تفسير سورة طه

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة طه من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿بِقَبَسٍ﴾ القَبسُ: شعلةٌ من نار ﴿المقدس﴾ المطهَّر والمبارك ﴿طُوًى﴾ اسم للوادي ﴿فتردى﴾ تهلك والردى: الهلاك ﴿أَهُشُّ﴾ أخبط بها الشجر ليسقط الورق ﴿مَآرِبُ﴾ جمع مأْربه وهي الحاجة ﴿جَنَاحِكَ﴾ الجناح: الجَنب وجناحا الإنسان جنباه لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر ﴿أَزْرِي﴾ الأزر: القوة يقال: آزره أي قوّاه ومنه ﴿فَآزَرَهُ فاستغلظ﴾ [الفتح: ٢٩] قال الشاعر:
أليس أبونا هاشمٌ شدَّ أَزْره وأوصى بَنيه بالطِّعان وبالضرب
﴿اليم﴾ البحر ﴿تَقَرَّ عَيْنُها﴾ تُسرَّ بلقائك.
التفسِير: ﴿طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى﴾ الحروف المقطعة للتنبيه إلى إعجاز القرآن وقال ابن عباس: معناها يا رجل، ومعنى الآية: ما أنزلنا عليك يا محمد القرآن لتشقى به إنما أنزلناه رحمة وسعادة، رُوي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما نزل عليه القرآن صلّى هو وأصحابه فأطال القيام فقالت
210
قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فنزلت هذه الآية ﴿إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى﴾ أي ما أنزلناه إلا عظة وتذكيراً لمن يخشى الله ويخاف عقابه، وهو المؤمنُ المستنير بنور القرآن ﴿تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى﴾ أي أنزله خالقُ الأرض، ومبدعُ الكون، ورافع السماوات الواسعة العالية، والآية إخبارٌ عن عظمته وجبروته وجلاله قال في البحر: ووصفُ السماوات بالعُلى دليلٌ على عظمة قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علُوِّها من غيره تعالى ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ أي ذلك الربُّ الموصوف بصفات الكمال والجمال هو الرحمن الذي استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله من غير تجسيمٍ، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل كما هو مذهب السلف ﴿لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى﴾ أي له سبحانه ما في الوجود كلِّه: السماواتُ السبعُ، والأرضون وما بينهما من المخلوقات وما تحت التراب من معادن ومكنونات، الكلُّ ملكُه وتحت تصرفه وقهره وسلطانه أي وإن تجهزْ يا محمد بالقول أو ﴿وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى﴾ تخفه في نفسك فسواءٌ عند ربك، فإنه يعلم السرَّ وما هو أخفى منه كالوسوسه والهاجس والخاطر.. والغرضُ من الآية طمأنينه قلبه عليه السلام بأن ربه معه يسمعه، ولن يتركه وحيداً يواجه الكافرين بلا والغرضُ من الآية طمأنينة قلبه عليه السلام بأن ربه معه يسمعه، ولن يتركه وحيداً يواجه الكافرين بلا سند فإذا كان يدعوه جهراً فإنه يعلم السرَّ وما هو أخفى، والقلب حين يستشعر قرب الله منه، وعلمه بسرَّه ونجواه يطمئن ويرضى ويأنس بهذا القرب الكريم ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى﴾ أي ربكم هو الله المتفرد بالوحدانية، لا معبود بحق سواه، ذو الأسماء الحسنة التي هي في غاية الحسن وفي الحديث
«إن للهِ تسعةٌ وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة» ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى﴾ الاستفهام للتقرير وغرضه التشويق لما يُلقى إليه أي هل بلغك يا محمد خبر موسى وقصته العجيبة الغريبة؟ ﴿إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً﴾ أي حين رأى ناراً فقال لامرأته أقيمي مكانك فإني أبصرتُ ناراً قال ابن عباس: هذا حين قضى الأجل وسار بأهله من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق وكانت ليلة مظلمة شاتية فجعل يقدح بالزناد فلا يخرج منها شَررٌ فبينما هو كذلك إذْ بصر بنارٍ من على يسار الطريق، فلما رآها ظنها ناراً وكانت من نور الله ﴿لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ﴾ أي لعلي آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها ﴿أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى﴾ أي أجد هادياً يدلني على الطريق ﴿فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ﴾ أي فلما أتى النار وجدها ناراً بيضاء تتّقد في شجرة خضراء وناداه ربُّه يا موسى: إني أنا
211
ربُّك الذي أكلمك فاخلع النعلين من قدميك رعايةً للأدب وأَقْبل ﴿إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى﴾ أي فإنك بالوادي المطهَّر المبارك المسمّى طوى ﴿وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى﴾ أي اصطفيتك للنبوة فاستمع لما أُوحيه إليك قال الرازي: فيه نهايةُ الهيبة والجلالة فكأنه قال: لقد جاءك أمر عظيم هائل فتأهبْ له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إليه ﴿إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني﴾ أي أنا الله المستحق للعبادة لا إله غيري فأفردني بالعبادة والتوحيد ﴿وَأَقِمِ الصلاة لذكري﴾ أي أقم الصلاة لتذكرني فيها قال مجاهد: إذا صلّى ذكر ربه لاشتمالها على الأذكار وقال الصاوي: خصَّ الصلاة بالذكر وإن كانت داخلةً في جملة العبادات لعظم شأنها، واحتوائها على الذكر، وشغل القلب واللسان والجوارح، فهي أفضل أركان الدين بعد التوحيد ﴿إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ أي إن الساعة قادمة وحاصلةٌ لا محالة أكاد أخفيها عن نفسي فكيف أطلعكم عليها؟ قال المبرَّد: وهذا على عادة العرب فإنهم يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء: كتمته حتى من نفسي أي لم أطلع عليه أحداً ﴿لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى﴾ أي لتنال كلُّ نفس جزاء ما عملت من خير أو شر قال المفسرون: والحكمة من إخفائها وإخفاء وقت الموت أن الله تعالى حكم بعدم قبول التوبة عند قيام الساعة وعند الاحتضار، فلو عرف الناس وقت الساعة أو وقت الموت، لاشتغلوا بالمعاصي ثم تابوا قبل ذلك، فيتخلصون من العقاب، ولكنَّ الله عمَّى الأمر، ليظلَّ الناس على حذر دائم، وعلى استعداد دائم، من أن تبغتهم الساعة أو يفاجئهم الموت ﴿فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا﴾ أي لا يصرفنَّك يا موسى عن التأهب للساعة والتصديق بها من لا يوقن بها ﴿واتبع هَوَاهُ﴾ أي مالَ مع الهوى وأقبل على اللذائذ والشهوات ولم يحسب حساباً لآخرته ﴿فتردى﴾ أي فتهلك فإن الغفلة عن الآخرة مستلزمة للهلاك ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى﴾ أي وما هذه التي بيمينك يا موسى؟ أليست عصا؟ والغرضُ من الاستفهام التقريرُ والإِيقاظُ والتنبيهُ إلى ما سيبدوا من عجائب صنع الله في الخشبة اليابسة بانقلابها إلى حية، لتظهر لموسى القدرة الباهرة، والمعجزة القاهرة قال ابن كثير: إنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي أمَا هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها؟ فسترى ما نصنع بها الآن؟ ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾ أي أعتمد عليها في حال المشي ﴿وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي﴾ أي أهزُّ بها الشجرة وأضرب بها على الأغصان ليتساقط ورقها فترعاه غنمي ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى﴾ أي ولي فيها مصالح ومنافع وحاجات أُخَر غير ذلك قال المفسرون: كان يكفي أن يقول هي عصاي ولكنه زاد في الجواب لأن المقام مباسطة وقد كان ربه يكلمه بلا واسطة، فأراد أن يزيد في الجواب ليزداد تلذذاً بالخطاب، وكلام الحبيب مريحٌ للنفس ومُذْهبٌ للعَناء ﴿قَالَ أَلْقِهَا ياموسى﴾ أي اطرح هذه العصا التي بيدك يا موسى لترى من شأنها ما ترى! ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى﴾ أي فلما ألقاها
212
صارت في الحال حية عظيمة تنتقل وتتحرك في غاية السرعة قال ابن عباس: انقلبت ثعباناً ذكراً يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيء خافه ونفر منه وولّى هارباً قال المفسرون: لما رأى هذا الأمر العجيب الهائل، لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف، لا سيما هذا الأمر الذي يذهب بالعقول، وإنما أظهر له هذه الآية وقت المناجاة تأنيساً له بهذه المعجزة الهائلة حتى لا يفزع إذا ألقاها عند فرعون لأنه يكون قد تدرَّب وتعوَّد ﴿قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ﴾ أي قال له ربه: خذْها يا موسى ولا تخفْ منه ﴿سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى﴾ أي سنعيدها إلى حالتها الأولى كما كانت عصا لا حيَّة، فأمسكها فعادت عصا ﴿واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء﴾ أي أدخل يدك تحت إِبطك صم أخرجاها تخرج نيِّرة مضيئة كضوء الشمس والقمر من غير عيب ولا برص قال ابن كثير: كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها تخرج تتلألأ كأنها فلقة القمر من غير برصٍ ولا أذى ﴿آيَةً أخرى﴾ أي معجزة ثانية غير العصا ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى﴾ أي لنريك بذلك بعض آياتنا العظيمة.
. أراه الله معجزتين «العصا، واليد» وهي ما أيَّده الله به من المعجزات الباهرة، ثم أمره أن يتوجه إلى فرعون رأس الكفر والطغيان ﴿اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى﴾ أي إذهب بما معك من الآيات إلى فرعون إِنه تكبَّر وتجبَّر وجاوز الحدِّ في الطغيان حتى ادَّعى الألوهية ﴿قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي﴾ أي وسِّعه ونوِّره بالإيمان والنُبوّة ﴿وَيَسِّرْ لي أَمْرِي﴾ أي سهّلْ عليَّ القيام بما كلفتني من أعباء الرسالة والدعوة ﴿واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي﴾ أي حلَّ هذه اللُّكنة الحاصلة في لساني حتى يفهموا كلامي قال المفسرون: عاش موسى في بيت فرعون فوضعه فرعون مرة في حِجْرهِ وهو صغير فجرَّ لحية فرعون بيده فهمَّ بقتله، فقالت له آسية: إنه لا يعقل وسأريك بيان ذلك، قدّمْ إليه جمرتين ولؤلؤتين، فإن أخذ اللؤلؤة عرفت أنه يعقل، وإن أخذ الجمرة عرفت أنه طفل لا يعقل، فقدَّم إليه فأخذ الجمرة فجعلها في فيه فكان في لسانه حَبْسة ﴿واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي﴾ أي اجعل لي معيناً يساعدني ويكون من أهلي وهو أخي هارون ﴿اشدد بِهِ أَزْرِي﴾ أي لتقوِّي به يا رب ظهري ﴿وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي﴾ أي أجعله شريكاً لي في النبوة وتبليغ الرسالة ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً﴾ أي كي نتعاون على تنزيهك عما لا يليق بك ونذكرك بالدعاء والثناء عليك ﴿إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً﴾ أي عالماً بأحوالنا لا يخفى عليك شيء من أفعالنا، طلب موسى من ربه أن يعينه بأخيه يشدُّ به أزره، لما يعلم منه من فصاحة اللسان، وثبات الجنَان، وأن يشركه معه في المهمة لما يعلم من طغيان فرعون وتكبره وجبروته ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى﴾ أي أُعطيت ما سألتَ وما طلبتَ، ثم ذكّر تعالى بالمنن العظام عليه ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى﴾ أي أنعمنا عليك يا موسى بمنَّة أخرى غير هذه المنة ﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى﴾ أي ألهمنا ما يُلهم ممّا كان سبباص في نجاتك ﴿أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم﴾ أي ألهمناها أن ألْقِ هذا لاطفل في الصندوق ثم اطرحيه في نهر النيل، ثم ماذا؟ ومن يتسلمه؟ ﴿فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ﴾ أي
213
يلقيه النهر على شاطئه ويأخذه فرعون عدوي وعدوُّه قال في البحر: ﴿فَلْيُلْقِهِ﴾ أمرٌ معناه الخبر جاء بصيغة الأمر مبالغة إِذْ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾ أي زرعتُ في القلوب محبتك بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك حتى أحبَّك فرعون قال ابن عباس: أحبَّه الله وحبَّبه إلى خلقه ﴿وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾ أي ولتُربى بعين الله بحفظي ورعايتي ﴿إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ﴾ أي حين تمشي أختك وتتَّبع أثرك فتقول لآل فرعون حين طلبوا لك المراض: هل أدلكم على من يضمن لكم حضانته ورضاعته؟ قال المفسرون: لمّا التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة لأن الله حرَّم عليه المراضع وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته أن تتَّبع خبره، فلما وصلت إلى بيت فرعون ورأته قالت: هل أدلكم على امرأة أمينة فاضلة تتعهد لكم رضاعٍ هذا الطفل؟ فطلبوا منها إحضارها فأتت بأم موسى فلما أخرجت ثديها التقمه ففرحت زوجة فرعون فرحاً شديداً وقالت لها: كوني معي القصر فقالت: لا أستطيع أن أترك بيتي وأولادي ولكنْ آخذه معي وآتي لك به كل حين فقالت نعم وأحسنت إليها غاية الإحسان فذلك قوله تعالى ﴿فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ﴾ أي رددناك إلى أمك لكي تُسرَّ بلقائك وتطمئن بسلامتك ونجاتك، ولكيلا تحزن على فراقك ﴿وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم﴾ أي قتلت القبطي حين أصبحت شاباً فنجيناك من غمّ القتل وصرفنا عنك شرَّ فرعون وزبانيته، وفي صحيح مسلم: وكان قتله خطأ ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾ أي ابتليناك ابتلاءً عظيماً بأنواعٍ من المِحن ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ أي مكثت سنين عديدة عند شعيب في أرض مدين ﴿ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى﴾ أي جئت على موعدٍ ووقت مقدر للرسالة والنبوة.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التشويق والحث على الإصغاء ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى﴾.
٢ - الإطناب ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي﴾ وكان يكفي أن يقول: هي عصاي ولكنه توسّع في الجواب تلذذاً بالخطاب.
٣ - الاستعارة التصريحية ﴿واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ﴾ أصل الجناح للطائر ثم استعير لجنب الإنسان لأن كل جنب في موضع الجناح للطائر فسميت الجهتان جناحين بطريق الاستعارة.
٤ - الاحتراس وهو عند علماء البيان أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد مثل قوله ﴿بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء﴾ فلو اقتصر على قوله ﴿بَيْضَآءَ﴾ لأوهم أن ذكل من بَرص أو بهَق ولذلك احترس بقوله ﴿مِنْ غَيْرِ سواء﴾.
٥ - الاستعارة التمثيلية ﴿وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾ تمثيل لشدة الرعاية وفرط الحفظ والكلاءة بمن يصنع بمرأى من الناظر لأن الحافظ للشيء في الغالب يديم النظر إليه فمثَّل لذلك على عين الآخر.
214
٦ - السجع الحسن الذي يزيد الكلام جمالاً وبهاءً في أواخر الآيات (فتشقى، يخشى، أخفى، تسعى) الخ.
فَائِدَة: قال العلماء: ما نفع أخ أخاه كما نفع موسى هارون فقد طلب له من ربه أن يجعله وزيراً له ويكرمه بالرسالة فاستجاب الله دعاءه وجعله نبياً مرسلاً.
تنبيه: ذكر تعالى بعض المنن على موسى وعدَّد منها ستاً:
المنة الأولى: إلهام أُمه صنع الصندوق وإلقاءه في النيل ليربّى في بيت فرعون ﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت﴾.
الثانية: إلقاء المحبة عليه من الله تعالى بحيث لا يراه أحد إلا أحبه ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾.
الثالثة: حفظ الله ورعايته له بالكلاءة والعناية ﴿وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾.
الرابعة: ردُّه إلى أمه مع الإنعام والإكرام ﴿فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها﴾.
الخامسة: إنجاء موسى من القتل بعد قتله القبطي و ﴿نَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم﴾.
السادسة: تكليم الله له بعد عودته من أرض مدين وتكليفه بالرسالة ﴿ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى﴾.
215
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى نعمته على موسى باستجابة دعائه وإعطائه سُؤْله، ذكر هنا ما خصَّه به من الاصطفاء والاجتباء، وأمره بالذهاب إلى فرعون مع أخيه هارون لتبليغه دعوة الله، ثم ذكر ما دار من الحوار بين موسى وفرعون وما كان من أمر السحرة وسجودهم لله ربْ العالمين.
اللغَة: ﴿اصطنعتك﴾ اصطفيتك واخترتك، وأصل الاصطناع: اتخاذ الصَّنيعة وهو الخير تُسْديه إلى إنسان ﴿تَنِيَا﴾ الونى: الضَّعف والفتور قال العجَّاج:
فما وَنى محمدٌ مُذْ أن غَفرْ له الإلهُ ما مضَى وما غَبَر
﴿يَفْرُطَ﴾ يتعجل ويبادر إلى عقوبتنا، ومنه الفارط الذي يتقدم القوم إلى الماء ﴿يُسْحِتَكُم﴾ يستأصلكم ويبيدكم وأصله استقصاء الحلق للشَّعْر قال الفرزدق:
وعضُّ زمانٍ يا ابن مروانَ لم يَدعْ من المال إلا مُسْحتٌ أو مجُلَّف
ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب، والسُّحت: المال الحرام لأنه يهلك الإنسان ويدمّره ﴿النجوى﴾ التناجي وهو الإسرار بالكلام ﴿أَوْجَسَ﴾ أضمر واستشعر الخوف في نفسه.
التفسِير: ﴿واصطنعتك لِنَفْسِي﴾ أي اخترتك لرسالتي ووحيي ﴿اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي﴾ أي اذهب مع هارون بحججي وبارهيني ومعجزاتي قال المفسرون: المراد بالآيات هنا اليد والعصا التي أيّد الله بها موسى ﴿وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾ أي لا تفترا وتقصِّرا في ذكر الله وتسبيحه قال ابن كثير: والمراد ألاّ يفترا عن ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له ﴿اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى﴾ أي تجبَّر وتكبَّر وبلغ النهاية في العتُو والطغيان ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً﴾ أي قولا لفرعون قولاً لطيفاً رفيقاً ﴿لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾ أي لعله يتذكر عظمة الله أو يخاف عقابه فيرتدع عن طغيانه {قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن
216
يطغى} أي قال موسى وهارون: يا ربنا إننا نخاف إن دعوناه إلى الإيمان أن يعجِّل علينا العقوبة، أو يجاوز الحدَّ في الإِساءة إلينا ﴿قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى﴾ أي لا تخافا من سطوته إنني معكما بالنصرة والعون أسمع جوابه لكما، وأرى ما يفعل بكما ﴿فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ﴾ أي إنا رسولان من عند ربك أرسلنا إِليك، وتخصيصُ الذكر بلفظ ﴿رَبِّكَ﴾ لإعلامه أنه مربوبٌ وعبدٌ مملوك لله إذْ كان يدَّعي الربوبية ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ﴾ أي أطلقْ سراح بين إسرائيل ولا تعذبهم بتكليفهم بالأعمال الشاقة ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ﴾ أي قد جئناك بمعجزة تدل على صدقنا ﴿والسلام على مَنِ اتبع الهدى﴾ أي والسلامة من عذاب الله لمن اهتدى وآمن قال المفسرون: لم يقصد به التحية لأنه ليس بابتداء الخطاب وإنما قصد به السلام من عذاب الله وسخطه ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى﴾ أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا أن العذاب الأليم على من كذَّب أنبياء الله وأعرض عن الإيمان ﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى﴾ أي قال فرعون: ومنْ هذا الربُّ الذي تدعوني إليه يا موسى؟ فإني لا أعرفه؟ ولم يقل: من ربّي لغاية عتوّه ونهاية طغيانه بل أضافه إلى موسى وهارون ﴿مَن رَّبُّكُمَا﴾ ﴿قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ أي ربُّنا هو الذي أبدع كل شيءٍ خَلقه ثم هداه لمنافعه ومصالحه، وهذا جوابٌ في غاية البلاغة والبيان لاختصاره ودلالته على جميع الموجودات بأسرها، فقد أعطى العين الهيئة التي تطابق الإِبصار، والأُذُن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك اليد والرجل والأنف واللسان قال الزمخشري: ولله درُّ هذا الجواب ما أخصره وأجمعه وأبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإِنصاف ﴿قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى﴾ أي ما حال من هلك من القرون الماضية؟ لِم لَمْ يُبعثوا ولم يُحاسبوا إن كان ما تقول حقاً؟ قال ابن كثير: لما أخبر موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدَّر فهدى، شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى كأنه يقول: ما بالهم إذْ كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربَّك بل عبدوا غيره؟ ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ﴾ أي قال موسى: علم أحوالها وأعمالها عند ربي مسطرٌ في اللوح المحفوظ ﴿لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى﴾ أي لا يخطئ ربي ولا يغيب عن علمه شيء منها.
. ثم شرع موسى يبيّن له الدلائل على وجود الله وآثار قدرته الباهرة فقال ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً﴾ أي جعل الأرض كالمهد تمتهدونها وتستقرون عليها رحمة بكم ﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً﴾ أي جعل لكم طُرقاً تسلكونها فها لقضاء مصالحكم ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ أي أنزل لكم السحاب المطرَ عذباً فراتاً ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شتى﴾ أي فأخرج بذلك الماء أنواعاً من النباتات المختلفة الطعم والشكل والرائحة كلُّ صنف منها زوج، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى المتكلم تنبيهاً على عظمة الله ﴿كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ﴾ أي كلوا من هذه النباتات والثمار واتركوا أنعامكم تسرح وترعى من الكلأ الذي أخرجه الله، والأمر للإباحة تذكيراً لهم بالنِّعم ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى﴾ أي إنَّ فيما ذُكر لعلامات واضحة لأصحاب العقول السليمة على وجود الله ووحدانيته ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ أي من الأرض خلقناكم أيها الناس وإليها تعودون بعد مماتكم فتصيرون تراباً {وَمِنْهَا
217
نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} أي ومن الأرض نخرجكم مرة أخرى للبعث والحساب.. ثم أخبر تعالى عن عتوٍّ فرعون وعناده فقال ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا﴾ أي والله لقد بصَّرنْا فرعون بالمعجزات الدالة على نبوّة موسى من العصا، واليد، والطوفان، والجرائد، وسائر الآيات التسع ﴿فَكَذَّبَ وأبى﴾ أي كذَّب بها مع وضوحها وزعم أنها سحر، وأبى الإيمان والطاعة لعتوِّه واستكباره ﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى﴾ أي قال فرعون: أجئتنا يا موسى بهذا السحر لتخرجنا من أرض مصر؟ ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ﴾ فلنعارضنَّك بسحرٍ مثل الذي جئت به ليظهر للناس أنك ساحر ولستَ برسول ﴿فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً﴾ أي عيِّنْ لنا وقت اجتماع ﴿لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى﴾ أي لا نخلف ذلك الوعد لا من جهتنا ولا من جهتك ويكون بمكان معيَّن ووقت معَّين ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى﴾ أي قال موسى: موعدنا للاجتماع يوم العيد - يومٌ من أيام أعيادهم - وأن يجتمع الناس في ضحى ذلك النهار قال المفسرون: وإنما عيَّن ذلك اليوم للمبارزة ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك في الأقطار بظهور معجزته للناس ﴿فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى﴾ أي انصرف فرعون فجمع السَّحرة ثم أتى الموعد ومعه السَّحرة وأدواتهم وما جمعه من كيد ليطفئ نور الله قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر منهم حبال وعصيّ ﴿قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ﴾ أي قال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون: ويلكم لا تختلقوا على الله الكذب فيهلككم ويستأصلكم بعذاب هائل ﴿وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى﴾ أي خسر وهلك من كذب على الله.
. قدَّم لهم النصح والإنذار لعلَّهم يثوبون إلى الهُدى، ولما سمع السَّحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعتْ في نفوسهم مهابته ولذلك تنازعوا في أمره ﴿فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النجوى﴾ أي أختلفوا في أمر موسى فقال بعضهم: ما هذا بقول ساحر وأخفوا ذلك عن الناس وأخذوا يتناجون سراً ﴿قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا﴾ أي قالوا بعد التناظر والتشاور ما هذان إلاّ ساحران يريدان الاستيلاء على أرض مصر وإخراجكم منها بهذا السحر ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى﴾ أي غرضُهما إفسادُ دينكم الذي أنتم عليه والذي هو أفضل المذاهب والأديان قال الزمخشري: والظاهر أنهم تشاوروا في السرِّ وتجاذبوا أهداب القول ثم قالوا ﴿إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ﴾ فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبة موسى وهارون لهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما ﴿فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً﴾ أي أحْكموا أمركم وأعزموا عليه ولا تتنازعوا وارموا عن قوسٍ واحدة، ثم ائتوا إلى الميدان مصطفين ليكون أهيب في صدور الناظرين ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى﴾ أي فاز اليوم من علا وغلب قال المفسرون: أرادوا بالفلاح ما وعدهم به فرعون من الإنعامات العظيمة والهدايا الجزيلة مع التقريب والتكريم كما قال تعالى ﴿قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين﴾ [الأعراف: ١١٣ - ١١٤] ﴿قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى﴾ أي
218
قال السحرة لموسى: إمَّا أن تبدأ أنتَ بالإلقاء أو نبدأ نحنُ؟ خيَّروه ثقةً منهم بالغلبة لموسى لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ أحداً لا يقاومهم في هذا الميدان ﴿قَالَ بَلْ أَلْقُواْ﴾ أي قال لهم موسى: بل ادءوا أنتم بالإلقاء قال أبو السعود: قال ذلك مقابلةً للأدب بأحسنَ من أدبهم حيث بتَّ القول بإلقائهم أولاً، وإظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم ليُبرزوا ما معهم، ويستفرغوا أقصى جهدهم وقصارى وسعهم، ثم يُظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى﴾ في الكلام حذفٌ دلَّ عليه المعنى أي فألقوا فإذا تلك الحبال والعصيُّ التي ألقوها يتخيلها موسى ونظنُّها - من عظمة السحر - أنها حياتٍ تتحرك وتسعى على بطونها، والتعبيرُ يوحي بعظمة السحر حتى إن موسى فزع منها واضطرب ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى﴾ أي أحسَّ موسى الخوف في نفسه بمقتضى الطبيعة البشرية لأنه رأى شيئاً هائلاً ﴿قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى﴾ أي قلنا لموسى لا تخفْ ممّا توهمت فإنك أنت الغالب المنتصر ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صنعوا﴾ أي ألقِ عصاك التي بيمينك تبتلعْ فمها ما صنعوه من السحر ﴿إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ﴾ أي إنَّ الذي اخترعوه وافتعلوه هو من باب الشعوذة والسحر ﴿وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى﴾ أي لا يسعد الساحر حيث كان ولا يفوز بمطلوبه لأنه كاذب مضلِّل ﴿فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى﴾ أي فألقى موسى عصاه فابتلعت ما صنعوا فخرَّ السحرة حينئذٍ سجداً لله ربّ العالمين لما رأوا من الآية الباهرة قال ابن كثير: لما ألقى موسى العصا صارت ثعباناً عظيماً هائلاً، ذا قوائم وعُنق ورأس وأضراس، فجعلت تتَّبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق شيئاً إلا ابتلعته، والناس ينظرون إلى ذلك عياناً نهاراً، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوا علموا علم اليقين أن هذا ليس من قبيل السحر والحيل وأنه حقٌّ لا مرية فيه، فعند ذلك وقعوا سجداً لله، فقامت المعجزة واتضح البرهان، ووقع الحق ولطل السحر، قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ﴾ أي قال فرعون للسحرة: آمنتم بموسى وصدقتموه بما جاء به قبل أن أسمح لكم بذلك وقبل أن تستأذنوني؟ ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر﴾ أي إنه رئيسكم الذي علَّمكم السحر فاتفقتم معه لتذهبوا بملكي قال القرطبي: وإنما أراد فرعون بقوله أن يُلبِّس على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، ثم توعَّدهم وهدَّدهم بالقتل والتعذيب فقال ﴿فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ﴾ أي فوالله لأقطعنَّ الأيدي والأرجل منكم مختلفات بقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى أو بالعكس ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ أي لأعلقنكم على جذوع النخل وأقتلنكم شرَّ قِتْلة ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى﴾ أي ولتعلمُنَّ أيها السحرة من هو أشدُّ منا عذاباًَ وأدوم، هل أنا أم ربُّ موسى الذي صدقتم به وآمنتم ﴿قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات﴾ أي قال السحرة: لن نختارك ونفضّلك على الهدى والإيمان الذي جاءنا من الله على يد موسى ولو كان في ذلك هلاكنا ﴿والذي فَطَرَنَا﴾ قسمْ بالله أي مقسمين بالله الِذي خلقنا {فاقض مَآ
219
أَنتَ قَاضٍ} أي فاصنع ما أنت صانع ﴿إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ﴾ أي إنما ينفذ أمرك في هذه الحياة الدنيا وهي فانية زائلة ورغبتنا في النعيم الخالد قال عكرمة: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة فلذلك قالوا ما قالوا ﴿إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا﴾ أي آمنا بالله ليغفر لنا الذنوب التي اقترفناها وما صدر منا من الكفر والمعاصي ﴿وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر﴾ أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه لإِطفاء نور الله ﴿والله خَيْرٌ وأبقى﴾ أي والله خيرٌ منك ثواباً وأبقى عذاباً، وهذا جوابُ قوله ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى﴾ ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ﴾ هذا من تتمة كلام السحرة عظةً لفرعون أي من يلقى ربه يوم القيامة وهو مجرمٌ باقترافه المعاصي وموته على الكفر، فإن له نار جهنم ﴿لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى﴾ أي لا يموت في جهنم فينقضي عذابه، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة ﴿وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات﴾ أي ومن يلقى ربه مؤمناً موحّداً وقد عمل الطاعات وترك المنهيات ﴿فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى﴾ أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات لهم المنازل الرفيعة عند الله ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ بيانٌ للدرجات العُلى أي جناتُ إقامة ذات الدرجات العاليات، والغُرف الآمنات، والمساكن الطيبات ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي تجري من تحت غرفها وسُرُرها أنهار الجنة من الخمر والعسل، واللَّبن، والماء
﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ [النساء: ٥٧] أي ماكثين في الجنة دوماً لا يخرجون منها أبداً ﴿وذلك جَزَآءُ مَن تزكى﴾ أي وذلك ثواب من تطهَّر من دنسْ الكفر والمعاصي، وفي الحديث «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس»
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة ﴿واصطنعتك لِنَفْسِي﴾ شبَّه ما خوَّله به من القرب والاصطفاء بحال من يراه الملك أهلاً للكرامة وقرب المنزلة لما فيه من الخلال الحميدة فيصطنعه لنفسه، ويختاره لخلَّته، ويصطفيه لأموره الجليلة واستعار لفظ اصطنع لذلك، ففيه استعارةً تبعية.
٢ - المقابلة اللطيفة ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ حيث قابل بين ﴿مِنْهَا﴾ و ﴿وَفِيهَا﴾ وبين الخلق والإعادة وهذا من المحسنات البديعية.
٣ - إيجاز حذف ﴿بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ﴾ أي فألقوا فإذا حبالهم حذف لدلالة المعنى عله ومثله ﴿فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً﴾ بعد قوله ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ حذف منه كلام طويل وهو فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا من السحر فاُلقي السحرة سجداً، وإنما حسن الحذف لدلالة المعنى عليه ويسمى إيجاز حذف.
٤ - الطباق بين ﴿يَمُوتُ.. يحيى﴾ وبين ﴿نُعِيدُ.. ونُخْرِجُ﴾.
٥ -
220
المقابلة بين ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً﴾ وبين ﴿وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات﴾ الخ والمقابلة هي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم يؤتى بما يقابل ذلك.
٦ - السجع الحسن غير المتكلف في مثل ﴿سُوًى، ضُحًى، افترى، يحيى، تزكى﴾ الخ.
٧ - المؤكدات ﴿إِنَّكَ أَنتَ الأعلى﴾ أكّد الخبر بعدة مؤكدات وهي ﴿إِنَّ﴾ المفيدة للتأكيد، وتكرير الضمير ﴿أَنتَ﴾ وتعريف الخبر ﴿الأعلى﴾ ولفظ العلو الدال على الغلبة، وصيغة التفضيل ﴿الأعلى﴾ ولله در التنزيل ما أبلغه وأروعه، وهذا من خصائص علم المعاني.
تنبيه: لم تذكر الآيات الكريمة أن فرعون فعل بالسحرة ما هدَّدهم به، وقد ذكر المفسرون أنه أنفذ فيهم وعيده فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم فماتوا على الإيمان ولهذا قال ابن عباس: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بَرَرة.
221
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن قصة موسى وفرعون، وتشير الآيات هنا إلى عناية الله تعالى بموسى وقومه، وإنجائهم وإهلاك عدوهم، وتذكّرهم بنعم الله العظمى ومنته الكبرى على بني إسرائيل، وما وصّاهم به من المحافظة على شكرها وتحذيرهم من التعرض لغضب الله بكفرها، ثم تذكر الآيات انتكاس بين إسرائيل بعبادتهم العجل، وقد طوى هنا ما فصَّل في آيات أخر.
اللغَة: ﴿دَرَكاً﴾ لَحاقاً مصدر أدركه إذا لحقه ﴿تَطْغَوْاْ﴾ الطغيان: مجاوزة الحدِّ إلى ما لا ينبغي ﴿هوى﴾ صار إلى الهاوية وهي قعر النار من هوى يهوي إذا سقط من علوِ إلى سفل ﴿بِمَلْكِنَا﴾ الملك: بفتح الميم وسكون اللام: الطاقةُ والقدرة ومعناه بأمرٍ كنا نملكه من جهتنا ﴿أَوْزَاراً﴾ أثقالاً ومنه سمي الذنب وزراً لأنه يثقل الإنسان ﴿خُوَارٌ﴾ الخُوار: صوت البقر ﴿يَبْنَؤُمَّ﴾ أي يا ابن أمي واللفظة تدل على الاستعطاف ﴿سَوَّلَتْ﴾ حسَّنت وزيَّنت.
التفسِير: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي﴾ أي أوحينا إلى موسى بعد أن تمادى فرعون في الطغيان أنْ سرْ ببني إسرائيل ليلاً من أرض مصر ﴿فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً﴾ أي اضرب البحر بعصاك ليصبح لهم طريقاً يابساً يمرون عليه ﴿لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى﴾ أي لا تخاف لحافاً من فرعون وجنوده، ولا تخشى الغرق في البحر ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ﴾ أي فلحقهم فرعون مع جنوده ليقتلهم فأصابهم من البحر ما أصابهم، وغشيهم من الأهوال ما لا يعلم كُنهه إلا الله، والتعبير يفيد التهويل لما دهاهم عند الغَرق ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى﴾ أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى خيرٍ ولا نجاة، وفيه تهكم بفرعون في قوله ﴿وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد﴾ [غافر: ٢٩] ﴿يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ﴾ خطابٌ لبين إسرائيل بعد خروجهم من البحر وإغراق فرعون وجنوده والمعنى اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي العظيمة عليكم حين نجيتكم من فرعون وقومه الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب ﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن﴾ أي وعدنا موسى للمناجاة وإنزال التوراة عليه جانب طور سيناء الأيمن، وإنما نسبت المواعدة إليهم لكون منفعتها راجعة إليهم إذْ في نزول التوراة صلاحُ دينهم ودنياهم ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى﴾ أي رزقناكم وأنتم في أرض التيه بالمنِّ وهو يشبه العسل، والسلوى وهو من أجود الطيور لحماً تفضلاً منا عليكم.. وفي هذا الترتيب غايةُ الحسن حيث بدأ بتذكيرهم بنعمة الإنجاء، ثم بالنعمة الدينية، ثم بالنعمة الدنيوية ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أي وقلنا لكم كلوا من الحلال اللذيذ الذي أنعمتُ به عليكم ﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي﴾ أي لا تحملنكم السعة والعافية على العصيان لأمري فينزل بكم عذابي ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى﴾ أي ومن ينزل عليه غضبي وعقابي فقد هلك وشقي ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى﴾ أي وإني لعظيم المغفرة لمن تاب من الشرك وحيُن إيمانه وعمله، ثم استقام على الهدى والإيمان، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة العصيان ببيان المخرج كيلا ييأس ﴿وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى﴾ أيْ أيُّ شيء عجَّل بك عن قومك يا موسى؟ قال الزمخشري: كان موسى قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور
222
على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه ﴿قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي﴾ أي قومي قريبون مني لم أتقدمهم إلا بشيء يسير وهم يأتون بعدي ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى﴾ أي وعجلتُ إلى الموضع الذي أمرتني بالمجيء إلأيه لتزداد رضىً عني.
. أعتذر موسى أولاً ثم بينَّ السبب في إ سراعه قبل قومه وهو الشوق إلى مناجاة الله ابتغاءً لرضى الله ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ﴾ أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم ﴿وَأَضَلَّهُمُ السامري﴾ أي وأوقعهم السامريُّ في الضلالة بسبب تزيينه لهم عبادة العجل، وكان السامري ساحراً منافقاً من قومٍ يعبدون البقر قال المفسرون: كان موسى حين جاء لمناجاة ربه قد استخلف على بني إسرائيل أخاه هارون، وأمره أن يتعهدهم بالإقامة على طاعة الله، وفي أثناء غيبة موسى جمع السامريُّ الحليَّ ثم صنع منها عجلاً ودعاهم إلى عبادته فعكفوا عليه وكانت تلك الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى من عندهم بعشرين يوماً ﴿فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً﴾ أي رجع موسى من الطور بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة عضبان شديد الحزن على ما صنع قومه من عبادة العجل ﴿قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً﴾ أي ألم يعدْكم بإنزال التوراة فيها الهدى والنور؟ والاستفهام للتوبيخ ﴿أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي﴾ أي هل طال عليكم الزمن حتى نسيتم العهد أم أردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم سخط الله وفضبه فأخلفتم وعدي؟ قال أبو حيان: وكانوا وعدوه بأن يتمسكوا بدين الله وسنّة موسى عليه السلام، ولا يخالفوا أمر الله أبداً، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل ﴿قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا﴾ أي ما أخلفنا العهد بطاقتنا وإرادتنا واختيارنا بل كنا مكرهين ﴿ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم فَقَذَفْنَاهَا﴾ أي حملنا أثقالاً وأحمالاً من حُليِّ آل فرعون فطرحناها في النار بأمر السامري قال مجاهد: أوزاراً: أثقالاً وهي الحلي التي استعاروها من آل فرعون ﴿فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري﴾ أي كذلك فعل السامري ألقى ما كان معه من حلي القوم في النار قال المفسرون: كان بنو إسرائيل قد استعاروا من القبط الحُليّ قبل خروجهم من مصر، فلما أبطأ موسى في العودة إليهم قال لهم السامري: إنما احتُبس عليكم لأجل ما عندكم من الحلي فجمعوه ودفعوه إلى السامري، فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألفى عليه قبضةً من أثر فرس جبريل عليه السلام فجعل يخور فذلك قوله تعالى ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ﴾ أي صاغ لهم السامري من تلك الحليّ المذابة عجلاً جسداً بلا روح له خوارٌ وهو صوت البقر ﴿فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ﴾ أي هذا العجل إلأهكم وإله موسى فنسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في الطور، قال قتادة: نسي موسى ربه عندكم، فعكفوا عليه يعبدونه، قال تعالى رداً عليهم وبياناً لسخافة عقولهم في عبادة العجل ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾ أي
223
أفلا يعلمون أن العجل لاذي زعموا أنه إلههم لا يردُّ لهم جواباً، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضراً أو يجلب لهم نفعاً فكيف يكون إلهاً؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ﴾ أي قال لهم هارون ناصحاً ومذكراً من قبل رجوع موسى إليهم: إنما ابْتُليتُم وأُضللتم بهذا العجل ﴿وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي﴾ أي وإنَّ ربكم المستحقَّ للعبادة هو الرحمن لا العجل، فاقتدوا بي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله، وأطيعوا أمري بترك عبادة العجل ﴿قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى﴾ أي قالوا لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يعود إلينا موسى فنظر في الأمر ﴿قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ﴾ ؟ في الكلام حذفٌ أي فلما رجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل امتلأ غضباً لله وأخذ برأس أخيه هارون يجره إليه وقال له: أيُّ شيء منعك حين رأيتهم كفروا بالله أن لا تتبعني في الغضب لله والإنكار عليهم والزجر لهم عن ذلك الضلال؟ ﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ أي أخالفتني وتركت أمري ووصيتي؟ قال المفسرون: وأمرهُ هو ما كان أوصاه به فيما حكاه تعالى عنه
﴿وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين﴾ [الأعراف: ١٤٢] ﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي﴾ أي قال له هارون استعطافاً وترقيقاً: يا ابن أمي - أي يا أخي - لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي قال ابن عباس: أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله من شدة غيظه وفرط غضبه لأن الغيْرة في الله ملكتْه ﴿إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ﴾ أي إني خفت إن زجرتُهم بالقوة أن يقع قتالٌ بينهم فتلومني على ذلك وتقول لي: لقد أشعلتَ الفتنة بينهم ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ أي لم تنتظرْ أمري فيهم، فمن أجل ذلك رأيتُ ألاّ أفعل شيئاً حتى ترجع إليهم لتتدارك الأمر بنفسك قال ابن عباس: وكان هارون هائباً مطيعاً له ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري﴾ أي ما شأنك فيما صنعت؟ وما الذي حملك عليه يا سامري؟ ﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ﴾ أي قال السامريُّ: رأيتُ ما لم يروه وهو أن جبريل جاءك على فرس الحياة فأُلقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضة فما ألقيتُه على شيءٍ إلا دبَّت فيه الحياة ﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول فَنَبَذْتُهَا﴾ أي قبضت شيئاً من أثر فرس جبريل فطرحتها على العجل فكان له خوار ﴿وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ أي وكذلك حسَّنتْ وزيَّنتْ لي نفسي ﴿قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ﴾ أي قال موسى للسامريّ: عقوبتك في الدنيا ألاّ تمسَّ أحداً ولا يمسَّك أحد قال الحسن: جعل الله عقوبة السامري ألا يماسَّ الناسَ ولا يمسّوه عقوبة له في الدنيا وكأنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ شدَّّد عليه المحنة ﴿وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ﴾ أي وإنَّ لك موعداً للعذاب في
224
الآخرة لن يتخلَّف ﴿وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً﴾ أي انظر إلى هذا العجل الذي أقمت ملازماً على عبادته ﴿لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً﴾ أي لنحرقنَّه بالنار ثم لنطيرنَّه رماداً في البحر لا يبقى منه عين ولا أثر ﴿إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي يقول موسى لبني إسرائيل: إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله الذي لا ربَّ سواه ﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ أي وسع علمه كلَّ شيء فلا يخفى عله شيء في الأرض ولا في السماء.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - التهويل ﴿فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ﴾.
٢ - الطباق بين ﴿وَأَضَلَّ.. وَمَا هدى﴾.
٣ - الاستعارة ﴿فَقَدْ هوى﴾ استعار لفظ الهوي وهو السقوط من عُلوٍ إلى سُفل للهلاك والدمار.
٤ - صيغة المبالغة ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ﴾ أي كثير المغفرة للذنوب.
٥ - الطباق ﴿ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾.
٦ - الايجاز بالحذف في مواطن عديدة بيناها في التفسير.
٧ - السجع الحسن غير المتكلف مثل ﴿أَمْرِي، قَوْلِي، نَفْسِي﴾ و ﴿نَفْعاً، عِلْماً، نَسْفاً﴾ الخ.
تنبيه: إنما عبد بنو إسرائيل العجل بسبب فتنة السامريّ وقد كانت بذور الوثنية راسخة في قلوبهم ولذلك لما نجَّاهم الله من طغيان فرعون طلبوا من موسى أن يصنع لهم تمثالاً ليعبدوه كما قال تعالى ﴿وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٣٨] فلا عجب إذاً أن يعكفوا على عبادة عجل من ذهب له خوار!!
225
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﱿ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ
المنَاسَبَة: لما ذكر تعلى قصة موسى بالتفصيل، أعقبها بذكر أنَّ هذا القصص وحيٌ من الله، وأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما كان له علم بهذه الأخبار والأنباء العجيبة لولا أن الله تعالى أوحى إليه، وذلك من أكبر الدلائل والبراهين على صدق الرسالة.
اللغَة: ﴿قَاعاً﴾ القاع: الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا بناء ﴿صَفْصَفاً﴾ الصَّفصفُ: المستوي من الأرض كأنه على صفٍّ واحد في استوائه ﴿أَمْتاً﴾ الأمْت: المكان المرتفع كالتلّ والهضبة ﴿هَمْساً﴾ صوتاً خفياً ﴿عَنَتِ﴾ ذلَّت وخضعت قال أميّة: «لعزَّته تعنو الوجوه وتسجد» قال الجوهري: عنا يعنو خضع وذلَّ وأعناه غيره ومنه الآية ﴿وَعَنَتِ الوجوه﴾ ﴿هَضْماً﴾ الهضم: النقص يقال: هضمه خقه إذا أنقصه والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم المنع من الحق كله، والهضمُ المنع من بعضه ﴿تضحى﴾ ضحى للشمس برز لها حتى يصيبه حرُّها قال ابن أبي ربيعة:
226
رأتْ رجلاً ايماً إذا الشمسُ عارضتْ فيَضْحى وأمَّا بالعشيِّ فينحصر
﴿ضَنكاً﴾ الضَّنْك: الضيق والشدة يقال: منزلٌ ضنْك وعيشٌ ضنْك إذا كان شديداً ضيقاً ﴿سَوْءَاتُهُمَا﴾ عوارتهما ﴿فَتَرَبَّصُواْ﴾ انتظروا ﴿الصراط السوي﴾ الطريق المستقيم.
التفسِير: ﴿كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ﴾ أي كما قصصنا عليك يا محمد خبر موسى مع فرعون زما فيه من الأنباء الغريبة كذلك نقص عليك أخبار الأمم المتقدمين ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً﴾ أي أعطيناك من عندنا قرآناً يتلى منطوياً على المعجزات الباهرة قال في البحر: امتن تعالى عليه بإتيانه الذكر المشتمل على القصص والأخبار، الدال على معجزات أُوتيها عليه السلام ﴿مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً﴾ أي من أعرض عن هذا القرآن فلم يؤمن به ولم يتَّبع ما فيه، فإنه يحمل يوم القيامة حملاً ثقيلاً، وذنباً عظيماً يثقله في جهنم ﴿خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً﴾ أي مقيمين في ذلك العذاب بأوزارهم، وبئس ذلك الحمل الثقيل حملاً لهم، شُبِّه الوزرُ بالحمل لثقله ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً﴾ أي يوم ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية، ونحشر المجرمين إلى أرض المحشر زُرق العيون سود الوجوه قال القرطبي: تُشوه خلقتُهم بزرقة العيون وسواد الوجوه ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً﴾ أي يتهامسون بينهم ويسرُّ بعضهم إلى بعض قائلين: ما مكثتم في الدنيا إلا عشر ليال قال أبو السعود: استقصروا مدة لبثهم فيها لما عاينوا الشدائد والأهوال ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً﴾ أي نحن أعلم بما يتناجون بينهم إذ يقول أعقلهم وأعدلهم قولاً ما لبثتم إلا يوماً واحداً ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ أي ويسألونك عن حال الجبال يوم القيامة فقل لهم: إن ربي يفتِّتها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فيطيّرها ﴿فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً﴾ أي فيتركها أرضاً ملساء مستوية لا نبات فيها ولا بناء ﴿لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً﴾ أي لا ترى فيها انخفاضاً ولا ارتفاعاً ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ﴾ أي في ذلك اليوم العصيب يتَّبع الناس داعي الله الذي يدعوهم لأرض المحشر يأتونه سراعاً لا يزيغون عنه ولا ينحرفون ﴿وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن﴾ أي ذلك وسكنت أصوات الخلائق هيبةً من الرحمن جل وعلا ﴿فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً﴾ أي لا تسمع إلا صوتاً خفياً لا يكاد يُسمع وعن ابن عباس: هو همسُ الأقدام في مشيها نحو المحشر ﴿يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ أي في ذلك اليوم الرهيب لا تنفع الشفاعة أحداً إلاّ لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، ورضي لأجله شفاعة الشافع، وهو الذي كان في الدنيا من أهل لا إله إلا الله، قاله ابن عباس ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي يعلم أحوال الخلائق فلا تخفى عليه خافية من أمور الدنيا وأمور الآخرة ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾ أي لا تحيط علومهم بمعلوماته جل وعلا ﴿وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم﴾ أي ذلت وخضعتْ وجوه الخلائق للواحد
227
القهار جبار السماوات والأرض الذي لا يموت قال الزمخشري: المراد بالوجوه وجوهُ العصاة وأنهم إذا عاينوا يوم القيامة الخبية والشقوة وسوء الحساب، صارت وجوهُهم عانيةً أي ذليلة خاضعة مثل وجوه العُناة وهم الأسارى كقوله
﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ﴾ [الملك: ٢٧] ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾ أي خسر من أشرك بالله، ولم ينجح ولا ظفر بمطلوبه ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي من قدَّم الأعمال الصالحة بشرط الإيمان ﴿فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً﴾ أي فلا يخاف ظلماً بزيادة سيئاته، ولا بخساً ونقصاً لحسناته ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ أي مثل إنزال الآيات المشتملة على القصص العجيبة أنزلنا هذا الكتاب عليك يا محمد بلغة العرب ليعرفوا أنه في الفصاحة والبلاغة خارج عن طوق البشر ﴿وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد﴾ أي كررنا فيه الإنذار والوعيد ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً﴾ أي كي يتقوا الكفر والمعاصي أو يحدث لهم موعظة في القلوب ينشأ عنها امتثال الأوامر واجتناب النواهي ﴿فتعالى الله الملك الحق﴾ أي جلَّ الله وتقدَّس الملك الحق الذي قهر سلطانه كل جبار عمّا يصفه به المشركون من خلقه ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ أي إذا أقراك جبريل القرآن فلا تتعجل بالقراءة معه، بل استمعْ إليهِ واصبر حتى يفرغَ من تلاوته وحينئذٍ تقرأه أنت قال ابن عباس: كان عليه السلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً على حفظ القرآن ومخافة النسيان فنهاه الله عن ذكل قال القرطبي: وهذا كقوله تعالى
﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ [القيامة: ١٦] ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ أي سلْ الله عَزَّ وَجَلَّ زيادة العلم النافع قال الطبري: أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ﴾ أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة من القديم ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ أي نسي أمرنا ولم نجد له حزماً وصبراص عمّا نهيناه عنه ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى﴾ يذكر تعالى تشريف آدم وتكريمه وما فضله به على كثير من الخلق أي واذكر يا محمد حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تحيةٍ وتكريم فامتثلوا الأمر إلا إبليس فإنه أبى السجود وعصى أمر ربه قال الصاوي: كررت هذه القصة في سبع سور من القرآن تعليماً للعباد امتثال الأوامر، واجتناب النواهي وتذكيراً لهم بعداوة إبليس لأبيهم آدم ﴿فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ﴾ أي ونبهنا آدم فقلنا له إن إبليس شديد العداوة لك ولحواء ﴿فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى﴾ أي لا تطيعاه فيكون سبباً لإخراجكما من الجنة فتشقيان، وإنما اقتصر على شقائه مراعاةُ للفواصل ولاستلزام شقائه لشقائها قال ابن كثير: المعنى إيّاك أن تسعى ف إخراجك من الجنة فتتعب وتشقى في طلب رزقك، فإنك هاهنا في عيشٍ رغيدٍ، بلا كلفةٍ ولا مشقة ﴿إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى﴾ أي إنَّ لك يا آدم ألاَّ ينالك في الجنة الجوعُ ولا العريُ ﴿وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى﴾ أي ولك أيضاً ألاّ يصيبك العطش فيها ولا حر الشمس، لأن الجنة دار السرور والحبور، لا تعب فيها ولا نصب، ولا حر ولا ظمأ بخلاف دار الدنيا ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان﴾ أي حدَّثه خفيةً بطريق الوسوسة {قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ
228
يبلى} أي قال له إبليس اللعين: هل أدلك يا آدم على شجرة من أكل منها خُلّد ولم يمت أصلاً، ونال المُلك الدائم الذي لا يزول أبداً؟ وهذه مكيدة ظاهرها النصيحة ومتى كان اللعين ناصحاً؟ ﴿فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا﴾ أي أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها فظهرت لهما عوراتهما قال ابن عباس: عريا عن النور الذي كان الله تعالى قد ألبسهما إياه حتى بدت فروجهما ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة﴾ أي شرعا يأخذان من أوراق الجنة ويغطيان بها عوراتهما ليستترا بها ﴿وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى﴾ أي خالف آدم أمر ربه بالأكل من الشجرة فضلَّ عن المطلوب الذي هو الخلود في الجنة حيث اغتر بقول العدوّ قال ابن السعود: وفي وصفه بالعصيان والغِواية - مع صغر زلته - تعظيمٌ لها وزجرٌ بليغ لأولاده عن أمثالها ﴿ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى﴾ أي ثم اصطفاه ربه فقرَّبه إليه وقبل توبته وهداه إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب الطاعة ﴿قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ أي قال الله لآدم وحواء: إنزلا من الجنة إلى الأرض مجتمعين بعضُ ذريتكما لبعض عدوٌّ بسبب الكسب والمعاش واختلاف الطبائع والرغبات قال الزمخشري: لما كان آدم وحواء أصلي البشر جُعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ أي فإن جاءكم من جهتي الكتب والرسل لهدايتكم ﴿فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى﴾ أي فمن تمسَّك بشريعتي واتَّبع رسلي فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن با فيه ألاّ يضلَّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة وتلا الآية ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾ أي ومن أعرض عن أمري وما أنزلته على رسلي من الشرائع والأحكام فإن له في الدنيا معيشة قاسيةً شديدة وإن تنعَّم ظاهره ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى﴾ أي ونحشره في الآخرة أعمى البصر قال ابن كثير: من أعرض عن أمر الله وتناساه فإن له حياة ضنكاً في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيِّقٌ حرج لضلالة وإن تنعَّم ظاهره ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه في قلقٍ وحيرة وشك، وقيل: يُضيَّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعة فيه ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً﴾ أي قال الكافر: يا رب بأي ذنبٍ عاقبتني بالعمى وقد كنت في الدنيا بصيراً؟ ﴿قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى﴾ أي قال الله تعالى له: لقد أتتك آياتنا وضحة جلية فتعاميتَ عنها وتركتها، وكذلك تُترك اليوم في العذاب جزاءً وفاقاً ﴿وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾ أي ومثل ذلك الجزاء الموافق للخيانة والتكذيب بآيات الله نعاقب من أسرف بالانهماك في الشهوات، ولم يصدّق بكلام ربه وآياته البينات ﴿وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى﴾ أي عذاب جهنم أشدُّ من عذاب الدنيا لأنَّ عذابها أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع ولا ينقضي ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون﴾ أي أفلم يتبيَّن لكفار مكة الذين كذبوك كم أهلكنا قبلهم من الأمم الخالية المكذبين لرسلهم ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ أي يرون مساكن عاد وثمود ويعانون آثار هلاكهم أفلا يتعظون ويعتبرون؟ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى﴾ أي إنَّ
229
في آثار هذه الأمم البائدة لدلالات وعِبراً لذوي العقول السليمة ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ أي لولا قضاءُ الله بتأخير العذاب عنهم ووقتٌ مسمى لهلاكهم لكان العذاب واقعاً بهم قال الفراء: في الآية تقديم وتأخيرٌ والمعنى ولولا كلمةٌ وأجلٌ مسمَّى لكان لزاماً أي لكان العذاب لازماً لهم، وإنما أخَّره لتعتدل رءوس الآي ﴿فاصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ أي فاصبر يا محمد على ما تقول هؤلاء المكذبون من قومك ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ أي صلٌ وأنت حامد لربك قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر ﴿وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار﴾ أي وصلِّ لربك في ساعات الليل وفي أول النهار وآخره ﴿لَعَلَّكَ ترضى﴾ أي لعلَّك تُعطى ما يرضيك قال القرطبي: أكثر المفسرين أن هذه الآية إشارة إلى الصلوات الخمس ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشمس﴾ صلاة الصبح ﴿وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ صلاة العصر ﴿وَمِنْ آنَآءِ الليل﴾ صلاة العشاء ﴿وَأَطْرَافَ النهار﴾ صلاة المغرب والظهر، لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وغروب الشمس آخر طرف النهار الأخير ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ﴾ أي لا تنظر إلى ما متعنا به أصنافاً من الكفار من نعيم الدنيا وبهرجها الخادع ﴿زَهْرَةَ الحياة الدنيا﴾ أي زينة الحياة الدنيا ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ أي لنبتليهم ونختبرهم بهذا النعيم حتى يستوجبوا العذاب بكفرهم ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى﴾ أي ثواب الله خير من هذا النعيم الفاني وأدوم قال المفسرون: الخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد به أُمته لأنه عليه السلام كان أزهد الناس في الدنيا وأشدَّ رغبة فيما عند الله ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا﴾ أي وأُمر يا محمد أهلك وأمتك بالصلاة واصبر على أدائها بخشوعها وآدابها ﴿لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ﴾ أي لا نكلفك أن ترزق نفسك وأهلك بل نحن نتكفل برزقك وإياهم ﴿والعاقبة للتقوى﴾ أي العاقبة الحميدة لأهل التقوى قال ابن كثير: أي حسن العاقبة وهي الجنة لمن اتقى الله ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي قال المشركون هلاّ يأتينا بمعجزة تدل على صدقه؟ ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى﴾ أي أولم يكتفوا بالقرآن المعجزة الكبرى لمحمد عليه السلام المحتوي على أخبار الأمم الماضية؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع قال في البحر: اقترح المشركون ما يختارون على ديدنهم في التعنت فأجيبوا بأن هذا القرآن الذي سبق التبشير به في الكت الإلهية السابقة أعظم الآيات في الإعجاز وهو الآية الباقية إلى يوم القيامة ﴿وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ﴾ أي لو أنا أهلكنا كفار مكة من قبل نزول القرآن وبعثة محمد عليه السلام ﴿لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ أي لقالوا يا ربنا هلاّ أرسلت إلينا رسولاً حتى نؤمن به ونتَّبعه ﴿فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى﴾ أي فنتمسك بآياتك من قبل أن نذلّ بالعذاب ونفتضح على رءوس الأشهاد قال المفسرون: أراد تعالى أن يبيّن أنه لا حجة لأحد على الله بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب فلم يترك لهم حجة ولا عذراً ﴿قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين كلٌ منا ومنكم منتظر دوائر الزمان ولمن يكون النصر ﴿فَتَرَبَّصُواْ﴾ أمر تهديد أي فانتظروا العاقبة والنتيجة {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ
230
أَصْحَابُ الصراط السوي} أي فستعلمون عن قريب من هم أصحاب الطريق المستقيم هل نحن أم أنتم؟ ﴿وَمَنِ اهتدى﴾ أي اهتدى إلى الحق وسبيل الرشاد ومن بقي على الضلال قال القرطبي: وفي هذا ضربٌ من الوعيد والتخويف والتهديد ختمت به السورة الكريمة.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه الفصاحة والبيان والبديع ما يلي:
١ - التشبيه ﴿كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ وهو تشبيه مرسل مجمل.
٢ - الاستعارة ﴿وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً﴾ شبَّه الوزر بالحمل الثقيل بطريق الاستعارة التصريحية.
٣ - الكناية ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ كناية عن أمر الدنيا وأمر الآخرة.
٤ - الطباق بين ﴿أعمى.. بَصِيراً﴾.
٥ - التشبيه التمثيلي ﴿زَهْرَةَ الحياة الدنيا﴾ مثَّل لنعم الدنيا بالزهر وهو النور لأن الزهر له منظر حسن ثم يذبل ويضمحل وكذلك نعيم الدنيا.
٦ - الوعيد والتهديد ﴿فَتَرَبَّصُواْ﴾.
٧ - جناس الاشتقاق ﴿أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾.
٨ - السجع اللطيف غير المتكلف مثل ﴿ظُلْماً، هَضْماً، عِلْماً،﴾ ومثل ﴿تشقى، تعرى، ترضى﴾ الخ....
لطيفَة: قال الناصر: في الآية سرٌ بديع من البلاغة يسمى قطع النظير عن النظر، وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة مع ما بينهما من التناسب، الغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها، ولو قرن كلاً بشكله لتوهم أن المعدودات نعمة واحدة، على أن في الآية سراً آخر وهو قصد تناسب الفواصل، ولو قرن الظمأ بالجوع لانتثر سلك رءوس الآي.
فَائِدَة: قال الشهاب: ليس المراد بحكاية قول من قال ﴿عَشْراً﴾ أو ﴿يَوْماً﴾ أو ﴿سَاعَةً﴾ حقيقة اختلافهم في مدة اللبث، ولا الشك في تعيينه، بل المراد أنه لسرعة زواله عبرَّر عن قلته بما ذكر، فتفنن في الحكاية وأُتى في كل مقام بما يليق به.
231
Icon