول الله وما هن ؟ قال : " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات " ٢.
فكان هذا بيانا جليا بأن السحر ليس من الشرك، ولكنه معصية موبقة كقتل النفس وشبهها، فارتفع الإشكال، ولله الحمد. وصح أن السحر ليس كفرا، وإذا لم يكن كفرا، فلا يحل قتل فاعله ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، ونفس بنفس " ٣.
فالساحر ليس كافرا كما بينا، ولا قاتلا، ولا زانيا محصنا، ولا جاء في قتله نص صحيح، فيضاف إلى هذه الثلاث، كما جاء في المحارب، والمحدود في الخمر ثلاث مرات. فصح تحريمه دمه بيقين لا إٍشكال فيه. ووجدنا أيضا من طريق البخاري، نا عبد الله بن محمد، سمعت سفيان بن عيينة يقول : إن هشام بن عروة حدثهم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن.
قال ابن عيينة : وهذا أشد ما يكون من السحر. فقال : يا عائشة، أعلمت أن الله أفتاني فيما استفتيه فيه ؟ أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ فقال : مطبوب، قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن أعصم – رجل من بني زريق حليف اليهود، وكان منافقا – قال : وفيم ؟ قال : في مشط ومشاطة، قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر، تحت راعوفة في بئر ذروان، قال : فأتى البئر حتى استخرجه، قال : فهذه البئر التي رأيتها، كأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رءوس الشياطين، قال : فاستخرج، فقلت : أفلا تنشرت ؟ قال : " أما الله فقد شفاني، وأكره أن أثير على الناس شرا " ٤.
قال أبو محمد : فهذا خبر صحيح، وقد عرف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من سحره، فلم يقتله )٥.
المسألة الثانية :
[ ٧ ] هل المراد بالمشركين في هذه الآية ( الخامسة ) المشركون في الآية السابقة ؟
قال ابن حزم رحمه الله تعالى :
( قال الله عز وجل :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ ثم قال تعالى في تلك السورة نفسها بعد يسير :﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾
قال علي : فوجدناه تعالى قد جعل مدة من عاهدوا من المشركين أربعة أشهر، ثم وجدناه تعالى قد جعل مدة المشركين من يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر بنص تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك انسلاخ الأشهر الحرم، فليس بين الأمدين إلا خمسون يوما، فعلمنا يقينا أن هؤلاء المشركين الذي جعل أمدهم شهرين غير عشرة أيام، هم غير المشركين الذين عوهدوا أربعة أشهر، وهذا ينبغي أن يتفقد جدا، فإنه يرفع الإشكال كثير. وبالله تعالى التوفيق )٦.
المسألة الثالثة :
[ ٨ ] من بدل كفرا بكفر هل يقر عليه ؟
يرى ابن حزم عليه رحمة الله : أن من انتقل من كفر إلى كفر آخر، فإنه لا يقبل منه حينئذ إلا الإسلام، أو يقتل، ولا يقبل منه الرجوع إلى دينه.
( فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل الكفار إلى أن مات عليه السلام حتى أسلم من أسلم منهم. وصح عنه الإكراه في الدين، ثم نزل بعد ذلك ﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ الآية إلى قوله تعالى :﴿ فخلوا سبيلهم ﴾[ التوبة : ٥ ].
ونزل قوله تعالى : قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }[ التوبة : ٢٩ ].
فإن قال قائل : فأين أنتم من قوله تعالى :﴿ فانبذ إليهم على سواء ﴾[ الأنفال : ٥٨ ] فيقال لهم : لا يختلف اثنان في أن هذه الآية نزلت قبل نزول ( براءة )، فإذ ذلك كذلك فإن ( براءة ) نسخت كل حكم تقدم، وأبطلت كل عهد سلف بقوله تعالى :﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ﴾[ التوبة : ٧ ].
وإنما كانت آية النبذ على سواء أيام كانت المهادنات جائزة، وأما بعد نزول ﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ فلا يحل ترك مشرك أصلا، إلا بأن يقتل، أو يسلم، أو ينبذ إليه عهده بعد التمكن من قتله حيث وجد، إلا أن يكون من أنباء الذين أوتوا الكتاب، فيقر على الجزية والصغار، كما أمر الله تعالى، أو يكون مستجيرا، فيجار حتى يقرأ عليه القرآن، ثم يرد إلى مأمنه ولا بد، إلى أن يسلم، ولا يترك أكثر من ذلك، أو رسولا فيترك مدة أداء رسالته، وأخذ جوابه، ثم يرد إلى بلده، وما عدا هؤلاء فالقتل ولا بد أو الإسلام، كما أمر الله تعالى في نص القرآن، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم )٧.
المسألة الرابعة :
[ ٩ ] من عدم الماء والتراب، كيف يصلى ؟
يرى ابن حزم : أن ( من كان محبوسا في حضر أو سفر بحيث لا يجد ترابا ولا ماء أو كان مصلوبا وجاءت الصلاة فليصل كما هو وصلاته تامة ولا يعيدها سواء وجد الماء في الوقت، أو لم يجده إلا بعد الوقت.
برهان ذلك قول الله تعالى :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾[ التغابن : ١٦ ].
وقوله تعالى :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾[ البقرة : ٢٨٦ ].
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ٨.
وقوله تعالى :﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ﴾[ الأنعام : ١١٩ ].
فصح بهذه النصوص أنه لا يلزمنا من الشرائع إلا ما استطعنا، وأن ما لم نستطعه فساقط عنا، وصح أن الله تعالى حرم علينا ترك الوضوء أو التيمم للصلاة إلا أن نضطر إليه، والممنوع من الماء والتراب مضطر إلى ما حرم عليه من ترك التطهر بالماء أو التراب، فسقط عنا تحريم ذلك عليه، وهو قادر على الصلاة بتوفيتها أحكامها وبالإيمان، فبقي عليه ما قدر عليه، فإذا صلى كما ذكرنا فقد صلى كما أمره الله تعالى، ومن صلى كما أمره الله تعالى فلا شيء عليه، والمبادرة إلى الصلاة في أول الوقت أفضل...
وقال زُفَر٩ في المحبوس في المصر بحيث لا يجد ماء ولا ترابا أو بحيث يجد التراب : إنه لا يصلي أًصلا حتى يجد الماء، لا بتيمم ولا بلا تيمم. فإذا وجد الماء توضأ وصلى تلك الصلوات...
وأما قول زفر، فخطأ أيضا، لأنه أمره بأن لا يصلى في الوقت الذي أمر الله تعالى بالصلاة فيه، وأمره أن يصلي في الوقت الذي نهاه الله تعالى عن تأخيره الصلاة إليه، وقد أمره الله تعالى بالصلاة في وقتها أوكد أمر وأشده، قال الله تعالى :﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ﴾[ التوبة : ٥ ].
فلم يأمر تعالى بتخلية سبيل الكافر حتى يتوب من الكفر، ويقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، فلا يحل ترك ما هذه صفته عن الوقت الذي لم يفسح تعالى في تأخيره عنه، فظهر فساد قول زفر، وكل من أمره بتأخير الصلاة عن وقتها. ثم قال :
( فكيف وقد جاء في هذا نص كما حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا ابن السليم، ثنا ابن الأعرابي، ثنا أبو داود١٠، ثنا النفيلي، ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بن الحضير وأناسا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فأنزلت آية التيمم١١.
فهذا أسيد وطائفة من الصحابة مع حكم الله تعالى ورضاء نبيه صلى الله عليه وسلم. وبالله تعالى التوفيق )١٢.
المسألة الخامسة :
[ ١٠ ] بيان القرآن للسنة.
يرى ابن حزم رحمه الله تعالى أن القرآن يبين السنة، فيقول :
( وقد أجمل صلى الله عليه وسلم قوله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " ١٣
ثم فسر الله تعالى ذلك وبينه بقوله في سورة براءة :
﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ﴾.
فإن قال قائل : ما بين هذا الحديث إلا حديث ابن عمر وأبي هريرة : " أني أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بما أرسلت به " ١٤. قيل له وبالله تعالى التوفيق :
هذا الخبر الذي ذكرت هو موافق لما في براءة، فصح أن الله تعالى أنزل ذلك عليه في القرآن، ثم أخبر به علي
١ أخرج البخاري (١٧٤١) في (الحج) : باب الخطبة أيام منى. وأخرجه مسلم (١٦٧٩) في: (القسامة): باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: "أتدرون أي يوم هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر؟" قلنا: بلى. قال:"أي شهر هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال:"أليس ذو الحجة؟" قلنا: بلى، قال: "أي بلد هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس بالبلدة الحرام"؟ قلنا: بلى، قال: "فإن دمائكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟" قالوا: نعم، قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"..
٢ رجال الإسناد:
هارون بن سعيد الأيلي السعدي مولاهم، أبو جعفر ثقة فاضل من العاشرة مات سنة ثلاث وخمسين (التقريب) [٧٢٧٩].
عبد الله بن وهب بن مسلم أبو محمد المصري، ثقة حافظ عابد من التاسعة، مات سنة سبع وتسعين. (التقريب) [٣٧١٨].
سليمان بن بلال التيمي مولاهم، أبو محمد وأبو أيوب المدني، ثقة من الثامنة، مات سنة سبع وسبعين. التقريب [٢٥٥٤].
ثور بن يزيد، أبو خالد الحمصي، ثقة ثبت إلا أنه يرى القدر، من السابعة، مات سنة خمسين. (التقريب) [٨٦٩].
سالم أبو الغيث المدني مولى ابن مطيع ثقة من الثالثة. (التقريب) [٢٢٠٣].
تخريجه: أخرجه البخاري (٢٧٦٦)، في الوصايا: باب قول الله تعالى ﴿إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما﴾، ومسلم (٨٩) في (الإيمان): باب الكبائر وأكبرها..

٣ أخرجه البخاري (٦٨٧٨) في: الديات: باب قول الله تعالى: ﴿أن النفس بالنفس والعين بالعين﴾، ومسلم (١٦٧٦) في (القسامة): باب ما يباح به دم المسلم من حديث ابن مسعود..
٤ رجال الإسناد :
لم يتبين لي من هو عبد الله بن محمد؟ فمحتمل أن يكون الجعفي أو ابن أبي شيبة.
تخريجه: أخرجه البخاري (٥٧٦٥) في كتاب الطب: باب هل يستخرج السحر، ومسلم (٢١٨٩) في كتاب السلام باب السحر: باب السحر..

٥ المحلى (١٢/٤١٨-٤١٩)..
٦ أصول الأحكام (م ١/٣٤٨-٣٤٩)..
٧ المحلى (١٢/١٢٠-١٢١)..
٨ أخرجه البخاري (٧٢٨٨) في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسلم (١٣٣٧) في كتاب الحج: باب فرض الحج مرة في العمر..
٩ زفر بن الهذيل بن قيس العنبري، من بحور الفقه، وأذكياء الوقت، تفقه بأبي حنيفة، وهو أكبر تلامذته، وكان يدري الحديث، ويتقن. ولد: سنة عشر ومائة، ومات سنة: ثمان وخمسين ومائة. انظر ترجمته في السير: (٨/٣٨-٤١)..
١٠ أبو داود (٣١٧) في كتاب الطهارة : (باب التيمم)..
١١ رجال الإسناد:
عبد الله بن ربيع: سبقت ترجمته في ذكر شيوخ ابن حزم.
ابن السليم: أبو بكر محمد بن إسحاق بن إبراهيم السليم، كان من العلماء العاملين، ذا زهد، وتأله، وباع طويل في الفقه، واختلاف الفقهاء، وكان رأسا في الأدب والبلاغة والنحو، مات عام سبع وستين وثلاثمائة. انظر ترجمته في السير) (١٦/٢٤٣-٢٤٤).
ابن الأعرابي: أحمد بن محمد بن زياد، أبو سعيد الصوفي، الإمام المحدث القدوة، الحافظ، كان كبير الشأن، وبعيد الصيت، عالي الإسناد، ولد سنة نيف، وأربعين ومائتين، وتوفي عام أربعين وثلاثمائة. انظر: ترجمته في السير: (١٥/٤٠٧-٤١١).
النفيلي: عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل، ثقة حافظ، من كبار العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين انظر (التقريب) [٣٦١٩].
أبو معاوية: محمد بن خازم، بمعجمتين، الضرير الكوفي، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره، من كبار التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومائة، وقد رمي بالإرجاء). انظر: التقريب [٥٨٧٨].
هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، ثقة فقيه ربما دلس، من الخامسة مات سنة خمس أو ست وأربعين. انظر: التقريب [٧٣٥٢].
عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، أبو عبد لله المدني، ثقة فقيه مشهور، من الثالثة، مات قبل المائة، سنة أربع وتسعين على الصحيح. انظر التقريب [٤٥٩٣].
تخريج الحديث: أخرجه البخاري (٣٣٤) في :(كتاب التيمم) باب التيمم. ومسلم (٣٦٧) في كتاب الحيض: باب التيمم..

١٢ (المحلى) (١/٣٦٢-٣٦٥)..
١٣ ورد بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أخرجه مسلم (٣٤) في (كتاب الإيمان) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأبو داود (٢٦٤٠) في (الجهاد): باب على ما يقاتل المشركون.
وجاء من حديث جابر رضي الله عنه: أخرجه مسلم (٣٥) في (كتاب الإيمان) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأحمد (٣/٢٩٥)..

١٤ أما حديث ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – فلفظه: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإٍسلام، وحسابهم على الله". أخرجه البخاري (٢٥) في الإيمان: باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم. ومسلم (٢٢)، في كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه مسلم (٣٤) في (كتاب الإيمان): باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأبو داود (٢٦٤٠) في (الجهاد): باب على ما يقاتل المشركون..

قال الله تعالى :﴿ وإن أحد من المشركين استجارك فأرجه حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ﴾[ التوبة : ٦ ].
وفيها مسألتان :
المٍسألة الأولى : القرآن كلام الله تعالى.
المسألة الثانية : حكم قول : لفظي بالقرآن مخلوق.
المسألة الأولى :
[ ١٥ ] القرآن كلام الله تعالى.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى :
( وأن القرآن الذي في المصاحف بأيدي المسلمين شرقا وغربا، فما بين ذلك من أول أم القرآن إلى آخر المعوذتين : كلام الله عز وجل، ووحيه أنزله على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. من كفر بحرف منه، فهو كافر.
قال الله تعالى :﴿ فأجره حتى يسمع كلام الله ﴾[ التوبة : ٦ ].
وقال تعالى :﴿ وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا ﴾[ الشورى : من الآية ٧ ] )١.
ولما رد رحمه الله تعالى قول من قال : إن جبريل لم ينزل بكلام الله بل بما هو عبادة عن كلام الله عز وجل، وما نسمع ونقرأ ليس هو القرآن البتة، قال :( وهذا من أعظم الكفر، لأن الله تعالى قال :﴿ نزل به الروح الأمين على قلبك ﴾[ الشعراء : ١٩٣-١٩٤ ].
وقال تعالى :{ فأجره حتى يسمع كلام الله ).
وقال تعالى :﴿ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ﴾[ العنكبوت : ٤٩ ].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنما أحب أن أٍسمعه من غيري )٢ يعني القرآن، وقال عليه السلام :( الذي يقرأ القرآن مع السفرة الكرام البررة )٣. ونهيه عليه السلام أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو٤، إلى إجماع عامة المسلمين وخاصتهم وجاهلهم وعالمهم على القول : حفظ فلان القرآن، وقرأ فلان القرآن، وكتب فلان القرآن في المصحف، وسمعنا القرآن من فلان، وهذا كلام الله تعالى في المصحف من أول أم القرآن إلى آخر ﴿ قل أعوذ برب الناس ﴾٥.
كما نقل الإجماع على هذا القول في هذه المسألة٦.
المسألة الثانية :
[ ١٦ ] حكم قول : لفظي بالقرآن مخلوق.
قال ابن حزم :
( قال أبو محمد : وقد قال قوم في اللفظ بالقرآن، ونسبوا إلى أهل السنة أنهم يقولون : إن الصوت غير مخلوق، وإن الخط غير مخلوق.
قال أبو محمد : وهذا باطل، وما قال قط مسلم : إن الصوت الذي هو الهواء غير مخلوق، وإن الخط غير مخلوق.
ثم نقول : إن قولنا : القرآن، وقولنا : كلام الله تعالى، لفظ مشترك يعبر به عن خمسة أشياء، فنسمي الصوت المسموع الملفوظ به : قرآنا، ونقول : إنه كلام الله تعالى على الحقيقة، وبرهان ذلك :
قول الله عز وجل ﴿ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ﴾[ التوبة : ٦ ].
وقوله تعالى ﴿ فاقرأوا ما تيسر من القرآن ﴾[ المزمل : ٢٠ ].
وأنكر على الكفار، وصدق مؤمني الجن في قولهم :﴿ إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ﴾[ الجن : ١-٢ ].
فصح أن المسموع، وهو الصوت الملفوظ به : هو القرآن حقيقة، وهو كلام الله تعالى حقيقة، ومن خالف هذا، فقد عاند القرآن، ويسمى المفهوم من ذلك الصوت قرآنا، وكلام الله تعالى على الحقيقة، فإذا فسرنا الزكاة المذكورة في القرآن والصلاة والحج وغير ذلك قلنا : في كل هذا : هذا كلام الله، وهو القرآن ويسمى القرآن المصحف كله قرآنا وكلام الله، وبرهاننا على ذلك قول الله تعالى :﴿ إنه لقرآ، كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ﴾[ الواقعة :[ ٧٨-٧٩ ].
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو لئلا يناله العدو، وقوله تعالى :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة ﴾[ البينة : ١-٣ ].
وكتاب الله تعالى هو القرآن بإجماع الأمة، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المصحف قرآنا، والقرآن كلام الله تعالى بإجماع الأمة، فالمصحف كلام الله تعالى حقيقة، لا مجازا، ويسمى المستقر في الصدور : قرآنا، ونقول : إنه كلام الله تعالى، برهاننا على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أمر بتعاهد القرآن، وقال عليه السلام : " إنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها " ٧.
وقال تعالى :﴿ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ﴾[ العنكبوت : ٤٩ ] فالذي في صدور الرجال، هو القرآن، وهو كلام الله عز وجل حقيقة، لا مجازا.
قال أبو محمد : فهذه خمسة معان يعبر عن كل معنى منها بأنه قرآن، وبأنه كلام الله تعالى، ويخبر عن كل واحد منها أخبارا صحيحة، بأنه قرآن، وبأنه كلام الله تعالى بنص القرآن والسنة اللذين أجمع عليهما جميع الأمة، وأما الصوت فهو هواء يندفع من الحلق والصدر والحنك واللسان والأسنان والشفتين إلى آذان السامع. وهو حروف الهجاء، والهواء وحروف الهجاء وكل ذلك مخلوق بلا خلاف. وقال تعالى ﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ﴾[ إبراهيم : ٤ ].
وقال تعالى :﴿ بلسان عربي مبين ﴾[ الشعراء : ١٩٥ ].
ولسان العربي، ولسان كل قوم هي لغتهم، واللسان واللغات كل ذلك مخلوق بلا شك. والمعاني المعبر عنها بالكلام المؤلف من الحروف المؤلفة، إنما هي الله تعالى، والملائكة، والمؤمنون، وسموات، وأرضون، وما فيها من الأشياء، وصلاة، وزكاة، وذكر أمم خالية، والجنة والنار، وسائر الطاعات والمعاصي، كل ذلك مخلوق حاشى الله تعالى وحده لا شريك له، خالق كل ما دونه.
وأما المصحف، فإنما هو ورق من جلود الحيوان، ومركب منها ومن مداد مؤلف من صمغ، وزاج، وعفص وماء، وكل ذلك مخلوق بلا شك، وكذلك حركة اليد في خطه، وحركة اللسان في قراءته، واستقرار كل ذلك في النفوس، هذه كلها أعراض مخلوق٨.
قال أبو محمد : ولما كان اسم القرآن يقع على خمسة أشياء وقوعا مستويا صحيحا، منها : أربعة مخلوقة، وواحد غير مخلوق، لم يجز لأحد البتة أن يقول : القرآن مخلوق. ولا أن يقول إن كلام الله تعالى مخلوق، لأن قائل هذا كاذب، إذ أوقع صفة الخلق على ما لا يقع عليه مما يقع عليه اسم القرآن، واسم كلام الله عز وجل، ووجب ضرورة أن يقال : إن القرآن لا خالق ولا مخلوق، وإن كلام الله تعالى لا خالق ولا مخلوق، منه ليست خالقه، فلا يجوز أن يطلق على القرآن، ولا على كلام الله تعالى اسم خالق، ولأن المعنى الخامس غير مخلوق، ولا يجوز أن يطلق صفة البعض على الكل الذي لا تعمه تلك الصفة، بل واجب أن يطلق بغير تلك الصفة التي للبعض عن الكل...
ولو أن قائلا قال : إن الله٩ مخلوق، وهو يعني صوته المسموع : الألف، واللام، واللام، والهاء، أو الحبر الذي كتاب هذه الكلمة، فكان في ظاهر قوله عند جميع الأمة كافرا ما لم يبين، فيقول : صوتي، أو هذا المكتوب مخلوق.
قال أبو محمد : فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة الذي لم نتعد فيه ما قاله الله عز وجل، ولا ما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة كلها على جملته، وأوجبته الضرورة والحمد لله رب العالمين. فإن سأل سائل عن اللفظ بالقرآن قلنا له : سؤالك هذا يقتضي أن اللفظ المسموع هو غير القرآن، وهذا باطل، بل اللفظ المسموع هو القرآن نفسه، وهو كلام الله عز وجل نفسه، كما قال الله تعالى :﴿ حتى يسمع كلام الله ﴾[ التوبة : ٦ ].
وكلام الله تعالى غير مخلوق لما ذكرنا، وأما من أفرد السؤال عن الصوت، وحروف الهجاء، والحبر، فكل ذلك مخلوق بلا شك )١٠.
١ (المحلى) (١/٣٢)..
٢ أخرجه البخاري (٤٥٨٢) في كتاب التفسير: باب (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد...) من حديث ابن مسعود..
٣ أخرجه البخاري (٤٩٣٧) في التفسير: باب سورة عبس، ومسلم (٧٩٨) في كتاب صلاة المسافرين: باب فضل الماهر بالقرآن. من حديث عائشة رضي الله عنها..
٤ أخرجه البخاري (٢٩٩٩٠) في كتاب الجهاد : باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو ومسلم (١٨٦٩) في كتاب الإمارة: باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ولفظة: (كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو)..
٥ (الفصل) (٥/٨٠-٨١) وانظر: (الفصل) (٣/١١ وما بعدها)، (الدرة)، ص ٢١٩..
٦ انظر: (مراتب الإجماع) (ص ٢٦٨..
٧ رواه البخاري (٥٠٣٣) في كتاب فضائل القرآن: باب استذكار القرآن وتعاهده، و(مسلم) (٧٩١) في كتاب: صلاة المسافرين: باب فضائل القرآن..
٨ هكذا ولعلها (مخلوقة)..
٩ ههنا كلمة (غير) والصواب حذفها..
١٠ (الفصل) (٣/١٤-١٩). وانظر: الدرة ص ٢٥٥..
قال الله تعالى :
﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾[ التوبة : ١١ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ١٠ ] ما أول واجب على المكلف ؟
( قال أبو محمد : فنقول وبالله تعالى التوفيق :
إن التسمية والحكم ليس إلينا، وإنما هما إلى خالق اللغات، وخالق الناطقين بها، وخالق الأشياء، ومرتبها، كما شاء. لا إله إلا هو. قال عز وجل على من سمى من قبل نفسه :
﴿ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ﴾[ النجم : ٢٣ ].
فوجدناه عز وجل يقول في غير موضع من القرآن :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾.
وقال تعالى :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ﴾[ الحجرات : ٩ ].
وقال تعالى :﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ﴾[ التوبة : ١١ ].
فخاطب الله تعالى بهذه النصوص وبغيرها، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مؤمن في العالم إلى يوم القيامة، وبيقين ندري : أنه كان من المؤمنين على عهده عليه السلام، ثم من بعده عصرا عصرا، إلى يوم القيامة المستدل، وهم الأقل، وغير المستدل، كمن أسلم من الزنج، ومن الروم، والفرس، والإماء، وضعفة النساء، والرعاة ومن نشأ على الإسلام بتعليم أبيه، أو سيده إياه، وهم الأكثر والجمهور، فسماهم الله عز وجل مؤمنين، وحكم لهم بحكم الإسلام، وهذا كله معروف بالمشاهدة والضرورة.
وقال تعالى :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم ﴾[ الإسراء : ٣٦ ].
فنهى الله عز وجل كل أحد عن أن يقول ما ليس له به علم.
وقال تعالى :﴿ آمنوا بالله ورسوله ﴾[ النساء : ١٣٦ ].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويؤمنوا بما أرسلت به " ١.
فصح يقينا أنهم كلهم مأمورون بالقول بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كل من صد عنه، فهو كافر حلال دمه وماله، فلو لم يؤمن بالقول بالإيمان إلا من عرفه من طريق الاستدلال، لكان كل من لم يستدل ممن ذكرنا منهيا عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن القول بتصديقه، لأنه عند هؤلاء القوم ليسوا عالمين بذلك، وهذا خلاف القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة المتيقن.
أما القرآن والسنة، فقد ذكرناهما، وأما إجماع الأمة : فمن الباطل المتيقن أن يكون الاستدلال فرضا لا يصح أن يكون أحد مسلما إلا به، ثم يغفل الله عز وجل أن يقول : لا تقبلوا من أحد أنه مسلم حتى يستدل، أتراه نسي ؟ ! تعالى عن ذلك، أو تعمد عز وجل ترك ذكر ذلك إضلالا لعباده ! ويترك ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إما عمدا، أو قصدا إلى الضلال، والإضلال ! أو نسيانا لما اهتدى له هؤلاء، وتنبهوا إليه وهم من هم : بلادة، وجهلا، وسقوطا، هذا لا يظنه إلا كافر، ولا يحققه إلا مشرك. فما قال قط رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قرية، أو حلة، أو حي، ولا لراع ولا لراعية، ولا للزنج، ولا للنساء : لا أقبل إسلامكم حتى أعلم المستدل من غيره، فإذا لم يقل عليه السلام ذلك، فالقول به واعتقاده إفك وضلال، وكذلك أجمع جميع الصحابة رضي الله عنهم على الدعاء إلى الإسلام وقبوله من كل أحد، دون ذكر استدلال، ثم هكذا جيلا، فجيلا، حتى حدث من لا وزن له )٢.
١ سبق تخريجه في مسألة بيان القرآن للسنة..
٢ (الفصل) (٥/٢٤٢-٢٤٤)، وانظر (المحلى) (١/٢٢)..
قال الله تعالى :
﴿ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ﴾[ التوبة : ١٢ ]
وفيها مسألتان، هما :
المسألة الأولى : ماذا يشترط لقبول الجزية.
المسألة الثانية : حكم الذمي إذا نقض العهد.
المسألة الأولى :
[ ١٨ ] ماذا يشترط لقبول الجزية ؟
يقول ابن حزم رحمه الله تعالى :
( ولا يقبل من يهودي، ولا نصراني، ولا مجوسي : جزية، إلا بأن يقروا بأن محمدا رسول الله إلينا، وأن لا يطعنوا فيه، ولا في شيء من دين الإسلام لحديث ثوبان الذي ذكرنا آنفا١، ولقول الله تعالى :﴿ وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم ﴾[ التوبة : ١٢ ] ).
وهو قول مالك، قال في المستخرجة : من قال من أهل الذمة : إنما أرسل محمد إليكم لا إلينا فلا شيء عليه، قال : فإن قال لم يكن نبيا قتل )٢.
المسألة الثانية :
[ ١٩ ] حكم الذمي إذا نقض العهد.
قال ابن حزم :
( وإن كان ذميا فنقض العهد فللناس فيه أقوال ثلاثة لا رابع لها :
أحدها : أنه ينتقل إلى حكم الحربيين في كل ما ذكرنا.
والثاني : أنه محارب حتى يقدر عليه فيرد إلى ذمته كما كان ولا بد.
والثالث : أنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف.
وقد فرق بعض الناس بين الذمي ينقض العهد، فيصير حربيا، وبين الذمي يحارب، فيكون له عندهم حكم المحارب المذكور في الآية، لا حكم الحربي، فصح بلا خلاف أن الذمي الناقض لذمته المنتقل إلى حكم أهل الحرب ليس له حكم المحارب المذكور في الآية٣ بلا خلاف.
وبين هذا قول الله تعالى :﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾[ التوبة : ١٢ ].
فأمر الله تعالى بقتالهم إذا نكثوا عهدهم حتى ينتهوا. وهذا عموم يوجب الانتهاء عن كل ما هم عليه من الضلال، وهذا يقتضي – ولا بد – أن لا يقبل منهم إلا الإسلام وحده، ولا يجوز أن يخص بقوله تعالى :﴿ لعلهم ينتهون ﴾ انتهاء دون انتهاء، فيكون فاعل ذلك قائلا على الله تعالى ما لا علم له به، وهذا حرام، قال الله تعالى :﴿ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾[ الأعراف : ٣٣ ] )٤.
١ حديث ثوبان رضي الله عنه هو، قال: (كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ قلت: ألا تقول: يا رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي" ثم ذكر الحديث، وفي آخره: إن اليهودي قال له: لقد صدقت وإنك لنبي، ثم انصرف). أخرجه مسلم (١٣٥)، في كتاب الحيض: باب صفة مني الرجل والمرأة. وابن خزيمة (٢٣٢)..
٢ (المحلى) (٥/٣٧٥-٣٧٦)..
٣ أراد آية المائدة [٣٣]، وهي قوله تعالى: ﴿إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم﴾..
٤ (المحلى) (١٢/٢٧٩)..
قال الله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾[ التوبة : ١٦ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٢٠ ] حكم التقليد ؟
قال ابن حزم :
( والتقليد حرام، ولا يحل لأحد أن يأخذ بقول أحد بلا برهان )١.
وقد أطال النفس في الاستدلال لهذا القول، فكان من أدلته ما قاله بعد أن ذكر قول من نهى عن التقليد :
( قال أبو محمد : كيف وقد أغنانا الله تعالى عن قولهم في ذلك بما نص في كتابه من إبطال التقليد فمن قول الله عز وجل :
﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ﴾[ العنكبوت : ٤١ ].
ثم قال الله تعالى على أثر هذه الآية :﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ﴾[ العنكبوت : ٤٣ ].
قال أبو محمد : فمن اتخذ رجلا إماما يعرض عليه قول ربه وقول نبيه صلى الله عليه وسلم فما واقف فيه قول ذلك الرجل قبله، وما خالفه ترك قول ربه تعالى، وقول نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى :﴿ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذي جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسول ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ﴾[ التوبة : ١٦ ].
قال أبو محمد : ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلا بعينه عيارا على كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام سائر علماء الأمة.
وقال تعالى :﴿ يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ﴾[ الأحزاب : ٦٦-٦٧ ].
وقال تعالى :﴿ فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ﴾[ الصافات : ١٥٧ ].
﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾[ البقرة : ١١١ ].
قال أبو محمد : فمن لم يأت بكتاب الله تعالى شاهدا٢ لقوله، أو ببرهان على صدق قوله، وإلا فليس صادقا، لكنه كاذب آفك مفتر على الله عز وجل. ومن أطاع سادته وكبراءه وترك ما جاءه عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد ضل، بنص القرآن، واستحق الوعيد بالنار، نعوذ بالله منها وما أدى إليها…
وقال تعالى :﴿ إذ تبرأ الذين أتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ﴾[ البقرة : ١٦٦ ].
قال أبو محمد : هكذا والله يقول هؤلاء الفضلاء الذين قلدهم أقوام قد نهرهم عن تقليدهم، فإنهم رحمهم الله تبرؤوا في الدنيا والآخرة من كل من قلدهم، وفاز أولئك الأفاضل الأخيار، وهلك المقلدون لهم بعد ما سمعوا من الوعيد الشديد والنهي عن التقليد، وعلموا أن أسلافهم الذين قلدوا، قد نهوهم عن تقليدهم، وتبرؤوا منهم إن فعلوا ذلك…
وقال عز وجل :﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾[ البقرة : ١٧ ]٣.
قال أبو محمد : وهذا نص ما فعل خصومنا بلا تأويل ولا تدبر، بل تعرض عليهم الآية والحديث الصحيح الذي يقرون بصحته، وكلاهما مخالف لمذاهب لهم فاسدة، فيأبون من قبولها لا بفارق ما وجدنا عليه آباءنا وكبراءنا، فقد أجابهم تعالى جوابا كافيا وحسبنا الله ونعم الوكيل٤.
وقال تعالى :﴿ ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ﴾[ القصص : ٥٠ ].
وقال تعالى :﴿ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ﴾[ الجاثية : ٢٣ ].
قال أبو محمد :
هذه صفة ظاهرة من كل مقلد، يعرفها من نفسه ضرورة ؛ لأنه هوى تقليد فلان، فقلده بغير علم ووجدناه لا ينتفع بسمعه فيما يسمع من الآي والسنن المخالفة لمذهبه، ولا انتفع بصره فيما رأى من ذلك، ولا بعقله فيما علم من ذلك، ووجدناه ترك طلب الهدى من كتاب الله تعالى وكتاب نبيه صلى الله عليه وسلم، وطلب الهدى ممن دون الله تعالى ؛ فضل ضلالا بعيدا. فواحسرتاه عليهم، ووأسفاه لهم.
وقال تعالى :﴿ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى ﴾[ الأنعام : ٧١ ].
قال أبو محمد : وهذا نص فعل المقلد لأنه التزم اتباع من لا ينفعه، ولا يشفع له يوم القيامة، ولا ينيله من حسناته حسنة، ولا يحط عنه من سيئاته سيئة، كذلك دعاه أصحابه إلى الهدى بزعمهم، فأكذبهم تعالى وقال :﴿ إن هدى الله هو الهدى ﴾[ البقرة : ١٢ ]. فلم يجعل هدى إلا ما جاء من عنده تعالى٥.
ومن أدلته في المسألة الإجماع، قال :
( وقد صح إجماع الصحابة رضي الله عنهم : أولهم عن آخرهم، وإجماع جميع التابعين : أولهم عن آخرهم على الامتناع والمنع من أن يقصد منهم أحد إلى قول إنسان منهم، أو ممن قبلهم، فيأخذه كله. فليعلم من أخذ بجميع قول أبي حنيفة، أو جميع قول مالك، أو جميع قول الشافعي، أو جميع قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه ممن يتمكن من النظر، ولم يترك من اتبعه منهم إلى غيره، أنه قد خالف إجماع الأمة كلها عن آخرها، واتبع غير سبيل المؤمنين نعوذ بالله من هذه المنزلة )٦.
١ النبذ (ص ١١٤)..
٢ الصواب : شاهدا..
٣ وانظر هذا الدليل في النبذ ص ١١٥..
٤ قال ابن عبد البر في (جامع البيان العلم) (٢/٩٧٨): وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة الاحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهم وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجل، فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة دنياه، فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة، لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا، وإن اختلفت الآثام فيه) وانظر: (إعلام الموقعين) (٢/١٢٩-١٣٠)..
٥ (أصول الأحكام) (م٢/٢٧٤-٢٧٧)..
٦ النبذ (ص ١١٦)، وانظر هذا الدليل في أصول أدلة الأحكام (٢/٢٩١-٢٩٢)..
قال الله تعالى :﴿ خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ﴾[ التوبة : ٢٢ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٢١ ] بقاء الجنة والنار.
قال ابن حزم :
( لا تفنى الجنة ولا النار ولا أحد ممن فيهما أبدا. برهان ذلك :
قول الله عز وجل مخبرا عن كل واحدة من هاتين الدارين ومن فيهما :
﴿ خالدين فيها أبدا ﴾[ التوبة : ٢٢ ].
و﴿ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ﴾[ هود : ١٠٨ ]
حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، حدثنا محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي، ثنا إبراهيم بن سفيان، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون : نعم هذا الموت، ويقال : يا أهل النار هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون، فيقولون : نعم هذا الموت، فيؤمر به فيذبح ثم يقال، يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ﴾[ مريم : ٣٩ ] أشار بيده إلى أهل الدنيا. زاد أبو كريب في روايته بعد كبش أملح " يوقف بين الجنة والنار " ١.
وقال عز وجل في أهل الجنة :﴿ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ﴾[ الدخان : ٥٦ ].
وقال في أهل النار :﴿ لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ﴾[ فاطر : ٣٦ ]٢.
وقد ذكر هذه المسألة في كتابه :( الفصل ) فذكر الأدلة، وزاد دليل الإجماع٣.
١ رجال الإسناد :
أحمد بن فتح بن عبد الله التاجر، السفار، حدث بالأندلس، فروى عنه جماعة. قال الذهبي عنه: (الشيخ الجليل الثقة المحدث. مات سنة: ثلاث وأربعمائة. انظر (السير) (١٧/٢٠٥)، (جذوة المقتبس) (ص ١٣٢).
عبد الوهاب بن عيسى بن عبد الرحمن بن ماهان الفارسي، البغدادي، الإمام، المحدث، حدث بمصر بصحيح مسلم بمصر، وثقه الدارقطني، مات سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. (السير) (١٦/٥٣٥-٥٣٦).
محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي، أبو أحمد النيسابوري، الإمام القدوة الزاهد، الصادق، راوي صحيح مسلم عن إبراهيم بن محمد من تلاميذه أبو عبد الله الحاكم. مات سنة: ثمان وستين وثلاثمائة. (السير) (١٦/٣٠١-٣٠٣).
إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري، الإمام، القدوة، المحدث، الثقة، كان من العباد المجتهدين الملازمين لمسلم. توفي سنة: ثمان وثلاثمائة. (السير) (١٤/٣١١-٣١٢).
أبو كريب: محمد بن العلاء بن كريب الهمداني، مشهور بكنيته، ثقة من العاشرة، مات سنة: سبع وأربعين ومائتين. (التقريب) [٦٢٤٤].
أبو صالح: ذكوان السمان الزيات المدني، ثقة ثبت، من الثالثة، مات سنة إحدى ومائة. (التقريب) [١٨٥٠].
تخريجه: أخرجه البخاري برقم (٤٧٣٠): (كتاب التفسير) باب وأنذرهم بوم الحسرة)، ومسلم (٢٨٤٩) في: (كتاب الجنة): (باب النار يدخلها الجبارون)..

٢ (المحلى) (١/٣٠-٣١)..
٣ (الفصل) (٤/١٤٨)، وانظر: (مراتب الإجماع) ص ٢٦٧..
قال الله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾[ التوبة : ٢٨ ].
وفيها ثلاث مسائل، هي :
المسألة الأولى : هل المشرك نجس العين ؟
المسألة الثانية : ما المراد بالمسجد الحرام ؟
المسألة الثالثة : حكم دخول المشركين المسجد الحرام.
المسألة الأولى :
[ ٢٢ ] هل المشرك نجس العين ؟
ذهب الإمام ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أن المشرك نجس كله، ومنه : العرق، والدمع، واللعاب، ولبن المشركة إلا الكتابية ؛ فإنه طاهر.
والدليل قوله تبارك وتعالى :
﴿ إنما المشركون نجس ﴾[ التوبة : ٢٨ ].
وأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إن المؤمن لا ينجس " ١، ٢.
المسألة الثانية :
[ ٢٣ ] ما المراد ( بالمسجد الحرام ) ؟
يرى ابن حزم – رحمه الله تعالى – أن المراد بالمسجد الحرام في قوله تعالى :
﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم ﴾[ التوبة : ٢٨ ] أنه الحرم كله.
ويستدل ابن حزم على صحة هذا التأويل بعدم الاختلاف في كون المراد : الحرم كله. قال رحمه الله عند ذكره الآية :
( فلم يختلفوا في أنه تعالى أراد الحرم كله )٣.
وقال أيضا :( وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ٤.
فصح أن الحرم كله هو المسجد الحرام )٥.
المسألة الثالثة :
[ ٢٤ ] حكم دخول المشركين المساجد ؟
قال ابن حزم :
( ودخول المشركين في جميع المساجد : جائز، حاشا حرم مكلة كله – المسجد وغيره – فلا يحل البتة أن يدخله كافر. وهو قول الشافعي، وأبي سليمان. وقال أبو حنيفة : لا بأس أن يدخله اليهودي، والنصراني، ومنع منه سائر الأديان، وكره مالك دخول أحد من الكفار في شيء من المساجد.
قال الله تعالى :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾[ التوبة : ٢٨ ].
قال علي : فخص الله المسجد الحرام، فلا يجوز تعديه إلى غيره بغير نص، وقد كان الحرم قبل بنيان المسجد وقد زيد فيه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ٦.
فصح أن الحرم كله هو المسجد الحرام.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، ثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، ثنا سعيد بن أبي سعيد، سمع أبا هريرة قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما عندك يا ثمامة ؟ قال : عندي خير، يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ؟ وذكر الحديث. وأنه عليه السلام أمر بإطلاقه في اليوم الثالث : فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يا محمد، والله : ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي )٧ وذكر الحديث فبطل قول مالك )٨.
١ انظر: كلامه على هذه المسألة في: (المحلى) (١/١٣٧، ١٨١)، (١٠/١٨٨)..
٢ أخرجه البخاري (٢٨٣) في الغسل: باب عرق الجنب، وأن المسلم لا ينجس، ومسلم (٣٧١) في كتاب الحيض: باب الدليل على أن المسلم لا ينجس..
٣ المحلى (٥/١٤٩)..
٤ حديث صحيح: جاء من رواية عدد من الصحابة: منهم جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – أخرجه البخاري (٣٣٥) في (كتاب التيمم: باب التيمم، ومسلم (٥٢١) في المساجد ومواضع الصلاة، ولفظه: ("عطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة". وروى من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما:
أخرجه مسلم (٥٢٢) في (كتاب المساجد ومواضع الصلاة)، وأحمد (٥/٣٨٣)، وابن خزيمة (١/١٣٣)، وابن حبان (١٤/٣١٠) ولفظه: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء" الحديث.
وروى أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه مسلم (٥٢٣)، وأحمد (٢/٤١٢)، والترمذي في السير: باب ما جاء في الغنيمة، بعد حديث (١٥٥٣)، وابن ماجة (٥٦٧) في الطهارة: باب ما جاء في التيمم، ولفظ الحديث، وهو لمسلم: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت الرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا..." الحديث. واقتصر ابن ماجة على الجملة الرابعة منه وروى أيضا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أخرجه أحمد (١/٩٨)، والبيهقي (١/٢١٣) ولفظه: "أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء" فقلنا: يا رسول الله، ما هو؟ قال: "نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهورا، وجعلت آمتي خير الأمم"..

٥ (المحلى) (٣/١٦٢)..
٦ سبق تخريجه..
٧ رجال الإسناد :
إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد المستملي، راوي الصحيح عن الفربري، كان من الثقات المتقنين، طوف وسمع الكثير. مات سنة ست وسبعين وثلاثمائة. (السير) (١٦/٤٩٢).
الفربري: أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر، راوي الصحيح عن البخاري، كان ثقة ورعا، ومولده في سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وتوفي سنة عشرين وثلاثمائة. (السير) (١٥/١٠-١٣).
عبد الله بن يوسف التنيسي، أبو محمد الكلاعي، ثقة متقن، من أثبت الناس في الموطأ، من كبار العاشرة، مات سنة ثماني عشرة. (التقريب) [٣٧٤٥].
سعيد بن أبي سعد كيسان المقبري، أبو سعد المدني، ثقة، من الثالثة، تغير قبل موته بأربع سنين، مات في حدود العشرين، وقيل قبلها، وقيل بعدها. (التقريب) [٢٣٣٤].
تخريجه: أخرجه البخاري (٤٣٧٢) في (كتاب المغازي): باب وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال ومسلم (١٧٦٤) في (الجهاد): باب ربط الأسير وحبسة)..

٨ (المحلى) (٣/١٦٢-١٦٣)..
قال الله تعالى :
﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾[ التوبة : ٢٩ ].
وفيها أربع عشرة مسألة :
المسألة الأولى : معنى الصغار.
المسألة الثانية : هل تؤخذ الجزية من المشركين ؟
المسألة الثالثة : هل تؤخذ الجزية من أهل الكتاب العرب ؟
المسألة الرابعة : هل تؤخذ الجزية من كل كتابي ؟
المسألة الخامسة : مقدار الجزية التي تؤخذ من أهل الكتاب.
المسألة السادسة : ما ينقض عهد الذمي.
المسألة السابعة : التخصيص بالإجماع.
المسألة الثامنة : دليل الخطاب، هل هو معتبر ؟
المسألة التاسعة : هل تؤخذ الزكاة من الكافر ؟
المسألة العاشرة : من أهرق خمرا لذمي، هل يضمنه ؟
المسألة الحادية عشرة : من أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة.
المسألة الثانية عشرة : هل يقتص للكافر من المسلم ؟
المسألة الثالثة عشرة : عموم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة عشرة : هل الكفار مخاطبون بعموم الشريعة ؟
المسألة الأولى :
[ ٢٥ ] معنى الصغار.
يقول ابن حزم – رحمه الله - :
( والصغار هو أن يجري حكم الإسلام عليهم، وأن لا يظهروا شيئا من كفرهم، ولا مما يحرم في دين الإسلام.
ويجمع الصغار شروط عمر رضي الله عنه عليهم. نا محمد بن الحسن بن عبد الوارث، نا عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن النحاس، نا أبو العباس محمد بن إسحاق بن أبي إسحاق الصفار، نا أبو الفضل الربيع بن تغلب١، نا يحيى بن عقبة، عن أبي العيزار٢، عن سفيان الثوري، عن طلحة بن مصرف، عن مسروق، عن عبد الرحمن بن غنم، قال : كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرط عليهم فيه : أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا ما حولها دبرا، ولا كنيسة، ولا قلية ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب منها، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يؤوا جاسوسا، ولا يكتموا غشا للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركا، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين، ويقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم : في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا يتكلموا بكلام المسلمين، ولا يتكنوا بكناهم، ولا يركبوا سرجا، ولا يتقلدوا سيفا، ولا يتخذوا شيئا من السلاح، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهروا صليبا ولا شيئا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا ناقوسا إلا ضربا خفيفا، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين ولا يخرجوا سعانين ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم، ولا يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين. فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق٣.
وعن عمر أيضا : أن لا يجاورونا بخنزير. قال أبو محمد : ومن الصغار أن لا يؤذوا مسلما، ولا يستخدموه، ولا يتولى أحد منهم شيئا من أمور السلطان يجري لهم فيه أمر على مسلم )٤.
المسألة الثانية :
[ ٢٦ ] هل تؤخذ الجزية من المشركين ؟
يقول ابن حزم – رحمه الله تعالى - :
( ولا يقبل من كافر إلا الإسلام، أو السيف – الرجال والنساء في ذلك سواء- حاشا أهل الكتاب خاصة، وهم اليهود، والنصاري، والمجوس فقط، فإنهم إن أعطوا الجزية أقروا على ذلك مع الصغار.
وقال أبو حنيفة ومالك : أما من لم يكن كتابيا من العرب خاصة، فالإسلام أو السيف. وأما الأعاجم فالكتابي وغيره سواء، ويقر جميعهم على الجزية.
قال أبو محمد : هذا باطل لقول الله تعالى :﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[ التوبة : ٥ ].
وقال تعالى :﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾[ التوبة : ٢٩ ]
فلم يخص تعالى عربيا من عجمي في كلا الحكمين. وصح أنه عليه السلام أخذ الجزية من مجوس هجر ؛ فصح أنهم من أهل الكتاب، ولولا ذلك ما خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ربه تعالى )٥.
المسألة الثالثة :
[ ٢٧ ] هل تؤخذ الجزية من أهل الكتاب العرب ؟
يرى الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى أن الجزية تؤخذ من كل كتابي، سواء كان عربيا، أو أعجميا. وذلك لعموم قوله تعالى :
﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾[ التوبة : ٢٩ ]٦.
المسألة الرابعة :
[ ٢٨ ] هل تؤخذ الجزية من كل كتابي ؟
قال ابن حزم رحمه الله :
( والجزية لازمة للحر منهم والعبد، والذكر، والأنثى، والفقير البات، والغني الراهب سواء من البالغين خاصة، لقول الله تعالى :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾[ التوبة : ٢٩ ].
ولا خلاف في أن الدين لازم للنساء كلزومه للرجال، ولم يأت نص بالفرق بينهم في الجزية...
وقد جاءت في هذا آثار مرسلة، وهي كما روينا من طريق عبد الرزاق :
أخبرنا جاءت في هذا آثار مرسلة، وهي كما روينا من طريق عبد الرزاق : أخبرنا، معمر، عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن مسروق قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم وحالمة من أهل الذمة دينارا، أو قيمته من المعافر٧.
قال أبو محمد : على هذا الإسناد عولوا في أخذ التبيع من الثلاثين من البقر والمسنة من الأربعين، ومن المحال أن يكون خبر حجة في شيء غير حجة في غيره.
ومن طريق عبد الرزاق٨ عن ابن جريج٩ قال : في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن : من كره الإسلام من يهودي، أو نصراني فإنه لا يحول عن دينه وعليه الجزية على كل حالم ذكر، أو أنثى، حر أو عبد : دينار واف من قيمة المعافر أو عرضه.
ومن طريق أبي عبيد١٠ : نا جرير بن عبد الحميد، عن منصور – هو ابن المعتمر – عن الحكم بن عتيبة١١، قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ وهو باليمن : في الحالم، أو الحالمة دينار، أو عدله من المعافر.
قال أبو محمد : الحنفيون، والمالكيون يقولون : إن المرسل أقوى من المسند ويأخذون به إذا وافقهم، فالفرض عليهم أن يأخذوا هاهنا بها فلا مرسل أحسن من هذه المراسيل، وأما نحن فإنما معولنا على عموم الآية فقط
ثم قال بعد كالمستدرك :
( ومسروق أدرك معاذا وشاهد حكمه باليمن، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه بأخذ الجزية من النساء، ومن المحال أن يخالف معاذ ما كتب إليه به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق.
ولا خلاف بين أحد من الأمة في النساء مكلفات من دين الإسلام ومفارقة الكفر ما يلزم الرجال سواء سواء، فلا يحل إبقاؤهن على الكفر بغير قتل ولا جزية.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قد ذكرناه قبل بإسناده : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بما أرسلت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله " ١٢
ولا يختلفون في أن هذه اللوازم كلها هي على النساء كما هي على الرجال، وأن أموالهن في الكفر مغنومة كأموال الرجال ؛ فثبت يقينا أنهن لا يعصمن دماءهن وأموالهن إلا بما يعصم الرجال به أموالهم ودماءهم، أو الجزية إن كن كتابيات ولا بد. وبالله تعالى التوفيق١٣.
المسألة الخامسة :
[ ٢٩ ] مقدار الجزية التي تؤخذ من أهل الكتاب.
يقول ابن حزم رحمه الله تعالى :
( فأما قوله تعالى :﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾[ التوبة : ٢٩ ].
فإنه حكم في مشركين قد أمرنا بقتلهم، وأخذ أموالهم، وسبي نسائهم، وأطفالهم، وأوجب كل ذلك علينا، وصح بالنص إيجاب دينار على الواحد منهم ؛ فصح أن من بذل منهم أقل من دينار، لم يجز حقن دمائهم بذلك. فكان الدينار أقل ما قال قائلون : إنه جزية يلزم قبولها بالنص، وليس في أكثر من ذلك حد ووقف عنده، فيقول القائل : هو أكثر ما قيل. فلو لم يكن ههنا حد يوقف عنده لما وقع عقد ذمته أبدا، لأنهم كانوا يكونون إنما بذلوا شيئا طلب منهم أكثر، وهذا لا نهاية له، وليس من حد حدا بأولى ممن حد حدا آخر، فهذا لا ينضبط أبدا ؛ فصح أن الحد الأول هو الواجب أخذه، وهو الدينار١٤.
المسألة السادسة :
[ ٣٠ ] ما ينقض عهد الذمي.
يرى ابن حزم رحمه الله تعالى : أن من سب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو شيئا من دين الإسلام أو مسلما من المسلمين، أو أضر به، أو خالفوا شيئا من الشروط التي أخذت عليهم، فقد نقض عهده، ونكث ذمته، وعاد دمه وماله حلالا.
ويدلل ابن حزم لهذا الرأي، فيقول :
( قال أبو محمد رحمه الله : وأما الذمي يسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن أًصحابنا، ومالكا، وأصحابه، قالوا : يقتل ولا بد. وهو قول الليث بن سعد.
فنظرنا في المعنى الذي وجب به القتل على الذمي إذا سب الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو استخف بشيء من دين الإسلام، فوجدناه إنما هو نقضه الذمة ؛ لأنه إنما تذمم، وحقن دمه بالجزية على الصغار.
قال الله تعالى :﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾[ التوبة : ٢٩ ].
وقال تعالى :﴿ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ﴾[ التوبة : ١٢ ] فكان هاتان الآيتان نصا جليا لا يحتمل تأويلا في بيان ما قلنا من أن أهل الكتاب يقاتلون ويقتلون حتى يعطوا الجزية، وعلى أنهم إذا عوهدوا وتم عهدهم، وطعنوا في ديننا، فقد نقضوا عهدهم، ونكثوا أيمانهم، وعاد حكم قتالهم كما كان. وبضر
١ هكذا في هذه النسخة، وهو خطأ والصواب: الربيع بن ثعلب. كما عند البيهقي. وكذا في كتب الرجال..
٢ الصواب: ابن أبي العيزار..
٣ رجال الإسناد:
عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن التجيبي، المصري المالكي البزاز، المعروف بابن النحاس، قال عنه الذهبي: الشيخ الإمام الفقيه المحدث الصدوق، /مسند الديار المصرية، له مشيخة في جزئين، مات سنة ست عشرة وأربعمائة. انظر: (السير) (١٧/٣١٣-٣١٤).
أبو العباس محمد بن إسحاق بن أبي إسحاق الصفار، لم أجد له ترجمة.
الربيع بن ثعلب أبو الفضل البغدادي، قال صال جزرة: صدوق ثقة من عباد الله. وكان ابن الجنيد يقول فيه: الثقة الشيخ الصالح، مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين. انظر: (تاريخ بغداد) (٨/٤١٨)، (الجرح والتعديل) (٣/٤٥٦).
يحيى بن عقبة بن أبي العيزار، من أهل العراق، قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن أقوام أثبات، لا يجوز الاحتجاج به بحال من الأحوال. انظر: (المجروحين) لابن حبان (٣/١١٧)، (ميزان الاعتدال) (٦/٧١).
طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب اليامي، بالتحتانية، الكوفي، ثقة قارئ فاضل، من الخامسة، مات سنة اثنتي عشرة أو بعدها. (التقريب) [٣٠٥١].
مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني، الوادعي، أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم، من الثانية، مات سنة اثنتين، ويقال سنة: ثلاث وستين. (التقريب) [٦٦٤٥].
عبد الرحمن بن غنم، بفتح المعجمة وسكون النون، الأشعري مختلف في صحبتته، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين، مات سنة ثمان وسبعين. (التقريب) [٤٠٠٤].
هذه الشروط أخرجها أيضا الخلال في (أهل الملل) من الجامع (٢/٤٣١)، والبيهقي (٩/٢٠٢).
وعند الخلال أنهم هم الذين كتبوا إلى عبد الرحمن بن غنم، فأرسل إلى أمير المؤمنين، فأقرهم على ما فيها وزاد عليها: (ألا يشتروا من سبايانا شيئا، ومن ضرب مسلما، فقد خلع عهده). وهذا الشروط العمرية، قد اشتهرت عند أهل العلم.
قال الإمام ابن القيم في كتابه العظيم: (أحكام أهل الذمة) (٣/١١٦٤).
(وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها: فإن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم، وفي كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم، وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها).
وقال ابن كثير في: (إرشاد الفقيه) (٢/٣٤١). (وله طرق جيدة إلى عبد الرحمن بن غنم، وقد تقصاها أبو محمد بن زبير في جزء، جمعه في ذلك، أجاد فيه، وقد حررتها في جزء أيضا، وقد اعتمد أئمة الإسلام هذه الشروط. وعمل بها الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون)..

٤ (المحلى) (٥/٤١٤-٤١٥). وانظر: (مراتب الإجماع) (ص ١٩٦-١٩٧)..
٥ المحلى (٥/٤١٣)، وانظر : (أصول الأحكام) (م ١/٢٤٤)..
٦ سبق نقل كلامه في المسألة السابقة، وهو في: (المحلى) (٥/٤١٣)، وانظر أيضا: (أصول الأحكام) (م١/٢٤٤)..
٧ أخرجه عبد الرزاق (٦/٨٩) وقال عقبة : (كان معمر – راوي الحديث – يقول: هذا غلط، قوله: حالمة، ليس على النساء شيء، معمر القائل). هكذا قال. وقال البيهقي في سننه (٩/١٩٤): (وليس في رواية أبي وائل عن مسروق عن معاذ حالمة، ولا في رواية إبراهيم عن معاذ إلا شيئا روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ، ومعمر إذا روى عن غير الزهري يغلط كثيرا). ولعل البيهقي لم يطلع على قوله معمر السابقة، وإلا لم يجعل العهدة عليه. وذهب أبو عبيد في كتاب (الأموال) ص ٤٢، إلى أن هذه الراية غير محفوظة.
وقال الشافعي: (سألت محمد بن خالد وعبد لله بن عمرو بن مسلم وعددا من علماء أهل المدينة وكلهم حكوا عن عدد مضوا قبلهم يحكون عن عدد مضوا قبلهم، كلهم ثقة أن صلح النبي صلى الله عليه وسلم كان لأهل الذمة باليمن على دينار كل سنة، ولا يثبتون أن النساء كن ممن يؤخذ منه الجزية...
قال: وسألت عدد كثيرا من ذمة أهل اليمن متفرقين في بلدان اليمن فكلهم أثبت لي لا يختلف قولهم أن معاذا أخذ منهم دينارا عن كل بالغ منهم، وسموا البالغ حالما. قالوا: وكان ذلك في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مع معاذ: إن على كل حالم دينارا.
رواه عنه البيهقي في سننه (٩/١٩٤)، وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (١/١٥٦): (فالصواب أن ذكر الحالمة في الحديث غير محفوظ والله أعلم) وقال في (الهدى) (٣/١٥٨): (وهذه الزيادة مختلف فيها، لم يذكرها سائر الرواة، ولعلها من تفسير بعض الرواة).
وقد جاء ذكر الحالمة في حديث مرسل، وسيأتي وهو مرسل الحكم بن عتيبة.
وروى أبو عبيد في كتاب الأموال (ص ٣٢) قال: (حدثنا عثمان بن صالح، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير قال:
(كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن: "إنه من كان على يهودية، أو نصرانية، فإنه لا يفتن عنها، وعليه الجزية، على كل حالم ذكر أو أثنى، عبد أو أمة..." ثم ذكر الحديث ورواه البيهقي أيضا (٩/١٦٤) لكنه مرسل، وفيه ابن لهيعة ضعيف.
وله شاهد مرسل وهو في كتاب عمرو بن حزم نحوا من رواية عروة. أخرجها البيهقي (٩/١٩٤). وقال: (هذا منقطع وليس في الرواية الموصولة).
- وله شاهد مرسل، وهو من مراسيل الحسن رواه ابن زنجوية في كتاب الأموال، كما عزاه إليه الزيلعي في نصب الراية (٣/٤٤٧)، والحافظ في التلخيص (٤/١٢٣) وقال الحافظ بعد ذكره مرس الحسن وعروة: (وهذان مرسلان يقوى أحدهما الأخر). وصدق رحمه الله فهذه الأحاديث المرسلة تشهد بصحة الرواية التي أخرجها عبد الرزاق، سيما أن حالم من الأوزان التي يستوي فيها الذكر والأنثى. فهذه الزيادة لا تخالف أصل الحديث، ثم لها ما يعضدها من الأخبار المرسلة، فهذا ما يورث في النفس صحتها، والعلم عند الله تعالى..

٨ في المصنف (٦/٩٠)..
٩ هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي، ثقة فاضل، وكان يدلس ويرسل، من السادسة، مات سنة خمسين أو بعدها. (التقريب) [٤٢٢١]..
١٠ في كتاب (الأموال) له: ص ٣٢، وأخرجه أيضا يحيى بن أدم في: (كتاب الخراج) ص ٧٢-٧٣.
١١ رجال الإسناد:
جرير بن عبد الحميد بن قرط، بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة، الضبي الكوفي، نزيل الري واضيها، ثقة، صحيح الكتاب، قبل: كان في آخر عمره يهم من حفظة، مات سنة ثمان وثمانين. (التقريب) [٩٢٤].
منصور بن المعتمر بن عبد السلمي، أبو عتاب، بمثناه ثقيلة، ثقة ثبت وكان لا يدلس، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. (التقريب) [٦٩٥٧].
الحكم بن عتيبة، بالمثناة، ثم الموحدة، مصغرا، أبو محمد الكندي، الكوفي، ثقة ثبت فقيه إلا أنه ربما دلس، مات سنة ثلاث عشرة أو بعدها. (التقريب) [١٤٦١].
.

١٢ سبق تخريجه..
١٣ (المحلى) (٥/٤١٦-٤١٨)..
١٤ (أصول الأحكام) (م١/٤٠٥)..
قال الله تعالى :
﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ﴾[ التوبة : ٣١ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٣٩ ] هل الشرك والكفر بمعنى واحد ؟
قال ابن حزم :
( قال أبو محمد رضي الله عنه :
واختلف الناس في الكفر والشرك، فقالت طائفة : هما اسمان واقعان على معنيين وأن كل شرك كفر، وليس كل كفر شركا، وقال هؤلاء : لا شرك إلا قول من جعل لله شريكا. قال هؤلاء : واليهود والنصارى كفار لا مشركون، وسائر الملل كفار مشركون، وهو قول أبي حنيفة وغيره.
وقال آخرون : الكفر والشرك سواء، وكل كافر فهو مشرك، وكل مشرك فهو كافر، وهو قول الشافعي وغيره.
قال أبو محمد رضي الله عنه : واحتجت الطائفة الأولى بقول الله عز وجل :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ﴾[ البينة : ١ ].
قالوا : ففرق الله تعالى بين والمشركين. وقالوا : لفظة الشرك مأخوذة من الشريك، فمن لم يجعل لله تعالى شريكا، فليس مشركا.
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه عمدة حجتهم، ما نعلم لهم حجة غير هاتين.
قال أبو محمد رضي الله عنه : أما احتجاجهم بقول الله عز وجل :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ﴾[ البينة : ١ ].
فلم لم يأت في هذا المعنى، غير هذه الآية، لكانت حجتهم ظاهرة. لكن الذي أنزل هذه الآية هو القائل :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ﴾.
وقال تعالى :﴿ يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ﴾[ المائدة : ١١٦ ].
وقال تعالى عنهم أنهم قالوا :﴿ إن الله ثالث ثلاثة ﴾[ المائدة : ٧٣ ].
وهذا كله تشريك ظاهر لا خفاء فيه، فإذ قد صح الشرك والتشريك في القرآن من اليهود والنصارى ؛ فقد صح أنهم مشركون، وأن الشرك والكفر : اسمان لمعنى واحد. وقد قلنا : إن التسمية لله عز وجل لا لنا، فإذ ذلك كذلك ؛ فقد صح أن قوله تعالى :﴿ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ﴾ كقوله تعالى :﴿ إن الله جامع المنافقيه والكافرين في جهنم جميعا ﴾[ النساء : ١٤ ].
ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن المنافقين كفار، كقوله تعالى :﴿ من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ﴾[ البقرة : ٩٨ ].
ولا خلاف في أن جبريل وميكائيل من جملة الملائكة.
وكقوله تعالى :﴿ فيهما فاكهة ونخل ورمان ﴾[ الرحمن : ٦٨ ].
والرمان : الرمان من الفاكهة، والقرآن نزل بلغة العرب، والعرب تعيد الشيء باسمه، وإن كانت قد أجملت ذكره، تأكيدا لأمره. فبطل تعلق من تعلق بتفريق الله تعالى بين الكفار والمشركين في اللفظ. وبالله تعالى التوفيق.
وأما احتجاجهم بأن لفظ الشرك، مأخوذ من الشريك، فقد قلنا : إن التسمية لله عز وجل، لا لأحد دونه، وله تعالى أن يوقع أي اسم شاء على أي مسمى شاء. برهان ذلك أن من أشرك بين عبدين له في عمل ما، أو بين اثنين في هبة وهبها لهما، فإنه لا يطلق عليه اسم مشرك، ولا يحل أن يقال : إن فلانا أشرك، ولا أن عمله شرك، فصح أنها لفظة منقولة أيضا عن موضوعها في اللغة، كما أن الكفر لفظة منقولة أيضا عن موضوعها في اللغة، إلى ما أوقعها الله تعالى عليه، والتعجب من أهل هذه المقالة، وقولهم أن النصارى ليسوا مشركين، وشركهم أظهر وأشهر من أن يجهله أحد، لأنهم يقولون كلهم بعبادة الأب، والابن، وروح القدس، وأن المسيح إله حق، ثم يجعلون البراهمة مشركين، وهم لا يقرون إلا بالله وحده، ولقد كان يلزم أهل هذه المقالة أن لا يجعلوا كافرا إلا من جحد الله تعالى فقط )١.
١ (الفصل) (٣/٢٦٤-٢٦٥)، وانظر: (المحلى) (٣/١٦٣-١٦٦).
قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[ التوبة : ٣٤ ].
وفيها مسألتان :
المسألة الأولى : هل تجب الزكاة في حلي المرأة ؟
المسألة الثانية : جواز لبس الذهب للمرأة.
المسألة الأولى :
[ ٤٠ ] هل في الحلي زكاة ؟
قال ابن حزم رحمه الله تعالى :
( والزكاة واجبة في حلي الفضة والذهب إذا بلغ كل واحد منهما المقدار الذي ذكرنا، وأتم عند مالكه عاما قمريا.
وجاء في ذلك عن السلف ما قد ذكرناه في الباب الذي قبل هذا عن ابن مسعود عن إيجابه الزكاة في حلي امرأته. وهو عنه في غاية الصحة١.
وروينا من طريق محمد بن المثنى، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة قال : قالت امرأة لعبد الله بن مسعود : لي حلي ؟ فقال لها : إذا بلغ مائتين ففيه الزكاة٢.
وعن عمر بن الخطاب أنه كتاب إلى أبي موسى : مر نساء المسلمين يزكين حليهن٣.
ومن طريق جرير بن حازم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه قال : كان عبد الله بن عمرو بن العاص يأمر بالزكاة في حلي بناته ونسائه٤.
ومن طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سالم عن عبد الله بن عمر أنه كان يأمره بذلك كل عام٥.
وعن عمرو بن شعيب، عن عروة، عن عائشة أم المؤمنين قالت : لا بأس بلبس الحلي إذا أعطيت زكاته٦...
وقال بعد أن أورد جملة من الأحاديث التي يرى ضعفها، وهي دالة على الزكاة في الحلي. قال :
( قال أبو محمد : لو لم يكن إلا هذه الآثار لما قلنا بوجوب الزكاة في الحلي ؛ ولكن لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في الرقة ربع العشر " ( وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، فإذا بلغ مائتي درهم ففيها خمسة دراهم ) وكان الحلي ورقا وجب فيه حق الزكاة، لعموم هذين الأثرين الصحيحين.
وأما الذهب فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من صاحب ذهب لا يؤدي ما فيها إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها " ٧.
فوجب الزكاة في كل ذهب بهذا النص٨.
المسألة الثانية :
[ ٤١ ] جواز لبس الذهب للمرأة.
يرى ابن حزم رحمه الله تعالى أن :( لباس المرأة الحرير والذهب في الصلاة وغيرها : حلال )٩. قال :
والحاكم على كل ذلك، هو : ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب، أنا عمرو بن علي، نا يحيى – هو ابن سعيد القطان – ويزيد – هو ابن زريع – ومعتمر – هو ابن سليمان التيمي – وبشر بن المفضل قالوا كلهم : نا عبيد الله بن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله أحل للإناث أمتي الحرير والذهب، وحرمه على ذكورها " ١٠.
ومن طريق أبي داود١١ نا أحمد بن حنبل، نا يعقوب هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف – نا أبي عن ابن إسحاق قال : إن نافعا مولى ابن عمر حدثني، عن عبد الله بن عمر قال : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس، أو الزعفران من الثياب )١٢. ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من معصفر، أو حذاء، أو حلي، أو سراويل، أو قميص، أو خف. فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها جميع الحلي، ولو كان الذهب حراما عليهن لبينة عليه الصلاة والسلام بلا شك، فإذ لم ينص على منعه، فهذا حلال لهن. وبالله تعالى التوفيق )١٣.
١ لفظ هذا الأثر هو :
عن إبراهيم النخعي، قال: كان لامرأة عبد الله بن مسعود طوق فيه عشرون مثقالا، فأمرها أن تخرج عنه خمسة دراهم.
أخرجه أبو عبيد في (الأموال) ص ٤٤٥، وعبد الرزاق في (مصنفه) (٤/٨٣)، والبيهقي (٤/١٣٩) من طريق: سفيان الثوري، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم عن علقمة، قال: قالت امرأة لعبد الله بن مسعود لي حلي، فذكره.
وهذا إسناد حسن من أجل حماد، فإنه صدوق له أوهام.
وله طريق آخر عند أبي عبيد. فقد رواه من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي، كما رواه عبد الرزاق أيضا من طريق: حماد، عن إبراهيم، عن ابن مسعود.
وهذا إسناد حسن أيضا..

٢ أخرجه عبد الرزاق (٤/٨٣) والبيهقي (٤/١٣٩) من طريق الثوري به..
٣ أخرجه ابن أبي شيبة (٢/٣٨٢)، ومن طريقه البيهقي (٤/١٣٩) من طريق: مساور الوراق عن شعيب، قال: كتب عمر إلى أبي موسى... الخ ولكن هذا الإسناد معل بالإرسال، فشعيب لم يدرك عمر. وقال البخاري: عنه: مرسل، كما نقله البيهقي..
٤ أخرجه عبد الرزاق (٤/٨٤)، وابن أبي شيبة (٢/٣٨٢) من طريق جرير بن حازم (كما عند ابن أبي شيبة)، وأبو موسى (كما عند عبد الرزاق) عن عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمرو (فذكره). وهذا إسناد منقطع، لكن هذا لا يعد ههنا علة، وذلك لأن هذا من الأمور التي لا تخفى ومثله يشتهر عن جده، فلا شك أنه كان معروفا عند عمرو عن جده، حدثه به غير واحد من أهل بيته، هذا مما لا يشك فيه. والعلم عند الله..
٥ ابن عمر رضي الله عنهما روى عنه القولان في المسألة: أما وجوب الزكاة، فقد رواه أبو عبيد في (الأموال) ص ٤٥٥ من طريق: حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سالم قال: كان عبد الله بن عمر يأمرني أن أجمع حلي بناته كل عام، فأخرج زكاته.
قال أبو عبيد: أراه مولاه يعني سالما مولى عبد الله بن عمر.
ولقد ذكر الإمام البيهقي هذا الأثر عن عبد الله بن عمرو، ولعله أشبه، فقال: وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أنه كان يكتب إلى خازنه سالم أن يخرج زكاته حلى بناته كل سنة.
وقد اشتهر عن عبد الله ابن عمر القول بعدم وجوب زكاة الحلي، وذلك فيما رواه الإمام مالك في (الموطأ)(١/٢٥٠)، وابن أبي شيبة في (٢/٣٨٣)، عبد الرزاق (٤/٨٢) والبيهقي في سننه (٤/١٣٨)، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة.
وإسناد هذا الأثر صحيح..

٦ روي عن عائشة القولان: فأما وجوب الزكاة: فقد أخرجه البيهقي في سننه (٤/١٣٩)، وأبو عبيد في (الأموال) ص ٤٤٥. من طريق:
حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن عروة عن عائشة قالت: (لا بأس بلبس الحلي إذا أعطيت زكاته).
وهذا إسناد حسن، ورجاله ثقات محتج بهم، وعمرو بن شعيب صدوق. وقد روى عنها بإسناد صحيح خلاف هذا ولا يعد هذا مضعفا لما روى أولا، ذلك لأنه من الممكن جدا أن يكون للعالم رأيان.
فقد روى مالك في (الموطأ) (١/٢٥٠)، ومن طريقه البيهقي (٤/١٣٨) أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج من حليهن الزكاة.
وهذا إسناد صحيح. ولا يقال: إنها لا ترى الزكاة في مال اليتيم، فلذلك لم تخرج الزكاة من الحلي، أقول لا يقال لهذا: لأن مذهبها كما سبق أنها ترى وجوب الزكاة في مال اليتيم.
ولذلك روى ابن أبي شيبة (٢/٣٨٣) عن القاسم قال: كان مالنا عند عائشة، فكانت تزكيه إلا الحلي. لكن قد يقال: إن هذا الحلي كان يسيرا، لم يبلغ النصاب فلذلك لم تزكه عائشة – رضي الله عنها – ويؤيد هذا أمران:
أولهما: أنه جاء التصريح بذلك، كما عند عبد الرزاق (٤/٨٣) عن الثوري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أن عائشة كانت تحلي بنات اخيها بالذهب واللؤلؤ فلا تزكيه، وكان حليهم يومئذ يسيرا.
وثانيا: أن هذا موافق لرأيها ولروايتها. والتوفيق بين أقوال العالم إذا أمكن أمر مطلوب.
وأخرج (عبد الرزاق) (٤/٨٣) أن عمرة بنت عبد الرحمن سألت عائشة عن حلي لها، هل عليها زكاة؟ قالت: لا. فهذه واقعة عين لا عموم لها. فقد يحتمل أن يكون حليها لم يبلغ نصاب الزكاة الواجبة..

٧ سبق تخريج هذه الأحاديث..
٨ (المحلى)(٤/١٨٤-١٩١)..
٩ (المحلى) (٩/٢٠٤). وقد ذكرت هذه المسألة ضمن مسائل قول تعالى: ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة﴾ لكون ابن حزم رد حجة القائلين بتحريم لبس الذهب بهذه الآية، وستأتي الحجة وذكر كلام ابن حزم عليها..
١٠ رجال الإسناد:
عمرو بن علي بن بحر بن كنيز بنون وزاي، أبو حفص الفلاس الصيرفي، الباهلي، البصري، ثقة، حافظ من العاشرة مات سنة تسع وأربعين. (التقريب) [٥١١٦].
معتمر بن سليمان التيمي، أبو محمد البصري، يلقب بالطفيل، ثقة، من كبار التاسعة، مات سنة سبع وثمانين ومائة، وقد جاوز الثمانين. (التقريب) [٦٨٣٣].
بشر بن المفضل بن لاحق الرقاشي، بقاف ومعجمة، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت عابد، من الثامنة، مات سنة ست أو سبع وثمانين ومائة. (التقريب) [٧١٠].
سعيد بن أبي هند الفزاري مولاهم، ثقة، من الثالثة، أرسل عن أبي موسى، مات سنة ست عشرة ومائة، وقيل بعدها. (التقريب) [٢٤٢٢].
تخريجه:
أخرجه أحمد (٤/٣٩٤)، والترمذي (١٧٢٠) في اللباس: باب ما جاء في الحرير والذهب للرجال، والنسائي (٥١٥١) في الزينة: باب تحريم الذهب على الرجال، والطحاوي في (مشكل الآثار) (٦/٢٤٦ – ٢٤٧ – تحفة الأخبار)، وفي (شرح معاني الآثار) (٤/٢٥١) والبيهقي (٤/١٤١).
من طريق عبيد الله، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى.
وهذا إسناد صحيح لكنه منقطع، فسعيد بن أبي هند لم يلق أبا موسى رضي الله عنه. قاله أبو حاتم كما في المراسيل لابنه ص ٧٥، وقاله الحافظ كما سبق في ترجمته.
لكن للحديث شواهد يصح بها.
قال الإمام الترمذي:
(وفي الباب عن عمر وعلي، وعقبة بن عامر وأنس وأم هانئ وحذيفة وعبد الله بن عمرو، وعمران بن حصين، وعبد الله بن الزبير، وجابر، وأبي ريحانة، وابن عمر، والبراء، وواثلة بن الأسقع).
وهذا حديث حسن صحيح أ هـ. قال ابن حزم: وهو أثر صحيح؛ لأن سعيد بن أبي هند ثقة مشهور.
وانظر: نصب الراية (٤/٢٢٢-٢٢٥)..

١١ انظره في سننه برقم (١٨٢٥) في كتاب المناسك: باب ما يلبس المحرم..
١٢ أخرجه البخاري (١٨٣٨) في كتاب الحج: باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة، ومسلم (١١٧٧) في كتاب الحج: باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وبيان تحريم الطيب عليه..
١٣ (المحلى) (٩/٢٤٥)..
قال الله وتعالى :﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾[ التوبة : ٣٦ ].
وفيها ثلاث مسائل، هي :
المسألة الأولى : حساب الحول بما يكون ؟
المسألة الثانية : هل يقام القصاص في الأشهر الحرم ؟
المسألة الثالثة : هل يشترط في صوم الشهرين أن يكونا كاملين ؟
المسألة الأولى :
[ ٤٢ ] حساب الحول بما يكون ؟
يقول الإمام ابن حزم :
( ولا زكاة في الغنم حتى يملك المسلم الواحد منها أربعين رأسا حولا كاملا متصلا عربيا قمريا...
وأما قولنا : أن يكون الحول عربيا، فلا خلاف بين أحد من الأمة في أن الحول اثنا عشرا شهرا، وقال الله تعالى :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشرا شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ﴾[ التوبة : ٣٦ ].
والأشهر الحرم لا تكون إلا في الشهور العربية. وقال تعالى :﴿ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ﴾[ البقرة : ١٨٩ ].
وقال تعالى :﴿ لتعلموا عدد السنين والحساب ﴾[ يونس : ٥ ]
ولا يعد بالأهلة إلا العام العربي ؛ فصح أنه لا تجب شريعة مؤقتة بالشهور، أو بالحول إلا بشهور العرب، والحول العربي. وبالله تعالى التوفيق١.
المسألة الثانية :
[ ٤٣ ] هل يقام القصاص والحدود في الشهر الحرم ؟
قال ابن حزم رحمه الله تعالى :
قال علي : قال الله تعالى :﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾[ التوبة : ٣٦ ].
فإنما نهى الله تعالى فيها عن الظلم، فكان الظلم فيها أوكد من الظلم في غيرها، ولا يحل أن يزاد على الله تعالى ما لم يقل.
ثم نظرنا في قوله تعالى :﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام ﴾[ البقرة : ١٩٤ ].
فكان موجب هذه الآية : أن من قتل أو جرح في شهر حرام، فلم يظفر به إلا في شهر حلال، فإن ولي الاستقادة من الدم، أو الجرح مخير : إن شاء تأخيره إلى شهر حرام، فذلك له بنص الآية، وإن لم يرد ذلك، فهو بعض حقه تجافى عنه، ولم تمنعه الآية من ذلك – وبهذا نقول – وبالله تعالى التوفيق.
وأما قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ﴾[ البقرة : ٢١٧ ].
إنما هذا في القتال، وليس في القود في شيء.
قال أبو محمد : ويحبس الذي وجب عليه القود فأخره المجني عليه أو ولي الدم حتى يأتي شهر حرام، لأنه قد وجب أخذه بما جنى، فلا ينبغي تسريحه، بل يوقف بلا خلاف للقود، ويمنع من الانطلاق.
قال أبو محمد : وأما الحدود فتقام في الشهر الحرام كلها من رجم وغيره، لأن الله تعالى لم يأت عنه نص بالمنع من ذلك، ولا من رسوله عليه الصلاة والسلام، وتعجيل الطاعة المفترضة في إقامة الحدود واجب بيقين، ندري أن الله تعالى لو أراد تأخير ذلك عن الشهر الحرام لبينه تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما بين ذلك في الحرم بمكة، فإذا لم يفعل فنحن نشهد بشهادة الله تعالى أنه ما أراد قط أن لا تقام الحدود إلا في الأشهر الحرم٢.
المسألة الثالثة :
[ ٤٤ ] هل يشترط في صوم الشهرين – في الكفارة – أن يكونا كاملين ؟
قال ابن حزم :
( فإن بدأ بصومهما في أول يوم من الشهر صام إلى أن يرى الهلال الثالث ولا بد، كاملين كانا أو ناقصين، أو كاملا وناقصا لقول الله تعالى :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ﴾[ التوبة : ٣٦ ] فمن لزمه صوم شهرين لزمه أن يأتي بهما من جملة الاثني عشر شهرا المذكورة )٣.
١ (المحلى)(٤/٧٦)، وانظر (المحلى) (١٠/٢٠٦)..
٢ (المحلى) (١١/١٥٣-١٥٤)..
٣ المحلى (٤/٣٣١-٣٣٢)..
قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾[ التوبة : ٣٨ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٤٥ ] حكم صلاة الجماعة.
قال ابن حزم :
( مسألة : ولا تجزئ صلاة فرض أحدا من الرجال إذا كان بحيث يسمع الأذان أن يصليها إلا في المسجد مع الإمام، فإن تعمد ترك ذلك بغير عذر بطلت صلاته، فإن كان بحيث لا يسمع الأذان، ففرض عليه أن يصلي في جماعة مع واحد إليه فصاعدا ولا بد، فإن لم يفعل، فلا صلاة له، إلا أن لا يجد أحدا يصليها معه، فيجزئه حينئذ، إلا من له عذر فيجزئه حينئذ التخلف عن الجماعة…
حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا قتيبة بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم الدورقي وإسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه كلهم عن مروان بن معاوية الفزاري، عن عبيد الله بن الأصم، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال : يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه وقال له : هل تسمع النداء بالصلاة ؟ قال : نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأجب " ١.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا مسدد، ثنا يزيد بن زريع، ثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث الليثي قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا حضرت الصلاة فأذنا، وأقيما، ثم ليؤمكما أكبركما " ٢.
حدثنا أحمد بن قاسم، حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم، حدثني جدي قاسم بن أصبغ، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا سليمان بن حرب، ثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر " ٣.
حدثنا حمام بن أحمد، ثنا عباس بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، ثنا إبراهيم بن محمد، ثنا ابن بكير، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمره بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا، فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال، فأحرق عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء٤...
وليس في ذكر العشاء في آخر الحديث دليل على أنها المتوعد على تركها دون غيرها، بل هي قضيتان متغايرتان ؟. وأيضا فالمخالف موافق لنا على أن حكم صلاة العشاء في وجوب حضورها كسائر الصلوات ولا فرق. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهم بباطل ولا يتوعد إلا بحق. فإن قيل : فلم لم يحرقها ؟ قيل : لأنهم بادروا وحضروا الجماعة، لا يجوز غير ذلك٥.
قال علي : وقد أقدم قوم على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا، فقال : إنما عنى المنافقين. ومعاذ الله من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن المحال البحت أن يكون عليه السلام يريد المنافقين، فلا يذكرهم، ويذكر تاركي الصلاة وهو لا يريدهم.
فإن ذكروا حديث أبي هريرة وابن عمر كلاهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن صلاة الجماعة تزيد على صلاة المنفرد سبعا وعشرين درجة " ٦.
قلنا : هذان خبران صحيحان، وقد صحت الأخبار التي صدرناها، وثبت أنه لا صلاة لمتخلف عن الجماعة، إلا أن يكون معذورا، فوجب استعمال هذين الخبرين على ما قد صح هنالك، لا على التعارض والتناقض المبعدين عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصح أن هذا التفاضل إنما هو على صلاة المعذور التي تجوز، وهي دون صلاة الجماعة في الفضل كما أخبر عليه السلام. ومن حمل هذين الخبرين على غير ما ذكرنا حصل على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الأُخر، وعلى تكذيبه عليه السلام في قوله : أن لا صلاة في غير الجماعة إلا لمعذور، واستخف بوعيده، وعصى أمره عليه السلام في إجابة النداء. وبأن يؤم الاثنين فصاعدا أحدهما، وهذا عظيم جدا. وهذا الذي قلنا : هو مثل قول الله تعالى :﴿ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ ﴾[ النساء : ٩٥-٩٦ ] فنص تعالى على أن المتخلف عن الجهاد بغير عذر مذموم أشد الذم في غير ما موضع من القرآن، منها : قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ( ٣٨ ) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ﴾[ التوبة : ٣٨-٣٩ ] في آيات كثيرة جدا. ثم بين الله تعالى أن المجاهدين مفضلون على القاعدين درجة ودرجات، فصح أنه إنما عنى القاعدين المعذورين الذين لهم نصيب من وعد الله الحسنى والأجر، لا الذين تُوُعِّدوا بالعذاب. وكما أخبر عليه السلام أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم٧. ولم يختلفوا معنا في أن المصلى قاعدا بغير عذر لا أجر له، ولا نصيب من الصلاة، فصح أن النسبة المذكورة من الفضل إنما هي بين المباح له الصلاة قاعدا لعذر من خوف أو مرض أو في نافلة. فإن أرادوا أن يخصوا بذلك النافلة فقط، سألناهم الدليل على ذلك ؟ ولا سبيل لهم إليه، إلا بدعوى في أن المعذور في الفريضة صلاته، كصلاة القائم، وهذه دعوى كاذبة مخالفة لعموم قوله عليه السلام :( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم ) دون تخصيص منه عليه السلام.
وأيضا – فإن حمام بن أحمد حدثنا قال : ثنا عباس بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، ثنا بكر بن حماد والقاضي أحمد بن محمد البرتي : قال القاضي البرتي : ثنا أبو معمر، هو عبد الله بن عمر الرقي، ثنا عبد الوارث : وقال بكر : ثنا مسدد، ثنا يحيى بن سعيد القطان وعبد الوارث بن سعيد التنوري ثم اتفقا عن الحسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن عمران بن الحصين، قال القاضي البرتي في حديثه : إن عمران بن الحصين حدثه، وكان رجلا مبسورا : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد، فقال عليه السلام : " من صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد " ٨.
قال علي : وخصومنا لا يجيزون التننفل بالإيماء الصحيح، فبطل تأويلهم جملة ولله تعالى الحمد )٩.
١ رجال الإسناد :
يعقوب بن إبراهيم بن كثير الدورقي، أبو يوسف، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين). التقريب [٧٨٦٦].
مروان بن معاوية بن الحارث الفزاري، أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ، وكان يدلس أسماء الشيوخ، من الثامنة، مات سنة ثلاث وتسعين. (التقريب) [٦٦١٧].
عبيد الله بن عبد الله بن الأصم العامري، مقبول، من السادسة. (التقريب) [٤٣٣٣].
يزيد بن الأصم: عمرو بن عبيد البكائي، بفتح الموحدة والتشديد، أبو عوف كوفي، نزل الرقة، يقال له رؤية ولا تثبت، وهو ثقة، من الثالثة، مات سنة ثلاث ومائة. (التقريب) [٧٧٣٦].
تخريجه: أخرجه مسلم (٦٥٣) في كتاب الصلاة: باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء، وأبو داود (٥٥٢، ٥٥٣)، في كتاب الصلاة: باب التشديد في ترك الجماعة، والنسائي (٨٥١) في كتاب الإمامة: باب المحافظة على الصلوات حيث ينادي بهن..

٢ رجال الإسناد:
مسدد هو ابن مسرهد بن مسربل بن مستورد الأسدي، البصري، أبو الحسن، ثقة حافظ، من العاشرة مات سنة ثمان وعشرين، ويقال اسمه: عبد الملك بن عبد العزيز، ومسدد لقب. (التقريب) [٦٦٤٢].
أبو قلابة، هو: عبد الله بن زيد بن عمرو أو عامر الجرمي، البصري، ثقة فاضل، كثير الإرسال، من الثالثة، مات بالشام هاربا من القضاء، سنة أربع ومائة، وقيل بعدها (التقريب) [٣٣٥٣].
تخريجه: أخرجه البخاري (٦٥٨) في كتاب الصلاة: باب اثنان فما فوقهما جماعة، ومسلم (٦٧٣) في كتاب المساجد باب من أحق بالإمامة..

٣ سنده ضعيف من أجل حبيب بن أبي ثابت، وهو حديث صحيح.
رجال الإسناد:
قاسم بن محمد بن قاسم بن أصبغ البياني، كان أديبا حسن الخلق، حليما، استعمل في القضاء، مات سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. انظر: (تاريخ علماء الأندلس) ص ٢٩٠، (جذوة المقتبس) ص ٣١٠. (بغية الملتمس) ص ٤٤٦.
قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف البياني، إمام من أئمة الحديث، حافظ مكثر مصنف، مات سنة أربعين وثلاثمائة عن سن عالية. انظر: (تاريخ علماء الأندلس) ص ٢٨٦، (جذوة المقتبس) ص ٣١٠. (بغية الملتمس) ص ٤٤٧، (سير أعلام النبلاء) (١٥/٤٧٢).
إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن محدث البصرة حماد بن زيد، الأزدي مولاهم، البصري، المالكي، الإمام، المحدث، الحافظ، قاضي بغداد، نشر مذهب مالك بالعراق، وصنف في الرد على محمد بن الحسن، مات سنة: اثنتين وثمانين ومائتين. انظر ترجمته في (السير) (١٣/٣٣٩)
سليمان بن حرب الازدي، الواشحي، بمعجمة، ثم مهملة، البصري، قاضي مكة، ثقة إمام حافظ، من التاسعة، مات سنة أربع وعشرين ومائتين. (التقريب) [٢٥٦٠].
حبيب بن أبي ثابت قيس، ويقال: هند بن دينار الأسدي مولاهم، أبو يحيى الكوفي، ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس، من الثالثة، مات سنة تسع عشرة ومائة. (التقريب) [١٠٩٢].
تخريجه: أخرجه ابن ماجة (٧٩٣) في كتاب المساجد: باب التغليظ في التخلف، وابن حبان (٥/٤١٥) والدارقطني (١/٤٢٠)، والحاكم (١/٢٤٥)، والبيهقي (٣/٥٧)، والبغوي (٣/٣٤٨) من طريق: هشيم، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به مرفوعا.
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. قال الحاكم عقب إخراجه:
(وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهشيم وقراد أبو نوح ثقتان، فإذا وصلاه فالقول فيه قولهما).
وقال الإمام الحافظ ابن حجر في البلوغ (١/١٠٤):
(وإسناده على شرط مسلم، لكن رجح بعضهم وقفه).
وقال الشيخ الألباني في الإرواء (٢/٣٣٧) معقبا على قول الحافظ هذا:
(قلت: ولا مبرر لهذا الترجيح، فإن الذين رفعوه جماعة الثقات تابعوا هشيما عليه، منهم قراد بالقاف واسمه عبد الرحمن بن غزوان عند الدارقطني والحاكم، وسعيد بن عامر، وأبو سليمان: داود بن الحكم عند الحاكم. وذكر الشيخ أن لشعبة فيه إسنادا آخر صحيحا، ذكره قاسم بن أصبغ في كتابه وذكره كذلك الحافظ في التخليص (٢/٣٠) وقال: إنه رواه مرفوعا وموقوفا. وذكر أبو محمد عبد الحق الأشبيلي رواية قاسم بن أصبغ المرفوعة، وأقره ابن القطان، فلم يتعقبه، كما في الوهم والإيهام (٣/٩٢)، فالظاهر والله أعلم صحة هذا المرفوع لثقة رواته. ونحن نعلم أن الرفع زيادة مقبولة إن كانت من ثقة، وهي ههنا كذلك، ثم لم ينفرد بها، بل توبع عليها، والعلم عند الله تعالى..

٤ رجال الإسناد:
عباس بن أصبغ الهمداني، أبو بكر، روى عنه حافظ المغرب ابن عبد البر، وكان شيخا حليما ضابطا لما كتب، مات سنة ست وثمانين وثلاثمائة. (تاريخ علماء الاندلس) ص ٢٣٩-٢٤٠. (جذوة المقتبس) ص ٢٢٩.
محمد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج، أبو عبد الله، كان فقيها عالما، حافظا للمسائل، وكان ضابطا لكتبه، مات سنة ثلاثين وثلاثمائة.
انظر: (تاريخ علماء الأندلس) ص ٣٣٢، جذوة المقتبس ص ٦٣.
إبراهيم بن محمد بن باز، أبو إسحاق، يعرف بابن القزاز، من أهل قرطبة، كان فقيها عالما زاهدا ورعا، وكان مقدما في الفتيا، مات سنة: أربع وسبعين ومائتين.
انظر ترجمته في (تاريخ علماء الأندلس) ص ١٨، جذوة المقتبس ص ١٤١.
يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي مولاهم، المصري، وقد ينسب إلى جده، ثقة في الليث، وقد تكلموا في سماعه من مالك، من كبار العاشرة، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وله سبع وسبعون (التقريب) [٧٦٣٠].
أبو الزناد، هو: عبد الله بن ذكوان القرسي، أبو عبد الرحمن المدني، المعروف بكنيته، ثقة فقيه، من الخامسة، مات سنة ثلاثين ومائةن وقيل بعدها. (التقريب) [٣٣٢٢].
الأعرج، هو: عبد الرحمن بن هرمز، أبو داود المدني، ثقة ثبت عالم، من الثالثة، مات سنة سبع عشرة ومائة. (التقريب) [٤٠٦٠].
تخريجه: أخرجه البخاري (٦٤٤) في كتاب الصلاة: باب وجوب صلاة الجماعة، ومسلم (٦٥١) في كتاب المساجد: باب فضل صلاة الجماعة..

٥ ما ذكره ابن حزم جعله الإمام ابن دقيق العبد احتمالا واردا في الحديث، كما نقله عنه الحافظ ابن حجر. وذكر في سبب ترك الإحراق أسباب، منها:
أنه صلى الله عليه وسلم ترك إحراقهم، لأجل ما فيها من الذرية والنساء الذين لا تجب عليهم الجماعة، وقيل: للنهي الوارد عن الإحراق بالنار، وقيل خشية أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وقيل غير ذلك.
انظر (فتح الباري) (٢/١٤٨-١٥٠)، (نيل الأوطار)(٣/١٣٢-١٣٣). (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)(٢/٣٨٥-٣٨٦)، (كتاب الصلاة) لابن القيم ص ٨٦، (شرح العمدة) لابن دقيق العيد (٢/٢٢٦- وما بعدها)، (الاستذكار) (٢/١٤١)، (المنتقى) للباجي (٢/١٩٢)..

٦ حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
أخرجه البخاري (٦٤٥) في كتاب الصلاة: باب فضل صلاة الجماعة، و(مسلم) (٦٥٠) في كتاب المساجد، باب فضل صلاة الجماعة.
وحديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (٦٤٧) في باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم (٦٤٩) في: (باب فضل صلاة الجماعة)..

٧ أخرجه مسلم (٧٣٥) في كتاب صلاة المسافرين: باب جواز النافلة قائما وقاعدا، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما..
٨ رجال الإسناد:
أحمد بن محمد بن عيسى بن الأزهر، أبو العباس البرني البغدادي، القاضي العلامة الحافظ الثقة، قال الدارقطني: ثقة، وكان إسماعيل القاضي يقدمه على كافة أقرانه في القضاء والرواية والعدالة، مات سنة ثمانين ومائتين. انظر: ترجمته ومصادرها في (السير) (١٣/٤٠٧).
عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج التميمي، أبو معمر المقعد، المنقري، بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف، واسم أبي الحجاج ميسرة، ثقة ثبت رمي بالقدر، من العاشرة، مات سنة أربع وعشرين. (التقريب) [٣٥٢٢]. ولم أجد من قال عنه: الرقي، فلعله خطأ.
عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم، أبو عبيدة التنوري بفتح المثناة وتشديد النون، البصري، ثقة ثبت، رمي بالقدر ولم يثبت عنه، من الثامنة، مات سنة ثمانين ومائة. (التقريب) [٤٢٧٩].
الحسين بن ذكوان المعلم المكتب، العوذي، بفتح المهملة وسكون الواو بعدها معجمة، البصري، ثقة ربما وهم، من السادسة، مات سنة خمس وأربعين. (التقريب) [١٣٢٩].
عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، أبو سهل المروزي قاضيها، ثقة، من الثالثة، مات سنة خمس ومائة، وقيل بل خمس عشرة، وله مائة سنة. (التقريب) [٣٢٤٤].
تخريجه: أخرجه البخاري (١١١٥) في تقصير الصلاة: باب صلاة القاعد، والترمذي (٣٧١) في كتاب الصلاة: باب ما جاء أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم..

٩ (المحلى) (٣/١٠٤-١٠٥)..
قال الله تعالى :﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾[ التوبة : ٤٠ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٤٦ ] فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ؟
( قال أبو محمد : ومن فضائل أبي بكر المشهورة، قوله عز وجل :( إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزم إن الله معنا }.
فهذه فضيلة منقولة بنقل الكافة لا خلاف بين أحد في أنه أبو بكر، فأوجب الله تعالى له فضيلة المشاركة في إخراجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه خصه باسم الصحبة له، وبأنه ثانيه في الغار، وأعظم من ذلك كله، أن الله معهما، وهذا ما لا يلحقه فيه أحد )١.
وكان رحمه الله قد أطال في دحض قول من فضل عليا على أبي بكر، ثم قال :( قال أبو محمد : فصح بما ذكرنا فضل أبي بكر على جميع الصحابة رضي الله عنهم بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالبراهين المذكورة. وأما الأحاديث في ذلك، فكثيرة، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر : " دعوا لي صاحبي، فإن الناس قالوا : كذبت، وقال أبو بكر : صدقت " ٢.
وقوله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت متخذا خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي " ٣.
وهذا الذي لا يصح غيره، وأما أخوه علي، فلا تصح إلا مع سهل بن حنيف.
ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بسد كل باب وخوخة في المسجد حاشا خوخة أبي بكر. وهذا هو الذي لا يصح غيره، ومنها غضبه صلى الله عليه وسلم على من خارج أبا بكر، وعلى من أشار عليه بغير أبي بكر للصلاة٤.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " إن من أمن الناس علي في ماله أبو بكر ".
وعمدتنا في تفضيل أبي بكر، ثم عمر على جميع الصحابة، بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم٥ هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل : من أحب الناس إليك يا رسول الله ؟ قال : " عائشة ". قيل : فمن الرجال ؟ قال : " أبوها ". قيل : ثم من يا رسول الله. قال : " عمر ".
قال أبو محمد : فقطعنا بهذا ثم وقفنا، ولو زادنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانا لزدنا، لكن لا نقول في شيء من الدين، إلا بما جاء به النص )٦.
١ (الفصل) (٤/٢٢٠)..
٢ أخرجه البخاري (٣٦٦١) في كتاب الفضائل: باب فضل أبي بكر الصديق..
٣ أخرجه البخاري (٣٩٠٤) في كتاب المناقب: باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، ومسلم (٣٩٠٤) في كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أبي بكر الصديق. من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، فقال: "إن عبدا خيرا الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده"، فبكى أبو بكر وقال: فدنياك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، وقال الناس: (انظروا إلى هذا الشيخ، يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ماعنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي، لاتخذت أبا بكر، إلا خلة الإسلام، لا بيقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر"..
٤ أخرجه البخاري (٦٧٩) في كتاب الأذان: باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، ومسلم (٤٢٠) في كتاب الصلاة: باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر..
٥ يرى ابن حزم رحمه الله تعالى أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من أبي بكر رضي الله عنه، وهذا القول مما انفرد به ابن حزم، ولم يعرف له فيه سلف، بل ولم يذكر هو من سبقه إليه، ويكفي في رده إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تفضيل أبي بكر على جميع الصحابة، ولم يستثنوا من هذا التفضيل أحدا، وفي الأدلة التي سأذكرها إن شاء الله تعالى رد على هذا المذهب، كما أنها رد على من فضل أحدا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعن سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم..
٦ (الفصل) (٤/٢٢٣)..
قال الله تعالى :﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[ التوبة : ٤١ ].
وفيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : حكم الجهاد.
المسألة الثانية : ما حكم الغنيمة إذا كانت بدون إذن الإمام ؟
المسألة الثالثة : هل ينفذ تصرف المرأة والعبد في مالهما ؟
المسألة الأولى :
[ ٤٧ ] حكم الجهاد.
قال ابن حزم :
( والجهاد فرض على المسلمين، فإذا قام به من يدفع العدو، ويغزوهم في عقر دارهم، ويحمي ثغور المسلمين، سقط فرضه عن الباقين، وإلا فلا، قال الله تعالى :﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾[ التوبة : ٤١ ].
روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق، نا محمد بن خداش، نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية، نا أيوب هو السختياني، عن محمد بن سيرين قال : كان أبو أيوب الأنصاري يقول : قال الله تعالى :﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ فلا أحد من الناس إلا خفيف أو ثقيل١.
ومن طريق مسلم : نا محمد بن عبد الرحمن بن سهم الأنطاكي، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن وهيب المكي، عن عمر بن محمد بن المنكدر، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق " ٢.
قال أبو محمد : هذا وعيد شديد نعوذ بالله منه.
ومن طريق مسلم : نا إسماعيل بن علية، عن علي بن المبارك، نا يحيى بن أبي كثير، نا أبو سعيد مولى المهري، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا إلى بني لحيان من هذيل، فقال : " لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما٣ " ٤.
المسألة الثانية :
[ ٤٨ ] ما حكم الغنيمة إذا كانت بدون إذن الإمام ؟
قال الإمام ابن حزم :
( وكل من دخل من المسلمين، فغنم في أرض الحرب سواء كان وحده، أو في أكثر من واحد، بإذن الإمام وبغير إذنه، فكل ذلك سواء، والخمس فيما أصيب، والباقي لمن غنمه ؛ لقول الله تعالى :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ﴾[ الأنفال : ٤١ ].
وقوله تعالى :﴿ فكلوا مما غنمتم ﴾[ الأنفال : ٦٩ ].
وقال أبو حنيفة : لا خمس إلا فيما أصابته جماعة. قال أبو يوسف : تسعة فأكثر. وهذه أقوال في غاية الفساد لمخالفتها القرآن، والسنن، والمعقول، وقد قال تعالى :﴿ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ﴾[ التوبة : ١٢٣ ] فلم يخص بأمر الإمام، ولا بغير أمره، ولو أن إماما نهى عن قتال أهل الحرب لوجبت معصيته في ذلك، لأنه أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة له.
وقال تعالى :﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ﴾[ النساء : ٨٤ ].
وهذا خطاب متوجه إلى كل مسلم، فكل أحد مأمور بالجهاد، وإن لم يكن معه أحد.
وقال تعالى :﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾[ التوبة : ٤١ ].
وقال تعالى :﴿ فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ﴾[ النساء : ٧١ ]٥.
المسألة الثالثة :
[ ٤٩ ] هل يجوز الحجر على السفيه ؟
يقول ابن حزم رحمه الله تعالى :
( لا يجوز الحجر على أحد في ماله إلا على من لم يبلغ، أو على مجنون في حال جنونه، فهذان خاصة لا ينفذ لهما أمر في مالهما، فإذا بلغ الصغير، وأفاق المجنون جاز أمرهما في مالهما كغيرهما ولا فرق، سواء في ذلك كله الحر، والعبد، والذكر، والأنثى، والبكر ذات الأب وغير ذات الأب، وذات الزوج، والتي لا زوج لها، فعل كل ما ذكرنا في أموالهم من عتق، أو هبة، أو بيع، أو غير ذلك : نافذ إذا وافق الحق من الواجب، أو المباح – ومردود فعل كل أحد في ماله إذا خالف المباح، أو الواجب، ولا فرق، ولا اعتراض لأب، ولا لزوج، ولا لحاكم في شيء من ذلك إلا ما كان معصية لله تعالى فهو باطل مردود... برهان ذلك :
ما رويناه من طريق أبي داود، نا أحمد بن عمرو بن السرح، نا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان الأعمش، عن أبي ظبيان وهو حصين بن جندب الجنبي، عن ابن عباس : أن علي بن أبي طالب قال لعمر بن الخطاب : أو ما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم " ٦
وقال تعالى :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾[ آل عمران : ٩٢ ].
وقال تعالى :﴿ والمتصدقين والمتصدقات ﴾[ الأحزاب : ٣٥ ].
وقال تعالى :﴿ جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ﴾[ التوبة : ٤١ ].
وقال تعالى :﴿ ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين ﴾[ المدثر : ٤٢-٤٤ ]. وحض على العتق.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا النار ولو بشق تمرة " ٧.
وقال تعالى :﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ﴾[ النساء : ٣ ].
وقال تعالى :﴿ واتوا النساء صدقاتهن نحلة ﴾[ النساء : ٤ ].
فصح أن كل أحد مندوب إلى فعل الخير، والصدقة، والعتق، والنفقة في وجوه البر ليقي نفسه بذلك نار جهنم. ولا خلاف في أن كل من ذكرنا من عبد، وذات أب، وبكر، وذات زوج، مأمورون، منهيون، متوعدون بالنار، مندوبون موعودون بالجنة، فقراء إلى إنقاذ أنفسهم منها، كفقر غيرهم سواء سواء، ولا مزية، فلا يخرج من هذا الحكم إلا من أخرجه النص، ولم يخرج النص إلا المجنون ما دام في حال جنونه – والذي لم يبلغ إلى أن يبلغ فقط، فكان المفرق بين من ذكرنا فيطلق بعضا على الصدقة، والهبة، والنكاح، ويمنع بعضا بغير نص مبطل، محرما ما ندب الله تعالى إليه، مانعا من فعل الخير )٨.
١ رجال إسناده:
محمود بن خداش، بكسر المعجمة، ثم مهملة خفيفة، وآخره معجمة، الطالقاني، نزل بغداد، صدوق، من العاشرة، مات سنة خمسين ومائتين. (التقريب) [٦٥٥٤ٍ].
إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري، المعروف بابن علية، ثقة حافظ من الثامنة، مات سنة ثلاث وتسعين ومائة. (التقريب) [٤٢٠].
أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني، بفتح المهملة بعدها معجمة ثم مثناة ثم تحتانية وبعد الألف نون، أبو بكر البصري، ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد، من الخامسة، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة. (التقريب)[٦١٠].
تخريجه: أخره أبو عبيد في: (الناسخ والمنسوخ) ص ١٩٩، والطبري في تفسيره ٦٠/٣٧٨)..

٢ رجال الإسناد:
محمد بن عبد الرحمن بن حكيم بن سهم الأنطاكي، ثقة يغرب، من العاشرة، مات سنة ثلاث وأربعين. (التقريب) [٦١١٢].
وهيب بن الورد، بفتح الواو وسكون الراء، القرشي مولاهم، المكي، أبو عثمان، أو أبو أمية، يقال اسمه عبد الوهاب، ثقة عابد، من كبار السابعة. (التقريب) [٧٥٣٩].
عمر بن محمد بن المنكدر التيمي، ثقة، من السابعة. (التقريب) [٥٠٠٣].
سمي، مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الخارث بن هشام، ثقة، من السادسة، مات سنة ثلاثين مقتولا بقديد. (التقريب) [٢٦٥٠].
تخريجه: أخرجه مسلم (١٩١٠) في كتاب الإمارة: باب ذم من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو.
وأبو داود (٠٥٠٢) في: (الجهاد): باب كراهية ترك الغزو، والنسائي (٣٠٩٩) في (الجهاد) باب: التشديد في ترك الجهاد، وأحمد (٢/٣٧٤)..

٣ رجال الإسناد:
علي بن المبارك الهنائي، بضم الهاء وتخفيف النون ممدود، ثقة، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان: أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار السابعة. (التقريب) [٤٨٢١].
أبو سعيد، مولى المهري، مقبول من الثالثة. (التقريب) [٨١٩٤].
أخرجه مسلم (١٨٩٦) في (الإمارة): باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، وأبو داود (٢٥١٠) في: (الجهاد): باب ما يجزئ من الغزو، وأحمد (٣/٥٥)..

٤ (المحلى) (٥/٣٤٠-٣٤١)..
٥ (المحلى) (٥/٤٢١)..
٦ رجال الإسناد :
أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح، بمهملات، أبو الطاهر المصري، ثقة، من العاشرة، مات سنة خمسين ومائتين. (التقريب)[٨٥].
ابن وهب: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم، أبو محمد المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد، من التاسعة، مات سنة سبع وتسعين ومائة. (التقريب) (٣٧١٨].
جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزدي، أبو النظر البصري، ثقة لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدث من حفظه، وهو من السادسة، مات سنة سبعين بعد ما اختلط، لكن لم يحدث في حال اختلاطه. (التقريب)[٩١٩].
حصين بن جندب الجنيي، بفتح الجيم وسكون النون ثم موحدة، أبو ضبيان، بفتح المعجمة وسكون الموحدة، الكوفي، ثقة من الثانية، مات سنة تسعين، وقيل غير ذلك. (التقريب) [١٣٧٥].
وهذا إسناد صحيح.
تخريجه: أخرجه أبو داود (٤٤٠١) في كتاب الحدود: باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا، وأخرجه ابن خزيمة (٢/١٠٢)، وعنه ابن حبان (١/٣٥٦)، والدارقطني (٣/١٣٨-١٣٩)، والحاكم (٢/٥٩) وقد أخرجه أبو داود (٤٣٩٩) موقوفا على علي رضي الله عنه ولا يضره؛ لأن هذا له حكم الرفع.
كما أخرجه أبو داود (٤٤٠٢) من طريق عطاء بن السائب عن أبي ضبيان قال: فذكره، فأسقط ابن عباس. ولا شك أن رواية من أثبت أوثق، فراويها هو الأعمش، على أن أبا ضبيان روى عن عمر وعلي وللحديث شاهد من حديث عائشة وغيرها من الصحابة. وانظر: (نصب الراية) (٤/١٦١-١٦٥)..

٧ أخرجه البخاري (١٤١٣) في كتاب الزكاة: باب الصدقة قبل الرد، ومسلم (١٠١٦) في كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة..
٨ (المحلى) (٧/١٤٠-١٤١)..
قال الله تعالى :
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾[ التوبة : ٤٢ ].
فيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٥٠ ] الاستطاعة ؟
يرى ابن حزم رحمه الله تعالى أن الاستطاعة التي بها يكون الفعل على قسمين :
( أحدهما : قبل الفعل، وهو سلامة الجوارح، وارتفاع الموانع.
والثاني : لا يكون إلا مع الفعل، وهو القوة الواردة من الله عز وجل بالعون، أو الخذلان )١.
أما أدلة النوع الأول، فيدلل لها ابن حزم بما يأتي، يقول :
( برهان ذلك : قوله تعالى حكاية عن القائلين :﴿ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾[ التوبة : ٤٢ ] فأكذبهم الله تعالى في إمكان استطاعة الخروج قبل الخروج.
وقوله تعالى :﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾[ آل عمران : ٩٧ ].
فلم لم يكن ههنا قبل الفعل الذي هو فعل المرء الحج، لما لزم الحج إلا لمن حج فقط، ولما كان أحد عاصيا بترك الحج، لأنه إن لم يكن مستطيعا الحج حتى يحج، فلا حج عليه، ولا هو مخاطب بالحج.
وقوله تعالى :﴿ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ﴾[ المجادلة : ٤ ].
فلو لم يكن على المظاهر العائد لقوله استطاعة على الصيام قبل أن يصوم لما كان مخاطبا بوجوب الصوم عليه إذا لم يجد الرقبة أبدا، ولكان حكمه مع عدم الرقبة وجوب الإطعام فقط، وهذا باطل.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تابعه٢ من أصحابه رضي الله عنهم : " فيما استطعتم "، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يصلوا قياما فمن لم يستطع فقاعدا، فمن لم يستطع فعلى جنب٣.
في هذا إجماع متفق على صحته لا شك فيه، فلو لم يكن الناس مستطيعين للقيام قبل القيام، لما كان أحد مأمورا بالصلاة قائما قبل أن يصليها كذلك، ولكان معذورا إن صلى قاعدا، أو على جنب بكل وجه، ولأنه إذا صلى كذلك، لم يكن مستطيعا للقيام، وهذا باطل، وقوله صلى الله عليه وسلم : " فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم " ٤ فلو لم تكن ههنا استطاعة لشيء مما أمرنا به قبل أن نفعل، لما أمرنا به، ولما لزمنا شيء من ذلك، ولكنا غير عصاة بالترك، لأننا لم نكلف بالنص إلا ما استطعنا.
وقوله صلى الله عليه وسلم : " أتستطيع أن تصوم شهرين ؟ قال : لا " ٥. فلو لم يكن أحدا مستطيعا للصوم إلا حتى يصوم لكان هذا السؤال منه محالا، وحاشا له من ذلك.
ومما يبين صحة هذا، وأن المراد بكل ما ذكرنا سلامة الجوارح، وارتفاع الموانع : قول الله عز وجل :﴿ ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ﴾[ القلم : ٤٢-٤٣ ].
فنص تعالى على أن في عدم السلامة بطلان الاستطاعة، وأن وجود السلامة بخلاف ذلك ؛ فصح أن سلامة الجوارح استطاعة، وإذ قد صح هذا فبيقين ندري أن سلامة الجوارح يكون بها الفعل وضده. والعمل وتركه. والطاعة والمعصية، لأن كل هذا يكون بصحة الجوارح )٦.
ثم يدلل للنوع الثاني من الاستطاعة بقوله :
( ثم وجدنا الله تعالى قد قال :﴿ وكانوا لا يستطيعون سمعا ﴾[ الكهف : ١٠١ ].
وقال تعالى حاكيا قول الخضر لموسى عليهما السلام :﴿ إنك لن تستطيع معي صبرا ﴾[ الكهف : ٦٧ ].
وقال :﴿ ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ﴾[ الكهف : ٨٢ ].
وعلمنا أن كلام الله عز وجل لا يتعارض، ولا يختلف، قال الله تعالى :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾[ النساء : ٨٢ ].
فأيقنا أن الاستطاعة التي نفاها الله عز وجل، هي غير الاستطاعة التي أثبتها، لا يجوز غير ذلك البتة، فإذ ذلك كذلك ؛ فالاستطاعة كما قلنا : شيئان، أحدهما : قبل الفعل، وهو سلامة الجوارح، وارتفاع الموانع.
والثاني : لا يكون إلا مع الفعل، وهو القوة الواردة من الله عز وجل بالعون، أو الخذلان )٧.
١ (الفصل) (٣/٤٥)..
٢ في نسخة أخرى – كما أشار إليها المحقق – (بايعه)، ولعلها هي المرادة. وهذا الحديث أخرجه البخاري (٧٢٠٢) في كتاب الأحكام: باب كيف يبايع الإمام الناس، ومسلم (١٨٦٧) في كتاب الإمارة: باب البيعة على السمع والطاعة فيما استطاع، من حديث ابن عمر، ولفظه: (كما إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، يقول لنا: "فيما استطعت" وفي نسخة أخرى للبخاري "فيما استطعتم" وقد رواه بهذا اللفظ الترمذي (١٥٩٣) في كتاب السير: باب ما جاء في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي في كتاب البيعة: باب البيعة فيما يستطيع الإنسان..
٣ أخرجه البخاري (١١١٧) في كتاب الصلاة: باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب. وهو حديث عمران بن حصين: (صل قائما فإن لم تستطع، فعلى جنب)..
٤ سبق تخريجه في مسألة: من عدم الطهورين..
٥ جاء هذا في حديث الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان. أخرجه البخاري (١٩٣٦) في كتاب الصوم: باب إذا جامع في رمضان، ولم يكن له شيء، فتصدق عليه، فليكفر. و(مسلم) (١١١١) كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان (كلاهما من حديث أبي هريرة..
٦ (الفصل) (٣/٤٣-٤٥)..
٧ (الفصل) (٣/٤٥)..
قال الله تعالى :
﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾[ التوبة : ٤٦ ].
وفيها مسألة واحدة وهي :
[ ٥١ ] هل شاء الله الكفر والفسق ؟
قال ابن حزم رحمه الله تعالى :
( وذهب أهل السنة : أن لفظة ( شاء )، و( أراد ) لفظة مشتركة تقع على معنيين : أحدهما الرضى والاستحسان، فهذا منهي عن الله تعالى أنه أراده، أو شاءه في كل ما نهى عنه. والثاني : أن يقال : أراد وشاء بمعنى أراد كونه، وشاء وجوده، فهذا هو الذي نخبر به عن الله عز وجل في كل موجود في العالم من خير أو شر...
وقال أهل السنة : ليس من فعل ما أراد الله تعالى وما شاء الله، كان محسنا، إنما المحسن من فعل ما أمره الله تعالى به، ورضيه منه...
قال تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾[ المدثر : ٣١ ].
قال أبو محمد : وهذه الآية غاية في البيان في أن الله تعالى جعل عدة ملائكة النار فتنة للذين كفروا، وليقولوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا، فأخبر تعالى : أنه أراد أن يفتن الذين كفروا، وأن يضلهم فيضلوا، وأنه تعالى قصد إضلالهم وحكم بذلك كما قصد هدى المؤمنين وأراده.
وكذلك قال تعالى :﴿ ولو جعلنا قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ﴾[ فصلت : ٤٤ ].
قال أبو محمد : فنص تعالى على أنه نزل القرآن هدى للمؤمنين، وعمى للكفار، وبيقين ندري أنه تعالى إذ أنزل القرآن أراد أن يكون، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾[ يونس : ٩٩-١٠٠ ].
هكذا هي الآية كلها موصولة بعضها ببعض، فنص تعالى على أنه لو شاء لآمن الناس والجن، وهم أهل الأرض كلهم، و( لو ) في لغة العرب التي بها خاطبنا الله عز وجل ليفهمنا : حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره ؛ فصح يقينا أن الله تعالى لم يشأ أن يؤمن كل من في الأرض، وإذ لا شك في ذلك، فباليقين ندري أنه شاء منهم خلاف الإيمان، وهو الكفر، والفسق لا بد، ولو كان الله تعالى أذن للكافرين بالإيمان على قول المعتزلة، لكان كل من في الأرض قد آمن، لأنه تعالى قد نص على أنه لا يؤمن أحد إلا بإذنه، وهذا أمر من المعتزلة يكذبه العيان ؛ فصح أن المعتزلة كذبت، وأن الله تعالى صدق، وأنه لم يأذن قط لمن مات كافرا بالإيمان، وأن من عمي عن هذه لأعمى القلب، وكيف لا يكون أعمى القلب، من أعمى الله قلبه عن الهدى، وبالضرورة ندري أن قول الله تعالى :﴿ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ﴾[ يونس : ١٠٠ ] حق، وأن من لم يأذن الله تعالى له في الإيمان، فإنه تعالى لم يشأ أن يؤمن، وإذ لم يِشأ أن يؤمن ؛ فبلا شك أنه تعالى شاء أن يكفر، هذا ما لا انفكاك منه.
وقال تعالى :﴿ ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ﴾[ الأنعام : ١١٠ – ١١١ ].
فبين تعالى أتم بيان على أن الآيات لا تغني شيئا، ولا النذر، وهم الرسل، وأنه لا يؤمن شيء من ذلك، إلا من شاء الله عز وجل أن يؤمن، فصح يقينا أنه لا يؤمن إلا من شاء الله إيمانه، ولا يكفر إلا من شاء الله كفره، فقال تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام أنه قال :﴿ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن ﴾[ يوسف : ٣٣-٣٤ ].
فبالضرورة نعلم : أن من صبا وجهل، فإن الله تعالى لم يصرف عنه الكيد الذي صرفه برحمته عن من لم يصب ولم يجهل، وإذ صرفه تعالى عن بعض ولم يصرفه عن بعض، فقد أراد تعالى إضلال من صبا وجهل.
وقال تعالى :﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾[ الأنعام : ٢٥ ].
فليت شعري إذ قال تعالى : إنه جعل قلوب الكافرين في أكنة أن يفقهوا القرآن، وجعل الوقر في آذانهم، أتراه أراد يفقهوه، أو أراد ألا يفقهوه ؟ وكيف يسوغ في عقل أحد أن يخبر تعالى : أنه فعل عز وجل شيئا لم يرد أن يفعله ولا أراد كونه، ولا شاء إيجاده، وهذا تخليط لا يتشكل في عقل كل ذي مسكة من عقل – فصح يقينا أن الله تعالى أراد كون الوقر في أذهانهم١، وكون الأكنة على قلوبهم.
وقال تعالى :﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ﴾[ النحل : ٩٣ ].
فنص تعالى على أنه لم يرد يجعلنا أمة واحدة، ولكن شاء أن يضل قوما ويهدي قوما، فصح يقينا أنه تعالى، شاء إضلال من ضل، وقال تعالى : مثنيا على قوم، ومصدقا لهم في قولهم :﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ﴾[ الأعراف : ٨٩ ].
فقال النبيون عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم قول الحق الذي شهد الله عز وجل بتصديقه أنهم إنما خلصوا من الكفر بأن الله تعالى نجاهم منه، ولم ينج الكافرين منه، وأن الله تعالى إن شاء أن يعودوا في الكفر عادوا فيه – فصح يقينا أنه تعالى شاء ذلك ممن عاد في الكفر.
وقد قالت المعتزلة في هذه الآية : معنى هذا إلا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام كما أمرنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة.
وقال أبو محمد : وهذا في غاية الفساد، لأن الله تعالى لو أمرنا بذلك لم يكن عودا في ملة الكفر بل كان يكون ثباتا على الإيمان، وتزايدا فيه.
قال تعالى :﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ﴾[ البقرة : ١٠ ].
فليت شعري إذ زادهم الله مرضا أتراه لم يشأ، ولا أراد ما فعل من زيادة المرض في قلوبهم، وهو الشك والكفر ؟ وكيف يفعل الله ما لا يريد أن يفعل ؟ وهل هذا إلا إلحاد مجرد ممن قاله ؟ !
وقال تعالى :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾[ البقرة : ٢٥٣ ].
فنص تعالى على أنه لو شاء لم يقتتلوا، فوجب ضرورة أنه شاء وأراد أن يقتتلوا وفي اقتتال المقتتلين ضلال بلا شك، فقد شاء الله تعالى كون الضلال، ووجوده بنص كلامه تعالى.
وقال عز وجل :﴿ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ﴾[ المائدة : ٤١ ].
فنص تعالى على أنه أراد فتنة المفتتنين، وهم الكفار، وكفرهم الذين لم يملك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله شيئا، فهذا نص على أن نعمة الله تعالى أراد كون الكفر من الكفار.
وقال تعالى :﴿ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾[ المائدة : ٤١ ].
قال أبو محمد : وهذا غاية البيان في أنه تعالى لم يرد أن يطهر قلوبهم وبالضرورة ندري أن من لم يرد الله أن يطهر قلبه فقد أراد فساد دينه الذي هو ضد طهارة القلب.
وقال تعالى :﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ﴾[ الأنعام : ٣٥ ].
وهذا غاية البيان في أن الله تعالى لم يرد هدى الجميع، وإذا لم يرد هداه فقد أراد كون كفرهم الذي هو ضد الهدى.
وقال تعالى :﴿ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾[ السجدة : ١٣ ].
قال أبو محمد : هذا غاية البيان في أنه تعالى لم يشأ هدى الكفار لكن حق قوله بأنهم لا بد من أن يكفروا فيكونوا من أهل جهنم.
وقال تعالى :﴿ من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ﴾[ الأنعام : ٣٩ ].
فأخبر تعالى أنه شاء أن يضل من أضله، وشاء أن يهدي من جعله على صراط مستقيم، وهم بلا شك غير الذين لم يجعلهم على صراط مستقيم، وأراد فتنتهم وألا يطهر قلوبهم، وأن يكونوا من أصحاب النار، نعوذ بالله من ذلك.
وقال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال :﴿ لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ﴾[ الأنعام : ٧٧ ].
فشهد الخليل عليه السلام أن من لم يهده الله تعالى ضل، وصح أن من ضل فلم يهده الله عز وجل، ومن لم يهده الله، وهو قادر على هداه – فقد أراد ضلاله وإضلاله، ولم يرد هداه.
وقال تعالى :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾[ الأنعام : ١٠٧ ].
فصح يقينا لا إشكال فيه أن الله تعالى شاء أن يشركوا إذ نص على أنه لو شاء ألا يشركوا ما أشركوا.
وقال تعالى :﴿ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه ﴾[ الأنعام : ١١٢ ].
وهذا نص على أنه تعالى شاء أن يفعلوه، إذ أخبر أنه لو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه وقال تعالى :﴿ وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه ﴾[ الأنعام : ١٣٧ ].
فنص تعالى على أنه لو لم يشأ أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ما أوحوه، ولو شاء ألا يلبس بعضهم دين بعض، وألا يقتلوا أولادهم ما لبس عليهم دينهم، ولا قتلوا أولادهم، فصح ضرورة أنه تعالى شاء أن يلبس دين من التبس دينه وأراد كون قتلهم أولادهم، وأن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
وقال تعالى :﴿ ولو شاء الله لسلطهم عليكم ﴾[ النساء : ٩٠ ]. فصح يقينا : أنه تعالى سلط أيدي الكفار على من قتلوه من الأنبياء والصالحين.
وقال تعالى :﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ﴾[ الأنعام : ١٢٥ ].
فنص على أنه يريد هدى قوم فيهديهم، ويشرح صدورهم للإيمان، ويريد ضلال آخرين فيضلهم بأن يضيق صدورهم، ويحرجها فكأنهم كلفوا الصعود إلى السماء فيكفروا.
وقال تعالى :﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله ﴾[ النحل : ١٢٧ ].
فنص تعالى على أن من صبر فصبره ليس إلا بالله – فصح أن من صبر فإن الله آتاه الصبر، ومن لم يصبر، فإن الله عز وجل لم يؤته الصبر. وقال تعالى :﴿ ولا تنازعوا ﴾[ الأنفال : ٤٦ ] فنهانا عن الاختلاف.
وقال تعالى :﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ﴾[ هود : ١١٨-١١٩ ].
فنص تعالى أنه خلقهم للاختلاف، إلا من رحم الله منهم، ولو شاء لم يختلفوا ؛ فصح يقينا أن الله خلقهم لما نهاهم عنه من الاختلاف، وأراد كون الاختلاف منهم.
وقال عز وجل :﴿ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ﴾[ آل عمران : ٢٦ ].
وقال تعالى :﴿ بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ﴾[ الإسراء : ٥ ].
إلى قوله تعالى :{ وليدخلوا ا
١ لعل الصواب : في آذانهم..
قال الله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾[ التوبة : ٥٤ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٥٢ ] هل يقبل من الكافر ما عمله من الصالحات حال كفره ؟
يرى الإمام ابن حزم عليه رحمة الله تعالى :
( أن من عمل خيرا وهو كافر ثم أسلم، فإن ذلك الخير محسوب له، مكتوب، وهو مثاب عليه، ومأجور )١.
وقد استدل عليه رحمة الله عليه على هذا بقوله تعالى في المنافقين :
﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ﴾[ التوبة : ٥٤ ].
قال رحمه الله تعالى :
( وهذا بيان جلي على أن السبب المانع من قبول نفقاتهم هو الكفر، فإذا ارتفع ذلك ارتفع السبب المانع من قبول نفقاتهم، فإذا ارتفع ذلك السبب فقد وجب قبول النفقات، وهذا نص القرآن والسنة )٢.
وأما السنة التي أشار إليها رحمه الله، فقد ذكر قبل دليلا منها، وهو ما حدثهم به عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، نا حسن الحلواني، وعبد بن حميد، قال حسن : نا، وقال عبد : ثنى يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي، عن صالح – هو ابن كيسان – عن ابن شهاب، قال : أنبأ عروة بن الزبير :
أن حكيم بن حزام أخبره، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله ! أرأيت أمورا كنت أتحنث به في الجاهلية من صدقة أو عتاقه، أو صلة رحم، أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسلمت على ما أسلفت من خير " ٣.
١ (أًول الأحكام) (م ٢/١٠٦)، (٢/١٠٦-١٠٧)..
٢ (أصول الأحكام) (م ٢/١٠٨-١٠٩)..
٣ رجال الإسناد:
الحسن بن علي بن محمد الهذلي أبو علي الحلواني بضم المهملة، نزيل مكة، ثقة حافظ، له تصانيف من الحادية عشرة مات سنة اثنتين وأربعين ومائة التقريب [١٢٧٢].
عبد بغير إضافة بن حميد بن نصر الكشي بمهملة، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد وبذلك جزم بن حبان وغير واحد، ثقة حافظ من الحادية عشرة، مات سنة تسع وأربعين ومائتين التقريب [٤٢٩٤].
يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو يوسف المدني، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار التاسعة، مات سنة ثمان ومائتين ومائة. التقريب [٧٨٦٥].
إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق المدني، نزيل بغداد، ثقة حجة، تكلم فيه بلا قادح من الثامنة مات سنة خمس وثمانين ومائة. التقريب [١٧٧].
صالح بن كيسان المدني، أبو محمد، أو أبو الحارث، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقة ثبت فقيه، من الرابعة مات بعد سنة ثلاثين أو بعد الأربعين ومائة. (التقريب) [٢٩٠٠].
تخريجه: أخرجه مسلم (١٢٣) في كتاب الإيمان: باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده، وكذا البخاري (١٤٣٦) في كتاب الزكاة: باب من تصدق في الشرك ثم أسلم..

قال الله تعالى :
﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾[ التوبة : ٦٠ ].
وفيها ست مسائل، هي :
المسألة الأولى : هل هناك واجب ليس بفرض ؟
المسألة الثانية : الأصناف التي تصرف فيها الزكاة.
المسألة الثالثة : هل يجوز صرف الزكاة إلى نوع واحد من الأصناف الثمانية ؟
المسألة الرابعة : هل يجوز صرف الزكاة إلى ما سوى الأصناف الثمانية ؟
المسألة الخامسة : من أعطى الزكاة لمن ليس من أهلها خطأ، فهل تجزئه ؟
المسألة السادسة : متى تجوز الصدقة على الغني ؟
المسألة الأولى :
[ ٥٣ ] هل هناك واجب ليس بفرض ؟
( قال علي : وقد ذهب بعض المالكيين إلى أن ههنا واجبا ليس فرضا ولا تطوعا.
قال علي : وهذا هذيان فاسد لا يعقل أصلا ؛ لأن الواجب : هو الذي لا بد من فعله. وغير الواجب : هو ما إن شاء فعله المرء، وإن شاء تركه. ولا يعرف ههنا شيء يتوسط هذين الطرفين.
فإن راعوا ما ورد به لفظ الفرض في الشريعة، فهم أول عاص لما ورد فيها ؛ لأن الله عز وجل يقول :﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾[ التوبة : ٦٠ ].
فقالوا هم : هذه القسمة ليست فريضة، بل جائز أن يعطى من هؤلاء، وجائز أن توضع في بعض هذه الأصناف دون بعض.
وقال ابن عمر : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على كل صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد من المسلمين : صاعا من تمر أو صاعا من شعير )١.
فقالوا : ليس هذا فرضا، ولا الشعير أيضا، ولا التمر فيها فرضا. فما نعلم أحدا أترك لفظ الفرض٢ الوارد في الشريعة منهم٣.
المسألة الثانية :
[ ٥٤ ] الأصناف التي تصرف فيها الزكاة.
قال ابن حزم :
( الفقراء هم الذين لا شيء لهم أصلا.
والمساكين : هم الذين لهم شيء لا يقوم بهم. برهان ذلك :
أنه ليس إلا موسر، أو غني، أو فقير، أو مسكين، في الأسماء.
ومن له فضل عن قوته. ومن لا يحتاج إلى أحد وإن لم يفضل عنه شيء.
ومن له ما لا يقوم بنفسه منه. ومن لا شيء له. فهذه مرات أربع معلومة بالحس.
فالموسر بلا خلاف : هو الذي يفضل ماله عن قوته وقوت عياله على السعة.
والغني : هو الذي لا يحتاج إلى أحد وإن كان لا يفضل عنه شيء ؛ لأنه في غنى عن غيره. وكل موسر غني، وليس كل غني موسرا.
فإن قيل : لم فرقتم بين المسكين، والفقير ؟ قلنا : لأن الله تعالى فرق بينهما، ولا يجوز أن يقال في شيئين فرق الله تعالى بينهما : إنهما شيء واحد، إلا بنص أو إجماع أو ضرورة حس٤ ؛ فإذ ذلك كذلك فإن الله تعالى يقول :
﴿ فكانت لمساكين يعملون في البحر ﴾[ الكهف : ٧٩ ]. سماهم الله تعالى مساكين ولهم سفينة ؛ ولو كانت تقوم بهم، لكانوا أغنياء بلا خلاف. فصح اسم المسكين بالنص لمن هذه صفته٥.
وبقي القسم الرابع : وهو من لا شيء له أصلا ؛ ولم يبق له من الأسماء إلا الفقير، فوجب ضرورة أنه ذاك.
وروينا ما حدثناه عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، أخبرنا نصر بن علي، أخبرنا عبد الأعلى، ثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، والتمرة والتمرتان ". قالوا : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال : " المسكين الذي لا يجد غنى، ولا يفطن لحاجته فيتصدق عليه " ٦.
قال أبو محمد : فصح أن المسكين هو الذي لا يجد غنى، إلا أن له شيئا لا يقوم له، فهو يصبر وينطوي، وهو محتاج ولا يسأل٧.
وقال تعالى :﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ﴾[ الحشر : ٨ ].
فصح أن الفقير الذي لا مال له أصلا ؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم. ولا يجوز أن يحمل ذلك على بعض أموالهم.
والعاملون عليها : هم العمال الخارجون من عند الإمام الواجبة طاعته، وهم المصدقون، السعاة. قال أبو محمد : وقد اتفقت الأمة على أنه ليس كل من قال : أنا عامل عاملا، وقد قال عليه السلام : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ". فكل من عمل من غير أن يوليه الإمام الواجبة طاعته، فليس من العاملين عليها ؛ ولا يجزئ دفع الصدقة إليه، وهي مظلمة، إلا أن يكون يضعها مواضعها، فتجزئ حينئذ ؛ لأنها قد وصلت إلى أهلها. وأما عامل الإمام الواجبة طاعته فنحن مأمورون بدفعها إليه ؛ وليس علينا ما يفعل فيها ؛ لأنه وكيل، كوصي اليتيم ولا فرق، وكوكيل الموكل سواء سواء.
والمؤلفة قلوبهم : هم قوم لهم قوة لا يوثق بنصيحتهم للمسلمين، فيتألفون بأن يعطوا من الصدقات، ومن خمس الخمس.
والرقاب : هم المكاتبون، والعتقاء. فجائز أن يعطوا من الزكاة. وقال مالك : لا يعطى منها المكاتب. وقول غيره : يعطى منها ما يتم به كتابته.
وقال أبو محمد : وهذان قولان لا دليل على صحتهما. وبأن المكاتب يعطى من الزكاة يقول أبو حنيفة والشافعي.
والغارمون : هم الذين عليهم ديون لا تفي أموالهم بها، أو من تحمل بحمالة وإن كان في ماله وفاء بها ؛ فأما من له وفاء بدينه، فلا يسمى في اللغة غارما٨ حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، أخبرنا محمد بن النضر بن مساور، ثنا حماد بن سلمة، عن هارون بن رئاب، حدثني كنانة بن نعيم، عن قبيصة بن المخارق قال : تحملت بحمالة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فيها ؟ فقال : أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها.
يا قبيصة، إن الصدقة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل بحمالة، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواما من عيش، أو قالك سدادا من عيش. وذكر الحديث٩.
وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق. حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا ابن السليم، ثنا ابن الأعرابي، ثنا أبو داود، ثنا الحسن بن علي، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن زيد بن أٍسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهداها المسكين للغني " ١٠. وقد روي هذا الحديث عن غير معمر فأوقفه بعضهم، ونقص بعضهم مما ذكر فيه معمر، وزيادة العدل لا يحل تركها. فإن قيل : قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحج من سبيل الله١١. وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج. قلنا : نعم، وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات، فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص، وهو الذي ذكرنا – وبالله تعالى التوفيق.
وابن السبيل : هو من خرج في معصية فاحتاج )١٢.
المسألة الثالثة :
[ ٥٥ ] هل يجوز صرف الزكاة إلى نوع واحد من الأصناف الثمانية ؟
يقول ابن حزم :
( ومن تولى تفريق زكاة ماله، أو زكاة فطره، أو تولاها الإمام، أو أميرة، فإن الإمام، أو أميرة، يفرقانها ثمانية أجزاء مستوية : للمساكين سهم، وللفقراء سهم، وفي المكاتبين، وفي عتق الرقاب سهم، وفي سبيل الله تعالى سهم، ولأبناء السبيل سهم، وللعمال الذين يقبضونها سهم، وللمؤلفة قلوبهم سهم. وأم من فرق زكاة ماله ففي ستة أسهم كما ذكرنا، ويسقط : سهم العمال، وسهم المؤلفة قلوبهم. ولا يجوز أن يعطي من أهل سهم أقل من ثلاثة أنفس، إلا أن لا يجد، فيعطي من وجد. ولا يجوز أن يعطي بعض أهل السهام دون بعض، إلا أن يجد، فيعطي من وجد...
برهان ذلك : قول الله تعالى :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ﴾[ التوبة : ٦٠ ].
وقال بعضهم : يجزئ أن يعطي المرء صدقته في صنف واحد منها. واحتجوا بأنه لا يقدر على عموم جميع الفقراء وجميع المساكين. فصح أنها في البعض. قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ". ولقول الله تعالى :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾[ البقرة : ٢٨٦ ]. فصح أن ما عجز عنه المرء فهو ساقط عنه، وبقي عليه ما استطاع، لا بد له من إيفائه ؛ فسقط عموم كل فقير وكل مسكين، وبقي ما قدر عليه من جميع الأصناف، فإن عجز عن بعضها سقط عنه أيضا ؛ ومن الباطل أن يسقط ما يقدر عليه من أجل أنه سقط عنه ما لا يقدر عليه )١٣.
المسألة الرابعة :
[ ٥٦ ] هل يجوز صرف الزكاة إلى ما سوى الأصناف الثمانية ؟
يقول ابن حزم :
( فإن أعطى من ليس من أهلها – عامدا أو جاهلا – لم يجزه، ولا جاز للآخذ، وعلى الآخذ أن يرد ما أخذ، وعلى المعطي أن يوفي ذلك الذي أعطى في أهله. برهان ذلك.
قول الله تعالى :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ﴾[ التوبة : ٦ ]١٤.
المسألة الخامسة :
[ ٥٧ ] من أعطى الزكاة لمن ليس من أهلها خطأ، فهل تجزئه ؟
قال ابن حزم :
( فإن أعطى من ليس من أهلها – عامدا أو جاهلا – لم يجزه، ولا جاز للآخذ، وعلى الآخذ أن يرد ما أخذ، وعلى المعطي أن يوفي ذلك الذي أعطى في أهله.
برهان ذلك قول الله تعالى :
﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ﴾[ التوبة : ٦٠ ].
وأما قولنا : لا تجزئ إن وضعت في يد من لا تجوز له ؛ فلأن الله تعالى سماها لقوم خصهم بها ؛ فصار حقهم فيها ؛ فمن أعطى منها غيرهم، فقد خالف ما أمر الله تعالى به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ؛ فوجب على المعطي إيصال ما عليه إلى من هو له، ووجب على الآخذ رد ما أخذ بغير حق. قال تعالى :﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾[ البقرة : ١٨٨ ]١٥.
المسألة السادسة :
[ ٥٨ ] متى تجوز الصدقة على الغني ؟
يقول ابن حزم :
وأما الغني : فقد روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عدي بن الخيار : أن رجلين حدثاه أنهما سألا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقة فقال : إن شئتما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب.
قلنا : هذا الخبر وكل ما جاء بهذا اللفظ فإنما هو على ( الصدقة المفروضة ) التي حرمت على الأغنياء، إلا من خصه النص منهم :﴿ والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ﴾[ التوبة : ٦٠ ] فقط١٦.
١ أخرجه البخاري (١٥٠٣) في (كتاب الزكاة): باب فرض صدقة الفطر، مسلم (٩٨٤) في (كتاب الزكاة) باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير..
٢ هكذا في المطبوع، ولعلها: للفظ الفرض..
٣ (أصول الأحكام) (١/٣٣٥)..
٤ وهكذا قال الإمام الطبري: في (تفسيره) (٦/٣٩٧)، وابن حبان في (البحر المحيط) (٥/٤٤٠) وابن مفلح في (المبدع) (٢/٤١٥)، والقرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) (٨/١٠٨)..
٥ انظر هذا الدليل في: (زاد المسير) (٣/٣٤٥)، و(نيل الأوطار) (٤/١٦٣)، (الجامع لأحكام القرآن)(٨/١٠٨)، (فتح الباري) (٣/٤٠٢)، (تفسير السمعاني) (٢/٣٢٠)..
٦ رجال الإسناد :
محمد بن معاوية بن عبد الرحمن بن معاوية الأموي المرواني، أبو بكر المعروف بابن الأحمر، جده الخليفة هشام بن عبد الملك، محدث الأندلس ومسندها، وكان شيخا نبيلا، ثقة معمرا، جلب إلى أهل الأندلس (السنن الكبير، وحمل الناس عنه، مات سنة: ثمان وخمسين وثلاثمائة. انظر: (السير) (١٦/٦٨).
نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، ثقة ثبت، طلب للقضاء، فامتنع، من العاشرة، مات سنة خمسين ومائتين، أو بعدها. (التقريب) [٧١٧٠].
عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري، السامي، بالمهملة، أبو محمد، وكان يغضب إذا قيل له أبو همام، ثقة من الثامنة، مات سنة تسع وثمانين ومائة. (التقريب) [٣٧٥٨].
معمر بن راشد الأزدي مولاهم أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل إلا في روايته عن ثابت والأعمش وعاصم بن أبي النجود وهشام بن عروة وكذا فيما حدث به بالبصرة، من كبار السابعة، مات سنة أربع وخمسين ومائة. انظر: (التقريب) [٦٨٥٧].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: اسمه إسماعيل، ثقة مكثر من الثالثة، مات سنة أربع وتسعين، أو أربع ومائة. (التقريب) [٨٢٠٣].
تخريجه: أخرجه البخاري (١٤٧٦)، (١٤٧٩) في (كتاب الزكاة): باب قول الله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافا}، وكم الغنى. ومسلم في (كتاب الزكاة): باب المسكين الذي لا يجد غنى (١٠٣٩)..

٧ انظر: (نيل الأوطار) (٤/١٦٣)، و(فتح الباري) (٣/٤٠٢). وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في (فتح الباري) (٣/٤٠١): (وكأن المعنى: نفي اليسار المقيد بأنه يغنيه مع وجود أصل اليسار)..
٨ وانظر (المحلى) (١٠/٢٨٤)، (١١/١٠٩)..
٩ رجال الإسناد:
محمد بن النضر بن مساور المروزي، صدقو، من العاشرة، مات سنة تسع وثلاثين. (التقريب) [٦٣٩٥].
حماد بن سلمة بن دينار البصري، أبو سلمة، ثقة عابد أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره من كبار الثامنة، مات سنة سبع وستين ومائة. (التقريب) [١٥٠٧].
هارون بن رئاب، بكسر الراء، وتحتانية مهموزة، ثم موحدة، التميمي، أبو بكر، أو أبو الحسن، ثقة عابد، من السادسة، اختلف في سماعه من أنس. (التقريب) [٧٢٧٤].
كنانة بن نعيم العدوي، أبو بكر البصري، ثقة من الرابعة. (التقريب) [٥٧٠٤].
تخريجه: أخرجه مسلم (١٠٤٤) في (كتاب الزكاة): باب من تحل له المسألة، وأحمد (٣/٤٧٧، ٥/٦٠)، وأبو داود (١٦٤٠) في (كتاب الزكاة): باب ما تجوز فيه المسألة..

١٠ رجال الإسناد:
الحسن بن علي بن محمد الهذلي، أبو علي الخلال الحلواني، بضم المهملة، نزيل مكة، ثقة حافظ، له تصانيف، من الحادية عشرة، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين. (التقريب) [١٢٧٢].
زيد بن أسلم العدوي، مولى عمر، أبو عبد الله، وأبو أسامة المدني، ثقة عالم، وكان يرسل، من الثالثة، مات سنة ست وثلاثين ومائة. (التقريب) [٢١٢٩].
عطاء بن يسار الهلالي، أبو محمد المدني، مولى ميمونة، ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار الثانية، مات سنة أربع وتسعين، وقيل قبل ذلك. (التقريب) [٤٦٣٩].
تخريجه: أخرده عبد الرزاق في مصنفه (٤/١٠٩)، ومن طريقه أبو داود في سننه (١٦٣٦) وكذا ابن ماجة (١٨٤١) في (كتاب الزكاة): باب من تحل له الصدقة، وأحمد (٣/٥٦)، وابن الجارود (٢/٢٣-٢٤)، وابن خزيمة (٤/٧١) والحاكم (١/٤٠٧-٤٠٨)، والبيهقي (٧/١٥)، وابن عبد البر في (التمهيد) (٧/٢٢٨ – فتح البر). والدارقطني (٢/١٢١).
من طريق: معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري به.
وهذا إسناد صحيح. لكن أعله بعضهم بالإرسال. فقد رواه مالك في (الموطأ) (١/٢٦٨)، عن زيد بن أسلم، عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فذكره).
هكذا رواه مرسلا.
ومن طريق مالك، رواه أبو داود (١٦٣٥)، والحاكم (١/٤٠٥)، والبيهقي (٧/١٥)، والبغوي (٦/٨٩)، وقد تابع مالكا ابن عيينة، قاله أبو داود والبيهقي. وتابعه أيضا: إسماعيل بن أميه، كما قال ذلك ابن عبد البر. وتابعه الثوري أيضا، كما عند (أبي عبيد) في الأموال ص ٦٠٢. وبإزاء هذا الاختلاف، فقد عد بعض أهل العلم ما رواه معمر من زيادة الثقة، فيقبل، منهم: الحاكم، قال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لإرسال مالك بن أنس إياه، عن زيد بن أسلم... ثم قال: (هذا – أي الحديث – من شرطي في خطبة الكتاب، أنه صحيح، فقد يرسل مالك في الحديث، ويصله أو يسنده ثقة، والقول فيه قول الثقة الذي يصله ويسنده).
ووافقه الذهبي، وصححه أيضا ابن خزيمة.
ويؤيد هذا أن معمرا لم ينفرد بهذا، فقد تابعه الثوري، كما عند الدارقطني والبيهقي. وعليه، فالحديث صحيح إن شاء الله تعالى..

١١ سيأتي تخريجه إن شاء الله..
١٢ (المحلى) (٤/٢٧٢ – ٢٧٥)..
١٣ (المحلى) (٤/٢٦٧-٢٦٨)..
١٤ (المحلى) (٤/٢٦٧). وانظر: (أصول الأحكام) (١/٢٨٦)، وتشنيع ابن حزم على القائلين بجواز ذلك..
١٥ (المحلى) (٤/٢٦٧، ٢٧١)..
١٦ انظر : (المحلى) (٨/١٢٤)..
قال الله تعالى :
﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ﴾[ التوبة : ٦١ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٥٩ ] هل العبيد داخلون في الخطاب كالأحرار ؟
يرى ابن حزم – رحمه الله تعالى – أن العبيد داخلون في الخطاب الوارد، ولا فرق بينهم، إلا ما فرق النص فيه بين الأحرار والعبيد.
وقد استدل بالآيات التي وقع فيها الاتفاق على توجه الخطاب إلى الأحرار والعبيد، فمنها : الآية التي ذكرناها – آية التوبة -.
وقوله تعالى :﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾[ مريم : ٧١ ].
وقوله تعالى :﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾[ المائدة : ٥١ ].
وقوله تعالى :﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ﴾[ الرعد : ١٠ ].
وقوله تعالى :﴿ ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ﴾[ النحل : ٧٠ ].
وقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ﴾[ البقرة : ٢٨٢ ].
وقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ﴾[ الطلاق : ١ ]١.
١ (أصول الأحكام) (م ١/٣٤٢ – ٣٤٤)..
قال الله تعالى :﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾[ التوبة : ٦٥-٦٦ ].
وفيه مسألة واحدة، وهي :
[ ٦٠ ] السؤال في ذات الله، ما يجوز منه، وما يحرم ؟
قال ابن حزم :( من السؤالات سؤالات لا يستحل سماعها، ولا يحل النطق بها، ولا يحل الجلوس حيث يلفظ بها، وهي كل ما فيها كفر بالباري عز وجل، أو استخفاف به، أو بنبي من أنبيائه، أو بملك من ملائكته، أو بآية من آياته.
وقد قال تعالى :﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره أنكم إذا مثلهم ﴾[ النساء : ١٤٠ ].
وقال عز وجل :﴿ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ﴾[ التوبة : ٦٥-٦٦ ]١.
١ (الفصل) (٢/٣٧٣-٣٧٤)، وانظر: (الدرة) ص ٣١٧..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٥:قال الله تعالى :﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾[ التوبة : ٦٥-٦٦ ].

وفيه مسألة واحدة، وهي :

[ ٦٠ ] السؤال في ذات الله، ما يجوز منه، وما يحرم ؟
قال ابن حزم :( من السؤالات سؤالات لا يستحل سماعها، ولا يحل النطق بها، ولا يحل الجلوس حيث يلفظ بها، وهي كل ما فيها كفر بالباري عز وجل، أو استخفاف به، أو بنبي من أنبيائه، أو بملك من ملائكته، أو بآية من آياته.
وقد قال تعالى :﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره أنكم إذا مثلهم ﴾[ النساء : ١٤٠ ].
وقال عز وجل :﴿ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ﴾[ التوبة : ٦٥-٦٦ ]١.
١ (الفصل) (٢/٣٧٣-٣٧٤)، وانظر: (الدرة) ص ٣١٧..

قال الله تعالى :﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾[ التوبة : ٦٧ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٦١ ] هل الله سميع بسمع، بصير ببصر ؟
يرى الإمام ابن حزم رحمه الله :( أن الله سميع بصير، ولا نقول بسمع، ولا ببصر ؛ لأن الله تعالى لم يقله، ولكن سميع بذاته، بصير بذاته.
قال أبو محمد : وبهذا نقول، ولا يجوز إطلاق سمع، ولا بصر حيث لم يأت به نص لما ذكرنا آنفا : لا يجوز أن يخبر عنه تعالى إلا بما أخبر به عن نفسه )١ وله دليل آخر، ذكره عند الإجابة عن قول من أثبت السمع والبصر بحجة أنه لا يعرف سميع بلا سمع، ولا بصير بدون بصر، قال :( ثم نزيد بيانا بعون الله تعالى، فنقول : إن قولكم لا يعقل سميع بلا سمع، ولا بصير إلا ببصر. فإن كان هذا صحيحا يوجب أن يقال : إن لله تعالى سمعا وبصرا فإنه لا يفعل من له مكر إلا وهو ماكر، ولا من كان من الماكرين إلا وهو ماكر، ولا يعقل أحد ممن يستهزئ إلا وهو مستهزئ، ولا يعقل أحد ممن يكيد إلا وهو كياد، ولا يعقل أحد ممن له كيد، ومكر إلا وهو كياد وماكر، ولا خادع إلا، ويسمى : الخادع.
ولا يعقل من نسي إلا هو ناس وذو نسيان، وهذا هو الذي لا سبيل إلى أن يوجد في العالم خلافه. وقد قال الله تعالى :﴿ وأكيد كيدا ﴾[ الطارق : ١٦ ].
وقال تعالى :﴿ الله يستهزئ بهم ﴾[ البقرة : ١٥ ].
وقال تعالى :﴿ وهو خادعهم ﴾[ النساء : ١٤٢ ].
وقال تعالى :﴿ أفأمنوا مكر الله ﴾[ الأعراف : ٩٩ ].
وقال تعالى :﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ﴾[ آل عمران : ٥٤ ].
وقال تعالى :﴿ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا ﴾[ النمل : ٥٠ ].
وقال تعالى :﴿ فلله المكر جميعا ﴾[ الرعد : ٤٢ ].
وقال تعالى :﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾[ التوبة : ٦٧ ].
وقال تعالى :﴿ سخر الله منهم ﴾[ التوبة : ٧٩ ].
فيلزمهم إذا سموا ربهم ووصفوه من طريق استدلالهم وقياسهم، وما شاهدوه في الحاضر عندهم أن يسموه ماكرا، فيقولون : يا ماكر ارحمنا، ويسموا بينهم : عبد الماكر )٢.
١ (الفصل) (٢/٣٠٩-٣١٠)..
٢ المصدر السابق: (٢/٣١٦-٣١٧)..
قال الله تعالى :
﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾[ التوبة : ٧١ ].
وفيها أربع مسائل، وهي :
المسألة الأولى : الصلاة على من مات في حد.
المسألة الثانية : هل للأب الكافر ولاية على ابنته المؤمنة ؟
المسألة الثالثة : هل يشترط للنكاح تكافؤ الزوجين في الدين والنسب ؟
المسألة الرابعة : حكم من لحق دار الكفر مشاقا للمسلمين.
المسألة الأولى :
[ ٦٢ ] حكم الصلاة على من مات في حد.
يقول ابن حزم :
ويصلى على كل مسلم : بر، أو فاجر، مقتول في حد، أو في حرابة، أو بغي، ويصلي عليهم الإمام، وغيره – ولو أنه شر من على ظهر الأرض، إذا مات مسلما لعموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " صلوا على صاحبكم " ١، والمسلم صاحب لنا. قال تعالى :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾[ الحجرات : ١٠ ].
وقال تعالى :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾[ التوبة : ٧١ ].
فمع منع من الصلاة على مسلم، فقد قال قولا عظيما، وإن الفاسق لأحوج إلى دعاء إخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم.
وقال بعض المخالفين : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز٢. قلنا : نعم، ولم نقل إن فرضا على الإمام أن يصلي على من رجم، إنما قلنا : له أن يصلي عليه كسائر الموتى، وله أن يترك كسائر الموتى، ولا فرق. وقد أمرهم عليه السلام بالصلاة عليه، ولم يخص بذلك من لم يرجمه ممن رجمه.
وقد روينا من طريق أحمد بن شعيب : أنا عبيد الله بن سعيد، نا يحيى هو ابن سعيد القطان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي عمرة، عن زيد بن خالد الجهني قال : مات رجل بخيبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلوا على صاحبكم، إن قد غل في سبيل الله " قال : ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين.
قال أبو محمد : وهؤلاء الحنفيون، والمالكيون – المخالفون لنا في هذا المكان – لا يرون امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال حجة في المنع من أن يصلي الإمام على الغال، فمن أين وجب عندهم أن يكون تركه عليه السلام أن يصلي على ماعز حجة في المنع من أن يصلي على المرجوم الإمام ؟ وكلاهما ترك وترك إن هذا لعجب. فكيف وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على من رجم.
كما روينا من طريق أحمد بن شعيب : أنا إسماعيل بن مسعود، نا خالد – هو ابن الحارث – نا هشام هو الدستوائي – عن يحيى هو ابن أبي كثير – عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن الحصين : أن امرأة من جهينة أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إني زنيت – وهي حبلى – فدفعها إلى وليها، وقال له : " أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها "، فأمر بها فشكت عليها ثيابها، قم رجمها، ثم صلى عليها، فقال له عمر : تصلي عليها وقد زنت ؟ قال : " لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها " ٣. فقد صلى عليه السلام على من رجم.
فإن قيل : ثابت. قلنا : و ماعز تاب أيضا ولا فرق. والعجب كله من منعهم الإمام من الصلاة على من أمر برجمه، ولا يمنعون المتولين للرجم من الصلاة عليه. فأين القياس لو دروا ما القياس ؟ وروينا عن علي بن أبي طالب : أنه إذ رجم شراحة الهمدانية قال لأوليائها : اصنعوا بها، كما تصنعون بموتاكم٤.
وصح عن عطاء أنه يصلى على ولد الزنى، وعلى أمه، وعلى المتلاعنين، وعلى الذي يقاد منه، وعلى المرجوم، والذي يفر من الزحف فيقتل. قال عطاء : لا أدع الصلاة على من قال لا إله إلا الله. قال تعالى :﴿ من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾[ التوبة : ١١٣ ] قال عطاء : فمن يعلم أن هؤلاء من أصحاب الجحيم ؟ قال ابن جريج : فسألت عمرو بن دينار فقال : مثل قول عطاء٥.
وصح عن إبراهيم النخعي أنه قال : لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد من أهل القبلة، والذي قتل نفسه يصلى عليه٦. وأنه قال : السنة أن يصلى على المرجوم٧. فلم يخص إماما من غيره.
وصح عن قتادة : صل على من قال : لا إله إلا الله، فإن كان رجل سوء جدا فقل : اللهم اغفر للمسلمين، والمسلمات، والمؤمنين، والمؤمنات، ما أعلم أحدا من أهل العلم اجتنب الصلاة على من قال : لا إله إلا الله٨.
وصح عن ابن سيرين : ما أدركت أحدا يتأثم من الصلاة على أحد من أهل القبلة٩.
وصح عن الحسن أنه قال : يصلي على من قال لا إله إلا الله وصلى إلى القبلة، إنما هي شفاعة١٠.
ومن طريق وكيع، عن أبي هلال، عن أبي غالب، قلت لأبي أمامة الباهلي : الرجل يشرب الخمر، أيصلي عليه ؟ قال : نعم، لعله اضطجع مرة على فراشه فقال : لا إله إلا الله، فغفر له١١.
وعن ابن مسعود : أنه سئل عن رجل قتل نفسه : أيصلى عليه ؟ فقال : لو كان يعقل ما قتل نفسه.
وصح عن الشعبي : أنه قال في رجل قتل نفسه : ما مات فيكم مذ كذا وكذا أحوج إلى استغفاركم منه ؟ ١٢ )١٣.
المسألة الثانية :
[ ٦٣ ] هل للأب الكافر ولاية على ابنته المؤمنة ؟
قال ابن حزم :
( ولا يكون الكافر وليا للمسلمة، ولا المسلم وليا للكافرة، الأب وغيره سواء، والكافر ولي للكافرة التي هي وليته ينكحها من المسلم والكافر.
برهان ذلك : قول الله عز وجل :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾.
وقال تعالى :﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ﴾[ الأنفال : ٧٣ ].
وهو قول من حفظنا قوله، إلا ابن وهب صاحب مالك قال : إن المسلم يكون وليا لابنته الكافرة في إنكاحها من المسلم أو من الكافر، وهذا خطأ لما ذكرنا. وبالله تعالى التوفيق )١٤.
المسألة الثالثة :
[ ٦٤ ] هل الكفاءة شرط في صحة النكاح ؟
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى :
( وأهل الإسلام كلهم إخوة لا يحرم على ابن من زنجية لغية نكاح ابنة الخليفة الهاشمي. والفاسق الذي بلغ الغاية من الفسق – المسلم – ما لم يكن زانيا كفؤ للمسلمة الفاضلة. وكذلك الفاضل المسلم كفؤ للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية. والذي نختاره فنكاح الأقارب بعضهم لبعض. وقد اختلف الناس في هذا...
والحجة قول الله تعالى :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾[ الحجرات : ١٠ ].
وقوله تعالى مخاطبا لجميع المسلمين :﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ﴾[ النساء : ٣ ].
وذكر عز وجل ما حرم علينا من النساء. ثم قال تعالى :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾[ النساء : ٢٤ ]...
وأما قولنا في الفاسق، والفاسقة، فيلزم من خالفنا أن لا يجيز للفاسق أن ينكح إلا فاسقة، وأن لا يجيز للفاسقة أن ينكحها إلا فاسق، وهذا لا يقوله أحد.
وقد قال الله تعالى :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾[ الحجرات : ١٠ ].
وقال تعالى :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾[ التوبة : ٧١ ] وبالله تعالى التوفيق١٥.
المسألة الرابعة :
[ ٦٥ ] حكم من لحق بدار الحرب مشاقا للمسلمين.
يقول ابن حزم رحمه الله تعالى :
( من صار مختارا إلى أرض الحرب، مشاقا للمسلمين أمرتد هو بذلك أم لا ؟ ومن اعتضد بأهل الحرب على أهل الإٍسلام – وإن لم يفارق دار الإسلام – أمرتد هو بذلك أم لا ؟
قال أبو محمد : أن عبد الله بن ربيع، أنا محمد بن معاوية، أنا أحمد بن شعيب، أنا محمد بن قدامة، عن جرير عن مغيرة، عن الشعبي قال : كان جرير يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة، وإن مات، مات كافرا " فأبق غلام لجرير، فأخذه فضرب عنقه١٦.
وبه إلى أحمد بن شعيب، أنا قتيبة، أنا حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن الشعبي، عن جرير بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أبق العبد إلى الشرك فقد حل دمه " ١٧.
ومن طريق مسلم أنا علي بن حجر السعدي أنا إسماعيل – يعني ابن علية – عن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي عن جرير أنه سمعه يقول : أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم ؟ قال منصور : قد والله روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أكره أن يروى عني هاهنا بالبصرة١٨.
حدثنا عبد الله بن ربيع، أنا محمد بن إسحاق، أنا ابن الأعرابي، أنا أبو داود، أنا هناد بن السري، أنا أبو معاوية – هو ابن أبي خازم الضرير – عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا : يا رسول الله لا تتراءى نارهما١٩.
قال أبو محمد رحمه الله : حديث الشعبي عن جرير الذي قدمنا هو من طريق منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي موقوف على جرير، فلا وجه للاشتغال به. وهو من طريق مغيرة عن الشعبي مسند، إلا أن فيه : إن العبد بإقامته يكون كافرا، فظاهره في المملوك، لأن الحر لا يوصف بإباق – في المعهود – لكن رواية أبي إسحاق عن الشعبي في هذا الخبر بيان أنه في الحر والمملوك، وبيان الإباق الذي يكفر به، وهو إباقة إلى أرض الشرك، والبعد واقع على كل أحد، لأن كل أحد عبد الله تعالى : كما روينا من طريق مسلم، أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أن سفيان بن عيينة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبد ونصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين، قال الله : حمدني عبدي " ٢٠.
فقوله تعالى : " إذا قال العبد " عنى به الحر والمملوك – بلا شك-.
والإبلاق مطلق على الحر أيضا. قال الله تعالى :﴿ إذ أبق الفلك المشحون ﴾[ الصافات : ١٤٠ ].
فأخبر تعالى عن رسوله الحر يونس بن متى صلى الله عليه وسلم أنه أبق إذ خرج مغاضبا لأمر ربه تعالى. وقد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب، فقد أبق عن الله تعالى، وعن إمام المسلمين وجماعتهم، ويبين هذا حديثه صلى الله عليه وسلم أنه بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر، قال الله تعالى :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾[ التوبة : ٧١ ].
قال أبو محمد رحمه الله : فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارا محاربا لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها : من وجوب القتل عليه، متى قدر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه، وغير ذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم٢١.
١ سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى..
٢ سيأتي بمشيئة الله تعالى تحقيق هذا في قسم الدراسة للمسألة..
٣ رجال الإسناد :
إسماعيل بن مسعود الجحدري، بصري، يكنى أبا مسعود، ثقة، من العاشرة، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين. (التقريب) [٤٨٦].
خالد بن الحارث بن عبيد بن سليم الهجيمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، يقال له: خالد الصدوق، من الثامنة مات سنة ست وثمانين ومائة، ومولده سنة عشرين. (التقريب) [١٦٢٩].
هشام بن أبي عبد الله سنبر، بمهملة ثم نون ثم موحدة، وزن جعفر، أبو بكر البصري، الدستوائي فتح الدال وسكون السين المهملتين وفتح الشاة ثم مد، ثقة ثبت، وقد رمي بالقدر، من كبار السابعة مات سنة أربع وخمسين ومائة، وله ثمان وسبعون سنة (التقريب) [٧٣٤٩].
أبو المهلب الجرمي، البصري، عم أبي قلابة، اسمه عمرو، أو عبد الرحمن بن معاوية، أو ابن عمرو، وقيل: النضر، وقيل: معاوية، ثقة من الثانية. (التقريب) [٨٤٦٤].
تخريجه: أخرجه مسلم (١٦٩٦) في كتاب الحدود: باب من اعترف على نفسه بالزنى، والترمذي (١٤٣٥) في كتاب الحدود: باب تربص الرجم الحلى حتى تضع، والنسائي (١٩٥٩) في الجنائز: باب الصلاة على المرجوم..

٤ أخرجه عبد الرزاق (٧/٣٢٧-٣٢٨)، والبيهقي في سننه (٨/٢٢٠)..
٥ أخرجه عبد الرزاق (٣/٥٣٤)..
٦ أخرجه عبد الرزاق (٣/٥٣٥) وانظر: مصنف ابن أبي شيبة (٣/٣٤)..
٧ أخرجه عبد الرزاق (٣/٥٣٦) ونحو عند ابن أبي شيبة (٣/٣٥)..
٨ أخرجه عبد الرزاق (٣/٥٣٦)..
٩ أخرجه عبد الرزاق (٣/٥٣٦) وابن أبي شيبة (٣/٣٤)..
١٠ أخرج نحوه ابن أبي شيبة (٣/٣٥)..
١١ رجال الإسناد:
أبو هلال: محمد بن سليم الراسي يمهملة ثم موحدة، البصري، قيل: كان مكفوفا، وهو صدوق فيه لين، من السادسة، مات في آخر سنة سبع وستين، وقيل: قبل ذلك. (التقريب) [٥٩٦٠].
أبو غالب صاحب أبي أمامة، بصري نزل أصبهان، قيل: اسمه حزور، وقيل: سعيد بن الحزور، وقيل: نافع، صدوق يخطئ، من الخامسة. (التقريب) [٨٣٦٢].
أخرجه ابن أبي شيبة (٣/٣٤)..

١٢ لم أجد هذين الأثرين..
١٣ (المحلى) (٣/٣٩٩-٤٠١)..
١٤ (المحلى) (٩/٦٠-٦١)، وانظر: المحلى (٩/٤٥)..
١٥ (المحلى) (٩/١٥١-١٥٢)..
١٦ رجال الإسناد:
محمد بن قدامة بن أعين الهاشمي مولاهم، المصيصي، ثقة، من العاشرة، مات سنة خمسين ومائتين تقريبا. (التقريب) (٦٢٧٣).
المغيرة بن مقسم، بكسر الميم، الضبي مولاهم، أبو هشام الكوفي الأعمى، ثقة متقن إلا أنه كان يدلس ولا سيما عن إبراهيم، من السادسة مات سنة ست وثلاثين ومائة على الصحيح. (التقريب) [٦٨٩٩]
الشعبي: عامر بن شراحيل الشعبي، بفتح المعجمة، أبو عمرو، ثقة مشهور فقيه فاضل، من الثالثة قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين. (التقريب) [٣١٠٩].
تخريجه: هو عند النسائي في سننه (٤٠٥٥) في كتاب تحريم الدم: باب العبد يأبق إلى أرض الشرك، والحديث أخرجه مسلم في صحيحه (٧٠) في كتاب الإيمان: باب تسمية العبد الأبق كافرا، لكنه لم يرو الشق الأخير منه (وإن مات مات...) إلخ..

١٧ رجال الإسناد:
حميد بن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، بضم الراء بعدها همزة خفيفة، أبو عوف الكوفي، ثقة من الثامنة، مات سنة تسع وثمانين ومائة، وقيل تسعين وقيل بعدها. (التقريب) [١٥٦٠١]
عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، الكوفي، ثقة، من السابعة. (التقريب) [٣٨٧٢]
تخريجه: (أخرجه النسائي (٤٠٥٧) في كتاب تحريم الدم: باب العبد بأبق إلى أرض الشرك، وأبو داود (٤٣٦٠) في كتاب الحدود: باب الحكم فيمن ارتد، والبيهقي (٨/٢٠٤).
جميعهم من طريق:
حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن الشعبي، عن جرير، قال: فذكره.
وهذا إسناد صحيح.
حميد هو الرؤاسي ثقة، وأبوه ثقة كذلك، وأبو إسحاق هو السبيعي معروف بالرواية، وكذلك الشعبي.
وقد رواه إسرائيل عن جده أبي إسحاق كذلك، كما عند النسائي (٤٠٥٨).
لكن رواه مرة إسرائيل عن جده موقوفا على جير. ولا يضره ذلك. فمن رفعه ثقة، فيقبل رفعه..

١٨ رجال الإسناد:
علي بن حجر، بضم المهملة وسكون الجيم، ابن إياس السعدي، المروزي، نزيل بغداد ثم مرو، ثقة حافظ، من صغار التاسعة، مات سنة أربع وأربعين، وقد قارب المائة أو جاوزها (التقريب) [٤٧٣٤].
منصور بن عبد الرحمن الغداني، بضم المعجمة، البصري، الأشل، صدوق يهم، من السادسة. (التقريب) [٦٩٥٣].
تخريجه: أخرجه مسلم (٦٨) في كتاب الإيمان: باب تسمية العبد الآبق كافرا..

١٩ رجال الإسناد: ؛
هناد بن السرى، بكسر الراء الخفيفة، ابن مصعب التميمي، أبو السري، الكوفي، ثقة، من العاشرة مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وله إحدى وتسعون سنة. (التقريب) [٧٣٧٠].
محمد بن خازم، بمعجمتين، أبو معاوية الضرير الكوفي، لقبه فافاه، عمي وهو صغير، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره، من كبار التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومائة، وله اثنتان وثمانون سنة وقد رمي بالإرجاء. (التقريب) [٥٨٧٨].
إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي مولاهم، البجلي، ثقة ثبت، من الرابعة، مات سنة ست وأربعين ومائة. (التقريب) [٤٤٢].
قيس بن أبي حازم البجلي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة، من الثانية، مخضرم، ويقال: له رؤية، وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة، مات بعد التسعين، أو قبلها، وقد جاوز المائة وتغير. (التقريب) [٥٦٠١].
تخريجه:
أخرجه أبو داود (٢٦٤٥) في كتاب الجهاد: باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، والترمذي (١٦٠٤) في السير: باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين.
من طريق: أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية.
وهذا إسناد صحيح. قاله الحافظ في البلوغ (٢/١٥٥) لكن رجح البخاري إرساله كما حكاه عنه الترمذي. قال الترمذي: (وأكثر أصحاب إسماعيل قالوا: عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية، ولم يذكروا فيه عن جرير. ثم قال: وسمعت محمدا يقول: الصحيح حديث قيس مرسلا.
وله شاهد، وهو (من ساكن المشرك فهو مثله) وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى..

٢٠ سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى، وأما رجال الإسناد:
العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف، أبو شبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة، المدني صدوق ربما وهم، من الخامسة، مات سنة بضع وثلاثين. (التقريب) [٢١٨٢].
عبد الرحمن بن يعقوب الجهني، المدني، مولى الحرقة، بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف، ثقة من الثالثة. (التقريب) [٤٠٧٣]،..

٢١ (المحلى) (١٢/١٢٣-١٢٥]..
قال الله تعالى :
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾[ التوبة : ٧٤ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٦٦ ] هل من القول ما يكون كفرا.
يقول الإمام ابن حزم في رده على المرجئة :
( وأما قولهم : إن شتم الله تعالى ليس كفرا، وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهو دعوى ؛ لأن الله تعالى قال :﴿ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ﴾[ التوبة : ٧٤ ].
فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر.
وقال تعالى :﴿ إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ﴾[ النساء : ١٤٠ ].
فنص تعالى : أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع.
وقال تعالى :﴿ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ﴾[ التوبة : ٦٥-٦٦ ].
فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك : إني علمت أن في قلوبكم كفرا، بل جعلهم كفارا بنفس الاستهزاء، ومن ادعى غير هذا، فقد قول الله تعالى ما لم يقل، وكذب على الله تعالى.
وقال عز وجل :﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ﴾[ التوبة : ٣٧ ].
قال أبو محمد : وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون البتة إلا منه لا من غيره، فصح أن النسيء كفر، وهو عمل من الأعمال، وهو تحليل ما حرم الله تعالى.
فمن أحل ما حرم الله تعالى، وهو عالم بأن الله تعالى حرمه، فهو كافر بذلك الفعل نفسه.
وكل من حرم ما أحل الله تعالى، فقد أحل ما حرم الله عز وجل ؛ لأن الله تعالى حرم على الناس أن يحرموا ما أحل الله.
وأما خلال١ الإجماع، فإن جميع أهل الإسلام لا يختلفون فيمن أعلن جحد الله تعالى، أو جحد رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه محكوم له بحكم الكفر قطعا، إما القتل، وإما أخذ الجزية وسائر أحكام الكفر. وما شك قط أحد في : هل هم في باطن أمرهم مؤمنون أم لا ؟.
ولا فكروا في هذا : لا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه، ولا أحد ممن بعدهم )٢.
١ هكذا في المطبوع، ولعلها وأما خلاف الإجماع..
٢ (الفصل) (٣/٢٤٤-٢٤٥). وانظر: (الفصل) (٣/٢٣٥)، (المحلى) (١٢/٤٣٥)، (الدرة) ص ٣٣٩..
قال الله تعالى :
﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكون من الصالحين ﴾[ التوبة : ٧٥ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٦٧ ] من نذر نذر طاعة ولم يعينه، فهل يلزمه الوفاء به ؟
قال ابن حزم رحمه الله تعالى :
( من قال : لله تعالى علي عتق رقبة، أو قال : بدنة، أو قال : مائة درهم، أو شيء من البر، هكذا لم يعينه : فإن هذا كله نذر لازم ؛ لأنه لم ينذر شيئا من ذلك في شيء لا يملكه ؛ لأن الذي نذر ليس معينا فيكون مشارا إليه مخبرا عنه، فإنما نذر عتقا في ذمته، أو صدقة في ذمته. برهان هذا :
قوله الله تعالى :﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ﴾[ التوبة : ٧٥ ].
ثم لامهم عز وجل إذ لم يفوا بذلك إذا آتاهم من فضله، فخرج هذا على ما التزم في الذمة جملة، وخرج نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر فيما لا يملك على ما نذر في معين لا يملكه. ويدخل في القسم اللازم من نذر عتق أول عبد يملكه، أو أول ولد تلده أمته، وفي هذا نظر.
ومن طريق مسلم : نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه : أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وحمل على مائة بعير، ثم أعتق في الإسلام مائة رقبة، وحمل على مائة بعير قال حكيم : فقلت : يا رسول الله : أشياء كنت أفعلها في الجاهلية ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسلمت على ما أسلفت لك من الخير " قال حكيم : قلت : فوالله لا أدع شيئا صنعته في الجاهلية، إلا فعلت في الإسلام مثله١.
فهذا نذر من حكيم في عتق مائة رقبة، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره كما أنكر نذر الأنصارية نحر الناقة التي لم تملكها٢، فصح أن ذلك النهي٣ إنما هو في المعين، وأن الجائز هو غير المعين، وإن لم يكن في ملكه حينئذ ؛ لأنه في ذمته )٤.
١ رجال الإسناد:
عبد الله بن نمير، بنون، مصغر، الهمداني، أبو هشام الكوفي، ثقة، صاحب حديث من أهل السنة، من كبار التاسعة، مات سنة تسع وتسعين ومائة، وله أربع وثمانون [٣٦٩٢].
وقد سبق تخريج الحديث في مسألة (الكافر إذا عمل عملا صالحا في كفره..

٢ قد سبق، وهو حديث عمران والذي فيه: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك)..
٣ أي النهي الوارد عن أن يفي الإنسان بما لا يملك وهو الحديث الذي فيه أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصاري التي نذرت نحر الناقة..
٤ (المحلى) (٦/٢٧١-٢٧٢)...
قال الله تعالى :
﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[ التوبة : ٧٩ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٦٨ ] من تصدق بصدقة، ولم يبق لنفسه وعياله شيئا، فهل تنفذ صدقته ؟
يرى ابن حزم رحمه الله تعالى أنه :
( ولا تنفذ هبة ولا صدقة لأحد إلا فيما أبقى له ولعياله غنى، فإن أعطى ما لا يبقى لنفسه وعياله بعده غنى فسخ كله. برهان ذلك :
ما رويناه من طريق مسلم، نا قتيبة بن سعيد، نا أبو عوانة، عن أبي مالك الأشجعي١، عن حذيفة قال : قال نبيكم صلى الله عليه وسلم : " كل معروف صدقة " ٢.
ومن طريق أحمد بن شعيب، أنا عمرو بن سواد، عن أبن وهب، أنا يونس، عن ابن شهاب، نا سعيد بن المسيب، أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول " ٣...
فإذا، كل معروف صدقة، وأفضل الصدقة وخيرها : ما كان عن ظهر غنى، فبلا شك وبالضرورة : أن ما زاد في الصدقة ونقص من الخير والأفضل، فلا أجر فيه، ولا خير فيه، ولا فضل فيه، وأنه باطل. وإذا كان باطلا، فهو أكل مال بالباطل. فهذا محرم بنص القرآن.
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن عجلان، حدثني سعيد المقبري، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تصدقوا " فقال رجل : يا رسول الله عندي دينار ؟ قال : " صدق به على نفسك ". قال : عندي آخر ؟ قال : " تصدق به على زوجتك ". قال : عندي آخر ؟ قال : " تصدق به على ولدك ". قال : عندي آخر ؟ قال : " تصدق به على خادمك ". قال : عندي آخر ؟ قال : " أنت أبصر به " ٤.
ومن طريق مسلم : نا قتيبة بن سعيد، نا الليث هو ابن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر قال : أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألك مال غيره " ؟ قال : لا، قال : " من يشتريه مني " ؟ فاشتراه نعيم ابن عبد الله بن النحام بثمانمائة درهم، فدفعها إليه، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ابدأ بنفسك، فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء، فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا " ٥.
ومن طريق مسلم : نا أبو الطاهر هو أحمد بن عمرو بن السرح، أخبرني ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عبد الرحمن بن كعب بن مالك، سمعت أبي يقول : فذكر الحديث في تخلفه عن تبوك، قال : قلت : يا رسول الله : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ". فقلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر٦.
حدثنا حمام، نا عباس بن أصبغ، نا محمد بن عبد الملك بن أيمن، نا بكر ابن حماد، نا مسدد، نا حماد هو ابن زيد، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن جابر بن عبد الله : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال : يا رسول الله هذه صدقة ما تركت لي مالا غيرها، فحذفه بها النبي صلى الله عليه وسلم فلو أصابه لأوجعه، ثم قال :( ينطلق أحدكم فينخلع من ماله ثم يصير عيالا على الناس )٧.
وحدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن إسحاق، نا ابن الأعرابي، نا إسحاق ابن إسماعيل، نا سفيان، عن ابن عجلان، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : دخل رجل المسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يطرحوا ثيابا، فطرحوا، فأمر له بثوبين، ثم حث عليه السلام على الصدقة، فجاء فطرح أحد الثوبين، فصاح به رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذ ثوبك " ٨.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رد العتق، والتدبير، والصدقة بمثل البيضة من الذهب، وصدقة كعب بن مالك بماله كله، ولم يجز من ذلك شيئا.
ويبين ذلك أيضا : قوله عليه الصلاة والسلام : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ٩.
ومن طريق النظر : أن كل عقد جمع حراما وحلالا فهو عقد مفسوخ كله ؛ لأنه لم ينعقد كما أمر الله تعالى، ولا تميز حلاله من حرامه، فهو عقد لم يكن قط صحيحا عمله. وهذه آثار متواترة متظاهرة في غاية الصحة والبيان لا يحل لأحد خلافها من طريق أبي هريرة، وجابر، وحكيم بن حزام، وكعب بن مالك، وأبي سعيد. وروينا أيضا معناها عن طارق المحاربي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا١٠.
ومن البرهان على صحة ذلك : من القرآن قول الله تعالى :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ﴾[ الإسراء : ٢٩ ].
وقوله تعالى :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ﴾[ الأنعام : ١٤١ ].
وقوله تعالى :﴿ وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ﴾[ الإسراء : ٢٦-٢٧ ].
قال علي : والغني هو ما يقوم بقوت المرء وأهله على الشبع من قوت مثله، وبكسوتهم كذلك وسكناهم، وبمثل حال من مركب وزي فقط. وبالله تعالى التوفيق. فهذا يقع عليه في اللغة اسم غنى، لاستغنائه عن الناس، فما زاد فهو وقر ودثر ويسار، وفضل إلى الإكثار، وما نقص فليس غنى، ولكنه حاجة وعسرة وضيقة، إلا أن ينزل إلى المسكنة، والفاقة، والفقر، والإدقاع، والضرورة. ونعوذ بالله من ذلك، ومن فتنة الغنى والمال )١١.
١ في سند مسلم ههنا : ربعي بن حراش عن حذيفة..
٢ رجال الإسناد:
قتيبة بن سعيد بن جميل، بفتح الجيم، ابن طريف الثقفي، أبو رجاء البغلاني، بفتح الموحدة، وسكون المعجمة، ثقة ثبت، من العاشرة، مات سنة أربعين، عن تسعين سنة. (التقريب) [٥٥٥٧].
أبو عوانة: وضاح، بتشديد المعجمة ثم المهملة ابن عبد الله اليشكري، بالمعجمة، الواسطي البزاز، مشهور بكنيته، ثقة ثبت، من السابعة، مات سنة خمس، أو ست وسبعين (التقريب) [٧٤٥٧].
أبو مالك الأشجعي سعد بن طارق الكوفي، ثقة من الرابعة، مات في حدود الأربعين. (التقريب) [٢٢٥٣].
ربعي بن حراش، بكسر المهملة وآخره معجمة، أبو مريم العبسي، الكوفي، ثقة عابد، مخضرم، من الثانية، مات سنة مائة وقيل غير ذلك. (التقريب) [١٨٨٩].
تخريجه:
أخرجه مسلم (١٠٠٥) في كتاب الزكاة: باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف..

٣ رجال الإسناد:
عمرو بن سواد، بتشديد الواو، ابن الأسود بن عمرو العامري، أبو محمد البصري، ثقة من الحادية عشرة، مات سنة خمس وأربعين. (التقريب) [٥٠٨١]،
يونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي، بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام، أبو يزيد، مولى آل أبي سفيان، ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلا وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة، مات سنة تسع وخمسين على الصحيح، وقيل سنة ستين. (التقريب) [٧٩٧٦].
تخريجه:
أخرجه البخاري (١٤٢٦)، في (كتاب الزكاة): باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، والنسائي (٢٥٤٥) في (كتاب الزكاة): باب أي الصدقة أفضل. وأحمد (٢/٤٧٦).
وأما حديث كليم بن حزام:
فقد أخرجه البخاري (١٤٢٧) في (كتاب الزكاة): باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومسلم (١٠٣٤)، (كتاب الزكاة): باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى..

٤ رجال الإٍسناد:
محمد بن عجلان المدني، صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أيي هريرة، من الخامسة، مات سنة ثمان وأربعين. (التقريب) [٦١٧٦].
تخريجه:
أخرجه أحمد (٢/٢٥١)، والنسائي (٢٥٣٦) في (كتاب الزكاة): باب الصدقة عن ظهر غنى – تفسير ذلك، وأبو داود (١٦٩١) في (كتاب الزكاة): باب في صلة الرحم (والحميدي (٢/٤٩٥) وابن حبان (٨/١٢٦-١٢٧)، والحاكم (١/٤١٥)، والبيهقي (٧/٤٦٦)، والبغوي (٦/١٩٥). جميعهم من طريق:
محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة به.
وإسناده حسن – إن شاء الله تعالى – من أجل محمد بن عجلان فإنه صدوق، وقد صححه الحاكم..

٥ رجال الإسناد :
أبو الزبير: محمد بن مسلم بن تدرس، بفتح المثناة وسكون الدال المهملة وضم الراس الأسدي مولاهم، صدوق إلا أنه يدلس، من الرابعة، مات سنة ست وعشرين ومائة. (التقريب) [٦٣٣١].
تخريجه: أخرجه مسلم (٩٩٧) في كتاب الزكاة: باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة، وأبو داود (٣٩٥٧) في (كتاب العتق: باب بيع المدير، والنسائي (٢٥٤٧) في (كتاب الزكاة: باب أي الصدقة أفضل). وأصله عند البخاري (٢١٤١) في (كتاب البيع: باب المزايدة، وابن ماجة (٢٥١٣) في (كتاب العتق: باب المدبر..

٦ رجال الإسناد:
عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري، أبو الخطاب المدني، ثقة، من كبار التابعين، ويقال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومات في خلافة سليمان. (التقريب) [٤٠١٧).
تخريجه: أخرجه البخاري (٤٤١٨) في كتاب المغازي: باب حديث كعب بن مالك، و(مسلم) (٢٧٦٩): كتاب التوبة: باب حديث كعب بن مالك وصاحبيه)..

٧ رجال الإسناد :
حماد هو ابن زيد بن درهم الأزدي، الجهضمي، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت فقيه، قيل: إنه كان ضريرا، ولعله طرأ عليه، لأنه صح أنه كان يكتب، من كبار الثامنة، مات سنة تسع وسبعين ومائة، وله إحدى وثمانون سنة. (التقريب) [١٥٠٦].
عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأوسي، الأنصاري الظفري، أبو عمر المدني، ثقة، عالم بالمغازي، من الرابعة، مات بعد العشرين ومائة. (التقريب) [٣٠٨٨].
محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأوسي، الأشهلي، أبو نعيم المدني، صحابي صغير، وجل روايته عن الصحابة، مات سنة ست وتسعين، وقيل: سنة سبع، وله تسع وتسعون سنة. (التقريب) [٦٥٦٠].
تخريجه: أخرجه أبو داود (١٦٧٣، ١٦٧٤)، في (كتاب الزكاة): باب الرجل يخرج من ماله، والدارمي (١/٤٧٩)، والحاكم (١/٤١٣)، والبيهقي (٤/١٨١)، وأبو يعلى (٤/٦٥-٦٦)، وابن حبان (٨/١٦٥-١٦٦) من طريق:
محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن جابر به.
وهذا إسناد رجال ثقات، لكن محمد مدلس، وقد عنعن..

٨ رجال الإسناد:
عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح بفتح المهملة وسكون الراء بعدها مهملة، القرشي، العامري، المكي، ثقة من الثالثة، مات على رأس المائة. (التقريب) [٥٣١٢].
تخريجه: أخرجه الحاكم (١/٤١٣)، وأبو يعلى (٢/٢٧٩-٢٨٠)، وابن حبان (٦/٢٥٠-٢٥١) والنسائي (٢٥٣٧) في كتاب الزكاة: باب إذا تصدق وهو محتاج إليه هل يرد عليه. وأحمد (٣/٢٥)، والحميدي (٢/٣٢٦-٣٢٧)، وأبو داود (١٦٧٥) في كتاب الزكاة: باب الرجل يخرج من ماله، والترمذي (٥١١) في كتاب الجمعة: باب ما جاء في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام يخطب، وابن خزيمة (٣/١٥٠). من طريق:
محمد بن عجلان، ثنا عياض بن عبد الله بن سعد، أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: (فذكره).
وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن عجلان فهو صدوق. وقد صححه ابن خزيمة والحاكم وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. لكن مسلما لم يخرج لمحمد بن عجلان في الأصول..

٩ أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه (١٧١٨) في كتاب الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، من حديث عائشة، وأخرجه البخاري (٢٦٩٧) في كتاب الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ومسلم (١٧١٨) بلفظ (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)..
١٠ أخرجه النسائي (٢٥٣٣) في كتاب الزكاة باب أيتهما اليد العليا، وابن حبان (٨/١٣٠-١٣١)، والدارقطني (٣/٤٤-٤٥) من طريق يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن جامع بن شداد، عن طارق المحاربي. وهذا إسناد حسن من أجل يزيد، قال الحافظ في (التقريب) [٧٧٦٥]: صدوق. ويشهد له الأحاديث الكثيرة التي ذكرها ابن حزم..
١١ (المحلى) (٨/٨٦)، وانظر : (المحلى) (٧/١٥٤-١٥٥)..
قال الله تعالى :
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾[ التوبة : ٨١ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٦٩ ] هل الأحكام الشرعية مبنية على علل ؟
قال ابن حزم رحمه الله تعالى :
( وقال أبو سليمان وجميع أصحابه رضي الله عنهم : لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه، فإذا نص الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم على أن أمرا كذا لسبب كذا، أو من أجل كذا، ولأن كان كذا أو لكذا، فإن ذلك كله ندري أنه جعله الله أسبابا لتلك الأشياء في تلك المواضع التي جاء النص بها فيها ولا توجب تلك الأسباب من تلك الأحكام في غير تلك المواضع البتة.
قال أبو محمد : وهذا هو ديننا الذي ندين به، وندعو عباد الله تعالى إليه، ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى )١.
وقد ذكر رحمه الله أدلة من ذهب إلى القول بالعلل ومنها الآية المذكورة آنفا، فقال :
( واحتج بعضهم بقول الله عز وجل حكاية عن المنافقين أنهم قالوا ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾.
قال أبو محمد :
وهذه الآية كافية في إبطال العلل لأن الله تعالى أخبر أن جهنم ذات حر، وأن الدنيا ذات حر، ثم فرق تعالى بين حكميهما، وأمرهم بالصبر على حر الدنيا، وأنكر عليهم الفرار عنها، وأمرهم بالفرار عن حر جهنم، وألا يصبروا عليها أصلا، نعوذ بالله منها )٢.
ومن أدلته أيضا :
قال الله تعالى :﴿ وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرين ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ﴾[ المدثر : ٣١ ].
فأخبر تعالى أن البحث عن علة مراده تعالى ضلالا ؛ لأنه لا بد من هذا، أو من أن تكون الآية نهيا عن البحث عن المعنى المراد، وهذا خطأ لا يقوله مسلم، بل البحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى فرض على كل طالب علم، وعلى كل مسلم فيما يخصه ؛ فصح القول الثاني ضرورة لا بد.
وقال الله تعالى :﴿ فعال لما يريد ﴾[ هود : ١٠٧ ].
وقال الله تعالى :﴿ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ﴾[ الأنبياء : ٢٣ ].
قال أبو محمد :
وهذه كافية في النهي عن التعليل جملة، فالمعلل بعد هذا عاص لله عز وجل، وبالله نعوذ من الخذلان.
وقال تعالى :﴿ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾[ الأعراف : ١٩-٢٣ ].
قال أبو محمد :
وقال الله تعالى حاكيا عن إبليس إذ عصى وأبى عن السجود أنه قال :
﴿ قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾[ الأعراف : ١٢ ].
فصح أن خطأ آدم عليه السلام إنما كان من وجهين :
أحدهما : تركه حمل نهي ربه تعالى عن الوجوب.
والثاني : قبوله قول إبليس أن نهي الله عن الشجرة إنما هو لعلة كذا.
فصح يقينا بهذا النص البين أن تعليل أوامر الله تعالى معصية، وأن أول ما عصي الله به في عالمنا هذا القياس، وهو قياس إبليس على أن السجود لآدم ساقط عنه ؛ لأنه خير منه، إذ إبليس من نار، وآدم من طين، ثم بالتعليل للأوامر كما ذكرنا، وصح أن أول من قاس في الدين، وعلل في الشرائع إبليس ؛ فصح أن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس، وأنه مخالف لدين الله تعالى، نعم ولرضاه.
ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين، ومن إثبات علة لشيء من الشريعة. وبالله تعالى التوفيق )٣.
١ (الإحكام في أصول الأحكام) (م٢/٥٤٦)..
٢ المصدر السابق (م٢/٥٥١-٥٥٢)..
٣ (الإحكام في أصول الأحكام) (م٢/٥٧٣-٥٧٥)..
قال الله تعالى :﴿ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[ التوبة : ٩٠ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٧٠ ] هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المنافقين ؟
يرى ابن حزم رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم المنافقين ويستدل بقوله تعالى :﴿ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[ التوبة : ٩٠ ]. ويقول :
( وهذه الآية تبين ما قلناه نصا، لأنه تعالى أخبر أن بعضهم كفار، إلا أن كلهم عصاة، فأما المبطنون للكفر منهم فلم يعلمهم النبي – عليه السلام – ولا علمهم أحد منهم إلا الله تعالى فقط.
وقال تعالى :﴿ إنما السبيل على الذين يستأذنونك ﴾[ التوبة : ٩٣ ] إلى قوله :﴿ عن القوم الفاسقين ﴾[ التوبة : ٩٦ ].
قال أبو محمد رحمه الله : وهي كالتي قبلها، وقد قلنا : إن فيهم من كفر، فأولئك الذين طبع الله على قلوبهم، ولكن الله تعالى أرجأ أمرهم بقوله تعالى :﴿ وسيرى الله عملكم ورسوله ﴾[ التوبة : ٩٤ ] فصح ما قلناه واتفقت الآيات كلها، والحمد لله رب العالمين.
وكذلك أخبر تعالى أن ﴿ مأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ﴾[ التوبة : ٩٥ ] وجهنم تكون جزاء على الكفر وتكون جزاء على المعصية، وكذلك لا يرضى تعالى عن القوم الفاسقين، وإن لم يكونوا كافرين.
وقال تعالى :﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا ﴾[ التوبة : ٩٧ ] إلى قوله تعالى :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾[ التوبة : ٩٩ ].
قال أبو محمد : وهذه الآيات كلها تبين نص ما قلناه من أن فيهم كفارا في الباطن. قال أبو محمد رحمه الله : لا يعلم سرهم إلا الله تعالى، وأما رسوله – عليه السلام – فلا.
وقال تعالى :﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون ﴾ إلى قوله ﴿ سميع عليم ﴾التوبة [ ١٠١-١٠٣ ].
قال أبو محمد : هذه الآية مبينة نص ما قلناه بيانا لا يحل لأحد أن يخالفه من أن النبي – عليه السلام – لا يعلم المنافقين لا من الأعراب، ولا من أهل المدينة ولكن الله تعالى يعلمهم، وأن منهم من يتوب، فيعفو الله تعالى عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بأخذ زكوات جميعهم على ظاهر الإسلام١.
ومن أدلته ما ذكره رحمه الله عند الجواب على ما استدل به من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم علم المنافقين بقوله تعالى :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ﴾[ التوبة : ٨٤ ].
وبعد أن ساق الروايات التي جاءت في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلول٢، قال :
( قال أبو محمد رحمه الله : فهذا كله يوجب صحة ما قلناه لوجوه :
أحدها : ظاهر الآية كما قلنا من أنهم كفروا قبل، وماتوا على الفسق.
والثاني : أن الله تعالى قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن الاستغفار جملة للمشركين بقوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ أصحاب الجحيم ﴾[ التوبة : ١١٣ ].
فلو كان ابن أبي وغيره من المذكورين ممن تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم كفار بلا شك، لما استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا صلى عليه. ولا يحل لمسلم أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه خالف ربه في ذلك ؛ فصح يقينا أنه – عليه السلام – لم يعلم قط أن عبد الله بن أبي والمذكورين كفار في الباطن.
روينا من طريق مسلم : نا حرملة بن يحيى التجيبي، نا عبد الله بن وهب، نا يونس، عن ابن شهاب، أخبرني سعيد بن المسيب بن حور، عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عم قل : لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله ". فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدان عليه تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم به : على ملة عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ؛ فأنزل الله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا ﴾الآية٣.
قال أبو محمد : فصح أن النهي عن الاستغفار للمشركين نزل بمكة بلا شك ؛ فصح يقينا أنه – عليه السلام – لم يوقن أن عبد الله بن أبي مشرك، ولو أيقن أنه مشرك لما صلى عليه أصلا، ولا استغفر له، وكذلك تعديد عمر بن الخطاب مقالات عبد الله بن أبي ابن سلول، ولو كان عنده كافرا، لصرح بذلك، وقصد إليه، ولم يطول بغيره.
والثالث : شك ابن عباس وجابر وتعجب عمر من معارضة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على عبد الله بن أبي، وإقراره بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف منه.
والرابع : أن الله تعالى إنما نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم فقط، ولم ينه سائر المسلمين عن ذلك، وهذا لا ننكره، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على من عليه دين لا يترك له وفاء، ويأمر المسلمين بالصلاة عليهم.
فصح يقينا بهذا أن معنى الآيات إنما هو أنهم كفروا بذلك من قولهم، وعلم بذلك النبي عليه السلام والمسلمون، ثم تابوا في ظاهر الأمر، فمنهم من علم الله تعالى أن باطنه كظاهره في التوبة، ومنهم من علم الله تعالى أن باطنه خلاف ظاهره، ولم يعلم ذلك النبي عليه السلام ولا أحد من المسلمين، وهذا في غاية البيان. وبالله تعالى التوفيق٤.
١ (المحلى) (١٢/١٤٢-١٤٣)..
٢ أخرج هذه القصة: البخاري في صحيحه (٤٦٧١) في كتب التفسير: باب ﴿استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة﴾، ومسلم (٢٧٧٤) في أول كتاب صفة المنافقين..
٣ رجال الإسناد:
حرملة بن يحيى بن حرملة بن عمران، أبو حفص التجيبي، المصري، صاحب الشافعي، صدوق، من الحادية عشرة، مات سنة ثلاث أو أربع وأربعين، وكان مولده سنة ستين. (التقريب) [١١٨٥].
تخريجه: أخرجه البخاري (١٣٦٠) في كتاب الجنائز: باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، ومسلم (٢٤) في كتاب الإيمان: باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت..

٤ (المحلى) (١٢/١٤٠-١٤١)..
قال تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[ التوبة : ٩١ ].
وفيها اثنتان وعشرون مسألة :
المسألة الأولى : من الذي يحق له الفرار من الصف ؟
المسألة الثانية : هل يجب القضاء على من أخر الواجب الموسع ثم لم يستطع من أداءه لمانع ؟
المسألة الثالثة : ما حكم تارك الوتر ؟
المسألة الرابعة : من كبر قبل الإمام لعذر، فهل يدخل مع الإمام، ويبني على تكبيرته ؟
المسألة الخامسة : ما حكم صلاة من غسل دما وقع على ثوبه في صلاته ؟
المسألة السادسة : حكم إمامة الألكن والألثغ واللحان.
المسألة السابعة : من وقف بعرفة، حاملا لمال حرام، فما حكم حجه ؟
المسألة الثامنة : من قتل حيوانا صال عليه، فهل يضمن ؟
المسألة التاسعة : إذا هال البحر، وخافوا العطب، فألقوا الأثقل، فهل يضمنوه ؟
المسألة العاشرة : هل تضمن الوديعة ؟
المسألة الحادية عشرة : هل تضمن العارية ؟
المسألة الثانية عشرة : إذا اشترى جارية، فوجدها معيبة بعد وطئها، فهل له الرد ؟
المسألة الثالثة عشرة : من داوى أخاه، فهلك، فهل يضمنه ؟
المسألة الرابعة عشرة : من استعمل صبيا بغير إذن أهله فتلف فهل يضمن ؟
المسألة الخامسة عشرة : هل يضمن المقتص، إذا هلك المقتص منه ؟
المسألة السادسة عشرة : من ضرب ليتوب، فمات، فهل يضمن ؟
المسألة السابعة عشرة : هل يمنع الاعتكاف الأمر الواجب ؟
المسألة الثامنة عشرة : من عمل في شيء، فأتلفه، فهل يجب عليه ضمانه ؟
المسألة التاسعة عشرة : من باع مالا لغيره، فهل له شراؤه ؟
المسألة العشرون : إذا تلف صداق المرأة بعد قبضها ثم طلقها الزوج قبل الدخول، فهل تضمن النصف ؟
المسألة الحادية والعشرون : إذا طلق المولي ثم راجع، فهل يسقط حكم الإيلاء ؟
المسألة الثانية والعشرون : إذا قتل المصلى من مر بين يديه، فهل يضمنه ؟
المسألة الأولى :
[ ٧١ ] من الذي يحق له الفرار من الصف ؟
قال ابن حزم :
( وأما بعد اللقاء فلا يحل لواحد منا أن يولي دبره جميع من على وجه الأرض من المشركين، إلا متحرفا لقتال، أو متحيزا إلى فئة – على ما نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى – أو من كان مريضا، أو زمنا بقوله تعالى :
﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ﴾[ التوبة : ٩١ ].
فإن قالوا : إن الضعيف القلب معذور لأنه دخل في جملة الضعفاء. قيل لهم : هذا خطأ، لأن من رضي أن يكون مع الخوالف لضعف قلبه، ملوم بالنص غير معذور. وأيضا، فإن ضعف القلب قد نهينا عنه بقوله تعالى :﴿ ولا تهنوا ﴾[ آل عمران : ١٣٩ ] ولا يجوز أن يكون تعالى أراد وهن البدن ؛ لأنه لا يستطاع دفعه أصلا، والله تعالى لا يكلف إلا ما نطيق، وضعف القلب مقدور على دفعه.
ولو أراد الجبان أن يثبت لثبت، ولكنه آثر هواه والفرار على ما لا بد له من دراكه من الموت الذي لا يعدو وقعه، ولا يتقدم، ولا يتأخر، وهذا بين. وبالله تعالى التوفيق )١.
المسألة الثانية :
[ ٧٢ ] هل يجب القضاء على من أخر الواجب الموسع إلى آخر وقته، ثم لم يستطع أداءه لمانع ؟
يقول ابن حزم :
( وأما العمل المأمور به في وقت محدود الطرفين، قد ورد النص بالفسحة في تأخيره، فإنه يجب بأول الوقت، إلا أنه قد أذن له في تأخيره، وكان مخيرا في ذلك، وفي تعجيله، فأي ذلك أدى، فقد أدى فرضه. إلا أنه يؤجر على التعجيل لتحصيله العمل، واهتمامه به، ولا يأثم على التأخير ؛ لأنه فعل ما أبيح له، وذلك مثل : تأخير المرء الصلاة إلى آخر وقتها الواسع. ولذلك أسقطنا الملامة والقضاء عن المرأة تؤخر الصلاة عن أول وقتها، فتحيض، فعلت ما أبيح لها، ومن فعل ما أبيح له، فقد أحسن.
وقال تعالى :﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾[ التوبة : ٩١ ]، فسقطت الملامة.
وقد أخر عليه السلام الصلاة إلى آخر وقتها ؛ فصح بذلك : أن ذلك جائز مباح حسن، وإن كان التعجيل أحسن. وسقط القضاء عنها ؛ لخروج الوقت ؛ لأنه [ لا ] يؤدى عمل إلا في وقته المأمور به، كما أسقط خصومنا موافقين لنا القضاء عن المغمى عليه أكثر من خمس صلوات، وبعضهم أسقطها عن المغمى عليه صلاة فما فوقها )٢.
المسألة الثالثة :
[ ٧٣ ] ما حكم تارك الوتر ؟
قال ابن حزم :
( وقال مالك : ليس فرضا، ولكن من تركه أدب، وكانت جرحة في شهادته٣.
قال أبو محمد : وهذا خطأ بين ؛ لأنه لا يخلو تاركه أن يكون عاصيا لله عز وجل أو غير عاص ؛ فإن كان عاصيا لله تعالى، فلا يعصي أحد بترك ما لا يلزمه وليس فرضا ؛ فالوتر إذن فرض، وهو لا يقول بهذا، وإن قال : بل هو غير عاص لله تعالى. قيل : فمن الباطل أن يؤدب من لم يعص الله تعالى، أو أن تجرح شهادة من ليس عاصيا لله عز وجل ؛ لأن من لم يعص الله عز وجل فقد أحسن، والله تعالى يقول :﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾[ التوبة : ٩١ ] )٤.
المسألة الرابعة :
[ ٧٤ ] من سبق إمامه بالتكبير لعذر، فهل تصح صلاته ؟
( ومن دخل في مسجد فظن أن أهله قد صلوا صلاة الفرض التي هو في وقتها، أو كان ممن لا يلزمه فرض الجماعة، فابتدأ، فأقيمت الصلاة : فالواجب أن يبني على تكبيره، ويدخل معهم في الصلاة، فإن كان قد صلى منها ركعة فأكثر فكذلك ؛ فإذا أتم هو صلاته جلس، وانتظر سلام الإمام فسلم معه. برهان ذلك : أنه ابتدأ الصلاة كما أمر، ومن فعل ما أمر فقد أحسن، وقد قال عز وجل :﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾[ التوبة : ٩١ ] فإذ هو كذلك ثم وجد إماما، ففرض عليه أن يأتم به ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما جعل الإمام ليؤتم به )٥، ولإنكاره عليه السلام على من صلى لنفسه، والإمام يصلي بالناس )٦ ؛ فهذا لا يجوز إلا حيث أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط. وليس ذلك إلا لمن عذر فطول عليه الإمام فقط، على ما نذكره في بابه إن شاء الله تعالى.
ولا يضره أن يضره أن يكبر قبل إمامه إذا كان تكبيره بحق، ومخالفنا يجيز لمن كبر، ثم استخلف الإمام من كبر بعده أن يأتم بهذا المستخلف الذي كبر مأمومه قبله.
وروينا من طريق عبد الرزاق : عن سفيان الثوري، عن المغيرة بن مقسم، والأعمش، كلاهما عن إبراهيم النخعي، أنه قال في رجل دخل في مسجد يرى أنهم قد صلوا، فصلى ركعتين من المكتوبة، ثم أقيمت الصلاة، قال إبراهيم : يدخل مع الإمام، فيصلي ركعتين، ثم يسلم، ثم يجعل الباقيتين تطوعا. فقيل لإبراهيم : ما شعرت أن أحدا يفعل ذلك ؟ فقال إبراهيم : إن هذا كان يفعله من كان قبلكم٧.
قال علي : هذا خبر عن الصحابة رضي الله عنهم وعن أكابر التابعين رحمة الله عليهم )٨.
المسألة الخامسة :
[ ٧٥ ] ما حكم صلاة من غسل دما وقع على ثوبه في صلاته ؟
يقول ابن حزم رحمه الله :
( فإن رعف أحد ممن ذكرنا في صلاة كما ذكرن فإن أمكنه أن يسد أنفه وأن يدع الدم يقطر على ما بين يديه، بحيث لا يمس له ثوبا ولا شيئا من ظاهر جسده، فعل وتمادى على صلاته، ولا شيء عليه.
برهان ذلك : أن الرعاف ليس حدثا على ما ذكرنا قبل، فإذ ليس حدثا، ولا مس له الدم ثوبا، ولا ظاهر جسد فلم يعرض في طهارته، ولا في صلاته شيء.
فإن مس الدم من جسده أو ثوبه، فأمكنه غسل ذلك غير مستدبر القبلة، فليغسله وهو متمادي في صلاته، وصلاته تامة، وسواء مشى إلى الماء كثيرا أو قليلا.
برهان ذلك : أن غسل النجاسة واجتناب المحرمات فرض بلا خلاف، فهو في مشية لذلك وفي عمله لذلك مؤدي فرض، ولا تبطل الصلاة بأن يؤدي فيها ما أمر بأدائه، لأنه لم يخالف، بل صلى كما أمر، ومن فعل ما أمر به فهو محسن، وقد قال تعالى :﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾[ التوبة : ٩١ ] )٩.
المسألة السادسة :
[ ٧٦ ] حكم إمامة الألكن والألثغ واللحان.
يقول ابن حزم رحمه الله :
( وأما الألثغ، والألكن، والأعجمي اللسان، واللحان : فصلاة من آئتم بهم جائزة ؛ لقول الله تعالى :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾[ البقرة : ٢٨٦ ].
فلم يكلفوا إلا ما يقدرون عليه، لا ما لا يقدرون عليه، فقد أدوا صلاتهم كما أمروا، ومن أدى صلاته كما أمر فهو محسن. قال تعالى :﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾[ التوبة : ٩١ ].
والعجب كل العجب ممن يجيز صلاة الألثغ، واللحان، والألكن لنفسه، ويبطل صلاة من ائتم بهم في الصلاة، وهم – مع ذلك – يبطلون صلاة من صلى وهو جنب ناسيا، ويجيزون صلاة من ائتم به وهو لا صلاة له. وبالله تعالى التوفيق )١٠.
المسألة السابعة :
[ ٧٧ ] حكم حج من وقف بعرفه حاملا لمال حرام.
قال ابن حزم :
( فمن وقف بها – عرفة – حاملا لمال حرام، فلم يقف كما أمر بل وقف عاصيا، فإن لم يعلم بذلك فقد قال تعالى :﴿ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ﴾[ الأحزاب : ٥ ] ومن لم يتعمد للحرام عالما به فليس عاصيا، وإذا لم يكن عاصيا، فهو محسن قال – تعالى - :﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾[ التوبة : ٩١ ] فقد وقف كما أمر، وعفا الله تعالى له عما لم يعلمه )١١.
المسألة الثامنة :
[ ٧٨ ] من قتل حيوانا صال عليه، فهل يضمن ؟
يقول ابن حزم :
( وكل من عدا عليه حيوان متملك من بعير، أو فرس، أو بغل، أو فيل، أو غير ذلك، فلم يقدر على دفعه عن نفسه إلا بقتله فقتله فلا ضمان عليه فيه.
وهو قول مالك، والشافعي، وأبي سليمان.
قال علي : لا يخلو من عدت البهيمة عليه فخشي أن تقتله، أو أن تجرحه، أو أن تكسر له عضوا، أو أن تفسد ثيابه من : أن يكون مأمورا بإباحة ذلك لها، منهيا عن الامتناع منها ودفعها، وهذا مما لا يقولونه، ولو قالوه لكان زائدا في ضلالهم، لأن الله تعالى يقول :﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾[ البقرة : ١٩٥ ] وهذا على عمومه، أو يكون مأمورا بدفعها عن نفسه منهيا عن إمكانها من روحه، أو جسمه، أو ماله، أو أخيه المسلم، وهذا هو الحق لما ذكرنا.
فإذا هو مأمور بذلك ولم يقدر على النجاة منها إلا بقتلها فهو مأمور بقتلها، لأن قتلها هو الدفع الذي أمر به، ومن فعل ما أمر به، فهو محسن، وإذ هو محسن، فقد قال تعالى :﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾[ التوبة : ٩١ ] )١٢.
المسألة التاسعة :
[ ٧٩ ] إذا هال البحر، وخافوا العطب، فألقوا الأثقل فالأثقل، فهل يضمنوه ؟
قال الإمام ابن حزم :
( فإن هال البحر وخافوا العطب فليخففوا الأثقل فالأثقل، ولا ضمان فيه على أهل المركب لأنهم مأمورون بتخليص أنفسهم. قال الله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾[ النساء : ٢٩ ] وقال تعالى :﴿ ولا تلقوا بأيديكن إلى التهلكة ﴾[ البقرة : ١٩٥ ].
فمن فعل ما أمر به فهو محسن، قال الله تعالى :﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾[ التوبة : ٩١ ] وقال مالك : يضمن ما كان للتجارة، ولا يضمن ما سيق للأكل والقنية، ولا يضمن شيئا من ذلك من لا مال له في المركب. وهذا كله تخليط لا يعضده دليل أصلا، وقول لا نعلم أحدا تقدمه قبله. وبالله تعالى التوفيق )١٣.
المسألة العاشرة :
[ ٨٠ ] هل تضمن الوديعة ؟
يقول الإمام ابن حزم :
( فإن تلفت من غير تعد منه ولا تضييع لها فلا ضمان عليه فيها ؛ لأنه إذا حفظها ولم يتعد ولا ضيع فقد أحسن، والله تعالى يقول :{ ما على المحسن
١ (أصول الأحكام) (م ١/٤٨٨-٤٨٩)..
٢ (أصول الأحكام) (١/٣٢٣)..
٣ وعزاه كذلك ابن حجر في (الفتح) (٢/٥٦٨)..
٤ (المحلى) (٢/٦)..
٥ جاء من حديث أنس وعائشة وأبي هريرة.
أما حديث أنس رضي الله عنه: فأخرجه البخاري (٣٧٨) في كتاب الصلاة: باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب. ومسلم (٤١١) في كتاب الصلاة: باب ائتمام المأموم بالإمام.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها: فأخرجه مالك (١/١٣٥)، والبخاري (٦٨٨) في كتاب الأذان: باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، ومسلم (٤١٢) في كتاب الصلاة: باب ائتمام المأموم بالإمام.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فأخرجه البخاري (٧٢٢) في الأذان: باب إقامة الصف من تمام الصلاة، (٧٢٤) في باب إيجاب التكبير من باب الأذان. ومسلم (٤١٤) في الصلاة: باب ائتمام المأمور بالإمام..

٦ إنكاره صلى الله عليه وسلم من صلى لنفسه والإمام يصلي: أخرجه البخاري (٦٦٣) في كتاب الأذان: إذا أيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. ومسلم (٧١١) في كتاب صلاة المسافرين: باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في إقامة الصلاة. من حديث ابن بحينة. قال: أقيمت صلاة الصبح، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي، والمؤذن يقيم، فقال: (أتصلي الصبح أربعا) هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: (الصبح أربعا، الصبح أربعا).
وأخرجه أحمد (١/٢٣٨)، وابن حبان (٦/٢٢١)، من حديث ابن عباس، وفيه أن المصلي ابن عباس، وإسناده حسن إن شاء الله تعالى.
وصححه ابن خزيمة (٢/١٦٩-١٧٠)، والحاكم (١/٣٠٧). وقال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)..

٧ أخرجه عبد الرزاق (٢/٤٣٨)..
٨ (المحلى) (٢/١٥٦-١٥٧)..
٩ (المحلى) (٣/٦٩-٧٠)..
١٠ (المحلى) (٣/١٣٤)..
١١ انظر : (المحلى) (٥/١٩٨)..
١٢ (المحلى) (٦/٤٤٢-٤٤٤)..
١٣ (المحلى) (٧/٢٧)..
قال الله تعالى :
﴿ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ﴾[ التوبة : ٩٨ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٩٣ ] إذا هلك الرهن فهل يبطل الدين.
قال ابن حزم :
( فإن مات الرهن، أو تلف، أو أبق، أو فسد، أو كانت أمة فحملت من سيدها، أو أعتقها، أو باع الرهن، أو وهبه، أو تصدق به، أو أصدقه : فكل ذلك نافذ، وقد بطل الرهن وبقي الدين كله بحسبه، ولا يكلف الراهن عوضا مكان شيء من ذلك، ولا يكلف المعتق ولا الحامل استسعاء، إلا أن يكون الراهن لا شيء له من أين ينصف غريمه غيره، فيبطل عتقه ؛ وصدقته، وهبته – ولا يبطل بيعه ولا إصداقه.
برهان ذلك : أن الدين قد ثبت فلا يبطله شيء إلا نص قرآن، أو سنة، فلا سبيل إلى وجود إبطاله فيهما. ولا يجوز تكليف عوض ولا استسعاء، لأنه لم يأمر الله تعالى بذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم والذمم بريئة إلا بنص قرآن، أو سنة... وأما هلاك الرهن بغير فعل الراهن ولا المرتهن، فللناس فيه خمسة أقوال ).
وبعد أن ذكرها مع أدلتها ورد عليها، قال :
( قال أبو محمد : فإذ قد بطل كل ما موهوا به، فالواجب الرجوع إلى القرآن، والسنة، فوجدنا : ما حدثناه أحمد بن قاسم، نا ابي قاسم بن محمد بن قاسم، نا جدي قاسم بن أصبغ، حدثني محمد بن إبراهيم، حدثني يحيى بن أبي طالب الأنطاكي، وجماعة من أهل الثقة، نا نصر بن عاصم الأنطاكي١، نا شبابة، عن ورقاء٢، نا أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغلق الرهن، الرهن لمن رهبن، له غنمه، وعليه غرمه " ٣.
فهذا مسند من أحسن ما روي في هذا الباب٤، وادعوا أن أبا عمر المطرز غلام ثعلب٥ قال : أخطأ من قال : إن الغرم الهلاك.
قال أبو محمد : وقد صح في ذم قوم في القرآن قوله تعالى :﴿ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ﴾[ التوبة : ٩٨ ] أي : يراه هالكا بلا منفعة، فالقرآن أولى من رأي المطرز.
قال أبو محمد : ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام فلم يحل لغريم المرتهن شيئا، ولا أن يضمن الرهن بغير نص في تضمينه إلا أن يتعدى فيه، أو بأن يضيعه فيضمنه حينئذ باعتداله في كلا الوجهين. وكذلك الدين قد وجب، فلا يسقطه ذهاب الرهن، فصح يقينا من هذين الأصلين الصحيحين بالقرآن، والإجماع، والسنة : أن هلاك الرهن من الراهن، ولا ضمان على المرتهن، وأن دين المرتهن باق بحسبه لازم للراهن. وبالله تعالى التوفيق٦.
١ عند الدارقطني : عبد الله بن نصر الأصم. ولعله الصواب، قال ابن حجر في (لسان الميزان)(٦/١٥٥) نصر بن عاصم الأنطاكي... صحح له ابن حزم حديثا في المحلي متنه: (لا يغلق الرهن) ووهم فيه. وإنما هو عبد الله بن نصر الأصم..
٢ رواه بهذا الإسناد الحاكم والدارقطني، وليس عندهما ورقاء، ولم يعد من شيوخه ابن أبي ذئب، لكن ذكره هكذا ابن حجر في التلخيص وعبد الحق..
٣ رجال الإسناد:
محمد بن إبراهيم ويحيى بن أبي طالب الأنطاكي لم أجد لهما ترجمة.
نصر بن عاصم الأنطاكي، لين الحديث من صغار العاشرة. (التقريب) [٧١٦٤].
شبابة بن سوار المدائني، أصله من خراسان، يقال: كان اسمه، مروان مولى بني فزارة، ثقة حافظ رمي بالإرجاء، من التاسعة، مات سنة أربع أو خمس أست ومائتين. (التقريب) [٢٧٤٨].
ورقاء بن عمر اليشكري، أبو بشر الكوفي، نزيل المدائن، صدوق في حديثه عن منصور لين، من السابعة (التقريب) [٧٤٥٣].
ابن أبي ذئب/ محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي، العامري، أبو الحارث، المدني، ثقة فقيه فاضل، من السابعة، مات سنة ثمان وخمسين وقيل سنة تسع. (التقريب) [٦١٢٢].
تخريج الحديث:
هذا الحديث اختلف في وصله وإرساله اختلافا كثيرا: فروي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفواعا. رواه أبي ذئب عن الزهري.
كما عند ابن حزم، والدارقطني (٣/٣٣)، والحاكم (٢/٥١)، والبيهقي (٦/٣٩)، وابن عبد البر (١٢/٣٢٧-فتح البر)، وابن عدي (٤/٢٣١) لكن اختلف على ابن أبي ذئب في هذه الرواية، فوصلها إسماعيل بن عياش كما عند الدارقطني والحاكم والبيهقي، وكذا شبابة كما عند الحاكم والدارقطني وابن عبد البر وابن عدي،
وخالفهم الثوري، فرواه عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد مرسلا.
كما عند البيهقي (٦/٣٩)، وعبد الرزاق (٨/٢٣٧).
ورواه موصولا:
سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، عن الزهري، كما عند ابن حبان (١٣/٢٥٨)، والحاكم (٢/٥١)، والدارقطني (٣/٣٢)، وابن عبد البر في التمهيد (١٢/٣٢٥) والبيهقي (٦/٣٩).
وإسناده حسن. قال الدارقطني: (وهذا إسناد حسن متصل).
وقال الحاكم: وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه).
لكن أعلها ابن عبد البر كما في (التمهيد) (١٢/٣٢٧-فتح البر) بأن الثقات من أصحاب ابن عيينة رووه عنه لا يذكرون أبا هريرة.
ورواه موصولا:
إسماعيل بن عياش بن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري به.
كما عند الدارقطني (٣/٣٣)، والحاكم (٢/٥١).
لكن أعلها ابن عبد البر بأن هذه الرواية هي رواية إسماعيل بن عياش، عن ابن أبي ذئب، وليست عن الزبيدي. انظر التمهيد (١٢/٣٢٦).
ورواه كذلك مالك عن الزهري به، كما عند الحاكم (٢/٥١)، وابن عبد البر في (التمهيد) (٢٢/٣٢٣-فتح البر) لكن رواه مالك في الموطأ ص ٧٢٨ مرسلا. وقال ابن عبد البر في (التمهيد) (١٢/٣٢٣).
هكذا رواه – أي مرسلا – كل من روى الموطأ عن مالك فيما علمت إلا معن عن عيسى، فإنه وصله، فجعله عن سعيد، عن أبي هريرة. ومعن ثقة إلا أني أخشى أن يكون الخطأ فيه من علي بن عبد الحميد الفضائري).
ورواه معمر عن الزهري موصولا أيضا.
كما عند الحاكم (٣/٥١-٥٢)، والدارقطني (٣/٣٣)، لكن رواه عنه عبد الرزاق مرسلا كما في المصنف (٨/٢٣٧).
ورواه سليمان بن داود الرقي، عن الزهري به، كما عند الدارقطني والحاكم وابن عدي (١/١٧٦) وسليمان بن داود لا يعرف. قاله ابن عدي.
وحاصل القول: أن هذه الطرق الموصولة على كثرتها لا يسلم منها شيء من جهة ضعف الرواة، اللهم إلا رواية سفيان، عن زياد بن سعد، وأما بقيتها فيخشى الخطأ من رواتها لضعفهم، ومخالفتهم.
ذلك أنه ما من راو روى عنه الوصل إلا وقد روى عنه الثقة الإرسال.
فمالك وابن أبي ذئب ومعمر كلهم روى عنهم الثقات الإرسال.
فالحاصل أن رواية الإرسال أقوى فهي المرجحة إذا.
قال الإمام ابن عبد البر في (التمهيد) (١٢/٣٢٧):
(وهذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة، فإنهم يعللونها)..

٤ قال الإمام الشافعي: (وفيه دليل على أن جميع ما كان رهنا غير مضمون على المرتهن، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "الرهن من صاحبه الذي رهنه" فمن كان منه شيء فضمانه منه لا من غيره، ثم زاد، فأكد له، فقال: "له غنمه وعليه غرمه"، وغنمه سلامته زيادته. وغرمه عطبه ونقصه. فلا يجوز فيه ألا أن يكون ضمانه من مالكه لا من مرتهنه) الأم (٣/١٦٧).
وانظر: (معالم السنن) (٣/١٣٩-١٤٠)، (التمهيد) (١٢/٣٣٣). (الاستذكار)(٧/١٣٥)..

٥ هو أبو عمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم، البغدادي، الزاهد، المعروف بغلام ثعلب، لازم ثعلبا في العربية، فأكثر عنه إلى الغاية، قال الذهبي عنه: (وهو في عداد الشيوخ في الحديث لا الحفاظ، وإنما ذكرته لسعة حفظه للسان العرب، وصدقه، وعلو إسناده (مات سنة خمس وأربعين وثلاثمائة.
انظر ترجمته ومصادرها في: (السير) (١٥/٥٠٨)..

٦ (المحلى) (٦/٣٧٩)..
قال الله تعالى :
﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾[ التوبة : ١٠٠ ].
وفيها مسألة واحدة، وهي :
[ ٩٤ ] حكم قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى :
( ومن كان يقرأ برواية من عد من القراء بسم الله الرحمن الرحيم آية من القرآن لم تجزه الصلاة إلا بالبسملة، وهم : عاصم بن أبي النجود١، وحمزة٢، والكسائي٣، وعبد الله بن كثير٤، وغيرهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
ومن كان يقرأ برواية من لا يعدها آية من أم القرآن، فهو مخير بين أن يبسمل، وبين أن لا يبسمل، وهم : ابن عامر٥، وأبو عمرو٦، ويعقوب٧، وفي بعض الروايات عن نافع٨...
قال علي : والحق من هذا أن النص قد صح بوجوب قراءة أم القرآن فرضا، ولا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن هذه القراءات حق كلها مقطوع به، مبلغة كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن الله عز وجل بنقل الملوان فقد وجب إذ كلها حق أن يفعل الإنسان في قراءته أي ذلك شاء ؛ وصارت ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في قراءة صحيحة آية من أم القرآن، وفي قراءة صحيحة ليست آية من أم القرآن٩ " : مثل لفظة ( هو ) في قوله تعالى في سورة الحديد :﴿ هو الغني الحميد ﴾[ الحديد : ٢٤ ]١٠. وكلفظة ( من ) في قوله تعالى :﴿ من تحتها الأنهار ﴾[ التوبة : ١٠٠ ] في سورة ( براءة ) على رأس المائة آية١١. هما من السورتين في قراءة من قرأ بهما، وليستا من السورتين في قراءة من لم يقرأ بهما. ومثل هذا في القرآن وارد في ثمانية مواضع، ذكرناها في كتاب القراءات وآيات كثيرة، وسائر ذلك من الحروف يطول ذكرها )١٢.
١ عاصم بن بهدلة، وهو ابن أبي النجود، بنون وجيم، الأسدي مولاهم، الكوفي، أبو بكر، المقرئ، صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون، من السادسة، مات سنة ثمان وعشرين. (التقريب) [٣٠٧١]..
٢ حمزة بن حبيب الزيات القارئ، أبو عمارة، الكوفي، التيمي مولاهم، صدوق زاهد ربما وهم، من السابعة، مات سنة ست أو ثمان وخمسين، وكان مولده سنة ثمانين. (التقريب) [١٥٢٦]..
٣ علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن، أبو الحسن الأسدي الكوفي، المعروف بالكسائي، شيخ القراءة والعربية، له عدة تصانيف، مات سنة تسع وثمانين ومائة. انظر ترجمته ومصادرها في: (السير) (٩/١٣١)..
٤ عبد الله بن كثير الداري، المكي، أبو معبد القارئ، أحد الأئمة، صدوق، من السادسة، مات سنة عشرين ومائة. (التقريب) [٣٥٧٤]..
٥ عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم أبو عمران اليحصبي، الدمشقي، مقرئ الشام، وأحد الأعلام، قرأ على أبي الدرداء، كما قال الذهبي، مات سنة ثمان عشرة ومائة. انظر: (السير) (٥/٢٩٢)..
٦ حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان، ويقال: صهيب، أبو عمر، الأزدي مولاهم، الدوري الضرير، نزيل سامراء، شيخ المقرئين، إمام ثقة ثبت في القراءة، مات سنة ست وأربعين ومائتين. انظر ترجمته ومصادرها في: (السير) (١١/٥٤١)..
٧ يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله، أبو محمد، الحضرمي مولاهم، البصري، أحد العشرة، فاق الناس في القراءة، وتقدم في علم الحديث، وكان عالما بالعربية وجوهها مع الزهد والورع، مات سنة خمس ومائتين. انظر ترجمته ومصادرها في: (السير) (١٠/١٦٩)..
٨ نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أحد القراء السبعة الأعلام، ثقة صالح، أصله من أصبهان، انتهت إليه رئاسة القراء بالمدينة، توفي سنة مائة تسع وستون. انظر: غاية النهاية) (٢/٣٣١)..
٩ انظر لاختلاف القراء في البسملة: (الموضح في القراءات الثمانية) (١/٢٢٤)، (النشر) (١/٢٠٤)..
١٠ انظر: (الموضح) (٣/١٢٥١)، (التذكرة) (٢/٥٨٢)، (المبسوط) ص ٣٦٣..
١١ انظر: (المبسوط) ص ١٩٦، (الموضح) (٢/٦٠٣)، (التذكرة) (٢/٣٥٩)..
١٢ المحلى (٢/٢٨٣-٢٨٤)..
قوله تعالى :﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾[ التوبة : ١٠١ ].
وفيها ثلاث مسائل، هي :
المسألة الأولى : أيهما أفضل مكة، أم المدينة ؟
المسألة الثانية : هل يقطع لصحابي بعينه أنه من أهل الجنة ؟
المسألة الثالثة : إذا قال التابعي : حدثني رجل من الصحابة، فهل يقبل ؟
المسألة الأولى :
[ ٩٥ ] أيهما أفضل مكة، أم المدينة ؟
قال ابن حزم رحمه الله تعالى :
( ومكة أفضل بلاد الله تعالى، نعني الحرم وحده، وما وقع عليه اسم عرفات فقط. وبعدها مدينة النبي عليه السلام، نعني حرمها وحده. ثم بيت المقدس، نعني المسجد وحده. هذا قول جمهور العلماء. وقال مالك : المدينة أفضل من مكة ).
ثم أورد رحمه الله الأدلة لهذا المذهب مع تعقبه بالنقض لها دليلا دليلا، ثم أردفها بأدلة القول الذي يذهب إليه، فقال :
( ثم نورد الآثار الصحيحة والبراهين الواضحة في فضل مكة على المدينة وغيرها، أول ذلك : حبس الله تعالى الفيل عنها، وإهلاكه جيش راكبه إذ أراد غزو مكة. ثم قول رسول الله عليه السلام في غزوة الحديبية إذ بركت ناقته فقال الناس : خلأت، فقال النبي عليه السلام : " ما خلأت، ولا هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل " ١.
وقل تعالى :﴿ ومن دخله كان آمنا ﴾[ آل عمران : ٩٧ ].
وقال تعالى :﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ﴾[ آل عمران : ٩٦ ].
وقال تعالى :﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله ﴾[ البقرة : ١٥٨ ].
وقال تعالى :﴿ ثم محلها إلى البيت العتيق ﴾[ الحج : ٣٣ ]
وقال تعالى :﴿ أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ﴾[ البقرة : ١٢٥ ].
ثم جعل الله فيها تمام الصلاة، والحج، والعمرة، فهي القبلة التي لا تقبل صلاة إلا بالقصد نحوها، وإليها الحج المفترض، والعمرة المفترضة، وإنما فرضت الهجرة إلى المدينة ما لم تفتح مكة، فلما فتحت بطلت الهجرة، فهذه الفضيلة لمكة ثم للمدينة. وأمر عليه السلام أن لا يسفك فيها دم، وأخبر أن الله تعالى حرمها يوم خلق السموات والأرض، ولم يحرمها الناس٢.
ونهى عليه السلام أن يستقبلها أحد أو يستدبرها ببول أو غائط٣.
روينا من طريق البخاري : نا محمد بن عبد الله، نا عاصم بن علي، نا عاصم بن محمد هو – ابن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب – عن واقد بن محمد – هو أخوه – قال : سمعت أبي – هو محمد بن زيد – قال : قال عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة ؟ قالوا : ألا شهرنا هذا. قال : " ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة " ؟ قالوا : ألا يومنا هذا. قال : " فإن الله تعالى حرم عليكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، إلا بحقها كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا من شهركم هذا ؟ ألا هل بلغت " ؟ ثلاثا، كل ذلك يجيبونه : ألا نعم٤.
ومن طريق ابن أبي شيبة، نا أبو معاوية – هو محمد بن خازم الضرير – عن الأعمش، عن أبي صالح السمان، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله عليه السلام في حجته : " أتدرون أي يوم أعظم حرمة " ؟ فقلنا : يومنا هذا قال : " فأي بلد أعظم حرمة " ؟ فقلنا : بلدنا هذا. ثم ذكر مثل حديث ابن عمر٥.
فهذان : جابر، وابن عمر يشهدان : أن رسول الله عليه السلام قرر الناس على أي بلد أعظم حرمة، فأجابوه بأنه مكة، وصدقهم في ذلك، وهذا إجماع من جميع الصحابة في إجابتهم إياه عليه السلام بأن بلدهم ذلك، وهم بمكة.
فمن خالف هذا، فقد خالف الإجماع. فصح بالنص والإجماع أن مكة أعظم حرمة من المدينة، وإذا كانت أعظم حرمة من المدينة، فهي أفضل بلا شك ؛ لأن أعظم الحرمة لا يكون إلا للأفضل ولا بد، لا للأقل فضلا.
روينا من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام كان بالحجون فقال : " والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي، ولو لم أخرج منك ما خرجت٦... "
وهذا خبر في غاية الصحة. ثم قال :
( حدثنا يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، نا عبد الوارث بن سفيان بن جبرون، نا قاسم بن أصبغ، نا أحمد بن زهير وأبو يحيى بن أبي مرة، قالا جميعا : نا سليمان بن حرب، نا حماد بن زيد، عن حبيب المعلم، نا عطاء ابن أبي رباح، عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله عليه السلام : " صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الحرام. وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة " ٧.
حديث ابن الزبير صحيح، فارتفع الإشكال جملة، والحمد لله...
وقد ذكرنا أنه قول جميع الصحابة، وقول عمر بن الخطاب مرويا عنه٨ ٩.
المسألة الثانية :
[ ٩٦ ] هل يقطع لصحابي بعينه أنه من أهل الجنة ؟
قال ابن حزم :
( ثم نقطع على أن كل من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنية صادقة، ولو ساعة، فإنه من أهل الجنة لا يدخل النار لتعذيب، إلا أنهم لا يلحقون بمن أسلم قبل الفتح، وذلك لقول الله عز وجل :﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ﴾[ الحديد : ١٠ ].
وقال تعالى :﴿ وعد الله لا يخلف الله وعده ﴾[ الروم : ٦ ].
وقال تعالى :﴿ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ﴾[ الأنبياء : ١٠١-١٠٣ ].
فصح بالضرورة : أن كل من أنفق من قبل الفتح وقاتل، فهو مقطوع على غيبه ؛ لتفضيل الله تعالى إياهم، والله تعالى لا يفضل إلا مؤمنا فاضلا، وأما من أنفق بعد الفتح، وقاتل فقد كان فيهم منافقون لم يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف نحن. قال الله تعالى :﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ﴾[ التوبة : ١٠١ ].
قال أبو محمد :
( فلهذا لم نقطع على كل امرئ منهم بعينه، لكن نقول : كل من لم يكن منهم من المنافقين، فهو من أهل الجنة يقينا، لأنه قد وعدهم الله تعالى الحسنى كلهم، وأخبر أنه لا يخلف وعده، وأن من سبقت له الحسنى فهو مبعد من النار لا يسمع حسيسها، ولا يحزنه الفزع الأكبر، وهو فيما اشتهى خالد.
وهذا نص قولنا، والحمد لله رب العالمين )١٠.
المسألة الثالثة :
[ ٩٧ ] إذا قال التابعي : حدثني رجل من الصحابة، فهل يقبل ؟
قال ابن حزم رحمة الله تعالى :
( فلا يقبل حديث قال راويه فيه : عن رجل من الصحابة، أو حدثني من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حتى يسميه، ويكون معلوما بالصحبة الفاضلة ممن شهد الله تعالى لهم بالفضل والحسنى، قال الله عز وجل :﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾[ التوبة : ١٠١ ].
وقد ارتد قوم ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام كعيينة بن حصن والأشعت بن قيس والرجال، وعبد الله بن أبي سرح.
قال علي :
ولقاء التابع لرجل من أصاغر الصحابة شرف وفخر عظيم، فلأي معنى يسكت عن تسميته لو كان ممن حمدت صحبته، ولا يخلو سكوته عنه من أحد وجهين :
إما أنه لا يعرف من هو، ولا عرف صحة دعواه الصحبة، أو لأنه كان من بعض ما ذكرنا )١١.
هكذا استدل بن حزم بالآية، وأطلق القول بعدم قبوله الرواية إذا لم يسم الصحابي ويعرف بالصحبة، لكنه قال في النبذ١٢ :
( وكل من روى عن صحابي، ولم يسميه١٣. فإن كان ذلك الراوي ممن لا يجهل صحة قول مدعي الصحبة من بطلانه، فهو خبر مسند تقوم به حجة، لأن جميع الصحابة عدول…
وإن كان الراوي ممن يمكن أن يجهل صحة قول مدعي الصحبة، فهو حديث مرسل ).
١ أخرجه البخاري (٢٧٣١ – ٢٧٣٢) في كتاب الشروط: باب الشروط في الجهاد، وأحمد (٤/٣٢٣-٣٢٦-٣٢٨-٣٣١)، و(أبو داود) (٢٧٦٥) في الجهاد: باب في صلح العدو..
٢ أخرجه البخاري (١٨٣٤) كتاب جزاء الصيد: باب لا يحل القتال بمكة، ومسلم (١٣٥٣) في كتاب الحج: باب تحريم مكة، كلاهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما..
٣ أخرجه البخاري (١٤٤) في كتاب الوضوء: باب لا تستقبل القبيلة بغائط أو بول إلا عند البناء و(مسلم) (٢٦٤) (في كتاب الطهارة): باب الاستطابة من حديث أبي أيوب الأنصاري..
٤ رجال الإسناد:
محمد بن عبد الله لعله الذهلي الإمام المشهور: قال الحافظ ابن حجر في الفتح (١٢/٨٧):
(قال الحاكم: محمد بن عبد الله هذا هو الذهلي، وقال أبو علي الجباني: لم أره منسوبا في شيء من الروايات. قلت: وعلى قول الحاكم فيكون نسب إلى جده؛ لأنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس).
عاصم بن علي بن عاصم بن صهيب الواسطي، أبو الحسن التيمي مولاهم، صدوق ربما وهم، من التاسعة، مات سنة إحدى وعشرين. (التقريب) [٣٠٨٤].
عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمرري، المدني، ثقة، من السابعة. (التقريب) [٣٠٩٥].
واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، المدني، ثقة، من السادسة. (التقريب) [٧٤٣٩].
محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر المدني، ثقة، من الثالثة. (التقريب) [٥٩٢٩].
تخريجه: أخرجه البخاري (٦٧٨٥) في كتاب الحدود: باب ظهر المؤمن حمى، إلا في حد أو حق، ومسلم (٦٦) في كتاب الإيمان: باب بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارا"..

٥ أخرجه ابن أبي شيبة (٧/٤٥٤)، وأيضا مسلم في صحيحه )١٢١٨) في الحج: باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو داود (١٩٠٥) في المناسك: باب صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سبق التعريف برجاله..
٦ أخرجه أحمد (٤/٣٠٥) والترمذي (٣٩٢٥) في: (المناقب): باب في فضل مكة، وابن ماجة (٣١٠٨) في (المناسك): باب فضل مكة، وابن حبان (٩/٢٢)، والحاكم (٣/٧)، وابن عبد البر (٩/٢٢٦ – فتح البر): من طرق:
عن الزهري أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره، أن عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري، قال: فذكره.
وهذا الحديث صحيح، قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الذهبي في الميزان أيضا، كما سبق نقل كلامه عند حديث: (اللهم إنك قد أخرجتني من أحب البلاد إلي...) الحديث.
وصححه ابن حيان وابن عبد البر كما في التمهيد (٩/٢٢٦)، وشيخ الإسلام ابن تيمية، في (أحاديث القصاص) (ص ٦٥-٦٦) وبه رد حديث: (اللهم إنك قد أخرجتني من أحب الديار إلي..." الحديث.
لكن ليعلم أن هذا حديث عبد الله بن عدي، أما جعله من حديث أبي هريرة فهو عند الإمام أبي يعلى (١٠/٣٦٢)، والطحاوي في: (شرح معاني الآثار) (٢/٢٦١).
وقد حكم عليه أبو حاتم في العلل (١/٢٨٠) بكونه خطأ، وهم فيه محمد بن عمرو – وقال ابن عبد الهادي في (تنقيح التحقيق) (٢/٤٥٣): (وحديث الزهري أصح).
والحديث صحيح كما سبق من حديث عبد الله بن عدي..

٧ أخرجه أحمد (٤/٥)، وابن حبان (٤/٤٩٩)، والبيهقي (٥/٢٤٦)، وابن عبد البر (٩/٢٢١-٢٢٢- فتح البر).
من طريق: حماد بن زيد قال: حدثنا حبيب المعلم، عن عطاء، عن عبد الله بن الزبير فذكره مرفوعا.
وهذا إسناد صحيح، كما ترى. وقد صححه ابن حبان وابن عبد البر وابن حزم.
قال ابن عبد البر ( ٩/٢٢١): (هكذا رواه عطاء ابن أبي رباح، عن عبد الله بن الزبير، واختلف في رفعه على عطاء على حسب ما نذكره ومن رفعه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحفظ وأثبت من جهة النقل، وهو أيضا صحيح في النظر، لأن مثله لا يد لا يدرك بالرأي، ولا بد فيه من التوقيف، فلهذا قلنا: إن من رفعه أولى، مع شهادة أئمة الحديث للذي رفعه بالحفظ والثقة) ثم ساق أسماء من وقف الحديث ورواياتهم ثم قال: (ولكن الحديث لم يقمه، ولا جوده إلى حبيب المعلم عن عطاء، أقام إسناده وجود لفظه) وقد حسن الإمام النووي إسناده في (شرح مسلم) (٩/١٦٤)، وصحح ابن القيم إسناده في (زاد المعاد) (١/٤٨) وهو الصواب إن شاء الله تعالى..

٨ سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق قول عمر رضي الله عنه..
٩ (المحلى) (٥/٣٢٥-٣٣٩)..
١٠ (الفصل) (٤/٢٢٥-٢٢٦)..
١١ (أصول الأحكام) (١/١٤٣-١٤٤)..
١٢ ص ٨٢ – ٨٣..
١٣ هكذا، والصواب: (يسمه)..
قال الله تعالى :
﴿ وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[ التوبة : ١٠٢ ].
وفيها مسألة واحدة :
[ ٩٨ ] حكم صاحب الكبيرة من المسلمين.
قال ابن حزم رحمه الله :
( ذهب أهل السنة من أصحاب الحديث والفقهاء إلى : أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان، وقالوا : الإيمان اسم معتقده وإقراره، وعمله الصالح، والفسق اسم عمله السيئ )١.
ولما ذكر رحمه الله إنكار المعتزلة لهذا، قال :
( وهذا الذي أنكروه لا نكرة فيه، بل هو أمر موجود مشاهد، فمن أحسن من وجه، وأساء من وجه آخر، كمن صلى ثم زنى، فهو محسن محمود، ولي لله فيما أحسن فيه من صلاة، وهو مسيء مذموم عدو لله، فيما أساء فيه من الزنا، قال الله عز وجل :
﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ﴾[ التوبة : ١٠٢ ].
فبالضرورة ندري أن العمل الذي شهد الله عز وجل أنه عمل صالح، فإن عامله فيه محمود محسن مطيع لله تعالى، وأن العمل الذي شهد الله عز وجل أنه سيئ فإن عامله فيه مذموم مسيء عاص لله تعالى.
وقد استدل رحمه الله لهذا المعتقد بما قاله :
( ويكفي من هذا كله، قول الله عز وجل :
﴿ أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ﴾[ آل عمران : ١٩٥ ].
وقال تعالى :﴿ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ﴾[ غافر : ١٧ ].
وقال تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾[ الزلزلة : ٧-٨ ].
وقوله تعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء السيئة فلا يجزى إلا مثلها ﴾[ الأنعام : ١٦٠ ].
وقوله تعالى :﴿ وتضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ﴾[ الأنبياء : ٤٧ ].
فصح بهذا كله أنه لا يخرجه عن اسم الإيمان إلا الكفر، ولا يخرجه عن اسم إلا الإيمان، وأن الأعمال حسنها حسن إيمان، وقبيحها قبيح ليس إيمان، والموازنة تقضي على كل ذلك، ولا يحبط الأعمال إلا الشرك، قال الله تعالى :﴿ لئن أشركت ليحبطن عملك ﴾[ الزمر : ٦٥ ]٢.
ثم زاد رحمه الله تعالى دليلا، فقال :
( قال أبو محمد رضي الله عنه : ويقال لمن قال : إن صاحب الكبيرة كافر : قال الله عز وجل :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[ البقرة : ١٧٨ ].
فابتدأ الله عز وجل بخطاب أهل الإيمان من كان فيهم من قاتل، أو مقتول، ونص تعالى على أن القاتل عمدا، وولي المقتول أخوان، وقد قال تعالى :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾[ سورة الحجرات : ١٠ ].
فصح أن القاتل عمدا مؤمن بنص القرآن وحكمه له بأخوة الإيمان، ولا يكون للكافر مع المؤمن بتلك الأخوة.
وقال تعالى :﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾[ الحجرات : ٩-١٠ ].
فهذه الآية رافعة للشك جملة في قوله تعالى : إن الطائفة الباغية على الطائفة الأخرى من المؤمنين المأمور سائر المؤمنين بقتالها حتى تفيء إلى الله تعالى إخوة للمؤمنين المقاتلين، وهذا أمل لا يضل عنه إلا ضال.
هاتان الآيتان حجة قاطعة أيضا على المعتزلة المسقطة اسم الإيمان عن القاتل، وعلى كل من أسقط عن صاحب الكبائر اسم الإيمان. وليس لأحد أن يقول : إنه تعالى إنما جعلهم إخواننا إذا تابوا لأن نص الآية أنهم إخوان في حالة البغي، وقبل الفيئة إلى الحق٣.
١ (الفصل) (٣/٢٧٤)..
٢ (الفصل) (٣/٢٧٧-٢٧٨)..
٣ (الفصل) (٣/٢٨٠)..
قال الله تعالى :
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾[ التوبة : ١٠٣ ].
وفيها تسع مسائل :
المسألة الأولى : النص المجمل، ومتى يعمل به ؟
المسألة الثانية : وجوب الزكاة في مال العبد والمجنون والصبي.
المسألة الثالثة : زكاة الخيل.
المسألة الرابعة : هل في العسل زكاة ؟
المسألة الخامسة : هل في عروض التجارة زكاة ؟
المسألة السادسة : زكاة البقر.
المسألة السابعة : زكاة ما زاد على الثلاثمائة من الغنم.
المسألة الثامنة : هل يجوز إخراج زكاة المال من غير جنسه.
المسألة التاسعة : صدقة الفطر.
المسألة الأولى :
[ ٩٧ ] النص المجمل، ومتى يعمل به ؟
قال ابن حزم رحمه الله تعالى :
( قال علي : والصحيح من ذلك : أنه [ إذا ]١ كان من النصوص التي لو رتركنا وظاهرها لم يفهم منه المراد، فإننا لا ينفذ منها إلا ما يبينه نص آخر، أو إجماع، وذلك مثل :…وكذلك قوله تعالى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾[ التوبة : ١٠٣ ].
ليس فيها بيان كيفية تلك الصدقة، ولا متى تؤخذ ؟ أفي كل يوم ؟ أم في كل شهر ؟ أم في كل عام ؟ أم مرة في الدهر ؟ ولا مقدار ما يؤخذ، ولا من أي مال ؟ ففي قوله تعالى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾[ التوبة : ١٠٣ ] : عمومان اثنان :
أحدهما : الأموال، والثاني : الضمير الراجع إلى أرباب الأموال.
فأما عموم الأموال : فقد صح الإجماع المنقول جيلا جيلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجب الزكاة إلا في بعض الأموال دون بعض مع أن نص الآية يوجب ذلك ؛ لأنه إنما قال تعالى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾[ التوبة : ١٠٣ ].
فالظاهر يقتضي أن ما أخذ مما قل أو كثر فقد أخذ من أموالهم كما أمر.
وقوله عليه السلام إذ سئل عن الحمير أفيها زكاة أم لا ؟ ٢.
على أن هذا اللفظ ليس مرادا به جميع الأموال، وقد قال عليه السلام : " إن أموالكم عليكم حرام " ٣.
وقال عليه السلام : " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه " ٤.
ونص عليه السلام على أنه لا يحل أخذ مال أحد إلا بطيب نفسه٥.
وليست الزكاة كذلك بل هم مقاتلون إن منعوها.
وأيضا فإن لفظة :( من ) في قوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم ﴾ إنما هي للتبعيض.
وأيضا، فلو كانت الأموال مرادة على عمومها، لكان ذلك ممتنعا ؛ لأن ذلك كان يوجب الأخذ من كل برة، ومن كل خردلة، ومن كل سمة ؛ لأن كل ذلك أموال، فلما صح بكل ما ذكرنا أنه تعالى لم يرد كل مال، وجب طلب معرفة الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقدار ما يؤخذ منها، ومتى يؤخذ من نص آخر، أو من الإجماع، إذ قد ثبت أن المأخوذ هو شيء من بعض ما يملكونه، فلا بد من بيان ذلك الشيء المراد، فإنه إذا أخذ شيء يقع عليه اسم شيء واحد من جميع أموالهم، فقد أخذ من أموالهم، وكان هذا أيضا موافقا للظاهر وغير مخالف له البتة. وليس إلا هذا الوجه، إلا أن يوجب أكثر منه نص أو إجماع ؛ لأنه قد تغذر الوجه الثاني، وهو : أن يؤخذ من كل مال جزء، وإذا لم يكن لشيء إلا قسمان، فسقط أحدهما، ثبت الآخر. فلو لم تأت نصوص وإجماع على : الأخذ من المواشي والذهب والفضة والبر والشعير والتمر لما وجب إلا ما يقع عليه اسم أخذ، لأجزأ إعطاء برة واحدة، أو شعيرة واحدة، أو أي شيء أعطاء المرء. ولكن النصوص والإجماع على ما ذكرنا فرض الوقوف عندهما.
وأما العموم الثاني : وهو عموم أرباب الأموال، فبين واضح، وهو من كل إنسان ذي مال، فوجب استعماله على عمومه، إذ عرف مقدار ما يؤخذ، ومتى يؤخذ، ومما يؤخذ. فلا مخرج من ذلك إلا ما أخرجه نص، أو إجماع على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى٦.
المسألة الثانية :
[ ١٠٠ ] وجوب الزكاة في مال العبد والمجنون والصبي.
قال ابن حزم :
( والزكاة فرض على الرجال والنساء الأحرار منهم والحرائر والعبيد، والإماء، والكبار، والصغار، والعقلاء، والمجانين من المسلمين، ولا تؤخذ من كافر.
قال الله عز وجل :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾[ البقرة : ٤٣ ].
فهذا خطاب منه تعالى لكل بالغ عاقل، من حر، أو عبد، ذكر أو أنثى : لأنهم كلهم من الذين آمنوا. وقال تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ﴾[ التوبة : ١٠٣ ]. فهذا عموم لكل صغير وكبير، وعاقل، ومجنون، وحر وعبد ؛ لأنهم كلهم محتاجون إلى طهرة الله تعالى لهم وتزكيته إياهم، وكلهم من الذين آمنوا.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، ثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، عن زكرياء بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن، فقال : أدعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم٧.
فهذا عموم لكل غني من المسلمين، وهذا يدخل فيه الصغير، والكبير، والمجنون والعبد، والأمة إذا كانوا أغنياء.
كما احتج في مسألة وجوب الزكاة في مال العبد بما روي عن ابن عمر، فقال :( حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، ثنا أحمد بن خالد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال، ثنا يزيد بن إبراهيم – هو التستري – ثنا محمد بن سيرين، حدثني جابر الحذاء، قال : سألت ابن عمر، قلت : على المملوك زكاة ؟ قال : أليس مسلما ؟ قلت : بلى. قال : فإن عليه في كل مائتين خمسة، فما زاد فبحساب ذلك٨.
وأما مال الصغير، والمجنون ؛ فإن مالكا، والشافعي قالا بقولنا. وهو قول عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله٩، وأم المؤمنين عائشة، وجابر، وابن مسعود، وعطاء وغيره...
والعجب أن المحفوظ عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم إيجاب الزكاة في مال اليتيم : روينا من طريق أحمد بن حنبل : ثنا سفيان – هو ابن عيينة – عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأيوب السختياني ويحيى بن سعيد الأنصاري أنهم كلهم سمعوا القاسم بن أبي بكر الصديق يقول : كانت عائشة تزكي أموالنا، ونحن أيتام في حجرها، زاد يحيى، وإنه ليتجر بها في البحر١٠.
ومن طريق أحمد بن حنبل : ثنا وكيع، ثنا القاسم بن الفضل هو الحداني، عن معاوية بن قرة، عن الحكم بن أبي العاص الثقفي قال : قال لي عمر بن الخطاب : إن عندي مال يتيم قد كادت الصدقة أن تأتي عليه١١.
ومن طريق عبد الرزاق ومحمد بن بكر قالا : أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في الرجل يلي مال اليتيم، قال : يعطي زكاته١٢.
ومن طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عبيد الله بن أبي رافع قال : باع علي بن أبي طالب أرضا لنا بثمانين ألفا، وكنا يتامى في حجره ؛ فلما قبضنا أموالنا نقصت. فقال : إني كنت أزكيه١٣.
وعن ابن مسعود قال : احص ما في مال اليتيم من زكاة، فإذا بلغ، فإن آنست منه رشدا فأخبره، فإن شاء زكى وإن شاء ترك١٤.
وهو قول عطاء وجابر بن زيد وطاوس ومجاهد والزهري وغيرهم، وما نعلم لمن ذكرنا مخالفا من الصحابة، إلا رواية ضعيفة عن ابن عباس، فيها ابن لهيعة١٥ )١٦.
المسألة الثالثة :
[ ١٠١ ] زكاة الخيل.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى، بعد أن ذكر خلاف الأحناف في هذه المسألة :
( وذهب جمهور الناس إلى أن لا زكاة في الخيل أصلا.
حدثنا حمام، ثنا ابن مفرج، عن ابن الأعرابي، عن الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال : قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق١٧.
وقد صح أن عمر إنما أخذها على أنها صدقة تطوع منهم لا واجبة.
حدثنا حمام، ثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي، ثنا عبد الله بن يونس، ثنا بقي بن مخلد، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن ابن أبي خالد، عن شبيل بن عوف وكان قد أدرك الجاهلية قال : أمر عمر بن الخطاب الناس بالصدقة ؛ فقال الناس : يا أمير المؤمنين، خيل لنا ورقيق افرض علينا عشرة عشرة. فقال عمر : أما أنا فلا أفرض ذلك عليكم١٨.
حدثنا حمام، ثنا عباس بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قرأت على أبي، عن يحيى بن سعيد القطان، عن زهير – هو ابن معاوية – ثنا أبو إسحاق – هو السبيعي – عن حارثة – هو ابن مضرب – قال : حججت مع عمر بن الخطاب، فأتاه أشراف أهل الشام فقالوا : يا أمير المؤمنين، إنا أصبنا رقيقا ودوابا، فخذ من أموالنا صدقة تطهرنا، وتكون لنا زكاة. فقال : هذا شيء لم يفعله اللذان كانا قبلي١٩.
قال أبو محمد : هذه أسانيد في غاية الصحة، والإسناد فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ من الخيل صدقة ؛ ولا أبو بكر بعده ؛ وأن عمر لم يفرض ذلك. وأن عليا بعده لم يأخذها.
حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، أنا محمود بن غيلان، ثنا أبو أسامة – هو حماد بن أسامة – ثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد عفوت عن الخيل، فأدوا صدقة أموالكم من كل مائتين خمسة " ٢٠.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس على المسلم في عبده، ولا في فرسه صدقة، إلا صدقة الفطر في الرقيق " ٢١.
والفرس والعبد اسم للجنس كله، ولو كان في شيء من ذلك صدقة لما أغفل عليه السلام بيان مقدارها ومقدار ما تؤخذ منه، وبالله تعالى التوفيق٢٢.
المسألة الرابعة :
[ ١٠٢ ] هل في العسل زكاة ؟
قال ابن حزم :
( قال أبو محمد : وبأن لا زكاة في العسل يقول مالك وسفيان الثوري والحسن بن حي والشافعي وأبو سليمان وأصحابهم.
قال علي : قد قلنا : إن الله تعالى قال :﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾[ البقرة : ١٨٨ ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام ".
فلا يجوز إيجاب فرض زكاة في مال لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه إيجابها.
فإن احتجوا بعموم قول الله تعالى ﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾[ التوبة : ١٠٣ ].
قيل لهم : فأوجبوها فيما خرج من معادن الذهب والفضة، وفي القصب، وفي ذكور الخيل، فكل ذلك أموال للمسلمين٢٣.
المسألة الخامسة :
[ ١٠٣ ] هل في عروض التجارة زكاة ؟
قال ابن حزم :
( وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن لا زكاة في عروض التجارة، وهو أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود من الإب
١ زيادة يقتضيها السياق..
٢ هو حديث طويل بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة من منع زكاة الذهب والفضة والإبل والغنم والبقر، ثم سئل عن الحمر فقال: (ما أنزل علي في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾[الزلزلة: ٧-٨].
أخرجه البخاري (٢٣٧١) في كتاب المساقاة، باب شرب الناس والدواب من الأنهار، وأخرجه مسلم (٩٨٧) في (كتاب الزكاة): باب إثم مانع الزكاة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..

٣ سبق تخريجه. ؟.
٤ أخرجه مسلم (٢٥٦٤) في كتاب البر والصلة: باب تحريم ظلم المسلم وخذله..
٥ هذا هو حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، ولفظه: (لا يحل لامرئ مسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه).
أخرجه أحمد (٥/٤٢٥)، واليبهقي (٩/٣٥٨)، وابن حبان (١٣/٣١٦-٣١٧).
من طريق: سهيل بن أبي صالح، عن عبد الرحمن بن سعد، عن أبي حميد به.
وهذا إسناد حسن. قال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد (٤/١٧٤) عن رجاله: (رجال الصحيح).
عبد الرحمن بن سعد، ثقة من الثالثة. كما في (التقريب) [٣٨٩٩].
ووقع عند البيهقي. عبد الرحمن بن سعيد. ثم قال:
(وهو عبد الرحمن بن سعد بن مالك، وهو ابن أبي سعيد الخدري، قاله البخاري).
وللحديث شواهد كثيرة، منها الحديث الذي ذكره ابن حزم، وقد سبق تخريجه.
وهو أصل جاء الكتاب والسنة له بالبيان والتأكيد..

٦ أصول الأحكام (م١/٣٩٠-٣٩٢)..
٧ الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني، أبو عاصم النبيل، البصري، ثقة ثبت من التاسعة، مات سنة اثنتي عشرة أو بعدها. (التقريب) [٢٩٩٤].
زكريا بن إسحاق المكي، ثقة رمي بالقدر، من السادسة. (التقريب) [٢٠٣١].
يحيى بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن صيفي، ويقال: يحيى بن محمد، ويقال: يحيى بن عبد الله بن صيفي، المكي، ثقة، من السادسة. (التقريب) [٧٦٣٩].
نافذ، بفاء ومعجمة، أبو معبد، مولى ابن عباس، المكي، ثقة من الرابعة، مات سنة أربع ومائة. (التقريب) [٧١٢٠].
وقد سبق تخريج الحديث، وكذا التعريف ببقية رجال الإسناد..

٨ رجال الإسناد :
عبد الله بن محمد بن عثمان بن سعيد الأسدي، أبو محمد، من اهل قرطبة، كان ضابطا لكتبه، صدوقا لروايته، ثقة في نقله، مات سنة أربع وستين وثلاثمائة. انظر: (تاريخ علماء الأندلس) ص ١٩٢، (جذوة المقتبس) ص ٢٣٥.
أحمد بن خالد بن يزيد، أبو عمر، القرطبي، ويعرف بابن الجباب، كان من أفراد الأئمة، عديم النظر، وكان إماما في الفقه لمالك، توفي سنة اثنتين وعشرين وثلائمائة. (السير) (١٥/٢٤٠). (تاريخ علماء الأندلس) ص ٣٥.
علي بن عبد العزيز بن المرزبان بن سابور البغوي، أبو الحسن، نزيل مكة، الإمام، الحافظ، الصدوق، قال ابن أبي حاتم: كان صدوقا، ووثقه الدارقطني، وكان يأخذ على تحديثه أجرا، مات سنة ست وثمانين ومائتين. انظر: (السير) (١٣/٣٤٨)، تهذيب التهذيب (٧/٣٠٦)، (الجرح والتعديل) (٦/١٩٣).
الحجاج بن المنهال الأنماطي، أبو محمد السلمي مولاهم، البصري، ثقة فاضل، من التاسعة، مات سنة ست عشرة أو سبع عشرة. (التقريب) [١١٤٦].
يزيد بن إبراهيم التستري، بضم المثناة وسكون المهملة وفتح المثناة ثم راء، نزيل البصرة، أبو سعيد، ثقة ثبت إلا في روايته عن قتادة ففيها لين، من كبار السابعة، مات سنة ثلاث وستين على الصحيح (التقريب) [٧٧٣٤].
تخريجه: أخرجه ابن أبي شيبة (٢/٣٨٩)، وعبد الرزاق (٤/٧٢)، وإسناده صحيح كما قال ابن حزم، لكن روى عبد الرزاق (٤/٧٢)، وابن أبي شيبة (٢/٣٨٨) عن ابن عمر أنه قال: ليس في مال العبد زكاة، لكن في السند عبد الله العمري، وهو ضعيف..

٩ أخرجه الشافعي في الأم (٢/٢٩)، وعبد الرزاق (٤/٦٩)، وأبو عبيد (٤٥٦)، والبيهقي في سننه الكبرى (٤/١٠٨)، وسنده صحيح، ولفظه: أنه كان يخرج الزكاة من مال اليتيم..
١٠ رجال الإسناد:
عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، التيمي، أبو محمد المدني، ثقة جليل، قال ابن عيينة: كان أفضل أهل زمانه، من السادسة، مات ست وعشرين وقيل بعدها. (التقريب) [٤٠٠٧].
تخريجه: أخرجه مالك في (الموطأ) (١/٢٥١)، وأبو عبيد ص ٤٥٦، والشافعي في (الأم) (٢/٢٩)، وعبد الرزاق (٤/٦٦-٦٧) وإسناده صحيح..

١١ رجال الإسناد:
القاسم بن الفضل بن معدان الحداني، بضم المهملة والتشديد، أبو المغيرة البصري، ثقة، رمي بالإرجاء، مات سنة سبع وستين، من السابعة. (التقريب) [٥٥١٧].
معاوية بن قرة بن إياس بن هلال المزني أبو إياس، البصري، ثقة، من الثالثة، مات سنة ثلاث عشرة وهو بن ست وسبعين سنة. (التقريب) [٦٨١٧].
الحكم بن أبي العاص الثقفي، أخو عثمان بن أبي العاص، عداده في أهل البصرة، وثقه ابن حبان وقال ابن أبي حاتم: بصري له صحبة، روى عنه معاوية بن قرة المزني. سمعت أبي يقول ذلك. انظر: (الجرح والعديل) (٣/١٢٠)، (الثقات) لابن حبان (٤/١٤٣).
تخريجه: أخرجه عبد الرزاق (٤/١٦)، وأبو عبيد ص ٤٥٥، واليبهقي في سننه (٤/١٠٧) إلا أنهم جعلوا الراوي للأثر عثمان بن ابي العاص، قال البيهقي: (كذا في هذه الرواية، ورواه معاوية بن قرة عن الحكم بن أبي العاص عن عمر، وكلاهما محفوظ)..

١٢ رجال الإسناد :
محمد بن بكر بن عثمان البرساني، بضم الموحدة وسكون الراء ثم مهملة، أبو عثمان البصري، صدوق قد يخطئ، من التاسعة مات سنة أربع ومائتين. (التقريب) [٥٧٩٧].
أخرجه عبد الرزاق (٤/٦٦)، وأبو عبيد ص ٤٥٦، من الطريق التي ذكرها ابن حزم وإسناده صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة (٢/٣٧٩) من طريق أشعث عن أبي الزبير لكن أشعث بن سوار الكندي ضعيف كما في (التقريب) [٥٢٨]..

١٣ رجال الإسناد:
عبيد الله بن أبي رافع المدي مولى النبي صلى الله عليه وسلم، كان كاتب علي، وهو ثقة من الثالثة. (التقريب) [٤٣١٦].
تخريجه: أخرجه عبد الرزاق (٤/٦٧)، والدارقطني (٢/١١٠ – ١١١)، والبيهقي (٤/١٠٧-١٠٨)، وهذا مشهور عن علي كما قال ذلك الحافظ في (التخليص) (٢/١٥٩)..

١٤ أخرجه أبو عبيد ص ٤٥٧، وابن أبي شيبة (٢/٣٧٩)، والبيقهي (٤/١٠٨)، من طريق: ليث، عن مجاهد عن ابن مسعود.
وهذا إسناد ضعيف؛ لأن مجاهدا لم يدرك ابن مسعود، وليث هو ابن أبي سليم ضعفه أهل العلم بالحديث.
وقد بين الشافعي دلالة هذا الأثر على هذا المذهب، فقال في الأم (٢/٢٩): (كان ابن مسعود أمر والي اليتيم أن لا يؤدي عنه زكاة حتى يكون هو ينوي أداءها عن نفسه، لأنه لا يأمر بإحصاء ما مر عليه، وعدد ماله إلا ليؤدي عن نفسه ما وجب عليه من الزكاة..

١٥ سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق أثر ابن عباس في أدلة من لا يرى الزكاة في مال اليتيم..
١٦ (المحلى) (٤/٤-١١)..
١٧ رجال الإسناد :
ابن مفرج: أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن محمد بن يحيى بن مفرج الأموي مولاهم القرطبي، كان حافظا للحديث، بصيرا باسماء الرجال، رحل في طلب الحديث، وسمع من العلماء، فأكثر، وأخذ الناس عنه، مات سنة ثمانين وثلاثمائة. (السير) (١٦/٣٩٠)، تاريخ علماء الأندلس (٣٦٧).
الدبري: أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عباد الصنعاني، راوية عبد الرزاق قال الذهبي: (الشيخ، العلام، المسند، الصدوق) مات في سنة خمس وثمانين ومائتين. (السير) (١٣/٤١٦).
أبو إسحاق، هو السبيعي: عمرو بن عبد الله الهمداني، ثقة مكثر عابد، من الثالثة، اختلط بآخره، مات سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل غير ذلك (التقريب) (٥١٠٠).
عاصم بن ضمرة السلولي، الكوفي، صدوق، من الثالثة، مات دون المائة، سنة أربع وسبعين. (التقريب) (٣٠٨٠).
تخريجه: أخرجه عبد الرزاق (٤/٣٤)..

١٨ رجال الإسناد:
عبد الله بن محمد بن علي الباجي، محدث الأندلس، قال ابن الفرضي: (كان ضابطا لروايته، ثقة، صدوقا، حافظا للحديث، بصيرا بمعانيه، لم ألق فيمن لقيته من شيوخ الأندلس من أفضله عليه في الضبط (مات سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. انظر: (السير)(١٦/٣٧٧) تاريخ علماء الأندلس (١٩٨).
عبد الله بن يونس بن محمد المرادي، يعرف بالقبري، أبو محمد، سمع من بقي بن مخلد كثيرا، وصحبه، مات سنة ثلاثين وثلاثمائة انظر: (تاريخ علماء الأندلس) ص ١٨٦، (جذوة المقتبس) ص ٢٤٨.
بقي بن مخلد بن يزيد الإمام القدوة، الحافظ، من حفاظ المحدثين، ومن أئمة الدين، والزهاد الصالحين، صنف في التفسير كتابا لا نظير له، وكذا في الحديث كتابا مسندا على أبواب الفقه، لم ير مثله، ولم يكن متقيدا بمذهب معين بل كان يفتي بالدليل، وقد نشر الحديث في الأندلس. انظر (السير) (١٣/٢٨٥)، (تاريخ علماء الأندلس) ص ٨٢، (جذوة المقتبس) ص ١٦٧.
عبد الرحيم بن سليمان الكناني، أو الطائي، أبو على الأشل، المروزي، نزيل الكوفة، ثقة له تصانيف، من صغار الثامنة، مات سنة سبع وثمانين ومائة. (التقريب) [٤٠٨٤].
ابن أبي خالد، هو إسماعيل الأحمسي مولاهم، البجلي، ثقة ثبت، من الرابعة، مات سنة ست وأربعين ومائة. (التقريب) [٤٤٢].
شبيل بن عوف الأحمسي، أبو الطفيل الكوفي، مخضرم ثقة، لم تصح صحبته، وهو من الثانية، وشهد القادسية. (التقريب) [٢٧٦١].
تخريجه: أخرجه ابن أبي شيبة (٢/٣٨١)..

١٩ رجال الإسناد:
زهير بن معاوية بن حديج، أبو خيثمة الجعفي، الكوفي، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بآخره من السابعة. مات سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وسبعين ومائة. (التقريب) (٢٠٦٢).
حارثة بن مضرب بتشديد الراء المكسورة قبلها معجمة، العبدي الكوفي، ثقة من الثانية، غلط من نقل عن ابن المديني أنه تركه. (التقريب) [١٠٧٠].
تخريجه: أخرجه البيهقي في سننه (٤/١١٨-١١٩)، والدارقطني (٢/١٢٦)..

٢٠ محمود بن غيلان العدوي مولاهم، أبو أحمد المروزي، نزيل بغداد، ثقة من العاشرة، مات سنة تسع وثلاثين، وقيل بعد ذلك. (التقريب) [٦٥٥٩].
أخرجه البخاري (١٤٦٣) كتاب الزكاة، باب ليس على المسلم في فرسه صدقة، (١٤٦٤) في باب: ليس على المسلم في عبده صدقة (ولم يذكر الاستثناء)، و(مسلم) (٩٨٢) في (كتاب الزكاة: باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه. وليعلم أن الاستثناء الوارد في الحديث هو عند مسلم..

٢١ سبق تخريجه..
٢٢ (المحلى) (٤/٣٤-٣٥)..
٢٣ (المحلى) (٤/٣٩)..
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٠٧ ) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾
المسألة الأولى : في حكم الصلاة في مسجد الضرار.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أنه لا يجزيء أحدا الصلاة في مسجد الضرار ؛ لورود النهي عن ذلك.
قال ابن حزم : ولا تجزئ أحدا الصلاة في مسجد الضرار الذي بقرب قباء، لا عمدا ولا نسيانا ؛ لقول الله تعالى :﴿ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله ﴾١ إلى قوله تعالى :﴿ لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ﴾، فصح أنه ليس موضع صلاة٢. اه
١ قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر (الذين) بغير واو على أنه رفع بالابتداء، والخبر (لا تقم) التقدير: الذين اتخذوا مسجدا... لا تقم فيه أبدا. قاله الكسائي. وقال النحاس: يكون خبر الابتداء (لا يزال بنيانهم) وقيل غير ذلك. وقرأ الباقون بالواو على أنه معطوف. أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء، والخبر محذوف. انظر: معالم التتريل، للبغوي ٤/٩٣، وأحكام القرآن، لابن العربي ٢/٥٨١، والنشر في القراءات العشر، لابن الجزري ٢/٢١١..
٢ المحلى (٢/٣٦٢)..
قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
المسألة الثانية : في تحريق زروع المشركين، وهدم ديارهم وممتلكاتهم.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أن تحريق أشجار المشركين، وأطعمتهم، وزرعهم، ودورهم، وهدمها جائز، مستدلا على ذلك بأدلة منها الآية السابقة.
قال ابن حزم : وجائز تحريق أشجار المشركين، وأطعمتهم، وزرعهم، ودورهم، وهدمها. قال الله تعالى :﴿ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ﴾١ وقال تعالى :﴿ ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ﴾.
وقد أحرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير٢ - وهي في طرف دور المدينة – وقد علم أنها تصير للمسلمين في يومه أو غده. ٣ اه
١ الحشر (٥)..
٢ أخرج البخاري القصة في المغازي، باب: حديث بني النضير (٤٠٣١)، ومسلم في الجهاد، باب: جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها (٤٥٢٧)..
٣ المحلى (٥/٣٤٥)..
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
وفيه أربع مسائل :
المسألة الثالثة : في معنى الطائفة في اللغة، والمراد بها في الآية.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أن الطائفة في اللغة الواحد فصاعدا، وبهذا المعنى فسر الطائفة في هذه الآية.
قال ابن حزم : قول الله عز وجل :﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ﴾
والطائفة في لغة العرب التي بها خوطبنا يقع على الواحد فصاعدا، وطائفة من الشيء بمعنى بعضه، هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه١. اه
المسألة الرابعة : في صفة التفقه في الدين.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أن التفقه في الدين نوعان :
النوع الأول : التفقه الذي يلزم كل فرد من المسلمين، وهو المعروف عند الفقهاء بفرض عين.
والنوع الثاني : التفقه الواجب على الجماعة كلها حتى إذا قام بها بعضهم سقط عن الباقين، وهو المعروف بفرض الكفاية.
قال ابن حزم : قال الله تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ﴾٢
فبين الله عز وجل في هذه الآية وجه التفقه كله، وأنه ينقسم قسمين :
أحدهما : يخص المرء في نفسه وذلك مبين في قوله تعالى :﴿ ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ﴾ فهذا معناه تعليم أهل العلم لمن جهل حكم ما يلزمه.
والثاني : تفقه من أراد وجه الله تعالى، بأن يكون منذرا لقومه وطبقته. قال تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾٣
ففرض على كل أحد طلب ما يلزمه، على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه في تعرف ما ألزمه الله تعالى إياه.
وكل مسلم عاقل بالغ من ذكر أو أنثى، حر أو عبد، يلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضا بلا خلاف من أحد من المسلمين، وتلزم الطهارة والصلاة المرضى والأصحاء، ففرض على كل من ذكرنا أن يعرف فرائض صلاته وصيامه وطهارته وكيف يؤدي كل ذلك.
ثم فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو دسكرة٤ - وهي المجشرة عندنا – أو حلة أعراب، أو حصن أن ينتدب منهم – لطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها، ولتعلم القرآن كله، ولكتاب كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام أولها عن آخرها، وضبطها بنصوص ألفاظها، وضبط كل ما أجمع المسلمون عليه مما اختلفوا فيه – من يقوم بتعليمهم وتفقيههم من القرآن والحديث والإجماع. يكتفى بذلك على قدر قلتهم أو كثرتهم بالآية التي تلونا، فإذا انتدب لذلك من يقوم بما ذكرنا فقط سقط عن باقيهم إلا ما يلزمه خاصة نفسه فقط على ما ذكرنا آنفا٥.
المسألة الخامسة : فيمن كان بمكان لا يجد فيه من يتعلم منه أمور دينه.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أن من كان هذا حاله فإما أن يرحل من ذلك المكان إلى حيث يجد من يعلمه أمور الدين، أو يبق ويرحل إليه بنفسه أو عن طريق إمام المسلمين من يقوم بتعليمه.
قال ابن حزم : وكل من كان منا في بادية لا يجد فيها من يعلمه شرائع دينه ففرض على جميعهم من رجل أو امرأة أن يرحلوا إلى مكان يجدون فيه فقيها يعلمهم دينهم، أو أن يرحلوا إلى أنفسهم فقيها يعلمهم أمور دينهم، وإن كان الإمام يعلم ذلك فليرحل إليهم فقيها يعلمهم، قال الله تعالى :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ﴾٦ وقال تعالى :﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ﴾٧
وقال في موضع آخر : فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله كما ذكرنا ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المحتوين على صنوف العلم، وإن بعدت ديارهم، ولو أنهم بالصين ؛ لقوله تعالى :﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ﴾ والنفار والرجوع لا يكون إلا برحيل.
ومن وجد في محلته من يفقهه في صنوف العلم كما ذكرنا فالأمة مجمعة على أنه لا يلزمه رحيل في ذلك٨. اه
المسألة السادسة : في تعلم علم الحديث.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أن تعلم علوم الحديث فرض على الكفاية.
قال ابن حزم : وأما معرفة قراءة الحديث ففرض على الكفاية ؛ بقوله تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ﴾٩
ولا سبيل إلى التفقه في الدين إلا بمعرفة أحكام القرآن، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، صحيحه من سقيمه، وناسخه من منسوخه، وما أجمع عليه مما اختلف فيه، فهذا أفضل ما استعمل المرء فيه نفسه، وأعظم ما يحاول لأجره وأمحاه لذنوبه١٠. اه
١ انظر : الإحكام في أصول الأحكام، (المجلد ١/١٠٣-١٠٤) بتصرف..
٢ التوبة ١٢٢..
٣ النحل ٤٣..
٤ الدسكرة : بناء على هيئة القصر، فيه منازل وبيوت للخدم والحشم، وليست بعربية محضة. النهاية، لابن الأثير ص (٣٠٥)..
٥ الإحكام في أصول الأحكام (المجلد ٢/١١٣-١١٤)..
٦ النحل ١٢٥..
٧ التوبة ١٢٢..
٨ الإحكام في أصول الأحكام (المجلد ٢/١١٤، ١١٠-١١٥) باختصار..
٩ التوبة ١٢٢..
١٠ رسالة التلخيص لوجوه التخليص، في مجموع رسائل ابن حزم، ٣/١٦٤..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ﴾
المسألة السابعة : في الخروج للجهاد بدون إذن الإمام.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أن كل أحد مأمور بالجهاد وإن لم يأذن له الإمام أو يكن معه أحد.
قال ابن حزم : وكل من دخل من المسلمين فغنم في أرض الحرب سواء كان وحده أو في أكثر من واحد، بإذن الإمام وبغير إذنه، فكل ذلك سواء.
قال تعالى :﴿ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ﴾ فلم يخص بأمر الإمام ولا بغير أمره، ولو أن إماما نهى عن قتال أهل الحرب لوجبت معصيته في ذلك ؛ لأنه أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة له.
وقال تعالى :﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ﴾١ وهذا خطاب متوجه إلى كل مسلم، فكل أحد مأمور بالجهاد وإن لم يكن معه أحد٢. اه
١ النساء (٨٤)..
٢ المحلى (٧/٢٦٠)..
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾
فيه مسألتان :
المسألة الثامنة : في دخول العمل في مسمى الإيمان.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أن أعمال الجوارح من الطاعات يقع عليها اسم الإيمان شرعا.
قال ابن حزم : أصل الإيمان في اللغة : التصديق بالقلب وباللسان معا، بأي شيء صدق المصدق، لا شيء دون شيء البتة. إلا أن الله عز وجل على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة، لا على العقد لكل شيء.
وأوقعها أيضا تعالى على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة، لا بما سواها.
وأوقعها أيضا على أعمال الجوارح لكل ما هو طاعة له تعالى فقط، فلا يحل لأحد خلاف الله تعالى فيما أنزله وحكم به، وهو تعالى خالق اللغة وأهلها، فهو أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على الأشياء.
فمن الآيات التي أوقع الله تعالى فيها اسم الإيمان على أعمال الديانة قوله عز وجل :﴿ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا ﴾١ وقوله تعالى :﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا ﴾٢
فإن قال قائل : معنى زيادة الإيمان هاهنا إنما هو لما نزلت تلك الآية صدقوا فزادهم بترولها إيمانا وتصديقا بشيء وارد لم يكن عندهم.
قيل لهم :- وبالله تعالى التوفيق – هذا محال ؛ لأنه قد اعتقد المسلمون في أول إسلامهم أنهم مصدقون بكل ما يأتيهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام في المستأنف، فلم يزدهم نزول الآية تصديقا لم يكونوا اعتقدوه. فصح أن الإيمان الذي زادتهم الآيات إنما هو العمل الذي لم يكونوا عملوه، ولا عرفوه ولا صدقوا به قط، ولا كان جائزا لهم أن يعتقدون ويعملوا به، بل كان فرضا عليهم تركه والتكذيب بوجوبه، والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا فيما سواه، ولا عدد للاعتقاد ولا كمية، وإنما الكمية والعدد في الأعمال والأقوال فقط٣. اه.
المسألة التاسعة : في زيادة الإيمان ونقصانه.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أن الإيمان عقد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
قال ابن حزم : كل ذلك ( أي الإيمان والإسلام ) عقد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا عبد الله بن معاذ العنبري، ثنا أبي ثنا كهمس التميمي، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال : قال لي عبد الله بن عمر : حدثني أبي عمر بن الخطاب قال :( ( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواء الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى رسول الله وقال : يا محمد، أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ". قال : صدقت. فأخبرني عن الإيمان، قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ". قال : صدقت ). وذكر باقي الحديث، وفيه :( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا عمر، أتدري من السائل " ؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال : " فإنه جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم " )٤.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، ثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله بن محمد، ثنا أبو عامر العقدي، ثنا سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان " ٥.
حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن رمح، ثنا الليث، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنساء : " ما رأيت من ناقصات دين وعقل أغلب لذي لب منكن. قالت امرأة : يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين ؟ قال : أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين " ٦.
قال الله عز وجل :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾٧ فصح أن الدين هو الإسلام، وقد صح أن الإسلام هو الإيمان، فالدين هو الإيمان، والدين ينقص بنقص الإيمان ويزيد، وبالله تعالى التوفيق٨. اه.
١ التوبة ١٢٤..
٢ آل عمران ١٧٣..
٣ الفصل في الملل والأهواء والنحل (٣/٢٣٠-٢٣٥) باختصار.
٤ رجال الإسناد:
عبد الله بن يوسف بن نامي، الرهوني، من أهل قرطبة، يكنى أبو محمد، روى عن أحمد بن فتح التاجر، قال ابن مهدي: (كان رجلا صالحا خيرا فاضلا) وعنه أبو محمد علي بن أحمد، وأثنى عليه. اختلط في آخر عمره فترك الأخذ عنه، ذكر ذلك ابن حيان. مات سنة ٤٣٥ هـ)
انظر: جذوة المقتبس ص ٢٦٨ والصلة ١/٢٦٢، وبغية الملتمس ص ٣٥٣.
أحمد بن فتح بن عبد الله القرطبي، التاجر السفار، المعروف بابن الرسان، أبو القاسم، الشيخ الجليل، الثقة، المحدث، حمل (صحيح مسلم) عن أبي العلاء بن ماهان. روى عنه أبو عمر ابن عبد البر، والخولاني وقال: هو رجل صالح على هدى وسنة). مات سنة ٤٠٣ هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء ١٧/٢٠٥، والصلة ١/٣١.
عبد الوهاب بن عيسى بن عبد الرحمن، الفارسي، ثم البغدادي، أبو العلاء، الإمام المحدث. وثقه الدارقطني. مات سنة ٣٨٧ هـ وفي بعض المصادر ٨٨. انظر: سير أعلام النبلاء ١٦/٥٣٥، وحسن المحاضرة، للسيوطي ١/٣٧١، وشذرات الذهب، لابن العماد ٣/١٣٨-١٣٩.
أحمد بن محمد بن يحيى، النيسابوري، الأشقر، أبو بكر، ذكره الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام وقال: (شيخ أهل الكلام في عصره بنيسابور. وقال الحاك: صدوق في الحديث). مات في آخر سنة ٣٥٩ هـ. انظر: تاريخ الإسلام، للذهبي سنة ٣٥٩ ص ١٨٩.
أحمد بن علي بن الحسن القلانسي، وقعت روايته عن مسلم عند المغاربة، ولا يوجد له ذكر عند غيرهم، دخلت روايته إليهم من مصر بواسطة أمثال: أبي عبد الله محمد بن يحيى الحذاء التميمي القرطبي. انظر: يراجع صيانة صحيح مسلم ١/١١١، والفهرست، لابن خير الإشبيلي ص ١٠١.
مسلم بن الحجاج بن مسلم، القشيري، النيسابوري، ثقة، إمام حافظ، مصنف، عالم بالفقه، صاحب (الصحيح). مات سنة ٢٦١ هـ. وله سبع وخمسون سنة / ب انظر: تقريب التهذيب ترجمة ٦٦٦٧.
عبيد الله بن معاذ بن معاذ بن نصر العنبري، أبو عمرو البصري، ثقة حافظ، من العاشرة، مات سنة ٢٣٧ هـ / خ م د س انظر: المصدر السابق، ترجمة (٤٣٧٣). وتصويب اسمه من مصادر الترجمة.
معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان، العنبري، أبو المثنى، البصري، القاضي، ثقة متقن، من كبار التاسعة، مات سنة ١٩٦ هـ/ع انظر: المصدر السابق، ترجمة ٦٧٨٧.
كهمس بن الحسن التميمي، أبو الحسن البصري، ثقة، من الخامسة، مات سنة ١٤٩ هـ/ع انظر: المصدر السابق، ترجمة ٥٧٠٦.
عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، أبو سهل المروزي، قاضيها، ثقة، من الثالثة، مات سنة (١٠٥ هـ وقيل: بل خمس عشرة/ع) انظر: المصدر السابق، ترجمة ٣٢٤٤.
يحيى بن يعمر، بفتح التحتانية والميم بينهما مهملة ساكنة، البصري، نزيل مرو وقاضيها، ثقة فصيح، وكان يرسل، من الثالثة، مات قبل (١٠٠ هـ وقيل: بعدها / ع) انظر: المصدر السابق، ترجمة ٧٧٢٨.
عبد الله بن عمر بن الخطاب، العدوي، أبو عبد الرحمن، أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة، كان من أشد الناس اتباعا للآثر. مات سنة ٧٣ هـ في آخرها أو ألو التي تليها. / ع) انظر: الاستيعاب ٣/٩٥٠، لابن عبد البر والإصابة ٢/٣٤٧، لابن حجر، وتقريب التهذيب، ترجمة ٣٥١٤.
عمر بن الخطاب بن نفيل، القرشي، العدوي، يقال له: الفاروق، أمير المؤمنين، مشهور جم المناقب استشهد في ذي الحجة سنة ٢٣ هـ، وولي الخلافة عشر سنين ونصفا /ع انظر: الاستيعاب ٣/١١٤٤، والإصابة ٢/٥١٨، وتقريب التهذيب، ترجمة (٤٩٢٢).
يروي ابن حزم هنا صحيح مسلم في: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان (٩٣).
تخريج الحديث:
الحديث في صحيح مسلم كما سبق..

٥ رجال الإسناد:
عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، الهمذاني، الوهراني، ويعرف بابن الخراز، من أهل بحانة، يكنى أبا القاسم. سمع أبا بكر أحمد بن جعفر القطيعي وغيره، وروى عنه الإمامان: ابن عبد البر وابن حزم، قال أبو عمرو بن الحذاء: (كان رجلا صالحا منقبضا). وقال الخولاني: (رجل صالح صاحب سنة). مات سنة (٤١١ هـ). انظر: جذوة المقتبس ص (٢٧٥) والصلة ١/٣٠٥، وبغية الملتمس ص (٣٦٦).
إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم، الحافظ، أبو إسحاق، المستملي، البلخي، كان عالما عارفا بأحاديث أهل بلخ، ومشايخهم والتواريخ، وجمع علومهم، وكن يروي الصحيح الجامع للبخاري عن الفربري، مات ببلغ سنة (٣٧٦ هـ). انظر: الأنساب، للسمعاني ٥/٢٨٧، والتقييد لمعرفة الرواة، لابن نقطة ١/٢٢٠.
محمد بن يوسف بن مطر الفربري، أبو عبد الله، المحدث الثقة العالم، راوي الجامع الصحيح عن أبي عبد الله البخاري، سمعه منه بفربر مرتين. وممن حدث عنه أحمد المستملي، مات سنة (٣٢٠ هـ) انظر: سير أعلام النبلاء ١٥/١٠، ومعجم البلدان، لياقوت الحموي ٤/٢٤٦، والوافي بالوفيات، للصفدي ٥/٢٤٥.
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، الجعفي، أبو عبد الله البخاري، جبل الحفظ وإمام الدنيا في فقه الحديث من الحادية عشرة، مات سنة ٢٥٦ هـ في شوال / ت س) انظر: تقريب التهذيب، ترجمة (٥٧٦٤).
عبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي، أبو جعفر، البخاري، المعروف بالمسندي، بفتح النون، ثقة حافظ، جمع المسند، من العاشرة، مات سنة (٢٢٩ هـ) / خ ت) انظر: المصدر السابق، ترجمة (٣٦١٠).
عبد الملك بن عمر القيسي، أبو عام العقدي، بفتح المهملة والقاف، ثقة، من التاسعة، مات سنة (٢٠٤ أو ٢٠٥ هـ/ع) انظر: المصدر السابق، ترجمة ٤٢٢٧.
سليمان بن بلال التيمي مولاهم، أبو محمد وأبو أيوب المدني، ثقة، من الثامنة، مات سنة (١٧٧ هـ/ع). انظر: المصدر السابق، ترجمة ٢٥٥٤.
عبد الله بن دينار العدوي مولاهم، أبو عبد الرحمن المدني، مولى ابن عمر، ثقة، من الرابعة، مات سنة (١٢٧ هـ/ع). انظر: المصدر السابق، ترجمة (٣٣٢٠).
ذكوان، أبو صالح السمان الزيات، المدني، ثقة ثبت، من الثالثة، مات سنة (١٠١ هـ / ع) انظر: المصدر السابق، ترجمة (١٨٥٠).
أبو هريرة الدوسي، الصحابي الجليل، حافظ الصحابة، مات سنة (٨٧ هـ وقيل غير ذلك / ع). انظر: الاستيعاب ٤/١٧٦٨، والإصابة ٤/٢٠٢، وتقريب التهذيب، ترجمة (٨٤٩٣).
تخريج الحديث: أخرجه البخاري في: الإيمان، باب: أمور الإيمان ٩، ومسلم في: الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان (١٢)..

٦ رجال الإسناد:
عبد الله بن يوسف بن نامي، الرهوني، من أهل قرطبة، يكنى أبو محمد، روى عن أحمد بن فتح التاجر، قال ابن مهدي: (كان رجلا صالحا خيرا فاضلا) وعنه أبو محمد علي بن أحمد، وأثنى عليه. اختلط في آخر عمره فترك الأخذ عنه، ذكر ذلك ابن حيان. مات سنة ٤٣٥ هـ)
انظر: جذوة المقتبس ص ٢٦٨ والصلة ١/٢٦٢، وبغية الملتمس ص ٣٥٣.
أحمد بن فتح بن عبد الله القرطبي، التاجر السفار، المعروف بابن الرسان، أبو القاسم، الشيخ الجليل، الثقة، المحدث، حمل (صحيح مسلم) عن أبي العلاء بن ماهان. روى عنه أبو عمر ابن عبد البر، والخولاني وقال: هو رجل صالح على هدى وسنة). مات سنة ٤٠٣ هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء ١٧/٢٠٥، والصلة ١/٣١.
عبد الوهاب بن عيسى بن عبد الرحمن، الفارسي، ثم البغدادي، أبو العلاء، الإمام المحدث. وثقه الدارقطني. مات سنة ٣٨٧ هـ وفي بعض المصادر ٨٨. انظر: سير أعلام النبلاء ١٦/٥٣٥، وحسن المحاضرة، للسيوطي ١/٣٧١، وشذرات الذهب، لابن العماد ٣/١٣٨-١٣٩.
أحمد بن محمد بن يحيى، النيسابوري، الأشقر، أبو بكر، ذكره الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام وقال: (شيخ أهل الكلام في عصره بنيسابور. وقال الحاك: صدوق في الحديث). مات في آخر سنة ٣٥٩ هـ. انظر: تاريخ الإسلام، للذهبي سنة ٣٥٩ ص ١٨٩.
أحمد بن علي بن الحسن القلانسي، وقعت روايته عن مسلم عند المغاربة، ولا يوجد له ذكر عند غيرهم، دخلت روايته إليهم من مصر بواسطة أمثال: أبي عبد الله محمد بن يحيى الحذاء التميمي القرطبي. انظر: يراجع صيانة صحيح مسلم ١/١١١، والفهرست، لابن خير الإشبيلي ص ١٠١.
مسلم بن الحجاج بن مسلم، القشيري، النيسابوري، ثقة، إمام حافظ، مصنف، عالم بالفقه، صاحب (الصحيح). مات سنة ٢٦١ هـ. وله سبع وخمسون سنة / ب انظر: تقريب التهذيب ترجمة ٦٦٦٧.
محمد بن رمح بن المهاجر، التجيي مولاهم، المصري، ثقة ثبت، من العاشرة، مات سنة ٢٤٢ هـ / م ق). انظر: تقريب التهذيب، ترجمة (٥٩١٨).
الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، سبقت ترجمته ص ٤٤.
يزيد بن عبد الله بن أسامة الليثي، أبو عبد الله المدني، ثقة مكثر، من الخامسة، مات سنة (١٣٩ هـ /ع) انظر: المصدر السابق، ترجمة (٧٧٨٨).
عبد الله بن دينار العدوي مولاهم، أبو عبد الرحمن المدني، مولى ابن عمر، ثقة، من الرابعة، مات سنة (١٢٧ هـ/ع). انظر: المصدر السابق، ترجمة (٣٣٢٠).
عبد الله بن عمر بن الخطاب، العدوي، أبو عبد الرحمن، أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة، كان من أشد الناس اتباعا للآثر. مات سنة ٧٣ هـ في آخرها أو ألو التي تليها. / ع) انظر: الاستيعاب ٣/٩٥٠، لابن عبد البر والإصابة ٢/٣٤٧، لابن حجر، وتقريب التهذيب، ترجمة ٣٥١٤.
تخريج الحديث:
أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد في: الحيض، باب: ترك الحائض الصوم (٣٠٤)، ومسلم في: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات ٣٤..

٧ آل عمران (١٩)..
٨ المحلى (١/١١٠-١١١)..
قوله تعالى :﴿ فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ﴾.
المسألة العاشرة : في الإيمان بالعرش.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى الإيمان بوجود العرش، وأنه خلق من مخلوقات الله تعالى.
قال ابن حزم : والعرش مخلوق ؛ برهان ذلك قول الله تعالى :﴿ رب العرش العظيم ﴾ وكل ما كان مربوبا فهو مخلوق١.
١ المحلى (١/٦٣)..
Icon