ﰡ
اعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور اختلافاً كثيراً، واستقراء القرآن العظيم يرجح واحداً من تلك الأقوال، وسنذكر الخلاف المذكور وما يرجحه القرآن منه بالاستقراء فنقول، وبالله جل وعلا نستعين :
قال بعض العلماء : هي مما استأثر الله تعالى بعلمه ؛ كما بيناه في «آل عمران » وممن روي عنه هذا القول : أبو بكر، وعمر، وعثمان. وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهم وعامر والشعبي، وسفيان الثوري، والربيع بن خيثم، واختاره أبو حاتم بن حبان.
وقيل : هي أسماء للسور التي افتتحت بها. وممن قال بهذا القول : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ويروى ما يدل لهذا القول عن مجاهد، وقتادة، وزيد بن أسلم. قال الزمخشري في تفسيره : وعليه إطباق الأكثر. ونقل عن سيبويه أنه نص عليه. ويعتضد هذا القول بما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة ﴿ الم ﴾ السجدة، و ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ ﴾.
ويدل له أيضاً قول قاتل محمد السجاد ابن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما يوم الجمل، وهو شريح بن أبي أوفى العبسي ؛ كما ذكره البخاري في صحيحه في أول سورة المؤمن :
يذكرني حاميم والرمح شاجر | فهلا تلا حاميم قبل التقدم |
وأشعث قوام بآيات ربه | قليل الأذى فيما ترى العين مسلم |
هتكت له بالرمح جيب قميصه | فخر صريعاً لليدين وللفم |
على غير شيء غير أن ليس تابعا | علياً ومن لا يتبع الحق يندم |
فقوله :«يذكرني حاميم »، بإعراب «حاميم » إعراب ما لا ينصرف فيه الدلالة على ما ذكرنا من أنه اسم للسورة.
وقيل : هي من أسماء الله تعالى. وممن قال بهذا : سالم بن عبد الله، والشعبي، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وعنه أيضاً : أنها أقسام أقسم الله بها، وهي من أسمائه. وروي نحوه عن عكرمة.
وقيل : هي حروف، كل واحد منها من اسم من أسمائه جل وعلا. فالألف من «الم » مثلاً : مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم : مفتاح اسمه مجيد، وهكذا. ويروى هذا عن ابن عباس، وابن مسعود، وأبي العالية. واستدل لهذا القول بأن العرب قد تطلق الحرف الواحد من الكلمة، وتريد به جميع الكلمة كقول الراجز :
قلت لها قفي فقالت لي قاف | لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف |
بالخير خيرات وإن شراً فا ** ولا أريد الشر إلا أن تا
يعني : وإن شراً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء. فاكتفى بالفاء والتاء عن بقية الكلمتين.
قال القرطبي : وفي الحديث «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة » الحديث. قال سفيان : هو أن يقول في أقتل : أ ق ؛ إلى غير ما ذكرنا من الأقوال في فواتح السور، وهي نحو ثلاثين قولاً.
أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو : أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد، وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء وقطرب، ونصره الزمخشري في الكشاف.
قال ابن كثير : وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية.
ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول : أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائماً عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه.
وذكر ذلك بعدها دائماً دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن، وأنه حق.
قال تعالى في البقرة :﴿ الم ﴾ [ البقرة : ١ ] واتبع ذلك بقوله ﴿ ذَالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ البقرة : ٢ ] وقال في آل عمران ﴿ الم ﴾ [ آل عمران : ١ ] واتبع ذلك بقوله :﴿ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم [ ٢ ] مُنَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾. [ آل عمران : ٢-٣ ] الآية. وقال في الأعراف :﴿ المص ﴾ [ الأعراف : ١ ] ثم قال :﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [ الأعراف : ٢ ] الآية. وقال في سورة يونس :﴿ الر ﴾ ثم قال :﴿ تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾ [ يونس : ١ ] وقال في هذه السورة الكريمة التي نحن بصددها أعني سورة هود ﴿ الر ﴾ ثم قال :﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [ هود : ١ ]، وقال في يوسف :﴿ الر ﴾ ثم قال :﴿ تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [ يوسف : ١ ] ﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾ [ يوسف : ٢ ] الآية. وقال في الرعد :﴿ المر ﴾ ثم قال :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ ﴾ [ الرعد : ١ ]، وقال في سورة إبراهيم ﴿ الر ﴾ ثم قال :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [ إبراهيم : ١ ] الآية. وقال في الحجر :﴿ الرَ ﴾ ثم قال ﴿ تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الحجر : ١ ] وقال في سورة طه ﴿ طه ﴾ [ طه : ١ ] ثم قال :﴿ مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى ﴾ [ طه : ٢ ] وقال في الشعراء :﴿ طسم ﴾ [ الشعراء : ١ ] ثم قال ﴿ تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين ِلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ﴾ [ الشعراء : ٢-٣ ] الآية. وقال في النمل :﴿ طس ﴾ ثم قال ﴿ تِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ النمل : ١-٢ ] وقال في القصص ﴿ طسم ﴾ [ القصص : ١ ] ثم قال ﴿ تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [ القصص : ٢ ] ﴿ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ ﴾ [ القصص : ٣ ] الآية. وقال في لقمان ﴿ الم ﴾ [ لقمان : ١ ] ثم قال ﴿ تِلْكَ ءاَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾ [ لقمان : ٢ ] ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ﴾[ لقمان : ٣ ] وقال في السجدة ﴿ الم ﴾ [ السجدة : ١ ] ثم قال ﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ السجدة : ٢ ] وقال في يس ﴿ يس ﴾ [ يس : ١ ] ثم قال ﴿ وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ ﴾ [ يس : ٢ ] وقال في ص ﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾ [ ص : ١ ] الآية. وقال في سورة المؤمن ﴿ حم ﴾ [ المؤمن : ١ ] ثم قال ﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [ المؤمن : ٢ ] الآية.
وقال في فصلت ﴿ حم ﴾ [ فصلت : ١ ] ثم قال ﴿ تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيم ِكِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [ فصلت : ٢-٣ ] الآية وقال في الشورى ﴿ حم عسق ﴾ [ الشورى : ١-٢ ] ثم قال ﴿ كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ﴾ [ الشورى : ٣ ] وقال في الزخرف ﴿ حم ﴾ [ الزخرف : ١ ] ثم قال ﴿ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً ﴾ [ الزخرف : ٢-٣ ] الآية وقال في الدخان ﴿ حم ﴾ [ الدخان : ١ ] ثم قال ﴿ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ [ الدخان : ٢-٣ ] وقال في الجاثية ﴿ حم ﴾ [ الجاثية : ١ ] ثم قال ﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الجاثية : ٢-٣ ] وقال في الأحقاف ﴿ حم ﴾ [ الأحقاف : ١ ] ثم قال :﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ ( الأحقاف : ٢-٣ ) الآية. وقال في سورة ق ﴿ ق ﴾ ثم قال ﴿ وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ ﴾ [ ق : ١ ] الآية.
وقد قدمنا كلام الأصوليين في الاحتجاج بالاستقراء بما أغنى عن إعادته هنا.
وإنما أخرنا الكلام على الحروف المقطعة مع أنه مرت سور مفتتحة بالحروف المقطعة كالبقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس ؛ لأن الحروف المقطعة في القرآن المكي غالباً، والبقرة، وآل عمران مدنيتان والغالب له الحكم، واخترنا لبيان ذلك سورة هود ؛ لأن دلالتها على المعنى المقصود في غاية الظهور والإيضاح ؛ لأن قوله تعالى ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ بعد قوله ﴿ الر ﴾ واضح جداً فيما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
هذه الآية الكريمة فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها : هي أن يعبد الله جل وعلا وحده، ولا يشرك به في عبادته شيء، لأن قوله جل وعلا :﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ ﴾ الآية صريح في أن آيات هذا الكتاب فصلت من عند الحكيم الخبير لأجل أن يعبد الله وحده، سواء قلنا إن «أن » هي المفسرة. أو أن المصدر المنسبك منها ومن صلتها مفعول من أجله، لأن ضابط «أن » المفسرة أن يكون ما قبلها متضمناً معنى القول، ولا يكون فيه حروف القول.
ووجهه في هذه الآية أن قوله :﴿ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ فيه معنى قول الله تعالى لذلك الإحكام والتفصيل دون حروف القول، فيكون تفسير ذلك هو :﴿ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ ﴾.
وأما على القول بأن المصدر المنسبك من «أن » وصلتها مفعول له فالأمر واضح، فمعنى الآية : أن حاصل تفصيل القرآن هو أن يعبد الله تعالى وحده ولا يشرك به شيء. ونظير هذا المعنى قوله تعالى في سورة الأنبياء :﴿ قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٨ ] ومعلوم أن لفظة «إنما » من صيغ الحصر، فكأن جميع ما أوحي إليه منحصر في معنى «لا إله إلا الله » وقد ذكرنا في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ». أن حصر الوحي في آية الأنبياء هذه في توحيد العبادة حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع، لأن شرائع الأنبياء كلهم داخلة في ضمن معنى «لا إلاه إلا الله » لأن معناها. خلع جميع المعبودات غير الله جل وعلا في جميع أنواع العبادات، وإفراده جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات، فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية.
والآيات الدالة على أن إرسال الرسل، وإنزال الكتب لأجل أن يعبد الله وحده كثيرة جداً، كقوله :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ ﴾ [ النحل : ٣٦ ]، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ]، وقوله :﴿ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٣٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أشرنا إلى هذا البحث في سورة الفاتحة، وسنستقصي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في سورة «النَّاس »، لتكون خاتمة هذا الكتاب المبارك حسنى.
قوله تعالى :﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ [ الآية : ٣ ].
هذه الآية الكريمة تدل على أن الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى من الذنوب سبب لأن يمتع الله من فعل ذلك متاعاً حسناً إلى أجل مسمى. لأنه رتب ذلك على الاستغفار والتوبة ترتيب الجزاء على شرطه.
والظاهر أن المراد بالمتاع الحسن. سعة الرزق، ورغد العيش، والعافية في الدنيا، وأن المراد بالأجل المسمى : الموت، ويدل لذلك قوله تعالى في هذه السورة الكريمة عن نبيه هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام :﴿ وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [ هود : ٥٢ ] وقوله تعالى عن نوح :﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ﴾ [ نوح : ١٠-١٢ ] وقوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية. وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ ﴾ [ الأعراف : ٩٦ ] الآية. وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾ [ المائدة : ٦٦ ] وقوله ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا ًوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢-٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
يبين تعالى في هذه الآية الكريمة. أنه لا يخفى عليه شيء، وأن السر كالعلانية عنده، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسر، والآيات المبينة لهذا كثيرة جداً، كقوله :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ ق : ١٦ ] وقوله جل وعلا :﴿ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ﴾ [ البقرة : ٢٣٥ ] وقوله :﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ﴾[ الأعراف : ٧ ]، وقوله :﴿ وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ في السَّمَآءِ ﴾ [ يونس : ٦١ ] الآية. ولا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى.
تنبيه مهم
اعلم أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظاً أكبر، ولا زاجراً أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن، من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه، رقيب عليهم، ليس بغائب عما يفعلون. وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم مثلاً ليصير به كالمحسوس، فقالوا : لو فرضنا أن ملكاً قتّالا للرجال، سفّاكاً للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلماً، وسيافه قائم على رأسه، والنطع مبسوط للقتل، والسيف يقطر دماً، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته، فهل ترى أن أحداً من الحاضرين يهتم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه، وهو ينظر إليه، عالم بأنه مطلع عليه ؟ ا لا، وكلا ! بل جميع الحاضرين يكونون خائفين، وجلة قلوبهم، خاشعة عيونهم، ساكنة جوارحهم خوفاً من بطش ذلك الملك.
ولا شك -ولله المثل الأعلى- أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علماً، وأعظم مراقبة، وأشد بطشاً، وأعظم نكالاً وعقوبة من ذلك الملك، وحماه في أرضه محارمه. فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه جل وعلا ليس بغائب عنه، وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي لان قلبه، وخشي الله تعالى، وأحسن عمله لله جل وعلا.
ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى أن الله تبارك وتعالى صرح بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملاً، ولم يقل : أيهم أكثر عملاً، فالابتلاء في إحسان العمل، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة :﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ هود : ٧ ] الآية.
وقال في الملك :﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [ الملك : ٢ ].
ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلق من أجلها هي أن يبتلى أي يختبر : بإحسان العمل فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصلة لنجاحه في هذا الاختبار، ولهذه الحكمة الكبرى سأل جبريل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذا ليعلمه لأصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال :«أخبرني عن الإحسان »، أي وهو الذي خلق الخلق لأجل الاختبار فيه، فبين النَّبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هي هذا الواعظ، والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى، والعلم بأنه لا يخفى عليه شيء مما يفعل خلقه، فقال له :«الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».
واختلف العلماء في المراد بقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ﴾ وقوله ﴿ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ ﴾ وفي مرجع الضمير في قوله :﴿ مِنْهُ ﴾.
فقال بعض العلماء : معنى ﴿ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ﴾ يزورون عن الحق، وينحرفون عنه، لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازور عنه وانحرف ثنى عنه صدره، وطوى عنه كشحه. بهذا فسره الزمخشري في الكشاف.
قال مقيده عفا الله عنه وهذا المعنى معروف في كلام العرب، فهم يعبرون باعوجاج الصدر عن العدول عن الشيء والميل عنه، ويعبرون بإقامة الصدر عن القصد إلى الشيء وعدم الميل عنه.
فمن الأول قوله ذي الرمة غيلان بن عقبة العدوي عدي الرباب :
خليلي عوجا بارك الله فيكما | على دارمي من صدور الركائب |
تكن عوجة يجزيكما الله عنده | بها الأجر أو تقضي ذمامة صاحب |
ومن الثاني قول الشنفرى :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم | فإني إلى قوم سواكم لأميل |
أقول لأم زنباع أقيمي | صدور العيش شطر بني تميم |
كان حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء.
وقيل : نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنَّبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره، وطوطأ رأسه وغطى وجهه لكيلا يراه النَّبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان. حكي معناه عن عبد الله بن شداد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في قوم كانوا يكرهون أن يجامعوا أو يتغوطوا وليس بينهم وبين السماء حجاب، يستحيون من الله.
وقال بعض العلماء : معنى ﴿ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ ﴾ يغطون رؤوسهم لأجل كراهتهم استماع كلام الله، كقوله تعالى عن نوح :﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ في ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ ﴾ [ نوح : ٧ ] الآية.
وقيل : كانوا إذا عملوا سوءاً ثنوا صدورهم وغطوا رؤوسهم، يظنون أنهم إن فعلوا ذلك أخفوا به عملهم على الله جل وعلا. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى :﴿ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ ﴾ الآية.
وقرأ ابن عباس هذه الآية الكريمة ألا " إنهم تثنوني صدورهم » وتثنوني مضارع اثنوني، ووزنه افعوعل من الثني كما تقول احلولى من الحلاوة وصدورهم «في قراءة ابن عباس بالرفع فاعل تثنوني، والضمير في قوله «منه » عائد إلى الله تعالى في أظهر القولين. وقيل : راجع إليه صلى الله عليه وسلم كما مر في الأقوال في الآية.
صرح في هذه الآية الكريمة أنه خلق السماوات والأرض لحكمة ابتلاء الخلق، ولم يخلقهما عبثاً ولا باطلاً. ونزه نفسه تعالى عن ذلك، وصرح بأن من ظن ذلك فهو من الذين كفروا وهددهم بالنار، قال تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ﴾ [ ص : ٢٧ ] وقال تعالى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون َفَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥-١١٦ ] وقال ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ]، وقال :﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ الملك : ٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ﴾ [ ٨ ] الآية.
المراد بالأمة هنا : المدة من الزمن. ونظيره قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾. أي تذكر بعد مدة.
تنبيه
استعمل لفظ ﴿ الأمَّة ﴾ في القرآن أربعة استعمالات :
الأول : هو ما ذكرنا هنا من استعمال الأمة في البرهة من الزمن.
الثاني : استعمالها في الجماعة من الناس، وهو الاستعمال الغالب، كقوله ﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ﴾ [ ص : ٢٣ ] الآية، وقوله :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ﴾ [ يونس : ٤٧ ] الآية، وقوله ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً ﴾ [ البقرة : ٢١٣ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث : استعمال ﴿ الأُمَّة ﴾ في الرجل المقتدى به. كقوله :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [ الصف : ١٢٠ ] الآية.
الرابع : استعمال ﴿ الأُمَّة ﴾ في الشريعة والطريقة ؛ كقوله :﴿ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ [ الزخرف : ٢٢ ] الآية، وقوله :﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ الأنبياء : ٩٢ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ﴾ [ ١٥ ].
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من عمل عملاً يريد به الحياة الدنيا أعطاه جزاء عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة إلا النار.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الشورى :﴿ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾ [ الشورى : ٢٠ ] ولكنه تعالى يبين في سورة بني إسرائيل تعليق ذلك على مشيئته جل وعلا بقوله :﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ﴾ [ الإسراء : ١٨ ] الآية وقد أوضحنا هذه المسألة غاية الإيضاح في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب » في الكلام على هذه الآية الكريمة، ولذلك اختصرناها هنا.
قوله تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾ [ ١٧ ].
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن هذا القرآن لا يكفر به أحد كائناً من كان إلا دخل النار. وهو صريح في عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق. والآيات الدالة على ذلك كثيرة، كقوله تعالى ﴿ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]، وقوله :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ]، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ ﴾ [ سبأ : ٢٨ ]. وقوله :﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ [ ١٧ ] الآية.
نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن الشك في هذا القرآن العظيم، وصرح أنه الحق من الله. والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جداً كقوله ﴿ الم ( ١ ) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ البقرة : ١-٢ ] وقوله :﴿ الم ( ١ ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ التوبة : ١-٢ ] ونحو ذلك من الآيات. والمرية : الشك.
قوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ ١٧ ].
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن أكثر الناس لا يؤمنون، وبين ذلك أيضاً في مواضع كثيرة، كقوله ﴿ وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ] وقوله ﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن في الأرْضِ يُضِلُّوكَ ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ ﴾ [ الصافات : ٧١ ]، وقوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الكفار الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، يضاعف لهم العذاب يوم القيامة، لأنهم يعذبون على ضلالهم، ويعذبون أيضاً على إضلالهم غيرهم، كما أوضحه تعالى بقوله :﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ﴾ [ النحل : ٨٨ ].
وبين في موضع آخر. أن العذاب يضاعف للأتباع والمتبوعين، وهو قوله في الأعراف ﴿ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ ٢٠ ].
في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه، بعضها يشهد له القرآن :
الأول وهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره، ونقله عن ابن عباس وقتادة : أن معنى ﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ﴾ الآية أنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع منتفع، ولا أن يبصروه إبصار مهتد، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين عن استعمال جوارحهم في طاعة الله تعالى، وقد كانت لهم أسماع وأبصار.
ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾. [ الأحقاف : ٢٦ ]
الثاني وهو أظهرها عندي : أن عدم الاستطاعة المذكور في الآية إنما هو للختم الذي ختم الله على قلوبهم وأسماعهم، والغشاوة التي جعل على أبصارهم.
ويشهد لهذا القول قوله تعالى :﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [ البقرة : ٧ ]، وقوله :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ [ الكهف : ٧٥ ] ونحو ذلك من الآيات.
وذلك الختم والأكنة على القلوب جزاء من الله تعالى لهم على مبادرتهم إلى الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله :﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [ النساء : ١٥٥ ] وقوله ﴿ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [ الصف : ٥ ] وقوله ﴿ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [ البقرة : ١٠ ] الآية. وقوله :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٥ ] الآية وقوله ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث أن المعنى ما كانوا يستطيعون السمع أي لشدة كراهيتهم لكلام الرسل على عادة العرب في قولهم : لا أستطيع أن أسمع كذا إذا كان شديد الكراهية والبغض له ويشهد لهذا القول قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا ﴾ [ الحج : ٢٧ ] وقوله تعالى ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءَانِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ] الآية وقوله ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ في ءَاذَانِهِمْ ﴾ [ نوح : ٧ ] الآية.
الرابع : أن «ما » مصدرية ظرفية، أي يضاعف لهم العذاب مدة كونهم يستطيعون أن يسمعوا ويبصروا، أي يضاعف لهم العذاب دائماً.
الخامس : أن «ما » مصدرية في محل نصب بنزع الخافض، أي يضاعف لهم العذاب بسبب كونهم يستطيعون السمع والإبصار في دار الدنيا، وتركوا الحق مع أنهم يستطيعون إدراكه بأسماعهم وأبصارهم. وقد قدمنا في سورة النساء قول الأخفش الأصغر : بأن النصب بنزع الخافض مقيس مطلقاً عند أمن اللبس.
السادس : أن قوله ﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ من صفة الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله، فيكون متصلاً بقوله ﴿ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ﴾ وتكون جملة ﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ اعتراضية. وتقرير المعنى على هذا القول : وما كان لهم من دون الله من أولياء ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، أي الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله. وما لا يسمع ولا يبصر لا يصح أن يكون ولياً لأحد.
ويشهد لمعنى هذا القول قوله تعالى في الأعراف ﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ [ الأعراف : ١٩٥ ] الآية، ونحوها من الآيات.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية الكريمة قد تكون فيها أقوال، وكلها يشهد له قرآن فنذكر الجميع، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ﴾ [ ٢٤ ] الآية. ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للكافر بالأعمى والأصم، وضرب المثل للمؤمن بالسميع والبصير، وبين أنهما لا يستويان، ولا يستوي الأعمى والبصير، ولا يستوي الأصم والسميع. وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة :
قوله ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَآءُ وَلاَ الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ١٩-٢٣ ].
وقوله :﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ﴾ [ الرعد : ١٩ ].
وقوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ ﴾ [ النمل : ٨٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الملأ من قوم نوح قالوا له : ما نراك اتبعك منا إلا الأسافل والأراذل. وذكر في سورة الشعراء، أن اتباع الأراذل له في زعمهم مانع لهم من اتباعه بقوله ﴿ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ ﴾ [ الشعراء : ١١١ ].
وبين في هذه السورة الكريمة : أن نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أبى أن يطرد أولئك المؤمنين الذين اتبعوه بقوله :﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ ﴾ [ هود : ٢٩-٣٠ ] الآية. وذكر تعالى عنه ذلك في الشعراء أيضاً بقوله :﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّى لَوْ تَشْعُرُون َوَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ١١٣-١١٤ ].
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح : أنه قال لقومه :﴿ قُلْ أَرَءيْتُمْ ﴾ أي أخبروني ﴿ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ﴾ أي على يقين ونبوة صادقة لا شك فيها، وأعطاني رحمة منه مما أوحى إلي من التوحيد والهدى، فخفي ذلك كله عليكم، ولم تعتقدوا أنه حق، أيمكنني أن ألزمكم به، وأجبر قلوبكم على الانقياد والإذعان لتلك البينة التي تفضل الله علي بها، ورحمني بإيتائها، والحال أنكم كارهون لذلك ؟ يعني ليس بيدي توفيقكم إلى الهدى وإن كان واضحاً جلياً لا لبس فيه، إن لم يهدكم الله جل وعلا إليه.
وهذا المعنى صرح به جل وعلا عن نوح أيضاً في هذه السورة الكريمة بقوله :﴿ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ ﴾ [ هود : ٣٤ ] الآية.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : أنه أخبر قومه أنه لا يسألهم مالاً في مقابلة ما جاءهم به من الوحي والهدى، بل يبذل لهم ذلك الخير العظيم مجاناً من غير أخذ أجرة في مقابله.
وبين في آيات كثيرة : أن ذلك هو شأن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، كقوله في سبأ عن نبينا صلى الله عليه وسلم :﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ سبأ : ٤٧ ].
وقوله فيه أيضاً في آخر سورة ص :﴿ قُلْ مَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ ص : ٨٦ ].
وقوله في الطور والقلم ﴿ أَمْ تَسْألُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴾ [ الطور : ٤٠ ].
وقوله في الفرقان ﴿ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥٧ ].
وقوله في الأنعام :﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ].
وقوله عن هود في سورة هود :﴿ يا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ﴾. [ هود : ٥١ ] الآية.
وقوله في الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام :﴿ وَمَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٠٩ ].
وقوله تعالى عن رسل القرية المذكورة في يس ﴿ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِين َاتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْألُكُمْ أَجْراً ﴾ [ يس : ٢٠-٢١ ] الآية.
وقد بينا وجه الجمع بين هذه الآيات المذكورة وبين قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ] في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب » في سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى ﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ﴾ [ سبأ : ٤٧ ].
ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة : أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجاناً من غير أخذ عوض على ذلك، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى، ولا على تعليم العقائد والحلال والحرام.
ويعتضد ذلك بأحاديث تدل على نحوه، فمن ذلك ما رواه ابن ماجه والبيهقي والروياني في مسنده عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : علمت رجلاً القرآن، فأهدى لي قوساً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :«إن أخذتها أخذت قوساً من نار » فرددتها.
قال البيهقي وابن عبد البر في هذا الحديث : هو منقطع، أي بين عطية الكلاعي وأبي بن كعب، وكذلك قال المزي.
وتعقبه ابن حجر بأن عطية ولد في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وأعله ابن القطان بأن راويه عن عطية المذكور هو عبد الرحمن بن سَلْم وهو مجهول.
وقال فيه ابن حجر في التقريب. شامي مجهول.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وله طرق عن أبي. قال ابن القطان : لا يثبت منها شيء قال الحافظ وفيما قاله نظر.
وذكر المزي في الأطراف له طرقاً منها : أن الذي أقرأه أبي هو الطفيل بن عمرو، ويشهد له ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن الطفيل بن عمرو الدوسي قال. أقرأني أبي بن كعب القرآن فأهديت له قوساً فغدا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وقد تقلدها فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم :«تقلدها من جهنم » الحديث. وقال الشوكاني أيضاً : وفي الباب عن معاذ عند الحاكم والبزار بنحو حديث أبي. وعن أبي الدرداء عند الدارمي بإسناد على شرط مسلم بنحوه أيضاً.
ومن ذلك ما رواه أبو داود وابن ماجه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال. علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فأهدى إلى رجل منهم قوساً فقلت ليست بمال أرمي بها في سبيل الله عز وجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته فقلت. يا رسول الله، أهدى إلي رجل قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال أرمى عليها في سبيل الله ؟ فقال :«إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها » وفي إسناده المغيرة بن زياد الموصلي قال الشوكاني : وثقه وكيع ويحيى بن معين وتكلم فيه جماعة.
وقال الإمام أحمد : ضعيف الحديث، حدث بأحاديث مناكير، وكل حديث رفعه فهو منكر. وقال أبو زرعة الرازي. لا يحتج بحديثه اه. وقال فيه ابن حجر في التقريب. المغيرة بن زياد البجلي أبو هشام أو هاشم الموصلي صدوق له أوهام ؛ وهذا الحديث رواه أبو داود من طريق أخرى ليس فيها المغيرة المذكور. حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا : ثنا بقية حدثني بشر بن عبد الله بن بشار قال عمرو : وحدثني عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت نحو هذا الخبر، والأول أتم، فقلت : ما ترى فيها يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال :«جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها » اه منه بلفظه. وفي سند هذه الرواية بقية بن الوليد وقد تكلم فيه جماعة، ووثقه آخرون إذا روي عن الثقات، وهو من رجال مسلم. وأخرج له البخاري تعليقاً.
وقال فيه ابن حجر في التقريب : صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء، والظاهر أن أعدل الأقوال فيه أنه إن صرح بالسماع عن الثقات فلا بأس به، مع أن حديثه هذا معتضد بما تقدم وبما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«اقرؤوا القرآن واسألوا الله به، فإن من بعدكم قوماً يقرؤون القرآن يسألون به الناس » قال الترمذي في هذا الحديث : ليس إسناده بذلك.
ومنها ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا وهب بن بقية، أخبرنا خالد عن حميد الأعرج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والأعجمي : فقال :«اقرؤوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه » حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو وابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن وفاء بن شريح الصدفي، عن سهل بن سعد الساعدي قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقتري فقال :«الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض وفيكم الأسود، اقرؤوا قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله » اه.
ومنها ما رواه الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن شبل، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«اقرؤوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به ». قال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار في هذا الحديث : قال في مجمع الزوائد رجال أحمد ثقات.
ومنها ما أخرجه الأثرم في سننه عن أُبي رضي الله عنه قال : كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة، قد احتبس في بيته أقرئه القرآن، فيؤتي بطعام لا آكل مثله بالمدينة، فحاك في نفسي شيء فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :«إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه، وإن كان يتحفك به فلا تأكله » ا ه بواسطة نقل ابن قدامة في المغني والشوكاني في نيل الأوطار.
فهذه الأدلة ونحوها تدل على أن تعليم القرآن والمسائل الدينية لا يجوز أخذ الأجرة عليه.
وممن قال بهذا : الإمام أحمد في إحدى الروايتين، وأبو حنيفة والضحاك بن قيس وعطاء.
وكره الزهري وإسحاق تعليم القرآن بأجر.
وقال عبد الله بن شقيق : هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت.
وممن كره أجرة التعليم مع الشرط : الحسن وابن سيرين، وطاوس، والشعبي، والنخعي ؛ قاله في المغني. وقال : إن ظاهر كلام الإمام أحمد جواز أخذ العلم ما أعطيه من غير شرط.
وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهو مذهب مالك، والشافعي.
وممن رخص في أجور المعلمين : أبو قلابة، وأبو ثور، وابن المنذر.
ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال : التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة، ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله تعالى بأمانات الناس، التعليم أحب إلي.
وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم. قاله ابن قدامة في المغني.
واحتج أهل هذا القول بأدلة منها ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله، إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياماً طويلاً، فقام رجل فقال : يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم «هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟ » فقال. ما عندي إلا إزاري. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم :
«إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئاً » فقال : ما أجد شيئاً، فقال :«التمس ولا خاتماً من حديد » فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم :«هل معك من القرآن شيء ؟ » قال نعم، سورة كذا وكذا يسميها، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم :«قد زوجتكها بما معك من القرآن » وفي رواية «قد ملكتكها بما معك من القرآن » فقالوا : هذا الرجل أباح له النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل تعليمه بعض القرآن لهذه المرأة عوضاً عن صداقها. وهو صريح في أن العوض على تعليم القرآن جائز. وما رد به بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم زوجه إياها بغير صداق إكراماً له لحفظه ذلك المقدار من القرآن، ولم يجعل التعليم صداقاً لها مردود بما ثبت في بعض الروايات في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال :«انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن » وفي رواية لأبي داود «علمها عشرين آية وهي امرأتك ».
واحتجوا أيضاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس :«إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله » قالوا : الحديث وإن كان وارداً في الجعل على الرقيا بكتاب الله فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. واحتمال الفرق بين الجعل على الرقية وبين الأجرة على التعليم ظاهر.
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم، أن الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية فالأولى له ألا يأخذ عوضاً على تعليم القرآن، والعقائد، والحلال والحرام للأدلة الماضية. وإن دعته الحاجة أخذ بقدر الضرورة من بيت مال المسلمين. لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم لا من قبيل الأجرة.
والأولى لمن أغناه الله أن يتعفف عن أخذ شيء في مقابل التعليم للقرآن والعقائد والحلال والحرام. والعلم عند الله تعالى.
ذكر الله جل وعلا في هذه الكريمة أنه أمر نبيه نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : أن يحمل في سفينته من كل زوجين اثنين. وبين في سورة ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ أنه أمره أن يسلكهم أي يدخلهم فيها.
فدل ذلك على أن فيها بيوتاً يدخل فيها الراكبون ؛ وذلك في قوله ﴿ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ [ المؤمنون : ٢٧ ] ومعنى «اسْلُك » أدخل فيها من كل زوجين اثنين ؛ تقول العرب : سلكت الشيء في الشيء : أدخلته فيه. وفيه لغة أخرى وهي : أسلكته فيه، رباعياً بوزن أفعل، والثلاثية لغة القرآن. كقوله :﴿ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ [ المؤمنون : ٢٧ ] الآية. وقوله ﴿ اسْلُكْ يَدَكَ في جَيْبِكَ ﴾ [ القصص : ٣٢ ] الآية. وقوله ﴿ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٠٠ ] الآية. وقوله ﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ في قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الحجر : ١٢ ] وقوله ﴿ مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ ﴾ [ المدثر : ٤٢ ] الآية ؛ ومنه قول الشاعر :
وكنت لزاز خصمك لم أعرد | وقد سلكوك في يوم عصيب |
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة | شلا كما تطرد الجمالة الشردا |
عين تأوبها من شجوها أرق | فالماء يغمرها طورا وينحدر |
كأنه نظم در عند ناظمة | تقطع السلك منه فهو منتثر |
قوله تعالى :﴿ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ [ ٤٠ ] الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أمر نوحاً أن يحمل في السفينة أهله إلا من سبق عليه القول، أي سبق عليه من الله القول بأنه شقى، وأنه هالك مع الكافرين.
ولم يبين هنا من سبق عليه القول منهم، ولكنه بين بعد هذا أن الذي سبق عليه القول من أهله هو ابنه وامرأته.
قال في ابنه الذي سبق عليه القول :﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ في مَعْزِلٍ يا بُنَىَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ هود : ٤٢ ] إلى قوله ﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ [ هود : ٤٣ ] وقال فيه أيضاً :﴿ قَالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ [ هود : ٤٦ ] الآية وقال في امرأته :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ ﴾ [ التحريم : ١٠ ] إلى قوله ﴿ الدَاخِلِينَ ﴾ [ التحريم : ٢٧ ].
وبين في سورة الفلاح : أنه أمره إذا استوى على السفينة هو ومن معه أن يحمدوا الله الذي نجاهم من الكفرة الظالمين، ويسألوه أن ينزلهم منزلاً مباركاً. وذلك في قوله :﴿ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ ﴿ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٢٩ ].
وبين في سورة الزخرف ما ينبغي أن يقال عند ركوب السفن وغيرها بقوله ﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالأٌنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ( ١٢ ) لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ( ١٣ ) وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ١٤ ﴾ [ الزخرف : ١٢-١٤ ].
ومعنى قوله ﴿ مُقْرِنِينَ١٣ ﴾ أي مطيقين، ومنه قول عمرو بن معد يكرب :
لقد علم القبائل ما عقيل | لنا في النائبات بمقرنينا |
ركبتم صعبتي أشر وجبن | ولستم للصعاب بمقرنينا |
وأقرنت ما حملتني ولقلما | يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر |
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن السفينة تجري بنوح ومن معه في ماء عظيم، أمواجه كالجبال.
وبين جريانها هذا في ذلك الماء الهائل في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ في الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ [ الحاقة : ١١-١٢ ] وقوله :﴿ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِر ٍوَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ [ القمر : ١١-١٥ ].
وبين في موضع آخر : أن أمواج البحر الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه كالجبال أيضاً بقوله :﴿ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [ الشعراء : ٦٣ ] والطود : الجبل العظيم.
وقوله :﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ﴾ [ الحاقة : ٦-٧ ] الآية.
وقوله :﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً في يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ [ القمر : ١٩-٢٠ ].
وقوله :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْي ﴾ [ فصلت : ١٦ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً ﴾ [ ٦٦ ] الآية.
وبين هذا الأمر الذي جاء بقوله :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ ﴾ [ هود : ٦٧-٦٨ ] ونحوها من الآيات.
لم يبين هنا ما المراد بهذه البشرى التي جاءت بها رسل الملائكة إبراهيم ولكنه أشار بعد هذا إلى أنها البشارة بإسحاق ويعقوب في قوله :﴿ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] لأن البشارة بالذرية الطيبة شاملة للأم والأب، كما يدل لذلك قوله :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الصافات : ١١٢ ].
وقوله :﴿ قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ ﴾ [ الذاريات : ٢٨ ] وقوله :﴿ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ﴾ [ الحجر : ٥٣ ] وقيل : البشرى هي إخبارهم له بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط، وعليه فالآيات المبينة لها كقوله هنا في هذه السورة :﴿ قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ [ هود : ٧٠ ] الآية.
وقوله :﴿ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَ ءَالَ لُوطٍ ﴾ [ الحجر : ٥٨-٥٩ ] الآية.
وقوله :﴿ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٣٢-٣٣ ] وقوله :﴿ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٣١ ].
والظاهر القول الأول : وهذه الآية الأخيرة تدل عليه لأن فيها التصريح بأن إخبارهم بإهلاك قوم لوط بعد مجيئهم بالبشرى، لأنه مرتب عليه بأداة الشرط التي هي «لما » كما ترى.
قوله تعالى ؛ ﴿ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ ﴾ [ ٦٩-٧٠ ] الآية.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن إبراهيم لما سلم على رسل الملائكة وكان يظنهم ضيوفاً من الآدميين، أسرع إليهم بالإتيان بالقري وهو لحم عجل حنيذ أي منضج بالنار وأنهم لما لم يأكلوا أوجس منهم خفية فقالوا لا تخف وأخبروه بخبرهم.
وبين في الذاريات : أنه راغ إلى أهله أي مال إليهم فجاء بذلك العجل وبين أنه سمين، وأنه قربه إليهم، وعرض عليهم الأكل برفق فقال لهم :﴿ أَلاَ تَأْكُلُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢٧ ] وأنه أوجس منهم خيفة وذلك في قوله :﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِين َإِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِين ٍفَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ [ الذريات : ٢٤-٢٨ ] الآية.
تنبيه
يؤخذ من قصة إبراهيم مع ضيفه هؤلاء أشياء من آداب الضيافة. منها تعجيل القري لقوله ﴿ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾.
ومنها كون القرى من أحسن ما عنده، لأنهم ذكروا أن الذي عنده البقر وأطيبه لحماً الفتى السمين المنضح.
ومنها تقريب الطعام إلى الضيف.
ومنها ملاطفته بالكلام بغاية الرفق، كقوله ﴿ أَلاَ تَأْكُلُونَ ﴾.
ومعنى قوله ﴿ نَكِرَهُمْ ﴾ أي أنكرهم لعدم أكلهم، والعرب تطلق نكر وأنكر بمعنى واحد وقد جمعهما قول الأعشى :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت | من الحوادث إلا الشيب والصلعا |
قوله تعالى :﴿ قَالَتْ يا وَيْلَتَي ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عَجِيبٌ ﴾ [ ٧٢ ].
بين الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة ما قالته امرأة إبراهيم لما بشرت بالولد وهي عجوز، ولم يبين هنا ما فعلت عند ذلك، ولكنه بين ما فعلت في الذاريات بقوله ﴿ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ في صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾ [ الذاريات : ٢٩ ] وقوله ﴿ في صَرَّةٍ ﴾ أي ضجة وصيحة. وقوله ﴿ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ﴾ أي لطمته.
لم يبين هنا ما جادل به إبراهيم الملائكة في قوم لوط، ولكنه أشار إليه في العنكبوت بقوله ﴿ قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هذه الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِين َقَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ ﴾ [ العنكبوت : ٣١-٣٢ ] الآية.
فحاصل جداله لهم أنه يقول : إن أهلكتم القرية وفيها أحد من المؤمنين أهلكتم ذلك المؤمن بغير ذنب، فأجابوه عن هذا بقولهم ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ﴾ الآية.
ونظير ذلك قوله ﴿ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٥-٣٦ ].
هذا العذاب الذي صرح هنا بأنه آت قوم لوط، لا محالة وأنه لا مرد له بينه في مواضع متعددة، كقوله في هذه السورة الكريمة ﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هي مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [ هود : ٨٢-٨٣ ].
وقوله في الحجر ﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [ الحجر : ٧٤-٧٥ ].
وقوله ﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ﴾ [ الفرقان : ٤٠ ] الآية.
وقوله ﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾. [ الشعراء : ١٧٢-١٧٣ ].
وقوله ﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٣-٣٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن لوطاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءته رسل ربه من الملائكة حصلت له بسبب مجيئهم مساءة عظيمة ضاق صدره بها، وأشار في مواضع متعددة إلى أن سبب مساءته وكونه ضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب أنه ظن أنهم ضيوف من بني آدم كما ظنه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وظن أن قومه ينتهكون حرمة ضيوفه فيفعلون بهم فاحشة اللواط، لأنهم إن علموا بقدوم ضيف فرحوا واستبشروا به ليفعلوا به الفاحشة المذكورة فمن ذلك قوله هنا ﴿ وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ في ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا في بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ﴾ [ هود : ٧٨-٧٩ ].
وقوله في الحجر :﴿ وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ الحجر : ٦٧-٧٢ ].
وقوله ﴿ يُهْرَعُون ﴾ أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، ومنه قول مهلهل :
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى *** تقودهم على رغم الأنوف
وقوله :﴿ وَلاَ تُخْزُونِ ﴾ أي لا تهينون ولا تذلون بانتهاك حرمة ضيفي. والاسم منه : الخزي بكسر الخاء وإسكان الزاي ؛ ومنه قول حسان في عتبة بن أبي وقاص : فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
وقال بعض العلماء : قوله ﴿ وَلاَ تُخْزُونِ ﴾ من الخزاية، وهي الخجل والاستحياء من الفضيحة ؛ أي لا تفعلوا بضيفي ما يكون سبباً في خجلي واستحيائي، ومنه قول ذي الرمة يصف ثوراً وحشياً تطارده الكلاب في جانب حبل من الرمل.
حتى إذا دومت في الأرض راجعة *** كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب
خزاية أدركته بعد جولته *** من جانب الحبل مخلوطاً بها الغضب
يعني أن هذا الثور لو شاء نجا من الكلاب بالهرب، ولكنه استحيا وأنف من الهرب فكر راجعاً إليها. ومنه قوله الآخر :
أجاعلة أم الثوير خزاية على فراري أن لقيت بني عبس
والفعل منه : خزى يخزي، كرضى يرضي. ومنه قول الشاعر :
من البيض لا تخزي إذا الريح ألصقت *** بها مرطها أو زايل الحلي جيدها
وقول الآخر :
وإنِّي لا أخزى إذا قيل مملق *** سخى وأخزى أن يقال بخيل
وقوله :﴿ لَعَمْرُكَ ﴾ [ الذاريات : ٧٢ ] معناه أقسم بحياتك. والله جل وعلا له أن يقسم بما شاء من خلقه، ولم يقسم في القرآن بحياة أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
ولا يجوز لمخلوق أن يحلف بغير الله، لقوله صلى الله عليه وسلم :«من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ».
وقوله :﴿ لَعَمْرُكَ ﴾ مبتدأ خبره محذوف، أي لعمرك قسمى وسمع عن العرب تقديم الراء على اللام في لعمرك فتقول فيها : رعملك، ومنه قول الشاعر :
رعملك إن الطائر الواقع الذي *** تعرض لي من طائر لصدوق
وقوله :﴿ لفي سَكْرَتِهِمْ ﴾ [ الحجر : ٧٢ ] أي عماهم وجهلهم وضلالهم. والعمه : عمى القلب، فمعنى ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ [ الحجر : ٧٢ ] يترددون متحيرين لا يعرفون حقاً من باطل، ولا نافعاً من ضار، ولا حسناً من قبيح.
واختلف العلماء في المراد بقول لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام :﴿ هَؤُلاءِ بَنَاتِي ﴾[ هود : ٧٨ ] في الموضعين على أقوال :
أحدها أنه أراد المدافعة عن ضيفه فقط، ولم يرد إمضاء ما قال، وبهذا قال عكرمة وأبو عبيدة.
الثاني أن المراد بناته لصلبه، وأن المعنى : دعوا فاحشة اللواط وأزوجكم بناتي. وعلى هذا فتزويج الكافر المسلمة كان جائزاً في شرعه، كما كانت بنات نبينا صلى الله عليه وسلم تحت الكفار في أول الإسلام كما هو معروف. وقد أرسلت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها الذي زفتها به أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلى زوجها أبي العاص بن الربيع، أرسلته إليه في فداء زوجها أبي العاص المذكور لما أسره المسلمون كافراً يوم بدر، والقصة مشهورة، وقد عقدها الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله في غزوة بدر :
وابن الربيع صهر هادي الملة *** إذ في فداه زينب أرسلت
بعقدها الذي به أهدتها *** له خديجة وزففتها
سرحه بعقدها وعهدا *** إليه أن يردها له غدا الخ
القول الثالث أن المراد بالبنات : جميع نساء قومه، لأن نبي القوم أب ديني لهم، كما يدل له قوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم :﴿ النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [ الأحزاب : ٦ ] وفي قراءة أبي بن كعب :«وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم » وروي نحوها عن ابن عباس. وبهذا القول قال كثير من العلماء.
وهذا القول تقربه قرينة وتبعده أخرى. أما القرينة التي تقربه فهي : أن بنات لوط لا تسع جميع رجال قومه كما هو ظاهر، فإذا زوجهن لرجال بقدر عددهن بقي عامة رجال قومه لا أزواج لهم. فيتعين أن المراد عموم نساء قومه، ويدل للعموم قوله :﴿ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ ﴾ ل[ الشعراء : ١٦٥-١٦٦ ] وقوله :﴿ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ ﴾ [ الأعراف : ٨١ ] ونحو ذلك من الآيات.
وأما القرينة التي تبعده : فهي أن النَّبي ليس أباً للكافرات، بل أبوة الأنبياء الدينية للمؤمنين دون الكافرين، كما يدل عليه قوله :﴿ النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأحزاب : ٦ ] الآية.
وقد صرح تعالى في الذاريات : بأن قوم لوط ليس فيهم مسلم إلا أهل بيت واحد وهم أهل بيت لوط، وذلك في قوله ﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٦ ].
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن نبيه لوطاً وعظ قومه ونهاهم أن يفضحوه في ضيفه، وعرض عليهم النساء وترك الرجال، فلم يلتفوا إلى قوله، وتمادوا فيما هم فيه من إرادة الفاحشة فقال لوط :﴿ لَوْ أَنَّ لي بِكُمْ قُوَّةً ﴾ الآية. فأخبرته الملائكة بأنهم رسل ربه، وأن الكفار الخبثاء لا يصلون إليه بسوء.
وبين في القمر أنه تعالى طمس أعينهم، وذلك في قوله :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عذابي وَنُذُرِ ﴾ [ القمر : ٣٧ ].
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه أمر نبيه لوطاً أن يسري بأهله بقطع من الليل، ولم يبين هنا هل هو من آخر الليل، أو وسطه أو أوله، ولكنه بين في القمر أن ذلك من آخر الليل وقت السحر، وذلك في قوله :﴿ إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ﴾ [ القمر : ٣٤ ]. ولم يبين هنا أنه أمره أن يكون من ورائهم وهم أمامه، ولكنه بين ذلك في الحجر بقوله :﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ﴾. [ الحجر : ٦٥ ].
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ ﴾ [ ٨١ ].
قرأه جمهور القراء ﴿ إِلاَّ امْرَأَتَكَ ﴾ بالنصب، وعليه فالأمر واضح ؛ لأنه استثناء من الأهل، أي أسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها، واتركها في قومها فإنها هالكة معهم.
ويدل لهذا الوجه قوله فيها في مواضع. ﴿ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ٨٣ ] والغابر : الباقي، أي من الباقين في الهلاك.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ﴿ إِلاَّ امْرَأَتَكَ ﴾ بالرفع على أنه بدل من ﴿ أَحَدٌ ﴾ وعليه فالمعنى : أنه أمر لوطاً أن ينهي جميع أهله عن الالتفات إلا امرأته فإنه أوحى إليه أنها هالكة لا محالة، ولا فائدة في نهيها عن الالتفات لكونها من جملة الهالكين.
وعلى قراءة الجمهور فهو لم يسر بها. وظاهر قراءة أبي عمرو وابن كثير : أنه أسرى بها والتفتت فهلكت.
قال بعض العلماء : لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت : واقوماه. فأدركها حجر فقتلها.
قال مقيده عفا الله عنه الظاهر أن وجه الجمع بين القراءتين المذكورتين أن السر في أمر لوط بأن يسري بأهله هو النجاة من العذاب الواقع صبحاً بقوم لوط، وامرأة لوط مصيبها ذلك العذاب الذي أصاب قومها لا محالة، فنتيجة إسراء لوط بأهله لم تدخل فيها امرأته على كلا القولين، وما لا فائدة فيه كالعدم، فيستوي معنى أنه تركها ولم يسر بها أصلاً، وأنه أسرى بها وهلكت مع الهالكين.
فمعنى القولين راجع إلى أنها هالكة وليس لها نفع في إسراء لوط بأهله. فلا فرق بين كونها بقيت معهم، أو خرجت وأصابها ما أصابهم.
فإذا كان الإسراء مع لوط لم ينجها من العذاب، فهي ومن لم يسر معه سواء والعلم عند الله تعالى.
وقوله ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ﴾ قرأه نافع وابن كثير «فاسْرِ » بهمزة وصل ؛ من سرى يسري، وقرأه جمهور القراء ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ﴾ بقطع الهمزة، من أسرى الرباعي على وزن أفعل. وسرى وأسرى : لغتان وقراءتان صحيحتان سبعيتان، ومن سرى الثلاثية، قوله تعالى :﴿ وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ [ الفجر : ٤ ] فإن فتح ياء ﴿ يَسْرِ ﴾ يدل على أنه مضارع سرى الثلاثية.
وجمع اللغتين قول نابغة ذبيان :
أسرت عليه من الجوزاء سارية | تزجى الشمال عليها جامد البرد |
حتى النضيرة ربة الخدر | أسرت إليك ولم تكن تسري |
عند الصباح يحمد القوم السرى | وتنجلي عنهم غيابات الكرى |
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن موعد إهلاك قوم لوط وقت الصبح من تلك الليلة، وكذلك قال في الحجر في قوله :﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ﴾ [ الحجر : ٦٦ ] وزاد في الحجر أن صبيحة العذاب وقعت عليهم وقت الإشراق وهو وقت طلوع الشمس بقوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ﴾ [ الحجر : ٧٣ ].
اختلف العلماء في المراد بحجارة السجيل اختلافاً كثيراً، والظاهر أنها حجارة من طين في غاية الشدة والقوة. والدليل على أن المراد بالسجيل : الطين. قوله تعالى في الذاريات في القصة بعينها :﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٣-٣٤ ]، وخير ما يفسر به القرآن : القرآن. والدليل على قوتها وشدتها : أن الله ما عذبهم بها في حالة غضبه عليهم إلا لأن النكال بها بالغ شديد. وأيضاً فإن بعض العلماء قالوا : السجيل والسجين : أختان، كلاهما الشديد من الحجارة والضرب. ومنه قول ابن مقبل.
ورجلة يضربون البيض ضاحية | ضرباً تواصى به الأبطال سجينا |
قوله تعالى :﴿ وَمَا هي مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [ ٨٣ ].
في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من التفسير للعلماء : اثنان منها كلاهما يشهد له القرآن، وواحد يظهر أنه ضعيف.
أما الذي يظهر أنه ضعيف فهو أن المعنى : أن تلك الحجارة ليست بعيدة من قوم لوط ؛ أي لم تكن تخطئهم.
قاله القرطبي وغيره ؛ لأن هذا يكفي عنه قوله تعالى :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً ﴾ ونحوها من الآيات. أما الوجهان اللذان يشهد لكل واحد منهما قرآن فالأول منهما : أن ديار قوم لوط ليست ببعيدة من الكفار المكذبين لنبينا ؛ فكان عليهم أن يعتبروا بما وقع لأهلها إذا مروا عليها في أسفارهم إلى الشام، ويخافوا أن يوقع الله بهم بسبب تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما وقع من العذاب بأولئك، بسبب تكذيبهم لوطاً عليه الصلاة والسلام. والآيات الدالة على هذا كثيرة جداً ؛ كقوله :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الصافات : ١٣٧-١٣٨ ]، وقوله :﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الحجر : ٧٦-٧٧ ]، وقوله :﴿ وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ ﴾ [ الذاريات : ٣٧ ] وقوله :﴿ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٣٥ ] إلى غير ذلك من الآيات. وعلى هذا القول فالضمير في قوله ﴿ وَمَا هي ﴾ راجع إلى ديار قوم لوط المفهومة من المقام.
الوجه الثاني أن المعنى : وما تلك الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ببعيد من الظالمين للفاعلين مثل فعلهم، فهو تهديد لمشركي العرب كالذي قبله.
ومن الآيات الدالة على هذا الوجه قوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ فإن قوله :﴿ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ [ محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : ١٠ ] ظاهر جداً في ذلك، والآيات بنحو ذلك كثيرة.
تنبيه
اختلف العلماء في عقوبة من ارتكب فاحشة قوم لوط، وسنذكر إن شاء الله أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يظهر رجحانه بالدليل من ذلك فنقول وبالله جل وعلا نستعين :
قال بعض العلماء : الحكم في ذلك : أن يقتل الفاعل والمفعول به مطلقاً سواء كانا محصنين أو بكرين، أو أحدهما محصناً والآخر بكراً.
وممن قال بهذا القول : مالك بن أنس وأصحابه، وهو أحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد. وحكى غير واحد إجماع الصحابة على هذا القول، إلا أن القائلين به اختلفوا في كيفية قتل من فعل تلك الفاحشة.
قال بعضهم : يقتل بالسيف.
وقال بعضهم : يرجم بالحجارة.
وقال بعضهم : يحرق بالنار.
وقال بعضهم : يرفع على أعلى بناء في البلد فيرمى منه منكساً ويتبع بالحجارة.
وحجة من قال بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط مطلقاً : ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن عكرمة عن ابن عباس : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ».
قال ابن حجر : ورجاله موثقون، إلا أن فيه اختلافاً اه.
وما ذكره يحيى بن معين من أن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ينكر عليه حديث عكرمة هذا عن ابن عباس، فيه أن عمراً المذكور ثقة، أخرج له الشيخان ومالك كما قدمناه مستوفى.
ويعتضد هذا الحديث بما رواه سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية : أنه يرجم. أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي.
وبما أخرجه الحاكم وابن ماجه عن أبي هريرة، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا » قال الشوكاني وإسناده ضعيف.
قال ابن الطلاع في أحكامه : لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه، وثبت عنه أنه قال :«اقتلوا الفاعل والمفعول به » رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة. اه.
قال الحافظ : وحديث أبي هريرة لا يصح، وقد أخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمري عن سهيفل عن أبيه عنه وعاصم متروك. وقد رواه ابن ماجه من طريقه بلفظ :«فارجموا الأعلى والأسفل » اه.
وأخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه : أنه رجم لوطياً، ثم قال : قال الشافعي : وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصناً كان أو غير محصن.
وقال هذا قول ابن عباس قال : وسعيد بن المسيب يقول : السنه أن يرجم اللوطي أحصن أو لم يحصن.
وقال البيهقي أيضاً : وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي قالا : ثنا أبو عمرو بن مطر، ثنا إبراهيم بن علي، ثنا يحيى بن يحيى، أنبأ عبد العزيز بن أبي حازم، أنبأ داود بن بكر عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في خلافته يذكر له : أنه وجد رجلاً في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكر رضي الله عنه جمع الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولاً علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال : إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن تحرقه بالنار. فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار. فكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد رضي عنه يأمره أن يحرقه بالنار. هذا مرسل.
وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي رضي الله عنه في غير هذه القصة قال : يرجم ويحرق بالنار.
ويذكر عن ابن أبي ليلى عن رجل من همدان : أن علياً رضي الله عنه رجم رجلاً محصناً في عمل قوم لوط. هكذا ذكره الثوري عنه مقيداً بالإحصان. وهشيم رواه عن ابن أبي ليلى مطلقاً اه منه بلفظه.
فهذه حجج القائلين بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط.
وحجة من قال : إن ذلك القتل بالنار هو ما ذكرناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً.
وحجة من قال : إن قتله بالسيف قوله صلى الله عليه وسلم :«فاقتلوا الفاعل والمفعول به » والقتل إذا أطلق انصرف إلى القتل بالسيف.
وحجة من قال : إن قتله بالرجم هو ما قدمنا من رواية سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس : أنه يرجم. وما ذكره البيهقي وغيره عن علي أنه رجم لوطياً، ويستأنس لذلك بأن الله رمى أهل تلك الفاحشة بحجارة السجيل.
وحجة من قال : يرفع على أعلى بناء أو جبل ويلقى منكساً ويتبع بالحجارة : أن ذلك هو الذي فعله الحكيم الخبير بقوم لوط، كما قال :﴿ جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ [ هود : ٨٢ ].
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا الأخير غير ظاهر، لأن قوم لوط لم يكن عقابهم على اللواط وحده، بل عليه، وعلى الكفر، وتكذيب نبيهم صلى الله عليه وسلم. فهم قد جمعوا إلى اللواط ما هو أعظم من اللواط، وهو الكفر بالله، وإيذاء رسوله صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني هو أن اللواط زنى فيجلد مرتكبه مائة إن كان بكراً ويغرب سنة، ويرجم إن كان محصناً. وهذا القول هو أحد قولي الشافعي.
وذكر البيهقي عن الربيع بن سليمان : أن الشافعي رجع إلى أن اللواط زنى، فيجري عليه حكم الزنى، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمهم الله تعالى.
ورواه البيهقي عن عطاء وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وهو قول أبي يوسف ومحمد وسعيد بن المسيب والحسن وقتادة والنخعي والثوري والأوزاعي وغيرهم.
واحتج أهل هذا القول بما رواه البيهقي عن محمد بن عبد الرحمن عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان » أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا أبو بدر، ثنا محمد بن عبد الرحمن فذكره. قال الشيخ : ومحمد بن عبد الرحمن هذا لا أعرفه، وهو منكر بهذا الإسناد. انتهى منه بلفظه.
وقال الشوكاني رحمه الله في «نيل الأوطار » في هذا الحديث، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن كذبه أبو حاتم.
وقال البيهقي لا أعرفه، والحديث منكر بهذا الإسناد. ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء، والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى. وفيه بشر بن المفضل البجلي وهو مجهول. وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه اه منه.
واستدل القائلون بهذا القول أيضاً بقياس اللواط على الزنى بجامع أن الكل إيلاج فرج في فرج محرم شرعاً، مشتهى طبعاً.
ورد بأن القياس لا يكون في الحدود، لأنها تدرأ بالشبهات. والأكثرون على جواز القياس في الحدود، وعليه درج في مراقي السعود بقوله :
والحد والكفارة التقدير | جوازه فيها هو المشهور |
القول الثالث أن اللائط لا يقتل ولا يحد حد الزنى، وإنما يعزر بالضرب والسجن ونحو ذلك. وهذا قول أبي حنيفة.
واحتج أهل هذا القول بأن الصحابة اختلفوا فيه، واختلافهم فيه يدل على أنه ليس فيه نص صحيح، وأنه من مسائل الاجتهاد، والحدود تدرأ بالشبهات قالوا : ولا يتناوله اسم الزنى، لأن لكل منهما اسماً خاصاً به، كما قال الشاعر :
من كف ذات حر في زي ذي ذكر | لها محبان لوطي وزناء |
والفرق بين الأصل والفرع قدح | إبداء مختص بالأصل قد صلح |
أو مانع في الفرع... | الخ...... |
قالوا : المراد بذلك : اللواط. والمراد بالإيذاء : السبب أو الضرب بالنعال.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن نبيه شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أنه أخبر قومه : أنه إذا نهاهم عن شيء انتهى هو عنه وأن فعله لا يخالف قوله.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن الإنسان يجب عليه أن يكون منتهياً عما ينهى عنه غيره، مؤتمراً بما يأمر به غيره.
وقد بين تعالى ذلك في مواضع أخر. كقوله :﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٤٤ ] الآية. وقوله :﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ [ الصف : ٣ ].
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون : أي فلان. ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ ا فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ».
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم :«فتندلق أقتابه » أي تتدلى أمعاؤه.
وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو نُعيم في الحلية، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت رجعت. فقلت لجبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء خطباء من أمتك، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون » قاله صاحب «الدر المنثور ». اه. وقد قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله | عار عليك إذا فعلت عظيم |
وغير تقي يأمر الناس بالتقى | طبيب يداوي الناس وهو مريض |
فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر | به تلف من إياه تأمر آتيا |
﴿ قَالُواْ يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾. ٩١
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن نبيه شعيباً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام منعه الله من الكفار، وأعز جانبه بسبب العواطف العصبية، والأواصر النسبية من قومه الذين هم كفار.
وهو دليل على أن المتمسك بدينه قد يعينه الله ويعزه بنصرة قريبه الكافر، كما بينه تعالى في مواضع أخر ؛ كقوله في صالح وقومه :﴿ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ ﴾ [ النمل : ٤٩ ] الآية.
ففي الآية دليل على أنهم لا قدرة لهم على أن يفعلوا السوء بصالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلا في حال الخفاء، وأنهم لو فعلوا به ذلك خفاء وسرقة لكانوا يحلفون لأوليائه الذين هم عصبته أنهم ما فعلوا به سوءاً، ولا شهدوا ذلك ولا حضروه خوفاً من عصبته ؛ فهو عزيز الجانب بسبب عصبته الكفار. وقد قال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم :﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ﴾ [ الضحى : ٦ ] أي آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب.
وذلك بسبب العواطف العصبية، والأواصر النسبية، ولا صلة له بالدين ألبتة ؛ فكونه جل وعلا يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم بإيواء أبي طالب له دليل على أن الله قد ينعم على المتمسك بدينه بنصرة قريبه الكافر.
ومن ثمرات تلك العصبية النسبية قول أبي طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم | حتى أوسد في التراب دفينا |
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة | أبشر بذاك وقر منه عيونا |
ونمنعه حتى نصرع حوله | ونذهل عن أبنائنا والحلائل |
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن المسلمين قد تنفعهم عصبية إخوانهم الكافرين.
ولما ناصر بنو المطلب بن عبد مناف بني هاشم ولم يناصرهم بنو عبد شمس بن عبد مناف وبنو نوفل بن عبد مناف عرف النَّبي صلى الله عليه وسلم لبني المطلب تلك المناصرة التي هي عصيبة نسبية لا صلة لها بالدين ؛ فأعطاهم من خمس الغنيمة مع بني هاشم، وقال :«إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام » ومنع بني عبد شمس وبني نوفل من خمس الغنيمة، مع أن الجميع أولاد عبد مناف بن قصي.
وقال أبو طالب في بني عبد شمس وبني نوفل :
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا | عقوبة شر عاجل غير آجل |
بميزان قسط لا يخيس شعيرة | له شاهد من نفسه غير عائل |
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا | بني خلف قيضا بنا والغياطل |
لأن قيس بن عدي بن سعد بن سهم الذي هو من سادات قريش العظام، وهو الذي يعنيه عبد المطلب بقوله يرقص ابنه عبد الله وهو صغير :
كأنه في العز قيس بن عدي | في دار سعد ينتدي أهل الندى |
فهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله قد يعين المؤمن بالكافر لتعصبه له، وربما كان لذلك أثر حسن على الإسلام والمسلمين. وقد يكون من منن الله على بعض أنبيائه المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر » وفي المثل :«اجتن الثمار وألق الخشبة في النار ».
فإذا عرفت دلالة القرآن على أن المسلم قد ينتفع برابطة نسب وعصيبة من كافر، فاعلم أن النداء بالروابط العصيبة لا يجوز ؛ لإجماع المسلمين على أن المسلم لا يجوز له الدعاء بيا لبني فلان ونحوها.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في تلك الدعوة :«دعوها فإنها منتنة ». وقوله صلى الله عليه وسلم :«دعوها » يدل على وجوب تركها. لأن صيغة أفعل للوجوب إلا لدليل صارف عنه، وليس هنا دليل صارف عنه. ويؤكد ذلك تعليله الأمر بتركها بأنها منتنة، وما صرح النَّبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بتركه وأنه منتن لا يجوز لأحد تعاطيه، وإنما الواجب على المسلمين النداء برابطة الإسلام التي هي من شدة قوتها تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد إنسان واحد. فهي تربطك بأخيك المسلم كربط أعضائك بعضها ببعض، قال صلى الله عليه وسلم :«إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ».
وإذا تأملت قوله تعالى :﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ] تحققت أن الروابط النسبية تتلاشى مع الروابط الإسلامية، وقد قال تعالى :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [ الحجرات : ١٠ ] وقال :﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ [ التوبة : ٧١ ].
ولا يخفى أن أسلافنا معاشر المسلمين إنما فتحوا البلاد ومصروا الأمصار بالرابطة الإسلامية، لا بروابط عصبية، ولا بأواصر نسبية.
قيد تعالى خلود أهل الجنة وأهل النار بالمشيئة. فقال في كل منهما :﴿ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ ﴾ ثم بين عدم الانقطاع في كل منهما، فقال في خلود أهل الجنة :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا ﴾ [ هود : ١٠٨ ] ﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ١٠٨ ﴾ [ ص : ٥٤ ].
وقال في خلود أهل النار :﴿ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾ [ نوح : ٩٧ ].
ومعلوم أن ﴿ كُلَّمَا ﴾ تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها.
وقد أوضحنا هذه المسألة إيضاحاً تاماً في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب » في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٨ ] وفي سورة النبأ في الكلام على قوله تعالى :﴿ لَّابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً ﴾ [ النبأ : ٢٣ ].