٢ أوصلها ابن الفرس إلى تسع آيات..
ﰡ
اختلف فيها هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فذهب الأكثر إلى أنها محكمة وأنها عامة يراد بها الخصوص، فيكون التقدير نوفي إليهم أعمالهم فيها إن شئنا ونحو ذلك ١ وذهب جماعة إلى أنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴾ ٢ [ الإسراء : ١٨ ] والقول بالنسخ ضعيف جدا. فإن إرادة الله تعالى لا يخلو عنها شيء ٣. واختلف فيمن هي الآية، فقيل هي في الكفرة خاصة وليست على عمومها، وهذا ٤ قول قتادة والضحاك. وقيل هي في الكفرة وأهل الرياء من المؤمنين، وهو قول مجاهد، وإليه ذهب معاوية حين حدثه سيافه شفي بن نافع الأصبحي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل المتصدق والمجاهد والمقتول والقائم بالقرآن ليله ونهاره رياء أنهم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة. فلما حدثه شفي بهذا٥ بكى معاوية وقال : صدق الله ورسوله، وتلا :﴿ من كان يريد الحياة الدنيا ﴾ ٦ ومعنى هذه الآية راجع إلى قوله عليه الصلاة والسلام : " إنما الأعمال بالنيات " ٧. ويدل ذلك على أن من صام رمضان لا ينوي به رمضان لن يجزي عنه. ويدل أيضا على أن من توضأ تبردا أو تنظفا لا يجزي أن يصلي به. وفي هذا كله اختلاف.
٢ قال مكي: روي عن الضحاك عن ابن عباس أنها منسوخة. راجع الإيضاح ٢٨٢..
٣ في (أ)، (ز): "لا يخل عنها شيء"..
٤ في (أ)، (ز): "وظاهر"..
٥ "بهذا" كلمة ساقطة في (ب)، (د)، (هـ)..
٦ ذكر ذلك ابن عطية في المحرر الوجيز ٩/ ١١٧. قال الفخر الرازي: وروي أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه ذكر هذا عند معاوية. قال الراوي: فبكى حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق وقال: صدق الله ورسوله: من يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفي إليهم أعمالهم فيها. راجع التفسير الكبير ١٧/ ١٩٩..
٧ الحديث رواه الشيخان عن عمر بن الخطاب. قال العجلوني: وهو أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الدين. انظر كشف الخفاء للعجلوني ١/ ١١، ١٢..
فسمى ابنه من أهله ١ وهذا يدل على أن ٢ من أوصى لأهله دخل تحته ٣ ابنه ومن يضمه منزله وهو من عياله ٤ وقال تعالى :﴿ ونجيناه وأهله من الكرب العظيم ( ٧٦ ) ﴾ [ الصافات : ٧٦ ] فسمى جميع من ضمه منزله أهله. وقوله عليه السلام : " إن ابني من أهلي الذين وعدتني أن تنجيهم، فأخبر الله أنه ليس من أهله الذين وعد أن ينجيهم ". وقد قيل لم يكن ابنه حقيقة ٥ وظاهر القرآن يدل على خلافه. وفيه دليل أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من النسب.
٢ "أن" ساقط في (أ)، (ب)، (ح)، (هـ)..
٣ في (أ): "فيهم"..
٤ ذكر ذلك الجصاص وأضاف: ابنا كان أو زوجة أو أخا أو أجنبيا، وكذلك قال أصحابنا. راجع أحكام القرآن للجصاص ٤/ ٣٧٧. وقال الكيا الهراسي: سمى ابنه من أهله وهذا يدل على أن من أوصى لأهله دخل تحت ابنه ومن تضمنه منزله وهو في عياله فدل قول نوح على ذلك. راجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٢٢٥..
٥ قال الجصاص: وروي عن الحسن ومجاهد أنه لم يكن ابنه لصلبه. راجع أحكام القرآن للجصاص ٤/ ٣٧٨..
قاس ١ بعض الناس على هذا التلوم للمحكوم عليه. فرأى أن يضرب له الأجل ثلاثة أيام في التلوم. وكذلك قاس بعضهم عليه الرجل في غرم الثمن في الشفعة ولم ير بعضهم هذا القياس صحيحا لأن هذه الثلاثة الأيام التي ضربها الله تعالى في الآية توقيف على الخزي وتنكيل لهم، وما يضرب في التلوم والشفعة إنما هو على طريق التوسع والرفق فافترق الحكمان فلا يصح القياس.
اختلف في قوله تعالى :﴿ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ﴾ فقيل بخس الكيل والميزان الذي تقدم ذكره في السورة ١ وقيل هو تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس. وقيل هو منعهم الزكاة، وقيل هو قطعهم الدنانير والدراهم، وهذه مسألة اختلف فيها فلم يجز قطعها جملة قوم ٢ وهو أحد قولي مالك، ولم يجز قوم قطع الصحاح منها خاصة. فأما المقطوع فأجازوا قطعها وهو أحد قولي مالك ٣ ولم يجز قوم قطعها إلا عند الحاجة إليها كقطع الثياب. وحكى بعضهم هذا على أنه للمذهب.
وأجاز قوم قطعها جملة، واحتج بعضهم من لم يجز القطع بالآية المذكورة وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من النهي عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم ٤ والسكة الدراهم المضروبة، وأصلها الحديدة التي تطبع عليها الدراهم فسميت الدراهم بها لأنها ضربت بها. واختلف الذين لم يجيزوا القطع في وجه ذلك، فقيل لما في الدراهم والدينار من ذكر الله فكره قرضها لذلك، وإليه ذهب أحمد بن حنبل. قال أبو داود : قلت لأحمد معي درهم صحيح وقد حضر سائل أأكسره ؟ ٥ قال : لا. وقيل بل المعنى فيه كراهية التدنيق ٦ وذمه. وكان الحسن يقول لعن الله الدانق. وأول من أحدث الدانق٧ فلان، ما كانت العرب تفعله ولا أبناء الفرس. وقيل إنما لم يجز لأنه يضع من قيمته وقد نهى عن إضاعة المال. والذين أجازوا القطع تأولوا الآية على غير ذلك أو تأولوها عليه ولم يروها لهم لازمة لأنها٨ إنما جازت في شرع غيرنا، وتأولوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : إنما نهى عن كسره على أن يعاد تبرا، فأما أن يرصده لنفقته فلا، وإلى هذا ذهب محمد بن عبد الله الأنصاري ٩ قاضي البصرة ١٠ وقال بعضهم إن المغابنة ١١ كانت تجري بها في صدر الإسلام عددا لا ورقا. وكان بعضهم يكسرها ويأخذ أطرافها قرضا بالمقراض وكان ذلك سبب النهي، فرجع هذا القول إلى أنه إنما نهى عن ذلك خوف التدليس، فإذا أمن جاز. ولا خلاف أنه إذا دلس به لم يجز قطعه. وقد روي مثل هذا في قصة الآية. وقال بعضهم قد يكون ذلك أيضا بأن يكسره فيتخذ منه أواني وزخر ونحوها فلذلك نهى عنه.
٢ في (أ)، (ز): "جماعة". وقال ابن عطية: وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: قطع الدراهم والدنانير من الفساد في الأرض. راجع المحرر الوجيز ٩/ ٢١١..
٣ من قوله: "ولم يجز قوم قطع.... إلى: أحد قولي مالك" ساقط في (ب)، (ح)، (هـ)..
٤ والحديث ذكره أبو داود في سننه، كتاب البيوع، باب: في كسر الدراهم ٣/ ٧٣٠. وأحمد في مسنده ٣/ ٤١٩..
٥ في (هـ): "أنكسره"..
٦ في (أ)، (ب): "التدنيق"..
٧ "وأول من أحدث الرانق" ساقط في (أ)، (ز)..
٨ في (أ)، (ز): "لأنهم"..
٩ محمد بن عبد الله الأنصاري: هو محمد بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، أبو عبد الله. ولي قضاء البصرة ثم قضاء بغداد. توفي سنة ٢١٥هـ/ ٨٣٠م. انظر ميزان الاعتدال للذهبي ٣/ ٨٢..
١٠ "البصرة" كلمة ساقطة في (أ)، (ز)..
١١ "المغابنة": كلمة ساقطة في (ب)..
قد يمكن أن يستدل بهذه الآية في المنع من الاستعانة بالمشركين في الحرب وفي معونة بعضهم على بعض ١. وقد تقدم الكلام في هذا. ويمكن أيضا أن يستدل به في منع ٢ استعمال الكفار في مصالح المسلمين مثل أن يكونوا كتابا أو قساما أو نحو ذلك. وقد منعه مالك رحمه الله تعالى. ومثل أن يكون شريكا أو وكيلا على بيع أو شراء ونحو ذلك. وقد كرهه مالك أيضا. ويستدل به أيضا على النهي عن مجالسة الظلمة ومؤانستهم والإنصات إليهم وهذا مثل قوله تعالى :﴿ فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾ [ الأنعام : ٦٨ ].
٢ "في منع" ساقط في (ح)..
لم يختلف أحد بأنه يراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة. واختلف في صلاة طرفي النهار والزلف من الليل ما هي ؟ فقيل الطرف الأول الصبح والثاني الظهر والعصر والزلف المغرب والعشاء، قاله مجاهد ١ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المغرب والعشاء هما زلفتا الليل. وقيل الطرف الأول الصبح والثاني العصر والزلف المغرب والعشاء وليست الظهر بمذكورة في ٢ الآية على هذا القول، وإلى نحو هذا ٣ ذهب الحسن وغيره ٤. وقيل الطرف الأول الصبح والثاني المغرب والزلف العشاء وليست الظهر والعصر في الآية، وإليه ذهب ابن عباس وروي عن الحسن أيضا ٥. وقيل الطرف الأول الظهر والثاني العصر والزلف المغرب والعشاء والصبح. ورجح الطبري أن الطرفين الصبح والمغرب، وهو الظاهر من الآية ٦ ورجح بعضهم القول الأول وقال حمل الآية على الصلوات الخمس أولى ٧.
وقوله :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ :
اختلف في الحسنات ما هي ؟ فذهب الجمهور إلى أن الحسنات يراد بها الصلوات الخمس، وإلى هذا ذهب عثمان في الآية ٨ عند وضوئه على المقاعد وهو الذي ٩ تأول ذلك ١٠ وقيل الحسنات : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ١١. والأظهر أن يحمل لفظ الحسنات على عمومه. وأما السيئات فلا خلاف أنه لفظ عام يراد به الخصوص لأن الحسنات لن تذهب كل السيئات وإنما يذهب منها صغائرها كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الجمعة إلى الجمعة والصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إن اجتنبت الكبائر " ١٢. فهذا يبين أن الكبائر لا تذهبها الحسنات. إلا أنه اختلف هل تذهب الحسنات ١٣ الصغائر أم لا وإن ارتكب معها كبائر أم أنها تذهب الحسنات الصغائر ما لم يرتكب معها كبائر على قولين، وظاهر الآية أنها تذهبها وإن كانت معها كبائر. فأما الحديث فظاهره القول الآخر، إلا أنه ينبغي أن يتأول على مثل ظاهر الآية، والتأويل فيه سائغ أي كفارة لما بينهما من كل ما عدا الكبائر فإنها إن كان بينها كبائر لم تكن بعد كفارة ١٤ لما بينها على الإطلاق وإنما هي كفارة على الخصوص، فهذا ١٥ يكون معنى التغيير ١٦، وهذا القول أحسن، وهذا كله بشرط المتاب من الصغائر وأن لا يصر عليها. واختلف في سبب هذه الآية :﴿ إن الحسنات ﴾ فقيل نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو اليسر بن عمرو ١٧ ويقال اسمه عباد خلا بامرأة فقبلها وتلذذ بها ١٨ دون الجماع ثم جاء إلى عمر فشكا إليه فقال : قد ستر الله عليك فاستر على نفسك. فقلق الرجل فجاء أبا بكر فقال له مثل مقالة عمر، فقلق الرجل. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه ثم أخبره وقال له اقض في ما شئت. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعلها زوجة غاز في سبيل الله ". قال : نعم. فوبخه وقال ما أدري فنزلت هذه الآية، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاها عليه، فقال معاذ بن جبل ١٩ : أله يا رسول الله خاصة ؟ فقال بل للناس عامة ٢٠. وقيل بل نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل، وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ.
٢ في (أ)، (ز) زيادة: "هذه"..
٣ "هذا" ساقط في (أ)، (ج)، (ح)، (و)، (ز)..
٤ قتادة والضحاك حسب ابن عطية في المحرر الوجيز ٩/ ٢٣٤..
٥ في (د)، (هـ) زيادة: "أن الطرفين الصبح والمغرب وهو الظاهر من الآية"..
٦ قال القرطبي: قال ابن العربي: "والعجب من الطبري الذي يرى أن طرفي النهار الصبح والمغرب وهما طرفا الليل، فقلب القوس ركوة وحاد عن البرجاس" راجع الجامع لأحكام القرآن ٩/ ١٠٩..
٧ "أولى" كلمة ساقطة في (أ)..
٨ "في الآية" كلام ساقط في (ج)، (ح)..
٩ "الذي" كلمة ساقطة في (ب)، (د)، (هـ)، (و)..
١٠ قال ابن عطية: وهو تأويل مالك. راجع المحرر الوجيز ٩/ ٢٣٥..
١١ نسبه ابن عطية إلى مجاهد. راجع م. س. ، ن. ص.
في (أ)، (ز) زيادة: "ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"..
١٢ الحديث رواه أحمد في مسنده ٢/ ٢٢٩..
١٣ "الحسنات" كلمة ساقطة في (ج)..
١٤ من قوله: "لما بينهما.... إلى: كفارة" ساقط في (أ)، (ز)..
١٥ في (ج)، (هـ): "بهذا"..
١٦ في (د)، (و): "التقييد"..
١٧ أبو اليسر بن عمرو: هو كعب بن عمرو بن عبادة بن غنم بن سلمة، وهو الذي أسر العباس. شهد العقبة وبدرا، مات سنة ٥٥هـ/ ٦٨٧م. انظر الإصابة ١٢/ ٥٥..
١٨ في غير (ج)، (ح): "منها"..
١٩ معاذ بن جبل: هو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري، الخزرجي، المدني، شهد بدرا والعقبة، كان من أعلم الناس بالحلال والحرام. توفي سنة ١٨ هـ/ ٦٤٠م. انظر الإصابة ٩/ ٢١٩..
٢٠ راجع أسباب النزول للواحدي ص ٢٠٠ – ٢٠٢، لباب النقول ص ٤٨٨، ٤٨٩..
يحتمل أن يقال هي آية موادعة منسوخة بالقتال. وكذلك قوله تعالى في آخر السورة :﴿ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ( ١٢١ ) وانتظروا إنا منتظرون ( ١٢٢ ) ﴾ [ هود : ١٢١، ١٢٢ ].