وحكى محمد بن إسحاق أنها كانت تسمى في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم " المبعثرة " لما كشفته من أسرار الناس. وهي مدنية عند جميعهم.
قال مقاتل وحده : إلا آيتين من آخرها " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " نزلتا بمكة.
قوله عز وجل :﴿ بَرَاءَةٌ منَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم منَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
في ترك افتتاح هذه السورة ب ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ قولان :
أحدهما : أنها والأنفال كالسورة الواحدة في المقصود لأن الأولى في ذكر العهود،
والثانية في رفع العهود، وهذا قول أُبي بن كعب قال ابن عباس : وكانتا تدعيان القرينتين، ولذلك وضعتا في السبع الطول.
وحكاه عن عثمان بن عفان.
الثاني : أن ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ أمان، وبراءة نزلت برفع الأمان، وهذا قول ابن عباس، ونزلت سنة تسع فأنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليقرأها في الموسم بعد توجه أبي بكر رضي الله عنه إلى الحج، وكان أبو بكر صاحب الموسم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يُبِلِّغُ عَنِّي إِلاَّ رَجُلٌ مِنِّي " حكى ذلك الحسن وقتادة ومجاهد١.
وحكى الكلبي أن الذي أنفذه رسول الله صلى لله عليه وسلم٢ من سورة التوبة عشر آيات من أولها.
حكى مقاتل أنها تسع آيات تقرأ في الموسم، فقرأها علي رضي الله عنه في يوم النحر على جمرة العقبة.
٢ سقط من ك..
وفي قوله ﴿ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ وجهان :
أحدهما : انصرفوا فيها إلى معايشكم.
والثاني : سافروا فيها حيث أردتم.
وفي السياحة وجهان :
أحدهما : أنها السير على مهل.
والثاني : أنها البعد على وجل.
واختلفوا فيمن جعل له أمان هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقاويل :
أحدها : أن الله تعالى جعلها أجلاً لمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنه أقل من أربعة أشهر ولمن كان أجل أمانه غير محدود ثم هو بعد الأربعة حرب، فأما من لا أمان له فهو حرب، قاله ابن إٍسحاق.
والثاني : أن الأربعة الأشهر أمان أصحاب العهد من كان عهده أكثر منها حط إليها، ومن كان عهده أقل منها إليها، ومن لم يكن له من رسول الله عهد جعل له أمان خمسين ليلة من يوم النحر إلى سلخ المحرم لقوله تعالى ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ قاله ابن عباس والضحاك وقتادة.
والثالث : أن الأربعة الأشهر عهد المشركين كافة، المعاهد منهم وغير المعاهد، قاله الزهري ومحمد بن كعب ومجاهد.
والرابع : أن الأربعة الأشهر عهد وأمان لمن لم يكن له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ولا أمان، أما أصحاب العهود فهم على عهودهم إلى انقضاء مددهم، قاله الكلبي.
واختلفوا في أول مَدَى الأربعة الأشهر على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن أولها يوم يوم الحج الأكبر وهو يوم النحر، وآخرها انقضاء العاشر من شهر ربيع الآخر، قاله محمد بن كعب ومجاهد والسدي.
والثاني : أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، قاله الزهري.
والثالث : أن أولها يوم العشرين من ذي القعدة، وآخرها يوم العشرين من شهر ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك اليوم ثم صار في السنة الثانية في العشر من ذي الحجة وفيها حجة الوداع، لأجل ما كانوا عليه في الجاهلية من النسيء، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم فيه حتى نزل تحريم النسيء وقال :" إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ "
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ﴾ أي لا تعجزونه هرباً ولا تفوتونه طلباً.
﴿ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الكَافِرِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : بالسيف لمن حارب والجزية لمن استأمن.
والثاني : في الآخرة بالنار.
أحدهما : أنها رجب وذو العقدة وذو الحجة والمحرم، ثلاثة سرد وواحد فرد، وهذا رأي الجمهور.
والثاني : أنها الأربعة الأشهر التي جعلها الله تعالى أن يسيحوا فيها آمنين وهي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من شهر ربيع الآخر، قاله الحسن.
﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتمُوهُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : في حل أو حرم.
والثاني : في الأشهر الحرم وفي غيرها. والقتل وإن كان بلفظ الأمر فهو على وجه التخيير لوروده بعد حظر اعتباراً بالأصلح.
﴿ وَخُذُوهُم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : على التقديم والتأخير، وتقديره فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم.
والثاني : أنه على سياقه من غير تقديم ولا تأخير، وتقديره : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم.
﴿ وَاحْصُرُوهُم ﴾ على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين.
وفي قوله ﴿ وَاحْصُرُوهُم ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه استرقاقهم.
والثاني : أنه الفداء بمال أو شراء.
﴿ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن يطلبوا في كل مكان فيكون القتل إذا وجدوا، والطلب إذا بعدوا.
والثاني : أن يفعل بهم كل ما أرصده الله تعالى لهم فيما حكم به تعالى عليهم من قتل أو استرقاق أو مفاداة أو منٍّ ليعتبر فيها فعل الأَصلح منها.
ثم قال تعالى :﴿ فَإِن تَابُواْ ﴾ أي أسلموا، لأن التوبة من الكفر تكون بالإسلام.
﴿ وَأَقَامُواْ الْصَلاَةَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أي اعترفوا بإقامتها، وهو مقتضى قول أبي حنيفة، لأنه لا يقتل تارك الصلاة إذا اعترف بها.
الثاني : أنه أراد فعل الصلاة، وهو مقتضى قول مالك والشافعي، لأنهما يقتلان تارك الصلاة وإن اعترف بها.
﴿ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ ﴾ يعني اعترفوا بها على الوجهين معاً، لأن تارك الزكاة لا يقتل مع الاعتراف بها وتؤخذ من ماله جبراً، وهذا إجماع.
(أفسد الناس خلوف خلفوا | قطعوا الإلَّ وأعراق الرَّحِم) |
(وأُقسم إن إلَّك من قريش | كإل السّقْبِ من رَأل النعام) |
(وجعلت قومك دون ذاك وليجة | ساقوا إليك الخير غير مشوب) |
أحدها : أنها الخيانة، قاله قتادة.
والثاني : أنهم البطانة، قاله قطرب ومقاتل، ومنه قول الشاعر :
(رأيت القوافي يتلجن موالجاً | تضايق عنها أن تولجها الإبر) |
وجعلت قومك دون ذاك وليجة | ساقوا إليك الخير غير مشوب |
رأيت القوافي يتلجن موالجاً | تضايق عنها أن تولجها الإبر |
أحدهما : أنها مواضع السجود من المصلى، فعلى هذا عمارتها تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : بالمحافظة على إقامة الصلاة.
والثاني : بترك الرياء.
والثالث : بالخشوع والإعراض عما ينهى.
والقول الثاني : أنها بيوت الله تعالى المتخذة لإقامة الصلوات، فعلى هذا عمارتها تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : إنما يعمرها بالإيمان من آمن بالله تعالى.
والثاني : إنما يعمرها بالزيارة لها والصلاة فيها من آمن بالله تعالى.
والثالث : إنما يرغب في عمارة بنائها من آمن بالله تعالى.
﴿ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الْصَّلاَةَ وَءَاتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِن الْمُهْتَدِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه قال ذلك لهم تحذيراً من فعل ما يخالف هدايتهم.
والثاني : أن كل ﴿ عَسَى ﴾ من الله واجبة وإن كانت من غيره ترجياً، قاله ابن عباس والسدي.
﴿ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ﴾ فيها وجهان :
أحدهما : أنها أموال التجارات إذا نقص سعرها وكسد سوقها.
والثاني : أنهن البنات الأيامى إذا كسدن عند آبائهن ولم يخطبن. ﴿ وَمَسَاكِنَ تَرْضَونَهَا ﴾ وهذا نزل في قوم أسلموا بمكة فأقاموا بها ولم يهاجروا إِشفاقاً على فراق ما ذكره الله تعالى ميلاً إليه وحبّاً له فذمهم الله تعالى على ذلك وقال :﴿. . . فَتَربَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه فتح مكة، قاله مجاهد.
والثاني : حتى يأتي الله بأمره من عقوبة عاجلة أو آجلة، قاله الحسن.
أحدها : أنها الرحمة، قاله علي بن عيسى.
والثاني : أنها الأمن والطمأنينة.
والثالث : أنها الوقار، قاله الحسن.
﴿ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : الملائكة.
والثاني : أنه تكثيرهم في أعين أعدائهم، وهو محتمل.
﴿ وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بالخوف والحذر.
والثاني : بالقتل والسبي.
ففيه جوابان :
أحدهما : أن إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بجميع حقوقه، فكانوا بترك الإقرار بحقوقه كمن لا يقرّ به.
والثاني : أنه ذمّهم ذم من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر للكفر بنعمته، وهم في الذم بالكفر كغيرهم.
﴿ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه ما أمر الله سبحانه وتعالى بنسخه من شرائعهم.
والثاني : ما أحله لهم وحرمه عليهم.
﴿ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ ﴾ والحق هنا هو الله تعالى، وفي المراد بدينه في هذا الموضع وجهان :
أحدهما : العمل بما في التوراة من اتباع الرسول، قاله الكلبي.
والثاني : الدخول في دين الإسلام لأنه ناسخ لما سواه من الأديان، وهو قول الجمهور.
﴿ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني من آباء الذين أوتوا الكتاب.
الثاني : من الذين أوتوا الكتاب بين أظهرهم لأنه في اتباعه كآبائهم.
﴿ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : حتى يضمنوا الجزية وهو قول الشافعي لأنه يرى أن الجزية تجب انقضاء الحول وتؤخذ معه.
والثاني : حتى يدفعوا الجزية.
وفي الجزية وجهان :
أحدهما : أنها من الأسماء المجملة لا يوفق على علمها إلا بالبيان.
والثاني : أنها من الأسماء العامة التي يجب إجراؤها على عمومها إلا ما خص بالدليل.
ثم قال تعالى :﴿ عَن يَدٍ ﴾ وفيه أربعة١ تأويلات :
أحدها : عن غنى وقدرة.
والثاني٢ : أنها من عطاء لا يقابله جزاء، قاله أبو عبيدة.
والثالث : أن يروا أن لنا في أخذها منهم يداً عليهم بحقن دمائهم بها.
والرابع٣ : يؤدونها بأيديهم ولا ينفذونها مع رسلهم كما يفعله المتكبرون.
﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ فيه خمسة٤ أقاويل :
أحدها : أن يكونوا قياماً والآخذ لها جالساً، قاله عكرمة.
والثاني : أن يمشوا بها وهم كارهون، قاله ابن عباس.
والثالث : أن يكونوا أذلاء مقهورين، قاله الطبري.
والرابع : أن دفعها هو الصَّغار بعينه.
والخامس : أن الصغار أن تجري عليهم أحكام الإسلام٥، قاله الشافعي.
٢ سقط من ق..
٣ سقط من ق..
٤ في ق فيه أربعة تأويلات..
٥ سقط من ق..
(قاتلها الله تلحاني وقد علمت | أني لنفسي إفسادي وإصلاحي) |
وأما الرهبان فجمع راهب، مأخوذ من رهبة الله تعالى وخشيته، غير أنه صار بكثرة الاستعمال يتناول نُسّاك النصارى.
وقوله :﴿ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ يعني آلهة لقبولهم منهم تحريم ما يحرمونه عليهم وتحليل ما يحلونه لهم، فلذلك صاروا لهم كالأرباب وإن لم يقولوا إنهم أرباب، وقد روي مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيها أربعة١ تأويلات :
أحدها : أن الهدى البيان، ودين الحق الإسلام، قاله الضحاك.
والثاني : أن الهدى الدليل، ودين الحق المدلول عليه.
والثالث : معناه بالهدى إلى دين الحق.
والرابع : أن معناهما واحد وإنما جمع بينهما تأكيداً لتغاير اللفظين.
﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ فيه ستة تأويلات :
أحدها : يعني عند نزول عيسى عليه السلام فإنه لا يعبد الله تعالى إلاّ بالإٍسلام، قاله أبو هريرة.
والثاني : معناه أن يعلمه شرائع الدين كله ويطلعه عليه، قاله ابن عباس.
والثالث : ليظهر دلائله وحججه، وقد فعل الله تعالى ذلك، وهذا قول كثير من العلماء.
والرابع : ليظهره برغم المشركين من أهله.
والخامس : أنه وارد على سبب، وهو أنه كان لقريش رحلتان رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن والعراق فلما أسلموا انقطعت عنهم الرحلتان للمباينة في الدين فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى عليه :﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ يعني في بلاد الرحلتين وقد أظهره الله تعالى فيهما. والسادس٢ : أن الظهور الاستعلاء، ودين الإسلام أعلى الأديان كلها وأكثرها أهلاً، قد نصره الله بالبر والفاجر والمسلم والكافر، فروى الربيع بن أنس عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إِنَّ اللَّهِ يُؤَيِّدُ بِأَقْوَامٍ مَا لَهُم فِي الآخرة مِن خَلاَقٍ٣ ".
٢ سقط من ق..
٣ روى ببعض اختلاف في اللفظ عند البخاري في الجهاد، وكما رواه مسلم في الإيمان، والدارمي في السنن، وأحمد في المسند ٢/٣٠٩..
(ذر الآكلين الماء فما أرى | ينالون خيراً بعد أكلهم الماء) |
(لا دَرَّ دري إن أطعمت نازلهم | قِرف الحتى وعندي البُرّ مكنوز) |
٨٩ (إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يُعاص كان جنوناً} ٩
ولم يقل يعاصيا. ثم إن الله تعالى غلَّظ حال الوعيد بما ذكره بعد هذا من قوله: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ وإنما غلظ بهذا الوعيد لما في طباع النفوس من الشح بالأموال ليسهل لهم تغليظ الوعيد إخراجها في الحقوق.
(ألسنا الناسئين على مَعَدٍّ | شهور الحل نجعلُها حَراماً) |
﴿ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ قال ابن عباس : احتباس القطر عنهم هو العذاب الأليم الذي أوعدتم ويحتمل أن يريد بالعذاب الأليم أن يظفر بهم أعداؤهم.
﴿ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ يعني ممن ينفر إذا دُعي ويجيب إذا أُمر.
﴿ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ولا تضروا الله بترك النفير، قاله الحسن.
والثاني : ولا تضرّوا الرسول، لما تكفل الله تعالى به من نصرته، قاله الزجاج.
﴿وَكَلِمَةُ اللهِ هيَ العُلْيَا﴾ بظهور الحجة.
(يا ليتني فيها جذع... أخُبّ فيها وأضَعْ)
أحدهما : صدق العزم ونشاط النفس.
والثاني : الزاد والراحلة في السفر، ونفقة الأهل في الحضر. ﴿ وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انْبَِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ﴾ وإنما كره انبعاثهم لوقوع الفشل بتخاذلهم كعبد الله بن أبي بن سلول، والجد بن قيس.
﴿ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : مع القاعدين بغير عذر، قاله الكلبي.
والثاني : مع القاعدين بعذر من النساء والصبيان، حكاه علي بن عيسى. وفي قائل ذلك قولان :
أحدهما : أنه النبي صلى الله عليه وسلم، غضباً عليهم، لعلمه بذلك منهم.
والثاني : أنه قول بعضهم لبعض.
والثاني : فساداً، قاله ابن عباس.
فإن قيل : فلم يكونوا في خبال فيزدادوا بهؤلاء الخارجين خبالاً.
قيل هذا من الاستثناء المنقطع، وتقديره : ما زادوكم قوة، ولكن أوقعوا بينكم خبالاً.
﴿ وَلأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ﴾ أما الإيضاع فهو إسراع السير، ومنه قول الراجز١ :
يا ليتني فيها جذع *** أخُبّ٢ فيها وأضَعْ
وأما الخلال فهو من تخلل الصفوف وهي الفُرَج تكون فيها، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم :" تَرَاصُّوا فِي الصُّفُوفِ وَلاَ يَتَخَلَّلْكُمْ، كَأَولاَدِ الحذف٣ يَعْنِي الشَّيَاطِينَ " والخلال هو الفساد، وفيه هاهنا وجهان :
أحدهما : لأسرعوا في إفسادكم.
والثاني : لأوضعوا الخلف بينكم.
وفي الفتنة التي يبغونها وجهان :
أحدهما : الكفر.
والثاني : اختلاف الكلمة وتفريق الجماعة.
﴿ وَفِيكُمْ سمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ وفيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم، قاله قتادة وابن إسحاق.
والثاني : وفيكم عيون منكم ينقلون إلى المشركين أخباركم، قاله الحسن.
٢ الماضي خب من باب نصر ومصدره الخبب وهو ضرب من الجري، وخب الفرس واختب في عدوه إذا رواح بين يديه ورجليه..
٣ الحذف: غنم سود ضغار تكون باليمن والحجاز. والحديث أخرجه بألفاظ مشابهة أحمد (نيلي الأوطار ٣/٢١٣)..
أحدهما : إلا ما كتب الله لنا في اللوح المحفوظ أنه يصيبنا من خير أو شر، لا أن ذلك بأفعالنا فنذمّ أو نحمد، وهو معنى قول الحسن.
والثاني : إلا ما كتب الله لنا في عاقبة أمرنا أنه ينصرنا ويعز دينه بنا.
﴿ هُوَ مَوْلاَنَا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : مالكنا.
والثاني : حافظنا وناصرنا.
﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ أي على معونته وتدبيره.
أحدها : أنه الحرز، قاله ابن عباس.
والثاني : الحصن، قاله قتادة.
والثالث : الموضع الحريز من الجبل، قاله الطبري.
والرابع٢ : المهرب، قاله السدي. ومعاني هذه كلها متقاربة. وأما المغارات ففيها وجهان :
أحدهما : أنها الغيران في الجبال، قاله ابن عباس.
والثاني : المدخل الساتر لمن دخل فيه، قاله علي بن عيسى.
وأما المدَّخل ففيه وجهان :
أحدهما : أنه السرب في الأرض، قاله الطبري.
والثاني : أنه المدخل الضيق الذي يدخل فيه بشدة.
﴿ لَوَلَّوْا إِلَيْهِ ﴾ يعني هرباً من القتال وخذلاناً للمؤمنين.
﴿ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾ أي يسرعون، قال مهلهل :
(لقد جمحت جماحاً في دمائهم | حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا) |
لقد جمحت جماحاً في دمائهم | حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا |
٢ سقط من ق..
(قاربت بين عَنَقي وحجزي | في ظل عصري باطلي ولمزي) |
(لما رأى لُبَدُ النُّسور تطايرت | رفع القوادم كالفقير الأعزل) |
(إن السُّعاة عصوك حين بعثتهم | لم يفعلوا مما أمرت فتيلا) |
(أيها القلب تعلّل بددن | إن همي من سماع وأذن) |
أحدها : من يخالف الله ورسوله، قاله الكلبي.
والثاني : مجاوزة حدودها، قاله علي بن عيسى.
والثالث : أنها معاداتها مأخوذ من حديد السلاح لاستعماله في المعاداة، قاله ابن بحر.
﴿ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ﴾ وهذا وعيد، وإنما سميت النار جهنم من قول العرب بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر، فسميت نار الآخرة جهنم لبعد قعرها، قاله ابن بحر.
أحدهما : أن بعضهم يجتمع مع بعض على النفاق.
والثاني : أن بعضهم يأخذ نفاقه من بعضٍ. وقال الكلبي : بعضهم على دين بعض.
﴿ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ﴾ في المنكر والمعروف قولان :
أحدهما : أن المنكر كل ما أنكره العقل من الشرك، والمعروف : كل ما عرفه العقل من الخير١.
والثاني : أن المعروف في كتاب الله تعالى كله الإيمان، والمنكر في كتاب الله تعالى كله الشرك، قاله أبو العالية.
﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله تعالى، قاله الحسن ومجاهد.
والثاني : يقبضونها عن كل خير، قاله قتادة.
والثالث : يقبضونها عن الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم، قاله بعض المتأخرين.
والرابع : يقبضون أيديهم عن رفعها في الدعاء إلى الله تعالى.
﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ أي تركوا أمره فترك رحمتهم٢.
قال ابن عباس : كان المنافقون بالمدينة من الرجال ثلاثمائة، ومن النساء سبعين ومائة امرأة.
وروى مكحول عن أبي الدرداء أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة المنافق : فقال :" إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤتُمِنَ خَانَ، وَإِذا وَعَدَ أَخلَفَ، وَإِذَ خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ نَقَضَ، لاَ يَأْتِي الصَّلاَةَ إِلاَّ دُبُراً وَلاَ يَذْكُرِ اللَّهَ إِلاَّ هَجْراً " ٣.
أقول: وهذا شبيه باختلافهم في تعريف الحسن والقبح..
٢ وقيل تركهم الله في الحرمان والخذلان. وقال قتادة: نسيهم أي من الخير، فأما من الشر فلم ينسهم..
٣ رواه البخاري ومسلم في الإيمان..
(فإن تستضيفوا إلى حِلمِه | تضافوا إلى راجح قد عدَن) |
أحدهما : أن المساكن الطيبة قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر مبنية بهذه الجواهر.
الثاني : أنها المساكن التي يطيب العيش فيها، وهو محتمل.
وأما جنات عدن فيها خمسة أوجه :
أحدها : أنها جنات خلود وإقامة، ومنه سمي المعدن لإقامة جوهره فيه، ومنه قول الأعشى :
فإن تستضيفوا إلى حِلمِه | تضافوا إلى راجح قد عدَن |
والثاني : أن جنات عدن هي جنات كروم وأعناب بالسريانية، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.
والثالث : أن عدن اسم لبطنان الجنة أي وسطها، قاله عبد الله بن مسعود. والرابع : أن عدن اسم قصر في الجنة، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص والحسن.
والخامس : أن جنة عدن في السماء العليا لا يدخلها إلا نبيّ أو صديق أو شهيد أو إمام عدل.
وجنة المأوى في السماء الدنيا تأوي إليها أرواح المؤمنين رواه معاذ بن جبل مرفوعاً١.
أحدها : أنه الجلاس بن سويد بن الصامت، قال : إن كان ما جاء به محمد حقاً فنحن شر من الحمير، ثم حلف أنه ما قال، وهذا قول عروة ومجاهد وابن إسحاق.
والثاني : أنه عبد الله بن أبي بن سلول. قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قاله قتادة.
والثالث : أنهم جماعة من المنافقين قالوا ذلك، قاله الحسن.
﴿ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ ﴾ يعني ما أنكروه مما قدمنا ذكره تحقيقاً لتكذيبهم فيما أنكروه وقيل بل هو قولهم إن محمداً ليس بنبي.
﴿ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : كفروا بقلوبهم بعد أن آمنوا بأفواههم.
والثاني : جرى عليهم حكم الكفر بعد أن جرى عليهم حكم الإيمان.
﴿ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المنافقين هموا بقتل الذي أنكر عليهم، قاله مجاهد.
والثاني : أنهم هموا بما قالوه ﴿ لَئِن رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينةِ ليُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنهَا الأَذَلَّ ﴾ وهذا قول قتادة.
والثالث : أنهم هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مروي عن مجاهد أيضاً وقيل إنه كان ذلك في غزوة تبوك.
(عفت الديار خلافهم فكانما | بسط الشواطب بينهن حصيراً) |
أحدهما : أن الضحك في الدنيا لكثرة حزنها وهمومها قليل، وضحكهم فيها أقل لما يتوجه إليهم من الوعيد.
الثاني : أن الضحك في الدنيا وإن دام إلى الموت قليل، لأن الفاني قليل.
﴿ وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : في الآخرة لأنه يوم مقداره خمسون ألف سنة، وهم فيه يبكون، فصار بكاؤهم كثيراً، وهذا معنى قول الربيع بن خيثم.
الثاني : في النار على التأبيد لأنهم إذا مسهم العذاب بكوا من ألمه، وهذا قول السدي.
ويحتمل أن يريد بالضحك السرور، وبالبكاء الغم.
أحدها : استديموا الإيمان بالله.
والثاني : افعلوا فعل من آمن بالله.
والثالث : آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بأفواهكم، ويكون خطاباً للمنافقين.
﴿ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوْا الطَّوْلِ مِنْهُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أهل الغنى، قاله ابن عباس وقتادة.
والثاني : أهل القدرة. وقال محمد بن إسحاق. نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس.
أحدها : مع المنافقين، قاله مقاتل.
والثاني : أنهم خساس الناس وأدناهم مأخوذ من قولهم فلان خالفه أهله إذا كان دونهم، قاله ابن قتيبة.
والثالث : أنهم النساء، قاله قتادة والكلبي.
أحدها : أنهم الصغار لضعف أبدانهم.
الثاني : المجانين لضعف عقولهم.
الثالث : العميان لضعف بصرهم. كما قيل في تأويل قوله تعالى في شعيب
﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ﴾ [ هود : ٩١ ] أي ضريراً.
﴿ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : إذا برئوا من النفاق.
الثاني : إذا قاموا بحفظ المخلفين من الذراري والمنازل.
فإن قيل بالتأويل الأول كان راجعاً إلى جميع من تقدم ذكره من الضعفاء. والمرضى الذين لا يجدون ما ينفقون.
وإن قيل بالتأويل الثاني كان راجعاً إلى الذين لا يجدون ما ينفقون خاصة١.
وقيل إنها نزلت في عائذ بن عمرو وعبد الله ابن مُغَفّل.
والثاني : أنه لم يجد لهم نعالاً لأنهم طلبوا النعال، قاله الحسن.
١روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الغزوة وهي تبوك " أَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لاَ٢ يَزَالُ رَاكباً مَا كَانَ مُنْتَعِلاً ".
وفيمن نزلت فيه خمسة أقاويل :
أحدها : في العرباض بن سارية، قاله يحيى بن أبي المطاع.
والثاني : في عبد الله بن الأزرق وأبي ليلى، قاله السدي.
والثالث : في بني مقرّن من مُزينة، قاله مجاهد.
والرابع : في سبعة من قبائل شتى، قاله محمد بن كعب.
والخامس : في أبي موسى وأصحابه، قاله الحسن.
٢ رواه مسلم وأبو داود في اللباس..
أحدهما : الإنكار.
الثاني : الإثم.
وقوله تعالى :﴿ يَسْتَأْذِنُونَكَ ﴾ يعني في التخلف عن الجهاد. ﴿ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ ﴾ يعني بالمال والقدرة.
﴿ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنهم الذراري من النساء والأطفال.
الثاني : أنهم المتخلفون بالنفاق.
(فَمَا لَكَ مَسْلُوبَ العَزَاءِ كَأَنَّمَا | تَرَى هَجْرَ لَيْلَى مَغْرَماً أَنْتَ غارِمُهُ) |
أحدهما : ما يدفع من الصدقات.
الثاني : ما ينفق في الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم مغرماً، والمغرم التزام ما لا يلزم، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٥ ] أي لازماً، قال الشاعر :
فَمَا لَكَ مَسْلُوبَ العَزَاءِ كَأَنَّمَا | تَرَى هَجْرَ لَيْلَى مَغْرَماً أَنْتَ غارِمُهُ |
أحدهما : في إعلان الكفر والعصيان.
والثاني : في انتهاز الفرصة بالانتقام.
﴿ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ﴾ رد لما أضمروا وجزاء لما مكروا.
﴿ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنها تقربه من طاعة الله ورضاه.
الثاني : أن ثوابها مذخور لهم عند الله تعالى فصارت قربات عند الله ﴿ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ﴾ فيها وجهان :
أحدهما : أنه استغفاره لهم، قاله ابن عباس.
الثاني : دعاؤه لهم، قاله قتادة.
﴿ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لهُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون راجعاً إلى إيمانهم ونفقتهم أنها قربة لهم.
الثاني : إلى صلوات الرسول أنها قربة لهم.
(يَا جَارَةَ الحَيِّ كُنتِ لي سَكَناً | إذْ ليْسَ بعضُ الجِيرَانِ بِالسَّكَنِ) |
فذهبا إليه وأخذا سعفاً وحرقاه. وقال ابن جريج : بل انهار المسجد في يوم الاثنين ولم يُحرَّق.
﴿ لمَسْجِدٌ أسِسَّ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ ﴾ وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، قاله أبو سعيد الخدري ورواه مرفوعاً.
الثاني : أنه مسجد قباء، قاله الضحاك وهو أول مسجد بني في الإسلام، قاله ابن عباس وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك.
الثالث : أنه كل مسجد بني في المدينة أسس على التقوى، قاله محمد بن كعب ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : من المسجد الذي أسس على التقوى رجال يحبون أن يتطهروا من الذنوب والله يحب المتطهرين منها بالتوبة، قاله أبو العالية.
والثاني : فيه رجال يحبون أن يتطهروا من البول والغائط بالاستنجاء بالماء. والله يحب المتطهرين بذلك.
روى أبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار عند نزول هذه الآية :" يَا مَعْشَرَ الأَنصَارِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنى عَلَيكُم خَيراً فِي الطَّهُورَ١ فَمَا طَهُورُكُم هَذَا " قالوا : يا رسول الله نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فَهَلْ مَعَ ذلِكَ غَيرُهُ ؟ " قالوا لا، غير أن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي بالماء، فقال :" هُوَ ذلِكَ فَعَلَيكُمُوهُ " الثالث : أنه عني المتطهرين عن إتيان النساء في أدبارهن، وهو مجهول، قاله مجاهد.
(حَلَفْتُ فلم أترك لنَفْسِكَ ريبة | وليس وراءَ الله للمرءِ مذهب) |
﴿ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِم ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الريبة فيها عند بنائه.
الثاني : أن الريبة عند هدمه.
فإن قيل بالأول ففي الريبة التي في قلوبهم وجهان :
أحدهما : غطاء على قلوبهم، قاله حبيب بن أبي ثابت.
الثاني : أنه شك في قلوبهم، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك، ومنه قول النابغة الذبياني :
حَلَفْتُ فلم أترك لنَفْسِكَ ريبة | وليس وراءَ الله للمرءِ مذهب |
وإن قيل بالثاني أن الريبة بعد هدمه ففيها وجهان :
أحدهما : أنها حزازة في قلوبهم، قاله السدي.
الثاني : ندامة في قلوبهم، قاله حمزة.
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن تكون الريبة الخوف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين.
﴿ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : إلا أن يموتوا، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك.
الثاني : إلا أن يتوبوا، قاله سفيان.
الثالث : إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم، قاله عكرمة. وكان أصحاب ابن مسعود يقرأُونها :﴿ وَلَوْ تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾.
عذر الله تعالى إبراهيم عليه السلام في استغفاره لأبيه مع شركه لسالف موعده ورجاء إيمانه.
وفي موعده الذي كان يستغفر له من أجله قولان :
أحدهما : أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن.
والثاني : أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له لما كان يرجوه أنه يؤمن.
﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ ﴾ وذلك بموته على شركه وإياسه من إيمانه ﴿ تَبَرَّأَ مِنْهُ ﴾ أي من أفعاله ومن استغفاره له، فلم يستغفر له بعد موته.
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ فيه عشرة تأويلات :
أحدها : أن الأوّاه : الدعَّاء، أي الذي يكثر الدعاء، قاله ابن مسعود.
الثاني : أنه الرحيم، قاله الحسن.
الثالث : أنه الموقن، قاله عكرمة وعطاء.
الرابع : أنه المؤمن، بلغة الحبشة، قاله ابن عباس.
الخامس : أنه المسبِّح، قاله سعيد بن المسيب.
السادس : أنه الذي يكثر تلاوة القرآن، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.
السابع : أنه المتأوّه، قاله أبو ذر.
الثامن : أنه الفقيه، قاله مجاهد.
التاسع : أنه المتضرع الخاشع، رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
العاشر : أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها، قاله أبو أيوب.
وأصل الأواه من التأوه وهو التوجع، ومنه قول المثقب العبدي.
(إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُها بِلَيْلٍ | تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ) |
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُها بِلَيْلٍ | تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ |
أحدهما : أنها في أهل الكتاب، وتأويلها : يا أيها الذين آمنوا من اليهود بموسى، ومن النصارى بعيسى اتقوا الله في إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، وكونوا مع الصادقين يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جهاد المشركين، قاله مقاتل بن حيان.
الثاني : أنها في المسلمين، وتأويلها : يا أيها الذين آمنوا من المسلمين اتقوا الله وفي المراد بهذه التقوى وجهان :
أحدهما : اتقوا الله من الكذب، قال ابن مسعود : إن الكذب لا يصلح في جدٍّ ولا هزل، اقرأُوا إن شئتم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ وهي قراءة ابن مسعود هكذا : من الصادقين.
والثاني : اتقوا الله في طاعة رسوله إذا أمركم بجهاد عدوِّه.
﴿ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ فيهم أربعة أقاويل :
أحدها : مع أبي بكر وعمر، قاله الضحاك.
الثاني : مع الثلاثة الذين خُلفوا حين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم عن تأخرهم ولم يكذبوا. قاله السدي.
والثالث : مع من صدق في قوله ونيته وعمله وسره وعلانيته، قاله قتادة.
والرابع : مع المهاجرين لأنهم لم يتخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن جريج.
أحدهما : وما كان عليهم أن ينفروا جميعاً لأن فرضه صار على الكفاية وهذا ناسخ لقوله تعالى :﴿ انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ قاله ابن عباس.
والثاني : معناه وما كان للمؤمنين إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرية أن يخرجوا جميعاً فيها ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة حتى يقيم معه بعضهم، قاله عبد الله بن عبيد الله بن عمير.
قال الكلبي : وسبب نزول ذلك أن المسلمين بعد أن عُيّروا بالتخلف عن غزوة تبوك توفروا على الخروج في سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوه وحده بالمدينة، فنزل ذلك فيهم.
﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : لتتفقه الطائفة الباقية إما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاده، وإما مهاجرة إليه في إقامته، قاله الحسن.
الثاني : لتتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا، ويكون معنى الكلام : فهلاَّ إذا نفروا أن تقيم من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين، قاله مجاهد.
وفي قوله تعالى :﴿ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ﴾ تأويلان :
أحدهما : ليتفقهوا في أحكام الدين ومعالم الشرع ويتحملوا عنه ما يقع به البلاغ وينذروا به قومهم إذا رجعوا إليهم.
الثاني : ليتفقهوا فيما يشاهدونه من نصر الله لرسوله وتأييده لدينه وتصديق وعده ومشاهدة معجزاته ليقوى إيمانهم ويخبروا به قومهم.
﴿ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إثماً إلى إثمهم، قاله مقاتل.
الثاني : شكاً إلى شكِّهم، قاله الكلبي.
الثالث : كفراً إلى كفرهم، قاله قطرب.
أحدهما : عن طاعة الله، قاله الحسن.
الثاني : عنك، ذكره عليّ بن عيسى.
﴿ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : حسبي الله معيناً عليكم.
الثاني : حسبي الله هادياً لكم.
﴿ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظيمِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لسعته.
الثاني : لجلالته.