ومن سورة براءة «١» قوله: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مرفوعة، يضمر لَهَا (هَذِه) ومثله قوله: سُورَةٌ «٢» أَنْزَلْناها. وهكذا كل ما عاينته من اسم معرفة أو نكرة جاز إضمار (هذا) و (هذه) فتقول إِذَا نظرت إلى رجل: جميلٌ والله، تريد: هَذَا جَميل.
والمعنى فِي قوله (بَرَاءَةٌ) أن العرب كانوا قد أخذوا ينقُضُون عهودًا كانت بينهم وبين النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزلت عَلَيْهِ آيات من أوّل براءة، أُمِر فيها بنَبْذ عهودهم إليهم، وأن يَجعل الاجَلَ بينه وبينهم أربعةَ أشهر. فمن كانت مدّته أكثر من أربعة أشهر «٣» حطّه إلى أربعة. ومن كانت مدّته أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة. وبعث فِي ذَلِكَ أبا بكر وعليًّا رحمهما الله، فقرأها عليٌّ عَلَى الناس.
وقوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (٢) يقول: تَفَرَّقوا آمنين أربعة أشهر مدّتكم.
وقوله: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (٣) تابع لقوله (براءة). وجعل لمن لَمْ يكن لَهُ عهد خمسين يومًا أجلا. وكل ذلك من يوم النحر.
(٢) أوّل سورة النور.
(٣) سقط فى أ. وثبت فى ش، ج. [.....]
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ (٤) استثناء فِي موضع نصب. وهم قوم من بني كنانة كَانَ قد بقي من أجلهم تسعة أشهر.
قال الله تبارك وتعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ يقول: لا تحطّوهم إلى الاربعة.
وقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (٥) فِي الأشهر الحرم وغيرها فِي الحل والحرم.
وقوله: وَاحْصُرُوهُمْ وحَصْرهم أن يُمنعوا من البيت الحرام.
وقوله: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ يقول: عَلَى طُرُقهم إلى البيت فقام رجل من الناس حين قرئت (براءة) فقال: يا ابن أبي طالب، فمن أراد منا أن يلقى رَسُول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بعض الأمر بعد انقضاء الاربعة فليس لَهُ عهد؟ قَالَ عَليّ:
بلى، لأن الله تبارك وتعالى قد أنزلَ:
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ (٦) يقول: ردّه إلى موضعه ومأمنه.
فان أنت تفعل فللفاعلي | ن أَنْتَ المجيزين تِلْكَ الغِمَارا |
(٢) هو الكميت بن زيد من قصيدته فى مدح أبان بن الوليد بن عبد الملك بن مروان. يقول:
إن تفعل هذه المكارم فأنت منسوب للفاعلين الأجواد. والغمار جمع الغمرة وهى الشدة. و «المجيزين» وصف من أجاز بمعنى جاز.
وللخيلِ أَيّامٌ فَمَنْ يَصْطَبِرْ لَهَا | وَيَعْرِفْ لَهَا أيامها الخير تعقب |
وقوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ (٧) عَلَى التعجب كما تَقُولُ: كيف يُسْتَبقَى مثلك أي لا ينبغي أن يستبقى. وهو فِي قراءة عبد الله (كيف يكون للمشركين عهد عند الله ولا ذمة) فجاز دخول (لا) مع الواو لأن معنى أول الكلمة جحد، وَإِذَا استفهمت بشيء من حروف الاستفهام فلك أن تدعه استفهامًا، ولك أن تنوي بِهِ الجحد. من ذَلِكَ قولك: هَلْ أنت إلا كواحد مِنّا؟! ومعناهُ: ما أنت إلا واحد منا، وكذلك تَقُولُ: هَلْ أنت بذاهب؟ فتدخل الباء كما تَقُولُ: ما أنت بذاهب. وقال الشاعر:
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت | ألا هَلْ أَخُو عيشٍ لَذِيذٍ بدائم «٢» |
فاذهب فأي فتى في الناس أحرزه | من يومه ظلم دعج ولا جبل «٣» |
(٢، ٣) انظر ص ١٦٤ من هذا الجزء.
وقوله: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ (٨) اكتفى ب (كيف) ولا فعل معها لأن المعنى فيها قد تقدّم فِي قوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ وَإِذَا أعيد الحرف وقد مضى معناهُ استجازوا حذف الفعل كما قَالَ الشاعر «٣» :
وخبرتماني أنّما الموتُ فِي القُرَى | فكيفَ وهذي هَضْبَةٌ وكثيب |
فكيفَ ولم أَعْلَمْهُمُ خَذَلوكُمُ | عَلَى معظم ولا أديمكم قدّوا «٤» |
(٢) آية ٤٣ سورة الأعراف.
(٣) هو كعب بن سعد الغنوي من قصيدة يرثى فيها أخاه أبا المغوار، وقد ذكره فى قوله:
وداع دعا:
يا من يجيب إلى الندى | فلم يستجبه عند ذاك مجيب |
ادع أخرى وارفع الصوت جهرة | لعل أبى المغوار منك قريب |
فكيف وهاتا روضة وكثيب.
(٤) من قصيدته فى مدح بنى شماس بن لأى من بنى سعد. والمعظم بفتح الظاء وكسرها: الأمر العظيم.
يقول: إن بنى شماس يقومون بنصرة عشيرتهم، ومع ذلك يحسدهم قومهم. وقدّ الأديم: شقه.
يقول: لا يقدح فى عرضكم ولا يفسد أمركم.
فهل إلى عَيْش يا نصابُ وهل فأفرد الثانية لأنه يريد بِهَا مثل معنى الأول.
وقوله: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ (١١) ثم قال: فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ معناهُ: فهم إخوانكم. يرتفع مثل هَذَا من الكلام بأن يضمر لَهُ اسمه مكنيًّا عَنْهُ. ومثله فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «١» أي فهم إخوانكم. وَفِي قراءة أُبَيّ إِن تُعَذِّبْهُم فَعِبَادُكَ «٢» أي فهم عبادك.
وقوله: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ (١٢) يقول: رءوس الكفر إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ: لا عهودَ لَهُم. وقرأ الْحَسَن «٣» (لا إيمانَ لَهُمْ) يريدُ أنهم كفرة لا إسلام لَهُم. وقد يكون معنى الْحَسَن عَلَى: لا أمانَ لَهُم، أي لا تُؤمنوهم فيكون مصدر قولك: آمنته إيمانا تريد أمانا.
وقوله: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (١٣) ذَلِكَ أن خُزَاعة كانوا حلفاء للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت الديل بن بكر حلفاء لبني عبد شمس، فاقتتلت الديل وخزاعة، فأعانت قريش الديل عَلَى خُزاعة، فذلك قوله: بَدَؤُكُمْ أي قاتلوا «٤» حلفاءكم.
(٢) آية ١١٨ سورة المائدة. وفى قراءتنا: «إن تعذبهم فإنهم عبادك».
(٣) وهى قراءة ابن عامر أيضا.
(٤) كذا فى أ. وفى ش. ج: «قاتلوكم».
ورفع قوله: وَيَتُوبُ اللَّهُ لأن معناهُ لَيْسَ من شروط الجزاء إنّما هو استئناف كقولك للرجل: ايتني أُعطك، وأُحِبُّك بعد، وأُكْرِمُكَ، استئناف لَيْسَ بشرط للجزاء. ومثله قَوْل الله تبارك وتعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «١» تمّ الجزاء هاهنا، ثُمَّ استأنفَ فقال: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ.
وقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ (١٦) من الاستفهام الَّذِي يتوسّط فِي الكلام فيجعل ب (أَمْ) ليفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ الَّذِي لَمْ يتّصل بكلام. ولو أريد بِهِ الابتداء لكان إِمّا بالألف وإِمّا ب (هَلْ) كقوله: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ «٢» وأشباهه.
وقوله: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً والوليجة: البطانة من المشركين يتخذونهم فيُفْشون إليهم أسرارهم، ويعلمونهم أمورهم. فنهوا عَن ذَلِكَ.
وقوله: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ (١٧) وهو يعني المسجد الحرام وحده. وقرأها مُجاهد «٣» وعطاء بن أبي رَبَاح:
(مَسْجِد الله). وربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع، وبالجمع إلى الواحد ألا ترى الرجلَ عَلَى البِرذَون فتقول: قد أخذتَ فِي ركوب البراذين، وترى الرجل كثير الدراهم
(٢) أوّل سورة الإنسان. [.....]
(٣) وقرأها كذلك أيضا ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب.
جاء الشتاءُ وقمِيصِي أخلاقْ | شراذمٌ يضحكُ مِنْه التوّاقْ «٢» |
لعمرُكَ ما الفِتيان أن تنبُت اللِّحى | ولكنما الفِتيانُ كلُّ فتى ندِي |
وقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا (٢٠) ثم قال: أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ فموضع الَّذِينَ رفع بقوله: «أعظم درجة». ولو لم يكن فيه (أعظم) جاز أن يكون مردودًا بالخفض عَلَى قوله (كمن آمن). والعرب تردّ الاسم إِذَا كَانَ معرفة عَلَى (من) يريدون التكرير «٤». ولا يكون نعتًا لأن (من) قد تكون معرفة، ونكرة، ومجهولة، ولا تكون نعتًا كما أن (الَّذِي) قد يكون نعتا
(٢) ثوب أخلاق: بال. والتوّاق: ابن الراجز. ويروى النوّاق بالنون. وانظر اللسان (توق) والخزانة فى الشاهد الرابع والثلاثين.
(٣) آية ١٧٧ سورة البقرة.
(٤) أي أن يكون بدلا من «من».
فلمّا لَمْ تكن نعتًا لغيرها من المعرفة لَمْ تكن المعرفة نعتا لَهَا كقول الشاعر «١» :
لسنا كمن جعلتْ إيادٍ دارها | تكرِيتَ تنظُر حَبَّها أَنْ تَحْصُدا |
وقوله: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ (٢٥) نصبت المواطن لأن كل جمع كانت فِيهِ ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان فهو لا يُجْرَى «٢» مثل صوامع، ومساجد، وقناديل، وتَماثيل، ومحاريب. وهذه الياء بعد الألف لا يعتدّ بِهَا لأنها قد تدخل فيما ليست هي منه، وتَخرج مما هي منه، فلم يعتدّوا بِهَا «٣» إذ لَمْ تثبت كما ثبت غيرها. وإنما منعهم من إجرائه أَنَّهُ مثال لَمْ يأت عَلَيْهِ شيء من الاسماء المفردة، وأنه غاية للجِماع إِذَا انتهى الجماع إِلَيْهِ فينبغي لَهُ ألا يجمع. فذلك أيضًا منعه من الانصراف ألا ترى أنك لا تَقُولُ: دراهمات، ولا دنانيرات، ولا مساجدات. وربما اضطُرَّ إِلَيْهِ الشاعر فجمعه. وليس يوجد فِي الكلام ما يَجوز فِي الشعر. قَالَ الشاعر:
فهنّ يجمعن حدائِداتِها «٤» فهذا من المرفوض إلا فِي الشعر.
ونعت (المواطن) إِذَا لَمْ يكن معتلا جرى. فلذلك قال: (كثيرة).
(٢) إجراء الاسم عند الكوفيين صرفه وتنوينه، وعدم إجرائه منع صرفه.
(٣) فى ا: «إذا».
(٤) فى القرطبي:
فهنّ يعلكن حدائداتها
ونسبه فى اللسان (حدد) إلى الأحمر. وهو فى وصف الخيل.
من ذَلِكَ حنين، وبَدْر، وأُحُد، وحِرَاء، وثَبِير، ودابِق «١»، وواسط «٢». وإِنّما سمي واسطًا بالقصر الذي بناه الحجّاج بين الكوفة والبصرة. ولو أراد البلدة أو اسمًا مؤنثًا لقال:
واسطة. وربما جعلت العرب واسط وحُنين وبدر، اسمًا لبلدته التي هُوَ بِهَا فلا يَجرونه وأنشدني بعضهم:
نصروا نبِيَّهمُ وشَدّوا أَزْرَهُ | بِحُنَيْنَ يوم تواكُلِ الأبْطَالِ «٣» |
ألسنا أكرم الثَّقَليْنِ رَجْلا | وأعظمه ببطن حِرَاء نارا |
وقال آخر:
لقد ضاع قوم قلدوك أمورهم | بدابق إذ قيل العدوّ قريب |
رأوا جسدًا ضخمًا فقالوا مقاتل | ولم يعلموا أن الفؤاد نخيب «٥» |
(٢) بلد بين البصرة والكوفة بناه الحجاج.
(٣) البيت لحسان بن ثابت.
(٤) هو جرير كما فى معجم البلدان. ولم نجده فى ديوانه. وقوله: «رجلا» فهو بتسكين الجيم مخفف رجل بضمها. والأقرب أن يكون: رحلا بالحاء المهملة أي منزلا. ويروى: «طرا».
(٥) «جسدا» فى معجم البلدان لياقوت: «رجلا». و «نخيب» : جبان من النخب- بسكون الخاء- وهو الجبن. [.....]
وقوله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ. قَالَ يومئذ رجل من المسلمين: والله لا نُغْلَب، وكره ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ المسلمون يؤمئذ عشرة آلاف، وقال بعضُ الناس: اثني عشر ألفًا، فهزموا هزيمة شديدة.
وهو قوله: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ والباء هاهنا بمنزلة فِي كما تَقُولُ: ضاقت عليكم الأرض فِي رُحْبها وبُرحْبها. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْمُفَضَّلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ قُلْتُ لِلْبَرَاءِ «٣» بْنِ عَازِبٍ: يَا أَبَا عُمَارَةَ أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَهُ مِنَّا إلا رجلان: أبو سفيان «٤» بن الحرث آخِذًا بِلِجَامِهِ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ رِكَابِهِ آخِذًا بِثَفَرِهِ «٥». قَالَ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ:
شَاهَتِ الْوُجُوهُ،
أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ | أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ |
(٢) أي ولدت على أثره ولم يكن بينهما ولد.
(٣) هو من فضلاء الأوس. شهد أحدا والمشاهد. ونزل الكوفة، توفى سنة ٧١ أو ٧٢.
(٤) هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم.
(٥) المروي أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فى هذا اليوم راكبا بغلة. فقوله: آخذا بثفره أي بثفر مركوبه. والثفر: السير فى مؤخر السرج. والذي فى سيرة ابن هشام أن الذي كان آخذا بالثفر أبو سفيان. فأما العباس فكان آخذا بحكمة البغلة. والحكمة- بالتحريك- طرفا اللجام.
وقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ (٣٠) قرأها الثقات «٢» بالتنوين وبطرح التنوين. والوجه أن ينوّن لأن الكلام ناقص (وابن) فِي موضع خبر لعزير. فوجه العمل فِي ذَلِكَ أن تنوِّن ما رأيت الكلام محتاجًا إلى ابن. فإذا اكتفى دون بن، فوجه الكلام ألا ينون. وَذَلِكَ مع ظهور اسم أبي الرجل أو كنيته. فإذا جاوزت ذَلِكَ فأضفت (ابن) إلى مكنى عَنْهُ مثل ابنك، وابنه، أو قلت: ابن الرجل، أو ابن الصالِح، أدخلت النون فِي التام منه والناقص. وَذَلِكَ أن حذف النون إِنّما كَانَ فِي الموضع الَّذِي يُجرى فِي الكلام كثيرًا، فيستخفّ طرحها فِي الموضع الَّذِي يستعمل. وقد ترى الرجل يذكر بالنسب إلى أبيه كثيرًا فيقال:
من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، فلا يجري كثيرًا بغير ذَلِكَ. وربما حذفت النون وإن لَمْ يتمم الكلام لسكون الباء من ابن، ويستثقل النون إذ كانت ساكنة لقيت ساكنًا، فحذفت استثقالا لتحريكها. قَالَ: من ذلك قراءة القرّاء:
(عزيز ابن الله). وأنشدني بعضهم:
لَتجِدّني بالأميرِ بَرّا | وَبالقناة مِدْعَسا مكرّا «٣» |
(٢) قرأ بالتنوين من العشرة عاصم والكسائي ويعقوب، وقرأ الباقون بطرح التنوين.
(٣) المدعس: المطاعن. والمكر: الذي يكر فى الحرب ولا يفر.
فيحذفون النون من (أحد). وقال آخر «١» :
كيْفَ نَومي عَلَى الفراشِ ولَمَّا | تشملِ الشامَ غارةٌ شعواءُ |
تُذْهل الشيخَ عَن بَنيهِ وَتُبْدِي | عَن خِدَامِ العَقِيلةُ العذراء |
جارية من قيس ابن ثعلبة | كأنها حلْيَةُ سيف مُذْهَبه «٢» |
وإلا يكن مال يثاب فإنه | سيأتي ثنائي زيدًا ابنَ مُهَلْهِلٍ |
فقالت اليهود: ما جمع الله التوراة فِي صدر عُزَيْر وهو غلام إلا وهو ابنه- تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا-.
(٢) هذا مطلع أرجوزة للأغلب العجلى. وأراد بجارية امرأة اسمها كلبة كان يهاجيها وانظر الخزانة ١/ ٣٣٢
(٣) هو الحطيئة يمدح زيد الخيل الطائىّ.
يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قولهم: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
وقوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (٣١) قَالَ: لَمْ يعبدوهم، ولكن أطاعوهم فكانت كالربوبية.
وقوله: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ (٣٢) دخلت (إلّا) لأن فِي أَبيت طَرَفًا من الجحد ألا ترى أن (أبيت) كقولك:
لَمْ أفعل، ولا أفعل، فكانه بمنزلة قولك: ما ذهب إلا زيد. ولولا الجحد إِذَا ظهر أو أتى الفعل محتملا لضميره «١» لَمْ تُجِزْ دخول إلا كما أنك لا تقول: ضربت إلا أخاكَ، ولا ذهبَ إلا أخوك. وكذلك قَالَ الشاعر «٢» :
وهل لِي أُمّ غيرها إِنْ تركتها | أَبى اللهُ إِلا أن أكون لَهَا ابنما |
إِيَادًا وأَنْمَارها الغالبين | إلا صدودًا وإلا ازورارا |
واعتلّ إلا كل فرع معرق | مثلك لا يعرف بالتلهوق «٣» |
(٢) هو المتلمس. والبيت من قصيدة له يرد فيها على من عيره أمه، مطلعها:
تعيرنى أمي رجال ولا أرى | أخا كرم إلا بأن يتكرما |
(٣) التلهوق: التملق. ويقال أيضا للتكلف. [.....]
وقوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ (٣٤) ولم يقل: ينفقونهما. فإن شئت وجَّهْت الذهب والفضة إلى الكنوز فكان توحيدها من ذَلِكَ. وإن شئت اكتفيتَ بذكر أحدهما من صاحبه كما قَالَ:
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «١» فجعله للتجارة، وقوله: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
«٢» فجعله- والله أعلم- للاثم، وقال الشاعر «٣» فِي مثل ذَلِكَ:
نحن بما عندنا وأنت بما عن | دك راضٍ والرأي مختلفِ |
إنّي ضمنت لمن أتاني ما جنى | وأبي وَكَانَ وكنت غير غدور |
(٢) آية ١١٢ سورة النساء.
(٣) هو قيس بن الخطيم.
(٤) آية ٦٢ سورة التوبة.
(٥) آية ٣٧ سورة الأحزاب.
(٦) كذا فى أ. وفى ش، ج: «لعبد».
أصبحن فِي قَرْحٍ وفى دارتها | سبع ليالٍ غير معلوفاتها «٢» |
ومثله: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ «٣» فذكر الفعل لقلَّة النسوة ووقوع (هَؤُلاءِ) عليهن كما يقع عَلَى الرجال. ومنه قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ «٤» ولم يقل: انسلخت، وكل صواب. وقال الله تبارك وتعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ «٥» لقلّتهن ولم يقل (تِلْكَ) ولو قيلت كَانَ صوابا.
(٢) قرح: سوق وادي القرى، وهو واد بين المدينة والشام. وقوله: «أصبحن» فى اللسان (قرح) :«حبسن».
(٣) آية ٣٠ سورة يوسف.
(٤) آية ٥ سورة التوبة.
(٥) آية ٣٦ سورة الإسراء.
كافين، أو كافّات للنسوة، ولكنها (كافّة) بالهاء والتوحيد «١» فِي كل جهة لانّها وإن كانت عَلَى لفظ (فاعلة) فإنّها فِي مذهب مصدر مثل الخاصَّة، والعاقبة، والعافية. ولذلك لَمْ تُدخل فيها العرب الألف واللام لانّها آخر الكلام مع معنى المصدر. وهي فِي مذهب قولك: قاموا معًا وقاموا جَميعًا ألا ترى أن الألف واللام قد رُفِضت فِي قولك: قاموا معًا، وقاموا جميعًا، كما رفضوها فِي أجمعين وأكتعين وكلهم إذ كانت فِي ذَلِكَ المعنى. فإن قلت: فإن العرب قد تدخل الألف واللام فِي الجميع، فينبغي لَهَا أن تدخل فِي كافة وما أشبهها، قلت: لأن الجميع عَلَى مذهبين، أحدهما مصدر، والآخر اسم، فهو الَّذِي شبّه عليك. فإذا أردت الجميع الَّذِي فِي معنى الاسم جمعته وأدخلت فِيهِ الألف واللام مثل قوله: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ «٢»، وقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «٣» وأما الَّذِي فِي معنى معًا وكافَّة فقولك للرجلين: قاما جَميعًا، وللقوم: قاموا جَميعًا، وللنسوة: قمن جَميعًا، فهذا فِي معنى كلّ وأجمعين، فلا تدخله ألفا ولا ما كما لَمْ تدخل فِي أجمعين.
وقوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ (٣٧) كانت العربُ فِي الجاهلية إِذَا أرادوا الصَدَر عَن مِنًى قام «٤» رجلٌ من بني كنانة يُقال لَهُ (نُعَيم بن ثعلبة) وَكَانَ رئيس الموسم، فيقول: أنا الَّذِي لا أعابُ ولا أجابُ ولا يردّ لي قضاء. فيقولون: صدقت، أنسئنا شهرًا، يريدون: أخَّرْ عنّا حرمة المحرم
(٢) آية ٥٦ سورة الشعراء.
(٣) آية ٤٥ سورة القمر. [.....]
(٤) كذا فى أ. وفى ش، ج: «قدم».
والنسيء المصدر، ويكون المنسوءَ مثل القتيل والمقتول.
وقوله: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا قرأها ابن مسعود «١» يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرأها زيد بن ثابت «٢» (يَضِلُّ) يجعل الفعل لَهُم، وقرأ الْحَسَن الْبَصْرِيّ «٣» (يُضِلّ بِهِ الَّذِينَ كفروا)، كأنه جعل الفعل لَهُم يُضِلُّون بِهِ الناس وينسئونه لهم.
وقوله: (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ) يقول: لا يخرجون من تَحريم أربعة.
وقوله: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ (٣٨) معناهُ والله أعلم: (تثاقلتم) فإذا وصلتها العرب بكلام أدغموا التاء فِي الثاء لأنها مناسبة لَهَا، ويحدثونَ ألفًا لَمْ يكن ليبنوا الحرف عَلَى الادغام فِي الابتداء والوصل.
وكأن إحداثهم الألف ليقع بِهَا الابتداء، ولو حذفت لاظهروا التاء لأنها مبتدأة،
(٢) وقرأها كذلك الحرميان نافع وابن كثير وأبو عمرو.
(٣) قرأها كذلك يعقوب.
تطيرنا. والعربُ تَقُولُ: (حَتَّى إِذَا اداركوا) تجمع بين ساكنين: بين التاء من تداركوا وبين الألف من إِذَا. وبذلك كَانَ يأخذ أَبُو عَمْرو «٤» بن العلاء ويردّ الوجه الأول، وأنشدني الْكِسَائي:
تُولِي الضجيع إِذَا ما استافها «٥» خَصِرا | عَذْبَ المذاقِ إِذَا ما اتّابع الْقُبَلُ |
ويَجوز (وَكَلِمَةُ «٦» اللَّهِ هِيَ العليا) ولست أستحبّ ذَلِكَ لظهور الله تبارك وتعالى لأنه لو نصبها- والفعل فعله- كَانَ أجود الكلام أن يُقال: «وكلمته هي العليا» ألا ترى أنك تَقُولُ: قد أعتق أبوكَ غلامه، ولا يكادونَ يقولون: أعتق أبوكَ غلام أبيك. وقال الشاعر فِي إجازة ذَلِكَ:
متى تأتِ زيدًا قاعدًا عِنْدَ حوضه | لِتهدِمَ ظلمًا حوضَ زيد تقارع |
(٢) آية ٢٤ سورة يونس.
(٣) آية ٤٧ سورة النمل.
(٤) إنما روى هذا الوجه عن أبى عمرو عصمة الفقيمي. وليس ممن تعتبر روايته. وانظر تفسير القرطبي ٧/ ٢٠٤
(٥) استافها. شمها. والخصر: البارد. يريد ريقها.
(٦) وقد قرأ بهذا يعقوب والحسن والأعمش فى رواية المطوّعى.
وقوله: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ (٤٧) الإيضاع: السير بين القوم. وكتبت»
بلام ألف وألف بعد ذَلِكَ، ولم يكتب فِي القرآن لها نظير. و «٣» ذلك أنهم لا يكادونَ يستمرونَ فِي الكتاب عَلَى جهة واحدة ألا ترى أنهم كتبوا فَما تُغْنِ النُّذُرُ «٤» بغير ياء، وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ «٥» بالياء، وهو من سوء هجاء الأوّلين. وَلا أَوْضَعُوا مجتمع عَلَيْهِ فِي المصاحف.
وأمّا قوله: أَوْ لا أَذْبَحَنَّه «٦» فقد كتبت بالألف وبغير الألف. وقد كَانَ ينبغي للألف أن تُحذف من كله لانَّها لام زيدت عَلَى ألف كقوله: لاخوكَ خيرٌ من أبيك ألا ترى أَنَّهُ لا ينبغي أن تكتب بألف بعد لام ألف. وأما قوله
(٢) هذا على ما فى أكثر المصاحف. وقد كتبت فى بعضها واحدة، وطبع المصحف على هذا الوجه. فقوله بعد: «ولأوضعوا مجتمع عليه فى المصاحف» غير المروي عن أصحاب الرسم. والإجماع على «لأ اذبجنه» فتراه انعكس عليه الأمر: وفى المقنع ٤٧: «وقال نصير: اختلفت المصاحف فى الذي فى التوبة، واتفقت على الذي فى النمل».
(٣) قال فى الكشاف: زيدت ألف فى الكتابة لأن الفتحة كانت تكتب ألفا فى الخط العربي، والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك الألف أثر فى الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحتها ألفا أخرى، ونحوها: أو لا أذبحنه فى سورة النمل، ولا آتوها فى الأحزاب ولا رابع لها فى القرآن.
(٤) آية ٥ سورة القمر. [.....]
(٥) آية ١٠١ سورة يونس.
(٦) آية ٢١ سورة النمل.
وربما قالوا للراكب وضع قَالَ الشاعر:
إِنِّي إِذَا ما كَانَ يوم ذو فزَعْ | ألفيتني محتملا بذي أضع «٢» |
أبغيتك الفتنة. وهو مثل قولك: أَحِلبني واحلُبني.
وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي (٤٩) وَذَلِكَ لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجد «٣» بن قيس: هَلْ لك فِي جِلاد بني الاصفر؟ - يعني الروم- وهي غزوة تبوك، فقال جدّ: لا، بَلْ تأذن لي، فأتخلف فإني رجل كِلف بالنساء أخافُ فتنة بنات الاصفر. وإِنَّما سمي الاصفرُ لأن حبشيًا «٤» غلب عَلَى ناحية الروم وَكَانَ لَهُ بنات قد أخذن من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفرًا لُعسا «٥». فقال الله تبارك وتعالى أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا فِي التخلف عنك «٦». وقد عُذِل المسلمونَ فِي غزوة تبوك وثقل عليهم الخروج لبعد الشقة «٧»، وَكَانَ أيضًا زمان عسرة وأدرك الثمار وطاب الظل، فأحبّوا الإقامة، فوبّخهم الله.
(٢) محتملا على صيغة اسم المفعول من احتمل إذا غضب واستخفه الغضب. وقوله: بذي كأنه يريد: بذي الناقة أو بذي الفرس. وقد يكون المراد: محتملا رحلى- على صيغة اسم الفاعل- بالبعير الذي أضعه. فذى هنا موصول على لغة الطائيين.
(٣) كان سيد بنى سلمة من الأنصار. وكان ممن يرمى بالنفاق ومات فى خلافة عثمان.
(٤) فى ا: «جيشا».
(٥) جمع لعساء. وهى التي فى لونها سواد، وتكون مشربة بحمرة.
(٦) كذا فى أ. وفى ش، ج: «عندك».
(٧) كذا فى ش، ج. وفى ا: «المشقة».
ووصف «٢» المنافقين فقال: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وسفرا قاصدا لاتّبعوك).
وقوله: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ (٤٥) أي لا يَسْتَأْذِنُكَ بعد غزوة تبوك فِي جِهاد الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ به.
ثم قال: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ بعدها الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
وقوله: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ (٥٢) : الظفر أو الشهادة، فهما الحسنيان. والعرب تدغم اللام من (هل) و (بل) عند التاء خاصة. وهو فِي كلامهم عالٍ كَثِير يقول: هَلْ تدري، وهتَّدْرِي. فقرأها القراء عَلَى ذَلِكَ، وإنَّما أستحبُّ فِي القراءة خاصَّة تبيان ذَلِكَ، لانَّهما منفصلانِ ليسا من حرف واحد، وإِنَّما بنى القرآن عَلَى الترسل والترتيل وإشباع الكلام فتبيانه أحب إليّ من إدغامه، وقد أدغم القرّاء «٣» الكبار، وكلٌّ صواب.
وقوله: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً (٥٣) وهو أمر فِي اللفظ وليس بأمر فِي المعنى لأنه أخبرهم أَنَّهُ لن يتقبّل منهم.
وهو فِي الكلام بِمنزلة إنْ فِي الجزاء كأنك قلت: إنْ أنْفَقْتَ طوعًا أو كرهًا فليس بمقبولٍ منك. ومثله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «٤» لَيْسَ بأمر، إِنَّما هُوَ عَلَى تأويل الجزاء. ومثله قول الشاعر «٥» :
أسِيئي بنا أو أحسني لا ملومةٌ | لدينا ولا مَقْليّةٌ إن تقَلّتِ |
(٢) يريد أنهم وصفوا بما فى الآية الآتية. وهى فى الآية ٤٢ من السورة.
(٣) هم حمزة والكسائىّ وخلف فى رواية هشام.
(٤) آية ٨٠ سورة التوبة.
(٥) هو جميل فى قصيدة يتغزل فيها بثينة. [.....]
وقوله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (٥٥) معناهُ: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فِي الحياة الدُّنْيَا. هَذَا معناه، ولكنه أخِّر ومعناه التقديم- والله أعلم- لأنه إِنّما أراد: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فِي الحياة الدُّنْيَا إنّما يريد الله ليعذبهم بِهَا فِي الآخرة. وقوله وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ أي تَخرج أنفسهم وهم كفار. ولو جعلت الحياة الدُّنْيَا مؤخّرة «٤» وأردت:
إنّما يريد الله ليعذبهم بالإنفاق كرهًا ليعذبهم بذلك فِي الدُّنْيَا، لكان وجها حسنا.
(٢) آية ٢٠ سورة الفرقان.
(٣) يريد أنها فى صدر جملة وليست فى موضع المفرد. وجملتها فى موضع النصب لأنها حال.
(٤) أي غير منوىّ تقديمها، كما فى الرأى السابق.
لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ مسرعين الجمح هاهنا: الإسراع.
وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ (٥٨) يقول: بعيبك، ويقولون: لا يقسم بالسَّوِيَّة.
فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا فلم يعيبوا.
ثُمَّ إِنّ الله تبارك وتعالى بيّن لَهُم لمن الصدقات.
فقال: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ (٦٠) وهم أهل صُفَّة «١» رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانوا لا عشائر لَهم، كانوا يلتمسونَ الفضل بالنهار، ثُمَّ يأوون إلى مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهؤلاء الفقراء.
وَالْمَساكِينِ: الطوّافين على الأبواب وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة.
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم أشراف العرب، كَانَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يعطيهم ليجترّبه إسلام قومهم.
وَفِي الرِّقابِ يعنى المكاتبين وَالْغارِمِينَ: أصحاب الدَّيْن الَّذِين ركبهم فِي غير إفساد.
(فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) نصب على القطع. والرفع فى (فريضة) جائز لو قرئ «١» بِهِ.
وهو فِي الكلام بِمنزلة قولك: هُوَ لك هبةً وهِبةٌ، وهو عليك صدقةً وصدقةٌ، والمالُ بينكما نصفين ونصفان، والمالُ بينكما شِقّ الشَعَرة وشقُّ....
وقوله: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ (٦١) اجتمعَ قوم عَلَى عَيب «٢» النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول رجل منهم: إن هَذَا يبلّغ محمدا- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيقع بنا، ف يَقُولُونَ: إنما هُوَ أُذُنٌ سامعة إِذَا أتيناهُ صدّقَنا، فقولوا ما شئتم. فأنزلَ الله عَزَّ وَجَلَّ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي كما تقولون، ولكنه لا يصدقكم، إنما يصدّق المؤمنين.
وهو قوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ: يصدق بالله. وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ: يصدّق الْمُؤْمِنِين. وهو كقوله: لِلَّذِينَ «٣» هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي يرهبون ربهم.
وأمّا قوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فمتصل بِما قبله.
وقوله: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا إن شئت خفضتها «٤» تتبعها لخير، وإن شئت «٥» رفعتها أتبعتها الأذن. وقد «٦» يُقرأ: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ كقوله: قل أذن أفضل لكم و (خير) إِذَا خفض فليس عَلَى معنى أفضل إِذَا خفضت (خير) فكأنك قلت: أذن صلاح لكم، وَإِذَا قلت: (أذن خير لكم)، فإنك قلت: أذن أصلح لكم. ولا تكون الرحمة إذا رفعت (خير) إلا رفعا. ولو نصبت الرحمة على
(٢) كذا فى أ. وفى ش، ج: «غيب».
(٣) آية ١٥٤ سورة الأعراف.
(٤) والخفض قراءة حمزة.
(٥) سقط فى أ.
(٦) قرأ بهذا الحسن.
وقوله: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ (٦٢) وحّد «٢» (يرضوه) ولم يقل: يرضوهما لأن المعنى- والله أعلم- بمنزلة قولك:
ما شاء الله وشئتُ إنما يقصد بالمشيئة قصدُ الثاني، وقوله: «مَا شاءَ اللَّهُ» تعظيم لله مقدم قبل الأفاعيل كما تَقُولُ لعبدك: قد أعتقك الله وأعتقتُك. وإن شئت أردت: يرضوهما فاكتفيت بواحد كقوله:
نحن بِمَا عندنا وأنت بما عن... دك راض والرأي مختلف
ولم يقل: راضون.
وقوله: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً (٦٦) والطائفة واحد واثنان، وإِنَّما نزل فِي ثلاثة نفر استهزأ رجلان برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، وضحك إليهما آخر، فنزل إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ يعنى الواحد الضاحك نُعَذِّبْ طائِفَةً يعني المستهزئين. وقد جاء وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ «٣» يعني واحدًا. ويقرأ: «إن يُعْفَ عَن طائفة منكم تعذّب طائفة».
و «إن يعف... يعذّب طائفة».
وقوله: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ (٦٧) : يُمسكون عَن النفقة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم.
(٢) كذا فى ش. وفى ا: «جديرأن».
(٣) آية ٢ سورة النور. [.....]
وقوله: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ. يقول: رضوا بنصيبهم فِي الدُّنْيَا من أنصبائِهم فى الآخرة.
وقوله: فَاسْتَمْتَعْتُمْ أي أردتم ما أراد الَّذِينَ من قبلكم.
وقوله: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا يريد: كخوضهم الَّذِي خاضوا.
وقوله: وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ (٧٠) يقال: إنها قريات قوم لوط وهود وصالِح. ويُقال: إنهم أصحاب لوط خاصَّة.
جُمعوا بالتاء عَلَى قوله: وَالْمُؤْتَفِكَةَ «١» أَهْوى. وكأنّ جمعهم إذ قيل الْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ عَلَى الشِيع والطوائف كما قيل: قتلت الفُدَيكات، نسبوا إلى رئيسهم أبي فديك».
وقوله: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ (٧٢) رفع بالاكبر، وَعُدِلَ عَن أن يُنْسَق عَلَى ما قبله وهو مما قد وعدهم الله تبارك وتعالى، ولكنه أوثر بالرفع لتفضيله كما تَقُولُ فِي الكلام: قد وصلتك بالدراهم والثياب، وَحُسْنُ رأيي خير لك من ذَلِكَ.
وقوله: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ (٧٤) هَذَا تعيير لَهُمْ لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ عَلَى أهل المدينة وهم محتاجونَ، فأَثْرَوا من الغنائم، فقال: وَمَا نَقَمُوا إِلا الغِنى ف (أَنْ) فِي موضع نصب.
(٢) هو من رءوس الخوارج.
ولمزهم إياهم: تنقُّصُهم وَذَلِكَ أنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حثّ الناس عَلَى الصدقة، فجاء عمر بصدقة وعثمان بن عفان بصدقة عظيمة، وبعض أصحاب النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جاء رجل يُقال لَهُ أَبُو عُقَيل بصاع من تَمر، فقال المنافقون: ما أخرج هَؤُلاءِ صدقاتِهم إلا رِياء، وأمّا أَبُو عقيل فإنما جاء بصاعه ليُذْكر بنفسه، فأنزل الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ يعني المهاجرين وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ.
يعني أبا عقيل. والجُهْد لغة أهل الحجاز والوُجْد، ولغة غيرهم الجَهْد والوَجْد.
وقوله: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) من الرجال، خلوف وخالفون، والنساء خوالف: اللاتي يخلُفن فِي البيت فلا يبرحن. ويُقال: عبد خالف، وصاحب خالف: إِذَا كَانَ مخالفًا.
وقوله: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ (٩٠) وهم الَّذِينَ لَهُم عُذْر. وهو فِي المعنى المعتذرونَ، ولكن التاء أدغمت عند الذَّال فصارتا جميعًا (ذالا) مشددة، كما قيل يذّكرون ويذَّكَّر. وهو مثل (يخصّمون) «٤» لمن فتح الخاء، كذلك فتحت الْعَين لأن إعراب التاء صار فِي الْعَين كانت- والله أعلم-
(٢) فى الآية ١٥٨ من سورة البقرة. ويريد المؤلف قراءة حمزة والكسائي. وقراءة العامة: تطوع
(٣) آية ١٠٨ سورة التوبة.
(٤) فى آية ٤٩ سورة يس.
(الْمُعْذِرُونَ)، وَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُعَذِّرِينَ ذَهَبَ إِلَى مَنْ يَعْتَذِرُ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَالْمُعْذِرُ:
الَّذِي قَدْ بَلَغَ أَقْصَى الْعُذْرِ. وَالْمُعْتَذِرُ قَدْ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُعْذِرِ، وَقَدْ يَكُونُ لا عُذْرَ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الَّذِي لا عُذْرَ لَهُ:
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ (٩٤) ثم قال: (لا تعتذروا) لا عُذْرَ لَكُمْ. وقال لَبِيد فِي معنى الاعتذار بالإعذار إِذَا جعلهما واحدًا:
وقوما فقولا بالذي قد علمتما | ولا تخمشا وجهًا ولا تحلقا الشعر |
إلى الحول ثُمَّ اسمُ السَّلام عليكما | ومَنْ يبكِ حولا كاملا فقد اعتذر |
وقوله: حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا (٩٢) (يَجِدُوا) فِي موضع نصب بأن، ولو كانت رفعا على أن يجعل (لا) فِي مذهب (لَيْسَ) كأنك قلت: حزنًا أن لَيْسَ يَجدونَ ما يُنفقونَ، ومثله. قوله: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا «٢». وقوله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ «٣».
وكل موضع صلحت (لَيْسَ) فِيهِ فِي موضع (لا) فلك أن ترفع الفعل الَّذِي بعد (لا) وتنصبه.
(٢) آية ٨٩ سورة طه.
(٣) آية ٧١ سورة المائدة.
وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا موضع (أن) نصب. وكل موضع دخلت فِيهِ (أن) والكلام الَّذِي قبلها مكتفٍ بما خفضه أو رفعه أو نصبه ف (أن) فِي موضع نصب كقولك: أتيتك أنك محسن، وقمت أنك مسيء، وَثَبَتُّ عندك أنك صديق وصاحب. وقد تبين لك أن (أن) فِي موضع نصب لأنك تضع فِي موضع (أن) المصدر فيكون نصبًا ألا ترى أنك تَقُولُ: أتيتك إحسانك، فدلّ الإحسان بنصبه عَلَى نصب أن. وكذلك الآخران.
وأمّا قوله: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا فإن وضعك المصدر فِي موضع (أن) قبيح لأن أخلق وأجدر يطلبن الاستقبال من الأفاعيل فكانت ب (أن) تبين المستقبل، وَإِذَا وضعت مكان (أن) مصدرًا لَمْ يتبيّن استقباله، فلذلك قبح. و (أن) فِي موضع نصب عَلَى كل حال ألا ترى أنك تَقُولُ: أظن أنك قائم فتقضي عَلَى (أن) بالنصب، ولا يصلح أن تَقُولُ: أظن قيامك، فأظن نظير لخليق ولعسى (وجدير) «١» وأجدر وما يتصرف منهن فِي (أن).
وقوله: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ (٩٨) يعني: الموت والقتل.
يقول الله تبارك وتعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وفتح السِّين من (السوء) هُوَ وجه الكلام، وقراءة أكثر القراء. وقد رفع مجاهد «٢» السِّين فى موضعين: هاهنا وفى
(٢) وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو.
وقوله: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ (١٠٠) إن شئت خفضت الأنصار تريد: من المهاجرين ومن الأنصار. وإن شئت رفعت (الأنصار) تُتبعهم قوله: (والسابقون)، وقد قرأ بِهَا الْحَسَن الْبَصْرِيّ.
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ: من أحسن من بعدهم إلى يوم القيامة. ورفعت (السابقونَ وَالَّذِينَ اتبعوهم) بما عاد من ذكرهم فِي قوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ.
وقوله: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ (١٠١) : مرنوا عليه وجرؤوا عليه كقولك: تمردوا.
وقوله: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ. يُقال: بالقتل وعذاب القبر.
وقوله: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً (١٠٢) يقول: خرجوا إلى بدر فشهدوها. ويُقال: العمل الصالِح توبتهم من تخلفهم عَن غزوة تَبُوكَ.
(٢) آية ٢٨ سورة مريم.
(٣) آية ٦ سورة الفتح. [.....]
قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً (١٠٣) فأخذ بعضًا.
ثُمَّ قَالَ: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ: استغفر لَهُم فإن استغفارك لَهُم تسكن إِلَيْهِ قلوبهم، وتطمئنُ بأن قد تابَ الله عليهم. وقد «١» قرئت (صلواتك).
والصلاة أكثر.
وقوله: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ (١٠٦) هم ثلاثة نَفَرٍ مسمَّون، تخلّفوا عَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزوة تبوك، فلمّا رجع قَالَ: (ما عذركم) ؟ قالوا: لا عذر لنا إلا الخطيئة، فكانوا موقوفين حَتَّى نزلت توبتهم فِي قوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ (١١٧) وقوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا (١١٨) وهم كعب بن مالك، وهلال بن أُمَيَّة، ومرارة.
ومسجد قباء أول مسجد بني عَلَى التقوى. فلمّا قدم النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزوة تبوك أمر بإحراق مسجد الشقاق وهدمه.
ثُمَّ قال: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً (١٠٨) يعني مسجد بني عَمْرو. ثُمَّ انقطعَ الكلام فقال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ. ثم قال: فِيهِ رِجالٌ الأولى صلة لقوله:
(تقوم) والثانية رفعت الرجال.
وقوله: أَسَّسَ (١٠٤) وأَسَّسَ «١»، ويَجوز أساس، وآساس. ويخيَّل إليّ أني قد سمعتها فِي القراءة.
وقوله: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ (١١٠) يعنى مسجد النفاق (ريبة) يقال: شكّا (إلا أن تقطّع) و (تقطّع) «٢» معناهُ: إلا أن يموتوا. وقرأ الْحَسَن (إلى أن تَقَطَّع) بمنزلة حَتَّى، أي حَتَّى تَقَطَّع. وهي فِي قراءة عبد الله ولو قُطِّعت قلوبُهم حجة لمن قال إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ بضم التاء.
(٢) الجمهور على قراءة (تقطع قلوبهم) وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب كذلك إلا أنهم فتحوا التاء (تقطع قلوبهم) وروى عن يعقوب وأبى عبد الرحمن (تقطع) مخفف القاف مبنيا لما لم يسم فاعله. وروى عن شبل وابن كثير (تقطع قلوبهم) أي أنت تفعل ذلك بهم (من تفسير القرطبي).
وقوله: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا خارج من قوله: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ وهو كقولك:
عَليّ ألف درهم عِدَّةٌ صحيحة، ويَجوز الرفع لو قيل.
وقوله: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ (١١٢) استؤنفت بالرفع لتمام الآية قبلها وانقطاع الكلام، فحسن الاستئناف.
وهي فِي قراءة عبد الله «التائبين العابدين» فِي موضع خفض لأنه نعت للمؤمنين:
اشترى من الْمُؤْمِنِين التائبين. ويَجوز أن يكون (التائبين) فِي موضع نصب عَلَى المدح كما قَالَ:
لا يبعدن قومي الَّذِينَ هم... سم العداة وآفة الجزر «٢»
النازلين بكل معترك... والطيبينَ معاقِدَ الأزْر
وقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ (١١٥) سأل المسلمون النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمن مات من المسلمين وهو يصلي إلى القبلة الأولى، ويستحل الخمر قبل تَحريمها، فقالوا: يا رسول الله أمات إخواننا ضُلالا؟ فأنزلَ الله تبارك وتعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ يقول: ليسوا بضلال ولم يصرفوا عَن القبلة الأولى، ولم ينزل عليهم تحريم الخمر.
(٢) انظر ص ١٠٥ من هذا الجزء. وقد ضبط فيه «الجزر» و «الأزر» بضم ما قبل الروى.
والصواب تسكينها كما هنا.
وقوله: وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً (١٢٠) يريد بالموطئ الأرض وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً فِي ذهابِهم ومجيئهم إلا كتب لَهُم.
وقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً (١٢٢) لِمَا عُيِّر المسلمون بتخلفهم عن غزوة تبوك جعل النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعث السرية فينفرونَ جَميعًا، فيبقى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، فأنزل الله تبارك وتعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً يعني «٨» : جميعًا ويتركوك وحدك.
ثُمَّ قَالَ: فَلَوْلا نَفَرَ معناهُ: فهلا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ليتفقّه الباقون الذين تخلفوا ويحفظوا عَلَى قومهم ما نزل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القرآن.
(٢) زيادة خلت منها الأصول.
(٣) كأنه يريد: ضمير الشأن والحديث. وهذا تأويل البصريين.
(٤) آية ١١ سورة الحجرات.
(٥) آية ٣٧ سورة الحج.
(٦) آية ٥٢ سورة الأحزاب.
(٧) آية ١١٣ سورة المائدة.
(٨) كذا فى ش، ج. وفى ا: «يريد».
وقوله: يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ (١٢٣) يريد: الاقرب فالاقرب.
وقوله: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ (١٢٤) يعني: المنافقين يقول بعضهم لبعض: هَلْ زادتكم هَذِه إيمانًا؟
فأنزل الله تبارك وتعالى «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً | وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ» والمرض هاهنا النفاق. |
وقوله: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ (١٢٧) فيها ذكرهم وعيبهم قَالَ بعضهم لبعض هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ إن قمتم، فإن خفي لَهُم القيام قاموا.
فذلك قوله: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دعاء عليهم.
وقوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ (ما) فِي موضع رفع معناهُ: عزيز عَلَيْهِ عنتكم. ولو كَانَ نصبًا: عزيزًا عَلَيْهِ ما عنتم حريصًا رءوفًا رحيمًا، كَانَ صوابًا، عَلَى قوله لقد جاءكم كذلك. والحريص الشحيح أن يدخلوا النار.