تفسير سورة الكافرون

الدر المصون
تفسير سورة سورة الكافرون من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

[قوله] :﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ :«ما» في هذه السورةِ يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى الذي. فإنْ كان المرادُ الأصنامَ - كما في الأولى والثالثة - فالأمرُ واضحٌ لأنهم غيرُ عقلاءَ. و «ما» أصلُها أَنْ تكونَ لغيرِ العقلاءِ. وإذا أُريد بها الباري تعالى، كما في الثانيةِ والرابعةِ، فاسْتَدَلَّ به مَنْ جوَّز وقوعَها على أولي العلمِ. ومَنْ مَنَعَ جَعَلَها مصدريةً. والتقديرُ: ولا أنتم عابدون عبادتي، أي: مثلَ عبادتي. وقال أبو مسلم: «ما» في الأَوَّلَيْن بمعنى الذي، والمقصودُ المعبودُ و «ما» في الأخيرَيْن مصدريةٌ، أي: لا أَعْبُدُ عبادتَكم المبنيَّةَ على الشكِّ وتَرْكِ النظرِ، ولا أنتم تعبدون مثلَ عبادتي المبنيةِ على اليقين. فتحصَّل مِنْ مجموعِ ذلك ثلاثةُ أقوالٍ: أنها كلَّها بمعنى الذي أو مصدريةٌ، أو الأُوْلَيان بمعنى الذي، والأَخيرتان مصدريَّتان ولِقائلٍ أَنْ يقولَ: لو قيل: بأنَّ الأولى والثالثةَ بمعنى الذي، والثانيةَ والرابعةَ مصدريةٌ، لكان
131
حسناً حتى لا يَلْزَمَ وقوعُ «ما» على أولي العلمِ، وهو مقتضى قولِ مَنْ يمنعُ وقوعَها على أولي العلمِ كما تقدَّم.
واختلف الناسُ: هل التَّكرارُ في هذه السورةِ للتأكيد أم لا؟ وإذا لم يكنْ للتأكيدِ فبأيِّ طريقٍ حَصَلَتِ المغايرةُ حتى انتفى التأكيدُ؟ ولا بُدَّ مِنْ إيرادِ أقوالِهم في ذلك فقال جماعة: هو للتوكيدِ. فقولُه ﴿وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ تأكيدٌ لقولِه ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ وقوله: ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ ثانياً توكيدٌ لقولِه ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ أولاً، ومثلُه قولُه ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٣] و ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات: ١٥] في سورتَيْهما، و ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [التكاثر: ٣٤] و ﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾ [النبأ: ٤٥]. وفي الحديث: «فلا آذَنُ ثم لا آذَنُ، إنما فاطمةُ بَضْعَةٌ مني» قال الشاعر:
٤٦٦٣ - هَلاَّ سَأَلْتَ جنودَ كِنْ دَةَ يومَ وَلَّوْا أين أَيْنا
وقال آخر:
132
٤٦٦٤ - يا علقمَهْ يا عَلْقَمَهْ يا علقَمَهْ خيرَ تميمٍ كلِّها وأكرمَهْ
وقال آخر:
٤٦٦٥ - يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ إنك إن يُصْرَعْ أخوكَ تُصْرَعُ
وقال آخر:
٤٦٦٦ - ألا يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي ثُمَّتَ اسْلَمي ثلاثُ تحيَّاتٍ وإن لم تَكَلَّمِ
وقال آخر:
٤٦٦٧ - يا لَبَكْرٍ أَنْشِرُوا لي كُلَيْباً يا لَبَكْرٍ أينَ أينَ الفِرارُ
قالوا: والقرآنُ جاء على أساليبِ كلامِ العربِ. وفائدةُ التوكيد هنا قَطْعُ أَطْماعِ الكفارِ وتحقيقُ الإِخبارِ بموافاتِهم على الكفرِ، وأنّهم لا يُسْلِمون إبداً.
وقال جماعةٌ: ليس للتوكيدِ فقال الأخفش: «لا أعبد الساعةَ ما تعبدون، ولا أنتم عابِدون السنةَ ما أعبدُ، ولا أنا عابدٌ في المستقبلِ
133
ما عَبَدْتُمْ، ولا أنتم عابدون في المستقبلِ ما أعبد، فزال التوكيدُ، إذ قد تقيَّدَتْ كلُّ جملةٍ بزمانٍ غيرِ الزمانِ الآخر» انتهى.
وفيه نظرٌ كيف يُقَيِّدُ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيَ عبادتِه لِما يَعْبُدون بزمانٍ، هذا لا يَصِحُّ. وفي الأسبابِ: أنهم سَأَلوه أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُم سنةً ويَعْبُدون إلهَه سنةً، فنزَلَتْ فكيف يَسْتقيم هذا؟ وجعل أبو مسلمٍ التغايُرَ بما قَدَّمْتُه عنه: وهو كونُ «ما» في الأوَّلَيْن بمعنى الذي، وفي الآخِرَيْنِ مصدريةً. وفيه نظرٌ أيضاً: مِنْ حيث إنَّ التكرارَ إنما هو مِنْ حيث المعنى وهذا موجودٌ كيف قَدَّرَتْ «ما» وقال ابن عطية: «لَمَّا كان قولُه» لا أَعْبُدُ «محتمِلاً أَنْ يُرادَ به الآن ويبقى المستقبلُ منتظراً ما يكونُ فيه جاء البيانُ بقولِه ﴿وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ أي: أبداً وما حَيِيْتُ، ثم جاء قولُه ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ الثاني حَتْماً عليهم أنهم لا يُؤمنون أبداً كالذي كَشَف الغيبَ، كما قيل لنوح عليه السلام: ﴿أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦] فهذا معنى الترديدِ في هذه السورةِ وهو بارعُ الفصاحةِ، وليس بتَكْرارٍ فقط، بل فيه ما ذكْرَتُه».
وقال الزمخشريُّ: «لا أعبدُ أُريد به العبادةُ فيما يُسْتقبل؛ لأنَّ» لا «لا تدخُلُ إلاَّ على مضارع في معنى الاستقبال، كما أنَّ» ما «لا تدخُلُ إلاَّ على مضارعٍ في معنى الحال. والمعنى: لا أفعلُ في المستقبل
134
ما تَطْلبونه مني مِنْ عبادةِ آلهتِكم، ولا أنتم فاعلونَ فيه ما أَطْلُبُه منكم مِنْ عبادةِ إلهي، ولا أنا عابدٌ ما عبَدُتُمْ، أي: وما كنتُ قطُّ عابداً فيما سَلَفَ ما عبدتُمْ فيه، يعني ما عُهِدَ مني قَطُّ عبادةُ صنم في الجاهلية. فكيف ترجى مني في الإِسلامِ؟ ولا أنتم عبادون ما أعبدُ، أي: وما عبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه. فإنْ قلتَ: فهلاَّ قيل: ما عَبَدْتُ كما قيل ما عبدتُمْ. قلت: لأنهم كانوا يَعْبُدون الأصنامَ قبل المَبْعَثِ، وهو لم يَكُنْ يعبدُ اللَّهَ تعالى في ذلك الوقتِ. فإن قلت: فلِمَ جاء على» ما «دونَ مَنْ؟ قلت: لأنَّ المرادَ الصفةُ كأنه قيل: لا أعبدُ الباطلَ، ولا تعبدون الحقَّ. وقيل: إن» ما «مصدريةٌ، أي: لا أعبد عبادتَكم ولا تعبُدون عبادتي» انتهى. يعني بقولِه «لأن المرادَ الصفةُ» يعني أنه أريدُ ب «ما» الوصفُ، وقد قَدَّمْتُ تحقيقَ هذا قريباً في سورةِ والشمس وضحاها، واعتراضَ الشيخِ عليه، والجوابَ عنه، وأصلُه في سورة النساء عند قوله: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣].
وناقشه الشيخ هنا فقال: «أمَّا حَصْرُه في قولِه:» لأن «لا» لا تَدْخُل «إلى آخره. وفي قوله:» كما أن «ما» لا تَدْخُلُ «إلى آخرِه؛ فليس بصحيحٍ، بل ذلك غالِبٌ فيها لا مُتحتِّمٌ.
وقد ذكر النحاةُ دخولَ «لا» على المضارع يُرادُ به الحالُ، ودخول «ما» على المضارع يُراد به الاستقبالُ. وذلك مذكورٌ في المبسوطات مِنْ كتب النحوِ، ولذلك لم يَذْكُرْ سيبويه ذلك بأداة الحصرِ إنما قال: «وتَكونُ» لا «نفياً لقولِه
135
يَفْعَلُ ولم يقع الفعلُ» وقال: «وأمَّا» ما «فهي نفيٌ لقولِه: هو يفعلُ إذا كان في حالِ الفعل» فذكر الغالبَ فيهما. وأمَّا قولُه، في قولِه: ﴿وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ أي: وما كنت قَطُّ عابداً فيما سلفَ ما عبدتُمْ فيه، فلا يَسْتقيم لأنَّ عباداً اسمُ فاعلٍ قد عَمِلَ في «ما عَبَدْتُمْ» فلا يُفَسَّر بالماضي إنما يُفَسَّر بالحالِ أو الاستقبالِ، وليس مذهبُه في اسمِ الفاعلِ مذهبَ الكسائي وهشام مِنْ جوازِ إعمالِه ماضياً. وأمَّا قولُه: «ولا أنتم عابدون ما أعبدُ»، أي: وما عَبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه فعابِدون قد أعملَه في «ما أعبد» فلا يُفَسَّر بالماضي.
وأمَّا قولُه «وهو لم يكن» إلى آخره فسوءُ أدبٍ على منصبِ النبوةِ، وغيرُ صحيح، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَزْلَ مُوَحِّداً لله تعالى، مُنَزِّهاً عن كلِّ ما لا يليق بجلالِه، مُجْتنباً لأصنامِهم، يقفُ على مشاعر أبيه إبراهيمَ عليه السلام ويَحُجُّ البيتَ، وهذه عبادةٌ، وأيُّ عبادةٍ أعظمُ مِنْ توحيدِ اللَّهِ تعالى ونَبْذِ أصنامِهم؟ ومعرفةُ اللَّهِ تعالى أعظمُ العباداتِ. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]. قال المفسِّرون: إلاَّ ليَعْرِفونِ، فسمى المَعْرِفَةَ بالله تعالى عبادةً «انتهى ما ناقَشَه به ورَدُّه عليه.
ويُجابُ عن الأولِ: أنه بنى أمرَه على الغالبِ فلذلك أتى بالحَصْرِ وأمَّا ما حكاه عن سيبويهِ فظاهرُه معه حتى يقومَ دليلٌ على غيرِه. وعن إعمالِه اسمَ الفاعل مُفَسِّراً له بالماضي بأنه على حكايةِ الحالِ كقوله
136
تعالى: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ﴾ [الكهف: ١٨] وقوله: ﴿والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٧٢] نحوهُ.
وأمَّا قولُه:» كان مُوَحِّداً مُنَزِّهاً «فمُسَلَّمٌ. وقوله:» وهذه أعظمُ العباداتِ «مُسَلَّم أيضاً. ولكنَّ المرادَ في الآية عبادةٌ مخصوصةٌ، وهي الصلاةُ المخصوصةُ؛ لأنَّها يُقابِلُ بها ما كان المشركون يَفْعَلونه من سجودِهم لأصنامِهم وصلاتِهم لها، فقابَلَ هذا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصَلاتِه للهِ تباركَ تعالى. ولكنَّ نَفْيَ كلامِ الزمخشريِّ يُفْهِمُ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكُنْ مُتعبِّداً قبل المبعَثِ، وهو مذهبٌ مرجوحٌ جداً ساقطُ الاعتبارِ؛ لأنَّ الأحاديث الصحيحة تَرُدُّه وهي: كان يتحنَّث، كان يتعبَّدُ، كان يصومُ، كان يطوفُ كان يَقفُ، ولم يقُلْ بخلافه إلاَّ شذوذٌ مِنْ الناسِ. وفي الجملةِ فالمسألةٌ خلافيةٌ. وإذا كان متعبِّداً فبأيِّ شَرْعٍ كان يتعبَّد؟ قيل: بشرعِ نوحٍ: وقيل: إبراهيم. وقيل: موسى. وقيل: عيسى، ودلائلُ هذه في الأصولِ فلا نتعرَّضُ لها.
ثم قال الشيخ: «والذي أَختارُ في هذه الجملِ أنه نفى عبادتَه في المستقبل؛ لأن الغالِبَ في»
لا «أَنْ تنفي المستقبلَ، ثم عَطَفَ عليه ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ نَفْياً للمستقبلِ، على سبيل المقابلةِ. ثم قال: ﴿وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ نَفْياً للحال؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ العاملَ الحقيقةُ فيه دلالتُه على الحالِ، ثم عَطَفَ عليه ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ نَفْياً للحال على سبيل المقابلةِ، فانتظم المعنى أنَّه عليه السلام لا يَعْبُدُ ما يعبدون
137
حالاً ولا مستقبلاً. وهم كذلك إذ حَتَم الله تعالى موافاتَهم على الكفر. ولَمَّا قال:» لا أعبدُ ما تبعدون «فأطلق» ما «على الأصنامِ قابلَ الكلام ب» ما «في قولِه» ما أعبد «وإنْ كان المرادُ بها اللَّهَ تعالى؛ لأنَّ المقابلةَ يسوغُ فيها ما لا يَسُوغ في الانفرادِ. وهذا على مذهبِ مَنْ يقول: إنَّ» ما «لا تقع على آحادِ أولي العلمِ. أمَّا مَنْ يُجَوِّزُ ذلك - وهو مذهبُ سيبويهِ - فلا يَحْتاج إلى الاستعذارِ بالتقابلِ».
138
قوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ أتى بهاتَيْنِ الجملتين الإِثباتِيَّتَيْن بعد جملٍ منفيةٍ؛ لأنه لَمَّا كان الأهمُّ انتفاءَه عليه السلام مِنْ دينهم بدأ بالنفي في الجملِ السابقةِ بالمنسوبِ إليه، فلمَّا تحقَّقَ النفيُ رَجَعَ إلى خطابِهم بقولِه ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ مهادنةً لهم، ثم نَسَخَ ذلك بالأمرِ بالقتال.
وفتح الياءَ مِنْ «لي» نافعٌ وهشامٌ وحفصٌ والبزيُّ بخلافٍ عنه، وأسكنها الباقون، وحَذَفَ ياءَ الإِضافةِ مِنْ «ديني» وقفاً ووَصْلاً السبعةُ وجمهور القراء، وأثبتها في الحالَيْن سلامٌ ويعقوب، وأمرُها واضحٌ ممَّا تقدَّم.
Icon