تفسير سورة التوبة

تفسير الثعلبي
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعلبي .
لمؤلفه الثعلبي . المتوفي سنة 427 هـ
مدنية، وهي عشرة آلاف وأربعمائة وثمانون حرفاً، وأربعة آلاف وثمان وتسعون كلمة، ومائة وثلاثون آية
هشام بن عامر عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّه ما نزل عليَّ القرآن إلا آية آية وحرفاً حرفاً خلا سورة براءة، وقل هو الله أحد، فإنّهما أُنزلتا عليَّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة كل يقول : يا محمد استوص بنسبة الله خيراً ).
يزيد الرقاشي عن ابن عباس. قال : قلت لعثمان بن عفان ح : ما حملكم على أن ( عمدتم ) إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المَئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال ؟.
قال عثمان ح : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فلا انزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا، وينزل عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال مما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزلت، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ( فظننت أنها منها )، وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبين لنا أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم اكتب سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي، سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع السجزي بهراة يقول : سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي، سمعت عبد الجبار بن العلاء العطار يقول : سُئل سفيان بن عيينة : لِمَ لَمْ يكن في صدر براءة : بسم الله الرحمن الرحيم، فقال : لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين.

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٥]

بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
بَراءَةٌ رفع بخبر ابتداء مضمر أي: هذه الآيات براءة، وقيل: رفع بخبر معرّف الصفة على التقدير تقديره يعني إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ براءة بنقض العهد وفسخ العقد، وهي مصدر على فعالة كالشناءة والدناءة.
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إلى الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، كان هو المتولي على العقود وأصحابه كلهم بذلك راضون، فكأنهم عقدوا وعاهدوا فَسِيحُوا رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم: سيحوا أي سيروا فِي الْأَرْضِ مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من أحد من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر «١».
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يقال: ساح في الأرض يسيح سياحة وسيوحا وسياحا وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي غير فائتين ولا سابقين وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ أي مذلّهم ومورثهم العار في الدنيا وفي الآخرة.
واختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله منهم ورسوله إليكم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله من المشركين.
فقال محمد بن إسحاق وغيره من العلماء: هم صنفان من المشركين: أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل تمام أربعة أشهر، والآخر كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه ثم [....] «٢» بحرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين، يقتل حيث ما أدرك، ويؤسر إلى أن يتوب وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر، وانتهاؤه إلى عشر من ربيع الآخر.
وأما من لم يكن له عهد فإنّما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوما، وقال الزهري: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال، وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم عهد دون أربعة أشهر، فأتمّ له الأربعة الأشهر، ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر، فهذا الذي أمر أن يتم له عهده، وقال:
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ٨٧.
(٢) كلمة مطموسة في الأصل.
6
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ،
وقال مقاتل: نزلت في ثلاثة أحياء من العرب: خزاعة وبني مذحج وبني خزيمة كان النبي صلى الله عليه وسلّم عاهدهم بالحديبية سنتين فجعل الله عز وجل أجلهم أربعة أشهر، ولم يعاهد النبي صلى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية أحدا من الناس.
وقال الحسن: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلّم وأمره أن يدعو إلى التوحيد والطاعة، وفرض عليه الشرائع، وأمره بقتال من قاتله من المشركين، فقال: قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وكان لا يقاتل إلّا من قاتله، وكان كافّا عن أهل العهد الذين كانوا يعاهدونه الثلاثة والأربعة الأشهر حتى ينظروا في أمرهم، فإما أن يسلموا وإما أن يؤذنوا بالحرب، ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم وأجلهم أربعة أشهر على أن يسلموا أو يؤذنوا بالحرب، ولم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر، لا من كان له عهد قبل البراءة، ولا من لم يكن له عهد، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر، وأحلّ دماء المشركين كلهم من أهل العهد وغيرهم بعد انقضاء الأجل.
قال عبد الرحمن بن زيد: نقض كل عهد كان أكثر من أربعة أشهر فردّه إلى الأربعة،
وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: نزلت في أهل مكة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاهد قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، فدخلت خزاعة في عهد محمد صلى الله عليه وسلّم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان مع ذا عهود من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن قبائل من العرب خصائص، فعدت بنو بكر على خزاعة [فقتلوا رجلا] منها ورفدتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهودهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال:
يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه إلا تلدا
كنت لنا أبا وكنا ولدا ثمّت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا [عتدا] وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجرّدا أبيض مثل الشمس ينمو صعدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا في فيلق في البحر تجري مزبدا
إن قريشا لموافوك «١» الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعوا أحدا وهم أذلّ وأقلّ عددا
هم [وجدونا] بالحطيم هجّدا وقتلونا ركّعا وسجّدا «٢»
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنصرف إن لم أنصركم» [١] فخرج وتجهز إلى مكة، وفتح الله مكة
(١) في تفسير القرطبي: أخلفوك، وهو الصواب بحسب ما يظهر من السياق.
(٢) انظر تفسير القرطبي: ٨/ ٦٥.
7
وهي سنة ثمان من الهجرة، ثم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف جعل المشركون ينقضون عهودهم، وأمره الله بإلقاء عهودهم إليهم ليأذنوا بالحرب، وذلك قوله تعالى وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ الآية.
فلمّا كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحج فقال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة ولم [........] «١» أن حج حتى لا يكون ذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر رضي الله عنه تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، فلمّا سار دعا صلى الله عليه وسلّم عليا فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذّن بذلك في الناس إذا اجتمعوا».
فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الجدعاء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة فأخذها منه فرجع أبا بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل بشأني شيء؟
قال: «لا ولكن لا يبلّغ عني غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنّك كنت معي في الغار وأنّك صاحبي على الحوض» [٢] «٢». قال: بلى يا رسول الله، وذلك أن العرب جرت عادتها في عقد عهودها ونقضها أن يتولى ذلك عن القبيلة رجل منهم فبعث النبي صلى الله عليه وسلّم عليا لئلا، يقولوا: هذا خلاف ما نعرفه في بعض العهود.
قال جابر: كنت مع علي رضي الله عنه حتى أتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر، فلمّا كنا [بالعرج ثوب] بصلاة الصبح، فلمّا استوى أبو بكر ليكبّر سمع الرغاء فوقف وقال: هذه رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الجدعاء، لقد بدا لرسول الله في الحج، فإذا عليها عليّ، فقال أبو بكر أمير أم مأمور؟
قال: بل ارسلني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببراءة أقرأها على الناس، فكان أبو بكر أميرا على الحج وعليا ليؤذن ببراءة، فقدما مكة، فلمّا كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم وأقام للناس بالحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على مناسكهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذّن في الناس بالحج بالذي أمره به، وقرأ عليهم سورة براءة «٣».
قال الشعبي: حدّثني محمد بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلّم ينادي، وكان إذا [ضحل] «٤» صوته ناديت قلت: بأيّ شيء كنتم تنادون؟ قال: بأربع لا يطف بالكعبة عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فعهده إلى مدّته، ولا تدخل الجنة إلا
(١) كلام مطموس في الأصل.
(٢) زاد المسير لابن الجوزي: ٣/ ٢٦٦.
(٣) سنن الدارمي: ٢/ ٦٧، سنن الترمذي: ٤/ ٣٣٩.
(٤) الضحل: الماء القليل على وجه الأرض لا عمق له وفي بعض المصادر: اضمحل.
8
نفس مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك، قالوا: فقال المشركون: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب، وطفقوا يقولون: اللهم أنا قد منعنا أن نبرّك، فلمّا كان سنة عشر حج النبي صلى الله عليه وسلّم حجة الوداع، ونقل إلى المدينة، فمكث بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وليالي من شهر ربيع الأول حتى لو لحق بالله عز وجل.
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ عطف على قوله بَراءَةٌ، ومعناه: إعلام، ومنه الأذان بالصلاة، يقال:
أذنته فأذن أي أعلمته فعلم، وأصله من الأذن أي أوقعته في أذنه، وقال عطية العوفي [و... ] «١»
[الأذان] وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ إلى قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً الآية، وذلك ثمان وعشرون آية.
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ اختلفوا فيه فقال أبو جحيفة وعطاء وطاوس ومجاهد: يوم عرفة، وهي رواية عمرو عن ابن عباس، يدل عليه
حديث أبي الصّهباء البكري، قال: سألت علي بن أبي طالب عن يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يعلم الناس الحج وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة، فخطب الناس يوم عرفة فلمّا قضى خطبته التفت اليّ وقال: هلمّ يا علي فأدّ رسالة رسول الله، فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة، ثم صدرنا حتى أتينا منى، فرميت الجمرة ونحرت البدنة وحلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا كلهم خطبة أبي بكر رضي الله عنه يوم عرفة فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرأها عليهم، فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر ألا وهو يوم عرفة «٢».
وروى شهاب بن عباد القصري عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: هذا يوم عرفة يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فلا يصومنّه أحد. قال: فحججت بعد أبي فأتيت المدينة فسألت عن أفضل أهلها فقالوا: سعيد بن المسيب، فأتيته فقلت: أخبرني عن صوم يوم عرفة فقال: أخبرك عمّن هو أفضل مني مائة ضعف عن عمر وابن عمر، كان ينهى عن صومه ويقول هو يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.
وقال معقل بن داود: سمعت ابن الزبير يقول يوم عرفة: هذا يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فلا يصمه أحد، وقال غالب بن عبيد الله: سألت عطاء عن يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فقال: يوم عرفة فاقض منها قبل طلوع الفجر.
وقال قيس بن مخرمة: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشية عرفة ثم قال: أما بعد- وكان لا يخطب إلّا قال أما بعد- فإنّ هذا يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ «٣»
، وقال نافع بن جبير، وقيس بن عباد، وعبد الله
(١) كلام غير مقروء.
(٢) البداية والنهاية لابن كثير: ٥/ ٤٧.
(٣) تفسير الطبري: ١٠/ ٨٩.
9
ابن شراد، والشعبي والنخعي والسدي، وابن زيد هو يوم النحر وهو إحدى الروايتين عن علي رضي الله عنه.
قال يحيى بن الجواد: خرج علي رضي الله عنه يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبّانة فجاءه رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فقال: هو يومك هذا فخلّ سبيلها.
وقال عياش العامري: سئل عبد الله بن أبي أوفى عن يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فقال: سبحان الله هو يوم النحر يوم يهراق فيه الدماء ويحلق فيه الشعر ويحل فيه الحرام.
وروى الأعمش عن عبد الله بن سنان. قال خطبنا المغيرة بن شعبة على ناقة له يوم الأضحى فقال: هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.
وروى شعبة بن أبي بشر، قال: اختصم علي بن عبد الله بن عباس ورجل من آل شيبة في يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فقال علي: هو يوم النحر، وقال الذي من آل شيبة: هو يوم عرفة فأرسلوا إلى سعيد بن جبير فسألوه فقال: هذا يوم النحر إلا ترى أنه من فاته يوم عرفة لم يفته الحج، وإذا فاته يوم النحر فقد فاته الحج، يدل عليه ما
روى الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في نفر بعثهم يوم النحر يؤذّنون بمنى: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فأردف رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا يأمره أن يؤذّن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذّن معنا علي كرم الله وجهه أهل منى يوم النحر ببراءة.
صالح عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن أبا بكر بعث في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل حجة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس: لا يحجّنّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فكان حميد يقول: يوم النحر يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ
من أصل حديث أبي هريرة.
ابن عيينة عن ابن جريج عن مجاهد قال: يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ حين الحج أيام منى كلها ومجامع المشركين بعكاظ وذي المجارة ومخشة، ويوم نادى فيه علي بما نادى
، وكان سفيان الثوري يقول: يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أيامه كلّها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث «١» والزمان، لأن كل حرب من هذه الحروب كانت أياما كثيرة.
واختلفوا أيضا في السبب الذي لأجله قيل: هذا اليوم يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. فقال الحسن:
يسمّى الحج الأكبر من أجل أنه اجتمع فيها حج المسلمين والمشركين، وقال عبد الله بن الحرث ابن نوفل: يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ كان لحجة الوداع، اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين، ولم يجتمع قبله ولا بعده.
(١) يوم بعاث: حرب كانت بين الأوس والخزرج. [.....]
10
وروى منصور وحماد عن مجاهد قال: يقال الحج الأكبر القرآن، والحج الأصغر أفراد الحج، وقال الزهري والشعبي وعطاء: الحج الأكبر: الحج، والحج الأصغر: العمرة، وقيل لها [..........] «١» عملها [..........] «٢» من الحج.
قوله عز وجل: أَنَّ اللَّهَ قرأ عيسى إِنَّ اللَّهَ بالكسر على الابتداء لأن الأذان قول بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ قراءة العامة بالرفع على الابتداء وخبره مضمر تقديره: ورسوله أيضا بريء، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب (وَرَسُولَهُ) بالنصب عطفا على اسم الله، ولم يقل بريئان لأنه يرجع إلى كل واحد منهما كقول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فأني وقيار بها لغريب «٣»
وروي عن الحسن وَرَسُولِهِ بالخفض على القسم، وبلغني أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ هذه القراءة. فقال: إن كان أمرا من رسوله فإني بريء منه أيضا، فأخذ الرجل [بتلنته] وجرّه إلى عمر ابن الخطاب، فقص الأعرابي قصته وقوله أيضا، فعند ذلك أمر عمر بتعليم العربية.
فَإِنْ تُبْتُمْ رجعتم من كفركم وأخلصتم بالتوحيد فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الإيمان [إلى الإصرار] على الكفر فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ وأخبر الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ثم قال: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ.
وهو استثناء من قوله: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الناس إلا من الذين عاهدتم مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من عهدكم الذي عاهدتموهم عليه وَلَمْ يُظاهِرُوا يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من عدوكم بأنفسهم ولا بسلاح ولا بخيل ولا برجال ولا مال.
وقرأ عطاء بن يسار ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوكُمْ بالضاد المعجمة من نقض العهد، وقرأ العامة بالصاد.
قوله فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ فأوفوا بعهدهم إِلى مُدَّتِهِمْ أجلهم الذي عاهدتموهم عليه ف إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وهم بنو ضمرة وكنانة وكان بقي لهم من مدتهم تسعة أشهر فأمر بإتمامها لهم فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ انتهى ومضى وقتها، يقال: منه سلخت أشهر كذا نسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجنا. قال الشاعر:
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي «٤»
وفيه قيل: شاة مسلوخة المنزوعة من جلدها، وحية سالخ إذا أخرجت من جلدها الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ
(١) كلام مطموس في الأصل.
(٢) كلام مطموس في الأصل.
(٣) قيار: قيل اسم جمل وقيل اسم فرس، والبيت في لسان العرب: ٥/ ١٢٥.
(٤) لسان العرب: ٣/ ٢٥.
11
وهي أربعة، ثلاثة فرد، وواحد زوجي وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب.
وقال مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمر بن شعيب: هي شهور العهد، وقيل لها الحرم لأن الله حرّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم إلا سبيل الخير فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الحلّ والحرم، وجدتموهم فأسروهم وَاحْصُرُوهُمْ وامنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي على كل طريق ومرقب، يقال:
رصدت فلانا أرصده رصدا إذا رقبته. قال عامر بن الطفيل.
ولقد علمت وما إخالك ناسيا أن في المنيّة للفتى بالمرصد «١»
فَإِنْ تابُوا من الشرك وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ يقول: دعوهم في أمصارهم، ودعوهم يدخلوا مكة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [........] «٢» في حكم هذه الآية.
قال الحسين بن الفضل: فنسخت هذه الآية كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء، وقال الضحاك والسدّي وعطاء: قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) منسوخة بقوله:
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً «٣» وقال قتادة: بل هي ناسخة لقوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً.
والصحيح أنّ حكم هذه الآية ثابت، وأنها غير منسوخة إحداهما بصاحبتها لأنّ المنّ، والقتل، والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهم من أول حاربهم وهو يوم بدر، ويدلّ عليه قوله تعالى: وَخُذُوهُمْ والأخذ هو الأسر، والأسر إنّما يكون للقتل أو الفداء، والدليل عليه أيضا
قول عطاء قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلّم بأسير يقال له أبو أمامة وهو سيد اليمامة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم:
«يا أبا أمامة أيّها أحب إليك: أعتقك أو أفاديك أو أقتلك أو تسلم؟» [٣]. فقال: أن تعتق تعتق عظيما، وأن تفاد عظيما، وإن تقتل تقتل عظيما، وأما أن أسلم فلا والله لا أسلم أبدا.
قال فأني أعتقتك. فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسوله.
وكانت مادّة ميرة مكة من قبل اليمامة فقال لأهل مكة: والذي لا إله إلا هو لا تأتيكم ميرة أبدا، ولا حبّة من قبل اليمامة حتى تؤمنوا بالله ورسوله فأضرّ إلى أهل مكة فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أيّهم له حزب يشكون ذلك إليه، فكتب إلى أبي أمامة: لا تقطع عنهم ميرة كانت من قبلك، ففعل ذلك أبو أمامة.
(١) انظر: تفسير القرطبي: ٨/ ٧٣.
(٢) كلام غير مقروء.
(٣) سورة محمّد: ٤.
12

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦ الى ١١]

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ معناه وإن استجارك أحد، لأن حروف الجر لا تلي غير الفعل يقول الشاعر:
عاود هراة وإن معمورها خربا «١»، أي وإن غرب معمورها. وقال أخر:
أتجزع إن نفس أتاها حمامها فهلّا التي عن بين جنبيك تدفع «٢»
ومعنى الآية: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين أمرتك بقتالهم وقبلهم اسْتَجارَكَ أي استعاذ بك واستأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله فَأَجِرْهُ فأعذه وأمنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ فتقيم عليه حجة الله، وتبين له دين الله عز وجل، فإن أسلم فقد نال عز الإسلام وخير الدنيا والآخرة وصار رجلا من المسلمين، وإن أبي أن يسلم ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ دار قومه فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ دين الله وتوحيده.
قال الحسن: وهذه الآية محكمة إلى يوم القيامة وليست بمنسوخة.
قال سعيد بن جبير:
جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلامه أو يأتيه لحاجته، فقال علي لا لأن الله عز وجل يقول:
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ الآية.
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ على [معنى] التعجب، ومعناه جحد أي لا يكون لهم عهد، كما تقول في الكلام: هل أنت إلا واحد منّا، أي أنت، وكيف يستيقن مثلك؟ أي لا يستيقن، ومنه:
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
ثم استثنى فقال: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ واختلفوا فيه فقال ابن عياش:
هم قريش،
وقال قتادة وابن زيد: هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الحديبية، قال
(١) الصحاح: ٦/ ٢٥٣٥.
(٢) القاموس المحيط: ٤/ ٢٥٠.
13
الله عز وجل فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ على العهد فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قالوا: فلم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد الفتح بأربعة أشهر يختارون من أمرهم أما أن يسلموا، واما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا، فأسلموا قبل الأربعة أشهر.
قال السدي وابن إسحاق والكلبي: هم من قبائل بكر بن خزيمة وهو مدلج وبنو ضمرة وبنو الدئل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش، وعقدهم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله وبين قريش، فلم يكن نقضها إلا قريش وبنو الدئل من بني بكر، فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض من بني بكر إلى مدته، وهذا القول أقرب إلى الصواب، لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة، فكيف يأتي شيء قد مضى.
فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ وإنما هم الذين قال الله عز وجل إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً كما نقصكم قريش، وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً كما ظاهرت [من] قريش بني بكر على خزاعة [سلفا] رسول الله (صلى الله عليه وسلّم).
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ مردود على الآية الأولى تقديره: كيف يكون لهؤلاء عهود وهم إن يظهروا عليكم يظفروا فيقتلوكم لا يَرْقُبُوا قال ابن عباس: لا يحفظوا، وقال الأخفش: كيف لا يقتلونهم، وقال الضحاك: لا ينتظروا، وقال قطرب: لا يراعوا فِيكُمْ إِلًّا قال ابن عباس والضحاك: قرابة، وقال يمان: رحما، دليله قول حسان:
لعمرك إنّ إلّك من قريش كإلّ السقب من رأل النعام «١»
وقال قتادة: الإلّ: الحلف، دليله قول أوس بن حجر:
لولا بنو مالك والالّ من فيه ومالك فهم اللألاء والشرف
وقال السدّي وابن زيد: هو العهد، ولكنه لما اختلف الفظان كرّر وإن كان معنا هما واحدا كقول الشاعر:
وألفى قولها كذبا ومينا «٢»
وهو إحدى الروايتين عن مجاهد يدلّ عليه قول الشاعر:
وجدناهم كاذبا إلّهم وذو الإلّ والعهد لا يكذب «٣»
وقيل: هو اليمين والميثاق، وقال أبو مجلز ومجاهد في ساير الروايات: الإلّ هو الله عز
(١) لسان العرب: ١١/ ٢٦.
(٢) الصحاح: ٦/ ٢٢١٠، والجمع: ميون، ولسان العرب: ١٣/ ٤٢٥.
(٣) تفسير الطبري: ١٠/ ١١٠.
14
وجل، وكان عبيد بن عميرة يقرأ جبرإلّ بالتشديد «١»، يعني عبد الله، وفي الخبر أنّ ناسا قدموا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه من قوم المسلمين فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرأوا، فقال أبو بكر: إن هذا الكلام لم يخرج من إلّ.
والدليل على هذا التأويل قراءة عكرمة: لا يرقبون في مؤمن ايلا، بالياء يعني بالله عز وجل مثل جبرئيل وميكائيل وَلا ذِمَّةً عهدا وجمعها ذمم، وقيل: تذمما ممن لا عهد له يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ يعطونكم ويرونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم مثل قول المنافقين وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ الإيمان وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ ناكثون ناقضون كافرون.
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا وذلك أنّهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين الرسول الله صلى الله عليه وسلّم لمّا أطعمهم أبو سفيان بن حرب، وقال مجاهد: أطعم أبو سفيان حلفا وترك حلف محمد صلى الله عليه وسلّم فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فمنعوا الناس عن دينه وعن الدخول فيه، قال عطاء كان أبو سفيان يعطي الناقة والطعام ليصدّ الناس بذلك عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلّم، وقال ابن عباس: وذلك أن أهل الطائف أمدّوهم بالأموال ليقوّوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعداوته.
إِنَّهُمْ ساءَ بئس ما كانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يقول: لا تبقوا عليهم أيّها المؤمنون كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم «٢».
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ بنقض العهد فَإِنْ تابُوا من الشرك وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ يعني فهم إخوانكم فِي الدِّينِ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قال ابن عباس: حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة.
وقال ابن زيد: افترض الصلاة والزكاة جميعا ولم يفرق بينهما، وأبي أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر فكان ما أفقهه، وقال ابن مسعود: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكّ لا صلاة له.
(١) أي اللام المشددة ومرادة: (جبر) وهو عبد، و (إل) هو الله.
(٢) تفسير الطبري: ١٠/ ١١٢. [.....]
15

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢ الى ١٨]

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
وَإِنْ نَكَثُوا نقضوا يقال منه: نكث فلان قويّ حبله إذا نقضه أَيْمانَهُمْ عهودهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ عقدهم وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ثلبوه وعابوه وذلك انهم قالوا: ليس دين محمد بشيء فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قرأ أهل الكوفة أأمّة الكفر بهمزتين على التحقيق لأن أصلها أمّمة مثل:
مثال وأمثله وعماد وأعمدة، ثم أدغمت الميم التي هي عن أفعلة في الميم الثانية ونقلت حركتها إلى الهمزة الساكنة التي هي فاء الفعل فصار أئمة، فإنّما كتبت الهمزة الثانية ياء لما فيها من الكسرة وهي لغة تميم، وقرأ الباقون: أيمة [بهمزة واحدة] من دون الثانية طلبا للخفّة، أَئِمَّةَ الْكُفْرِ: رؤس المشركين وقادتهم من أهل مكة.
قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد، وهم الذين همّوا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلّم وقال مجاهد: هم أهل فارس والروم، وقال حذيفة بن اليمان: ما قوتل أهل هذه الآية ولم يأت أهلها بعد إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ عهودهم، جمع يمين أي وفاء باليمين. قال قطرب:
لا وفاء لهم بالعهد وأنشد:
وإن حلفت لا ينقض النّأي عهدها فليس لمخضوب البنان يمين «١»
الحسين وعطاء وابن عامر: لا إِيمانَ لَهُمْ بكسر الهمزة، ولها وجهان: أحد هما لا تصديق لهم، يدل عليه تأويل عطية العوفي قال: لا دين لهم ولا ذمّة، فلا تؤمنوا بهم فاقتلوهم، حيث وجدتموهم فيكون مصدرا من الإيمان الذي هو ضد الإخافة قال الله عز وجل: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم، وقيل: عن الكفر.
ثم قال حاضّا المسلمين على جهاد المشركين أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ نقضوا عهودهم وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ محمد صلى الله عليه وسلّم من مكة وَهُمْ بَدَؤُكُمْ بالقتال أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني يوم بدر، وقال أكثر المفسرين: أراد بدءوكم بقتال خزاعة حلفاء رسول الله أَتَخْشَوْنَهُمْ أتخافونهم فتتركون قتالهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ تخافوه في ترككم قتالهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ يقتلهم الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ يذلّهم بالأسر والقهر وَيَنْصُرْكُمْ ويظهركم عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ ويبرئ قلوب قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ بما كانوا ينالونه من الأذى
(١) تفسير القرطبي: ٨/ ٨١.
16
والمكروه منهم. قال مجاهد والسدي: أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ كربها ووجدها بمعونة قريش نكدا عليهم.
ثم قال مستأنفا وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ يهديه للإسلام كما فعل بأبي سفيان، وعكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وقرأ الأعرج وعيسى وابن أبي إسحاق:
وَيَتُوبَ على النصب على الصرف.
قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أظننتم، وإنما دخل الميم لأنه من الاستفهام المعترض بين الكلام فأدخلت فيه أم ليفرّق بينه وبين الاستفهام والمبتدأ، واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية: قال الضحاك عن ابن عباس قال: يعني بها قوما من المنافقين كانوا يتوسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالخروج معه للجهاد دفاعا وتعذيرا والنفاق في قلوبهم.
وقال سائر المفسرين: الخطاب للمؤمنين حين شقّ على بعضهم القتال وكرهوه فأنزل الله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا ولا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب، والمطيع من العاصي وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ في تقدير الله، والألف صلة جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم، وقال قتادة وَلِيجَةً: خيانة وقال الضحّاك: خديعة، وقال ابن الأنباري: الوليجة قال:
خيانة، والولجاء الدخلاء، وقال الليثي: خليطا وردا.
وقال عطاء: أولياء، وقال الحسن: هي الكفر والنفاق، وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم ووليجة، وأصله من الولوج ومنه سمي [الكناس] الذي يلج فيه الوحش تولجا. قال الشاعر:
من زامنها الكناس تولّجا
فوليجة الرجل من يختصه بدخلة منها دون الناس يقال: هو وليجتي وهم وليجتي للواحد وللجميع. وأنشد أبان بن تغلب:
فبئس الوليجة للهاربين والمعتدين وأهل الريب «١»
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قراءة العامة بالتاء متعلق بالله بقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ وروى الحسن عن أبي عمرو بالياء ومثله روى عن يعقوب أيضا.
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ قال ابن عباس: لمّا أسر أبي يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيّروه بكفره بالله عز وجل وقطيعة الرحم وأغلظ عليّ له القول، فقال العباس:
(١) فتح القدير: ٢/ ٣٤٢.
17
إنكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، قال له علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم، إنا لنعمر المسجد ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك: العاني، فأنزل الله تعالى رادّا على العباس ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ «١» يقول: ما ينبغي للمشركين أَنْ يَعْمُرُوا، قرأت العامة بفتح الياء وضم الميم من عمر يعمر، وقرأ ابن السميقع يُعْمِرُوا بضم الياء وكسر الميم أي يعينوا على العمارة، أو يجعلوه عامرا، ويريد: إن المساجد إنما تعمر بعبادة الله وحده، فمن كان بالله كافرا فليس من شأنه أن يعمرها، وقال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام.
واختلف القراء في قوله: (مَساجِدَ اللَّهِ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي رباح وحميد بن كثير وأبو عمرو: مسجد الله بغير ألف أرادوا المسجد الحرام، واختاره أبو حاتم لقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ، وقرأ الباقون (مَساجِدَ) بالألف على الجمع، واختاره أبو عبيد لأنّه أعم القراءتين.
قال الحسن: فإنّما قال (مَساجِدَ اللَّهِ) لأنّه قبلة المساجد كلها وأمامها، وقال أبو حاتم أنّ عمران بن جدير قال لعكرمة: إنما يقرأ: مَساجِدَ اللَّهِ وإنّما هو مسجد واحد؟ فقال عكرمة: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، وقال الضحاك ومجاهد: حدّث العرب بالواحد إلى الجمع والجمع إلى الواحد، ألا ترى الرجل على البرذون يقول ركبت البراذين؟ ويقال للرجل: إنّه لكثير الدر والذمار، وتقول العرب: عليه أخلاق نعل واسمال ثوب. وأنشدني أبو الجراح العقيلي:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق وشرذم يضحك مني التواق «٢»
يعني: خلق.
وقوله: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أراد وهم شاهدون، فلمّا طرحت (وهم) نصبت، وقال الحسن: يقولون: نحن كفار [نشهد] عليهم بكفرهم، وقال السدّي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هي أن النصراني يسأل: ما أنت فيقول: نصراني، واليهودي فيقول: يهودي والصابئي، فيقول: صابئي ويقال للمشرك: ما دينك؟ فيقول: مشرك.
وقال حمزة عن الضحاك عن ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم وإقرارهم بأنّها مخلوقة، وذلك أنّ كبار قريش نصبوا أصنامهم خارجا من بيت الله الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف وعلينا ثياب قد عملنا فيها بالمعاصي، وكانوا يصفقون ويصفرون ويقولون:
إن تغفر اللهم تغفره جمّا،... وأي عبد لك لا ألمّا [... ]
«٣»
(١) أسباب النزول للواحدي: ١٦٣.
(٢) الصحاح: ٤/ ١٤٥٣ ويروى: النواق.
(٣) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
18
سجدوا لأصنامهم فلم يزيدوا بذلك من الله إلّا بعدا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ.
ثم قال: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ قرأ العامة بالألف، وقرأ الجحدري: مسجد الله أراد المسجد الحرام مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [لأنّ عسى] «١» من الله واجب فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله عز وجل يقول إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [٤] «٢».
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٩ الى ٢٣]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ [أي أهل سقاية].
عن معاوية بن سلام عن زيد ابن أبي سلام عن النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد سقي الحاج، قال الآخر: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت دخلت واستفتيت رسول الله فيما اختلفتم فيه فقال: فأنزل الله أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلى قوله الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قال: قال العباس بن عبد المطلب: لئن كنتم سبقتمونا بالهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يعني: إن ذلك كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك. عطية العوفي قال: إن المشركين قالوا: إعمار بيت الله والقيام على السقاية خير ممّن آمن وجاهد، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله وعمّاره، فأنزل الله هذه الآية وأخبرهم أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على
(١) زيادة عن تفسير القرطبي.
(٢) مسند أحمد: ٣/ ٦٨.
19
السقاية لا تنفعهم عند الله مع الشرك، وأن الإيمان بالله والجهاد مع نبيّه خير مما هم عليه.
الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرضي: نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة، وذلك أنهم افتخروا فقال طلحة: إنّ البيت بيدي مفاتيحه ولو أشاء بتّ فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بتّ في المسجد، وقال علي رضي الله عنه: لا أدري ما تقولون لقد صلّيت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
وقال ابن سيرين ومرّة الهمداني عن ابن عباس أن عليا قال للعباس: ألا تهاجر وتلحق بالنبي؟ فقال: ألست في أفضل من الهجرة؟ ألست أسقي حاج بيت الله واعمر المسجد الحرام؟
فنزلت هذه «٢» الآية.
وعند ما أمروا بالهجرة قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة أخو بني عبد الدار:
وأنا صاحب الكعبة فلا نهاجر.
والسقاية مصدر كالرعاية والحماية، قال الضحّاك: السقاية بضم السين وهي لغة.
وفي معنى الآية وجهان أحدهما أن يجعل الكلام مختصرا تقديره: أجعلتم سقاية وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله وجهاد من جاهد في سبيل الله، وهذا كما تقول: السخاء حاتم، والشعر زهير وقال الشاعر:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كل فتى ندي «٣»
والوجه الآخر أن يجعل العمارة والسقاية بمعنى العامر والساقي تقديره: أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، يدلّ عليه قراءة عبد الله بن الزبير وأبي وجزة السعدي: أجعلتم سقّاء الحاج وعمّار المسجد الحرام على جمع الساقي والعامر لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
قال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا.
وقال الحسن:
وكانت السقاية نبيذ زبيب.
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ من الذين افتخروا بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ الناجون من النار يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ دائم
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ١٢٤، وزاد المسير: ٣/ ٢٧٩.
(٢) زاد المسير: ٣/ ٢٧٩.
(٣) مغني اللبيب: ٢/ ٦٩١.
20
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ قال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها منزلة في قصة العباس وعلي قبل الهجرة،
قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما أمر الله عزّ وجل المؤمنين بالهجرة وكانت قبل فتح مكة، من آمن ولم يكتمل إيمانه إلّا بمجانبة الآباء والأقرباء إن كانوا كفارا، فقال المسلمون: يا نبي الله إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا أباءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وخربت دارنا، فأنزل الله هذه الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لابنه وأخيه وامرأته وقرابته: إنّا قد أمرنا بالهجرة إلى المدينة فاخرجوا معنا إليها فمنهم من يعجبه ذلك ويسارع إليه، ومنهم من أبى على صاحبه [وتعلق به] فيقول الرجل لهم: والله لئن ضمني وإياكم دار الهجرة فلا أنفعكم بشيء أبدا ولا أعطيكم ولا أنفق عليكم، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده ويقولون: أنشدك الله أن تضيعنا فيرق [قلبه] فيجلس ويدع الهجرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدّوا عن الإسلام فنهى الله عز وجل عن ولايتهم «١» فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم أسراركم، ومن المقام بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام.
إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فهم في صورة الإسلام وأهله و [في] المكث معهم على الهجرة والجهاد فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ العاصون الواضعون [.....] «٢»
في غير موضعها.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
ثم قال: قُلْ يا محمد للمتخلّفين عن الهجرة والجهاد إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وقرأ أبو رجاء ويعقوب وعشيراتكم بالألف على الجمع
(١) الأقوال كلها في زاد المسير: ٣/ ٣٨٠.
(٢) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
21
واختلف فيه عن عاصم وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اكتسبتموها وقال قتادة: اكتسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وهو ضد النفاق وأصله البقاء. قال الشاعر:
كسدن من الفقر في قومهن وقد زادهن مقامي كسودا «١»
وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها [تعجبكم] قال السدي: يعني القصور والمنازل أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا فانتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ قال عطاء: بقضائه، وقال مجاهد ومقاتل: يعني فتح مكة وَاللَّهُ لا يَهْدِي لا يرشد ولا يوفّق الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين من طاعته إلى معصيته.
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ أيّها المؤمنون فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ أي مشاهدوها أماكن حرب تستوطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم وَيَوْمَ حُنَيْنٍ يعني وفي يوم حنين وهو واد بين مكة والطائف.
وقال عروة بن الزبير: هو واد إلى جنب ذي المجاز والحري، ولأنه اسم لمذكر فقد يترك إجزاؤه يراد به اسم البلدة التي هو بها، ومنه قول الشاعر:
نصروا نبيهم وشدّوا أزره بحنين يوم تواكل الابطال «٢»
وكانت قصة حنين على ما ذكره المفسّرون بروايات كثيرة لفّقتها ونسّقتها لتكون أقرب إلى الأفهام وأحسن [....] «٣»
أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم افتتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان ثم خرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر الفا، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من الطائف.
قال قتادة، وقال مقاتل: كانوا أحد عشر ألفا وخمسمائة، وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا [.......] «٤» وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف، وعلى هوازن ملك بن عوف النضري، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي، فلما التقى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لن تغلب اليوم من قلّة، ويقال: بل قال ذلك رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلامة [وسمع] رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل.
قال: فاقتلوا قتالا شديدا. فانهزم المشركون وخلوا من الذراري، ثم نادوا: يا حماة السوء اذكروا الفضائح، فتراجعوا وانكشف المسلمون.
(١) فتح القدير: ٢/ ٣٤٦.
(٢) معجم ما استعجم: ٢/ ٤٧٢، ونسبه لحسّان بن ثابت. [.....]
(٣) كلمة غير مقروءة في الأصل.
(٤) كلمة غير مقروءة في الأصل.
22
وقال قتادة: وذكر لنا أن الطلقاء [انجفلوا] يومئذ بالناس وسأل رجل البراء بن عازب:
أفررتم يوم حنين؟ فقال: كانت هوازن رماة وإنّا لمّا حملنا عليهم وانكشفوا وأقبلنا على الغنائم، فاستقبلوا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال الكلبي: كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذ ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس عنهم.
وقال الآخرون: لم يبق يومئذ مع النبي صلى الله عليه وسلّم غير العباس بن عبد المطلب وعلي وأيمن بن أم أيمن، وقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وطفق رسول الله يركض بغلته نحو الكفار لا يألوا، وكانت بغلة شهباء أهداها له فروة الجدامي.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا العمري، حدّثنا أحمد بن محمد، حدّثنا الحمامي، حدّثنا شريك عن أبي إسحاق، قيل للبراء: كان النبي صلى الله عليه وسلّم فيمن ولى دبره يوم حنين قال: والذي لا إله إلّا هو ما ولّى رسول الله دبره قط، لقد رأيناه وأبو سفيان بن الحرث آخذ بالركاب والعباس آخذ لجام الدابة، وهو يقول:
أنا النبي لا كذب... أنا بن عبد المطلب
، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم للعباس: ناد يا معشر المهاجرين ويا معشر الأنصار وكان العباس رجلا صوّيتا.
ويروى من شدة صوت العباس أنه أغير يوما على مكة فنادى: وا صباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها.
فجعل ينادي: يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، وعطف المسلمون حين سمعوا صوته عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك يا لبيك يا لبيك وجاءوا عنقا واحدا فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عصابة من الأنصار فقال: هل معكم غيركم؟ فقالوا: يا نبي الله لو عمدت إلى برك العماد من ذي يمن لكنّا معك، ثم أقبل المشركون فالتقوا هم والمسلمون، وتنادى الأنصار: يا معشر الأنصار أم قصرت الدعوة على بني الحرث والخزرج، فتنادوا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم فقال هذا حين حمي الوطيس، فأخذ بيده كفّا من [الحبّ] «١» فرماهم وقال: شاهت الوجوه، ثم قال: انهزموا ورب الكعبة، انهزموا ورب الكعبة.
قال: فوالله ما زال أمرهم مدبرا وجدّهم كليلا حتى هزمهم الله تعالى.
قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي منا أحد يومئذ إلا وامتلأت عيناه من ذلك التراب، قال يزيد بن عامر وكان في المشركين يومئذ: فانصرفنا ما بقي منّا أحد، وكأن أعيننا عميت فأنجز الله وعده وأنزل نصره وجنده فقهر المشركين ونصر المسلمين
، وقال سعيد بن جبير: أمدّ الله [المسلمين] بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وقال الحسن: كانوا ثمانية آلاف من الملائكة.
(١) في المصادر: تراب، وفي بعضها: حصيّات.
23
قال عطاء: كانوا ستة عشر ألفا،
وقال سعيد بن المسيب: حدّثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يقفوا لنا حلب شاة، فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فتلقّانا رجال بيض الوجوه، حسان الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانوا إياها، يعني الملائكة.
وفي الخبر أن رجلا من بني نضر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال عليهم ثياب بيض ما كنا نراكم فيها [..........] «١»، وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: تلك الملائكة.
قال الزهري: وبلغني أن شيبة بن عثمان قال: استدبرت رسول الله ﷺ يوم حنين وأنا أريد أن أقتله بطلحة بن عثمان، وعثمان بن طلحة، وكانا قتلا يوم أحد، فأطلع الله تعالى رسوله على ما في نفسي فالتفت إليّ وضرب في صدري وقال: أعيذك بالله يا شيبة، فارتعدت فرائصي فنظرت إليه وهو أحبّ إليّ من سمعي ومن بصري فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأن الله أطلعك على ما في نفسي.
فلمّا هزم الله المشركين وولّوا مدبرين وانطلقوا حتى أتوا [أوطاس] وبها عيالهم وأموالهم فبعث رسول الله إلى هناك رجلا من الأشعريين يقال له: أبو عامر وأمّره على الناس، فسار إليهم فاقتتلوا بها، ثم إن الله تعالى هزمهم، وثبتوا قبال المشركين وهزم أميرهم مالك بن عوف النضري، فأتى الطائف فتحصّن بها وأخذ أهله وماله فيمن أخذ، وقتل أمير المسلمين ابن عامر، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى الطائف من فوره ذلك فحاصرهم بقية ذلك الشهر، فلمّا دخل ذو القعدة وهو شهر حرام لا يحلّ فيه القتال انصرف عنهم فأتى الجعرانة فأحرم فيه بعمرة، فقسم بها النبي المال وغنائم حنين وأوطاس وتألّف أناسا، كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس فأعطاهم فجعل يعطي الرجل منهم الخمسين والمائة من الإبل، فقالت الأنصار: حنّ الرجل وآثر قومه يا للعجب إنّ أسيافنا تقطر من دمائهم وإن غنائمنا ترد عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو في قبة من أدم فجمعهم فقال لهم: يا معشر الأنصار ما هذا الذي بلغني عنكم.
فقالوا: هو الذي بلغك، وكانوا لا يكذبون، فقال: ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم أذلاء فأعزكم الله بي، وكنتم وكنتم، فقال سعيد بن عبد الله: أتأذن لي أتكلم، فقال:
تكلم.
(١) كلام غير مقروء في المخطوط.
24
قال: أما قولك: كنتم ضلالا فهداكم الله بي، فكنّا كذلك، وأما قولك: كنتم أذلّة فأعزّكم الله فقد علمت العرب أنه ما كان حي من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منّا. فقال عمر:
يا سعيد أتدري من تكلّم؟ قال: يا عمر أكلّم رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لو سلكت الأنصار واديا لسلكت واد الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، الأنصار كرشي وعيبتي فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم، ثم قال: يا معشر الأنصار أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاة وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم» [٥].
فقالت الأنصار: رضينا بالله ورسوله، والله ما قلنا ذلك الا ضنّا بالله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم «١».
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة قام خطيبا فقال: أما إنّ خطيب الأنصار قد قال: كنت طريدا فآويناك، وكنت خائفا فأمّنّاك، وكنت مخذولا فنصرناك، وكنت وكنت، فإنّه قد صدق، فبكت الأنصار، وقالت بل الله ورسوله أعظم علينا منّا.
قال قتادة: وذكر لنا أن ظئر النبي صلى الله عليه وسلّم التي أرضعته من بني سعد أتته يوم حنين وسألته سبايا يوم حنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني لا أملكهم إنّما لي نصيبي منهم، ولكن ائتني غدا فسليني والناس عندي، فإني إذا أعطيتك نصيبي أعطاك الناس، فجاءت في الغد فبسط لها ثوبه فقعدت عليه ثم سألته ذلك فأعطاها نصيبه، فلما رأى الناس منه أعطوها أنصباءهم «٢».
قال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر مناديا ينادي يوم أوطاس: ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، ولا غير الحبالى حتى يستبرئن بحيضة.
ثم [....] «٣» من هوازن أقبلوا مسلمين بعد ذلك فقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّهم وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: إن عندي من ترون، وخير القول أصدقه، اختاروا إمّا ذراريكم ونساءكم، وإمّا أموالكم، فقالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فقام النبي منتصبا فقال: إن هؤلاء قد جاءوني مسلمين «٤»، وإنا خيّرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فأمّا ما أصاب بنو هاشم رددناه إليهم، فمن كان بيده منهم شيء وطابت نفسه أن يردّه عليهم فذلك، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه، ومن لم يرد ففديته خمسون من الإبل.
(١) بطوله في تفسير الطبري: ١٠/ ١٣٠.
(٢) تفسير الطبري: ١٠/ ١٣٠.
(٣) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
(٤) في المصنّف لعبد الرزاق: ٥/ ٣٨١: مستسلمين.
25
فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد ردّ قالوا يا نبي الله رضينا وسلّمنا، فقال النبي: لا أدري لعلّ منكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إليه فرفعت إلينا العرفاء أن قد رضوا وسلّموا، وردوا جميعا غير رجل واحد وهو صفوان بن أميّة لأنه وقع على امرأت أصابها فحبلت منه «١».
فأنزل الله لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ حتى قلتم:
لن نغلب اليوم من قلّة فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ كثرتكم شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي برحبها وسعتها وهما المصدر ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ منهزمين ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بعد الهزيمة سَكِينَتَهُ يعني الأمنة والطمأنينة وهي فعيلة من السكون عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر وسلب الأموال وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ فيهديه إلى الإسلام ولا يؤاخذه بما سلف وَاللَّهُ غَفُورٌ لعباده المؤمنين رَحِيمٌ بهم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٨ الى ٣٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال الضحاك وأبو عبيدة: قذر، وقال ابن الأنباري: خبيث يقال: رجل نجس وامرأة نجس ورجلين وامرأتان نجس ورجال ونساء نجس بفتح النون والجيم أو نجس بضم الجيم ورجس في هذه الأحوال لا يثنّى ولا يجمع لأنّه مصدر، وأما النجس بكسر النون وجزم الجيم فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس، فإذا أفرد قيل: نجس بفتح النون وكسر الجيم أو نجس بضم الجيم.
وقرأ ابن السميقع: إنما المشركون أنجاس، كقولك أخباث على الجمع، واختلفوا في
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ١٣١.
26
معنى النجس والسبب الذي من أجله سمّاهم بذلك، فروي عن ابن عباس: ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب، وهذا قول غير مرضي لمعنيين أحدهما أنه روي عنه من وجه غير حميد فلا يصح عنه، والآخر أن هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولا يستوي في النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد، واحتج من قال أعيانهم نجسة بما روي أن عمر بن عبد العزيز كتب أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه بقول الله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.
وكما روي عن الحسن أنه قال: لا تصافحوا المشركين. فمن صافحهم فليتوضّأ، وقال قتادة: سمّاهم نجسا لأنهم يجنبون ولا يغتسلون، ويحدثون ولا يتوضؤون، فمنعوا من دخول المسجد لأن الجنب لا ينبغي أن يدخل المسجد.
وقال الحسين بن الفضل: هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين فسموا نجسا على الذّم، يدلّ عليها ما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم لقى حذيفة فأخذ صلى الله عليه وسلّم بيده، فقال حذيفة: يا رسول الله إنّي جنب، فقال: «إن المؤمن لا ينجس» [٦].
فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ قال أهل المعاني: أراد بهذا منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام، قال عطاء الحرم كلّه قبلة ومسجد «١» وتلا هذه الآية.
جابر عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا يدخل الحرم إلا أهل الجزية أو عبد لرجل من المسلمين، ونساؤهم حل لكم، وقرأ: بَعْدَ عامِهِمْ هذا يعني العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه عنه بالناس، ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة وهو سنة تسع في الهجرة
وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً الآية.
قال المفسرون: وكان المشركون يجلبون إلى البيت الطعام ويتّجرون ويتبايعون، فلمّا منعوا من دخول الحرم شقّ ذلك على المسلمين، والقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال لهم: من أين تأكلون وتعيشون وقد بقي المشركون وانقطعت عنهم العير.
فقال المؤمنون: يا رسول الله قد كنّا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم فالآن تنقطع عنّا الأسواق ويملك التجارة، ويذهب ما كنّا نصيب منها من المرافق، فأنزل الله عز وجل وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً.
وقال عمرو بن فائد: معناه وإذا خفتم لأن القوم كانوا قد خافوا، وذلك هو قول القائل:
إن كنت أبي فأكرمني يعني [إن خفت] عيلة فقرا وفاقة. يقال عال يعيل عيلة وعيولا. قال الشاعر:
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ١٣٦، وتفسير القرطبي: ٨/ ١٠٥.
27
فلا يدري الفقير متى غناه ولا يدري الغني متى يعيل «١»
وفي مصحف عبد الله: وإن خفتم عايلة أي [حصلة] يعول عليكم أي يشق فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وذلك أنه أنزل عليهم مطرا مدرارا فكثر خيرهم حين ذهب المشركون.
وقال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وطهوا الطعام إلى مكة على ظهور الإبل والدواب، وكفاهم الله عز وجل ما كانوا يتخوّفون.
قال الكلبي: أخصبت [............] «٢»، وكفاهم الله ما أهمّهم، وقال الضحاك وقتادة: قسم الله منها ما هو خير لهم وهو الجزية فأغناهم الله وذلك قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
قال مجاهد: نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحرب الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك.
وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم [أخذ الجزية فأنزل الله] «٣» عز وجل: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أراد الدين الحق فأضاف الاسم إلى الصفة.
قال قتادة: الحق هو الله عز وجل، ودينه الإسلام، وقال أبو عبيدة «٤» معناه:
طاعة أهل الإسلام، وكل من أطاع ملكا أو ذا سلطان فقد دان له دينا. قال زهير:
لئن حللت بجوفي بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدك «٥»
أي في طاعة عمرو.
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى يؤخذ منهم الجزية وألّا يقاتلوا، ويؤخذ الجزية أيضا من الصابئين والسامرة لأن سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فيها، ويؤخذ الجزية أيضا من المجوس، وقد قيل: إنهم كانوا من أهل الكتاب فرفع كتابهم.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين، حدّثنا محمد بن يحيى و [..........] «٦» قالا: حدّثنا عثمان بن صالح، حدّثنا ابن وهب، أخبرنا يوسف عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس
(١) لسان العرب: ١١/ ٤٨٨، ونسبه إلى أحيحة.
(٢) كلام غير مقروء في المخطوط.
(٣) المخطوط غير مقروء والظاهر ما أثبتناه.
(٤) في معاني القرآن للنحاس: ٣/ ١٩٧، نسبه لأبي جعفر. [.....]
(٥) تفسير الطبري: ١٠/ ١٤١، ولسان العرب: ١٠/ ٤٧٣.
(٦) كلام غير مقروء في المخطوط.
28
هجر «١»، وأن عمر أخذها من مجوس السواد وأن عثمان بن عفان أخذها من بربر «٢».
ابن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين، حدّثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدّثنا أبو عاصم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا أدري كيف أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب» [٧] «٣».
قال أبو عاصم: مشيت ميلا وهرولت ميلا حتى سمعت من جعفر بن محمد، حدّثنا، يعني هذا الحديث
، وإنما منعنا من نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم [وإتيان] الفروج والأطعمة على الخطر، ولا يجوز الإقدام عليها بالشك.
قال الحسن: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أهل هذه الجزيرة على الإسلام لا يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد آخر على هذه الطعمة في شأن أهل الكتاب «٤».
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ألّا يتبعوا ما سواهما بدعة وضلالة، ولا يؤخذ الجزية من الأوثان حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وهو ما يعطي المعاهد على عهده من الجزية، وهي فعلة من جزى يجزي إذا قضى عليه، والجزية مثل القعدة والجلسة ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعا عنها.
وأما قدرها:
فقال أنس: قسّم النبي على كل محتلم دينارا
، وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الفقراء من أهل الذمة كل واحد منهم درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين درهما، ولم يجاوز به خمسين درهما، وليس شيء موقت ولكن على ما صولحوا عليه.
عَنْ يَدٍ أي بالنقل من يده إلى يد من يدفعه إليه، كما يقال كلّمته فما لفم «٥».
وقال أبو عبيدة: يقال: أكلّ من [............] «٦» من غير طيب نفس منه أعطاه عن يد، وقال القتيبي: يقال: أعطاه عن يد وعن ظهر يد إذا أعطاه مبتدئا غير مكلف.
وقال ابن عباس: هو أنها يعطونها بأيديهم، يمشون بها كارهين ولا يجيئون بها ركبانا ولا
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٢/ ٤١٢.
(٢) المصنّف لعبد الرزاق: ٦/ ٦٩، ح ١٠٠٢٧.
(٣) المسند للشافعي: ٢٠٩.
(٤) الدر المنثور: ٣/ ٢٢٩.
(٥) تفسير الطبري: ١٠/ ١٤١.
(٦) كلام غير واضح في المخطوط.
29
يرسلون وَهُمْ صاغِرُونَ أذلّاء مقهورون، قال ابن عباس يتلتلون بها تلتلة وقال عكرمة: معنى الصغار هو أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم. قال الكلبي: إنه إذا [جاء يعطي] صفع في قفاه، وقيل: إعطاؤه إياها هو الصغار، وقيل: إنّه لا يقبل فيها رسالة ولا وكالة، وقيل: إنه يجري عليهم أحكام الإسلام وهو الصغار.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن جعفر، حدّثنا علي بن حرب، حدّثنا السباط، حدّثنا عبد العزيز بن [............] «١» عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء إلى ابن عباس رجل فقال: الأرض من أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأودي خراجها؟
قال: لا، وجاء آخر فقال له ذلك قال: لا وتلا قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية إلى قوله: وَهُمْ صاغِرُونَ، أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينزعه فيجعله في عنقه «٢» ؟
وقال كليب بن وائل: قلت لا بن عمر: اشتريت أرضا، قال: الشراء حسن. قال: فإنّي أعطي من كل جريب أرض درهما وقفيز طعام؟ قال: ولا تجعل في عنقك صغارا.
وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر قال ما يسرّني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها الصغار على نفسي.
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ الآية،
روى سعيد بن جبير، وعكرمة عن ابن عباس. قال:
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم سلام بن مسلم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف قالوا:
كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله. فأنزل الله في قولهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ
، وقرأ ابن محيصن وعاصم والكسائي: عُزَيْرٌ بالتنوين، وهو قول أبي عبيد وأبي حاتم.
وقرأ الباقون بغير تنوين، فمن نوّن قال: لأنه اسم خفيف فوجهه أن ينصرف وإن كان أعجميا مثل نوح ولوط وهود، وقال أبو حاتم والمبرّد: الاختيار التنوين لأنه ليس بمنسوب، والكلام ناقص وفي موضع الخبر وليس بنصب، وإنما جاز التنوين في النعت إذا كان الاسم يستغني عن الابن أو ينسب إلى اسم معروف أو لقب غلب عليه، مثل محمد بن عبد الله ويزيد ابن عبد الله، لأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد فينوّن في الخبر ويحذف في الصفة، وربما أثبتوا التنوين في الصفة، ويقول الشاعر، أنشده الفرّاء:
والّا تكن مال هناك فإنّه سيأتي ثنائي زيدا بن مهلهل
وأنشد الكسائي [............] «٣» مذهبه.
(١) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
(٢) تفسير القرطبي: ٨/ ١١٦، وكذلك روى الأحاديث الآتية.
(٣) كلام مطموس في الخطوط.
30
وقال أبو عبيدة: هذا ليس بمنسوب إلى أبيه إنما هو كقولك: زيد ابن الأمير، وزيد بن عبد الله، فعزير يكون بعده خبر.
ومن ترك التنوين قال: لأنه اسم اعجمي ويشبه اسما مصغرا.
وقال الفرّاء: لما كانت النون من عزير ساكنة [وهي نون التنوين] والباء من الابن ساكنة والتقى ساكنان حذف الأول منهما استثقالا لتحريكه، كما قال: لتجدني بالأمير برا، وبالقناة مدعا مكرا، إذا غطيف السلمّي فرّا «١».
فحذف النون الساكن الذي استقبلها، وقال الزجّاج: يجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره:
عزير ابن الله معبودنا.
قال عبيدة بن عمير: إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا وهو الذي قال: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ يستقرض «٢».
عطية العوفي عن ابن عباس قال: قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ فإنما قالوا ذلك من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم ما شاء الله أن يعلموا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التابوت فيهم، فلمّا رأى الله عز وجل أنهم أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء وأذهبوا التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، فأرسل الله عزّ وجل عليهم مرضا فاستطالت بطونهم حتى جعل الرجل يمسّ كبده، حتى نسوا التوراة ونسخت من صدورهم، وفيهم عزير فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم، وكان عزير قبل من علمائهم فدعا عزير [الله] وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله عز وجل نزل نور من السماء فدخل جوفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فأذّن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليّ فعلق يعلّمهم فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا وهو يعلّمهم، ثم إن التابوت ترك بعد ذلك، وبعد ذهابه منهم، فلمّا رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلّمهم فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما اتي عزير هذا إلا إنّه ابن الله «٣».
وقال السدّي وابن عباس في رواية عمار بن عمار: إنما قالت اليهود عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم وأخذوا التوراة وهرب علماؤهم الذين بقوا ودفنوا كتب التوراة في الجبال وغيرها، فلحق عزير بالجبال والوحوش، وجعل يتعبّد في الجبال، ولا يخالط ولا يخالط الناس ولا ينزل إلا يوم عيد، وجعل يبكي ويقول: يا رب تركت بني إسرائيل بغير عالم
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ١٤٤، ولسان العرب: ٣/ ٤٣٨.
(٢) تفسير الطبري: ٤/ ٢٥٩.
(٣) بتمامه في تفسير الطبري: ١٠/ ١٤٣. [.....]
31
فجعل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه، فنزل مرة إلى العيد فلمّا رجع إذا هو بامرأة قد خلت «١» له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يا مطعماه يا كاسياه.
فقال لها عزير: يا هذه اتقي الله واصبري واحتسبي، أما علمت أنّ الموت سبيل الناس، وقال: ويحك من كان يطعمك ويكسوك قبل هذا الرجل- يعني زوجها الذي كانت تندبه- قالت:
الله، قال: فإن الله حي لم يمت، قالت: يا عزير فمن كان يعلّم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال:
الله، قالت: فلم تبكي عليهم، وقد علمت أن الموت حق وأن الله حي لا يموت، فلمّا عرف عزير أنه قد خصم ولّى مدبرا.
فقالت له: يا عزير إنّي لست بامرأة ولكني الدنيا، أما إنّه ينبع ماء في مصلاك عين، وتنبت شجرة فكل من ثمرة تلك الشجرة واشرب من ماء تلك العين واغتسل وصلّ ركعتين فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذ منه، فلمّا أصبح نبعت من مصلّاه عين، ونبتت شجرة ففعل ما أمرته به، فجاء شيخ فقال له: افتح، قال: ففتح فاه وألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرات، ثم قال له: ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك، قال: فدخلها فجعل لا يرفع قدمه إلا زيد في علمه حتى انتهى إلى قومه، فرجع إليهم وهو من أعلم الناس بالتوراة. فقال: يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة.
قالوا: يا عزير ما كنت كاذبا، فربط على كل إصبع له قلما وكتب بأصابعه كلها حتى كتب التوراة على ظهر قلبه، فأحيا لهم التوراة، وأحيا لهم السنّة، فلمّا رجع العلماء استخرجوا كتبهم التي دفنوها من توراة عزير فوجودها مثلها، فقالوا: ما أعطاه الله ذلك إلا لأنه ابنه «٢».
وقال الكلبي: إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذ ذاك غلاما صغيرا فاستضعفوه، فلم يقبله ولم يدر أنه قرأ التوراة، فلمّا توفي مائة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس منهم من يقرأ التوراة، فبعث الله عز وجل عزيرا ليجدد لهم التوراة ويكون آية لهم، فأتاهم عزير وقال: أنا عزير فكذّبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم عزير فاتل علينا التوراة، فكتبها وقال: هذه التوراة.
ثم إن رجلا قال: إن أبي حدّثني عن جدي أن التوراة جعلت [لنبي] ثم دفنت في كوّم فانطلقوا معه حتى احتفرها وأخرجوا التوراة وعارضوا بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منه حرفا ولا آية فعجبوا وقالوا: ابن الله، ما جعل التوراة في قلب رجل واحد بعد ما ذهبت من قلوبنا إلا أنه ابنه، فعند ذلك قالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ.
(١) في تفسير الطبري: مثلت.
(٢) المصدر السابق بتفاوت.
32
وأما النصارى [فقيل] : إنّهم كانوا على [دين واحد] سنة بعد ما رفع عيسى، يصلّون القبلة ويصومون رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: يونس قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السّلام، ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فكفرنا وجحدنا والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، إني احتال فأضلّهم حتى يدخلوا النار، وكان لها فرس يقال له: العقاب يقاتل عليها فغرقت فرسه وأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب.
فقال له النصارى: من أنت؟ قال يونس: عدوكم [سمعت] «١» من السماء: ليس لك توبة إلا أن تتنصّر وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال [لهم] «٢» إن الله قبل توبتك، فصدّقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس، واستخلف عليهم نسطور وعلّمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، ثم توجه إلى الروم وعلّمهم اللاهوت والناسوت وقال: لم يكن عيسى بإنس فتأنّس ولا بجسم فتجسّم ولكنّه ابن الله، وعلّم ذلك رجلا يقال له: يعقوب.
ثم دعا رجلا يقال له: ملكا وقال له: إن الله لم يزل ولا يزال عيسى رضي الله عنه، فلمّا استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا، وقال لكل واحد منهم: أنت خليفتي، ولقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني غدا أذبح نفسي فادع الناس للمذبحة، ثم دخل المذبحة فذبح نفسه، وقال: إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى، فلمّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى [نحلته] فتبع كل واحد طائفة من الناس واقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق الثلاث.
ذلِكَ يعني قول النصارى: إن المسيح ابن الله قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يقولون بألسنتهم من غير علم.
قال أهل المعاني: إن الله عز وجل لا يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان ذلك القول زورا كقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، ويَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وقوله: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً... يُضاهِؤُنَ قال ابن عباس:
يشبهون وعنه أيضا: يحكون، وقال مجاهد: يواطئون.
وقال ذي نون: وفيه لفظان يُضاهِؤُنَ بالهمزة وهي قراءة عاصم، ويضاهون بغير همزة وهي قراءة العامة، يقال: ضاهيته وضاهأته بمعنى واحد قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قال قتادة
(١) زيادة يقتضيها السياق.
(٢) كلمة غير واضحة في المخطوط والظاهر ما أثبتناه.
33
والسدي: ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقال النصارى: المسيح ابن الله كما قال اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وقال مجاهد: يضاهئون قول المشركين حين قالوا اللات والعزى ومناة بنات الله، وقال الحسن: شبّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة، وقال لمشركي العرب حين حكى عنهم، وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ، ثم قال: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ وقال القتيبي: يريد إن من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أوّلوهم.
قاتَلَهُمُ اللَّهُ قال ابن عباس: لعنهم الله، وكل شيء في القرآن قتل هو لعن، ومثله قال أبان بن تغلب:
قاتلها الله تلحاني وقد علمت أني لنفسي إفسادي وإصلاحي «١»
وقال ابن جريج: قاتَلَهُمُ اللَّهُ وهو بمعنى التعجب أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي يكذبون، ويصرفون عن الحق بعد قيام الدلالة عليه اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ قال الضحاك: علماءهم، وقرأ:
رهبان، وأحبار العلماء: واحدهم حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها والكسر أجود، وكان يونس الجرمي يزعم أنه لم يسمع فيه إلا بكسر الحاء، ويحتج فيه بقول الناس: هذا محبر يريدون مداد عالم، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع وأهل الأصفاد في دينهم، يقال: راهب ورهبان مثل فارس وفرسان، وأصله من الرّهبة وهي الخوف كأنهم يخافون الله أَرْباباً سادة مِنْ دُونِ اللَّهِ يطيعونهم في معاصي الله.
مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته ثم انتصب وهو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ حتى فرغ منها فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرّمون حلال الله فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه، قال:
فقلت: بلى «٢».
قال أبو الأحوص: عن عطاء بن أبي البختري في قول الله عز وجل: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً قال: أما [لو أمروهم] أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنّهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية «٣».
وقال الربيع: قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: إنهم
(١) تفسير القرطبي: ٨/ ١١٩.
(٢) المعجم الكبير للطبراني: ١٧/ ٩٢.
(٣) الأحكام لابن حزم: ٦/ ٨٨٣.
34
وجدوا في كتاب الله عز وجل ما أمروا به ونهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء فما أمرونا بشيء ائتمرنا وما نهينا عنه فانتهينا، الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
وقال أهل المعاني: معناه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم كالأذناب حيث أطاعوهم في كل شيء، كقوله: قال انفخوا حتى إذا جعله نارا أي كالنار، وقال عبد الله المبارك:
وهل بدّل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها «١».
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ نزّه نفسه عَمَّا يُشْرِكُونَ القراءة بالياء وقرأ ابن أبي إسحاق بالتاء يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ أي يبطلوا دين الله بألسنتهم، بتكذيبهم إياه وإعراضهم عنه.
وقال الكلبي: يعني يردون القرآن بألسنتهم تكذيبا له، وقال ابن عباس: يريد اليهود والنصارى أن يلزموا توحيد الرحمن بالمخلوقين الذين لا تليق بهم الربوبية، وقال الضحاك:
يريدون أن يهلك محمد وأصحابه ولا يعبد الله بالإسلام.
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وإنما أدخلت إلا لأن في أبت طرفا من الجحد، ألا ترى أنّ قولك يثبت أن أفعل ولما فيه من الحذف تقديره: وَيَأْبَى اللَّهُ كل شيء إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، كما قال:
وهل لي أمّ غيرها أن تركتها أبى الله إلّا أن أكون لها ابنا
هو الذي يعني يأبى إلّا إتمام دينه هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم بِالْهُدى قال ابن عباس: بالقرآن، وقيل: تبيان فرائضه على خلقه، وَدِينِ الْحَقِّ وهو الإسلام.
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ لِيُظْهِرَهُ ليعليه وينصره ويظفره عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ على سائر الملل كلها وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
واختلف العلماء بمعنى هذه الآية، فقال ابن عباس: الهاء عائدة على الرسول صلى الله عليه وسلّم يعني ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء، وقال الآخرون: الهاء راجعة إلى دين الحق.
قال أبو هريرة والضحاك: ذلك عند خروج عيسى عليه السّلام إذا خرج اتبعه كل دين وتصير الملل كلها واحدة، فلا يبقى أهل دين إلا دخل في الإسلام أو أدى الجزية إلى المسلمين.
(١) الجهاد لابن المبارك: ٢٨.
35
قال السدّي: وذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج «١».
وقال الكلبي: لا يبقى دين إلا ظهر عليه الإسلام وسيكون ذلك، ولم يكن بعد، ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك.
قال المقداد بن الأسود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلّا أدخله الله كلمة الإسلام إما يعز عزيز وإما يذل ذليل، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهله فيعزّوا، وإما يذلّهم فيدينون له» [٨] «٢».
عن الأسود أو سويد بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» [٩].
قالت: قلت: يا رسول الله ما كنت أظن أن يكون ذلك بعد ما أنزل الله على رسوله.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ. قال: يكون ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعث ريحا فيقبض كل من كان في قلبه مثقال ذرة من خير، ثم يبقي من لا خير فيه ويرجع الناس إلى دين آبائهم.
وقال الحسين بن الفضل: معناه: ليظهره على الأديان كلها بالحجج الواضحة والبراهين اللامعة فيكون حجة هذا الدين أقوى، وقال بعضهم: قد فعل الله ذلك ونجزت هذه العدة لقوله سبحانه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «٣».
وقال بعضهم: هو أن يظهر الإسلام في كل موضع كان يجري على أهلها صغار في أي موضع كانوا، لا يؤخذ منهم جزية كما يؤخذ من أهل الذمة.
وقيل: معناه: ليظهره على الأديان كلها التي في جزيرة العرب فيظهره على دينهم ويغلبهم في ذلك المكان.
وقيل: هو جريان حكمته عليهم والله أعلم.
(١) زاد المسير لابن الجوزي: ٣/ ٢٩٠، وتفسير القرطبي: ٨/ ١٢١.
(٢) مجمع الزوائد: ٦/ ١٤.
(٣) سورة المائدة: ٣.
36

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ يعني العلماء والقرّاء من أهل الكتاب لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي يأخذون الرشوة في أحكامهم ويحرّفون كتاب الله ويكتبون بأيديهم كتبا يقولون: هذه من عند الله، ويأخذون بها ثمنا قليلا من سفلتهم، وهي المآكل التي كانوا يصيبونها منهم على تكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلّم ولو آمنوا به لذهبت عنهم تلك المآكل وَيَصُدُّونَ ويصرفون الناس ويمنعونهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دين الله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يعني ويأكلون أيضا بالباطل الذين يكنزون الذهب والفضة.
سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الحسن المظفر بن محمد بن غالب الهمذاني يقول: سمعت إبراهيم بن محمد بن عرفة الإيجي بن نفطويه يقول: سمّي ذهبا لأنه يذهب فلا يبقى، وسمّيت فضة لأنها تنفض أي تتفرق ولا تبقى، وحسبك الأسمان دلالة على فنائهما، والله أعلم فيها.
واختلف العلماء في معنى الكنز: فروى نافع عن ابن عمر قال: كل مال آتى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لم يؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.
ومثله قال ابن عباس والضحاك والسدّي، ويدلّ عليه ما روي عن ابن الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت شره وليس بكنز.
وقال سعيد بن المسيب: سأل عمر رجلا عن أرض باعها فقال: [أحسن موضع هذا المال؟ فقال: أين أضعه؟] قال: احفر تحت فراش امرأتك. فقال: يا أمير المؤمنين أليس بكنز، قال: ما أدّى زكاته فليس بكنز «١».
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كل ما زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، أدّيت منه الزكاة أم لم تؤدّ، وما دونها نفقة.
وقال عن الوليد بن زيد: كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه فهو كنز.
منصور عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال لما نزلت هذه الآية
(١) مصنف عبد الرزاق: ٤/ ١٠٨ ح ٧١٤٦ وتصويب العبارة منه.
37
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «تبّا للذهب وتبّا للفضة» يقولها ثلاثا: فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال المهاجرون: فأي المال نتّخذ؟ فقال عمر: فإنّي أسال النبي صلى الله عليه وسلّم عن ذلك، قال: فأدركته فقلت: يا رسول الله إن المهاجرين قالوا: أي المال نتّخذ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه» «١» [١٠].
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان أخبر طليحة بن عبدان، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا محمد بن عبدل، حدّثنا الأعمش عن [المعرور] بن سويد عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو في قبال الكعبة فلمّا رآني قد أقبلت قال: هم الأخسرون وربّ الكعبة، هم الأخسرون وربّ الكعبة، هم الأخسرون وربّ الكعبة.
قال: فدخلني غمّ وما أقدر أن أتنفس قلت: هذا شيء حدث فيّ، قلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: المكثرون إلا من مال بالمال في عباد الله هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن فوقه وبين يديه وعن [..........] «٢» كل صفراء وبيضاء أولى عليها صاحبها فهو كنز [..........] «٣» من ترك خير الشيء فهي له يوم القيامة «٤».
وروى طلحة بن عبد الله بن كريز الخزاعي عن أبي الضيف عن أبي هريرة قال: من ترك عشرة آلاف درهم جعل صفائح يعذّب بها صاحبها يوم القيامة قبل القضاء، وعن سلمان بن ثروان قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: إن أهل المائدة سألوا المائدة ثم نزلت فكفروا بها، وإن قوم صالح سألوا الناقة فلمّا أعطوها كفروا بها، وانكم قد نهيتم عن كنز الذهب والفضة فستكنزونها، فقال رجل نكنزها [وقد سمعنا] قوله؟ قال: نعم، ويقتل عليه بعضكم بعضا،
وقال شعبة: كان فصّ سيف أبي هريرة من فضة فنهاه عنها أبو ذر، وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال:
«من ترك صفراء وبيضاء كوي بها» [١١] «٥».
وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي امامة صديّ بن عجلان قال: إن رجلا توفي من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «كيّة» ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه السّلام: «كيّتان» [١٢] «٦».
وأولى الأقاويل بالصواب القول الأول لأن الوعيد وارد في منع الزكاة لا في جمع المال
(١) مسند أحمد: ٥/ ٣٦٦.
(٢) كلام مطموس في الأصل. [.....]
(٣) كلام مطموس في الأصل.
(٤) مسند أحمد: ٢/ ٣٠٩، بتفاوت وبدون ذيل الحديث.
(٥) تفسير الطبري: ١٠/ ١٥٣.
(٦) تفسير الطبري: ١٠/ ١٥٤.
38
الحلال.
يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أدى زكاة ماله فقد أدى الحق الذي عليه، ومن زاد فهو خير له» «١».
وقال صلى الله عليه وسلّم: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» [١٣] «٢».
وقال ابن عمر وسئل عن هذه الآية فقال: من كنزها ولم يؤدّ زكاتها فويل له. ثم قال: لا أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكّيه وأعمل بطاعة الله عز وجل.
أما أصل الكنز في كلام العرب: كل شيء مجموع بعضه على بعض، على ظهر الأرض كان أو في بطنها. يدلّ على ذلك قول الشاعر:
لا درّيّ إن أطعمت نازلهم [قرف الحتي] وعندي التبر مكنوز «٣»
أراد: مجموع بعضه إلى بعض والحتي: مذر المقل، وكذلك يقول العرب للشيء المجتمع: مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض.
قرأ يحيى بن عمر يَكْنُزُونَ بضم النون، وقراءة العامة بالكسر، وهما لغتان مثل يَعْكُفُونَ ويعكُفون، ويَعْرِشُونَ ويعرُشون وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولم يقل فينفقونهما، اختلف النحاة فيه، قال قطرب: أراد الزكاة أو الكنوز أو [.....] «٤» الذهب والفضة، وقال الفرّاء: استغنى بالخبر عن أحدهما في عائد الذكر عن الآخر لدلالة الكلام على أن الخبر على الآخر مثل الخبر عنه، وذلك موجود في كلام العرب وأخبارهم، قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف «٥»
وقال ابن الأنباري: قصد الأغلب والأعم لأن الفضة أعم والذهب [أخص] مثل قوله وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ «٦» ردّ الكناية إلى الصلاة لأنّها أعم، وقوله: رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «٧» ردّ الكناية إلى التجارة لأنها أعم وأفضل.
فَبَشِّرْهُمْ فأخبرهم وأنذرهم بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها أي يدخل النار مرتديا
(١) الجامع الصغير للسيوطي: ٢/ ٥٦٠/ ح ٨٣٦.
(٢) كشف الخفاء للعجلوني: ٢/ ٣٢٠/ ح ٢٨٢٣.
(٣) لسان العرب: ٤/ ٥٥، والصحاح: ٦/ ٢٣٠٨.
(٤) كلمة غير واضحة في الأصل.
(٥) مغني اللبيب: ٢/ ٦٢٢. لسان العرب: ٣/ ٣٦٠، وقد نسب هذا البيت إلى قيس بن العظيم أحد فحول الشعراء في الجاهلية انظر شرح ابن عقيل: ١/ ٢٤٤، الهامش.
(٦) سورة البقرة: ٤٥.
(٧) سورة الجمعة: ١١.
39
بعض الكنوز، ومنه يقال: حميت الحديدة في النار فَتُكْوى فتحرق بِها جِباهُهُمْ جباه كانزيها وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ.
قال عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره ما من رجل يكوى، يكنز موضع دينار على دينار ودرهم على درهم، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على خدّيه.
وسئل أبو بكر الوراق: لم خص الجباه والجنوب والظهور بالكي؟ فقال: لأن الغني صاحب الكنز إذا رأى الفقير انقبض، فإذا ضمّه وإياه مجلس ازورّ عنه وولّى ظهره عليه، وقال محمد بن علي الترمذي: ذلك لأنّه يبذخ ويستكبر بماله ويقع على كنزه بجنبيه ويتساند إليه.
وقال الأحنف بن قيس: قدمت المدينة، فبينما أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب، خشن الجسد، خشن الوجه فقام عليهم، فقال: بشّر الكنّازين برضف «١» يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثدييه، ويزلزل ويكوي الجباه والجنوب والظهور حتى تلتقي الحمة في أجوافهم.
قال: فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا، قال: فأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم، فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئا «٢».
هذا أي يقال لهم: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ كقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي تجحدون حقوق الله في أموالكم وتمنعونها.
واختلف العلماء في حكم هذه الآية، وفيمن نزلت منهم، فروى ابن شهاب عن خالد بن زيد بن أسلم عن ابن عمر وسئل عن قوله تعالى الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فقال ابن عمر:
إنّما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلمّا نزلت جعلها الله تطهير الأموال.
مجاهد عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا يبقي لولده ما لا يبقي بعده، فقال عمر رضي الله عنه: أنا أفرّج عنكم فانطلقوا، وانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله إنّه قد كبر على أصحابك هذه فقال: «إن الله عز وجل لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث في أموال
(١) الرضف: حجارة على وجه الأرض قد حميت (لسان العرب: ٩/ ١٢١).
(٢) جامع البيان للطبري: ١٠/ ١٦٠. صحيح ابن حبّان: ٨/ ٥١.
40
تبقى بعدكم» ثم قال: «الا أخبركم بخير ما يكنز المرء، المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، فإذا غاب عنها حفظته» «١» [١٤].
وقال بعض الصحابة: هي في أهل الكتاب خاصة، وقال السدّي: هي في أهل القبلة، وقال الضحاك: هي عامة في أهل الكتاب وفي المسلمين، من كسب مالا حلالا فلم يعط حق الله منه كان كنزا وإن قلّ فكان على وجه الأرض، وما أعطي حق الله منه لم يكن كنزا وإن كان كثيرا ودفنه في الأرض.
عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا انا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الآية، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينهم كلام في ذلك فكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر الناس علي حتى كأنّهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحّيت فكنت قريبا، فذلك الذي أنزلني هذه المنزل، ولو أمّروا عليّ جيشا لسمعت وأطعت.
وقال بعضهم: نزلت في مانعي الزكاة خاصة، وهو أولى الأقاويل بالصحة، يدلّ عليه ما
روى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلّا حمي عليه في نار جهنم، فجعل صفائح فيكوي بها جبينه وجنباه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرسله أمّا إلى الجنّة وأمّا إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت فتطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلجاء كلّما مضى عليه أخراها ردّت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرسله إما إلى الجنة وأمّا إلى النار، وما من صاحب أبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت [.........] «٢» كلّما مضى عليها أخراها ردّت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرسله أما إلى الجنة وأما إلى النار» [١٥] «٣». قال سهيل: فلا أدري أذكر البقر أو لا؟
وروى ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول: «من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه، يقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها، ثم يلقمه سائر جسده» [١٦] «٤».
(١) سنن أبي داود: ١/ ٣٧٥. [.....]
(٢) كلام غير مقروء في المخطوط.
(٣) مسند أحمد: ٢/ ٢٦٢، بتفاوت يسير.
(٤) تفسير الطبري: ١٠/ ١٦٠، ومسند أحمد: ٢/ ١٥٦. ٢٧٩، بتفاوت، وكتاب المسند للشافعي: ٨٧.
41
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ يعني عدد شهور السنة عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ قراءة العامة بفتح العين والشين، وقرأ أبو جعفر بجزم الشين، وقرأ طلحة بن سليمان بسكون الشين، شَهْراً نصب على التمييز.
وهي المحرم وصفر وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجمادى الاولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة.
وأما المحرم فسمي بذلك لتحريم القتال فيه، وسمي صفر لأن مكة تصفر من الناس فيه أي تخلو منهم، وقيل: وقع فيه وباء فاصفرّت وجوههم، وقال أبو عبيدة: سمّي صفر لأنه صفرت فيه وطابهم «١» من اللبن، وشهرا الربيع سمّيا بذلك لجمود الماء فيهما، وسمّي رجب لأنهم كانوا يرجبونه أي يعظمونه، رجبته ورجّبته بالتخفيف والتشديد إذا عظمته، قال الكميت:
ولا غيرهم أبغي لنفسي جنّة ولا غيرهم ممن أجلّ وأرجب
وقيل: سمي بذلك لترك القتال فيه من قول العرب: رجل أرجب إذ كان أقطع لا يمكنه العمل،
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: إن في الجنة نهرا يقال له رجب ماؤه أشد بياضا من الثلج وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب شرب منه «٢»
، وقال عمر: سمّي شعبان لتشعب القبائل فيه.
وروى زياد بن ميمون أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «سمّي شعبان لأنه يتشعب فيه خير كثير لرمضان» [١٧] «٣».
وقد مضى القول في رمضان، وسمّي شوال لشولان النوق اللقاح بأذنابها فيه «٤».
قال أبو زيد البلخي: سمّي بذلك لأن القبائل تشول فيه أي تبرح عن أماكنها، وسمّي ذو القعدة لقعودهم عن القتال، وذو الحجة لقضاء حجهم فيه، والله أعلم.
قال بعض البلغاء: إذا رأت العرب السادات تركوا العادات وحرموا الغارات قالوا:
محرم، وإذا ضعفت أركانهم ومرضت أبدانهم، واصفرت ألوانهم قالوا: صفر، وإذا ظهرت الرياحين وزهرت البساتين قالوا: ربيعان، وإذا قل الثمار وجمد الماء قالوا: جماديان، فإذا هاجت البحار وحمت الأنهار وترجبت الأشجار قالوا: رجب، وإذا بانت الفضائل وتشعبت القبائل قالوا: شعبان، وإذا حمي الفضا، ونفي جمر الغضاء قالوا: رمضان، وإذا انكشف
(١) الوطب: سقاء اللبن وهو جلد الجذع فما فوقه.
(٢) فضائل الأوقات للبيهقي: ٩٠.
(٣) كنز العمّال: ٨/ ٥٩١/ ح ٢٤٢٩٣.
(٤) لسان العرب: ١١/ ٣٧٧.
42
السحاب، وكثرت الذباب وشالت الناقة إلا ذبحوها قالوا: شوال، وإذا قعد التجار عن الأسفار قالوا: ذو القعدة، وإذا قصدوا الحج من كل فج، وأظهروا النج والعج قالوا: ذو الحجة.
فِي كِتابِ اللَّهِ يعني اللوح المحفوظ وقيل في قضائه الذي قضى يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها من الشهور أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ كانت العرب تعظمها وتحرم القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة ومحرم، واحد فرد وثلاثة سرد «١».
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الحساب المستقيم فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي في الأشهر الحرم بالعمل بمعصية الله عز وجل وترك طاعته، وقال ابن عباس: استحلال القتال والغارة فيهن، وقال محمد بن إسحاق عن يسار: لا تجعلوا حلالها حراما ولا حرامها حلالا كما فعل أهل الشرك، وقال قتادة: إن العمل الصالح والأجر أعظم في الأشهر الحرم، والذنب والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهنّ، وإن كان الظلم على كل حال عظيم، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء كما يصطفي من خلقه صفايا.
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً جميعا عامّا مؤتلفين غير مخلّفين كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً نصب على الحال وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.
واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم فقال قوم: إنه منسوخ، وقال قتادة وعطاء الخرساني: كان القتال كثيرا في الأشهر الحرم ثم نسخ وأحل القتال فيه بقوله وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً يقول: فيهن وفي غيرهنّ.
قال الزهري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحرّم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله سبحانه من تحريم ذلك حتى نزلت براءة فأحل قتال المشركين
، وقال أبو إسحاق: سألت سفيان الثوري عن القتال في الشهر الحرام فقال: هذا منسوخ، وقد مضى، ولا بأس بالقتال فيه وفي غيره، قالوا:
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف في شوال وبعض ذي القعدة فيدل على أنه منسوخ
، وقال آخرون: إنه غير منسوخ، وقال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح ما يحلّ للناس أن يغزوا في المحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت، وقال ابن حيان نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة.
إِنَّمَا النَّسِيءُ قرأ الحسن، وعلقمة وقتادة ومجاهد ونافع غير ورش وأبو عامر وعيسى والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: النسيء ممدود مهموز، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم، وهو مصدر كالخرير والسعير والحريق ونحوها، ويجوز أن يكون مفعولا مصروفا إلى
(١) تفسير القرطبي: ٦/ ٣٩.
43
فعيل مثل الجريح والقتيل والغريق، تقديره: إنما الشهر المؤخّر، وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة والأشهب وشبل: (إِنَّمَا النَّسْئُ) ساكنة السين مهموزة على المصدر لا غير، وقرأ أبو عمرو وورش «١» النسيّ بالتشديد من غير همزة.
وروي ذلك عن ابن كثير على معنى النسيّ أي المتروك قال الله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ من النسيان، ويحتمل أن يكون أصله الهمز مخفف، واختلفوا في أصل الكلمة، فقال الأخفش:
هو من التأخير ومنه النسيئة في البيع، ويقال: أنسأ الله أجله، ونسأ في أجله أي أخّره، وقال قطرب: هو من الزيادة، وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسيء، وكذلك قيل للبن إذ كثر بالماء نسئ، ونسؤ، وللمرأة الحبلى نسؤت، لزيادة الواو فيها، وقد نسأت الناقة وأنسأتها إذا زجرتها ليزداد سيرها، وقال قتادة: عهد ناس من أهل الضلالة فزادوا صفرا في الأشهر الحرم، وكان يقوم قائمة في الموسم ويقول: ألا إن آلهتكم قد حرمت المحرم فيحرمونه ذلك العام، ثم يقوم في العام المقبل فيقول: ألا إن آلهتكم قد حرّمت صفر فيحرمونه ذلك العام وكان يقال لهما: صفران.
وأما معنى النسيء وبدوّ أمره على ما ذكره العلماء بألفاظ مختلفة ومعنى متفق، فهو إن العرب كانت تحرّم الشهور الأربعة وكان ذلك مما تمسّكت به من ملّة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل، وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، وقالوا: لئن توالت علينا ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئا لنجوعنّ، وإنما نصيب على ظهر دوابنا فربّما احتاجوا مع ذلك إلى تحليل المحرم أو غيره من الأشهر الحرم لحرب تكون بينهم فيكرهون استحلاله ويستحلون المحرم.
وكانوا يمكثون بذلك زمانا يحرّمون صفر، وهم يريدون به المحرم ويقولون: هو أحد الصفرين، وقد تأوّل بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلّم: ولا صفر، على هذا ثم يحتاجون أيضا إلى تأخير الصفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم، فيؤخّرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله، ثم يحتاجون إلى مثله، ثم كذلك فكذلك يتدافع شهرا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلّها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى وضعه الذي وضعه الله عز وجل وذلك بعد عمر طويل.
وقال مجاهد: كان المشركون يحجّون في كل شهر عامين، فحجّوا في ذي الحجة عامين، ثم حجّوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور التي وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلّم في العام القابل حجة الوداع فوافقت ذي الحجة، فذلك حين
قال النبي صلى الله عليه وسلّم في خطبته: «ألا إن الزمان قد ابتدأ فدعيت يوم خلق السموات والأرض إن السنة اثْنا عَشَرَ شَهْراً... ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثلاث
(١) ورش: وهو أبو سعيد وأبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو.
44
متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان» [١٨] «١».
أراد صلى الله عليه وسلّم أنّ الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء.
واختلفوا في أول من نسأ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك: أوّل من نسأ بنو مالك بن كنانة وكان [يليه] أبو ثمامة عبادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم كل عام على حمار فيقول: أيّها الناس إني أحدّث ولا أخاف ولا مردّ لما أقول. إنّا قد حرمنا المحرم، وأخّرنا صفر، ثم يجيء العام المقبل فيقول: إنّا قد حرّمنا صفر وأخّرنا المحرم.
وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة، وكان يكون قبل الناس بالموسم، وإذا همّ الناس بالصّدر قام فخطب الناس فقال: لا مردّ لما قضيت، أنا الذي لا أغاب ولا أخاب فيقول له المشركون: لبيك، ثم يسألهم أن ينسئهم شهرا يغيّرون فيه، فيقول:
إن القتال العام حرام، وإذا قال ذلك حلّوا الأوتار وقرعوا الأسنّة والأزجّة، وإن قال: حلال عقدوا الأوتار وشددوا الأزجّة وأغاروا على الناس.
[وقيل بعد] نعيم بن ثعلبة رجل يقال له: جنادة بن عوف وهو الذي أدركه رسول الله (صلى الله عليه وسلّم).
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أوّل من نسأ النسيء عمرو بن لحي بن بلتعة بن خندف، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو رجل من بني كنانة يقال له القلمّس في الجاهلية، وكان أهل الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الأشهر الحرم، يلقي الرجل قاتل أبيه وأخيه فلا يتعرض له فيقول قائلهم: اخرجوا بنا فيقال له: هذا المحرم، فيقول القلمّس: إني قد نسأته العام صفران، فإذا كان العام المقبل قضينا فجعلناهما محرمين، وقال [............] «٢» وقال الكميت: فهو النسيء الذي قال الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ... زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ قرأ أهل المدينة وعاصم وأبو عمرو يَضِلُّ بفتح الياء وكسر الضاد، واختاره أبو حاتم لأنه ضمّ الضالون لقوله بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً وقرأ أبو رجاء والحسن وأبو عبد الرحمن وقتادة ومجاهد وابن محيصن: يَضِلُّ مكسورة الضاد، ولها وجهان: أحدهما أن يكون الَّذِينَ كَفَرُوا في محل النصب أي يضل الله به الذين كفروا.
ألسنا الناسئين على معدّ شهور الحلّ نجعلها حراما «٣»
(١) مسند أحمد: ٥/ ٣٧.
(٢) كلام مطموس في الأصل.
(٣) لسان العرب: ١/ ١٦٧.
45
والوجه الثاني أن يكون الَّذِينَ في محل رفع على معنى يضل به الذين كفروا الناس المفسدين منهم، وقرأ أهل الكوفة: يُضَلُّ بضم الياء وفتح الضاد وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيدة لقوله زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ ويُحِلُّونَهُ يعني النسيء عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا ليوافقوا، قال ابن عباس: ليشبهوا، قال المؤرّخ: هو أنهم لم يحلّوا شهرا من الحرم إلا حرّموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرّموا شهرا من الحلال إلّا أحلوا مكانه شهرا من الحرم لئلّا تكون الحرم أكثر من أربعة أشهر ممّا حرم الله فيكون موافقا للعدد، فذلك المراد.
فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ الآية فيها حثّ من الله سبحانه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم على غزوة تبوك، وذلك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس وجدب من البلاد وشدة من الحر [حين] فأحرقت النخل وطابت الثمار وعظم على الناس غزوة الروم، وأحبّوا الظلال والمقام في المسكن والمال، فشقّ عليهم الخروج إلى القتال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قلّ ما خرج في عزوة الّا كنّى عنها وورّى بغيرها إلا غزوة تبوك لبعد شقتها وكثرة العدو ليتأهب الناس وأمرهم بالجهاد، وأخبرهم بالذي يريد
، فلمّا علم الله تثاقل الناس، انزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ أي شيء أمركم إِذا قِيلَ لَكُمُ إذا قال لكم رسول الله انْفِرُوا اخرجوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وأصل النفر مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج على ذلك، فقالت نفر فلان إلى ثغر كذا، ينفر نفرا ونفورا، ومنه نفور الدابة ونفارها اثَّاقَلْتُمْ تباطأتم.
قال المبرّد: أخلدتم إِلَى الْأَرْضِ ومعناه: لزمتم أرضكم ومساكنكم، وأصله تثاقلتم فأدغمت التاء في الثاء وأخرجت لها ألف يوصل إلى الكلام بها حين الابتداء بها، كقوله حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها «١» وقالُوا: اطَّيَّرْنا وأرجفت، العلاء والكسائي.
(١) سورة الأعراف: ٣٨.
46
تولى الضجيج إذا ما اشتاقها خضرا عذب المذاق إذا ما اتَّابع القبل
أي إذا تتابع.
أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ أي أرضيتم الدنيا ودعتها عوضا من نعيم الآخرة وثوابها فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ثم أوعدهم على ترك الجهاد إِلَّا تَنْفِرُوا وقرأ عبيد بن عمير تُنْفِرُوا بضم الفاء وهما لغتان يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً في الآخرة، وقيل: هو احتباس القطر عنهم،
سئل نجدة بن نفيع عن ابن عباس عن هذه الآية فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم استنفر حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأمسك عنهم المطر فكذلك كان عذابهم «١» وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ خيرا منكم وأطوع
، قال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس، وقال أبو صلاح: هم أهل اليمن وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً بترك النفير وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ هذا إعلام من الله أنه هو المتكفّل بنصر رسوله وإظهار دينه أعانوه أو لم يعينوه، وأنه قد نصره حين كان أولياؤه قليلا وأعدائه كثيرا، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدّة فقال عزّ من قائل: إِلَّا تَنْفِرُوا أيها المؤمنون إذا استنفركم، ولا تنصروه إذا استنصركم فالله يعينه يعوّضه عنكم كما نصره إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وقيل: [معناه] : إن لم تنصروه فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من مكة حين مكروا به وأرادوا [إخراجه] وهموا بقتله ثانِيَ اثْنَيْنِ نصب على الحال، وهو أحد الاثنين، والاثنين رسول الله وأبو بكر الصديق إِذْ هُما فِي الْغارِ وهو نقب في جبل بمكة يقال له ثور إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ أبي بكر رضي الله عنه لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا للعون والنصرة، ولم يكن حزن أبي بكر رضي الله عنه جبنا منه ولا سوء ظن وإنما كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يدلّ عليه أنه قال: يا رسول الله إن قتلت فأنا رجل واحد، وإن قتلت هلكت الأمة.
همام عن ثابت عن أنس أن أبا بكر حدّثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلّم ونحن في الغار: لو أن أحدا نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا فقال: يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما.
قال مجاهد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الغار ثلاثا.
قال عروة: كان لأبي بكر منيحة من غنم فكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلّم في الغار.
وقال قتادة: كان عبد الرحمن بن أبي بكر يختلف إليهما، فلمّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخروج دعاهم وكانوا أربعة: النبي صلى الله عليه وسلّم، وأبو بكر وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط الليثي.
قال الزهري: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر الغار أرسل الله زوجا من حمام حتى
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ١٧٤. [.....]
47
باضا أسفل النقب، والعنكبوت حتى نسج بيتا، فلمّا جاء سراقة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام وبيت العنكبوت، قال لو دخلاه لتكسر البيض، وتفسخ بيت العنكبوت، فانصرف.
وقال النبي: «اللهم أعم أبصارهم» [١٩] فعميت أبصارهم عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار.
روى السري بن يحيى عن محمد بن سيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر بن الخطاب فكأنّهم فضّلوا عمر على أبي بكر، قال: فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبى بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي وساعة بين يديه وساعة خلفه حتى وصل رسول صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا أبا بكر ما لك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد يديك، فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق.
فلما أتيا إلى الغار قال أبو بكر رضي الله عنه: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار «١»، فدخل فاستبرأ حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنّه لم يستبرئ الحجر، فقال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الحجر فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله فنزل، فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.
أبو عوانة عن فراس عن الشعبي قال: لقد عاتب الله أهل الأرض جميعا غير أبي بكر رضي الله عنه في هذه الآية، وقال أبو بكر:
قال النبي ولم يجزع يوقّرني ونحن في شدة من ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا وقد توكل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره كيد الشياطين كادته لكفّار
والله مهلكهم طرا بما كسبوا وجاعل المنتهى منها إلى النار «٢»
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ سكونه وطمأنينته عَلَيْهِ أي على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال ابن عباس:
على أبي بكر، فأمّا النبي صلى الله عليه وسلّم فكانت السكينة عليه قبل ذلك وَأَيَّدَهُ قرأ مجاهد: وآيده بالمد بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى أي المقهورة المغلوبة وَكَلِمَةُ اللَّهِ رفع على مبتدأ وقرأ يعقوب: وَكَلِمَةَ اللَّهِ على النصب على العطف هِيَ الْعُلْيا العالية.
(١) البداية والنهاية: ٣/ ٢٢١.
(٢) سبل الهدي والرشاد: ٣/ ٣٤٩، وذكر بقية الأبيات. والبداية والنهاية: ٣/ ٢٢٤، ولم يذكر إلّا البيتين الأولين، وفيه: ونحن في سدف من ظلمة الغار.
48
قال ابن عباس: الكلمة السفلى: كلمة الشرك، والعليا: لا إله إلّا الله وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا قال أبو الضحى: أول آية نزلت من براءة هذه الآية وقال مقاتل: قالوا:
فينا الثقيل وذو الحاجة والضيعة، والشغل والمنتشر أمره، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وأبى أن يعذرهم.
واختلفوا في معنى الخفاف والثقال، فقال أنس والحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة وشمر بن عطية ومقاتل بن حيان: مشاغيل، وقال الحكم: مشاغيل وغير مشاغيل. الحسن:
مشاغيل، وقال أبو صالح: خفافا من المال، أي فقراء وثقالا منه أي أغنياء، وقال ابن زيد:
الثقيل الذي له الضيعة فهو ثقيل يكبره بأن يضع ضيعته من الخفيف الذي لا ضيعة له. قال:
نشاط وغير نشاط، وقال عطية العوفي: ركبانا ومشاة، وقال مرة الهمذاني: أصحّاء ومرضى، وقال يمان بن رباب: عزّابا ومتأهلين.
وقيل: خفافا مسرعين غير خارجين ساعة اتباع النفير. قال: خفّ الرجل خفوفا إذا مشى مسرعا، وثقالا أي بعد التروية فيه والاستعداد له.
وقيل: خفافا من السلاح أي مقلّين منه وثقالا مستكثرين منه، فالعرب تسمي الأعزل مخفّا.
وقيل: خِفافاً من ماشيتكم وأبنائكم وَثِقالًا متكثّرين بهم وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ علي بن زيد عن أنس: إن أبا طلحة قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فقال: أي بني جهّزوني جهّزوني. فقال بنوه:
يرحمك الله قد غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلّم حتى مات، ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى ماتا، فنحن نغزو عنك، فقال: جهزوني، فغزا البحر فمات في البحر فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلّا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها فلم يتغير «١».
وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزوة وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنّك عليل، صاحب ضرّ فقال استنفر له الخفيف والثقيل، فإن لم يمكنني الحرب كثّرت السواد وحفظت المتاع.
(١) راجع تفسير الطبري: ٨/ ١٥٥.
49

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٢ الى ٤٩]

لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩)
ثم نزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين لَوْ كانَ اسمه مضمر أي لو كان ما يدعوهم إليه عَرَضاً قَرِيباً غنيمة حاضرة وَسَفَراً قاصِداً وموضعا قريبا.
قال المبرّد: قاصِداً أي ذا قصد نحو تامر ولابن «١»، وقيل: هو طريق مقصود فجعلت صفته على [فاعلة بمعنى مفعولة] كقوله عِيشَةٍ راضِيَةٍ «٢» أي مرضية. لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ يعني المسافة وقال الكسائي: هي الغزاة التي يخرجون إليها، وقال قطرب: هي السفر البعيد سمّيت شقة لأنّها تشقّ على الإنسان، والقراءة بضم الشين وهي اللغة الغالبة، وقرأ عبيد ابن عمير بكسر الشين وهي لغة قيس.
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا قرأ الأعمش بضم الواو لأن أصل الواو الضمة، وقرأ الحسن بفتح الواو لأن الفتح أخفّ الحركات، وقرأ الباقون بالكسر لأن الجزم يحرّك بالكسر لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بالحلف الكاذب وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في أيمانهم [واعتلالهم] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ قدّم العفو على القتل.
قال قتادة وعمرو بن ميمون: شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى الفدية فعاتبه الله كما تسمعون «٣».
وقال بعضهم: إنّ الله عز وجل وقره ورفع محله [فهو افتتاح] الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمخاطبه إن كان كريما عنده: عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك إلّا زرتني، وقيل: معناه: أدام الله لك العفو.
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في أعذارهم وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ فيها لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قوله تعالى وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ شكّت ونافقت قلوبهم فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ متحيّرين، وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ إلى الغزو لَأَعَدُّوا لهيّأوا
(١) أي ذو تمر وذو لبن.
(٢) سورة الحاقة: ٢١.
(٣) راجع تفسير الطبري: ٨/ ١٥٥.
50
لَهُ عُدَّةً وهي المتاع والكراع وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ لم يرد الله انْبِعاثَهُمْ [خروجهم] فَثَبَّطَهُمْ فمنعهم وحبسهم وَقِيلَ اقْعُدُوا في بيوتكم مَعَ الْقاعِدِينَ يعني المرضى والزمنى، وقيل:
النساء والصبيان.
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ الآية، وذلك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر الناس بالجهاد لغزوة تبوك، فلمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو وعسكره على ثنيّة الوداع، ولم يكن بأقلّ العسكرين، فلمّا سار رسول الله صلى الله عليه وسلّم تخلف عنه عبد الله بن أبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، فأنزل الله تعالى [يعزي] نبيه صلى الله عليه وسلّم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ يعني المنافقين ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا فسادا
، وقال الكلبي:
شرّا وقيل: غدرا ومكرا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يعني ولأوضعوا ركابهم بينكم، يقال: وضعت الناقة تضع وضعا ووضوعا إذا أسرعت السير، وأوضعها إيضاعا أي جدّ بها فأسرع، قال الراجز:
يا ليتني فيها جذع... أخبّ فيها وأضع «١»
وقال: أقصر فإنك طالما... أوضعت في إعجالها
قال محمد بن إسحاق يعني: أسرع الفرار في أوساطكم وأصل الخلال من الخلل وهو الفرجة بين الشيئين وبين القوم في الصفوف وغيرها، ومنه
قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «تراصّوا في الصفوف لا يخللكم الشيطان كأولاد الحذف» [٢٠] «٢».
يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يبغون لكم، يقول: يطلبون لكم ما تفتنون به، يقولون: لقد جمع [العدو] لكم فعل وفعل، يخبلونكم.
وقال الكلبي: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يعني الغيب والسر، وقال الضحاك: يعني الكفر، يقال فيه:
بغيته أبغيه بغاء إذا التمسته بمعنى بغيت له، ومثله عكمتك إن عكمت لك فيها، وإذا أرادوا أعنتك عليه قالوا: أبغيتك وأحلبتك وأعكمتك «٣».
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ قال مجاهد وابن زيد بينكم عيون لهم عليكم [يوصلون] ما يسمعون منكم، وقال قتادة وابن يسار: وفيكم من يسمع كلامهم ويطبعهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي عملوا بها لصد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر بتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم، كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أجالوا فيك وفي إبطال دينك الرأي بالتخذيل عنك وتشتّت أصحابك.
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ١٨٧. البيت لدريد بن الصمة قاله في يوم هوازن كما في لسان العرب: ٨/ ٣٩٨.
(٢) المعجم الصغير للطبراني: ١/ ١١٩.
(٣) تفسير الطبري: ١٠/ ١٨٧.
51
حَتَّى جاءَ الْحَقُّ أي النصر والظفر وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ دين الله وَهُمْ كارِهُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي الآية.
نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمّا تجهّز لغزوة تبوك، قال له: يا أبا وهب، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم وصفاء، قيل: وإنما أمر بذلك لأن الحبش غلبت على ناحية الروم فولدت لهم بنات قد أنجبت من بياض الروم وسواد الحبشة فكنّ صفر اللعس «١»، فلمّا قال له ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال جد: يا رسول الله لقد عرفت قومي أني رجل مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن فلا تفتنّي بهن وائذن لي في القعود وأعينك بمالي، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: قد أذنت لك، فأنزل الله (وَمِنْهُمْ) يعني ومن المنافقين (مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) في التخلف (وَلا تَفْتِنِّي) ببنات الأصفر «٢»
، قال قتادة:
ولا تأتمنّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ألا في الإثم والشرك وقعوا بخيانتهم وخلافهم أمر الله ورسوله وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ مطيفة بهم وجامعتهم فيها،
فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لبني سلمة وكان منهم: من سيّدكم؟ قالوا: جدّ بن قيس غير أنه نحيل جبان، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم وأي داء أدوى من البخل، بل سيّدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن معرور، فقال فيه حسّان:
وقال رسول الله والقول لاحق بمن قال منّا من تعدّون سيّدا
فقلنا له جدّ بن قيس على الذي نبخّله «٣» فينا وإن كان أنكدا
فقال وأي الداء أدوى من الذي رميتم به جدا وعالى بها يدا
وسوّد بشر بن البراء لجوده وحق لبشر ذي الندى أن يسوّدا
إذا ما أتاه الوفد أنهب ماله وقال خذوه إنه عائد غدا «٤»
(١) اللعس: سواد اللثة والشفة، وقيل: سواد في حمزة وقيل: سواد يعلو شفة المرأة البيضاء.
(٢) جامع البيان للطبري: ١٠/ ١٩٢.
(٣) في أسباب النزول: ببخله.
(٤) أسباب النزول للواحدي: ١٦٧، وتفسير القرطي: ٨/ ١٥٩.
52

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٩]

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ نصر وغنيمة تَسُؤْهُمْ [يعني] بهم المنافقين وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا عذرنا وأخذنا الجزم في القعود وترك الغزو مِنْ قَبْلُ من قبل هذه المصيبة.
قُلْ لهم يا محمد لَنْ يُصِيبَنا وفي مصحف عبد الله: قل هل يصيبنا، وبه قرأ طلحة ابن مصرف إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا في اللوح المحفوظ، ثم قضاه علينا هُوَ مَوْلانا وليّنا وناصرنا وحافظنا، وقال الكلبي: هو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ تنتظرون بِنا أيها المنافقون إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أما النصر والفتح مع الأجر الكبير، وأمّا القتل والشهادة وفيه الفوز الكبير.
أخبرنا أبو القاسم الحبيبي قال: حدّثنا جعفر بن محمد العدل، حدّثنا أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم العبدي، حدّثنا أبو بكر أمية بن بسطام، أخبرنا يزيد بن بزيع عن بكر بن القاسم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يضمن الله لمن خرج في سبيله ألّا يخرج إيمانا بالله وتصديقا برسوله أن [يرزقه] الشهادة، أو يردّه إلى أهله مغفورا له مع ما نال من أجر وغنيمة.
وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ إحدى الحسنيين أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ فيهلكهم الله كما أهلك الأمم الخالية. قال ابن عباس: يعني الصواعق، قال ابن جريج يعني الموت [والعقوبة] بالقتل بأيدينا كما أصاب الأمم الخالية من قبلنا فَتَرَبَّصُوا هلاكنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ وقال الحسن: فَتَرَبَّصُوا مواعيد الشيطان إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه، وكان الشيطان يمنّي لهم بموت النبي (صلى الله عليه وسلّم).
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً نزلت في منجد بن قيس حين استاذن النبي صلى الله عليه وسلّم في القعود عن الغزوة، وقال: هذا مالي أعينك به، وظاهر الآية أمر معناه خبر وجزاء تقديره: إن أنفقتم طوعا أو كرها فليس بمقبول منكم كقول الله عز وجل: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية. قال الشاعر:
53
إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ منافقين وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ قرأ نافع وعاصم ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي: (أن يقبل) بالياء لنعتهم الفعل، الباقون بالتاء نَفَقاتُهُمْ صدقاتهم إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ الاولى في موضع نصب، و «أن» الثانية في محل رفع تقديره:
وما منعهم قبول نفقاتهم إلّا كفرهم وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى مستاؤون لأنهم لا يرجون بأدائها ثوابا، ولا يخافون بتركها عقابا وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ لأنهم يتخذونها مغرما ومنعها مغنما.
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ لأن العبد إذا كان من الله تعالى في استدراج [..........] «١» إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال مجاهد وقتادة والسدّي:
في الآية تقديم وتأخير تقديرها: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وقال الحسن: إنما يريد الله أن يعذبهم في الحياة الدنيا بالزكاة والنفقة في سبيل الله، وقال ابن زيد: بالمصائب فيها، وقيل التعب في جمعه، والوجل في حفظه وحبه. وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ أي تخرج وتذهب أنفسهم على الكفر: يقال: زهقت الخيول أي خرجت عن الحلبة، وزهق السهم إذا خرج عن الهدف، وزهق الباطل أي اضمحل، قال المبرّد: وفيه لغتان: زهق يزهق وزهيق يزهق.
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ على دينكم وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يخافون لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً يعني حرزا وحصنا ومعقلا، وقال عطاء مهربا، وقال ابن كيسان: قوما يأمنون فيهم أَوْ مَغاراتٍ غيرانا في الجبال، وقال عطاء: سرادب، وقال الأخفش: كلّ ما غرت فيه فغبت فهو مغارة، وهي مفعلة من غار الرجل في الشيء يغور فيه إذا دخل، ومنه غار الماء وغارت العين إذا دخلت في الحدقة، ومنه غور تهامة، والغور: ما انخفض من الأرض، وقرأ عبد الرحمن بن عوف مُغارات بضم الميم جعله مفعلا من أغار يغير إذا أسرع ومعناه موضع فرارا، قال الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملامة لدينا ولا مقلية إن تفلت
فعدّ طلابها وتعدّ عنها بحرف قد تغير إذ تبوع «٢»
أَوْ مُدَّخَلًا موضع دخول، وهو مفتعل من تدخّل يتدخّل متدخّل، وقال مجاهد:
مُدَّخَلًا: محرزا. قتادة: سردابا، وقال الكلبي وابن زيد: نفقا كنفق اليربوع، وقال الضحاك:
مأوىّ يأوون إليه، وقال الحسن: وجها يدخلونه على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال ابن كيسان:
دخلا من مدخلا لا ينالهم منكم ما يخافون [منه] وقرأ الحسن: أَوْ مَدْخَلًا، مفتوحة الميم خفيفة
(١) كلام غير مقروء في المخطوط. [.....]
(٢) لسان العرب: ٥/ ٣٥.
54
الدال من دخل يدخل، وقرأ مسلمة بن محارب مُدْخَلًا بضم الميم وتخفيف الدال من دخل يدخل، وقرأه أبيّ مندخلا، منفعل من اندخل. كما قال:
فلا يدي في حميت السكن تندخل «١»
وقرأ الأعرج بتشديد الدال والخاء [............] «٢» جعله متّفعلا ثم أدغم التاء في الدال كالمزمّل والمدّثّر لَوَلَّوْا إِلَيْهِ لأدبروا إليه هربا منكم، وفي حرف أبي: لولّوا وجوههم إليه، وقرأ الأعمش والعقيلي: لوالوا إليه بالألف من الموالاة أي تابعوا وسارعوا.
وروى معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده- وكانت له صحبة- لَوَلَوْا إِلَيْهِ بتخفيف اللام لأنها من التولية يقال: ولي إليه بنفسه إذا انصرف ولولّوا إليه من المولي وَهُمْ يَجْمَحُونَ يسرعون في الفرار [لا يردهم شيء]. قال الشاعر أبان بن ثعلب:
سبوحا جموحا وإحضارها كمعمعة السعف الموقد «٣»
وقيل: إن الجماح مشي بين مشيين وهو مثل [الصماح]. قال مهلهل:
لقد جمحت جماحا في دمائهم حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا «٤»
وقرأ الأعمش: وهم يجمزون أي يسرعون ويشدّون وَمِنْهُمْ يعني من المنافقين مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ.
الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقسم قسما- قال ابن عباس كانت غنائم هوازن يوم حنين- جاء ابن ذي الخريصر التميمي وهو حرقوص بن زهير اصل الخوارج فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك ومن يعدل أن لم أعدل.
فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: دعه فأن له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر فلا يوجد فيه شيء، وقد سبق الفرث والدم، أشبههم برجل أسود في إحدى يديه، أو قال: أحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على فترة من الناس، وفي غير هذا الحديث: وإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا
(١) الصحاح: ٤/ ١٦٩٦.
(٢) كلام غير مقروء في الأصل.
(٣) لسان العرب: ٢/ ٤٢٧ وفيه: جموحا مروحا وإحضارها.
(٤) جامع البيان للطبري: ١٠/ ١٩٨.
55
فاقتلوهم، ثم إذا اخرجوا فاقتلوهم.
فنزل، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ «١» أي يعيبك في أمرها، ويطعن عليك فيها يقال: هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. قال الشاعر:
إذا لقيتك عن شحط تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة «٢»
وقال مجاهد: يهمزك: يطعنك، وقال عطاء: يغتابك، وقال الحسن والأعرج وأبو رجاء وسلام ويعقوب: يُلْمِزُكَ بضم الميم، وروى عوف بن كثير يَلْمِزْكَ بكسر الميم خفيفة فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ وقرأ [إياد بن لقيط] : ساخطون «٣». قال ابن زيد: هؤلاء المنافقون قالوا: والله لا يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثر بها إلّا هواه.
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ إلى قوله راغِبُونَ في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس، وقال ابن عباس: راغبون إليه فيما يعطينا من الثواب، ويصرف عنا من العقاب.
(١) مسند أحمد: ٣/ ٥٦.
(٢) لسان العرب: ٥/ ٤٢٦.
(٣) راجع تفسير الدر المنثور: ٣/ ٢٤٠.
56

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٠ الى ٦٩]

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩)
ثم بين [لمن] الصدقات فقال عز من قال إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ لا للمنافقين، واختلف العلماء في صفة الفقر والمسكين.
وقال ابن عباس والحسن وجابر بن زيد والزهري ومجاهد وابن زيد: الفقير: المتعفف عن المسألة، والمسكين: المحتاج السائل، وقال قتادة: الفقير: المؤمن المحتاج [الذي به زمانة] والمسكين: [الذي لا زمانة به] «١»، وقال الضحاك وإبراهيم النخعي: الفقراء فقراء المهاجرين، والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين المحتاجين، وروى ابن سلمة عن ابن علية عن ابن سيرين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ليس الفقير الذي لا مال له ولكن الفقير الأخلق الكسب قال ابن علية: الأخلق المحارف عندنا «٢»، وقال عكرمة: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين من أهل الكتاب.
وقال أبو بكر العبسي: رأى عمر بن الخطاب ذميما مكفوفا مطروحا على باب المدينة فقال له عمر: ما لك؟ قال: استكروني في هذه الجزيرة حتى إذا كف بصري تركوني فليس لي أحد يعود عليّ بشيء، فقال: ما أنصفت إذا، فأمر له بقوته وما يصلحه، ثم قال: هذا من الذين قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وهم زمنى أهل الكتاب «٣»، وقال ابن عباس: المساكين:
[الطوافون]، والفقراء، من المسلمين «٤».
أخبرنا عبد الله بن حامد. أخبرنا محمد بن جعفر. حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب. حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبّه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ليس المسكين هذا الطوّاف الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه «٥».
قال الفرّاء: الفقراء أهل الصفة لم يكن لهم عشائر ولا مال، كانوا يلتمسون الفضل ثم يأوون إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والمساكين: الطوّافون على الأبواب «٦»، وقال عبد الله بن الحسن: المسكين الذي يخشع ويستكين وإن لم يسأل، والفقير الذي يحتمل ويقبل الشيء سرا ولا يخشع وقال [ابن السكيت والقتيبي ويونس] الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي لا شيء له، واحتج بقول الشاعر:
(١) زيادة عن زاد المسير: ٣/ ٣٠٩.
(٢) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٠٤.
(٣) تفسير القرطبي: ٨/ ١٧٤، والمصنف لابن أبي شيبة: ٣/ ٦٨.
(٤) فتح القدير: ٢/ ٣٧٤.
(٥) تفسير ابن كثير: ١/ ٢١٤.
(٦) تاج العروس: ٣/ ٤٧٣. [.....]
57
إنّ الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد «١»
فجعل له حلوبة وجعلها وقفا لعياله أي قوتا لا فضل فيه، يدلّ عليه ما روي عن عبد الرحمن بن أبزي قال: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو فنسبهم الله تعالى إلى أنهم فقراء وجعل لهم سهما في الزكاة «٢».
وقال محمد بن مسلمة: الفقير الذي له مسكن يسكنه، والخادم إلى [.......] «٣» لأن ذلك المسكين الذي لا ملك له. قالوا: وكل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا من غيره، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، والمسكين المحتاج إلى كل شيء، ألا ترى كيف حضّ على إطعامه وجعل الكفّارة من الأطعمة له، ولا فاقة أعظم من [.....] «٤» في شدة الجوعة.
أما قوله: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ وإن مسكنتهم هاهنا مساكين على جهه الرحمة والاستعفاف لا بملكهم السفينة كما قيل لمن امتحن بنكبة أو دفع إلى بلية: مسكين،
وفي الحديث: «مساكين أهل النار»
[٢١] «٥» وقال الشاعر:
مساكين أهل الحبّ حتى قبورهم [عليها] تراب الذل بين المقابر «٦»
وَالْعامِلِينَ عَلَيْها يعني سقاتها وجباتها الذين يتولّون قبضها من أهلها ووضعها في حقها ويعملون عليها يعطون ذلك بالسعاية، أغنياء كانوا أو فقراء.
واختلفوا في قدر ما يعطون، فقال الضحّاك: يعطون: الثمن من الصدقة، وقال مجاهد:
يأكل العمال من السهم الثامن، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: يعطون على قدر عمالتهم، وهو قول الشافعي وأبي يعفور قالا: يعطون بقدر أجور أمثالهم، وإن كان أكثر من الثمن، يدلّ عليه قول عبد الرحمن بن زيد قال: لم يكن عمر ولا أولئك يعطون العامل الثمن إنما يفرضون له بقدر عمله «٧»، وقال مالك وأهل العراق: إنّما ذلك إلى الامام واجتهاده، يعطيهم الامام على قدر ما يرى.
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، قال قتادة: هم ناس من الأعراب وغيرهم كان النبي صلى الله عليه وسلّم يألفهم
(١) الصحاح: ٢/ ٧٨٢.
(٢) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٠٤.
(٣) كلام غير مقروء في المخطوط.
(٤) كلام غير مقروء في المخطوط.
(٥) تفسير القرطبي: ٨/ ١٧٠.
(٦) تفسير القرطبي: ٨/ ١٧٠.
(٧) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٠٧.
58
بالعطية كيما يؤمنوا، وقال معقل بن عبد الله: سألت الزهري عن الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، قال: من أسلم من يهودي أو نصراني، قلت: وإن كان غنيا؟ قال: وإن كان غنيا،
وقال ابن عباس: هم قوم قد أسلموا، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلّم يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها خيرا قالوا: هذا دين صالح، فإن كان غير ذلك عابوه وتركوه.
وقال ابن كيسان: هم قوم من أهل الحرب كان النبي صلى الله عليه وسلّم يتألّفهم بالصدقات ليكفّوا عن حربه
، وقال الكلبي ويحيى بن أبي كثير وغيرهم: ذوو الشرف من الأحياء، كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعطيهم في الإسلام يتألّفهم وهم الذين قسم بينهم يوم حنين الإبل، وهم: من بني مخزوم الحرث ابن هشام، وعبد الرحمن بن يربوع، ومن بني أمية أبو سفيان بن حرب ومنهم من بني جمح صفوان بن أمية، ومن بني عامر بن لؤي سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ومن بني أسد بن عبد العزى حكيم بن خزام، ومن بني هاشم أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، ومن بني فزارة عيينة بن حصين، وحذيفة بن بدر، ومن بني تميم الأقرع بن حابس، ومن بني النضر مالك بن عوف بن مالك ومن بني سليم العباس بن مرداس، ومن بني ثقيف العلاء بن خارجة، أعطى النبي صلى الله عليه وسلّم كل رجل منهم مائة ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى، قال وفي رواية أخرى: مخرمة بن نوفل، وعمير بن وهيب وهشام بن عمرو.
وزاد الكلبي: أبا البعائل بن يعكل وجد بن قيس السهمي وعمرو بن مرداس وهشام بن عمرو. قال: أعطى كل واحد منهم خمسين ناقة «١»، فقال العباس بن مرداس في ذلك للنبي صلى الله عليه وسلّم:
فأصبح نهبي ونهب العبيد... بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس... يفوقان مرداس في المجمع
وقد كنت في الحرب ذا [قوّة]... فلم أعط شيئا ولم أمنع
الا أفائل أعطيتها... عديد قوائمه الأربع
وكانت نهابا تلافيتها... بكري على المهر في الأجرع
وايقاظي القوم أن يرقدوا... إذا هجع الناس لم أهجع
وما كنت دون امرئ منهما... ومن تضع اليوم لا يرفع «٢»
فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلّم مائة ناقة، وأعطى حكيم بن حزام سبعين ناقة فقال: يا رسول الله ما كنت أدري أن أحدا أحق بعطائك مني فزاده عشرة أبكار، ثم زاده عشرة أبكار حتى أتمها له مائة، فقال حكيم: يا رسول الله أعطيتك التي رغبت عنها خير أم هذه التي زادت؟ قال: لا، بل هذه
(١) نصب الراية: ٢/ ٤٧٦.
(٢) تفسير القرطبي: ٨/ ١٨٠ وفيه تقديم وتأخير.
59
التي رغبت فيها. فقال: لا آخذ غيرها، فأخذ السبعين، فمات حكيم وهو أكثر قريش مالا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أعطي رجلا وأترك الآخر، والذي أترك أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أتألف هذا بالعطية، وأوكل المؤمن إلى إيمانه» [٢٢].
وقال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس اليّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.
ثم اختلفوا في وجود المؤلّفة اليوم وهل يعطون من الصدقة وغيرها أم لا؟، فقال الحسن:
أما المؤلفة قلوبهم فليس اليوم، وقال الشعبي: إنه لم يبق في الناس اليوم من الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلمّا ولي أبو بكر انقطعت الرشى، وهذا تأويل أهل القرآن، يدل عليه حديث عمر بن الخطاب حين جاءه عيينة بن حصين، فقال الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إن الإسلام أجلّ من أن يرشى عليه، أي ليس اليوم مؤلّفة.
وروى أبو عوانة عن مهاجر أبي الحسن، قال: أتيت أبا وائل وأبا بردة بالزكاة وهما على بيت المال فأخذاها، ثم جئت مرة أخرى فوجدت أبا وائل وحده فقال ردّها فضعها في مواضعها، قلت: فما أصنع بنصيب المؤلفة قلوبهم؟ فقال ردّه على الآخرين.
وقال أبو جعفر محمد بن علي: [في الناس] اليوم المؤلفة قلوبهم ثابتة
، وهو قول أبي ثور قال: لهم سهم يعطيهم الامام قدر ما يرى.
وقال الشافعي: المؤلّفة قلوبهم ضربان: ضرب مشركون فلا يعطون، وضرب مسلمون [إذا اعطاهم الإمام كفّوا شرهم عن المسلمين]، فأرى أن يعطيهم من سهم النبي وهو خمس الخمس ما يتألّفون به سوى سهمهم مع المسلمين، يدلّ عليه أن النبي صلى الله عليه وسلّم أعطى المؤلّفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وأعزّ أهله، وأمّا سهمهم من الزكاة فأرى أن يصرف في تقوية الدين وفي سدّ خلة الإسلام ولا يعطى مشرك تألّف على الإسلام، ألا إنّ الله تعالى يغني دينه عن ذلك، والله أعلم.
وَفِي الرِّقابِ مختصر أي في فك الرقاب من الرق، واختلفوا فيهم، فقال أكثر الفقهاء:
هم المكاتبون، وهو قول الشافعي والليث بن سعد، ويروى أنّ مكاتبا قام إلى أبي موسى الاشعري وهو يخطب الناس يوم الجمعة فقال له: أيها الأمير حثّ الناس عليّ، فحث أبو موسى، فألقى الناس ملاءة وعمامة وخاتما حتى ألقوا عليه سوادا كثيرا، فلمّا رأى أبو موسى ما ألقى الناس، قال أبو موسى: أجمعوه فجمع، ثم أمر به فبيع فأعطى المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل في الرقاب ولم يردّه على الناس، وقال إنما أعطى الناس في الرقاب «١».
(١) نصب الراية: ٢/ ٤٧٧.
60
وقال الحسن وابن عباس: يعتق منه الرقاب وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور، وقال سعيد بن جبير والنخعي، لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في ميقات رقبة مكاتب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
قال الزهري: سهم الرقاب نصفان: نصف لكلّ مكاتب ممن يدّعي الإسلام، والنصف الثاني لمن يشتري به رقاب ممن صلّى وصام وقدّم إسلامه من ذكر وأنثى يعتقون لله «١».
وَالْغارِمِينَ قتادة: هم قوم غرقتهم الديون في غير إملاق ولا تبذير ولا فساد «٢».
وقال مجاهد: من احترق بيته وذهب السيل بماله، وأدان على عياله «٣»،
وقال أبو جعفر الباقر: الغارمون صنفان: صنف استدانوا في مصلحتهم أو معروف أو غير معصية ثم عجزوا عن أداء ذلك في العرض والنقد فيعطون في غرمهم، وصنف استدانوا في جمالات وصلاح ذات بين ومعروف ولهم عروض إن بيعت أضرّ بهم فيعطى هؤلاء قدر عروضهم «٤».
وذلك إذا كان دينهم في غير فسق ولا تبذير ولا معصية، وأما من ادان في معصية الله فلا أرى أن يعطى، وأصل الغرم الخسران والنقصان، ومنه الحديث في الرحمن له غنمه وعليه غرمه، ومن ذلك قيل للعذاب غرام، قال الله تعالى إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً وفلان مغرم بالنساء أي مهلك بهنّ، وما أشدّ غرامه وإغرامه بالنساء.
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فيهم الغزاة والمرابطون والمحتاجون.
فأما إذا كانوا أغنياء فاختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يعطى الغازي إلا أن يكون منقطعا مفلسا، وقال مالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور: يعطى الغازي منها وإن كان غنيا، يدلّ عليه
قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها أو رجل اشتراها بماله، أو في سبيل الله أو ابن السبيل، أو رجل كان له جار تصدّق عليه فأهداها له» [٢٣] «٥».
وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر المجتاز، سمّي ابن السبيل للزومه إيّاه، كقول الشاعر:
أيا ابن الحرب رجّعني وليدا إلى أن شبت فاكتملت لداتي
قال مجاهد والزهري: لابن السبيل حق من الزكاة وإن كان غنيا إذا كان منتفعا به، وقال
(١) الدر المنثور: ٣/ ٢٥٢.
(٢) تفسير الطبري: ١٠/ ٢١١.
(٣) تفسير الطبري: ١٠/ ٢١١.
(٤) راجع كتاب الام للشافعي: ٢/ ٧٨. [.....]
(٥) تفسير الطبري: ١٠/ ٢١٢.
61
مالك وفقهاء العراق: هو الحاج المنقطع، وقال الشافعي: ابن السبيل من [جيران] الصدقة الذين يريدون السفر في غير معصية فيعجزون من بلوغ سفرهم إلا بمعونة، وقال قتادة: هو الضيف.
فَرِيضَةً واجبة مِنَ اللَّهِ وهو نصب على القطع في قول الكسائي، وعلى المصدر في قول سيبويه أي: فرض الله هذه الأشياء فريضة، وقال إبراهيم بن أبي عبلة: رفع فَرِيضَةٌ فجعلها خبرا كما تقول: إنّما يزيد خارج وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
واختلف العلماء في كيفية قسم الصدقات المذكورة في هذه الآية، [وهل] يجب لكل صنف من هؤلاء الأصناف الثمنية فيها حق، أو ذلك إلى رب المال ومن يتولى قسمها في أن له أن يعطي جميع ذلك من شاء من الأصناف الثمنية، فقال بعضهم: له قسمها ووضعها في أي الأصناف يشاء وإنما سمّى الله تعالى الأصناف الثمانية في الآية إعلاما منه إن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها لا إيجاد القسمة بينهم، وهو قول عمر بن الخطاب وحذيفة وابن عباس وابن [جبير] وعطاء وأبي العالية وميمون بن مهران وأبي حنيفة.
أخبرنا عبد الله بن حامد. أخبرنا أبو بكر الطبري. حدّثنا علي بن حرب، أخبرنا ابن فضيل، حدّثنا عطاء عن سعيد إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ الآية، أيّ هذه الأصناف وجدت أجزاك أن تعطيه صدقتك، ويقول أبو حنيفة: يجوز الاقتصار على رجل واحد من الفقراء، وقال مالك يخصّ بأمسّهم حاجة.
كان الشافعي يجري الآية على ظاهرها ويقول: إذا تولّى رب المال قسمتها فإن عليه وضعه في ثلاثة أصناف لأن سهم المؤلّفة ساقط، وسهم العاملين يبطل بقسمته إياها، فإذا تولّى الإمام قسمتها فإن عليه أن يقسمها على سبعة أصناف، يجزيه أن يعطي من كل صنف منهم أقل من ثلاثة أنفس ولا يصرف السهم ولا شيئا منه عن أهله أحد يستحقه، ولا يخرج من بلد وفيه أحد يردّ حقه ممّن لم يوجد من أهل السهام على من وجد منهم، وهذا قول عمر بن عبد العزيز، وعكرمة والزهري.
ثمّ رجع إلى ذكر المنافقين وقال: وَمِنْهُمُ يعني من المنافقين الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ
نزلت في حزام بن خالد، والجلاس بن سويد، وإياس بن قيس، ومخشي بن خويلد، وسمّاك بن يزيد، وعبيد بن هلال ورفاعة بن المقداد، وعبيدة بن مالك، ورفاعة بن زيد، كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلّم ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا ما يقولون فيقع بنا، فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول: فإنّما محمد أذن سامعة فأنزل الله هذه الآية «١».
(١) زاد المسير: ٣/ ٣١٢.
62
وقال محمد بن إسحاق عن يسار وغيره نزلت في رجل من المنافقين يقال له: نهشل بن الحرث، وكان حاسر الرأس أحمر العينين أسفح الخدين مشوّه الخلقة، وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلّم:
«من أراد أن ينظر الى الشيطان فلينظر إلى نهشل بن الحرث» [٢٤] «١»، وكان ينمّ حديث النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل، فقال: إنما محمد أذن، من حدّثه شيئا يقبل، نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له ويصدقنا عليه، فأنزل: الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ
يسمع من كل واحد ويقبل ما يقال له ومثله أذنة على وزن فعلة ويستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع، وأصله: أذن يأذن أذنا إذا استمع، ومنه
قول النبي صلى الله عليه وسلّم: ما اذن الله لشيء كأذنه لنبي بمعنى القرآن
، وقال عدي بن زيد:
أيها القلب تعلل بددن إن همي في سماع وأذن «٢»
وقال الأعشى:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا «٣»
وكان استأذنا أبو القاسم الحبيبي يحكي عن أبي زكريا العنبري عن ابن العباس الازهري عن أبي حاتم السجستاني أنّه قال: هُوَ أُذُنٌ أي ذو أذن سامعة.
قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ قراءة العامة بالإضافة أي أذن خير لا أذن شرّ، وقرأ الحسن والأشهب العقيلي: والأعمش والبرجمي: أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ مرفوعا من المنافقين ومعناه: إن كان محمدا كما تزعمون بأن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم.
ثم كذّبهم فقال يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يعلمهم، وقيل: يقال أمنتك وأمنت لك بمعنى صدقتك كقوله: الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ «٤» أي [..........] «٥» ربهم وَرَحْمَةٌ قرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة: (ورحمة) عطفا على معنى أذن خير وأذن شر في قول عبد الله وأبي، وقرأ الباقون: (وَرَحْمَةٌ) بالرفع أي: هو أذن خير، وهو رحمة، جعل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلّم مفتاح الرحمة ومصباح الظلمة وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ
قال قتادة والسدّي: [اجتمع نفر] من المنافقين منهم جلاس بن سويد وذريعة بن ثابت فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلّم
(١) أسباب النزول للواحدي ١١٨، وفيه: نبتل بن الحارث، وكذا في تفسير القرطبي: ٨/ ١٩٢.
(٢) تاج العروس: ٩/ ١٢٠.
(٣) تاج العروس: ٩/ ١٢٠.
(٤) سورة المؤمنون: ٥٨.
(٥) كلمة غير مقروءة.
63
وقالوا: لئن كان ما يقول محمد حق لنحن شر من الحمير، وكان سمعهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس، فحقروه وقالوا هذه المقالة، فغضب الغلام وقال: والله إنّ ما يقوله محمد حق وأنتم شر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا إن عامرا كذّاب، وحلف عامر أنهم كذبة، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلّم فجعل عامر يقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب، وقد كان قال بعضهم في ذلك: يا معشر المنافقين والله إني شر خلق الله، لوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية «١».
وقال مقاتل والكلبي: نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من تبوك أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلّفهم، ويطلبون ويحلفون، فأنزل الله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وقد كان حقه يرضوهما
وقد مضت هذه المسألة، قال الشاعر:
ما كان حبك والشقاء لتنتهي حتى يجازونك في مغار محصد
أي الحبل.
أَلَمْ يَعْلَمُوا وقراءة العامة بالياء على الخبر، وقرأ السلمي بالتاء على الخطاب أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ، قال مجاهد: كانوا يقولون القول بينهم ثم يقولون: عسى الله أن لا يفشي سرّنا فقال الله لنبيّه متهددا قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة الفاضحة والمثيرة والمبعثرة، أثارت مخازيهم ومثالبهم. قال الحسن: كان المسلمون يسمّون هذه السورة الحفّارة، حفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرته.
قال ابن كيسان نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا حلأها، ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما قدموا له، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، وعمار بن ياسر يقود برسول الله صلى الله عليه وسلّم وحذيفة يسوق به.
فقال لحذيفة: اضرب بها وجوه رواحلهم، فضربها حتى نحاهم، فلمّا نزل قال لحذيفة:
هل عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّهم فلان وفلان حتى عدهم كلّهم، فقال حذيفة ألا تبعث إليهم فتقتلهم، قال: «أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم، بل يكفيكم الله الدبيلة» قيل: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: «شهاب من جهنم يوضع على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه فكان كذلك» [٢٥] «٢».
(١) أسباب النزول للواحدي: ١٦٨.
(٢) انظر القصّة في: تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٨٧، بتفاوت.
64
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ الآية،
قال ابن عمر وقتادة وزيد بن أسلم ومحمد ابن كعب: قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل [قرائنا] هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقال له عوف بن مالك:
كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد ارتحل وركب ناقة فقال: يا رسول الله إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ونتحدث بحديث الركب يقطع به عنا الطريق.
قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم والحجارة تنكبه وهو ويقول: إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلّم أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ فالتفت إليه وما يزيده عليه «١».
وقال قتادة: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا أيظن هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيّه على ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: احبسوا عليّ الركب، فدعاهم فقال لهم: قلتم كذا وكذا، فقالوا يا نبي الله إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وحلفوا على ذلك، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال مجاهد: قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب، فأنزل الله هذه الآية
، وقال ابن كيسان: نزلت في وديعة بن ثابت وهو الذي قال هذه المقالة،
وقال الضحاك: نزلت في عبد الله بن أبي ورهطه كانوا يقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه ما لا ينبغي، فإذا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك قالوا: إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قال الله عز وجل: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ.
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بقولكم هذا بَعْدَ إِيمانِكُمْ إقراركم إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً قراءة العامة بضم الياء والتاء على غير تسمية الفاعل، وقرأ عاصم: إِنْ نَعْفُ بنون مفتوحة وفاء مضمومة، نُعَذِّبْ بالنون وكسر الذال طائِفَةٍ بالنصب، والطائفة في هذه الآية رجل يقال له مخشي بن حمير الأشجعي، أنكر عليهم بعد ما سمع ولم يمالئهم عليه وجعل يسير مجانبا لهم، فلمّا نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ اعنى بها، تقشعر منها الجلود وتجل وتجب «٢» فيها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة فيمن قتل فما أحد من المسلمين الا وجدوه وعرف مصرعه غيره «٣».
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٢٠، وأسباب نزول الآيات: ١٦٩.
(٢) كذا في تفسير ابن كثير وفي المصدر: تجل.
(٣) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٢٠، وتفسير ابن كثير: ٢/ ٣٨٢.
65
وقيل: معناه إن يتب على طائفة منكم فيعفو الله عنهم ليعذب طائفة بترك التوبة بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي شكل بعض وعلى دين بعض، يعني إنهم صنف واحد وعلى أمر واحد، ثم ذكر أمرهم فقال يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بالكفر والمعصية وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ عن الإيمان والطاعة وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ يمسكونها ويكفّونها عن الصدقة والنفقة في الحق ولا يبسطونها بالخير، وأصله: إنّ المعطي يمد يده ويبسطها بالخير، فقيل: لمن بخل ومنع قد قبض يده، ومنه قوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي ممسكة عن النفقة.
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ تركوا طاعة الله فتركهم الله من توفيقه وهدايته في الدنيا ومن رحمته المنجية من عذابه وناره في العقبى إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ كافيتهم عذابا وجزاء على كفرهم وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ طردهم وأبعدهم من رحمته وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني فعلتم كفعل الذين كانوا من قبلكم ولعنتم وعذّبتم كما لعن الذين كانوا من قبلكم من كفار الأمم الخالية كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً بطشا ومنعة وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا وتمتعوا وانتفعوا بِخَلاقِهِمْ بنصيبهم من الدنيا ورضوا به عوضا من الآخرة.
قال أبو هريرة: الخلاق «١» : الدين فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ في الباطل والكذب على الله وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين كَالَّذِي خاضُوا أراد كالذين خاضوا وذلك أن (الذي) اسم ناقص مثل (ما) و (من) يعبّر بها عن الواحد والجميع نظير قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ثم قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ «٢» قال الشاعر:
وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد «٣»
وأن شئت جعلت (الذي) إشارة إلى ضمير، وقوله: خضتم كالخوض الذي خاضوا فيه إلى قوله الْخاسِرُونَ.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم: لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع، حتى لو أن أحد من ثمّ أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه، قال أبو هريرة اقرءوا إن شئتم كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً الآية، قالوا: يا رسول الله كما صنعت
(١) وقال الراغب: الخلاق ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه.
(٢) سورة البقرة: ١٧. [.....]
(٣) كتاب العين للفراهيدي: ٨/ ٢٠٩، والبيت للأشهب بن زميلة كما في هامش الصحابة للجوهري: ١/ ٣٣٥.
66
فارس والروم وأهل الكتاب، قال: «وهل الناس إلا هم» «١» [٢٦] «٢».
قال ابن عباس في هذه الآية: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، وقال ابن مسعود: أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، تتبعون عملهم حذو القذّة بالقذّة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا «٣».
وقال حذيفة: المنافقون الذين فيكم اليوم شرّ من المنافقين الذي كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، قلنا: وكيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ يعني المنافقين والكافرين نَبَأُ خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حين عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا كيف أهلكناهم وعذّبناهم ثم ذكرهم. فقال قَوْمِ نُوحٍ بالمعنى بدلا من الذين أهلكوا بالطوفان وَعادٍ أهلكوا بالريح وَثَمُودَ أهلكوا بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ بسلب النعمة وهلاك نمرود وَأَصْحابِ مَدْيَنَ يعني قوم شعيب بعذاب يوم الظلّة وَالْمُؤْتَفِكاتِ المنقلبات التي جعلت عاليها سافلها، وهم قوم لوط أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فكذبوهم وعصوهم كما فعلتم يا معشر الكفّار فاحذروا بتعجيل النقمة فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ إلى قوله بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في الدين والملة والعون والنصرة والمحبة والرحمة.
قال جرير بن عبد الله سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «المهاجرون والأنصار بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في الدنيا والآخرة»، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في الدنيا والآخرة» [٢٧] «٤»
، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالإيمان والخير وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة.
قال أبو العالية كلّما ذكر الله تعالى في كتابة من الأمر بالمعروف فهو رجوع من الشرك إلى
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٢٥، ومسند أبي يعلى: ١١/ ١٨٢.
(٢) مسند أبي يعلى: ١١/ ١٨٢.
(٣) مجمع الزوائد: ٧/ ٢٦١ ورواه ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وسلّم).
(٤) المستدرك: ٤/ ٨١.
67
الإسلام، والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشيطان وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ المفروضة وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ إلى قوله وَمَساكِنَ طَيِّبَةً ومنازل طيبة.
قال الحسن: سألت أبا هريرة وعمران بن حصين عن قول الله وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ. قالا: على الخبير سقطت، سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «قصر في الجنة من لؤلؤ فيه سبعون دار من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا، على كل سرير سبعون فراشا، على كل فراش زوجة من الحور العين، وفي كل بيت مائدة وعلى كل مائدة سبعون لونا من الطعام، وفي كل بيت وصيفة، ويعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع» [٢٨] «١».
فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ في بساتين ظلال وإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به، ومنه المعدن،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ، يقول الله: طوبى لمن دخلك» [٢٩].
وقال عبد الله بن مسعود: هي بطنان الجنة أي وسطها، وقال ابن عباس: سألت كعبا عن جنات عدن فقال: هي الكروم والأعناب بالسريانية «٢»، وقال عبد الله بن عمر: إنّ في الجنة قصرا يقال له عدن، حوله البروج، والمروج، له خمسة آلاف باب، على كل باب [حبرة] لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
قال الحسن: جَنَّاتِ عَدْنٍ، وما أدراك ما جَنَّاتِ عَدْنٍ، قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل، ورفع به صوته. [في حديث آخر قصر] في الجنة يقال له: عدن، حوله البروج والمروج له خمسون ألف باب، وقال الضحاك: هي مدينة الجنة فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد، والجنان حولها.
وقال عطاء بن السائب: عدن نهر في الجنة جناته على حافتيه، وقال مقاتل والكلبي: أعلى درجة في الجنة وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها وهي مغطاة من يوم خلقها الله عز وجل حتى ينزلها أهلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء الله، وفيها قصور الدرة والياقوت والذهب، فتهب الريح الطيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأحلى، وقال عطاء الخراساني في قوله: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قال: قصر من الزبرجد والدرّ والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام في جنات عدن، وهي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن.
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ رفع على الابتداء، أي رضا الله عنهم أكبر من ذلك كله.
(١) مجمع الزوائد: ٣/ ١٤١.
(٢) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٣٠.
68
روى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربّنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من رضاك؟ فيقول: ألا أعلمكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» [٣٠] «١».
ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف والقتال وَالْمُنافِقِينَ.
اختلفوا في صفة جهاد المنافقين، قال ابن مسعود: بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فاكفهر «٢» في وجهه. قال ابن عباس: باللسان وشدة الزجر بتغليظ الكلام، قال الحسن وقتادة: بإقامة الحدود عليهم، ثم قال وَمَأْواهُمْ في الآخرة جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ قال [ابن مسعود وابن عباس] وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو [والصلح] والصفح.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا
قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسا في ظل شجرة فقال:
إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، إذا جاء فلا تكلّموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية «٣».
وقال الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى تبوك، وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبّوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه وطعنوا في الدين، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال النبي: «يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم؟» [٣١] فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ما قالوا بشيء من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية إكذابا لهم «٤».
(١) مسند أحمد: ٣/ ٨٨.
(٢) اكفهر: عبس.
(٣) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٣٧.
(٤) أسباب النزول للواحدي: ١٦٩.
69
وقال الكلبي: نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت [لأنّ] رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطب ذات يوم بتبوك وذكر المنافقين فسمّاهم رجسا وعابهم، فقال الجلاس: والله إن كان محمد صادقا فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس، فقال: أجل والله إن محمدا لصادق مصدق وأنتم شر من الحمير.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلّاس: كذب يا رسول الله عليّ، ما قلت شيئا من ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يحلفا عند المنبر بعد العصر، فحلف بالله الذي لا إله إلّا هو ما قاله، وإنه كذب عليّ عامر، ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلّا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع عامر بيديه إلى السماء فقال:
اللهم أنزل على نبيك الصادق منا المصدّق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنون: آمين، فنزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ فقام الجلاس، فقال: يا رسول الله أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، صدق عامر بن قيس في ذلك، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك منه ثم تاب فحسن توبته.
قال قتادة: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا: رجلا من جهينة، ورجلا من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، وظفر الغفاري على الجهيني، فنادى عبد الله بن أبي: أيّها الأوس انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا ومثل محمد إلّا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك.
ثم قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأرسل صلى الله عليه وسلّم إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، فأنزل الله عز وجل: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ.
قال مجاهد: هم المنافقون بنقل المؤمن الذي يقول لنحن شر من الحمير لكي لا يفشيه عليه.
قال السدي: قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا يباهي به [...........] «١» إليه.
وقال الكلبي: هم خمسة عشر رجلا منهم عبد الله بن أبي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق والجلاس بن سويد وعامر بن النعمان وأبو الأحوص، همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك فأخبر جبرائيل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقيل: إنهم من قريش هموا في قتل النبي صلى الله عليه وسلّم فمنعه الله عز وجل.
جابر عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية قال: همّ رجل من قريش يقال له
(١) كلمة غير مقروءة.
70
الأسود بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَما نَقَمُوا منه، ما أنكروا منه ولا [ينقمون] إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [ويقال: إنّ القتيل] مولى الجلاس قتل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى
، وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلّم في ضنك من عيشهم، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فلمّا قدم النبي صلى الله عليه وسلّم استغنوا بالغنائم
، وهذا مثل مشهور: اتّق شر من أحسنت إليه.
ثم قال الله عز وجل فَإِنْ يَتُوبُوا من نفاقهم وكفرهم يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يعرضوا عن الإيمان يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بالقتل والخزي وَالْآخِرَةِ بالنار وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الآية.
روى القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قال: جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ويحك يا ثعلبة قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه» ثم أتاه بعد ذلك. فقال: يا رسول الله أدع الله أن يرزقني مالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ولَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، والذي نفسي بيده لو أردت أن تصير الجبال معي ذهبا وفضة لصارت» ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطينّ كلّ ذي حق حقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اللهم ارزق ثعلبة مالا» [٣٢].
قال: فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها، فنزل واديا من أوديتها وهي تنمو كما تنمو الدود، وكان يصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلّم الظهر، ويصلّي في غنمه ساير الصلوات، ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد إلا الجمعة، ثم كثرت ونمت فتباعد حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة، فكان إذا كان يوم الجمعة يمر على الناس يسألهم عن الأخبار، فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسأل ذات يوم فقال: ما فعل ثعلبة؟ قالوا يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما ما يسعها واد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة» وأنزل الله تعالى آية الصدقة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجلا من بني سليم ورجل من جهينة وكتب لهما إتيان الصدقة
71
وكيف يأخذان وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مرّا بثعلبة بن حاطب ورجل من بني سليم فخذا صدقاتهما».
فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وقرءا له كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ، فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان ابله، فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلمّا زادها قالا: ما هذا عليك، قال: خذاه فإن نفسي بذلك طيبة، فمرّا على الناس وأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال:
أروني كتابكما فقرأه ثم قال: ما هذه إلا جزية، ما هذه الا أخت الجزية، اذهبا حتى أرى رأيي، قال: فأقبلا فلمّا رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يتكلّما قال: «يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة» ثم دعا للسلمي بخير فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، فأنزل الله فيه وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ إلى قوله وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجل من أقارب ثعلبة فسمع قوله فخرج حتى أتاه فقال: ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله عز وجل فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فسأله أن يقبل منه الصدقة.
فقال: «إن الله تعالى منعني أن أقبل منك صدقتك» فجعل يحثي على رأسه التراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني» [٣٣] فلما نهى أن يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يقبض ولم يقبل منه شيئا ثم أتى أبا بكر (رضي الله عنه) حين استخلف فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلّم وموضعي من الأنصار فاقبل صدقتي، فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا أقبلها؟ فلم يقبل، وقبض أبو بكر فلم يقبلها، فلمّا ولي عمر (رضي الله عنه) أتاه فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا أبو بكر، أنا لا أقبلها، فقبض عمر ولم يقبلها، ثم ولي عثمان فأتاه فسأله أن يقبل صدقته فقال: لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر، أنا لا أقبلها منك، فلم يقبلها منه وهلك في خلافة عثمان «١».
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: أتى ثعلبة مجلسا من الأنصار فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله أتيت منه كل ذي حق حقه، وتصدّقت منه، ووصلت القرابة، فمات ابن عم له فورثه مالا فلم يوف بما قال، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وقال مقاتل: مرّ ثعلبة على الأنصار وهو محتاج، فقال: لئن آتاني الله من فضله لأصّدقن ولأكوننّ من الصالحين فآتاه الله من فضله وذلك أن مولى لعمر بن الخطاب قتل رجلا من المنافقين خطأ فدفع النبي صلى الله عليه وسلّم ديته إلى ثعلبة، وكان قرابة المقتول فبخل ومنع حق الله فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
(١) بطوله في تفسير الطبري: ١٠/ ٢٤٢، واسد الغابة: ١/ ٢٣٨.
72
وقال الحسن ومجاهد: نزلت هذه الآية في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير وهما رجلان من بني عمرو بن عوف خرجا على ملأ قعود فقالا: والله لئن رزقنا الله لنصّدقنّ، فلمّا رزقهما الله تعالى بخلا.
وقال الضحاك: نزلت في رجال من المنافقين [نبتل] بن الحرث وجدّ بن قيس وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير قالوا:
لَئِنْ آتانا الله مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ، فَلَمَّا آتاهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ وبسط لهم الدنيا بَخِلُوا بِهِ ومنعوا الزكاة.
وقال الكلبي: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، كان له مال بالشام فجهد لذلك جهدا شديدا فحلف بالله: لئن آتانا الله من فضله من رزقه يعني المال الذي بالشام لأصدّقن منه ولأصلنّ ولآتين حق الله منه، فآتاه الله ذلك المال فلم يفعل ما قال، فأنزل الله عزّ وجلّ وَمِنْهُمْ يعني من المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا الله مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولنوفّينّ حق الله منه وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أي نعمل ما يعمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم والنفقة في الخير فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ فأتبعهم، وقيل فجازاهم ببخلهم. قال النابغة:
فمن أطاعك فانفعه بطاعته كما أطاعك وادلله على الرشد «١»
نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ حرمهم الله التوبة بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ قال معبد بن ثابت: إنما هو [شيء] ظاهر في أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع قول الله عزّ وجلّ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ؟
عن مسروق عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خصم فجر» [٣٤] «٢».
الأشعث عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صلّى وصام وزعم أنه مؤمن. إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، إذا أؤتمن خان» [٣٥].
وقال عبد الله بن مسعود اعتبروا المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، أنزل الله تصديق ذلك في كتابه وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ إلى قوله كانُوا يَكْذِبُونَ، وهذا خبر صعب الظاهر. فمن لم يعلم تأويله عظم خطؤه وتفسيره.
أخبرني شيخي الحسن بن محمد بن الحسن بن جعفر، قال: أخبرني أبي عن جدي
(١) تاريخ دمشق: ٣٥/ ٤٢٦. [.....]
(٢) صحيح البخاري: ١/ ١٤.
73
الحسين بن جعفر، قال: حدّثنا محمد بن يزيد السلمي، قال: حدّثنا عمار بن قيراط عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قال: كنت على قضاء سمرقند فقرأت يوما حديث المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق: إذا حدّث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف» [٣٦].
فتوزع فيه فكري وانقسم قلبي وخفت على نفسي وعلى جميع الناس وقلت من ينجو من هذه الخصال؟ [فأخللت] بالقضاء وأتيت بخارى وسألت علماءها فلم أجد فرجا، فأتيت مرو فلم أجد فرجا، فأتيت نيشابور فلم أجد عند علمائها فرجا، فبلغني أن شهر بن حوشب بجرجان فأتيته وعرضت عليه قصتي وسألت عن الخبر، فقال لي: لم [أكن] أنا [حين] سمعت هذا الخبر كالحبة على المقلاة «١» خوفا فأدرك سعيد بن جبير فأنه متولد بالريّ فاطلبه وسله لعلك تجد لي ولك، وسمعت أن عنده فرجا، فأتيت الري وطلبت سعيدا فأتيته وعرضت عليه القصة وسألته عن معنى الخبر.
فقال: أنا كذلك خائف على نفسي منذ بلغني هذا الخبر، وأنا خائف عليك وعلى نفسي من هذه الخصال: ولقد قاسيت وعانيت سفرا طويلا وبلايا فعليك بالحسن البصري فإني أرجو أنك تجد عنده لي ولك وللمسلمين فرجا، فأتيت البصرة وطلبت الحسن وقصصت عليه القصة بطولها، فقال رحم الله شهرا قد بلغها النصف من الخبر ولم يبلغهما النصف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما قال هذا الخبر شغل قلوب أصحابه [وهابوا] أن يسألوه، فأتوا فاطمة وذكروا لها شغل قلوبهم بالخبر، فأتت فاطمة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرته شغل قلوب أصحابه، فأمر سلمان فنادى الصلاة جامعة، فلمّا اجتمعوا صعد المنبر فقال: «يا أيها الناس أما إنّي كنت قلت: ثلاث من كنّ فيه فهو منافق: إذا حدّث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف، ما عنيتكم بها، إنّما عنيت بها المنافقين، إنما قولي: إذا حدّث كذب فإن المنافقين أتوني وقالوا لي: والله إن إيماننا كإيمانك وتصديق قلوبنا كتصديق قلبك، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ الآية، وأما قولي: إذا أؤتمن خان: فإن الأمانة الصلاة والدين كلّه أمانة، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
وفيهم قال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ وأما قولي: إذا وعد أخلف، فإنّ ثعلبة بن حاطب أتاني فقال: إني فقير ولي غنيمات فادع الله أن يبارك فيهن، فدعوت الله فنمت وزادت حتى ضاقت الفجاج بها، فسألته الصدقات فأبى عليّ وبخل بها، فأنزل الله عزّ وجلّ وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ إلى قوله بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ»
[٣٧].
(١) مثل، والمقلاة وعاء من نحاس أو غيره يقلى فيه الطعام.
74
فسرّ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكبّروا وتصدّقوا بمال عظيم «١».
وروى القاسم بن بشر عن أسامة عن محمد [المخرمي] قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: [من] إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» [٣٨] «٢» فقال الحسن: يا أبا سعيد والله لئن كان لرجل عليّ دين فلقيني فتقاضاني وليس عندي فخفت أن يحبسني ويهلكني فوعدته أن أقضيه رأس الهلال فلم أفعل أمنافق أنا؟! هكذا جاء الحديث.
ثم حدّث عن عبد الله بن عمرو أن أباه لما حضره الموت قال: زوّجوا فلانا فإني وعدته أن أزوجه، لا ألقى الله بثلث النفاق، قال: قلت: يا أبا سعيد ويكون ثلث الرجل منافقا وثلثاه مؤمنا؟ قال: هكذا جاء الحديث.
قال محمد: فحججت فلقيت عطاء بن أبي رباح فأخبرته بالحديث الذي سمعته من الحسن وما الذي قلت له عن المنافق وما قال لي: فقال لي أعجزت أن تقول له: أخبرني عن إخوة يوسف ألم يعدوا أباهم فأخلفوه وحدثوه فكذبوه وائتمنهم فخانوه أفمنافقين كانوا ألم يكونوا أنبياء، أبوهم نبيّ وجدّهم نبيّ؟
فقلت لعطاء: يا أبا محمّد حدّثني بأصل هذا الحديث، فقال: حدّثني جابر بن عبد الله أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصة الذين حدثوا النبي صلى الله عليه وسلّم فكذبوه وائتمنهم على سرّه فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه إلى الغزو فأخلفوه، قال: فخرج أبو سفيان من مكة فأتى جبريل فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا» [٣٩] فكتب رجل من المنافقين إليه: إن محمدا يريد بعثكم فأنزل الله عزّ وجلّ لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ «٣» وأنزل في المنافقين وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا إلى قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. قال: إذا أتيت الحسن فاقرأه مني السلام فأخبره أصل هذا الحديث وبما قلت لك.
فقدمت على الحسن وقلت: يا أبا سعيد إن أخاك محمّدا يقرئك السلام، فأخبرته بالحديث الذي حدث. فأخذ الحسن يدي فأحالها وقال: يا أهل العراق أعجزتم أن تكونوا مثل هذا، سمع منا حديثا فلم يقبله حتى استنبط أصله، صدق عطاء هكذا الحديث في المنافقين خاصة «٤».
(١) بطوله في تفسير الطبري: ١٠/ ٢٤٤. ٢٤٥.
(٢) صحيح مسلم: ١/ ٥٦.
(٣) سورة الأنفال: ٢٧.
(٤) بطوله في تفسير الطبري: ١٠/ ٢٤٥. ٢٤٦ ح ١٣٢١٥.
75

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٩ الى ٩١]

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣)
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ
قال أهل التفسير: حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف فجئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله، فأمسكت أربعة آلاف لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت» [٤٠].
فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى مات وعنده امرأتين يوم مات فبلغ ثمن مالهما مائة وستون ألف درهم لكل واحدة منهما ثمانون ألفا، وتصدّق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وستين وسقا من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري- واسمه الحباب- بصاع من تمر وقال: يا رسول الله بت ليلتي أجرّ بالجرير أحبلا حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لأهلي وأتيتك بالآخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ينثره في الصدقات، فلمزهم المنافقون، وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلّا رياء، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع أبي عقيل، ولكنه أحبّ أن يزكي نفسه ليعطي الصدقة «١» فأنزل الله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ أي يعيبون ويغتابون الْمُطَّوِّعِينَ المتبرعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ.
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٥١، وفتح الباري: ٢٥٠٨، وأسباب النزول للواحدي: ١٧٢- ١٧٣.
76
وقال النضر بن شميل: هو الطيب نفسه في الصدقة يعني عبد الرحمن وعاصم.
وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ طاقتهم يعني أبا عقيل.
قرأ عطاء والأعرج: جَهْدَهُمْ بفتح الجيم، وهما لغتان مثل الجهد والجهيد، والضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغة أهل نجد.
وكان الشعبي يفرق بينهما فيقول الجهد: في العمل والجهد في القوة، وقال القتيبي في الجهد: الطاقة والجهد المشقة فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أو جازاهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
روى ابن عليّة عن الحريري عن أبي العليل قال: وقف على الحجر رجل فقال: حدثني أبي أو عمّي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يقول: «من يصّدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة». قال: وعليّ عمامة لي فنزعت منها لوثا أو لوثين لأتصدق بها ثم أدركني بما يدرك ابن آدم فعصّبت بها رأسي، قال: فجاء رجل لا أرى بالبقيع رجلا أقصر قامة ولا أشدّ سواد ولا أدم منه يقود ناقة لم أر بالبقيع ناقة أحسن ولا أجمل منها. فقال: هي وما في بطنها صدقة يا رسول الله، فألقى إليه بخطامها قال: فلمزه رجل جالس فقال: والله لم يتصدق بها ولهي خير منه. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «بل هو خير منك ومنها «١» » [٤١]، يقول ذلك مليا فأنزل الله عزّ وجل هذه الآية ثم قال اسْتَغْفِرْ لَهُمْ يعني لهؤلاء المنافقين أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
لفظه [أمر ومعناه] جزاء تقديره: إن أستغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ والسبعون عند العرب غاية تستقصى بالسبعة، والأعضاء، والسبعة تتمة عدد الخلق، كالسماوات والأرض والبحار والأقاليم.
ورأيت في بعض التفاسير: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً بإزاء صلواتك على [قبر] حمزة «٢» لن يغفر الله لهم.
قال الضحاك: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الله قد رخّص لي فسأزيدن على السبعين لعل الله أن يغفر لهم» [٤٢].
فأنزل الله عزّ وجلّ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «٣».
وذكر عروة بن الزبير أن هذه الآيات نزلت في عبد الله بن أبي حين قال لأصحابه: لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضّوا من حوله، ثمّ قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فأنزل الله تعالى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لأزيدن على السبعين»
(١) جامع البيان للطبري: ١٠/ ٢٥٠.
(٢) كذا في المخطوط، وكلمة «قبر» زيادة منّا.
(٣) سورة المنافقون: ٦.
77
[٤٣] فأنزل الله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
فأبى الله أن يغفر لهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ عن غزوة تبوك بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ قال قطرب والمؤرخ: يعني مخالفة لرسول الله حين سار وأقاموا، وقال أبو عبيدة: يعني بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلّم).
وأنشد الحرث بن خالد:
عقب الربيع خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا «١»
أي بعدهم، ويدل على هذا التأويل قراءة عمرو بن ميمون: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ وكانت غزوة تبوك في شدة الحر قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ يعلمون ذلك، هو في مصحف عبد الله فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا في الدنيا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ قال أبو موسى الأشعري: إن أهل النار ليبكون الدموع في النار حتى لو أجريت السفن من دموعهم لجرت، ثمّ إنهم ليبكون الدم بعد الدموع ولمثل ما هم فيه فليبكي.
وقال ابن عباس: إن أهل النفاق ليبكون في النار عمر الدنيا فلا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
شعبة عن قتادة عن أنس قال: قال أنس: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا كثيرا فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ رجعك الله من غزوة تبوك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ يعني من المخلّفين فإنما قال طائفة منهم لأنه ليس كل من تخلّف عن تبوك كان منافقا فَاسْتَأْذَنُوكَ في أن يكونوا في غزاة أخرى فَقُلْ لهم لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا عقوبة لهم على تخلّفهم إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بمعنى تخلّفوا عن غزوة تبوك فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ قال ابن عباس: الرجال الذين تخلفوا بغير عذر.
الضحاك: النساء والصبيان والمرضى والزمنى، وقيل: مَعَ الْخالِفِينَ. قال الفراء: يقال:
عبد خالف وتخالف إذ كان مخالفا، وقيل: [ضعفاء] الناس ويقال: خلاف أهله إذ كان ذويهم، وقيل مع أهل الفساد من قولهم: خلف الرجل على أهله يخلف خلوفا إذ فسد، ونبيذ خالف أي فاسد [من قولك] : خلف اللبن خلوفا إذا حمض من طول وضعه في السقاء، وخلف فم الصائم إذا تغيّرت ريحه، ومنه خلف سوء، وقرأ مالك بن دينار: مع المخالفين.
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً
قال المفسرون- بروايات مختلفة: بعث عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو مريض فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له: أهلكك يهود، فقال: يا رسول الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن بعثت إليك لتستغفر لي وسأله أن
(١) لسان العرب: ٩/ ٨٦.
78
يكفنه في قميصه ويصلي عليه، فلما مات عبد الله بن أبي انطلق ابنه إلى النبي (عليه السلام) ودعاه إلى جنازة أبيه فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: ما اسمك؟ قال: الحباب بن عبد الله فقال صلى الله عليه وسلّم: «أنت عبد الله بن عبد الله، فإنّ الحباب هو الشيطان» [٤٤] «١». ثم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما قام قال له عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : يا رسول الله تصلي على عدو الله ابن أبي القائل يوم كذا وكذا، وجعل يعد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يبتسم حتى إذا أكثر عليه قال: عني يا عمر إنما خيرني الله فاخترت، قيل لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ هو أعلم فإن زدت على السبعين غفر له؟؟ ثم شهّده وكفّنه في قميصه ونفث في جنازته «٢» ودلاه في قبره.
قال عمر (رضي الله عنه) : فعجبت من جرأتي على رسول الله (صلى الله عليه وسلّم). فما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلّا يسيرا حتى نزلت وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي لا تصلي على قبره بمحل لا تتولّ دفنه: من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره.
إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قبض، وعيّر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه» [٤٥] «٣».
قال الزجاج: فأسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستغفار بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذكروا أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم أسرّ إلى حذيفة أثني عشر رجلا من المنافقين فقال ستة يكفيهم الله بألف مائة شهاب «٤» من نار تأخذ كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره، وستة يموتون موتا. فسأل عمر حذيفة عنهم فقال: ما أنا بمخبرك أحد منهم ما كان حيا. فقال عمر: يا حذيفة أمنهم أنا؟ قال:
لا. قال: أفي أصحابي منهم أحد. فقال: رجل واحد. قال: قال: فكأنما دلّ عليهم عمر حتى نزعه من غير أن يخبره به «٥».
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها الآية وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ الغني منهم جدّ بن قيس ومعتب بن قشير وأمثالهما وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ ورحالهم رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٩٠.
(٢) في تفسير الطبري: جلده.
(٣) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٦٢. [.....]
(٤) في تفسير الطبري: تكفيهم الدبيلة سراج من نار، والدبيلة الطاعون.
(٥) تفسير الطبري: ١١/ ١٦.
79
يعني النساء وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ يعني الحسنات.
وقال المبرد: يعني الجواري الفاضلات. قال الله تعالى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ «١» واحدها الخيرة وهي الفاضلة من كل شيء. قال الشاعر:
ولقد طعنت مجامع الربلات ربلات هند خير الملكات «٢»
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ الآية وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ قرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن والضحاك وحميد ويعقوب ومجاهد وقتيبة: المعذرون خفيفة، ومنهم المجتهدون المبالغون في العذرة،
وقال الضحاك: هم رهط عامر بن الطفيل تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم تبوك خوفا على أنفسهم فقالوا: يا رسول الله إن نحن غزونا معك تغير أعراب طيّ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لهم: «قد أنبأني الله من أخباركم وسيغنيني الله عنكم»
[٤٦].
قال ابن عباس: هم الذين تخلفوا بغير إذن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأن الميم لا تدغم في العين، وقرأ مسلمة: المعّذّرون بتشديد العين والذال ولا وجه لها لأن الميم لا يدغم في العين لبعد مخرجيهما، وقرأ الباقون: بتشديد الذال، وهم المقصرون.
يقال: أعذر في الأمر بالمعذرة وعذر إذا قصر.
وقال الفراء: أصله المعتذر فأدغمت التاء في الذال وقلبت حركة التاء إلى العين.
وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ قراءة العامة بتخفيف الذال يعنون المنافقين، وقرأ أبي والحسن:
كَذَّبُوا اللَّهَ بالتشديد سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ثم ذكر أهل العذر فقال لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ قال ابن عباس: يعني الزمنى والمشايخ والعجزة وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ يعني الفقراء حَرَجٌ إثم إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ في مغيبهم ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
(١) سورة الرحمن: ٧٠.
(٢) صحاح الجوهري: ٢/ ٦٥٢، ونسبه لرجل من عدي جاهلي.
80

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٢ الى ١٠٥]

وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
قال قتادة نزلت في عايد بن عمرو وأصحابه، وقال الضحاك: في عبد الله بن زائد وهو ابن أم مكتوم وكان ضرير البصر فقال: يا نبي الله إني شيخ ضرير البصر خفيف الحال نحيف الجسم وليس لي فائدة هل لي رخصة في التخلف عن الجهاد؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ نزلت في البكائين وكانوا سبعة: معقل بن يسار وصخر بن خنساء «١». وهو الذي واقع امرأته في رمضان فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يكفّر «٢» - وعبد الله بن كعب الأنصاري وعلبة بن زيد الأنصاري وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن معقل أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله إن الله عزّ وجلّ قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزوا معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فتولوا وهم يبكون «٣» فذلك قوله تعالى: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ
قال مجاهد: نزلت هذه الآية [في عبد الله وعبد الرحمن وعقيل والنعمان وسويد]
(١) راجع اسد الغابة: ٣/ ١٣، فذكره باسم: صخر بن سليمان، وفي الإصابة: صخر بن أميّة بن خنساء.
(٢) قال ابن حجر في الإصابة: (٣/ ٣٣٢ ترجمة: ٤٠٦٤) المشهور أنّ صاحب قصّة الوقاع سلمة بن صخر فلعلّه تحريف من الثعلبي.
(٣) أسباب النزول: ١٧٤.
81
[وسنان] «١» إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ الآية يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أن نصدّقكم قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ فيما بعد أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من المحسن والمسيء سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ انصرفتم إِلَيْهِمْ عندهم لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ [لتصفحوا عن جرمهم ولا] تردونهم ولا تؤنبونهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ودعوهم وما اختاروا لأنفسهم من الشأن والمعصية إِنَّهُمْ رِجْسٌ نجس، قال عطاء: أن عملهم نجس وَمَأْواهُمْ في الآخرة جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ
قال ابن عباس: نزلت في جدّ بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا قدموا المدينة لا تجالسوهم ولا تكلموهم» [٤٧] «٢».
وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي حلف النبي صلى الله عليه وسلّم بالذي لا إله إلّا هو أن لا يرضى عنهم بعدها، وليكون معه على عدوه وطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أن يرضى عنه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الْأَعْرابُ يعني أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل الحضر وَأَجْدَرُ أحرى وأولى أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قال قتادة: هم أقل علما بالسنن.
وروى الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو مع أصحابه وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند فقال الأعرابي: والله ما أدري إن حديثك ليعجبني وإنّ يدك لترعبني فقال: أي يد من يدي «٣» إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال؟ فقال زيد بن صوحان: صدق الله الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً الآية «٤» وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً قال عطاء: لا يرجو على إعطائه ثوابا ولا يخاف على إمساكه لها إنما ينفق خوفا رياء وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ يعني صروف الزمان التي تأتي مرّة بالخير ومرّة بالشرّ. قال: أن متى ينقلب الزمان عليكم فيموت الرسول ويظهر المشركون عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ قرأ ابن كثير وابن محصن ومجاهد وأبو عمرو بضم السين هاهنا وفي سورة الفتح، ومعناه الشر والضر والبلاء والمكروه، وقرأ الباقون على الفتح بالمصدر واختاره أبو عبيد وأبو حاتم في هذه الآية مِنَ الْأَعْرابِ أسد وغطفان وتميم واعراب حاضري المدينة ثم استثنى فقال
(١) عن هامش تفسير القرطبي، وفي أسباب النزول: في بني مقرن معقل وسويد والنعمان، والمخطوط مطموس.
(٢) انظر زاد المسير: ٣/ ٣٣١.
(٣) في المصدر: ما يريبك من يدي.
(٤) جامع البيان: ١١/ ٦.
82
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة وقال الضحاك: يعني عبد الله ذا النجادين ورهطه.
وقال الكلبي أسلم وغفار بنو جهينة وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ جمع قرابة وَصَلَواتِ الرَّسُولِ يعني دعاءه واستغفاره أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم وَالْأَنْصارِ الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أعدائه من أهل المدينة وأيّدوا أصحابه وقد كانوا آمنوا قبل أن يهاجروا إليهم بحولين وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ يعني الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة.
وقال عطاء: هم الذين يذكرون المهاجرين بالوفاء والترحّم والدعاء ويذكرون مجاورتهم ويسألون الله أن يجمع بينهم.
وروي أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قرأ: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان برفع الواو وحذف الواو من الذين، قال له أبيّ بن كعب: إنما هو وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ وإنه قد كرّرها مرارا ثلاثة، فقال له: إني والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، وإنك يومئذ شيخ تسكن ببقيع الغرقد، قال: حفظتم ونسينا وتفرغتم وشغلنا وشهدتم وغبنا ثم قال عمر لأبيّ: أفيهم الأنصار؟ قال: نعم ولم يستأمن الخطاب ومن ثمّ قال عمر: قد كنت أظن إنّا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا فقال أبي: بلى، تصديق ذلك أول سورة الجمعة وأواسط سورة الحشر وآخر سورة الأنفال. قوله: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ إلى آخره وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ إلى آخر الآية، وقوله:
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ، وقرأ الحسن وسلام ويعقوب: والأنصار رفعا عطفا على السابقين ولم يجعلوهم منهم وجعلوا السبق للمهاجرين خاصة والمقاسة على الخبر نسقا على المهاجرين.
واختلف العلماء في السابقين الأولين من هم. فقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين: هم الذين صلّوا القبلتين جميعا.
وقال عطاء بن أبي رباح: هم الذين شهدوا بدرا.
وقال الشعبي: هم الذين شهدوا حجة الرضوان.
واختلفوا أيضا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد امرأته خديجة بنت خويلد مع اتفاقهم أنها أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلّم وصدّقته.
فقال بعضهم: أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلّى معه على بن أبي طالب (رضي الله عنه)
وهو قول ابن عباس وجابر وزيد بن أرقم ومحمد بن المنكدر وربيعة الرأي وأبي حازم المدني.
83
وقال الكلبي: أسلم علي وهو ابن تسع سنين
، وقال مجاهد وابن إسحاق: أسلم وهو ابن عشر سنين.
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: كان نعمة الله على علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) وما صنع الله له وأراد به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله للعباس وكانا من أيسر بني هاشم: «يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ من بنيه رجلا فنكفيهما عنه».
فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب [فقالا: إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب] : إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا كرم الله وجهه فضمّه إليه وأخذ العباس جعفرا يضمّه إليه فلم يزل علي (رضي الله عنه) مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى بعثه الله نبيّا فاتبعه علي (رضي الله عنه).
فآمن به وصدقه ولم يزل جعفر مع العباس رضي الله عنه حتى أسلم واستغنى عنه [٤٨] «١».
وروى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال: كنت امرأ تاجرا فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقا وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم، فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخرّ الشاب ساجدا فسجدا معه فرفع الغلام والمرأة فقلت: يا عباس أمر عظيم! فقال: أمر عظيم. فقلت: ويحك ما هذا؟ فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء «٢».
قال عبد الله الكندي بعد ما رسخ الإسلام في قلبه: ليتني كنت رابعا. فيروي أن أبا طالب قال لعلي (رضي الله عنه) : أي بني ما هذا الذي أنت عليه قال: آمنت بالله ورسوله وصدقته فيما جاء وصليت معه لله. فقال له: أما أن محمدا لا يدعو إلّا إلى خير فالزمه «٣».
(١) تاريخ الطبري: ٢/ ٥٨ والمستدرك: ٣/ ٥٧٦ وما بين المعقوفتين أثبتناه من المصادر.
(٢) تاريخ دمشق: ٨/ ٣١٤ ط. دار الفكر.
(٣) تاريخ الطبري: ٢/ ٥٨، وعيون الأثر لابن سيد الناس: ١/ ١٢٦، وذخائر العقبى: ٦٠. [.....]
84
وروى عبد الله بن موسى عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عبّاد بن عبد الله قال: سمعت عليّا يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلّا كذاب مفتر، صلّيت قبل الناس بسبع سنين «١».
وقال بعضهم: أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر (رضي الله عنه) وهو قول إبراهيم النخعي وجماعة يدلّ عليه ما
روى أبو أمامة الباهلي عن عمرو بن عنبسة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو نازل بعكاظ، قلت: يا رسول الله من تبعك في هذا الأمر؟ قال صلى الله عليه وسلّم: «اتبعني رجلان حر وعبد أبو بكر وبلال» [٤٩] فأسلمت عند ذلك، فلقد رأيتني إذ ذلك ربع الإسلام.
قال: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الله البدخشي يقول سمعت أبا هريرة مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي يقول: سمعت غياث بن معاذ يقول:
سمعت وكيع بن الجراح يقول: عن إسماعيل بن خالد عن الشفهي قال: قال رجل لابن عباس:
من أول الناس إسلاما قال: أبو بكر (رضي الله عنه) أما سمعت قول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أزكاها وأعدلها بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده وأول الناس منهم صدّق الرسلا «٢»
قال بعضهم: أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة، وهو قول الزهري وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس، وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي جمع بين الأخبار فيقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله. قال: وكان أبو بكر رجلا مؤالفا لقومه محبا سهلا وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان منها من خير أو شر، وكان رجلا [ناجيا] ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يهابونه ويأتونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه- فيما بلغني- عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد الله، فجاء بهم إلى رسول الله (رضي الله عنه) حين استجابوا له فأسلموا وصلوا فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الإسلام من المهاجرين.
(١) سنن ابن ماجة: ١/ ٤٤، ومستدرك الصحيحين: ٣/ ١١٢، والمصنف لابن أبي شيبة: ٧/ ٤٩٨.
(٢) المصنف لابن أبي شيبة: ٨/ ٤٤، وتفسير القرطبي: ٨/ ٢٣٦، وتاريخ بغداد: ١٥/ ٥١.
85
فأما سبّاق الأنصار فأهل بيعة العقبة الأولى فكانوا سبعة، والثانية كانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد الدار فعلّمهم القرآن، فهو أول من جمع الصلاة بالمدينة وكانت الأنصار تحبه فأسلم معه سعد بن معاذ وعمرو بن الجموح وبنو عبد الأشهل كلهم وخلق من النساء والصبيان، وكان مصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم بدر ويوم أحد وكان وقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنفسه يوم أحد حيث انهزم الناس، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نفذت المشاقص في جوفه، فاستشهد يومئذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «عند الله أحتسبه ما رأيت قط أشرف منه لقد رأيته بمكة وإن عليه بردين ما يدري ما قيمتهما وإنّ شراك نعليه من ذهب، وإنّ عن يمينه غلامين وعن يساره غلامين بيد كل واحد منهما [جفنة] من [طعام] يأكل ويطعم الناس، فآثره الله بالشهادة» [٥٠] «١».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا [أهديت إليه طرفة حناها] «٢» لمصعب بن عمير فأنزل الله تعالى فيه: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ «٣» الآية
، وأخذ أخوه يوم بدر أسيرا فقال: أنا أبو غدير بن عمير أخو مصعب فلم يشدد من الوثاق مع الأسرى وقالوا: هذا الطريق فاذهب حيث شئت، فقال:
إني أخاف أن تقتلني قريش فذهبوا به إلى [... ] «٤» فيمدّ يده بالخبز والتمر وكان يمدّ يده إلى التمر ويدع الخبز، والخبز عند أهل المدينة أعزّ من التمر، والتمر عند أهل مكة أعزّ من الخبز فلما أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير وقالوا له: أخوك عندنا وأخبروه بما فعلوا به. فقال: ما هو لي بأخ ولا كرامة، فشدّوا وثاقه فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليّا فأرسلت أمه في طلبه ثمّ أقبل يوم أحد فلما رأى أخاه مصعب بن عمير. قال في نفسه: والله لا يقتلك غيري فما زال حتى قتله وفيه أنزل الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغى. وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى «٥» ثمّ جمعهم في الثواب فقال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ وقرأ أهل مكة «٦» : من تحتها الأنهار [وكذا هو في مصاحفهم] خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
قال الحسن بن الفضل: والفرق بينهما أن قوله تجري من تحتها الأنهار معناه تجري من تحت الأشجار، وقوله: تجري من تحتها أي ينبع الماء من تحتها ثمّ تجري من تحت الأشجار.
وروي في هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لمعاذ بن جبل: «أين السابقون؟» [٥١] قال معاذ: قد مضى ناس فقال: السابقون المستهترون بذكر الله من أراد أن يرتع في رياض الجنة
(١) انظر: تفسير القرطبي: ١٩/ ٢٠٨.
(٢) كذا في المخطوط.
(٣) سورة النازعات: ٤٠.
(٤) كلام غير مقروء.
(٥) سورة النازعات: ٣٧.
(٦) نسبه في زاد المسير (٣/ ٣٣٤) لابن كثير.
86
فليكثر ذكر الله تعالى
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ نزلت في مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانت منازلهم حول المدينة وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فيه اختصار وإضمار تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، أي مرّنوا وتربّوا عليه يقال: تمرّد فلان على ربّه ومرد على معصيته أي مرن وثبت عليها واعتادها ومنه: تمريد ومارد وفي المثل: تمرّد مارد وعزّ الإباق، وقال ابن إسحاق: لجّوا فيه وأبوا غيره، وقال ابن زيد وابان بن تغلب: أقاموا عليه ولم يتوبوا كما تاب الآخرون، وأنشد الشاعر:
مرد القوم على حيهم... أهل بغي وضلال وأشر
لا تَعْلَمُهُمْ أنت يا محمد نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ قال قتادة في هذه الآية: ما بال أقوام يتكلّفون على الناس يقولون فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري أخبرني أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك قال نبي الله نوح (عليه السلام) : وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «١» وقال نبي الله شعيب (عليه السلام) : وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ «٢» وقال الله لنبيه عليه السلام: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ واختلفوا في هذين العذابين
وروي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطيبا يوم الجمعة فقال: «أخرج يا فلان فإنك منافق. اخرج يا فلان فإنك منافق» [٥٢].
فأخرج من المسجد ناسا وفضحهم فهذا العذاب الأول، والثاني عذاب القبر.
وقال مجاهد: بالجوع وعذاب القبر، وعنه أيضا: بالجوع والقتل وعنه بالجوع مرّتين، وعنه: بالخوف والقتل.
وقال قتادة: عذاب الدنيا وعذاب القبر، وفيه قصة الاثني عشر في حديث حذيفة.
وقال ابن زيد: المرّة الأولى المصائب في الأموال والأولاد، والمرة الأخرى في جهنم.
وقال ابن عباس: إن المرة الأولى إقامة الحدود عليهم والثاني عذاب القبر.
قال الحسن: إحدى المرتين أخذ الزكاة من أموالهم والأخرى عذاب القبر، فيقول تفسيره في سورة النحل ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ.
وقال ابن إسحاق: هو ما يدخل عليهم في الإسلام، ودخولهم من غير حسبة ثمّ عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ثمّ العذاب العظيم في الآخرة والخلد فيه.
(١) سورة الشعراء: ١١٢.
(٢) سورة هود: ٨٦.
87
وفي بعض التفاسير: الاولى ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم والأخرى عذاب القبر.
وقيل: تفسيره في سورة النحل زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ.
وقال مقاتل بن حيان: الأول بالسيف يوم بدر والثاني عند الموت.
معمر عن الزهري عن الحسن قال: عذاب النبي وعذاب الله. يعني بعذاب النبي صلى الله عليه وسلّم قوله تعالى: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا «١». قال عطاء: الأمراض في الدنيا والآخرة فإن من مرض من المؤمنين كفّر الله سيّئاته ومحض ذنوبه فأبدله لحما من لحمه ودما كثيرا من دمه وأعقبه ثوابا عظيما، ومن مرض من المنافقين زاده الله نفاقا وإثما وضعفا كما قال في هذه السورة: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ يريد أنهم يمرضون في كل عام مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فيردّون إلى عذاب عظيم شديد فظيع.
وقال الربيع: بلايا الدنيا وعذاب الآخرة ثم يردون الى عذاب عظيم عذاب جهنم.
وقال إسماعيل بن زياد: أحد العذابين ضرب الملائكة والوجوه والأدبار، والثاني عند البعث يوكل بهم عتق من النار.
وقال الضحاك: مرّة في القبر ومرّة في النار، وقيل: المرّة الأولى بإحراق مسجدهم مسجد ضرار والثانية بإحراقهم بنار جهنم، وقيل: مرّة بإنفاق أموالهم ومرّة بقتلهم بالسيف إن أظهروا ما في قلوبهم «٢».
وَآخَرُونَ يعني ومن أهل المدينة آخرون أو من الأعراب وليس براجع إلى المنافقين اعْتَرَفُوا أقرّوا بك وبربّهم خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وهو إقرارهم وتوبتهم وَآخَرَ سَيِّئاً أي بعمل سيّئ وضع الواو وموضع الياء فكما يقال: استوى الماء والخبث أي بالخبث وخلطت الماء واللبن أي باللبن فالعمل السيء تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتركهم الجهاد عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وعسى ولعل من الله واجب وهما حرف ترجّ.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
نزلت هذه الآية في قوم كانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك ثم ندموا عليه وتذمموا، وقالوا: نكون في الكن والظلال مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في الجهاد! والله لنوثقنّ أنفسنا بالقيود في أيدينا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يطلقنا أو يعذبنا، وبقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرّ بهم فرآهم فقال: من هؤلاء؟ قالوا: تخلّفوا عنك فعاهدوا الله ألّا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم
(١) سورة الأحزاب: ٦١.
(٢) راجع زاد المسير: ٣/ ٣٣٥، وتفسير القرطبي: ٨/ ٢٤١.
88
وتعذرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم، رغبوا عني وتخلّفوا عن الغزو مع المسلمين» فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلّم فأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك فتصدّق بها عنا وطهّرنا واستغفر لنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» [٥٣] فأنزل الله عزّ وجل:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية «١».
واختلفوا في أعداد هؤلاء الناس وأسمائهم فروى علي بن ابي طلحة عن ابن عباس قال:
كانوا عشرة رهط منهم أبو لبابة، وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم أبو [منية] : منهم هلال وأبو لبابة وكردم ومرداس وأبو قيس، وقال قتادة والضحاك: كانوا سبعة منهم جد بن قيس وأبو لبابة وجذام وأوس، كلّهم من الأنصار.
وقال عطية عن ابن عباس: كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة، وقال آخرون: نزلت في أبي لبابة واختلفوا في ذنبه. فقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين قال لقريظة: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى رقبته، وقد مضت القصة في سورة الأنفال. فندم وتاب فأقرّ بذنبه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
قال الزهري: نزلت في تخلّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك فربط نفسه بسارية فقال:
والله لا أحل نفسي منها ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ. فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتّى خرّ مغشيا عليه فأنزل الله تعالى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية فقيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة فقال: والله لا أحل نفسي منها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يحلّني، فجاء النبي صلى الله عليه وسلّم فحلّه بيده، ثمّ قال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أبرّ دار قومي التي أصبت بها الذنب وأن انخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال: «يجزيك يا أبا لبابة الثلث» [٥٤] «٢».
قالوا جميعا: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم منهم ثلث أموالهم وترك الإثنين لأن الله عزّ وجلّ قال: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ ولم يقل: أموالهم، فذلك لم يأخذ كلها.
وقال الحسن وقتادة: هؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلّفوا تطهرهم بها من ذنوبهم والقراءة بالرفع حالا لا جوابا، أي خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً مطهرة ومزكّية كقول الحطيئة:
متى تأته تعشو الى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقف
(١) أسباب نزول الآيات: ١٧٤.
(٢) جامع البيان للطبري: ١١/ ٢٢. [.....]
89
وقرأ مسلمة بن محارب: تطهِّرْهم وتزكيهم بالجزم على الجواب، وقرأ الحسن: تُطْهِرُهُمْ خفيفة من أطهر تطهير وَتُزَكِّيهِمْ أي تطهرهم، وقيل: تصلحهم، وقيل: ترفعهم من منازل المنافقين الى منازل المخلصين، وقيل: هي أموالهم.
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي استغفر لهم وادع لهم، وقيل: هو قول الوالي إذا أخذ الصدقة: آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت، والصلاة في اللغة الدعاء ومنه
قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا دعي أحدكم الى طعام فليجبه فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل»
[٥٥] «١» أي فليدع، وقال الأعشى:
وقابلها الريح في دنّها وصلّي على دنّها وارتسم «٢»
أي دعا لها بالسلامة والبركة.
وقال أيضا:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوما فإن لجنب المرء مضطجعا «٣»
إِنَّ صَلاتَكَ قرأ أهل الكوفة: صلاتك على الواحد «٤» هاهنا وفي سورة هود «٥» والمؤمنين بإضماره.
أبو عبيد قال: لأن الصلاة هي من الصلوات، وروى ذلك عن ابن عباس، ألا تسمع الله يقول: أَقِيمُوا الصَّلاةَ فهذه صلاة الأبد، والصلوات للجمع كقوله: صليت صلوات أربع وخمس صلوات، وقرأ الباقون كلها بالجمع واختاره أبو حاتم، قال: ومن زعم أنّ الصلوات من الصلاة لأن الجمع بالتاء قليل فقد غلط، لأن الله تعالى قال: ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «٦» وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها «٧» لم يرد القليل.
سَكَنٌ لَهُمْ قال ابن عباس: رحمة لهم، وقال قتادة: وقار لهم، وقال الكلبي: طمأنينة لهم إن الله قد قبل منهم «٨»، وقال معاذ: تزكية لهم منك، أبو عبيدة: تثبيت.
(١) مسند أحمد: ٢/ ٥٠٧.
(٢) الصحاح للجوهري: ٥/ ١٩٣٣.
(٣) معاني للقرآن للنحاس: ١/ ٨٤.
(٤) في تفسير القرطبي: التوحيد.
(٥) قوله تعالى: (أَصَلاتُكَ)
. (٦) سورة لقمان/ ٢٧.
(٧) سورة التحريم/ ١٢.
(٨) في زاد المسير: ٣/ ٣٣٧ نسبه لأبي صالح عن ابن عباس.
90
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
شعبة عن عمرو بن مرّة عن عبد الله بن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقاتهم قال: «اللهم صلّ عليهم»، فأتيته بصدقتي فقال:
«اللهم صلّ على أبي أوفى» قال ابن عباس: ليس هذا صدقة الفرض، إنما هو كصدقة كفارة اليمين، وقال عكرمة: هو صدقة الفرض. فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يذنبوا متخلّفين:
هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم؟ فقال الله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الآية
ومعنى أخذ الصدقات. قبولها.
الشافعي عن سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال:
سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب قوته ولا يقبل الله [عمله] ولا يصعد الى السماء إلّا طيّب إلّا كان إنما يضعها في يدي الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى أن [اللقمة] لتأتي يوم القيامة وإنها كمثل الجبل العظيم» [٥٦]. ثم قرأ:
أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ
، وتصديق ذلك في كتاب الله المنزل يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ إلى قوله بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
وقال مجاهد: هذا وعيد لهم،
وفي الخبر: لو أتى عبد الله في صخرة لا باب لها ولا كوّة لخرج عمله الى الناس كائنا ما كان «١».
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٦ الى ١١٠]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ أي مؤخرون لأمر الله ليقضي فيهم ما هو قاض،
وهم الثلاثة الذين خلفوا وربطوا بالسواري أنفسهم ولم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه فرفق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونهى الناس عن مكالمتهم وأمر نساءهم باعتزالهم حتى شقهم القلق وتهتكهم الحزن وضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ برحبها وكانوا من أهل [بدر، فجعل الناس] يقولون: هلكوا إذا لم ينزل لهم عذر، وجعل آخرون يقولون: عسى أن يغفر الله لهم،
(١) مسند أحمد: ٣/ ٢٨
.
91
فصاروا فرحين لأمر الله لا يدرون يعذبون أو يرحمون حتى تاب الله عليهم بعد خمسين ليلة ونزلت وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً الآية،
قال المفسرون: إنّ بني عمر بن عوف اتخذوا مسجد قبا وبعثوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأتيهم فأتاهم فصلى فيهم فحسدهم إخوتهم بنو غنم ابن عوف، وقالوا: نبني مسجدا ونرسل الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي فيه كما صلى في مسجد إخوتنا وليصلي فيه أبو عامر النعمان الراهب إذا قدم من الشام وكان أبو عامر رجلا منهم وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان قد ترهّب في الجاهلية وتنصّر ولبس المسوح. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الذي جئت به؟ قال: «جئت بالحنيفيّة دين إبراهيم»، قال أبو عامر: فأنا عليها قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «فإنك لست عليها» قال: بلى ولكنك أدخلت في الحنيفيّة ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية»، فقال للنبي صلى الله عليه وسلّم:
أمات الله الكاذب منّا طريدا وحيدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «آمين»، وسمي العامر الفاسق. فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله الى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج الى الروم يستنصر وأرسل الى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب الى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه، وذلك قوله تعالى: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فبنوا مسجدا الى جنب مسجد قبا وكان الذين بنوه اثنا عشر رجلا: خذام بن خالد ومن داره أخرج المسجد، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو الأرعد، وعباد بن حنيف، وحارثة بن عامر، [وجارية وابناه] «١» مجمّع وزيد، ونبتل بن الحارث. ولحاد بن عثمان، ووديعة ابن ثابت، وكان يصلي بهم مجمع بن يسار، فلما فرغوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يتجهز الى تبوك، وقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه وتدعو بالبركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إني على جناح السفر ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه» [٥٧].
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من تبوك ونزل [بذي أوان] بلد بينه وبين المدينة ساعة، فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن فأخبره الله عزّ وجلّ خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي قاتل حمزة وقال لهم: «انطلقوا الى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه» فخرجوا سريعا حتى أتوا سالم بن عوف وأتوا رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لهم: انتظروا حتى آتي لكم بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجوا ينشدون
(١) التصحيح من أسباب النزول للواحدي: ١٧٥.
92
حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدّموه وتفرّق عنه أهله وامر النبي صلى الله عليه وسلّم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والدنس والقمامة، ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا غريبا وفيه يقول كعب بن مالك:
معاذ الله من فعل الخبيث كسعيك في العشيرة عبد عمرو
فاما قلت بأن لي شرف ونخل فقدما بعت إيمانا بكفر «١»
قال عكرمة: سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم ماذا أعنت في هذا المسجد فقال: أعنت في سارية فقال عمر: أبشر بها في عنقك في نار جهنم.
ويروى أنّ بني عمر بن عوف الذين بنوا مسجد قبا سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمّهم في مسجدهم فقال: لا ولا نعمة عين أليس هو مسجد الضرار، فقال له مجمّع: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ. فو الله لقد صليت فيه واني لا أعلم ما أضمروا عليه، ولقد علمت ما صلّيت معهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا ثبوتا قد رغبوا وكانوا لا يعلمون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب منعوا شيئا إلّا أنهم يتضرعون الى الله ولم أعلم ما في أنفسهم.
فعذره عمر وصدّقه وأمره بالصلاة في مسجد قبا.
فهذا قصة مسجد الضرار الذي أنزل الله عزّ وجلّ فيه وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً قرأه العامة بالواو، وقول أهل المدينة والشام بغير الواو، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام.
قال عطاء: لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم ألّا يتخذوا في مدينتهم مسجدين مجاورا أحدهما لصاحبه.
وروى ليث أن شقيقا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا بعد. قال: لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي الى مسجد ضرار «٢».
وَكُفْراً نفاقا وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يفرقون به جماعتهم لأنهم كانوا يصلون جمعا في مسجد قبا فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم دون مسجد قبا وبعضهم في مسجد قبا فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا وَإِرْصاداً وانتظارا وإعدادا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلّم الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام ويظهر على رسول الله (صلى الله عليه وسلّم).
(١) القصّة بطولها مذكورة في أسباب النزول للواحدي ١٧٥، وزاد المسير: ٣/ ٣٣٩، والشعر في السيرة النبوية لابن هشام: ٢/ ٤٢٤.
(٢) تفسير الطبري: ١١/ ٣٦.
93
قرأ الأعمش وإرصادا للذين حاربوا الله وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا ما أردنا إِلَّا الْحُسْنى إلّا الفعلة الحسنى وهي للمرضى المسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المسير الى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم وحلفهم ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً. لَمَسْجِدٌ اللام فيه لام الابتداء والقسم تقديره والله لمسجد أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أى بني أصله وابتدئ بناؤه مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي من أول يوم بني، وقيل معناه: منذ أول يوم وضع أساسه. قال المبرد: قيل في معنى البيت من حج وأمن دهر. أي من هو حج وأمن دهر، وأنشأ زهير:
لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حج، ومن دهر «١»
منذ حج ومنذ دهر. أَحَقُّ أولى أَنْ تَقُومَ فِيهِ مصليا، واختلفوا في المسجد الذي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ما هو؟ فقال قوم: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي فيه منبره وقبره.
أخبرنا عبد الله بن حامد وأخبرنا العبدي. حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا الجماني، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عثمان بن عبد الله بن ابي رافع عن ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري قالوا: المسجد الذي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلّم). يدل عليه ما
روى حميد الخراط عن ابي سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الرحمن حدثه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في بيت بعض نسائه قال: فقلت: يا رسول الله اي المسجد الذي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى؟ فأخذ كفّا من الحصى فضرب به الأرض. ثم قال: «هو مسجدكم هذا مسجد المدينة».
وروى أنس بن ابي يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال العوفي: هو مسجد قبا، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك فقال: هو هذا، يعني مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلّم).
قال ابن يزيد وابن زيد وعروة بن الزبير: هو مسجد قبا، وهي رواية علي بن أبي طلحة وعطية عن ابن عباس.
فِيهِ ومن حضر رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من الأحداث والنجاسات بالماء، قال الكلبي: هو غسل الأدبار بالماء، وقال عطاء: كانوا يستنجون بالماء لا ينامون بالليل على الجنابة.
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأهل قبا لما نزلت هذه الآية: «إن الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم في الطهور فما هو؟» [٥٨] قالوا: إنا نستنجي بالماء «٢».
(١) الصحاح للجوهري: ٦/ ٢٢٠٩، ولسان العرب: ٤/ ١٧٠ بذكر الصدر.
(٢) كنز العمال: ١٣/ ٧ ح ٣٣٧٠٩. [.....]
94
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ اي المتطهرين فأدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما.
قال يزيد بن عجرة: أتت الحمّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في صورة جارية سوداء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من أنت؟» قالت: أم ملدم انشف الدم، وآكل اللحم وأصفر الوجه وارقق العظم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «فاقصدي الأنصار فإن لهم علينا حقوقا» فحمّ الأنصار.
فلما كان الغد قال: «ما للأنصار؟» قال: فحموا عن آخرهم. فقال: «قوموا بنا نعودهم» فعادهم وجعل يقول: «أبشروا فإنها كفارة وطهور» [٥٩].
قالوا: يا رسول الله ادعوا الله أن يديمها علينا [أعواما] «١» حتى تكون كفّارة لذنوبنا، فأنزل الله تعالى عليهم فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بالحمى عن معاصيهم وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ من الذنوب.
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ اختلف القراء به فقرأ نافع وأهل الشام: أُسِّسَ بُنْيانُهُ بضم الهمزة والنون على غير تسمية الفاعل، وذكر أبو حاتم عن زيد بن ثابت، وقرأ عمارة بن صايد: آسَسَ بالمد وفتح السين والنون في وزن آمن، وكذلك الثانية وآسس واسّس واحد افعل وفعل يتقاربان في التعدية.
وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد السين الاولى على تسمية الفاعل واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وقرأ عيسى بن عمر تَقْوًى مِنَ اللَّهِ منوّنا وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا أي شفير وقال أبو عبيد: الشفا الحد وتثنيته: الشفوان.
جُرُفٍ قرأ عاصم وحمزة بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتثقيل وهما لغتان وهو البئر التي لم تطؤ. قال أبو عبيدة: هو الهوّة وما يجرفه السيل من الأودية هارٍ أي هائر وهو الساقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرمل والشيء الرخو. يقال هو من المقلوب يقلب ويؤخر ياؤها فيقال هار [ولات] كما يقال شاكي السلاح وشائك السلاح وعاق وعائق، قال الشاعر:
ولم يعقني عن هواها عاق.
وقيل: هو من هار يهار إذا انهدم مثل: خاف يخاف، وهذا مثل لضعف نيّاتهم وقلّة بصيرتهم في علمهم فَانْهارَ فانتثر يقال: هار وانهار ويهور بمعنى واحد إذا سقط وانهدم ومنه قيل تهوّر الليل إذا ذهب أكثره، وفي مصحف أبيّ: فانهارت به قواعده فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(١) في المخطوط: الماء.
95
قال قتادة: والله [ما تنامى] أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت بقعة فيها فرأى الدخان يخرج منه قال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار، وقال خلف بن ياسين الكوفي: حججت مع أبي في زمان بني أمية فرأيت في المدينة مسجد القبلتين يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقبا وفيه قبلة بيت المقدس، فلما كان زمان أبي جعفر قالوا:
يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة فهدّم البناء الذي بني على يدي عبد الصمد بن عليّ، ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة «١».
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً شكّا ونفاقا فِي قُلُوبِهِمْ يحسبون أنهم كانوا ببنائه محسنين كما حبب العجل إلى قوم موسى. قال ابن عباس: شكا ونفاقا، وقال الكلبي: حبّبه وزيّنه لأنّهم زعموا أنهم لا يتبعونه، وقال السدي وحبيب والمبرد: لأنّ الله هدم بنيانهم الذي بنوا حزازة في قلوبهم إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ تتقطع قلوبهم فيموتوا كقوله تعالى: لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «٢» لأن الحياة تنقطع بانقطاع القلب.
وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم: إلى أن تقطع، خفيفة على الغاية، يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة، لا يزالون في شك منهم إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبيّنوا.
واختلف القراء في قوله تَقَطَّعَ. قال أبو جعفر وشيبة وابن عامر وحمزة والمفضل وحفص: تَقَطَّعَ بفتح التاء والطاء مشددا، يعني تقطع ثم حذفت إحدى التائين، وقرأ يحيى بن كثير ومجاهد ونافع وعاصم وأبو عمرو والكسائي تُقَطَّعَ بضم التاء وتشديد الطاء على غير تسمية الفاعل وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، وقرأ يعقوب تُقْطَعَ بضم التاء خفيفة من القطع.
وروي عن ابن كثير (تَقْطَعَ) بفتح التاء خفيفة قُلُوبَهُمْ نصبا أي تفعل أنت ذلك بهم، وقرأ ابن مسعود والأعمش ولو قطعت قلوبهم.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٤٠٥.
(٢) سورة الحاقة: ٤٦.
96

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١١ الى ١١٤]

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ
قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفسا. قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: «اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم»، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟
قال: «الجنة» [٦٠] «١».
وقال الأعمش: الجنة وهي قراءة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قال إبراهيم النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل على معنى فيقتل بعضهم ويقتل الباقون، وقرأ الباقون: بتقديم الفاعل على المفعول وَعْداً نصب على المصدر عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ثم هنّأهم فقال عزّ من قائل:
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ قال قتادة: ثامنهم وأغلى ثمنهم، وقال الحسن: أسمعوا بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن، والله ما على وجه الأرض مؤمن إلّا دخل في هذه البيعة.
قال: ومرّ أعرابي بالنبي صلى الله عليه وسلّم وهو يقرأ هذه الآية قال: كلام من هذا؟ قال: كلام الله.
قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو فاستشهد «٢».
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي. قال: أنشدنا أبو الحسن العقيلي. أنشدنا بشر بن موسى الأسدي. أنشدني الأصمعي عن جعفر الصادق (رضي الله عنه).
أثامن بالنفس النفيسة ربها فليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها تشترى الجنات إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن
إذا أذهبت نفسي بدنيا أصبتها فقد ذهب الدنيا وقد ذهب الثمن «٣»
وكان الصادق يقول: أيا من ليست له قيمة أنه ليس لأبدانكم إلّا الجنة فلا تبيعوها إلّا بها.
(١) جامع البيان للطبري: ١١/ ٤٩.
(٢) انظر: تفسير القرطبي: ٨/ ٢٦٨.
(٣) راجع تفسير القرطبي: ٨/ ٢٦٨، وفيه بدل الشطر الأخير:
لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن.
97
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي. أنشدنا القاضي أبو الربيع محمد بن علي. أنشدنا أبو علي الحسن بن عاصم الكوفي:
من يشتري قبة في العدن عالية في ظل طوبى رفيعات مبانيها
دلالها المصطفى والله بايعها فمن أراد وجبريل يناديها
ثم وصفهم فقال التَّائِبُونَ أي هم التائبون، وقرأ ابن مسعود التائبين العابدين بالنصب آخرها، قال المفسرون: تابوا من الشرك وبرأوا من النفاق الْعابِدُونَ المطيعون الذي أخلصوا فيه الشهادة.
وقال الحسن وقتادة: هم قوم اتخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم فعبدوا الله على أحايينهم كلها في السراء والضراء الْحامِدُونَ الله على كل حال في كل نعمة السَّائِحُونَ الصائمون.
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «السائحون الصائمون» [٦١] «١».
وروى شيبان بن عبد الرحمن عن الأشعث قال: سألت سعيد بن جبير عن السائحين فقال:
هم الصائمون ألم تر أنّ الله عزّ وجلّ إذا ذكر الصائمين لم يذكر السائحين وإذا ذكر السائحين لم يذكر الصائمين.
قال سفيان بن عيينة: أما إنّ الصائم سائح لأنه تارك اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح.
وقال الشاعر في الصوم:
تراه يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحا «٢»
وقال الحسن: السَّائِحُونَ الذين صاموا عن الحلال وأمسكوا عن الحرام وهاهنا والله أقوام رأيناهم يصومون عن الحلال ولا يمسكون عن الحرام فالله ساخط عليهم، وقال عطاء:
السَّائِحُونَ الغزاة والمجاهدون، وعن عمرو بن نافع. قال: سمعت عكرمة وسئل عن قول الله تعالى: السَّائِحُونَ قال: هم طلبة العلم الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ يعني المصلين الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ قال بسام بن عبد الله: المعروف السنّة والمنكر البدعة.
وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ قال ابن عباس: القائمون على طاعة الله، وقال الحسن: أهل
(١) جامع البيان للطبري: ١١/ ٥٢.
(٢) فتح القدير: ٢/ ٤٠٨.
98
الوفاء ببيعة الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية، واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية.
فروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلّم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أي عم إنك أعظم الناس عليّ حقا وأحسنهم عندي [قولا] ولأنت أعظم عليّ حقا من والدي فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي يوم القيامة. قل: لا إله إلا الله احاجّ لك بها عند الله».
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى كان آخر شيء تكلم به: أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لأستغفر لك يا عم الله» [٦٢] فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية، ونزلت إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «١» الآية «٢».
قال الحسن بن الفضل: وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلّم بمكة.
وقال عمرو بن دينار: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي. فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلّم لعمّه.
فأنزل الله تعالى هذه الآية «٣».
وروى جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن محمّد بن كعب [قال حدثنا محمد بن عبد الوهاب أخبرنا جعفر بن عون] «٤» قال: بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه الذي قبض فيه، قالت قريش له: يا أبا طالب أرسل إلى ابن أخيك فيرسل إليك من هذه الجنّة فيكون لك شفاء، فخرج الرسول حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبو بكر معه جالس فقال زيد: إنّ عمك يقول لك يا ابن أخي إني كبير وشيخ ضعيف فادعوا إليّ من جنتك هذه التي تذكر من طعامها وشرابها شيء يكون لي فيه شفاء.
(١) سورة القصص: ٥٦.
(٢) المستدرك ٢/ ٣٣٦.
(٣) قال ابن حجر في فتح الباري: «وهذا فيه إشكال لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقا، وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وسلّم) أتى قبر امه لما اعتمر فاستأذن ربّه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية، والأصل عدم تكرار النزول» ثم ذكر عدة روايات في ذلك من طرق مختلفة إلى أن قال: «فهذه طرق يعضد بعضها بعضا وفيها دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب،.. ، ويؤيد تأخير النزول ما تقدم في تفسير براءة من استغفاره (صلى الله عليه وسلّم) للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك... » انتهى كلامه (فتح الباري: ٨/ ٣٩١، تفسير سورة القصص ح ٤٤٩٤.
(٤) زيادة عن أسباب النزول للواحدي: ١٧٧.
99
فقال أبو بكر: إن الله حرّمها على الكافرين. قال: فرجع إليهم الرسول فقال: بلغت محمّدا الذي أرسلتموني به فلم يحر إليّ شيئا فقال أبو بكر: إن الله حرمها على الكافرين قال:
فحملوا أنفسهم عليه حتى أرسل رسولا من عنده فوجد الرسول في مجلسه فقال له مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ طعامها وشرابها»، ثم قام في أثره حتى دخل معه البيت فوجده مملوءا رجالا فقال: «خلوّا بيني وبين عمي»، فقالوا: ما نحن بفاعلين وما أنت أحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فجلس إليه فقال: «يا عم جزيت عني خيرا كفلتني صغيرا وحفظتني كبيرا فجزيت عني خيرا. يا عماه أعنّي على نفسك بكلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة، قال: وما هي يا ابن أخي؟
قال: قل لا إله إلّا الله وحده لا شريك له»
. قال: إنك لي لناصح، والله لولا أن تعيّر بها بعدي يقال جزع عمك عند الموت لأقررت بها عينك، قال: فصاح القوم: يا أبا طالب أنت رأس الحنيفية ملة الأشياخ لا تحدث نساء قريش أني جزعت عند الموت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«لا أزال أستغفر لك ربي حتى يردّني فاستغفر له بعد ما مات» [٦٣].
فقال المسلمون: ما منعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت هذه الآية.
والدليل- على ما قيل- أن أبا طالب مات كافرا «١» ما
أخبرنا عبد الله بن حامد قال أخبرنا المزني. قال: حدثنا أحمد بن نجدة حدثنا سعد بن منصور حدثنا أبو الأحوص أخبرنا أبو إسحاق قال: قال علي (عليه السلام) لما مات أبو طالب: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله إن عمك.... «٢»... قال: اذهب فادفنه ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني، فانطلقت فواريته ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وعليّ أثر التراب فدعا لي بدعوات ما يسرني أنّ لي بها ما على الأرض من شيء.
وقال أبو هريرة وبريدة: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلّم مكة أتى قبر أمّه آمنة فوقف عليه حتى حميت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية، فقام وبكى وبكى من حوله فقال: «إني استأذنت ربي أن أزورها فأذن لي واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي فزوروا القبور فإنّها تذكّركم الموت» [٦٤]، فلم نر باكيا أكثر من يومئذ.
(١) روى ابن إسحاق وابن عساكر وغيرهما سماع العباس عمّ النبي الشهادة: (لا إله إلا الله) من أبي طالب، راجع تاريخ دمشق: ٧٠/ ٢٤٥ ط. دار إحياء التراث، وسيرة ابن إسحاق: ٢٣٨، والمواهب اللدنية: ١/ ١٣٣، وتاريخ الخميس: ١/ ٣٠٠.
(٢) وذكر كلمة قبيحة على ما قيل، وعلي (عليه السلام) أجل من أن يصدر منه هذا الكلام في حق شخص عادي فكيف تجاه أبيه. [.....]
100
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كانوا يستغفرون لأمواتهم المشركين فنزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار فنهاهم ولم ينتهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا،
وقال قتادة: قال رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم ألا نستغفر لهم؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «بلى، وأنا والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» [٦٥]، فأنزل الله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ أي ما ينبغي للنبي وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.
وقال أهل المعاني: ما كان في القرآن على وجهين أحدهما بمعنى النفي كقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «١» وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «٢» والأخرى بمعنى النهي كقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «٣»، وقوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا نهي.
مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ بموتهم على الكفر، وتأوّل بعضهم الاستغفار في هذه الآية على الصلاة. قال عطاء بن أبي رباح: ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلّا عن المشركين «٤» كقوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا الآية، ثم عذر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ الآية.
قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : أنزل الله قوله تعالى خبرا عن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم قال: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا «٥». [قال علي:] سمعت فلانا يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت له: أتستغفر لهما مشركان، قال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فرويت ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية «٦»
، وأنزل قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «٧» وقوله: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ يعني بعد موعده.
وقال بعضهم: الهاء في إيّاه عائدة إلى إبراهيم، وذلك إن أباه وعده أن يسلم فعند ذلك
(١) سورة النمل: ٦٠.
(٢) سورة آل عمران: ١٤٥.
(٣) سورة الأحزاب: ٥٣.
(٤) تفسير الطبري: ١١/ ٦١.
(٥) سورة مريم: ٤٧.
(٦) تفسير الطبري: ١١/ ٦٠.
(٧) سورة الممتحنة: ٤.
101
قال إبراهيم: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي وقال بعضهم: هي راجعة إلى إبراهيم وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه، وهو قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، وقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ الآية، تدلّ عليه قراءة الحسن: وعدها أباه بالباء.
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ [بموت أبيه] تَبَرَّأَ مِنْهُ وقيل: معناه: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ في الآخرة أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، وذلك على ما
روى في الأخبار أن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم يقول يوم القيامة: رب والدي رب والدي، فإذا كانت الثالثة يريه الله فيقول له إبراهيم: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني ولست بتاركك اليوم لشيء فخذ [بحبري] فتعلق به حتى تريد الجواز على الصراط حتى إذا أراد أن يجاوزه به كانت من إبراهيم (عليه السلام) التفاتة فإذا هو بأبيه في صورة ضبع، فتخلّى عنه وتبرأ منه يومئذ
وعلى هذا التأويل يكون معنى الكلام الاستقبال، تقديره: يتبيّن ويتبرأ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ اختلفوا في معناه،
فروى شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل عن الأوّاه فقال: الخاشع المتضرع، وقال أنس: تكلّمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلّم بشيء كرهه فنهاها عمر (رضي الله عنه) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أعرض عنها فإنها أوّاهة» قيل: يا رسول الله وما الأوّاهة؟ قال: «الخاشعة» [٦٦].
وروى عبد الله بن رباح عن كعب في قول الله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ فقال: كان إذا ذكر النار قال: أوه.
وقال عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير: الأواه الدعّاء، وقال الضحاك: هو الجامع الدعاء.
وروى الأعمش عن الحكم عن يحيى بن الجرار قال: جاء أبو العبيدي رجل من سواد وكان ضريرا إلى ابن مسعود قال: يا عبد الرحمن من يسأل إذا لم يسألك، ما الأوّاه؟ فكأن ابن مسعود رق له فقال: الأواه الرحيم.
وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله، وقال أبو ميسرة: الأواه الرحيم يوم الحشر، عطية عن ابن عباس الأواه المؤمن بالحبشية. علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الأواه المؤمن التواب، مجاهد: الأواه المؤمن [الموقن، وروي عن......] «١» عن ابن عباس وعلي ابن الحكم عن الضحاك، وقال عكرمة: هو المستيقن، بلغة الحبشة، ألا ترى أنك إذا قلت للحبشي الشيء فعرفه قال: أوّه، ابن أبي نجيح: المؤتمن. الكلبي: الأواه: المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفرة الموحشة، وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله،
وروى الحكم عن الحسن بن مسلم بن [ساق] أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلّم فقال:
إنه أوّاه، وقيل: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
(١) كذا في المخطوط.
102
وقال ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دفن ميّتا فقال: «يرحمك الله إن كنت لأواه» [٦٧]، يعني تلاوة القرآن «١».
وقيل: هو الذي يجهر صوته بالذكر والدعاء والقرآن ويكثر تلاوته، وكان إبراهيم (عليه السلام) يقول: آه من النار قبل أن لا تنفع آه «٢».
وروى شعبة عن أبي يونس الباهلي عن قاضي كان يجمع الحديث عن أبي ذر قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه، فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «دعه فإنه أواه» [٦٨]. قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح «٣».
وقال النخعي: الأواه: الفقيه، وقال الفراء: هو الذي يتأوه من الذنوب، وقال سعيد بن جبير: الأواه المعلم للخير، وقال عبد العزيز بن يحيى: هو المشفق، وكان أبو بكر (رضي الله عنه) يسمّى الأواه لشفقته ورحمته، وقال عطاء: هو الراجع عن كلمة ما يكره الله، وقال أيضا: هو الخائف من النار، وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقا وفرقا المتضرع يقينا ولزوما للطاعة. قال الزجاج: انتظم قول أبي عبيدة جميع ما قيل: في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوتا من تنفس الصعداء والفعل منه أوه وتأوه، وقال المثقب العبدي:
إذا ما قمت ارحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين «٤»
قال الراجز:
فأوه الراعي وضوضا كلبه ولا يقال منه فعل يفعل
حَلِيمٌ عمن سبه وناله بالمكروه وقد قيل أنه (عليه السلام) استغفر لأبيه عند وعده إياه وشتمه، وقوله: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا «٥» فقال له: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا «٦» وقال ابن عباس: الحليم السيد.
(١) تفسير الطبري: ١١/ ٦٩.
(٢) تفسير القرطبي: ٨/ ٢٧٥.
(٣) تفسير الطبري: ١١/ ٦٩.
(٤) كتاب العين للفراهيدي: ٤/ ١٠٤.
(٥) سورة مريم: ٤٦.
(٦) سورة مريم: ٤٧. [.....]
103

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٥ الى ١٢١]

وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ يقول: وما كان الله [ليحكم] عليكم بالضلال بعد استغفاركم للمشركين قبل أن يتقدم إليكم بالنهي.
وقال مجاهد: بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة، فافعلوا أو ذروا.
وقال مقاتل والكلبي: لما أنزل الله تعالى الفرائض فعمل بها الناس [ثم] نسخها من القرآن وقد غاب [ناس] وهم يعملون للأمر الأول من القبلة والخمر وأشباه ذلك، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ يعني وما كان الله ليبطل عمل قوم عملوا بالمنسوخ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ
قال الضحاك: ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً... حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يأتون وما يذرون إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ثم عظّم نفسه فقال: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني يحكم فيهما بما يشاء يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ قال ابن عباس: ومن تاب الله عليه لم يعذبه أبدا.
واختلفوا في معنى التوبة على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال أهل التفسير: بإذنه للمنافقين في التخلف عنهم، وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام ما كان هو صنف توبتهم ذكر معهم كقوله فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ونحوه وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها. قال جابر: عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء.
قال الحسن: كان الناس من المسلمين يخرجون على بعير يعقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه، كذلك كان زادهم التمر المسوس والشعير والأهالة المنتنة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلّا التمرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من الماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة فمضوا [في قيض شديد] ورسول الله صلى الله عليه وسلّم على صدقتهم ويقينهم.
104
وقال ابن عباس: قيل لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ما في شأن العسرة؟ فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم [إلى قيض شديد] فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى قلنا أن رقابنا ستقطع، حتى أن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى أنّ الرجل سينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) لرسول الله: إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا، قال: «تحب ذلك» ؟ قال: نعم، فرفع يديه ولم يرجع بها حتى أظلت السماء بسحاب ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر «١».
مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ تميل قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لعظم البلاء، وقرأ العامة: تزاغ، بالتاء ودليله قراءة عبد الله قال: [زغيّهم] «٢»، قراءة حمزة والأعمش والجحدري والعباس بن زيد الثقفي بالياء. قال الأعمش: قرأتها بالياء في نية التأخير وفيه ضمير فاعل ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا يعني تاب على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فلم يخرجوا، وقيل: خلفوا عن توبة أبي لبابة وأصحابه وأرجى أمرهم وقد مضت السنة.
وقرأ عكرمة وحميد: خَلَفُوا بفتح الخاء واللام والتخفيف أي [فدله بعقب] رسول الله صلى الله عليه وسلّم،
وروي عن جعفر بن محمد الصادق (رضي الله عنه) انه قرأ: خالفوا
، وقراءة الأعمش: وعلى الثلاثة المخلفين، وهم كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية كلهم من الأنصار
وروى عبيد عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه عبد الله بن كعب وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره. قال: سمعت أن كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلّم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك غير بدر ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلّم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغيثين لعيرهم فالتقوا من غير موعد كما قال الله عزّ وجلّ، ولعمري أن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الناس لبدر، وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام، ثم لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلّم بعد في غزوة غزاها إلى أن كانت غزوة تبوك وأذن الناس بالرحيل وذلك حين طاب الظلال وطابت الثمار، وكان قلّ ما أراد غزوة إلّا [ورى غيرها] «٣» وكان يقول: الحرب خدعة فأراد النبي صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك أن يتأهّب الناس أهبتها وأنا أيسر ما كنت قد جهزت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي الجهاد وأنا في ذلك أصغو إلى الظلال وطيب الثمار فلم أزل كذلك حتى قام النبي صلى الله عليه وسلّم غاديا بالغداة وذلك يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس فأصبح
(١) الدرّ المنثور: ٣/ ٢٨٦.
(٢) كذا في المخطوط.
(٣) زيادة عن مسند أحمد: ٦/ ٣٨٧.
105
غاديا فقلت: أنطلق غدا إلى السوق أشتري جهازي ثم ألحق بهم فانطلقت إلى السوق من غد فعسر عليّ بعض شأني فرجعت فقلت: أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم، فعسر عليّ بعض شأني أيضا فلم أزل كذلك حتى التبس بي الذنب وتخلّفت عن رسول اله صلى الله سلّم فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة فيحزنني أنّي لا أرى أحدا تخلف إلّا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء وكان الناس كثيرا لا يجمعهم ديوان وكان جميع من تخلّف عن النبي صلى الله عليه وسلّم بضعا وثمانين رجلا ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلّم حتى بلغ تبوك فقال وهو بتبوك جالس: «ما فعل كعب بن مالك؟» [٦٩].
فقال رجال من قومي: يا نبيّ الله خلّفه راحلته والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل:
بئس ما قلت والله يا نبي الله ما نعلم إلّا خيرا، فبينما هم كذلك إذا همّ برجل مبيضا يزول به السراب فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: كن أبا خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلّم غزوة تبوك وقفل إلى المدينة [جعلت بما أخرج] من سخط النبي صلى الله عليه وسلّم فأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي حتى إذا قيل أن النبي صلى الله عليه وسلّم [مضى يصلي] بالغداة راح عني الباطل وعرفت أن لا أنجو إلّا بالصدق فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم وصلّى في المسجد ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يحلفون له ويعتذرون إليه فيستغفر لهم فقبل منهم علانيتهم ووكّل سرائرهم إلى الله تعالى فدخلت المسجد فإذا هو جالس فلما رآني تبسّم تبسّم المغضب فجئت فجلست بين يديه فقال: «ألم تكن قد ابتعت ظهرك» [٧٠] قلت: بلى يا رسول الله قال: «فما خلّفك» ؟ [٧١].
قلت: والله لو كنت بين يديّ أجد من الناس غيرك جلست لخرجته من سخطته بعذر ولقد أوتيت جدلا، ولكن قد علمت يا نبي الله أني أن أخبرك اليوم بقول تجد علي فيه وهو حقّ فإنّي أرجو فيه عفو الله وإن حدّثتك اليوم حديثا ترضى عني فيه وهو كذب أو شك أن يطلعك الله عليه والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذا مني حين تخلفت عنك.
فقال صلى الله عليه وسلّم: «أما هذا فقد صدقكم الحديث قم حتى يقضي الله فيك».
فقمت فإذا على أثري ناس من قومي فاتبعوني فقالوا: والله ما نعلمك أذنبت ذنبا قبل هذا فهلّا اعتذرت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم حتى يرضى عنك فيه وكان استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلّم لك كافيك من ذنبك ولم تقف نفسك موقفا ما تدري ماذا يقضي لك به؟! فلم يزالوا يؤنّبوني حتى صمّمت أن أرجع فأكذب نفسي فقلت: هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا: نعم، قالوا: هلال بن أمية الواقفي وأبو مرارة بن ربيعة العامري. فذكروا رجلين صالحين قد شهدوا بدرا لي فيهما أسوة فقلت: والله لا أرجع إليه في هذا أبدا، ولا أكذب نفسي قال: ونهى النبي صلى الله عليه وسلّم الناس عن كلامنا [أيها الثلاثة من بين من تخلّف عنه قال: فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد وتنكّر لنا الناس حتى] ما هم بالذين نعرف، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي الحيطان التي نعرف وتنكرت
106
لنا الأرض حتى ما هي الأرض التي نعرف، [وكنت أقوى أصحابي وكنت أخرج فأطوف بالأسواق وآتي المسجد فأدخل فآتي النبي صلى الله عليه وسلّم فأسلّم عليه فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بالسلام، فإذا قمت فأقبلت فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ بمؤخر عينيه وإذا نظرت إليه، واستكان أعرض عني فاستكانا صاحباي فجعلا يبكيان الليل لا يطلعان نفسيهما فلما طال علي ذلك المسلمين من جفوة حتى تسمّرت بظلّة حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فو الله ما ردّ عليّ السلام فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمنّ أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدران فبينا أطوف في السوق إذا برجل نصراني نبطي من نبط أهل الشام جاء بطعام له يبيعه ويقول: من سيدلّ على كعب بن مالك. فطفق الناس يشيرون له إليّ فأتاني فدفع إليّ كتابا من ملك غسّان فإذا فيه: أمّا بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك [ولست بدار مضيعة ولا هوان] فالحق بنا نواسيك، فقلت: هذا من البلاء والشرف فسجّرت التنور فأحرقته فلما مضيت له بغضون ليلة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أتاني فقال: «اعتزل امرأتك» فقلت: أطلقها. قال:
«لا ولكن لا تقربها» وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال فقالت: يا نبي الله إنّ هلال بن أمية شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه قال: «نعم ولكن لا يقربك».
قالت: يا نبي الله والله ما به حركة لشيء ما زال مكبّا يبكي الليل والنهار. قد كان من أمره ما كان. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ماذا يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب. فلما مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن كلامنا فصلّيت على ظهر بيت لمّا صلّى الفجر وجلست وأنا في المنزلة التي قال الله عزّ وجلّ: ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقت علينا أنفسنا إذ سمعت نداء من جبل سلع أن أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجدا وعلمت أن الله قد جاء بالفرج ثم جاء رجل يركض على فرس وكان الصوت أسرع من فرسه [فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي، فكسوتها إياه ببشارته واستعرت ثوبين فلبستهما] «١» قال: وكانت توبتنا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلّم ثلثي الليل فقالت أم سلمة عشيّتئذ: يا نبي الله ألا تبشر كعب بن مالك. قال: إذا يحطمك الناس ويمنعونكم النوم بسائر الليل وكانت أم سلمة محسنة في شأني حزنى بأمري فاستطلت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقام إلي طلحة ابن عبيد الله يهرول حتى صافحني وقال: «ليهنك توبة الله عليك»، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره وكان كعب لا ينساها لطلحة.
(١) عن تفسير الطبري، وفي مسند أحمد: فأعطيته ثوبي بشارة ولبست ثوبين آخرين.
107
قال كعب: فلمّا سلمت على رسول الله وقلت: يا نبي الله من عند الله أم من عندك؟
قال: «بل من عند الله» ثم تلا عليهم: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ إلى قوله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ وقلت: يا نبي الله إن من توبتي ألّا أحدث الأصدقاء حتى أنخلع من مالي كلّه صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال: «أمسك عليك بعض مالك فهو أخير لك» [٧٢]، قلت: فإني أمسك سهمي الذي من خيبر قال: فما أنعم الله عليّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين صدقته أنا وصاحباي أن لا يكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا وأني لأرجو أن لا يكون الله عزّ وجلّ أبلى أحدا في الصدق [منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما ابتلاني والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا] «١» وأني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجلّ فيما بقي
، هذا ما انتهى إلينا من حديث الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا «٢».
حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ المفسرون: أي ضاقت عليهم الأرض برمّتها وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ [ضاقت صدورهم بالهمّ والوحشة] وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ سمعت الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري وإبراهيم بن محمد بن زيد النيسابوري وعبد الله ختن والي بلد العراق يقول: سئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح قال: أن تضيق علينا بما رحبت ويضيق عليه نفسه كتوبة كعب وصاحبه ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إعادة تأكيد لِيَتُوبُوا فهذا بالتوبة منه.
سمعت أبا القاسم بن أبي بكر السدوسي، سمعت أبا سعيد أحمد بن محمد بن رميح الزيدي، سمعت الحسن بن علي الدامغاني يقول: قال أبو يزيد: غلطت في أربعة أشياء: في الابتداء مع الله سبحانه ظننت أني أحبه فإذا هو أحبّني قال الله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ «٣» فظننت أني أرضى عنه فإذا هو رضي عني قال الله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وظننت أني أذكره فإذا هو ذكرني قال الله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ «٤» وشئت أن أتوب فإذا هو تاب عليّ قال الله تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال نافع: يعني مع محمد وأصحابه. سعيد بن جبير: مع أبي بكر وعمر، ابن جريح وابن حبّان: مع المهاجرين دليله قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ «٥».
أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد الله. محمد بن عثمان بن الحسن. محمد بن الحسين
(١) عن تفسير الطبري.
(٢) راجع تفسير الطبري: ١١/ ٨١. ٨٣، ومسند أحمد: ٦/ ٣٨٧. ٣٩٠.
(٣) سورة المائدة: ٥٤.
(٤) سورة العنكبوت: ٤٥.
(٥) سورة الحشر: ٨.
108
ابن صالح. علي بن جعفر بن موسى. جندل بن والق. محمد بن عمر المازني. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال:
مع عليّ بن أبي طالب وأصحابه «١».
وأخبرني عبد الله محمد بن عثمان. محمد بن الحسن. علي بن العباس المقانعي. جعفر ابن محمد ابن الحسين. أحمد بن صبيح الأسدي. مفضل بن صالح. عن جابر عن أبي جعفر في قوله تعالى وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال: مع آل محمد (صلى الله عليه وسلّم).
يمان بن رباب: أصدقوا كما صدق الثلاثة الَّذِينَ خُلِّفُوا.
ابن عباس: مع الذين صدقت نياتهم فاستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى تبوك. بإخلاص ونيّة.
قتادة: يعني الصدق في النية وقال: أو الصدق في الليل والنهار والسرّ والعلانية، وكان ابن مسعود يقول: كُونُوا مَعَ! الصَّادِقِينَ وكذا كان يقرأها، وابن عباس (ورضي عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلّم).
أخبرنا عبد الله بن حامد. عبد الله بن محمد بن الحسين. محمد بن يحيى، وهب بن جرير عن شعيب بن عمرو بن زيد عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: إن الكذب لا يصلح منه جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيته شيئا ثم لا ينجز شيئا اقرءوا إن شئتم الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ هل ترون في الكذب [رخصة] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ظاهره خبر معناه نهي كقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «٢» وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ سكان البوادي مزينة وجهينة وأسجح وأسلم وغفار أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إذا غزا وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه.
قال الحسن: يعني لا يرغبون بأنفسهم أن تصيبهم من الشدائد مثل ما يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ في سفرهم ظَمَأٌ عطش، وقرأ عبد بن عمير ظماء بالمدّ وهما لغتان مثل خطا وخطأ وَلا نَصَبٌ ولا تعب وَلا مَخْمَصَةٌ مجاعة فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً أرضا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وطيهم إياها وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا ولا يصيبون من عدوهم شيئا قتلا أو أسرا أو غنيمة أو عزيمة يقال: نلت الشيء فهو منيل إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ قال ابن عباس: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنة إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فإن أصابهم ظمأ سقاهم الله من نهر الحيوان ولا يصيبهم ظمأ بعد، وإن أصابهم
(١) انظر: نظم درر السمطين ٩١، وشواهد التنزيل للحسكاني: ١/ ٣٤٢.
(٢) سورة الأحزاب: ٥٣.
109
نصب أعطاهم الله العسل من نهر الحيوان [ولا يصيبهم] فيهم النصب، ومن خرج في سبيل الله لم يضع قدما ولا يدا ولا جنبا ولا أنفا ولا ركبة ساجدا ولا راكعا ولا ماشيا ولا نائما في بقعة من بقاع الله إلّا أذن الله له بالشهادة وبالشفاعة.
واختلفوا في حكم هذه الآية، فقال قتادة: وهذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه خلافه إذا لم يكن للمسلمين اليه ضرورة وحاجة.
قال: وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلف سريّة يغزو في سبيل الله لكني لا أجد سعة فانطلق بهم معي ويشق عليّ أن أدعهم بعدي». [٧٣] «١».
وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وابن جابر وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: انها لأول هذه الأمة وآخرها.
وقال ابن زيد: هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله وأباح التخلف لمن شاء فقال: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الآية وَلا يُنْفِقُونَ في سبيل الله نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ولو علاقة سوط وَلا يَقْطَعُونَ ولا يتجاوزون وادِياً في مسيرهم مقبلين أو مدبرين إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ يعني آثارهم وخطاهم لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لهم بالثواب ويدخلهم الجنة بغير حساب.
قال ابن عباس: أخبرنا أبو عمر الفراتي بقراءتي عليه أخبرنا أبو موسى أخبرنا مسدّد عن هارون ابن عبد الله الجمّال أخبرنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبد الله عن الحسين عن علي ابن أبي طالب وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: ومن أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه وأنفق في وجه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» ثم تلا هذه الآية وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «٢».
(١) مسند أحمد: ٢/ ٥٠٢.
(٢) سورة البقرة: ٢٦١، والحديث في سنن ابن ماجة: ٢/ ٩٢٢ ح ٢٧٦١.
110

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٩]

وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الآية
قال ابن عباس في رواية الكلبي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا خرج غازيا لم يتخلف إلّا المنافقون والمعذرون فلما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين ومن نفاقهم في غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلّف عن غزوة بعدها يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا عن سرية أبدا.
فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسرايا إلى الجهاد ونفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحده بالمدينة فأنزل الله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً يعني ليس لهم أن يخرجوا جميعا إلى العدو ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحده.
فَلَوْلا نَفَرَ فهلّا خرج مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ قبيلة مِنْهُمْ طائِفَةٌ جماعة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يعني الفرقة القاعدين فإذا رجعت السرايا وقد نزلت بعدهم قوله تعالى: الْقاعِدُونَ. قالوا لهم إذا رجعوا: قد أنزل الله على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمنا فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيّهم من بعدهم ويبعث سرايا أخر فذلك لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ وليعلمونهم الأمر لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ولا يعملون خلافه.
وقال الحسن: هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة ومعنى الآية: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ أي ليتبصّروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ من الكفار إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ من الجهاد فيخبروهم بنصر الله النبي والمؤمنين، ويخبرونهم أنهم لا يدان «١» لهم بقتال النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ قتال النبي صلى الله عليه وسلّم فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار.
قال الكلبي: ولها وجه آخر: ذكر أن أحياء من بني أسد بن خزيمة أصابتهم [سنة شديدة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر فقدموا] حتى نزلوا بالمدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فأنزل الله تعالى هذه الآية «٢».
وقال مجاهد: في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا
(١) لا يدان: لا طاقة. [.....]
(٢) أسباب النزول للواحدي: ٢٦٦ وما بين المعكوفين منه.
111
وخصبا ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى. قال الناس لهم: ما نراكم إلّا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرج وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ويستمعوا ما أنزل إليهم وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ الناس كلهم إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ويدعوهم إلى الله لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ بأس الله ونقمته باتباعهم وطاعتهم، وقعدت طائفة تريد المغفرة.
وقال عكرمة: لما نزلت إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ الآية قال المنافقون من أهل البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرجوا إلى البدو إلى قومهم ليفقهوهم، فأنزل الله تعالى في المعذر لأولئك هذه الآية.
وروى عن عبد الرزاق بن همام في قوله فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ قال: هم أصحاب الحديث.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب.
قال ابن عباس: مثل قريظة والنضير وخيبر وفدك ونحوها.
ابن عمر: أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ، والشام كانت أقرب إلى المدينة من العراق.
وكان الحسن إذا سئل عن قتال الروم والديلم تلا هذه الآية «١».
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً شدة وحمية، وقال الضحاك: جفاء، وقال الحسن: صبرا على جهادهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر.
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ قراءة العامة: برفع الياء لمكان الهاء وقرأ عبيد بن عمير: أَيَّكُمْ بفتح الياء وكلّ صواب زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً يقينا وإخلاصا وتصديقا.
وقال الربيع: خشية وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بنزول القرآن. عن الضحاك عن ابن عباس: (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) يعني سورة محكمة فيها الحلال والحرام فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وتصديقا بالفرائض مع إيمانهم بالرحمن
(١) وقيل العرب قاله ابن زيد، راجع زاد المسير: ٣/ ٣٥١.
112
وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بنزول الفرائض وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك ونفاق فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفرا إلى كفرهم وضلالا إلى ضلالهم وشكا إلى شكهم.
وقال مقاتل: إثما إلى أثمهم وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ قال مجاهد في هذه الآية: الإيمان يزيد وينقص، وقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : لو وزن إيمان أبو بكر (رضي الله عنه) بإيمان أهل الأرض لرجحهم، بلى إن الإيمان ليزيد وينقص، قالها ثلاث مرات.
وروى زيد الشامي عن ذر قال: كان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول:
تعالوا حتى نزداد إيمانا.
قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب كلما ازداد الإيمان عظما ازداد ملك الناس حتى يبيض القلب كله، وأن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب فكلما إزداد النفاق إزداد ذلك السواد فيسود القلب كله. فأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود.
وكتب الحسن إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : إن للإيمان تشاد شرائع وحدود وفرائض من استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.
وقال ابن المبارك عن الحسن: إلّا قرابة بزيادة الإيمان أو أردّ كتاب الله تعالى.
أَوَلا يَرَوْنَ قرأ العامة بالياء خبرا عن المنافقين المذكورين، وقرأ حمزة ويعقوب: أولا ترون بالتاء على خطاب المؤمنين، وهي قراءة أبي بن كعب. قرأ الأعمش: أولم تر، وقرأ طلحة: أولا ترى وهي قراءة عبد الله بن عمر أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ يختبرون فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قال: يكذبون كذبة أو كذبتين يصلون فيه، وقال مجاهد: يُفْتَنُونَ بالقحط والغلاء، عطية:
بالأمراض والأوجاع وهي روائد الموت.
قتادة: بالغزو والجهاد، وقيل: بالعدوّ، وقيل: يُفْتَنُونَ فيعرفون مرة وينكرون بأخرى. مرّة الهمداني: يُفْتَنُونَ يكفرون. مقاتل بن حيان: يفضحون بإظهار نفاقهم. عكرمة: ينافقون ثم يؤمنون ثمّ ينافقون كما أنهم ينقضون عهدهم في سنة مرة أو مرتين «١» ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نقضهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [بما صنع الله بهم]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا انقضوا عهودهم بعث إليهم السرايا فيقتلونهم.
الحسن: يُفْتَنُونَ بالجهاد في سبيل الله مع رسوله ويرون تصديق ما وعده الله من النصر والظفر على من عاداه الله ثُمَّ لا يَتُوبُونَ لما يرون من صدق موعد الله، ولا يتّعظون، الضحاك: يُفْتَنُونَ بالغلاء والبلاء ومنع القطر وذهاب الثمار ثم لا يرجعون عن نفاقهم ولا يتفكرون في عظمة الله، وفي قراءة عبد الله: وما يذكرون.
(١) يراجع زاد المسير: ٣/ ٣٥٣.
113
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها عيب المنافقين وتوبيخهم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ كلام مختصر تقديره نظر بعضهم في بعض وقالوا أو أشاروا هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ إن قمتم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أحدا يراهم قاموا فانصرفوا ثُمَّ انْصَرَفُوا عن الإيمان بها، وقال الضحاك: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ يعني أطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل قال الله صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان بالقرآن بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ قال ابن عباس: لا تقولوا إذا صليتم: انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، لكن قولوا قضينا الصلاة «١».
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قراءة العامة بضم الفاء أي: من نسبكم تعرفون نسبه وحسبه وأي قبيلة من العرب من بني إسماعيل. قال ابن عباس: ليس في العرب قبيلة إلّا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلّم مضريها وربيعها ويمانيها «٢».
قال الصادق: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.
أخبرنا عبد الله بن حامد، حدثنا حامد بن محمد. علي بن عبد العزيز. محمد بن أبي هاشم حدّثني المدني عن أبي الحويرث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية وما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام»
«٣» [٧٤] فإن الله تعالى جعله من أنفسهم، فلا تحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة.
قرأ ابن عباس وابن ثعلبة: عبد الله بن فسيط المكي وابن محيصن والزهري مِنْ أَنْفَسِكُمْ بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم من قولك: شيء نفيس إذا كان مرغوبا فيه. قال يمان: من أعلاكم نسبا عَزِيزٌ شديد عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ما صلة أي عنتكم وهو دخول المشقة والمضرّة عليكم. قال ابن عباس: ما ضللتم. قال الضحاك والكلبي: أثمتم، وقال العتيبي: ما عنتكم وضرّ بكم، وقال ابن الأنباري: ما هلكتم عليه حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على إيمانكم وهداكم وصلاحكم، وقال قتادة: حريص على ضالهم أن يهديه الله، وقال الفراء: الحريص الشحيح أن تدخلوا النار.
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رفيق رَحِيمٌ قيل: رَؤُفٌ بالمطيعين رَحِيمٌ بالمذنبين رَؤُفٌ بعباده رَحِيمٌ بأوليائه. رَؤُفٌ بمن يراه رَحِيمٌ بمن لم يره.
قال عبد العزيز بن يحيى: نظم الآية: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص
(١) تفسير الطبري: ١١/ ٩٩. ١٠١.
(٢) تاريخ دمشق: ٣/ ٩٥ ط. دار الفكر.
(٣) المعجم الكبير: ١٠/ ٣٢٩ ح ١٠٨١٢.
114
بالمؤمنين رحيم عليه ما عنتم لا يهمه إلّا شأنكم وهو القائم بالشفاعة فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته فإنه لا يرضيه إلّا دخولكم الجنة
لقوله صلى الله عليه وسلّم: «من ترك ما لا فلنؤتينه ومن ترك كلّا ودينا فعليّ وإلىّ» [٧٥].
فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإيمان وناصبوك فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قراءة العامة بخفض الميم على العرش، وقرأ ابن محيصن: الْعَظِيمُ بالرفع على نعت الربّ، وقال الحسين بن الفضل: لم يجمع الله لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلّا للنبي صلى الله عليه وسلّم فإنه قال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «١».
وقال يحيى بن جعدة: قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : لا تثبت آية في المصحف حتى يشهد عليها رجلان فجاء رجل من الأنصار بالآيتين من آخر سورة التوبة لَقَدْ جاءَكُمْ فقال عمر:
والله لا أسألك عليها بيّنة، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأثبتهما، وهي آخر آية نزلت من السماء في قول بعضهم، وآخر سورة كاملة نزلت سورة براءة.
أخبرنا أبو عبد الله بن حامد، عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن حجاج عن همام. عن قتادة قال: إن آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان خاتمة براءة لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى قوله رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
أبي بن كعب: إن أحدث القرآن عهدا بالله تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ إلى آخر السورة.
(١) سورة البقرة: ١٤٣.
115
Icon