أحدهما : مدنية، قاله الجمهور.
والثاني : مكية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره يحيى بن سلام.
ﰡ
وتسمى سورة لم يكن «١». وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله الجمهور. والثاني: مكّيّة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره يحيى بن سلام.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البينة (٩٨) : الآيات ١ الى ٨]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)
قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ أي:
ومن المشركين، وهم عبدة الأوثان مُنْفَكِّينَ أي: منفصلين وزائلين- يقال: فككت الشيء، فانفك، أي: انفصل- والمعنى: لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ أي: أتتهم، فلفظه لفظ المستقبل، ومعناه الماضي. والْبَيِّنَةُ الرّسول، وهو محمّد صلّى الله عليه وسلم وذلك أنه بَيَّنَ لهم ضلالهم وجهلهم.
وهذا بيان عن نعمة الله على من آمن من الفريقين إذ أنقذهم. وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية:
لم يختلفوا أن الله يبعث إليهم نبياً حتى بعث فافترقوا. وقال بعضهم: لم يكونوا ليتركوا منفكين عن حجج الله حتى أُقيمت عليهم البَيِّنة، والوجه هو الأول. والرسول هاهنا محمّد صلّى الله عليه وسلم. ومعنى يَتْلُوا صُحُفاً أي: ما تضمنته الصحف من المكتوب فيها، وهو القرآن. ويدل على ذلك أنه كان يتلو القرآن عن ظهر قلبه لا من كتاب. ومعنى «مُطَهرة» أي: من الشرك والباطل. فِيها أي: في الصحف كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي: عادلة مستقيمة تُبِيِّن الحق من الباطل، وهي الآيات. قال مقاتل: وإنما قيل لها:
كتب لما جمعت من أمور شتّى.
قوله عزّ وجلّ: وَما أُمِرُوا أي: في كتبهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ. أي: إلا أن يعبدوا الله. قال الفراء: والعرب تجعل اللام في موضع «أن» في الأمر والإرادة كثيرا، كقوله عزّ وجلّ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «١»، ويُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «٢». وقال في الأمر: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ «٣».
قوله عزّ وجلّ: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: موحِّدين لا يعبدون سواه حُنَفاءَ على دين إبراهيم وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ المكتوبة في أوقاتها وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ عند وجوبها وَذلِكَ الذي أُمروا به هو دِينُ الْقَيِّمَةِ قال الزجاج: أي دين الأمة القيِّمة بالحق. ويكون المعنى: ذلك الدِّينُ دين الملة المستقيمة «٤».
قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قرأ نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر بالهمزة في الكلمتين وقرأ الباقون بغير همز فيهما. قال ابن قتيبة: البريَّة: الخلق. وأكثر العرب والقراء على ترك همزها لكثرة ما جرت عليه الألسنة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. ومن الناس من يزعم أنها مأخوذة من بَرَيْتُ العود، ومنهم من يزعم أنها من البَرَى وهو التراب أي خلق من التراب، وقالوا: لذلك لا يهمز، وقال الزّجّاج:
لو كانت من البَرَي وهو التَراب لما قرنت بالهمز، وإنما اشتقاقها من بَرَأ الله الخلق، وقال الخطابي:
أصل البريَّة الهمز، إلا أنهم اصطلحوا على ترك الهمز فيها. وما بعده ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قال مقاتل: رضي الله عنهم بطاعته وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه. وكان بعض السلف يقول: إذا كنت لا ترضى عن الله، فكيف تسأله الرضى عنك؟! قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي خافه في الدنيا، وتناهى عن معاصيه «٥».
(٢) الصف: ٨.
(٣) الصف: ٨.
(٤) الأنعام: ٧١.
(٥) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٦٤٣: وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان، ولهذا قال: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. قال ابن العربي رحمه الله في «الإحكام» ٤/ ٤٣٧: أمر الله عباده بعبادته، وهي أداء الطاعة له بصفة القربة، وذلك بإخلاص النية بتجريد العمل عن كل شيء إلا لوجهه، وذلك هو الإخلاص. وإذا ثبت هذا فالنية واجبة في التوحيد، لأنها عبادة، فدخلت تحت هذا العموم دخول الصلاة، فإن قيل: فلم خرجت عنه طهارة النجاسة، وذلك يعترض عليكم في الوضوء؟ قلنا: إزالة النجاسة معقولة المعنى، لأن الغرض منها إزالة العين لكن بمزيل مخصوص فقد جمعت عقل المعنى وضربا من التعبد، كالعدة جمعت بين براءة الرحم والتعبد، حتى صارت على الصغيرة واليائسة اللتين تحقق براءة رحمهما قطعا، وليس في الوضوء غرض ناجز إلا مجرد التعبد، بدليل أنه لو أكمل الوضوء وأعضاؤه تجري بالماء، وخرج منه ريح بطل وضوءه.