تفسير سورة طه

الدر المصون
تفسير سورة سورة طه من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قد تقدَّم الكلامُ في الحروفِ المُقَطَّعةِ أولَ هذا الموضوعِ، و «طه» مِنْ ذاك، هذا هو الصحيح. وقيل: إنَّ معنى «طه» يا رجلُ في لغةِ عَك، وقيل: عُكْل، وقيل: هي لغة يمانية. وحكى الكلبي أنك لو قلتَ في عَكّ: يا رجلُ، لم يُجِبْ حتى تقولَ: طه.
وقال الطبري: «طه في عَكّ بمعنى: يا رجلُ»، وأنشدَ قولَ شاعرهم:
5
وقول آخر:
٣٢٦٩ - دَعَوْتُ بِطهَ في القتالِ فلم يُجِبْ فَخِفْتُ عليهِ أَنْ يكونَ مُوائِلا
٣٢٧٠ - إنَّ السَّفاهةَ طه في خلائِقِكمْ لا قَدَّسَ اللهُ أرواحَ المَلاعينِ
قال الزمخشري: «وأثرُ الصَّنْعَةِ ظاهرٌ في البيت المستشهدِ به» فذكره، وقال السدي: «معناه: يا فلانُ». وقال الزمخشري أيضاً: «ولعل عَكَّاً تَصَرَّفوا في» يا هذا «، كأنهم في لغتهم قالبون الياءَ طاءً، فقالوا: في يا: طا، واختصروا» هذا «فاقتصورا على» ها «. يعني فكأنه قيل في الآية الكريمة: يا هذا. وفيه بُعدٌ كبيرٌ.
قال الشيخ:»
ثم تَخَرَّص وحَزَرَ على عَك ما لم يَقُلْه نحويٌّ: وهو أنهم يقلبون يا التي للنداء طاءً، ويحذفون اسم الإِشارة ويقتصرون منه على «ها» التي للتنبيه «. قلت: وهذا وإن كان قريباً مما قاله عنه إلاَّ أنه أنحى عليه في عبارته بقوله» تَخَرَّص «.
وقيل:»
طه «أصلُه طَأْها بهمزة» طَأْ «أمراً مِنْ وَطِىء يَطَأُ، و» ها «ضميرُ مفعولٍ يعودُ على الأرض، ثم أبدل الهمزَة لسكونها ألفاً، ولم يَحْذِفْها في الأمرِ نظراً إلى أصلها أي: طَأ الأرضَ بقدمَيْكَ. وقد جاء في التفسير:» أنه قام حتى تَوَرَّمَتْ قدماه «.
6
وقرأ الحسنُ وعكرمةُ وأبو حنيفةَ وورشٌ في اختياره/ بإسقاطِ الألفِ بعد الطاء، وهاءٍ ساكنة. وفيها وجهان، أحدهما: أنَّ الأصلَ» طَأْ «بالهمز أمراً أيضاً مِنْ وَطِىء يَطَأُ، ثم أبدلَ الهمزةَ هاءً كإبدالهم لها في» هَرَقْتُ «و» هَرَحْتُ «و» هَبَرْتُ «. والأصلُ: أَرَقْتُ وأَرَحْتُ وأَبَرْت. والثاني: أنه أبدل الهمزةَ ألفاً، كأنه أَخَذه مِنْ وَطِي يَطا بالبدل كقوله:
٣٢٧١ -........................ ........... لا هَنَاكِ المَرْتَعُ
ثم حَذَفَ الألفَ حَمْلاً للأمرِ على المجزومِ وتناسِياً لأصل الهمز ثم ألحق هاءَ السكتِ، وأجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. وقد تقدَّم في أولِ يونس الكلامُ على إمالةِ طا وها فأغنى عن أعادتِه هنا.
7
قوله: ﴿أَنَزَلْنَا﴾ : هذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ طلحةُ «ما نُزِّلَ» مبنياً للمفعول، «القرآنُ» رُفِعَ لقيامه مَقامَ فاعلِه.
وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً إِنْ جُعِلت «طه» تعديداً لأسماءِ الحروفِ، ويجوز أن تكونَ خبراً ل طه إنْ جَعَلْتَها اسماً للسورة ويكون القرآنُ ظاهراً واقعاً موقعَ المضمرِ؛ لأنَّ طه قرآنٌ أيضاً، ويجوز أن تكونَ جوابَ قسمٍ، إنْ جَعَلْتَ طه مُقْسَماً به، وقد تقدَّم تفصيلُ القول في هذا.
قوله: ﴿إِلاَّ تَذْكِرَةً﴾ : في نصبه أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ مفعولاً من أجله. والعاملُ فيه فِعْلُ الإِنزال، وكذلك «تَشْقَى» علةٌ له أيضاً، ووجبَ مجيءُ الأولِ مع اللام لأنه ليس لفاعلِ الفعلِ المُعَلَّل، ففاتَتْه شريطةُ الانتصابِ على المفعولية، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط. هذا كلام الزمخشري، ثم قال: «فإن قلتَ:» هل يجوزُ أن تقولَ: ما أَنْزَلْنا، أن تَشقى كقوله ﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾ [الحجرات: ٢] ؟ قلت: بلى ولكنها نصبةٌ طارئة كالنصبةِ في ﴿واختار موسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] وأما النصبةُ في «تَذْكِرةً» فهي كالتي في «ضَرَبْت زيداً» لأنه أحدُ المفاعيلِ الخمسةِ التي هي أصولٌ وقوانينُ لغيرِها «.
قلت: قد منع أبو البقاء أن تكونَ»
تَذْكرةً «مفعولاً له لأَنْزَلْنا المذكورةِ، لأنها قد تعدَّتْ إلى مفعولٍ له وهو» لتشقى «فلا تتعدى إلى آخرَ مِنْ جنسِه. وهذا المنعُ ليس بشيءٍ؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُعَلَّلَ الفعلُ بعلتين فأكثرَ، وإنما هذا بناءً منه على أنه لا يُفضِي العاملُ من هذه الفَضَلاتِ إلاَّ شيئاً واحداً، إلاَّ بالبدلية أو العطف.
الثاني: أن تكونَ»
تذكرة «بدلاً مِنْ محلِّ» لتَشْقَى «وهو رأيُ الزجاج، وتبعه ابنُ عطية، واستبعده أبو جعفر، ورَدَّه الفارسيُّ بأنَّ التذكرةَ ليسَتْ
8
بشقاءٍ. وهو ردٌّ واضحٌ. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا فقال:» فإنْ قلتَ: هل يجوزُ أن تكونَ «تذكرةً» بدلاً مِنْ محلِّ «لِتشْقى» ؟ قلت: لا؛ لاختلافِ الجنسينِ ولكنها نُصِبَتْ على الاستثناءِ المنقطع الذي «إلاَّ» فيه بمعنى «لكن».
قال الشيخُ: «يعني باختلافِ الجنسَيْنِ أن نَصْبَةَ» تذكرةً «نصبةٌ صحيحةٌ ليست بعارضةٍ، والنصبةُ التي تكون في» لِتشقى «بعد نَزْعِ الخافضِ نصبةُ عارضةٌ. والذي نقول: إنه ليس له محلٌّ البتَةَ فيتوهمُ البدلُ منه». قلت: ليس مُرادُ الزمخشري باختلافِ الجنسين إلاَّ ما ذكرتُه عن الفارسيِّ ردَّاً على الزجاج، وأيُّ أثرٍ لاختلاف النصبين في ذلك؟
الثالث: أن يكونَ منصوباً على الاستثناء المنقطع أي: لكنْ أَنْزَلْناه تذكرةً. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعلٍ مقدرٍ، أي: لكنْ ذَكَّرْنا، أو تذكَّرْ به أنت تَذْكِرة. الخامس: أنه مصدرٌ في موضع الحال أي: إلاَّ مُذَكِّراً. السادس: أنه بدلٌ من «القرآن»، ويكون القرآنُ هو التذكرةَ، قاله الحوفي. السابع: أنه مفعولٌ له أيضاً، ولكن العاملَ فيه «لِتَشْقَى» ويكون المعنى كما قال الزمخشريُّ: «إنا أَنْزَلْنا عليك القرآنَ لتحتمل متاعبَ التبليغِ ومقاولةَ العُتاةِ من أعداءِ الإِسلام ومقاتلتَهم، وغيرَ ذلك من أنواعِ المشاقِّ وتكاليفِ النبوة، وما أنزلنا عليك هذا المَتْعَبَ الشاقَّ إلاَّ ليكونَ تذكرةً.
وعلى هذا الوجهِ يجوزُ أن يكونَ «تذكرةً» حالاً ومفعولاً له «انتهى.
فإنْ قلتَ: مِنْ أين أَخَذْتَ أنه لمَّا جعله حالاً ومفعولاً له أنَّ العاملَ فيه»
9
لِتَشْقَى «؟ وما المانعُ أن يريدَ بالعاملِ فيه فعلَ الإِنزال؟ فالجوابُ أنَّ هذا الوجهَ قد تقدَّم له في قولِه:» وكلُّ واحدٍ مِنْ «لتشقى» و «تذكرةً» علةٌ للفعل «. وأيضاً فإنَّ تفسيرَه للمعنى المذكور منصبٌّ على تسلُّطِ» لِتَشْقَى «على» تذكرةً «. إلاَّ أنَّ أبا البقاء لمَّا لم يظهرْ له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري مَنَعَ مِنْ عملِ» لِتَشْقَى «في» تذكرةً «فقال:» ولا يَصِحُّ أن يعملَ فيها «لِتَشْقى» لفساد المعنى «وجوابُه ما تقدَّم. ولا غَرْوَ في تسميةِ التعبِ شقاءً. قال الزمخشري:» والشقاءُ يجيء في معنى التعب. ومنه المثل: «أتعبُ مِنْ رائضِ مُهْر» و «أشقى مِنْ رائض مُهْر».
و ﴿لِّمَن يخشى﴾ متصلٌ ب «تذكرةً». وزيدت اللام في المفعولِ تقويةً للعاملِ لكونِه فَرْعاً، ويجوز أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «تذكرةً».
10
قوله: ﴿تَنزِيلاً﴾ : في نصبِه أوجهٌ، أحدها: أن يكونَ بدلاً مِنْ «تذكرةً» إذا جُعِل حالاً لا إذا كان مفعولاً [له] لأنَّ الشيءَ لا يعَلَّلُ بنفسِه. قلت: لأنه يصيرُ التقديرُ: ما أنزَلْنا القرآنَ إلاَّ للتنزيل. الثاني: أن ينتصبَ ب نزَّل مضمراً. الثالث: أن ينتصبَ ب «أَنْزَلْنا» لأنَّ معنى ما أنزلناه إلاَّ تذكرةً: أنزَلْناه تذكرةً. الرابع: أن ينتصبَ على المدحِ والاختصاصِ.
10
الخامس: أن ينتصبَ ب «يخشى» مفعولاً به أي: أنزله للتذكرةِ لمَنْ يخشى تنزيلَ الله، وهو معنى حسنٌ وإعرابٌ بيِّن.
قال الشيخُ: ولم يُنْصِفْه «والأحسنُ ما قدَّمناه أولاً من أنه منصوبٌ ب» نَزَّل «مضمرةً. وما ذكره الزمخشري مِنْ نصبه على غيره فمتكلَّفٌ: أمَّا الأولُ ففيه جَعْلُ تذكرةً وتنزيلاً حالين، وهما مصدران. وجَعْلُ المصدرِ/ حالاً لا ينقاسُ.
وأيضاً فمدلولُ»
تذكرةً «ليس مدلولَ» تنزيلَ «، ولا» تنزيلاً «بعضُ تذكرة. فإن كان بدلاً فيكونُ بدلَ اشتمالٍ على مذهبِ مَنْ يرى أن الثاني مشتملٌ على الأولِ؛ لأنَّ التنزيلَ مشتملٌ على التذكرة وغيرِها. وأمَّا قولُه:» لأنَّ معنى ما أنزلناه إلاَّ تذكرة: أَنْزَلْناه تذكرةً «فليس كذلك لأنَّ معنى الحصرِ يَفُوت في قولِه أنزلناه تذكرةً. وأمَّا نصبُه على المدحِ فبعيدٌ. وأمَّا نصبُه ب» يخشى «ففي غاية البُعْدِ لأنَّ» يخشى «رأسُ آيةٍ وفاصلٌ، فلا يناسبُ أن يكونَ» تنزيلاً «منصوباً ب» يخشى «، وقوله فيه» وهو حسنٌ وإعرابٌ بيِّنٌ «عُجمةٌ وبُعْدٌ عن إدراك الفصاحة».
قلت: ويَكْفيه ردُّه الشيءَ الواضحَ مِنْ غير دليل، ونسبةُ هذا الرجلِ إلى عدمِ الفصاحةِ ووجودِ العُجْمة.
قوله: ﴿مِّمَّنْ خَلَق﴾ يجوز في «مِنْ» أن تتعلق ب «تنزيلاً»، وأن تتعلقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «تنزيلاً». وفي «خَلَق» التفاتٌ مِنْ تَكَلُّمٍ في قوله «
11
أَنْزَلْنا» إلى الغَيْبة. وجوَّز الزمخشري أن يكونَ «ما أنزَلْنا» حكايةً لكلامِ جبريل وبعضِ الملائكة فلا التفاتَ على هذا.
وقوله: ﴿العلى﴾ جمع عُلْيا نحو: دنيا ودُنا. ونظيرُه في الصحيح كُبْرى وكُبَر، وفُضْلى وفُضَل.
12
قوله: ﴿الرحمن﴾ : العامَّةُ على رفعهِ، وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في «خَلَق». ذكره ابنُ عطية. وردَّه الشيخُ بأن البدلَ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه، ولو حَلَّ هنا مَحَلَّه لم يَجُزْ لخلوِّ الجملةِ الموصولِ بها مِنْ رابطٍ يربطُها به. الثاني: أن يرتفعَ على خبرِ مبتدأ مضمرٍ، تقديرُه: هو الرحمن. الثالث: أن يرتفعَ على الابتداءِ مشاراً بلامِه إلى مَنْ خَلَقَ، والجملةُ بعده خبرُه.
وقرأ جناح بن حبيش «الرحمنِ» مجروراً. وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ من الموصولِ. لا يقال إنه يؤدي إلى البدلِ بالمشتق وهو قليلٌ؛ لأنَّ الرحمنَ جرى مَجْرى الجوامدِ لكثرة إيلائِه العواملَ. والثاني: أن يكونَ صفةً للموصول أيضاً.
قال الشيخ: «ومذهبُ الكوفيين أنَّ الأسماءَ النواقصَ ك» مَنْ «
12
و» ما «لا يُوصَف منها إلاَّ» الذي «وحدَه، فعلى مذهبِهم لا يجوز أن يكونَ صفةً». قال ذلك كالرادِّ على الزمخشري.
والجملةُ مِنْ قولِه ﴿عَلَى العرش استوى﴾ خبرٌ لقولِه «الرحمنُ» على القول بأنه مبتدأٌ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ إنْ قيل: إنه مرفوعٌ على خبر مبتدأ مضمر، وكذلك في قراءةِ مَنْ جَرَّه.
وفاعلُ «استوى» ضميرٌ يعودُ على الرحمنِ، وقيل: بل فاعلُه «ما» الموصولةُ «بعده أي: استوى الذي له في السماوات، قال أبو البقاء:» ويقال بعضُ الغلاةِ: «ما» فاعلُ «استوى». وهذا بعيدٌ، ثم هو غيرُ نافعٍ له في التأويل، إذ يبقى قولُه ﴿الرحمن عَلَى العرش﴾ كلاماً تاماً ومنه هرب «. قلت: هذا يُروى عن ابنِ عباس، وأنه كان يقف على لفظ» العرش «، ثم يبتدِىءُ» استوى له ما في السماوات «وهذا لا يَصِحُّ عنه.
13
قوله: ﴿الثرى﴾ : هو الترابُ النديُّ، ولامُه ياءٌ بدليل تثنية على ثَرَيَيْن، وقولهم ثَرِيَتْ الأرَضُ تَثْرَى ثَرَىً. والثرى يستعمل في انقطاعِ المودة. قال جرير:
13
والثَّراءُ بالمدِّ: كثرةُ المالِ قال:
٣٢٧٢ - فلا تَنْبُشُوا بيني وبينَكُمُ الثرى فإنَّ الذي بيني وبينَكُمُ مُثْرِي
٣٢٧٣ - أَماوِيَّ ما يُغْني الثراءُ عن الفتى إذا حَشَرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ
وما أحسنَ قولَ ابنِ دريد:
٣٢٧٤ - يوماً تصيرُ إلى الثَّرى ويفوزُ غيرُك بالثَّراءِ
فجمع في هذه القصيدةِ بين الممدودِ والمقصورِ باختلاف معنىً.
14
قوله: ﴿وأخفى﴾ : جَوَّزوا فيه وجهين، أحدهما: أنه أفعلُ تفضيل، أي: وأخْفَى من السِّر. والثاني: أنه فعلٌ ماضٍ أي: وأَخْفى اللهُ عن عبادهِ غيبَه كقولِه: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾ [طه: ١١٠].
والجلالةُ: إمَّا مبتدأٌ، والجملةُ المنفيةُ خبرُها، وإمَّا خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي: هو الله. و «الحُسْنى» تأنيثُ الأحسن. وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ جمعَ التكسيرِ في غير العقلاء يُعامَلُ معاملةَ المؤنثة الواحدة.
قوله: ﴿إِذْ رأى﴾ : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً بالحديث وهو الظاهرُ. ويجوز أن ينتصِبَ ب «اذكر» مقدَّراً، كما قاله أبو البقاء، أو بمحذوفٍ بعدَه أي: إذ رأى ناراً كان كيتَ وكيتَ، كما قاله الزمخشريُّ.
14
و «هل» على بابها مِنْ كونِها استفهامَ تقريرٍ، وقيل: بمعنى قد، وقيل: بمعنى النفي. وقرأ «لأهلِهُ امكثُوا» بضم الهاء حمزة وقد تقدم أنه الأصلُ وهو لغةُ الحجاز، وقال أبو البقاء: «إن الضمَّ للإِتباع».
قوله: ﴿آنَسْتُ﴾ أي: أبصرْتُ. والإِيناسُ: الإِبصارُ البيِّنُ، ومنه إنسانُ العينِ؛ لأنه يُبْصَر به الأشياءُ، وقيل: هو الوِجْدان، وقيل: الإِحساسُ فهو أعمُّ من الإِبصار، وأنشدوا للحارث بن حِلِّزة:
٣٢٧٥ - آنسَتْ نَبْأَةً وأَفْزَعَها القُنْ ناصُ عَصْراً وقد دنا الإِمْساءُ
والقَبَسُ: الجَذْوَةُ من النار، وهي الشُّعْلةُ في رأسِ عُوْدٍ أو قَصَبةٍ ونحوِهما. وهو فَعَلٌ بمعنى مَفْعول كالقَبَض والنَّقَضِ بمعنى المَقْبوض والمَنْقوض. ويقال: أَقْبَسْتُ الرجلَ علماً وقَبَسْتُه ناراً، ففرقوا بينهما، هذا قولُ المبردِ. وقال الكسائيُّ: إن فَعَلَ وأَفْعَلَ يُقالان في المعنيين، فيقال: قَبَسْتُه ناراً وعلماً، وأَقْبَسْته أيضاً عِلْماً وناراً.
وقوله ﴿مِّنْهَا﴾ يجوز أَنْ يتعلق/ ب «آتِيكم» أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ قَبَس. وأمال بعضُهم ألفَ «هدى» وقفاً. والجيدُ أَنْ لا تُمالَ لأنَّ الأشهر أنها بدلٌ من التنوين.
15
قوله: ﴿نُودِيَ﴾ : القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ موسى وقيل: ضميرُ المصدرِ أي: نُودي النداء. وهو ضعيفٌ، ومنعوا أن يكونَ القائمُ مَقامه الجملةَ مِنْ «يا موسى» ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونَ فاعلاً.
قوله: ﴿إني﴾ : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح، على تقديرِ الباءِ بأني؛ لأنَّ النداءَ يُوْصَلُ بها تقول: نادَيْتُه بكذا. قال الشاعر: أنشده الفارسيُّ
٣٢٧٦ - نادَيْتُ باسمِ ربيعةَ بنِ مُكَدَّمٍ إنَّ المُنَوَّهَ باسمِه المَوْثُوْقُ
وجَوَّز ابنُ عطية أن يكون بمعنى لأجْلِ. وليس بظاهر. والباقون بالكسرِ: إمَّا على إضمارِ القولِ كما هو رأيُ البصريين، وإمَّا لأنَّ النداءَ في معنى القولِ عند الكوفيين.
وقوله: ﴿أَنَاْ﴾ يجوزُ أن يكونَ مبتدأ، وما بعده خبرُه، والجملةُ خبرُ «إنَّ». ويجوزُ أن يكونَ توكيداً للضميرِ المنصوب، ويجوزُ أَنْ يكونَ فَصْلاً.
قوله: «طوى» قرأ الكوفيون وابنُ عامر «طُوىً» بضمِّ الطاءِ والتنوين. والباقون بضمِّها من غيرِ تنوين. وقرأ الحسنُ والأعمش وأبو حيوةَ وابن محيصن
16
بكسرٍ الطاءِ منوَّناً. وابو زيدٍ عن أبي عمروٍ بكسرِها غيرَ منونٍ.
فمَنْ ضَمَّ ونَوَّنَ فإنه صَرَفَه لأنَّه أَوَّله بالمكان. ومَنء مَنَعه فيحتمل أوجهاً، أحدها: أنه مَنَعه للتأنيث باعتبار البُقْعَةِ والعَلَمِيَّة. الثاني: أنه مَنَعه للعَدْل إلى فُعَل، وإن لم يُعْرَفِ اللفظُ المعدولُ عنه، وجعله كعُمَر وزُفَر. والثالث: أنه اسمٌ أعجمي فَمَنْعُه للعَلَمِيَّة والعُجْمة.
ومَنْ كَسَر ولم يُنَوِّن فباعتبارِ البُقْعة أيضاً. فإن كان اسماً فهو نظيرُ عِنَب، وإن كان صفةً فهو نظير عِدَى وسِوَى. ومَنْ نَوَّنَه فباعتبار المكان. وعن الحسنِ البَصْريِّ أنه بمعنى الثنى بالكسرِ والقَصْر، والثنى: المكررُ مرتين، فيكون معنى هذه القراءة أنه ظهر مرتين، فيكون مصدراً منصوباً بلفظ «المقدَّس» لأنه بمعناه كأنه قيل: المقدَّس مرتين، من التقديس.
وقرأ عيسى بن عمر والضحَّاك «طاوِيْ اذهَبْ».
و «طوى» : إمَّا بدلٌ من الوادي، أو عطفُ بيانٍ له، أو مرفوعٌ على إضمارِ مبتدأ، أو منصوبٌ على إضمار أعني.
17
قوله: ﴿وَأَنَا اخترتك﴾ : قرأ حمزةُ في آخرين «وأنَّا اخترناك» بفتحِ الهمزة بضمير المتكلمِ المعظمِ نفسَه. وقرأ السلميُّ والأعمش وابن هرمز كذلك، إلاَّ أنهم كسروا الهمزةَ. والباقون «وأنا اخْتَرْتُك» بضميرِ المتكلم وحدَه. وقرأ أُبَيٌّ «وأني اخترتك» بفتح الهمزة.
17
فأمَّا قراءةُ حمزة فعطفٌ على قوله ﴿إني أَنَاْ رَبُّكَ﴾، وذلك أنه بفتح الهمزة هناك، ففعل ذلك لَمَّا عطف غيرَها عليها. ومَنْ كسرها فلأنه يقرأ «إنِّي أنا ربك» بالكسر. وقراءة أُبَيّ كقراءةِ حمزة بالنسبة للعطف. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ الفتحُ على تقديرِ: ولأنَّا اخترناك فاستمع، فعلَّقه باستمع. والأولُ أَوْلَى. ومفعولُ «اخترتك» الثاني محذوف أي: اخترتك مِنْ قومك.
قوله ﴿لِمَا يوحى﴾ الظاهرُ تعلُّقه ب «استمِعْ». ويجوزُ أن تكونَ اللامُ مزيدةً في المفعول على حَدِّ قولِه تعالى: ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢]. وجَوَّز الزمخشريُّ وغيرُه أن تكونَ المسألة من باب التنازع بين «اخْتَرْتُك» وبين «استمع» كأنه قيل: اخترتُك لِما يوحى فاستمع لِما يوحى. قال الزمخشري: «فَعَلَّق اللامَ ب» استمعْ «أو ب» اخترتُك «.
وقد رَدَّ الشيخُ هذا بأنْ قال:»
ولا يجوزُ التعليقُ ب «اخترتك» لأنَّه مِنْ بابِ الإِعمال، يجب أو يُختار إعادةُ الضميرِ مع الثاني فكان يكونُ: فاستمعْ له لِما يوحى، فَدَلَّ على أنه من باب إعمال الثاني «. قلت: الزمخشريُّ عنى التعليقَ المعنويَّ من حيث الصلاحيةُ، وأما تقديرُ الصناعةِ فلم يَعْنِه.
و»
ما «يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً، وبمعنى الذي أي: فاستمعْ للوحيِ أو للذي يوحى.
18
قوله: ﴿لذكري﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ مضافاً لفاعلِه ِأي: لأنِّي ذكرتُها في الكتب، أو لأنِّي أذكرُك. ويجوز أن يكونَ مضافاً لمفعولِه أي: لأِنْ تذكرَني. وقيل: معناه ذِكْرُ الصلاةِ بعد نِسْيانِها كقولِه عليه السلام: «مَنْ نام عن صلاةٍ أو نَسِيها فَلْيُصَلِّها إذا ذكرها» قال الزمخشري: «وكان حقٌّ العبارة:» لذكرها «. ثم قال:» ومَنْ يَتَمَحَّلْ له أن يقول: إذا ذَكَر الصلاة فقد ذكر [اللهَ]، أو على حذفِ مضاف أي: لذكر صلاتي، أو لأنَّ الذِّكْرَ والنيسانَ من الله تعالى في الحقيقة «.
وقرأ أبو رجاء والسُّلمي»
للذكرى «بلام التعريف وألفِ التأنيث. وبعضهم» لذكرى «منكرةً، وبعضهم» للذكر «بالتعريف والتذكير.
قوله: ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ العامةُ على ضمِّ الهمزةِ مِنْ»
أُخْفيها «. وفيها تأويلاتٌ، أحدُها: أن الهمزةَ في» أُخْفيها «للسَّلْبِ والإِزالةِ أي: أُزيل خفاءَها نحو: أعجمتُ الكتابَ أي: أزلْتُ عُجْمَتَه. ثم في ذلك معنيان، أحدهما: أنَّ الخفاءَ بمعنى السَّتْر، ومتى أزال سَتْرَها فقد أظهرَها. والمعنى: أنها لتحقُّق وقوعِها وقُرْبِها أكادُ أُظْهِرُها لولا ما تَقْتضيه الحكمةُ من التأخير. والثاني: أنَّ الخفاءَ هو الظهورُ كما سيأتي. والمعنى: أزيلُ ظهورَها، وإذا أزالَ ظهورَها فقد استترَتْ. والمعنى: أني لِشدَّةِ أبهامها أكاد أُخْفيها فلا أُظْهِرُها/ البتةَ، وإن كان
19
لا بد من إظهارِها؛ ولذلك يوجدُ في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ: أكاد أُخْفيها مِنْ نفسي فكيف أُظْهِرُكُمْ عليها؟ وهو على عادةِ العرب في المبالغة في الإِخفاء قال:
٣٢٧٧ - أيامَ تَصْحَبُني هندٌ وأُخْبِرُها ما كِدْت أكتُمُه عني من الخبرِ
وكيف يُتَصَوَّرُ كِتْمانُه مِنْ نفسه؟
والتأويلُ الثاني: أنَّ» كاد «زائدةٌ. قاله ابنُ جُبَيْر. وأنشدَ غيرُه شاهداً عليه قولَ زيدِ الخيل:
٣٢٧٨ - سريعٌ إلى الهَيْجاء شاكٍ سلاحُه فما إنْ يكادُ قِرْنُه يتنفَّسُ
وقال آخر:
٣٢٧٩ - وألاَّ ألومَ النفسَ فيما أصابني وألا أكادَ بالذي نِلْتُ أَبْجَحُ
ولا حُجَّةَ في شيءٍ منه.
20
والتأويل الثالث: أنَّ الكَيْدُوْدَةَ بمعنى الإِرادة ونُسِبت للأخفش وجماعةٍ، ولا ينفعُ فيما قصدوه.
والتأويل الرابع: أنَّ خبرَها محذوفٌ تقديره: أكاد آتي به لقُرْبها. وأنشدوا قول ضابىء البرجمي:
٣٢٨٠ - هَمَمْتُ ولم أفْعَلْ وكِدْتُ وليتني تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكي حلائِلُهْ
أي: وكِدْتُ أفعلُ، فالوقفُ على» أكادُ «، والابتداء ب» أُخْفيها «، واستحسنه أبو جعفر.
وقرأ أبو الدرداء وابنُ جبير والحسنُ ومجاهدٌ وحميدٌ»
أَخْفيها «بفتح الهمزة. والمعنى: أُظْهرها، بالتأويل المتقدم يقال: خَفَيْتُ الشيءَ: أظهَرْتُه، وأَخْفَيْتُه: سترته، هذا هو المشهور. وقد نُقِل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنىً. وحُكي عن أبي عبيد أنَّ» أَخْفى «من الأضدادِ يكون بمعنى أظهر وبمعنى سَتَر، وعلى هذا تَتَّحد القراءتان. ومِنْ مجيءِ خَفَيْتُ بمعنى أظهَرْت قولُ امرىء القيس:
21
٣٢٨١ - خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفاقِهِنَّ كأنما خفاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلِّبِ
وقول الآخر:
٣٢٨٢ - فإنْ تَدْفِنوا الداءَ لا نَخْفِهِ وإنْ تُوْقِدُوْا الحربَ لا نَقْعُدِ
قوله: ﴿لتجزى﴾ هذه لامُ كي، وليسَتْ بمعنى القسمِ أي: لَتُجْزَيَنَّ كما نقله أبو البقاء عَنْ بعضهم. وتتعلَّق هذه اللامُ ب «اُخْفيها». وجعلها بعضُهم متعلقةً ب «آتيةٌ» وهذا لا يَتِمُّ إلاَّ إذا قَدَّرْتَ أنَّ «أكاد أُخْفيها» معترضةٌ بين المتعلَّقِ والمتعلَّقِ به، أمَّا إذا جعلتَها صفةً لآتِيَةٌ فلا يتجه على مذهب البصريين؛ لأن اسمَ الفاعلِ متى وُصِفَ لم يعملْ، فإنْ عَمِل ثم وُصِف جاز.
وقال أبو البقاء: «وقيل ب» آتِيَةٌ «، ولذلك وَقَفَ بعضُهم عليه وَقْفَةً يسيرةً إيذاناً بانفصالِها عن أخفيها».
قوله: ﴿بِمَا تسعى﴾ متعلقٌ ب «تجزى». و «ما» يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً أو موصولةً اسميةً، ولا بدَّ من مضاف أي: تُجْزى بعقابِ سَعْيها أو بعقابِ ما سَعَتْه.
22
قوله: ﴿فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا﴾ :﴿مَن لاَّ يُؤْمِنُ﴾ هو المَنْهيٌّ صورةً، والمرادُ غيرُه، فهو من بابِ «لا أُرَيَنَّك هَهنا». وقيل: إنَّ صَدَّ الكافر عن التصديقِ بها سببٌ للتكذيب، فذكر السببَ
22
ليدُلَّ على المسبَّب. والضميران في «عنها» و «بها» للساعة. وقيل: للصلاة. وقيل في «عنها» للصلاة، وفي «بها» للساعة.
قوله: ﴿فتردى﴾ يجوزُ فيه أَنْ ينتصبَ في جوابِ النهيِ بإضمارِ «أنْ»، وأن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: فأنت تردى. وقرأ يحيى «تردى» بكسر التاء. وقد تقدم أنها لغةٌ. والردى: الهلاك يقال: رَدِيَ يردى رَدى.
قال دُرَيْدُ بن الصِّمَّة:
23
قوله: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ﴾ :«ما» مبتدأةٌ استفهامية. و «تلك» خبره. و «بيمنيك» متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حال كقوله: ﴿وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود: ٧٢]. والعاملُ في الحال المقدرة معنى الإِشارة. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ «تلك» موصولةً بمعنى التي، و «بيمينك» صلتُها. ولم يذكر ابنُ عطية غيره، وهذا ليس مذهبَ البصريين، لأنهم لم يجعلوا من أسماءِ الإِشارة موصولاً إلاَّ «ذا» بشروطٍ ذكرْتُها أولَ هذا الكتابِ. وأمَّا الكوفيون فيُجيزون ذلك في جميعها، ومنه هذه الآيةُ عندهم أي: «وما التي بيمينك» وأنشدوا أيضاً:
٣٢٨٤ -..........................
23
نَجَوْتِ وهذا تحملينَ طَليقُ
أي: والذي تحملين.
24
قوله: ﴿هِيَ عَصَايَ﴾ :«هي» تعود على المُسْتَفْهَمِ عنه. وقرأ العامَّةُ «عصايَ» بفتح الياء، والجحدري وابن أبي إسحاق «عَصَيَّ» بالقلب والإِدغام. وقد تقدم في أول البقرة توجيهُ ذلك، ولمَنْ تُنْسَبُ هذه اللغةُ، والشعرُ المَرْوِيُّ في ذلك. ورُوي عن أبي عمرو وابن أبي إسحاق أيضاً «عَصَاْيْ» بسكونها وصلاً. وقد فَعَلَ نافعٌ مثلَ ذلك في «مَحْيَاْيْ» فجمع بين ساكنين وصلاً، وتقدَّم الكلام هناك.
قوله: ﴿أَتَوَكَّأُ﴾ يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً ل «هي»، ويجوز أن يكونَ حالاً: إمَّا مِنْ «عصايَ»، وإمَّا من الياء. وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ مجيءَ الحالِ من المضاف/ إليه قليلٌ، وله مع ذلك شروطٌ ليس فيه شيءٌ منها هنا. ويجوز أن تكون جملةً مستأنفةً. وجَوزَّ أبو البقاء نقلاً عن غيره أن تكونَ «عصايَ» منصوبةً بفعل مقدَّر، و «أتوكَّأُ» هو الخبر، ولا ينبغي أَنْ يقال ذلك.
والتوَكُّؤ: التحامُلُ على الشيءِ، وهو بمعنى الاتكاء. وقد تقدَّم تفسيرُه في يوسف فهما من مادةٍ واحدة، وذكَرْتُه هنا لاختلاف وَزْنَيْهما.
24
والهَشُّ بالمعجمةِ الخَبْطُ. يقال: هَشَشْتُ الوَرَقَ أَهُشُّه أي: خَبَطْتُه ليسقطَ، وأمَّا هَشَّ يَهِش بكسر العين في المضارع فبمعنى البَشاشة، وقد قرأ النخعي بذلك فقيل: هو بمعنى أهُشُّ بالضمِّ، والمفعولُ محذوفٌ في القراءتين أي: أهشُّ الورقَ أو الشجرَ. وقيل: هو في هذه القراءةِ مِنْ هَشَّ هَشاشةً إذا مال. وقرأ الحسن وعكرمة «وأَهُسُّ» بضم الهاءِ والسينِ المهملة وهو السَّوْقُ، ومنه الهَسُّ والهَساس، وعلى هذا فكان ينبغي أن يتعدى بنفسه، ولكنه ضُمِّنَ معنى ما يتعدَّى ب «على» وهو أَقوم. ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ «وأُهِشُّ» بضم الهمزة وكسر الهاء مِنْ «أَهَشَّ» رباعياً وبالمهملة، ونقلها عنه الزمخشري بالمعجمة فيكون عنه قراءات.
ونقل صاحب «اللوامح» عن مجاهد وعكرمة «وأَهُشُ» بضم الهاء وتخفيف الشين قال: «ولا أعرف لها وجهاً» إلاَّ أَنْ يكونَ قد استثقل التضعيف مع تفشِّي الشين فخفف، وهو بمعنى قراءة العامة.
وقرأ بعضهم «غَنْمي» بسكون النون ولا ينقاس. والمآرب: جمع مَأْرَبة وهي الحاجة وكذلك الإِرْبة أيضاً. وفي راء «المأربة» الحركاتُ الثلاثُ.
25
و «أخرى» كقوله: ﴿الأسمآء الحسنى﴾ [الإسراء: ١١٠] وقد تقدم قريباً. قال أبو البقاء: «ولو قيل» أُخَر «لكانَ على اللفظ» يعني: «أُخَر» بضمِّ الهمزة وفتح الخاء، وباللفظ لفظ الجمع. ونقل الأهوازي عن شيبة والزهري «مارب» قال «بغيرِ همزٍ» كذا أَطْلق. والمرادُ بغير همز محقق بل مُسَهَّلٌ بين بين، وإلاَّ فالحذفُ بالكليَّةِ شاذٌّ.
26
قوله: ﴿تسعى﴾ : يجوز أن يكون خبراً ثانياً عند مَنْ يُجَوِّز ذلك. ويجوز أن يكونَ صفةً ل «حيَّة».
قوله: ﴿سِيَرتَهَا﴾ : في نصبها أوجه، أحدها: أن تكونَ منصوبةً على الظرف أي: في سيرتها أي: طريقتها. الثاني: أنها منصوبةٌ على أنها بدلٌ من ها «سنعيدها» بدلُ اشتمال؛ لأن السيرةَ الصفة أي: سنعيدها صفتها وشكلها. الثالث: أنها منصوبة على إسقاط الخافض أي: إلى سيرتها. قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون مفعولاً، مِنْ عاده أي: عاد إليه، فيتعدى لمفعولَيْنِ، ومنه بيتُ زهير:
٣٢٨٣ - تنادَوْا فقالوا أَرْدَتِ الخيلُ فارساً فقلتُ أَعَبْدُ اللهِ ذلكُمُ الرَّدِي
26
وهذا هو معنى قولِ مَنْ قال: إنه على إسقاط إلى، وكان قد جَوَّز أن يكونَ ظرفاً كما تقدَّم. إلاَّ أن الشيخ ردَّه بأنه ظرفٌ مختص، ولا يَصِلُ إليه الفعلُ إلاَّ بوساطة» في «إلاَّ فيما شَذَّ.
والسِّيرة: فِعْلَة تدل على الهيئة من السَيْر كالرِّكْبَة من الركوب، ثم اتُّسِع فعُبِّر بها عن المذهب والطريقة. قال خالد الهُذَلي:
٣٢٨٥ -.................... وعادَكَ أَنْ تُلاَقِيَها العَداءُ
٣٢٨٦ - فلا تغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍ أنت سِرْتَها فأولُ راضٍ سيرةً مَنْ يَسِيرُها
وجَوَّز أيضاً أن ينتصبَ بفعلٍ مضمرٍ أي: يسير سيرتَها الأولى، وتكون هذه الجملةُ المقدرةُ في محلِّ نصبٍ على الحال أي: سنعيدها سائرةً سيرتَها.
27
قوله: ﴿واضمم﴾ : لا بدَّ هنا مِنْ حَذْف، والتقدير: واضمُمْ يَدك تنضمَّ، وأَخْرِجْها تَخْرُجْ، فحذف من الأول والثاني، وأبقى مقابلَيْهما ليدلا على ذلك إيجازاً واختصاراً، وإنما احتيج إلى هذا لأنه لا يترتَّبُ على مجردِ الضمِّ الخروجُ.
قوله: ﴿بَيْضَآءَ﴾ حالٌ مِنْ فاعل «تَخْرُجْ».
قوله: ﴿مِنْ غَيْرِ سواء﴾ يجوز أن يكونَ متعلِّقاً ب «تخرجْ»، وأن تكونَ متعلقةً ب «بيضاءَ» لِما فيها من معنى الفعل نحو: ابيضَّتْ من غيرِ سوءٍ. ويجوز أن تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ على أنها حال من الضمير في «بيضاء». وقوله: ﴿مِنْ غَيْرِ سواء﴾ يُسَمَّى عند أهل البيان «الاحتراس» وهو: أن يؤتى بشيءٍ يرفعُ تَوَهُّمَ
27
مَنْ يتوهَّمُ غيرَ المراد؛ وذلك أن البياضَ قد يُرادُ به البَرَصُ والبَهَقُ، فأتى بقوله: ﴿مِنْ غَيْرِ سواء﴾ نفياً لذلك.
قوله: ﴿آيَةً﴾ فيها أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ حالاً أعنى أنها بدلٌ مِنْ «بيضاءَ» الواقعةِ حالاً. الثاني: أنها حالٌ من الضمير في «بيضاءَ». الثالث: أنها حالٌ من الضمير في الجارِّ والمجرور. الرابع: أنها منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ. فقدَّره أبو البقاء: جَعَلْناها آيةً، أو آتَيْناك آيةً. وقَدَّره الزمخشري: خُذْ آيةً، وقدَّر أيضاً: دنوكَ آية. وردَّ الشيخُ هذا: بأن من باب الإِغراء. ولا يجوز إضمارُ الظروفِ في الإِغراء. قال: لأنَّ العاملَ حُذِفَ، وناب هذا مَنابَه فلا يجوز أن يُحْذَفَ النائبُ أيضاً. وأيضاً فإنَّ أحكامَها تخالفُ العاملَ الصريحَ، فلا يجوز إضمارُها، وإنْ جاز إضمارُ الأفعال.
28
قوله: ﴿لِنُرِيَكَ﴾ : متعلقٌ بما دَلَّتْ عليه «آية» أي: دَلَلْنا بها لِنُرِيَكَ، أو بجعلناها، أو بآتيناك المقدَّرِ. وقدَّره الزمخشريُّ «لِنريك فَعَلْنا ذلك». وَجوَّز الحوفيُّ أن يتعلقَ ب «اضْمُمْ». وجَوَّزَ غيرُه أَنْ يتعلَّقَ ب «تَخْرُجْ». ولا يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بلفظ «آية» لأنها قد وُصِفَتْ وقدَّره الزمخشريُّ أيضاً: «لِنُرِيَكَ خُذْ هذه الآية أيضاً».
قوله: ﴿مِنْ آيَاتِنَا الكبرى﴾ يجوزُ أَنْ يتعلقَ «مِنْ آياتنا» بمحذوفٍ على أنه
28
حالٌ مِن «الكبرى» ويكون «الكبرى» على هذا مفعولاً ثانياً ل «نُرِيَكَ». والتقديرُ: لِنُرِيَك الكبرى حالَ كونِها مِنْ آياتنا، أي: بعض آياتِنا. ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ الثاني نفسَ «مِنْ آياتنا»، فتتعلقَ بمحذوفٍ أيضاً، وتكون «الكبرى» على هذا صفةً ل «آياتنا» وصفاً لجمع المؤنثِ غيرِ العاقل وصفَ الواحدةِ على حَدِّ ﴿مَآرِبُ أخرى﴾ [طه: ١٨] و ﴿الأسمآء الحسنى﴾ [الإسراء: ١١٠].
وهذان الوجهان قد نقلهما الزمخشري والحوفي وأبو البقاء وابنُ عطية. واختار الشيخُ الثاني قال: «لأنه يلزمُ من ذلك أَنْ تكونَ آياتُه كلُّها هي الكُبَرَ؛ لأنَّ ما كان بعضَ [الآيات] الكبر صَدَقَ عليه أنه الكبرى، وإذا جَعَلْتَ» الكبرى «مفعولاً ثانياً لم تتصِفْ الآياتُ بالكُبَرِ؛ لأنها هي المتصفةُ بأفعل التفضيل. وأيضاً إذا جَعَلْتَ» الكبرى «مفعولاً فلا يمكنُ أَنْ تكونَ صفةً للعصا واليد معاً، إذ كان يلزم التثنية. ولا جائزٌ أَنْ يَخُصَّ إحداهما بالوصف دونَ الأخرى، لأنَّ التفضيلَ في كلٍ منهما. ويَبْعُدُ ما قاله الحسنُ: من أنَّ اليدَ أعظمُ في الإِعجاز من العصا؛ فإنه جعل» الكبرى «مفعولاً ثانياً لِنُرِيَك، وجعل ذلك راجعاً للآية القريبة، وقد ضَعُفَ قولُه بأنَّ منافعَ العصا أكبرُ. وهو غيرُ خفيّ». انتهى ملخصاً.
29
قوله: ﴿لِي صَدْرِي﴾ :«لي» متعلق ب «اشرح». قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت:» لي «في قوله: ﴿اشرح لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لي أَمْرِي﴾ ما جدواه والأمرُ مستتبٌّ بدونه؟ قلت: قد أبهم الكلامَ أولاً فقال: اشرح لي ويَسِّر لي، فَعُلِمَ أنَّ ثَمًَّ مشروحاً ومُيَسَّراً، ثم بَيَّن ورفع الإِبهامَ بذكرِهما فكان آكدَ لطلبِ الشرحِ لصدرِه والتيسير لأمره».
ويقال: يَسَّرْتُه لكذا، ومنه ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى﴾ [الليل: ٧] ويَسَّرْتُ له كذا، ومنه هذه الآيةُ.
قوله: ﴿مِّن لِّسَانِي﴾ : يجوز أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «عُقْدَةً» أي: مِنْ عُقَدِ لساني. ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه. ويجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ «احلُلْ» والأولُ أحسنُ.
قوله: ﴿واجعل لِّي وَزِيراً﴾ : يجوز أَنْ يكونَ «لي» مفعولاً ثانياً مقدماً، و «وزيراً» هو المفعولُ الأول. و «مِنْ أهلي» على هذا يجوز أَنْ يكونَ صفةً ل «وزيراً». ويجوز أن يكونَ متعلِّقاً بالجَعْلِ.
و «هارونَ» بدلٌ مِنْ «وزيراً». وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ «هارونَ» عطفَ بيانٍ ل «وزيراً». ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه. ولَمَّا حكى الشيخُ هذا
30
لم يُعْقِبْه بنَكير، وهو عجيبٌ منه؛ فإنَّ عطفَ البيان يُشترط فيه التوافقُ تعريفاً وتنكيراً، وقد عَرَفْتَ أنَّ «وزيراً» نكرةٌ و «هارونَ» معرفة، والزمخشري قد تقدَّم له مثلُ ذلك في قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧] وقد تقدم الكلام معه هناك وهو عائد هنا.
ويجوز أَنْ يكونَ «هارونَ» منصوباً بفعلٍ محذوف كأنه قال: أخصُّ من بينهِم هارون أي: مِنْ بينِ أهلي. ويجوز أَنْ يكونَ «وزيراً» مفعولاً ثانياً، و «هارونَ» هو الأول، وقَدَّم الثاني عليه اعتناءً بأَمْرِ الوِزارة. وعلى هذا فقولُه «لي» يجوز أن يتعلَّق بنفسِ الجَعْل، وأَنْ يتعلقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «وزيراً» ؛ إذ هو في الأصل صفةُ له. و «مِنْ أهلي» على ما تقدَّم من وَجْهَيْه. ويجوز أن يكون «وزيراً» مفعولاً أولَ، و «مِنْ أهلي» هو الثاني. وقوله «لي» مثلُ قولِه ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤] يَعْنُون أنه به يتمُّ المعنى، ذكر ذلك أبو البقاء. ولَمَّا حكاه الشيخ لم يتعقبه بنكير، وهو عجيب؛ لأنَّ شرطَ المفعولَيْن في باب النواسخ صحةٌ انعقادِ الجملة الاسمية، وأنت لو ابتَدَأْتَ ب «وزير» وأخبرْتَ عنه ب «من أهلي» لم يَجُزْ إذ لا مُسَوِّغ للابتداءِ به.
و «أخي» بدلٌ أو عطفُ بيانٍ ل «هارونَ». وقال الزمخشري: «وإنْ جُعِل عطفَ بيانٍ آخرَ جاز وحَسُنَ. قال الشيخ:» ويَبْعُدُ فيه عطفُ البيان؛ لأنَّ
31
عطفَ البيان الأكثرُ فيه أن يكونَ الأولُ دونَه في الشُّهرة وهذا بالعكس «. قلت: لم يُرِدْ الزمخشري أنَّ» أخي «عطفُ بيانٍ ل» هارون «حتى يقول الشيخ إن الأولَ وهو» هارون «أشهرُ من الثاني وهو» أخي «، إنما عَنَى الزمخشريُّ أنه عطفُ بيان أيضاً ل» وزيراً «ولذلك قال:» آخَر «. ولا بُدَّ من الإِتيان بلفظِه ليُعْرَفَ أنه لم يُرِدْ إلاَّ ما ذكرتُه قال:» وزيراً وهارونَ مفعولا قولِه «اجعَلْ»، أو «لي وزيراً» مفعولاه، و «هارونَ» عطفُ بيان للوزير، و «أخي» في الوجهين بدلٌ من «هارون»، وإن جُعل عطفَ بيانٍ أخرَ جاز وحَسُن «.
فقوله «آخر»
تعيَّنَ أن يكونَ عطفَ بيانٍ لما جعله عنه عطف بيان قبل ذلك.
وجَوَّز الزمخشري في «أخي» أن يرتفعَ بالابتداء، ويكونَ خبرُه الجملةَ مِنْ قوله: «اشْدُدْ به»، وذلك على قراءةِ الجمهور له بصيغة الدعاء، وعلى هذا فالوقفُ على «هارونَ».
وقرأ ابن عامر «أَشْدُدْ» بفتح الهمزة للمضارعة وجزمِ الفعلِ جواباً للأمر، «وأُشْرِكْهُ» بضم الهمزة للمضارعة وجزمِ الفعلِ نَسَقاً على ما قبلَه. وقرأ الباقون بحذف همزة الوصل من الأول، وفتحِ همزة القطع في الثاني، على أنهما دعاءٌ من موسى لربِّه بذلك. وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملةُ قد تُرِكَ فيها العطفُ خاصةً دونَ ما تقدَّمَها مِنْ جمل الدعاء.
وقرأ الحسنُ «أُشَدِّدُ» مضارعَ شَدَّد بالتشديد.
32
والوَزير: قيل: مشتقٌّ من الوِزْر وهو الثِّقَل. وسُمِّي بذلك لأنه يَحْمل أعباءَ المُلْكِ ومُؤَنَهُ فهو مُعِيْنٌ على أمر/ الملك ويأتَمُّ بأمره. وقيل: بل هو من الوَزَرِ وهو الملجأُ، كقوله تعالى: ﴿لاَ وَزَرَ﴾ [القيامة: ١١] وقال:
٣٢٨٧ - من السِّباع الضَّواري دونَه وَزَرٌ والناسُ شَرُّهُمُ ما دونَه وَزَرُ
كم مَعْشرٍ سَلِموا لم يُؤْذِهِمْ سَبُعٌ وما نرى بَشَراً لم يُؤْذِهِمْ بَشَرُ
وقيل: من المُؤَازَرَة وهي المعاونةُ. نقله الزمخشري عن الأصمعي قال: «وكان القياسُ أَزِيراً» يعني بالهمزةِ؛ لأنَّ المادةَ كذلك. قال الزمخشريُّ: «فَقُلِبَت الهمزةُ إلى الواو ووجهُ قَلْبِها إليها أنَّ فَعيلاً جاء بمعنى مُفاعِل مجيئاً صالحاً كقولهم: عَشِير وجَلِيس وخليط وصديق وخليل ونديم، فلمَّا قُلِبت في أخيه قُلِبَتْ فيه، وحَمْلُ الشيءِ على نظيره ليس بعزيزٍ، ونظراً إلى يُوازِرُ وأخواتِه وإلى المُوَازَرة».
قلت: يعني أنَّ وزيراً بمعنى مُوازِر، ومُوازر تقلب فيه الهمزةُ واواً قلباً قياسياً؛ لأنها همزةُ مفتوحةٌ بعد ضمه فهو نظيرُ «مُوَجَّل» و «يُوَاخذكم»
33
وشبهِه، فحُمِل «أزير» عليه في القلب، وإن لم يكنْ فيه سببُ القلبِ.
34
قوله: ﴿كَثِيراً﴾ : نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ من ضمير المصدر، كما هو رأيُ سيبويه. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون نعتاً لزمانٍ محذوفٍ أي: زماناً كثيراً.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:قوله :﴿ كَثِيراً ﴾ : نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ من ضمير المصدر، كما هو رأيُ سيبويه. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون نعتاً لزمانٍ محذوفٍ أي : زماناً كثيراً.
قوله: ﴿سُؤْلَكَ﴾ : فعل هنا بمعنى مَفْعول نحو: أُكْل بمعنى مَأْكول، وخُبْر بمعنى مَخْبور. ولا ينقاس.
و «مرة» مصدرٌ. و «أخرى» تأنيث أخَر بمعنى غير. وزعم بعضُهم أنها بمعنى آخِرَة، فتكونُ مقابِلةً للأولى، وتحيَّل لذلك بأن قال: «سَمَّاها أخرى وهي أولى لأنها أخرى في الذِّكْرِ».
قوله: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ﴾ : العاملُ في «إذ» «مَنَنَّا» أي: مَنَنَّا عليك في وقتِ إلجائنا إلى أمِّك، وأُبْهِم في قوله ﴿مَا يوحى﴾ للتعظيم كقوله تعالى: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ﴾ [طه: ٧٨].
قوله: ﴿أَنِ اقذفيه﴾ : يجوز أن تكون «أنْ» مفسرةً؛ لأنَّ الوَحْيَ بمعنى القول، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه، وجوَّز غيرُه أن تكونَ مصدريةً. ومحلُّها حينئذٍ النصبُ بدلاً مِنْ «ما يوحى» والضمائرُ في قوله ﴿أَنِ اقذفيه﴾ إلى آخرها عائدةٌ على موسى عليه السلام لأنه المُحَدَّثُ عنه. وجَوَّز
34
بعضُهم أن يعودَ الضمير في قوله ﴿فاقذفيه فِي اليم﴾ للتابوت، وما بعده وما قبله لموسى عليه السلام. وعابَه الزمخشريّ وجعله تنافراً أو مُخْرِجاً للقرآن عن إعجازه فإنه قال: «والضمائر كلُّها راجعة إلى موسى، ورجوعُ بعضها إليه وبعضِها إلى التابوت فيه هُجْنَةٌ لِما يُؤَدِّي إليه من تنافُرِ النَّظْم. فإنْ قلت: المقذوفُ في البحر هو التابوتُ وكذلك المُلْقى إلى الساحل. قلت: ما ضرَّك لو جَعَلْتَ المقذوفَ والمُلْقى به إلى الساحل هو موسى في جوفِ التابوت حتى لا تُفَرَّقَ الضمائرُ فيتنافرَ عليك النظمُ الذي هو أمُّ إعجاز القرآن والقانونُ الذي وقع عليه التحدِّي، ومراعاتُه أهمُّ ما يجب على المفسِّر».
قال الشيخ: «ولقائلٍ أن يقولَ: إن الضمير إذا كان صالحاً لأَنْ يعودَ على الأقربِ وعلى الأبعدِ كان عودُه على الأقربِ راجحاً وقد نَصَّ النحويون على هذا فَعَوْدُه على التابوتِ في قولِه ﴿فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم﴾ راجحٌ. والجواب: أنَّ أحدَهما إذا كان مُحَدَّثاً عنه والآخرُ فضلةً، كان عودُه على المحدَّثِ عنه أرجحَ. ولا يُلْتَفَتُ إلى القُرْبِ؛ ولهذا رَدَدْنا على أبي محمد ابن حزم في دَعْواه: أنَّ الضميرَ في قولِه تعالى: ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام: ١٤٥] عائدٌ على» خنزير «لا على» لحم «لكونه أقربَ مذكورٍ، فَيَحْرُمُ بذلك شحمُه وغُضْرُوْفُه وعظمُه وجِلْدُه، فإن المحدَّث عنه هو» لحمَ خنزيرٍ «لا خنزير». قلت: قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ في الأنعام وما تكلَّم الناسُ فيها.
قوله: ﴿فَلْيُلْقِهِ اليم﴾ هذا أمرٌ معناه الخبرُ، ولكنه أمراً لفظاً جُزِم جوابُه في
35
قوله: ﴿يَأْخُذْهُ﴾. وإنما خَرَجَ بصيغة الأمر مبالغةً؛ إذ الأمرُ أقطعُ الأفعالِ وآكدُها. وقال الزمخشري: «لَمَّا كانَتْ مشيئةُ اللهِ وإرادتُه أَنْ لا تُخْطِىءَ جَرْيَةُ ماءِ اليَمِّ الوصولَ به إلى الساحل، وألقاه إليه، سلك في ذلك سبيلَ المجاز، وجعل اليَمَّ كأنه ذو تمييزٍ، أمر بذلك ليطيع الأمرَ ويَمْتَثِلَ رسمَه».
و «بالساحل» يحتمل أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن الباءَ للحالِ أي: ملتبساً بالساحل، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ الفعل على أنَّ الباءَ ظرفيةٌ بمعنى «في».
قوله: ﴿مِّنِّي﴾ فيه وجهان. قال الزمخشري: «لا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يتعلقَ ب» أَلْقَيْتُ «فيكون المعنى: على أني أَحْبَبْتُك، ومَنْ أحبَّه اللهُ أحبَّتْه القلوبُ، وإمَّا أن يتعلقَ بمحذوفٍ هو صفةٌ ل» محبةً «أي: محبةً حاصلةً، أو واقعةً مني، قد رَكَزْتُها أنا في القلوب وزَرَعْتُها فيها».
قوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ﴾ قرأ العامَّةُ بكسر اللام وضم التاء وفتحِ النون على البناءِ للمفعول، ونصبِ الفعلِ بإضمار أَنْ بعد لام. وفيه وجهان، أحدهما: أن هذه العلةَ معطوفةٌ على علةٍ مقدرة قبلها. والتقديرُ: ليتلطَّفَ بك ولتُصْنَعَ، أو ليعطفَ عليك وتُرامَ ولتصنعَ. وتلك العلةٌ المقدرةُ متعلقةٌ بقوله: «وألقيتُ» أي: ألقيتُ عليكم المحبة ليَعْطفَ عليك ولتُصْنَعَ. ففي الحقيقة هو متعلقٌ بما قبله من إلقاءِ المحبة.
والثاني: أن هذه اللامَ تتعلقُ بمضمرٍ/ بعدها تقديرُه: ولتُصْنَعَ على عيني فعلتُ ذلك، أو كان كيت وكيت. ومعنى لتُصْنَعَ أي: لتربى ويُحْسَنَ إليك، وأنا مراعِيْكَ ومراقُبكَ كما يراعي الإِنسانُ الشيءَ بعينِه إذا اعتنى به. قاله الزمخشري.
36
وقرأ الحسن وأبو نهيك «ولِتَصْنَعَ» بفتح التاء. قال ثعلب: «معناه لتكون حركتُك وتصرُّفُك على عينٍ مني. وقال قريباً منه الزمخشري. وقال أبو البقاء:» أي لتفعلَ ما آمُرك بمرأى مني «.
وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ»
ولْتُصْنَعْ «بسكون اللام والعين وضم التاء وهو أمرٌ معناه: ليُرَبَّ وليُحْسَن إليك. وروي عن أبي جعفر في هذه القراءةِ كسرُ لامِ الأمر. قلت: ويحتمل مع كسرِ اللام أو سكونِها حالةً تسكينِ العين أن تكونَ لامَ كي، وإنم سُكِّنَتْ تشبيهاً بكَتْف وكَبْد، والفعل منصوب. والتسكينُ في العين لأجل الإِدغام لا يُقْرأ في الوصل إلاَّ بالإِدغام فقط.
37
قوله: ﴿إِذْ تمشي﴾ : في عاملِ هذا الظرفِ أوجهٌ، أحدها: أن العامل فيه «ألقيتُ» أي: ألقيتُ عليك محبةً مني في وقتِ مَشْيِ أختِك.
الثاني: أنه منصوبٌ بقولِه «ولتُصْنَعَ» أي: لتربى ويُحْسَنَ إليك في هذا الوقتِ. قال الزمخشري: «والعاملُ في» إذ تشمي «» ألقيتُ «أو» لتُصْنع «. وقال أبو البقاء:» إذ تمشي «يجوز أَنْ يتعلَّقَ بأحد الفعلين». قلت: يعني بالفعلينِ ما تقدَّم مِنْ ألقيتُ أو لتُصْنَعَ. وعلى هذا فيجوز أن تكونَ المسألةُ من بابِ التنازع؛ لأنَّ كلاً من هذين العاملين يطلب هذا الظرفَ من حيث المعنى،
37
ويكونُ من إعمال الثاني للحذف من الأول. وهذا إنما يتجه كلَّ الاتجاه إذا جعلْتَ «ولِتُصْنَعَ» معطوفاً على علةٍ محذوفةٍ متعلقةٍ ب «أَلْقَيْتُ»، أمَّا إذا جعلته متعلقاً بفعلٍ مضمرٍ بعده فيبعدُ ذلك أو يمتنع، لكونِ الثاني صار من جملةٍ أخرى.
الثالث: أن تكونَ «إذ تمشي» بدلاً من «إذ أَوْحَيْنا». قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف يَصِحُّ البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصحُّ وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل: لَقِيْت فلاناً سنةَ كذا فتقول: وأنا لقيته إذ ذاك، وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها». قال الشيخ: «وليس كما ذكر لأن السنةَ تقبل الاتساع، فإذاً وقع لُقِيُّهما فيها، بخلاف هذين الظَّرفين فإنَّ كل واحدٍ منهما ضيقٌ ليس بمتسعٍ لتخصصهما بما أضيفا إليه، فلا يمكن أن يقعَ الثاني في الظرف الذي وقع فيه الأول؛ إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحيِ فيه ووقوعِ مَشْي الأخت، فليس وقتُ وقوعِ الفعل مشتملاً على أجزاءٍ وقع في بعضها المشي بخلاف السنة». قلت: وهذا تحمُّلٌ منه عليه فإنَّ زمنَ اللُّقِيِّ أيضاً ضيقٌ لا يَسَعُ فِعْلَيْهما، وإنما ذلك مبنيٌّ على التساهل؛ إذ المراد أن الزمانَ مشتملٌ على فعليهما.
وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ بدلاً من» إذ «الأولى، لأنَّ مَشْيَ أختِه كان مِنَّةً عليه» يعني أن قولَه «إذ أَوْحَيْنا» منصوبٌ بقوله: «مَنَنَّا» فإذا جُعِل «إذ تمشي» بدلاً منه كان أيضاً مُمْتَنَّاً به عليه.
38
الرابع: أن يكونَ العاملُ فيه مضمراً تقديره: اذكر إذ تمشي. وهو على هذا مفعولٌ به لفساد المعنى على الظرفية.
وقرأ العامَّةُ «كي تَقَرَّ» بفتح التاء والقاف. وقرأَتْ فرقة «تَقِرَّ» بكسر القاف، وقد تقدم أنهما لغتان في سورة مريم. وقرأ جناح بن حبيش «تُقَرُّ» بضمِّ التاءِ وفتحِ القاف على البناء للمفعول.
«عينُها» رفعاً لِما لَم يُسَمَّ فاعلُه.
قوله: ﴿فُتُوناً﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ على فُعُوْل كالقُعود والجُلُوس، إلاَّ أنَّ فُعُولاً قليلٌ في المتعدِّي. ومنه الشُّكُوْر والكُفور والثُّبور واللُّزوم. قال تعالى: ﴿لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً﴾ [الفرقان: ٦٢]. والثاني: أنه جمعُ فَتْنٍ أو فِتْنَة على تَرْك الاعتداد بتاء التأنيث ك «حُجُور» و «بُدُوْر» في حَجْرة وبَدْرة أي: فَتَنَّاك ضُروباً من الفتن. عن ابن عباس: أنه وُلِد في عامٍ يُقتل فيه الوِلْدَان، وألقَتْه أمُّه في البحر، وقتل القبطيَّ وأَجَر نفسَه عشرَ سنين، وضَلَّ عن الطريق، وتفرَّقَتْ غنمُه في ليلةٍ مظلمة. ولمَّا سأل سعيدُ بن جبير عن ذلك أجابه بما ذكرْتُه، وصار يقول عند كل واحدة: فهذه فتنةٌ يا ابن جبير. قال معناه الزمخشري. وقال غيره: بفُتُوْنٍ من الفِتَنِ أي المِحَنِ تُخْتبر بها.
39
قوله: ﴿على قَدَرٍ﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعل «جئت» أي: جئتَ موافقاً لِما قُدِّر لك. كذا قدَّره أبو البقاء، وهو تفسيرُ معنىً. والتفسير الصناعي: ثم جئت مستقراً أو كائناً على مقدار معين. كقول الآخر:
40
ومعنى «اصْطَنَعْتُكَ» أي: أَخْلَصْتُك. واصْطَفَيْتُكَ افتعال من الصُّنْع، فأُبْدِلَتْ التاءُ طاءً لأجل حرف الاستعلاء، وهذا مجازٌ عن قُرْبِ منزلتِه ودُنُوِّه مِنْ ربه؛ لأنَّ أحداً لا يَصْطَنع إلاَّ مَنْ يختاره.
قوله: ﴿وَلاَ تَنِيَا﴾ : يقال: ونى يَني وَنْياً كوَعَدَ/ يَعِد وَعْداً إذا فَتَرو... والوَنْيُ الفُتور. ومنه امرأةٌ أَناة، وصفوها بفُتور القيام كناية عن ضَخامتها قال:
٣٢٨٨ - نال الخلافةَ أو جاءَتْ على قَدَرٍ كما أتى رَبَّه موسى على قَدَرِ
٣٢٨٩ - مِنَّا الأَناةُ وبعضُ القومِ يَحْسَبُنا أَنَّا بِطاءٌ وفي إبطائِنا سَرَعُ
والأصل وَناة. فأبدلوا الهمزة من الواو كأَحَد في وَحَد. وليس بالقياس، وفي الحديث: «إن فيك لخَصْلتين يحبهما الله: الحِلْمُ والأناة».
40
والواني: المقصِّرُ في أمره. قال الشاعر:
٣٢٩٠ -.................... فما أنا بالواني ولا الضِّرَعِ الغُمْرِ
وونى فعلٌ لازمٌ لا يتعدى، وزعم بعضهم أنه يكون مِنْ أخواتِ زَال وانفك فيعمل بشرط النفيِ أو شبهِه عَمَلَ كان فيقال: «ما وَنى زيدٌ قائماً» أي: مازال قائماً. وأنشد الشيخُ جمالُ الدين بنُ مالكٍ شاهداً على ذلك قول الشاعر:
٣٢٩١ - لا يَنِيْ الحُبُّ شِيْمةَ الحِبِّ ما دا مَ فلا تَحْسَبَنَّه ذا ارْعِواءِ
أي لا يزال الحُبُّ أي بضم الحاء شيمةَ الحِبِّ أي بكسرِها وهو المُحِبُّ. ومَنْ منع ذلك يتأوَّلُ البيتَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ؛ فإنَّ هذا الفعلَ يتعدى تارةً ب عَنْ وتارة ب في. يُقال: ما وَنَيْتُ عن حاجتك أو في حاجتك. فالتقدير: لا يَفْتُرُ الحُبُّ في شِيمة المُحِبِّ وفيه مجازٌ بليغ. وقد عُدِّيَ في الآيةِ الكريمة ب في.
وقرأ يحيى بنُ وثَّاب «ولا تِنِيا» بكسر التاء إتباعاً لحركةِ النون. وسَكَّن
41
الياءَ مِنْ «ذِكْرِيْ».......
42
وذَكرَ المذهوبَ إليه في قوله: ﴿اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ﴾ وحَذَفه في الأولِ في قوله: ﴿اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ﴾ اختصاراً في الكلام. وقيل: أُمِرا أولاً بالذهابِ لعمومِ الناسِ ثم ثانياً لفرعونَ بخصوصه، وفيه بُعد؛ بل الذهابان متوجِّهان لشيءٍ واحدٍ وهو فرعونَ بخصوصه، وفيه بُعد؛ بل الذهابان متوجِّهان لشيءٍ واحدٍ وهو فرعونُ، وقد حَذَفَ من كلٍ من الذهابين ما أثبته في الآخر: وذلك أنه حذف المذهوبَ إليه من الأول وأثبته في الثاني، وحَذَفَ المذهوبَ به وهو «بآياتي» من الثاني وأثبته في الأول.
وقرأ أبو معاذٍ «قولاً لَيْناً» وهو تخفيف مِنْ لَيِّن كمَيْت في مَيِّت.
وقوله: ﴿لَّعَلَّهُ﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ «لعلَّ» على بابها من التَّرَجِّي: وذلك بالنسبة إلى المُرْسَل، وهو موسى وهارون أي: اذهبا على رجائِكما وطَمَعِكما في إيمانه، اذهبا مُتَرَجِّيَيْنِ طامِعَيْن، وهذا معنى قولِ الزمخشري، ولا يَسْتقيمُ أن يَرِدَ ذلك في حق الله تعالى إذ هو عالمٌ بعواقب الأمور، وعن سيبويه: «كلُّ ما وَرَدَ في القرآن مِنْ لعلَّ وعسى فهو من الله واجبٌ»، يعني أنه مستحيلٌ بقاءُ معناه في حق الله تعالى. والثاني: أنَّ لعلَّ بمعنى كي فتفيد العلةَ.
42
وهذا قول الفراء، قال: «كما تقول: اعمل لعلك تأخذُ أَجْرَك أي: كي تأخذ». والثالث: أنها استفهاميةٌ أي: هل يتذكَّر أو يخشى؟ وهذا قولٌ ساقط؛ وذلك أنه يَسْتحيل الاستفهامُ في حق الله تعالى كما يستحيل الترجِّي. فإذا كان لا بُدَّ من التأويل فَجَعْلُ اللفظِ على مدلولِه باقياً أولى مِنْ إخراجِه عنه.
43
قوله: ﴿أَن يَفْرُطَ﴾ :«أَنْ يَفْرُطَ» مفعولُ «نخاف». ويقال: فَرَطَ يَفْرُط: سَبَقَ وَتَقَدَّم، ومنه الفارِطُ. وهو الذي يتقدَّم الورادةَ إلى الماء وفَرَسٌ فَرَطٌ: يسبقُ الخيلَ، أي: نخافُ أَنْ يُعَجِّلَ علينا بالعقوبةِ ويبادِرَنا بها، قاله الزمخشري، ومِنْ وُرودِ الفارط بمعنى المتقدِّم على الواردة قولُ الشاعر:
٣٢٩٢ - واسْتعجلونا وكانوا مِنْ صحابَتنا كما تَقَدَّم فُرَّاطُ لوُرَّادِ
وفي الحديث: «أنا فَرَطُكم على الحَوْضِ» أي: سابقُكم ومتقدِّمُكم.
43
وقرأ يحيى بن وثاب وابنُ محيصن وأبو نَوْفلٍ «يُفْرَط» بضمِّ حرف المضارعة وفتح الراء على البناء للمفعول، والمعنى: خافا أن يُسْبَقَ في العقوبةِ. أي: يحملُه حامِلٌ عليها وعلى المعاجلة بها: إمَّا قومُه وإمَّا حُبُ الرئاسةِ، وإمَّا ادِّعاؤه الإِلَهيةَ.
وقرأ ابن محيصن في روايةٍ والزعفراني «أَن يُفَرِّطَ» بضمِّ حرفِ المضارَعَةِ وكسر الراء مِنْ أفرط. قال الزمخشري: «مِنْ أَفْرَطَه غيرُه إذا حمله على العَجَلة، خافا أَنْ يَحْمِلَه حاملٌ على المُعاجلة بالعقاب». قال كعب ابن زهير.
٣٢٩٣ - تَنْفِي الرياحُ القذى عنه وأَفْرَطَه مِنْ صَوْبِ ساريةٍ بِيْضٌ يَعالِيْلُ
أي: سَبَقَتْ إليه هذه البِيْضُ لتملأَه. وفاعلُ «يَفْرُطَ» ضميرُ فرعون. وهذا هو الظاهر الذي ينبغي أَنْ لا يُعْدَلَ عنه. وجعله أبو البقاء مضمراً لدلالة الكلامِ عليه فقال «فيجوز أن يكون التقدير: أن يَفْرط علينا منه قولٌ، فأضمر
44
القولَ لدلالة الحالِ عليه كما تقول: فَرَطَ مني قول، وأن يكونَ الفاعلُ ضميرَ فرعون كما كان في» يطغى «.
45
ومفعولُ ﴿أَسْمَعُ وأرى﴾ محذوفٌ فقيل: تقديره: أسمع أقوالكما وأرى أفعالَكما، وعن ابن عباس: أسمعُ جوابَه لكما وأرى ما يَفْعل بكما، أو يكون مِنْ حَذْفِ الاقتصار نحو: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [آل عمران: ١٥٦].
قوله: ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ﴾ : قال الزمخشري: هذه الجملةُ جاريةٌ من الجملة الأولى وهي: ﴿إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ﴾ مَجْرى البيانِ والتفسير؛ لأنَّ دعوى الرسالةِ لا تَثْبُتُ إلاَّ بِبَيِّنَتِها التي هي مجيءُ الآيةِ. وإنما وَحَّدَ ب «آية» ولم تُثَنَّ ومعه آيتان؛ لأنَّ المرادَ في هذا الموضعِ تثبيتُ الدعوى ببرهانها، فكأنه قيل: قد جِئْناك بمعجزةٍ وبرهانٍ وحجة على ما ادَّعَيْناه/ من الرسالة، وكذلك قال: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٠٥] ﴿فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ [الشعراء: ١٥٤] ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء: ٣٠].
و ﴿على مَنِ اتبع الهدى﴾ يحتمل أَنْ يكونَ مأموراً بقوله: فيكونَ منصوبَ المَحَلِّ كأنه قيل: فَقُولا أيضاً: والسلامُ على مَنْ اتَّبع الهدى، ويحتمل أَنْ يكونَ تسليما منهما لم يُؤْمَرا بقوله، فتكون الجملةُ مستأنفةً لا محل لها من الإِعراب. وزعم بعضُهم أن «على» بمعنى اللام أي: والسلام لمَنْ اتَّبع الهدى. وهذا لا حاجةَ إليه.
قوله: ﴿أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ﴾ :«أنَّ» وما في حَيِّزها في محل الرفع لقيامِها مَقامَ الفاعل الذي حُذِف في ﴿أُوحِيَ إِلَيْنَآ﴾. وسببُ بنائِه للمفعول خوفاً أن يَبْدُرَ مِنْ فرعونَ بادرةٌ لمَنْ أوحى لو سَمَّياه، فَطَوَيا ذِكْرَه تَعظيماً له واستهانَةً بالمخاطب.
قوله: ﴿ياموسى﴾ : نادى موسى وحدَه بعد مخاطبته لهما معاً: إمَّا لأنَّ موسى هو الأصلُ في الرسالة، وهارونُ تَبَعٌ ورِدْءٌ ووزيرٌ، وإمَّا لأنَّ فرعونَ كان لخُبْثِه يعلمُ الرُّتَّة التي في لسان موسى، ويعلم فصاحةَ أخيه بدليلِ قوله ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً﴾ [القصص: ٣٤] وقوله: ﴿وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: ٥٢] فأراد استنطاقَه دون أخيه، وإمَّا لأنه حَذَفَ المعطوفَ للعلمِ به أي: يا موسى وهارون. قاله أبو البقاء، وبدأ به، ولا حاجةَ إليه، وقد يُقال: حَسَّنَ الحذفَ كونَ موسى فاصلةً، لا يُقال: كان يُغني في ذلك أَنْ تُقَدِّمَ هارون وتؤخِّرَ موسى فيقال: يا هارونُ وموسى فتحصُلُ مجانسةٌ الفواصلِ مِنْ غيرِ حَذْفٍ لأنَّ البَدْءَ بموسى أهمُّ فهو المبدوءُ به.
قوله: ﴿أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ﴾ : في هذه الآية وجهان: أحدهما: أن يكونَ «كلَّ شيءٍ» مفعولاً أولَ، و «خَلْقَه» مفعولاً ثانياً على معنى: أعطى كلَّ شيءٍ شكلَه وصورَته، الذي يطابقُ المنفعةَ المنوطةَ
46
به، كما أعطى العينَ الهيئةَ التي تطابق الإِبصارَ، والأذنَ الشكلَ الذي يطابقُ الاستماعَ ويوافقه، وكذلك اليدُ والرِّجلُ واللسانُ، أو أعطى كلَّ حيوانٍ نظيرَه في الخَلْق والصورةِ حيث جعل الحصانَ والحِجْر زوجين، والناقةَ والبعيرَ، والرجلَ والمرأةَ، ولم يزاوِجْ شيءٌ منها غيرَ جنسِه، ولا ما هو مخالفٌ لخَلْقِه. وقيل: المعنى: أعطى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خَلْقَه أي: هو الذي ابتدعه. وقيل: المعنى: أعطى كلَّ شيءٍ ممَّا خَلَق خِلْقَتَه وصورتَه على ما يناسبه من الإِتقانِ. لم يجعل خَلْقَ الإِنسانِ في خَلْقِ البهائم، ولا بالعكس، بل خَلَق كلَّ شيءٍ فَقدَّره تقديراً.
والثاني: أن يكونَ «كلَّ شيءٍ» مفعولاً ثانياً، و «خَلْقَه» هو الأول، فَقَدَّم الثاني عليه، والمعنى: أعطى خليقته كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه ويَرْتفقون به.
وقرأ عبدُ الله والحسنُ والأعمشُ وأبو نهيكٍ وابنُ أبي إسحاق ونصير عن الكسائي وناسٌ من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم «خَلَقَه» بفتح اللام فِعْلاً ماضياً. وهذه الجملةُ في هذه القراءةِ تحتمل أَنْ تكونَ منصوبةً المحلِّ صفةً ل «كل» أو في محلِّ جَرِّ صفةً ل «شيء»، وهذا معنى قولِ الزمخشري: «صفةٌ للمضاف يعني» كل «أو للمضافِ إليه» يعني «شيءٍ». والمفعولُ الثاني على هذه القراءةِ محذوفٌ، فيُحتملُ أَنْ يكونَ حَذْفُه حَذْفَ اختصارٍ للدلالةِ عليه أي: أعطى كلَّ شيءٍ خَلَقَه ما يحتاج إليه ويُصْلحه أو كمالَه، ويحتمل أن يكونَ حذفُه حَذْفَ اقتصارٍ، والمعنى: أن كلَّ شيءٍ خَلَقه الله لم يُخْلِه من إنعامِه وعطائِه.
47
والبالُ: الفِكْرُ. يقال: خَطَر ببالِه كذا، ولا يثنى ولا يُجْمَعُ، وشَذَّ جمعُه على «بالات». ويقال للحال المُكْتَرَثِ بها، ولذلك يُقال: ما بالَيْتُ بالةً، والأصل...... فحذف لامه تخفيفاً.
قوله: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي﴾ في خبر هذا المبتدأ أوجهٌ، أحدها: أنه «عند ربي» وعلى هذا فقولُه «في كتاب» متعلقٌ بما تعلق به الظرفُ من الاستقرار، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضمير المستتر في الظرف، أو خبرٌ ثان.
الثاني: أنَّ الخبرَ قولُه «في كتاب» فعلى هذا قولُه «عند ربي» معمولٌ للاستقرار الذي تعلَّق به «في كتاب» كا تقدَّم في عكسه، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً. وفيه خلاف أعني تقديمَ الحالِ على عاملها المعنوي. والأخفش يجيزه ويستدلُّ بقراءة ﴿والسماوات مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧] وقوله:
٣٢٩٤ - رَهْطُ ابنِ كوزٍ مُحقِبيْ أَدْراعِهمْ فيهم ورَهْطُ رَبيعةَ بنِ حُذارِ
وقال بعَضُ النحويين: إنه إذا كان العاملُ معنوياً، والحالُ ظرفٌ أو عديلُه، حَسُن التقديمُ عند الأخفشِ وغيرِه، وهذا منه. أو يكونُ ظرفاً للعلم نفسه، أو يكونُ حالاً من المضاف إليه وهو الضمير في «عليها». ولا يجوزُ أن يكونَ «في كتاب» متعلِّقاً ب «عِلْمها» على قولِنا إنَّ «عند ربي» الخبر كما جاز
48
تعلُّقُ «عند» به لئلا يلزمَ الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي، وقد تقدم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول إلاَّ بعد تمامِ صلته.
الثالث: أن يكونَ الظرفُ وحرفُ الجرِّ معاً خبراً واحداً في المعنى، فيكونَ بمنزلةِ «هذا حُلْوٌ حامِض» قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ إذ كلُّ منها يستقلُّ بفائدةِ الخبريةِ، بخلاف «هذا حلو حامِضٌ».
والضمير في «عِلْمُها» فيه وجهان، أظهرُهما: عَوْدُه على القرون. والثاني: عَوْدُه على القيامةِ للدلالةِ ذِكْرِ القرون على ذلك؛ لأنه سأله عن بَعْثِ الأممِ، والبعثُ يدلُّ على القيامة.
قوله: ﴿لاَّ يَضِلُّ رَبِّي﴾ في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ جرٍّ صفةً ل «كتاب»، والعائدُ محذوفٌ، تقديرُه: في كتاب لا يَضِلُّه ربي، أو لا يَضِلُّ حِفْظَه ربي، ف «ربي» فاعل «يَضِلُّ» على هذا التقدير، وقيل: تقديرُه: الكتابَ ربي. فيكون في «يَضِلُّ» ضميرٌ يعود على «كتاب»، وربي منصوبٌ على التعظيمِ. وكان الأصلُ: عن ربي، فحُذِفَ الحرفُ اتِّساعاً، يُقال: ضَلَلْتُ كذا وضَلَلْتُه بفتح اللام وكسرها، لغتان مشهورتان وشُهراهما الفتحُ. الثاني: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب ساقها تبارك وتعالى لمجرد الإِخبارِ بذلك حكايةً عن موسى.
وقرأ الحسنُ وقتادة والجحدريُّ وعيسى الثقفي وابن محيصن
49
وحَمَّاد بن سلمة «لا يُضِلُّ» بضم الياء أي: لا يُضِلُّ ربي الكتابَ أي: لا يُضَيِّعه يقال: أَضْلَلْتُ الشيءَ أي: أضعتُه.
ف «ربي» فاعلٌ على هذا التقدير. وقيل: تقديرُه: لا يُضِلُّ أحدٌ ربي عن علمه أي: عن علم الكتاب، فيكون الربُّ منصوباً على التعظيم.
وفرَّق بعضُهم بين ضَلَلْتُ وأَضْلَلْت فقال: «ضَلَلْتُ منزلي»، بغيرِ ألفٍ، و «أَضْلَلْت بعيري» ونحوَه من الحيوان بالألفِ. نقل ذلك الرمانيُّ عن العرب، وقال الفراء: «يقال: ضَلَلْتُ الشيءَ إذا أَخطأْتَ في مكانه وضَلِلْتُ لغتان، فلم تهتدِ له، كقولك: ضَلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ ولا يُقال: أَضْلَلْتُه إلاَّ إذا ضاع منك كالدَّابة انفلَتَتْ، وشبهِها.
قوله: ﴿وَلاَ ينسى﴾ في فاعل»
ينسى «قولان، أحدهما: أنه عائدٌ على» ربي «أي: ولا ينسى ربي ما أَثْبَتَه في الكتاب. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على الكتاب على سبيل المجاز، كما أُسند إليه الإِحصاءُ مجازاً في قوله ﴿إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: ٤٩] لمَّا كان مَحَلاًّ للإِحصاء.
50
قوله: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ﴾ : في هذا الموصولِ وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو منصوبٌ بإضمار «أمدح»، وهو على هذين التقديرين مِنْ كلامِ الله تعالى لا مِنْ كلامِ موسى، وإنما احْتجنا إلى ذلك لأنَّ قولَه ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾، وقوله: ﴿كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ﴾ وقولَه ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ﴾ إلى قوله ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ﴾ لا يَتَأتَّى أن يكونَ مِنْ كلام موسى؛ فلذلك جَعَلْناه من كلامِ الباري تعالى. ويكون فيه التفاتٌ من ضمير الغَيْبةِ إلى ضمير المتكلِّم المعظمِ نفسَه، فإن قلتَ: أجعلهُ مِنْ كلامِ موسى، يعني أنه وَصَفَ ربَّه تعالى بذلك ثم
50
التفتَ إلى الإِخبار عن الله بلفظِ المتكلِّمِ. قيل: إنما جَعَلناه التفاتاً في الوجهِ الأول؛ لأنَّ المتكلمَ واحدٌ بخلاف هذا، فإنه لا يتأتى فيه الالتفاتُ المذكورُ وأخواتُه من كلام الله.
والثاني: أنَّ «الذي» صفةٌ ل «ربي» فيكونُ في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من إعراب «ربي». وفيه ما تقدَّم من الإِشكال في نظمِ الكلام مِنْ قوله «فأَخْرَجْنا» وأخواتِه من عدم جوازٍ الالتفاتِ، وإن كان قد قال بذلك الزمخشري والحوفي. وقال ابن عطية: «إن كلامَ موسى تَمَّ عند قوله ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ وإنَّ قولَه» فأخرَجْنا «إلى آخره مِنْ كلام الله تعالى» وفيه بُعْدٌ.
وقرأ الكوفيون «مَهْداً» بفتح الميم وسكونِ الهاء من غير ألفٍ. والباقون «مِهاداً» بكسرِ الميم وفتح الهاء وألفٍ بعدها. وفيه وجهان: أحدهما: أنهما مصدران بمعنى واحد يقال: مَهَدْتُه مَهْداً ومِهاداً، والثاني: أنهما مختلفان، فالمِهادُ هو الاسمُ والمَهْد هو الفعل، أو أنَّ مِهاداً جمعُ مَهْد نحو: فَرْخ وفِراخ وكَعْب وكِعاب. ووَصْفُ الأرضِ بالمَهْدِ: إمَّا مبالغةً، وإمَّا على حذف مضاف أي: ذات مَهْدٍ.
قوله ﴿شتى﴾ :«شَتَّى» فَعْلَى. وألفُه للتأنيث، وهو جمعٌ لشَتِيْت نحو: مَرْضى في جمع مريض، وجرحى في جمع جريح، وقتلى في جمع قتيل. يقال: شَتَّ
51
الأمر يَشِتُّ شَتَّاً وشَتاتاً فهو شَتٌّ أي تفرَّق. وشَتَّان اسمُ فعلٍ ماضٍ بمعنى افترق، ولذلك لا يُكتفى بواحد.
وفي «شَتَّى» أوجهٌ، أحدُها: أنَّها منصوبةٌ نعتاً ل «أَزْواجاً» أي: أزواجاً متفرقةً بمعنى: مختلفة الألوانِ والطُّعوم. والثاني: أنها منصوبةٌ على الحال مِنْ «أزواجاً» وجاز مجيءُ الحالِ من النكرة لتخصُّصِها بالصفةِ وهي «مِنْ نبات». الثالث: أَنْ تنتصِبَ على الحال أيضاً مِنْ فاعل الجارِّ؛ لأنه لَمَّا وقع وصفاً رفع ضميراً فاعِلاً. الرابع: أنَّه في محلِّ جر نعتاً ل «نبات»، قال الزمخشري: «يجوز أن يكونَ صفةً لنبات، ونبات مصدرٌ سُمِّيَ به النابت كما سُمِّي بالنَّبْت، فاستوى فيه الواحدُ والجمع، يعني أنها شَتَّى مخلتفةُ النفعِ والطعمِ واللونِ والرائحةِ والشكلِ، بعضُها يَصْلُح للناس، وبعضُها للبهائم» ووافقه أبو البقاء أيضاً. ولكنَ الظاهرَ الأولُ.
52
قوله: ﴿كُلُواْ﴾ : منصوبٌ بقولٍ محذوف، وذلك القولُ منصوبٌ على الحال مِنْ فاعل «أَخْرَجْنا» تقديره: فأخرَجْنا كذا قائلين: كُلوا. وتَرَكَ مفعولَ الأكل على حَدِّ تَرْكِه في قولِه تعالى: ﴿كُلُواْ واشربوا﴾ [البقرة: ٦٠].
«وارْعَوْا» رعى يكون لازماً ومتعدِّياً يقال: رعى دابَّته/ رَعْياً فهو راعِيها. ورَعَتِ الدابَّةُ ترعى رَعْياً فيه راعيةٌ، وجاء في الآيةِ متعدِّياً.
والنهى فيه قولان، أحدهما: أنه جَمْعُ نُهْيَة كغُرَف جمع غُرْفَة. والثاني: أنها اسمٌ مفردٌ وهو مصدرٌ كالهدى والسرى. قاله أبو عليّ. وكنت قد قدَّمْتُ أولَ
52
هذا الموضوع أنهم قالوا: لم يأتِ مصدرٌ على فُعَل من المعتل اللام إلاَّ سرى وهدى وبكى، وأنَّ بعضهم زادَ «لقى» وأنشدْتُ عليه بيتاً ثَمَّة، وهذا لفظٌ آخرُ فيكون خامساً. والنهى: العَقْلُ. قالوا: سُمِّي بذلك لأنه يَنْهى صاحبَه عن ارتكابِ القبائح.
53
قوله: ﴿أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾ : هي مِنْ «رأى» البصَريةِ فَلَمَّا دخلَتْ همزةُ النقل تَعَدتْ بها إلى اثنين أولُهما الهاء، والثاني «آياتِنا»، والمعنى: أَبْصَرْناه. والإِضافةُ هنا قائمةٌ مقامَ التعريفِ العَهْدي أي: الآياتِ المعروفةَ كالعصا واليد ونحوهما، وإلاَّ فلم يُرِ اللهُ تعالى فرعونَ جميعَ ِآياتِه. وجَوَّز الزمخشري أن يُرادَ بها الآياتُ على العموم بمعنى: أنَّ موسى عليه السلام أراه الآياتِ التي بُعِث بها وعَدَّد عليه الآياتِ التي جاءَتْ بها الرسلُ قبله عليهم السلام، وهو نبيٌّ صادقٌ، لا فرقَ بين ما يُخْبِرُ عنه وبين ما يُشاهَدُ به «.
قال الشيخ:»
وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ الإِخبارَ بالشيءِ لا يُسَمَّى رؤيةً له إلاَّ بمجازٍ بعيد. وقيل: بل الرؤيةُ هنا رؤيةٌ قلبيةٌ، فالمعنى: أَعْلَمْناه «وأيَّد ذلك: بأنه لم يكن أراه إلاَّ اليدَ والعصا فقط. ومَنْ جَوَّز استعمالَ اللفظِ في حقيقتِه ومجازِه أو إعمالَ المشتركِ في معنَيَيْه يجيزُ يُرادَ المعنيان جميعاً. وتأكيدُه
53
للآيات ب» كلَّها «يدلُّ على إرادةِ العمومِ لأنَّهم قالوا: فائدةٌ التوكيدِ ب» كل «وأخواتِها رَفْعُ تَوَهُّمِ وَضْعِ الأخَصِّ مَوْضعَ الأعمِّ، فلا يُدَّعَى أنه أراد بالآياتِ آياتٍ مخصوصةً، وهذا يتمشى على أن الرؤيةَ قلبيةٌ، ويُراد بالآيات ما يَدُلُّ على وَحْدانيةِ الله وصِدْقِ المبلِّغ. ولم يذكر معفولَ التكذيب والإِباءِ تعظيماً له، وهو معلومٌ.
54
قوله: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ﴾ : جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: واللهِ لَنَأْتِيَنَّك. وقوله: «بسِحْرٍ» يجوز أن يتعلَّقَ بالإِتيان، وهذا هو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ الإِتيان أي: ملتبسين بسِحْرٍ.
قوله: ﴿مَوْعِداً﴾ يجوز أن يكونَ زماناً. ويُرَجِّحه قولُه: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة﴾ والمعنى: عَيَّن لنا وقتَ اجتماع؛ ولذلك أجابهم بقوله: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة﴾. وضَعَّفوا هذا: بأنه يَنْبُوا عنه قوله: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ﴾، وبقوله: ﴿لاَّ نُخْلِفُهُ﴾. وأجاب عن قوله: ﴿لاَّ نُخْلِفُهُ﴾ بأنَّ المعنى: لا نُخْلِفُ الوقتَ في الاجتماع. ويجوز أن يكون مكاناً. والمعنى: بَيِّنْ لنا مكاناً معلوماً نعرفه نحن وأنت... ويُؤَيَّدُ بقوله: ﴿مَكَاناً سُوًى﴾ قال: فهذا يَدُلُّ على أنه مكانٌ، وهذا يَنْبُوْ عه قوله: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة﴾.
ويجوز أَنْ يكونَ مصدراً، ويؤيِّد هذا قولُه: ﴿لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ﴾
54
لأنَّ المواعدَة تُوْصَفُ بالخُلْفِ وعدمِه. وإلى هذا نحا جماعةٌ مختارين له. ورُدَّ عليهم بقولِه: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة﴾ فإنه لا يطابقه.
وقال الزمخشري: «إنْ جَعَلْتَه زماناً نظراً في أن قولَه: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة﴾ مطابقٌ له لَزِمك شيئان: أن تجعلَ الزمان مُخْلَفاً، وأن يَعْضُلَ عليك ناصبٌ» مكاناً «، وإن جَعَلْتَه مكاناً لقوله: ﴿مَكَاناً سُوى﴾ لَزِمك أيضاً أَنْ تُوْقِعَ الإِخلاف على المكان، وأن لا يطابِقَ قولَه موعدُكم يومُ الزينة، وقرءةُ الحسن غيرُ مطابقةٍ له زماناً ومكاناً جميعاً لأنَّه قرأ» يومَ الزينة «بالنصب، فبقي أن يُجْعل مصدراً بمعنى الوَعْدِ، ويقدَّرَ مضافٌ محذوفٌ أي: مكان الوعد، ويُجْعلَ ضميرُ في» نُخلِفُه «للموعِد، و» مكاناً «، بدل من المكان المحذوف. فإن قلت: فكيف طابقه قولُه: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة﴾، ولا بُدَّ من أن تجعلَه زماناً، والسؤالُ واقعٌ عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابقٌ معنىً، وإن لم يطابقْه لفظاً؛ لأنهم لا بُدَّ لهم أن يجتمعوا يومَ الزينة في مكانٍ بعينه مُشْتَهِرٍ باجتماعِهم فيه في ذلك الزمان. فبذِكْر الزمانِ عُلِمَ المكانُ. وأما قراءةُ الحسنِ فالموعدُ فيها مصدرٌ لا غيرَ. والمعنى: إنجازُ وعدِكم يومَ الزينة، وطابقَ هذا أيضاً من طريق المعنى. ويجوز أن لا يُقَدَّرَ مضافٌ محذوف، ويكون المعنى: اجعل بيننا وبينك وعداً لا نُخْلفه».
وقال أبو البقاء: «هو هنا مصدر لقوله: ﴿لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ﴾.
55
والجَعْل هنا بمعنى التصيير. ومَوْعِداً مفعولٌ أولُ والظرفُ هو الثاني. والجملةُ مِنْ قوله:» لا نُخْلِفُه «صفةٌ لموعداً. و» نحن «توكيدٌ مُصَحِّحٌ للعطفِ على الضميرِ المرفوعِ المستترِ في» نُخْلفه «و» مكاناً «بدلٌ من المكان المحذوف كما قرره الزمخشري. وجَوَّز أبو علي الفارسي وأبو البقاء أن ينتصِبَ» مكاناً «على المفعول الثاني ل» اجعَلْ «قال:» ومَوْعداً على هذا مكانٌ أيضاً، ولا ينتصِبُ ب مَوْعد لأنه/ مصدرٌ قد وُصِف «يعني أنه يَصِحُّ نصبُه مفعولاً ثانياً، ولكنْ بشرطِ أن يكونَ المَوْعِدُ بمعنى المكان؛ ليتطابقَ المبتدأُ أو الخبرُ في الأصل.
وقوله: «ولا ينتصِبُ بالمصدر»
يعني أنه لا يجوزُ أن يُدَّعَى انتصابُ «مكاناً» ب مَوْعد. والمرادُ بالموعد المصدرُ وإنْ كان جائزاً مِنْ جهة المعنى؛ لأنَّ الصناعةَ تَأباه وهو وصفُ المصدرِ، والمصدرُ شرطُ إعمالِه عَدَمُ وصفِه قبل العملِ عند الجمهور.
وهذا الذي منعه الفارسيُّ وأبو البقاء، جَوَّزه الزمخشريُّ وبدأ به فقال: «فإن قلتَ: فبمَ ينتَصِبُ مكاناً؟ قلت: بالمصدرِ، أو بما يَدُلُّ عليه المصدر. فإنْ قلت: كيف يطابقُه الجوابُ؟ قلت: أمَّا على قراءةِ الحسن فظاهرٌ، وأمَّا على قراءةِ العامَّةِ فعلى تقدير: وَعْدُكم وَعْدُ يومِ الزينة».
قال الشيخ: «وقوله: إنَّ مكاناً ينتصب بالمصدر ليس بجائزٍ؛ لأنه قد وُصِف قبل العملِ بقوله:» لا نُخْلِفُه «وهو موصولٌ، والمصدر إذا وُصِفَ قبل
56
العملِ لم يَجُزْ أَنْ يعملَ عندهم». قلت: الظروفَ والمجروراتُ يُتَّسعُ فيها ما لم يُتَّسَعْ في غيرِها. وفي المسألة خلافٌ مشهورٌ وأبو القاسم نحا إلى جواز ذلك.
وجعل الحوفيُّ انتصابَ «مكاناً» على الظرف، وانتصابَه ب «اجعل». فتحصَّل في نصبِ «مكاناً» خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنه بدلٌ مِنْ «مكاناً» المحذوفِ. الثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ للجَعْل. الثالث: أنه نُصِب بإضمار فعل. الرابع: أنه منصوبٌ بنفس المصدر. الخامس: أنه منصوبٌ على الظرف بنفس «اجْعَلْ».
وقرأ أبو جعفرٍ وشيبةُ «لا نُخْلِفْه» بالجزم على جوابِ الأمر، والعامَّةُ بالرفع على الصفةِ لِمَوْعِد، كما تقدَّم.
وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم والحسن «سُوَىً» بضم السينِ منوناً وصلاً. والباقون بكسرِها. فالكسرُ والضمُّ على أنها صفةٌ بمعنى مكانٍ عَدْلٍ، إلا أنَّ الصفةَ على فُعَلٍ كثيرةٌ نحو: لُبَد وحُطَم، وقليلةٌ على فِعَل. وحكى سيبويه «لحم زِيَم» ولم يُنَوَّن الحسنُ «سوى» أجرى الوصلَ مُجْرى الوقف. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ مَنَعَ صَرْفَه للعَدْل على فُعَلٍ كعُمَر لأن ذلك في الأعلام. وأمَّا فُعَل في الصفاتِ فمصروفَةٌ نحو: حُطَم ولُبَد.
57
وقرأ عيسى بن عمر «سِوى» بالكسر من غيرِ تنوين. وهي كقراءة الحسنِ في التأويل.
وسوى معناه «عَدْلاً ونَصَفَة». قال الفارسي: «كأنه قال: قُرْبُه منكم قُرْبُه مِنَّا». قال الأخفش: «سوى» مقصورٌ إنْ كَسَرْتَ سينَه أو ضَمَمْتَ، وممدودٌ إنْ فَتَحْتَها، ثلاثُ لغات، ويكون فيها جميعها بمعنى غير، وبمعنى عَدْل ووسط بين الفريقين. قال الشاعر:
٣٢٩٥ - وإنَّ أبانا كان حَلَّ ببلدةٍ سِوَىً بين قَيْسٍ قيسِ عَيْلانَ والفِزْرِ
قال: «وتقول: مررتُ برجلٍ سِواك وسُواك وسَوائِك أي: غيرِك ويكون للجميع» وأعلى هذه اللغاتِ الكسرُ، قاله النحاس. وزعم بعضُ أهلِ اللغة والتفسير أنَّ معنى مكاناً سوى: مستوٍ من الأرض، لا وَعْرَ فيه ولا حُزُوْنَة.
58
قوله: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة﴾ : العامَّةُ على رفع «يومُ الزينة» خبراً ل «موعدُكم». فإنْ جَعَلْتَ «موعدكم» زماناً لم تَحتجْ إلى
58
حَذْفِ مضاف؛ إذ التقديرُ: زمانُ الوعدِ يومُ الزينة، وإن جعلتَه مصدراً احتجْتَ إلى حَذْفِ مضافِ تقديرُه: وَعْدُكم وَعْدُ يومِ الزينة.
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى وعاصم في بعض طُرُقِه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة «يومَ» بالنصب. وفيه أوجهُ، أحدها: أن يكونَ خبراً ل «موعدكم» على أنَّ المرادَ بالموعد المصدرُ أي: وعْدُكم كائن في يوم الزينة كقولِك: القتالُ يومَ كذا والسفر غداً.
الثاني: أن يكونَ «موعدُكم» مبتدأً، والمرادُ به الزمان، و «ضُحَى» خبرُه على نيةِ التعريفِ فيه؛ لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه، قاله الزمخشري، ولم يُبَيِّنْ ما الناصبُ ل «يومَ الزينة» ؟ ولا يجوز أن يكونَ منصوباً، ب «موعدُكم» على هذا التقديرِ؛ لأنَّ مَفْعِلاً مراداً به الزمانُ أو المكانُ لا يعملُ وإنْ كان مشتقاً، فيكونُ الناصبُ له فعلاً مقدَّراً. وواخذه الشيخ في قوله «على نيةِ التعريف» قال: «لأنَّه وإن كان ضُحى ذلك اليومِ بعينه فليس على نية التعريفِ، بل هو نكرةٌ، وإن كان من يومٍ بعينه؛ لأنه ليس معدولاً عن الألفِ واللام كسَحَر ولا هو معرَّفٌ بالإِضافةِ ولو قلت:» جئت يوم الجمعة بَكَراً «لم نَدَّعِ أن بَكَراً معرفةٌ وإن كنت تعلمُ أنه من يومٍ بعينه».
الثالث: أن يكونَ «موعدُكم» مبتدأً، والمرادُ به المصدرُ و «يومَ الزينةِ» ظرفٌ له. «وضحى» منصوبٌ على الظرفِ خبراً للموعد، كما أخبر عنه في الوجهِ الأول بيوم الزينة نحو: القتالُ يومَ كذا «.
59
قوله: ﴿وَأَن يُحْشَرَ﴾ في محلِّه وجهان، أحدُهما: الجرُّ نَسَقاً على الزينة أي: موعدُكم يومُ الزينة ويومُ أن يُحْشر. أي: ويومُ حَشْرِ الناس. والثاني: الرفعُ: نَسَقاً على» يومُ «التقديرُ: موعدُكم يومُ كذا، وموعدكم أَنْ يُحْشَرَ الناسُ أي: حَشْرُهم.
وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو نهيك وعمرو بن فائد»
وأن تَحْشُرَ الناسَ «بتاء الخطاب في» تَحْشُرَ «، ورُوي/ عنهم» يَحْشُرَ «بياء الغَيْبة. و» الناسَ «نصبٌ في كلتا القراءتين على المفعوليَّة. والضميرُ في القراءتين لفرعونَ أي: وأَنْ تَحْشُرَ أنت يا فرعونُ، أو وأن يَحْشُرَ فرعونُ. وجوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميرَ اليوم في قراءة الغَيْبة؛ وذلك مجازٌ لمَّا كان الحشرُ واقعاً فيه نُسِبَ إليه نحو: نهارُه صائمٌ وليلُه قائمٌ.
و»
ضُحَىً «نصبٌ على الظرف، العاملُ فيه» يُحْشَر «وتُذَكَّر وتؤنَّث. والضَّحاء بالمد وفتح الضاد فوق الضحى؛ لأن الضُّحى ارتفاعُ النهارِ، والضَّحاء بعد ذلك، وهو مذكَّرٌ لا غير.
60
قوله: ﴿كَيْدَهُ﴾ : فيه حَذْفُ مضافٍ أي: ذوي كيدِه.
قوله: ﴿فَيُسْحِتَكُم﴾ : قرأ الأخَوان وحفص عن عصام «فيُسْحِتَكم» بضم الياء وكسر الحاء. والباقون بفتحهما. فقراءة الأخوين مِنْ أسْحَتَ رباعياً وهي لغةُ نجدٍ وتميم. قال الفرزدق التميمي:
60
٣٢٩٦ - وعَضُّ زمانٍ يا بنَ مروانَ لم يَدَعْ من المالِ إلاَّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ
وقراءةُ الباقين مِنْ سَحَتَه ثلاثياً وهي لغةُ الحجاز. وأصلُ هذه المادةِ الدلالةُ على الاستقصاءِ والنَّفاد. ومنه سَحَتَ الحالقُ الشَّعْرَ أي: استقصاه فلم يتركْ منه شيئاً، ويستعملُ في الإِهلاك والإِذهاب. ونصبُه بإضمار «أَنْ» في جواب النهي. ولَمَّا أنشد الزمخشريُّ قولَ الفرزدق «إلاَّ مُسْحَتاً أو مُجْلَّفُ» قال بعد ذلك: «في بيتٍ لم تَزَلِ الرُّكَبُ تَصْطَكُّ في تسويةِ إعرابه».
قلت: يعني أن هذا البيتَ صعبُ الإِعرابِ، وإذ قد ذَكَر فَلأَذْكُرْ ما ورد في هذا البيتِ من الروايات، وما قال الناس في ذلك على حسبِ ما يليق بهذا الموضوعِ، فأقولُ وبالله الحَوْلُ: رُوي هذا البيتُ بثلاثِ روايات، كل واحدة لا تَخْلو من ضرورةٍ: الأُولى «لم يَدَعْ» بفتح الياءِ والدال ونصب «مُسْحَت». وفي هذه خمسةُ أوجه:
الأول: أنَّ معنى لم يَدَعْ من المال إلاَّ مُسْحتاً: لم يَبْقَ إلاَّ مُسْحَت، فلما كان هذا في قوة الفاعل عَطَفَ عليه قولَه: «أو مُجَلَّفُ» بالرفع. وبهذا البيتِ استشهد الزمخشريُّ على قراءة أُبَيّ والأعمش «فَشربوا منه إلاَّ قليلٌ» برفع «قليل» وقد تقدَّم ذلك. الثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ دَلَّ عليه لم يَدَعْ، والتقدير: أو بقي مُجَلَّفٌ. الثالث: «أن» مُجَلَّفُ «مبتدأ، وخبرُه مضمرٌ تقديره: أو مُجَلَّف كذلك وهو تخريج الفراء. الرابع: أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر
61
في» مُسْحتاً «، وكان مِنْ حقِّ هذا أن يَفْصِل بينهما بتأكيدٍ أو فاصلٍ ما. إلاَّ أنَّ القائلَ بذلك لا يَشْترط وهو الكسائيُّ. وأيضاً فهو جائزٌ في الضرورة عند الكل. الخامس: أن يكونَ» مُجَلَّف «مصدراً بزنة اسم المفعول كقولِه تعالى: ﴿كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: ١٩] أي: تَجْليف وتمزيق، وعلى هذا فهو نَسَقٌ علت» عَضُّ زمانٍ «إذ التقدير: رَمَتْ بنا همومٌ المُنَى وعَضُّ زمانٍ أو تجليف، فهو فاعلٌ لعطفِه على الفاعل، وهو قولُ الفارسيِّ. وهو عندي أحسنُها.
الروايةُ الثانية: فتحُ الياءِ وكسرُ الدال ورفعُ مُسْحت. وتخريجُها واضحٌ: وهو أن تكون مِنْ وَدَع في بيته يَدِع فهو وادع، بمعنى: بقي يبقى فهو باقٍ، فيرتفعُ مُسْحَتٌ بالفاعلية، ويُرْفَعُ»
مُجَلَّفُ «بالعطفِ عليه. ولا بُدَّ حينئذٍ من ضميرٍ محذوفٍ وتقديرُه: مِنْ أجله أو بسببه.... الكلام.
الرواية الثالثة:»
يُدَعْ «بضمِّ الياء وفتح الدال على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، و» مُسْحَت «بالرفع لقيامِه مَقام الفاعلِ، و» مُجَلَّف «عطفٌ عليه. وكان مِنْ حَقِّ الواو أن لا تُحْذف، بل تَثْبُتُ لأنها لم تقع بين ياءٍ وكسرة، وإنما حُذِفَتْ حملاً للمبني للمفعول على المبني للفاعل. وفي البيت كلامٌ أطولُ من هذا تركتُه
62
اختصاراً وهذا لُبُّه. وقد ذكرته في البقرة وفَسَّرْت معناه ولغَته، ووَصَلْتُه بما قبله فعليك بالالتفاتِ إليه.
63
قوله: ﴿إِنْ هذان﴾ : اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة: فقرأ ابن كثيرٍ وحدَه «إنْ هذانِّ» بتخفيف إنْ، والألفِ، وتشديدِ النون. وحفصٌ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف نونَ «هذانٍ». وقرأ أبو عمرو «إنَّ» بالتشديد «هذين» بالياء وتخفيفِ النون. والباقون كذلك إلاَّ أنهم قَرَؤوا/ «هذان» بالألف.
فأَمَّا القراءةُ الأولى وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا «إنْ» المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر. ف «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ؛ فإن الرسم «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك.
وأمَّا تشديدُ نونِ «هذان» فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ، وقد أَتْقَنتُ ذلك هناك.
63
وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمعنى ما، واللامُ بمعنى إلاَّ، وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم «ما هذانِ إلاَّ ساحران».
وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى. أمَّا الإِعرابُ ف «هذَيْن» اسمُ «إنَّ» وعلامةُ نصبِه الياءُ. و «لَساحِران» خبرُها، ودخَلَتِ اللام توكيداً. وأمَّا مِنْ حيث المعنى: فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق تأكيديٍّ من طرفيه، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ. قال أبو إسحاق: «لا أُجيز قراءةَ أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ». وقال أبو عبيد: «رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان» هذن «ليس فيها ألفٌ، وهكذا رأيتُ رفعَ الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء، ولا يُسْقِطونها».
قلت: وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو، وكم جاء في الرسم أشياءُ خارجةٌ عن القياسِ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها، أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس. فإن قلتَ: ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض عليهم بزيادةِ الألفِ: فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم، ساقطةٌ من خَطِّ
64
المصحفِ. فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهم يُسْقِطون الألفَ مِنْ رفع الاثنين، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء.
وذهب جماعةٌ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب.
يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ، فلم يقرَأْه الناسُ إلاَّ بالياءِ على الصوابِ.
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه، أحدُها: أن «إنَّ» بمعنى نَعَمْ، و «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، وكَثُرَ ورودُ «إنَّ» بمعنى نعم وأنشدوا:
٣٢٩٧ - بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْ بِ يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ
ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
أي: فقلت: نَعَمْ. والهاءُ للسَّكْتِ. وقال رجلٌ لابن الزبير: لَعَن اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ. فقال: «إنَّ وصاحبَها» أي: نعم. ولَعَنَ صاحبَها. وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين. وهو مردودٌ من وجهين، أحدهما: عدمُ ثبوتِ «إنَّ» بمعنى نعم، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ: أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه: إنه كذلك. وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر «إنَّ»
65
للدلالةِ عليه، تقديره: إنَّها وصاحَبها ملعونان، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني: دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب «إنَّ» المكسورةِ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه:
٣٢٩٨ - أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ
وقد يُجاب عنه: بأنَّ «لَساحِران» يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه اللامُ تقديرُه: لهما ساحران. وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه عنه.
الثاني: أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو «ها» التي قبل «ذان» وليست ب «ها» التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ، والتقدير: إنَّ القصةَ ذانِ لساحران. وقد رَدُّوا هذا من وجهين، أحدهما: من جهةِ الخَطِّ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ «إنها» فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار﴾ [الحج: ٤٦] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من «إنَّ» متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميراً، وهو واضح. الثاني: أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ. وقد يُجاب عنه بما تقدَّم.
الثالث: أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ
66
بعدَه في محلِّ رفعٍ خبراً ل «إنَّ»، التقديرُ: إنَّه، أي: الأمرُ والشأنُ. وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدهما: حَذْفُ اسمِ «إن»، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ «إنَّ» فعلاً كقولِه:
٣٢٩٩ - إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يوماً يَلْقَ فيها جَآذراً وظِباءَ
والثاني: دخولُ اللام في الخبرِ.
وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: لهما ساحران. وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ، أعني جوابَه بذلك.
الرابع: أنَّ «هذان» اسمُها، و «لَساحران» خبرُها. وقد رُدَّ هذا بأنه كان ينبغي أَنْ يكونَ «هذين» بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو.
وقد أُجيب عن ذلك: بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم. وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي. قال أبو زيد: «سمعتُ من العربِ مَنْ يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفاً»، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون ألفاً في جميع أحواله، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ، وأنشدوا قولَه:
67
أي: لنابَيْه. وقولَه:
٣٣٠٠ - فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما
٣٣٠١ - إنَّ أباها وأبا أباها قد بَلَغا في المجدِ غايتاها
أي: غايتيهما، إلى غير ذلك من الشواهد.
وقرأ ابن مسعود: «أنْ هذان ساحِران» بفتح «أَنْ» وإسقاط اللامِ: على أنها وما في حَيِّزها بدلٌ من «النجوى» كذا قاله الزمخشري، وتبعه الشيخ ولم ينكره. وفيه نظرٌ: لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ. وأيضاً فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة، وكذا قاله الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ «أنْ هذان ساحران» بدلاً من «النجوى» ؟.
قوله: ﴿بِطَرِيقَتِكُمُ﴾ الباءُ في «بطريقتكم» مُعَدِّيَةٌ كالهمزة. والمعنى: بأهلِ طريقتكم. وقيل: الطريقةُ عبارةُ عن السَّادة فلا حَذْفَ.
68
قوله: ﴿فَأَجْمِعُواْ﴾ : قرأ أبو عمرو «فاجْمَعُوا» بوصل
68
الألِف وفتحِ الميمِ. والباقون بقطعِها مفتوحةً وكسرِ الميمِ. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سورة يونس، وما قاله الناسُ في الفرقِ بين الثلاثي والرباعي.
و «كيدَكم» مفعولٌ به. وقيل: هو على إسقاطِ الخافض أي: على كَيْدكم. وليس بشيءٍ.
قوله: ﴿صَفّاً﴾ يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل «ائتُوا» أي: ائتُوا مُصْطَفِّين أي: ذوي صفٍّ فهو مصدرٌ في الأصل. وقيل: هو مفعولٌ به أي: ائتوا قوماً صَفاً، وفيه التسميةُ بالمصدر، أو هو على حذفِ المضاف أي: ذوي صف.
قوله: ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ﴾ قال الزمخشري: «اعتراضٌ يعني: وقد فاز مَنْ غلب». قلت: يعني بالاعتراض أنه جِيء بهذه الجملة أجنبيةً بين كلامِهم ومقولهم، لأنَّ من جملة قولهم «قالوا يا موسى: إمَّا أَنْ تُلْقي» وهذه الجملةُ أعني قولَه وقد أفلَح مِنْ كلامِ الله تعالى فهي اعتراضٌ. بهذا الاعتبارِ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الظاهرَ أنها مِنْ مقولاتِهم، قالوا ذلك تحريضاً لقومِهم على القتالِ، وحينئذٍ فلا اعتراضَ.
69
قوله: ﴿إِمَّآ أَن تُلْقِيَ﴾ : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ تقديرُه: اخْتَرْ أحدَ الأمرين، كذا قدَّره الزمخشري قال الشيخ: «وهذا تفسيرُ معنىً لا تفسيرُ إعرابٍ، وتفسيرُ الإِعرابِ:» إمَّا تختارُ الإِلقاءَ «. والثاني: أنَّه مرفوعٌ على خبرِ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: الأمرُ إمَّا إلقاؤُك
69
إو إلقاؤُنا، كذا قدَّره الزمخشريُّ. الثالث: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه: إلقاؤُك أولٌ. ويَدُلُّ عليه قولُه: وإمَّا أَنْ نكونَ أولَ مَنْ أَلْقى». واختار هذا الشيخُ، وقال: «فَتَحْسُنُ المقابلةُ من حيث المعنى، وإنْ لم تَحْصُلْ مقابلةٌ من حيث التركيبُ اللفظيُّ». ثم قال: «وفي تقديرِ الزمخشريِّ» الأمرُ إلقاؤُك «لا مقابلةَ فيه» وهذا تَقَدَّم نظيرُه في الأعراف.
70
قوله: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ﴾ : هذه الفاءُ عاطفةٌ على جملةٍ محذوفةٍ دَلَّ عليها السياقُ. والتقدير: فَأَلْقَوْا فإذا. و «إذا» هذه التي للمفاجَأة. وفيها ثلاثة أقوال تقدَّمت. أحدُها: أنها باقيةٌ على ظرفيةِ الزمان. الثاني: أنها ظرفُ مكانٍ. الثالث: أنها حرفٌ.
قال الزمخشري: «والتحقيق فيها أنها الكائنةُ بمعنى الوقتِ الطالبةُ ناصباً لها، وجملةً تُضاف إليها خُصَّتْ في بعضِ المواضع بأن يكونَ الناصبُ لها فعلاً مخصوصاً، وهو فِعْلُ المفاجأةِ، والجملةٌ ابتدائيةٌ لا غير. فتقديرُ قولِه تعالى ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ﴾ : ففاجأ موسى وقتَ تخييلِ سَعْيِ حبالِهم وعِصيِّهم، [وهذا تمثيل. والمعنى: على مفاجأته حبالُهم وعصيُهم مُخَيِّلَةً إليه السَّعْيَ» انتهى].
قال الشيخ: «قوله» إنَّها زمانية «مرجوحٌ، وهو مذهب الرِّياشي. وقوله»
70
الطالبةُ ناصباً «صحيحٌ. وقوله:» وجملةٌ تضاف إليها «ليس صحيحاً عند بعض أصحابنا لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ هي خبراً لمبتدأ، وإمَّا أَنْ تكونَ معمولةً لخبر المبتدأ. وإذا كان كذلك استحال أَنْ تُضافَ إلى الجملةِ؛ لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ بعضَ الجملةِ، أو معمولةً لبعضِها فلا يمكن الإِضافةُ. وقوله:» خُصَّتْ في بعض المواضع إلى آخره «قد بَيَّنَّا الناصبَ لها. وقولُه:» والجملةُ بعدها ابتدائيةٌ لا غير «هذا الحَصْرُ ليس بصحيحٍ بل قد جَوَّز الأخفشُ، ونصَّ على أن الجملةَ الفعليةَ المقترنةَ ب» قد «تقع بعدَها نحو» خرجْتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمروٌ «برفعِ» زيد «ونصبِه على الاشتغال. وقوله:» والمعنى: على مفاجأته حبالُهم وعِصِيُّهم مخيِّلةً إليه السَّعْيَ «فهذا عكسُ ما قُدِّر بل المعنى: على مفاجأةِ حبالِهم وعصيِّهم إياه. فإذا قتل:» خَرَجْتُ فِإذا السَّبُعُ «فالمعنى: أنه فاجأني السَّبُعُ وهجم ظهورُه» انتهى ما رَدَّ به.
قوله وما رَدَّ به عليه غيرُ لازمٍ له، لأنه يَرُدُّ عليه بقولِ بعض النحاةِ، وهو لا يلتزم ذلك القولَ حتى يَرُدَّ عليه لا سيما إذا كان المشهورُ غيرَه، ومقصودُه تفسيرُ المعنى.
وقال أبو البقاء: الفاءُ جوابُ ما حُذِف، تقديرُه «فَأَلْقَوْا فإذا»، ف «إذا» في هذا ظرفُ مكانٍ، العاملُ فيه «أَلْقَوْ». وفي هذا نظر؛ لأنَّ «أَلْقَوْا» هذا المقدَّرَ لا يَطْلُبُ جواباً حتى يقول: الفاءُ جوابُه، بل كان ينبغي أَنْ يقولَ: الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ الفجائية على جملةٍ أخرى مقدرةٍ. وقولُه «ظرف مكانٍ»، هذا مذهبُ المبردِ، وظاهرُ قولِ سيبويه أيضاً، وإن كان المشهورَ بقاؤها على
71
الزمان. وقوله: «إن العامل فيها» فأَلْقَوا «لا يجوز لأنَّ الفاءَ تمنع من ذلك.
هذا كلامُ الشيخ ثم قال بعده:»
ولأنَّ «إذا» هذه إنما هي معمولةٌ لخبرِ المبتدأ الذي هو «حبالُهم وعِصٍيُّهم» إن لم يجَعلْها هي في موضع الخبر؛ لأنه يجوزُ أن/ يكونَ الخبرُ «يُخَيَّل»، ويجوز أَنْ تكونَ «إذا» و «يُخَيَّل» في موضعِ الحال.
وهذا نظير: «خرجْتُ فإذا الأسدُ رابضٌ ورابضاً» فإذا رَفَعْتَ «رابضاً» كانت «إذا» معمولةً له، والتقدير: فالبحضرة الأسدُ رابضٌ، أو في المكان. وإذا نَصَبْتَ كانت «إذا» خبراً. ولذلك يُكْتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاماً، نحو: «خَرَجْتُ فإذا الأسدُ».
قوله: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ﴾ قرأ العامَّة «يُخَيَّل» بضمِّ الياء الأولى وفتحِ الثانية مبنياً للمفعول. و «أنَّها تَسْعى» مرفوعٌ بالفعلِ قبلَه لقيامِه مقامَ الفاعلِ تقديرُه: يُخَيَّل إليه سَعْيُها. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين: أحدهما: أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرَ الحبالِ والعِصِيِّ، وإنما ذُكِّرَ ولم يَقُلْ ِ «تُخَيَّل» بالتاء مِنْ فوقُ؛ لأنَّ تأنيثَ الحبالِ غيرُ حقيقي. الثاني: أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المُلْقى، ولذلك ذُكِّرَ. وعلى الوجهين ففي قولِه «أنها تسعى» وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلُ اشتمالٍ من ذلك الضمير المستترِ في «يُخَيَّل». والثاني: أنه مصدرٌ في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستتر أيضاً. والمعنى: يُخَيَّل إليه هي أنها ذاتُ سَعْيٍ. ولا حاجةَ إلى هذا، وأيضاً فقد نَصُّوا على أنَّ المصدرَ المؤول لا يقع موقعَ الحالِ. لو قلت: «جاء زيدٌ أَنْ يركضَ» تريد ركضاً، بمعنى ذا ركض، لم يَجُزْ.
وقرأ ابن ذكوان «تُخَيَّلُ» بالتاء من فوق. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ
72
الفعلَ مُسْنَدٌ لضميرِ الحبالِ والعِصِيِّ أي: تُخَيَّلُ الحبالُ والعِصِيُّ، و «أنَّها تَسْعَى» بدلُ اشتمال من ذلك الضميرِ. الثاني: كذلك إلاَّ أنَّ «أنَّها تَسْعى» حالٌ أي: ذات سعي كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك. الثالث: أن الفعلَ مسندٌ لقولِه «أنَّها تَسْعى» كقراءةِ العامَّةِ في أحدِ الأوجهِ، وإنما أَنَّثَ الفعلَ لاكتسابِ المرفوعِ التأنيثَ بالإِضافة؛ إذا التقديرُ: تُخَيَّلُ إليه سعيُها فهو كقوله:
٣٣٠٢ -......................... ......... شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ
[وقوله تعالى:] ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠].
وقرأ أبو السَّمَّال «تَخَيَّلُ» بفتح التاءِ والياء مبنياً للفاعلِ، والأصلُ: تَتَخَيَّلُ فَحَذَفَ إحدى التاءَيْن نحو: ﴿تَنَزَّلُ الملائكة﴾ [القدر: ٤]، و «أنَّها تسعى» بدلُ اشتمالٍ أيضاً من ذلك الضمير. وجَوَّز ابنُ عطيةَ أيضاً أنه مفعولٌ مِنْ أجله. ونقل ابنُ جُبارة الهُذَليُّ قراءة أبي السمَّال «تُخَيِّل» بضمِّ التاء مِنْ فوقُ وكسر الياء، فالفعلُ مسندٌ لضميرِ الحِبال، و «أنها تسعى» مفعولٌ أي: تُخَيِّلُ الحبالُ سَعْيَها. ونَسَبَ ابنُ عطيةَ هذه القراءةَ للحسنِ وعيسى الثقفيِّ.
وقرأ أبو حيوةَ «نُخَيِّل» بنونِ العظمة، و «أنها تسعى» مفعولٌ به أيضاً على هذه القراءةِ.
73
وقرأ الحسنُ والثقفيُّ «عُصِيُّهم» بضم العين حيث وقع، وهو الأصلُ. وإنما كُسِرَت العينُ إتباعاً للصادِ وكُسِرت الصادُ إتباعاً للياء. والأصلُ عُصُوْوٌ بواوين فَأُعِلَّ كما ترى بقَلْب الواوين ياءَيْن استثقالاً لهما، فكُسِرَت الصادُ لتصِحَّ، وكُسِرَتِ العينُ إتباعاً. ونقل صاحبُ «اللوامح» أنَّ قراءةَ الحسنِ «عُصْيهُم» بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع، وهو أيضاً جمع كالعامَّة، إلاَّ أنه على فُعْلٍ كحُمْرٍ، والأولُ على فُعُوْل كفُلُوس.
والجملةُ من «يُخَيَّل» يُحتمل أَنْ تكونَ في محلِّ رفع خبراً ل «هي» على أن «إذا الفجائية» فَضْلَةٌ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، على أنَّ «إذا» الفجائية هي الخبر. والضميرُ في «إليه» الظاهرُ عَوْدُه على موسى. وقيل: يعود على فرعون، ويَدُلُّ للأولِ قولُه تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى﴾.
74
قوله: ﴿تَلْقَفْ﴾ : قرأ العَامَّةُ بفتح اللام وتشديد القافِ وجزمِ الفاءِ على جواب الأمر. وقد تقدم أنَّ حَفْصاً يقرأ «تَلْقَفْ» بسكون اللامِ وتخفيفِ القاف. وقرأ ابن ذكوان هنا «تَلْقَفُ» بالرفع: إمَّا على الحالِ،
74
وإمَّا على الاستئناف. وأَنَّثَ الفعلَ في «تَلْقَف» حَمْلاً على معنى «ما» لأنَّ معناها العصا، ولو ذُكِّر ذهاباً إلى لفظِها لجاز، ولم يُقرأ به.
[وقال أبو البقاء: «يجوز أَنْ يكونَ فاعلُ» تَلْقَف «ضميرَ موسى» فعلى هذا يجوز أَنْ يكونَ «تلقفُ» في قراءة الرفع حالاً من «موسى». وفيه بُعْدٌ].
قوله: ﴿كَيْدُ سَاحِرٍ﴾ العامَّةُ على رَفْع «كَيْدُ» على أنه خبرُ «إنَّ» و «ما» موصولةٌ. و «صَنَعُوا» صلَتُها، والعائدُ محذوفٌ، والموصولُ هو الاسمُ، والتقدير: إنَّ الذي صنعوه كيدُ ساحرٍ. ويجوز أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً فلا حاجةَ إلى العائد، والإِعرابُ بحالِه. والتقدير: إنَّ صُنْعَهم كيدُ ساحرٍ.
وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن على «كَيْدَ» بالنصب على أنه مفعولٌ به، و «ما» مزيدة مُهَيِّئَةٌ.
وقرأ الأخَوان «كيدُ سِحْر» على أنَّ المعنى: كيدُ ذوي سِحْرٍ، أو جُعِلوا نفسَ السحر مبالغةً، أو تبيينٌ للكيد؛ لأنه يكون سِحْراً وغيرَ سحرٍ، كما تُمَيَّزُ سائرُ الأعدادِ بما يُفَسِّرها نحو «مئة درهمٍ، وألف دينار». ومثلُه: علمُ فقه،
75
وعلمُ نحو. وقال أبو البقاء: «كيدُ ساحر» إضافةُ المصدر إلى الفاعلِ و «كيدُ سِحْر» إضافةُ الجنسِ إلى النوع «.
والباقون»
ساحر «. وأفرد/ ساحراً، وإنْ كان المرادُ به جماعةً. قال الزمخشري:» لأن القَصْدَ في هذا الكلامِ إلى معنى الجنسية، لا إلى معنى العددِ، فلو جمِع لخُيِّل أنَّ المقصودَ هو العددُ «.
76
قوله: ﴿فَلأُقَطِّعَنَّ﴾ : قد تقدَّم نحوُ ذلك. و «مِنْ خِلافٍ» حالٌ أي: مختلفة. و «مِنْ» لابتداءِ الغاية، وقد تقدَّم أيضاً تحريرُ هذا وما قُرِىء به هناك.
قوله: ﴿فِي جُذُوعِ النخل﴾ يُحتمل أن يكونَ حقيقةً، وفي التفسير: أنه نَقَرَ جذوعَ النخلِ حتى جَوَّفَها، ووضعهم فيها، فماتوا جوعاً وَعَطَشاً، وأن يكونَ مجازاً، وله وجهان، أحدهما: أنه وضعَ حرفاً مكانَ آخر. والأصلُ: على جذُوع النخل كقول الآخر:
٣٣٠٣ - بَطَلٌ كأنَّ ثيابَه في سَرْحَةٍ يحذى نِعالَ السَّبْتِ ليس بتوءَمِ
والثاني: أنه شَبَّه تمكُّنَهم بتمكُّنِ مَنْ حواه الجِذْعُ واشتمل عليه. ومِنْ تَعَدِّي «صَلَب» ب «في» قولُه:
76
٣٣٠٤ - وقد صَلَبُوا العَبْدِيَّ في جِذْعِ نَخْلَةٍ فلا عَطَسَتْ شَيْبانُ إلاَّ بأَجْدَعا
قوله: ﴿أَيُّنَآ أَشَدُّ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ. وهذه الجملةٌ سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ إنْ كانت «عَلِمَ» على بابها، ومَسَدَّ واحدٍ إنْ كانَتْ عِرْفانيةً. ويجوز على جَعْلِها عِرفانيةً أن تكونَ «أيُّنا» موصولةً بمعنى الذي، وبُنِيَتْ لأنه قد أُضِيفَتْ، وحُذِفَ صدرُ صلتِها، و «أشَدُّ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ. والجملةُ من ذلك المبتدأ وهذا الخبرِ صلةٌ ل «أيّ» و «أيّ» وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً بها، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن﴾ [مريم: ٦٩] في أحدِ أوجهِه كما تقدم.
77
قوله: ﴿والذي فَطَرَنَا﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أن الواوَ عاطفةٌ، عَطَفَتْ هذا الموصولَ على «ما جاءنا» أي: لن نؤثرَك على الذي جاءنا، ولا على الذي فطرنا. وإنما أخَّروا ذِكْرَ البارِيْ تعالى لأنه من باب الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى. والثاني: أنها واوُ قسمٍ، والموصولُ مقسمٌ به. وجوابُ القسمِ محذوفٌ أي: وحَقِّ الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق. ولا يجوز أن يكونَ الجوابُ «لن نُؤْثرك» عند مَنْ يَجَوِّزُ تقديمَ الجواب؛ لأنه لا يُجاب القسمُ ب «لن» إلاَّ في شذوذٍ من الكلام.
77
قوله: ﴿مَآ أَنتَ قَاضٍ﴾ يجوز في «ما» وجهان، أظهرُهما: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، و «أنت قاضٍ» صلتُها والعائدُ محذوفٌ، اي: قاضِيه. وجاز حَذْفُه، وإنْ كان مخفوضاً، لأنه منصوب المحل. أي: فاقضِ الذي أنت قاضِيْه. والثاني: أنها مصدريةٌ ظرفيةٌ، والتقدير: فاقضِ أمرك مدةَ ما أنتَ قاضٍ. ذكر ذلك أبو البقاء. وقد منع بعضُهم ذلك أعني جَعْلَها مصدريةً قال: لأنَّ: «ما» المصدريةَ لا تُوْصَلُ بالجملة الاسمية. وهذا المَنْعُ ليس مجمعاً عليه، بل جَوَّز ذلك جماعةٌ كثيرة. ونقل ابنُ مالك أنَّ ذلك يَكْثُر إذا دَلَّتْ «ما» على الظرفية. وأنشد:
٣٣٠٥ - واصِلْ خليلَك ما التواصُلُ مُمْكِنٌ فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قليلٍ ذاهِبُ
وَيِقلُّ إنْ كانت غيرَ ظرفية. وأنشد:
٣٣٠٦ - أحْلامُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شافيةٌ كما دِماؤُكُمُ تَشْفي مِن الكَلَبِ
قوله: ﴿إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة﴾ يجوز في «ما» هذه وجهان، أحدهما: أن تكونَ المهيئةَ لدخول «إنَّ» على الفعل و «الحياةَ الدنيا» ظرفٌ ل «تَقضي»، ومفعولُه محذوفٌ أي: تقضي غرضَك وأمرَك. ويجوز أن تكونَ «الحياةَ» مفعولاً
78
به على الاتساع، ويدلُّ لذلك قراءةُ أبي حيوة «تقضى هذه الحياةُ» ببناء الفعلِ للمفعول ورَفْعِ «الحياة» لقيامها مقام الفاعلِ؛ وذلك أنه اتُّسِع فيه فقام مقامَ الفاعلِ فرُفِعَ.
والثاني: أن تكونَ «ما» مصدريةً هي اسمُ «إنَّ»، والخبرُ الظرفُ. والتقدير: إنَّ قضاءَكَ في هذه الحياةِ الدنيا، يعني: إن لك الدنيا فقط، ولنا الآخرةَ.
وقال أبو البقاء: «فإنْ كان قد قُرِيء بالرفع فهو خبرُ إنَّ». يعني لو قرىء برفعِ «الحياة» لكان خبراً ل «إنَّ» ويكون اسمُها حينئذٍ «ما»، وهي موصولةٌ بمعنى الذي، وعائدُها محذوفٌ تقديره: إنَّ تَقْضِيه هذه الحياةُ لا غيرُها.
79
قوله: ﴿وَمَآ أَكْرَهْتَنَا﴾ : يجوز في «ما» هذه وجهان، أحدهما: أنها موصولةٌ بمعنى الذي. وفي محلها احتمالان، أحدهما: أنها منصوبةُ المحلِّ نَسَقاً على «خطايانا» اي: ليغفر لنا أيضاً الذي أكرهتنا. والثاني من الاحتمالين: أنها مرفوعةُ المحلِّ على الابتداء والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: والذي أكرَهْتَنا عليه مِنَ السحر محطوطٌ عنا، أو لا نؤاخَذُ به ونحوُه.
والوجه الثاني: أنها نافيةٌ. قال أبو البقاء: «وفي الكلامِ تقديمٌ، تقديرُه: ليغفر لنا خطايانا من/ السِّحرِ، ولم تُكْرِهْنا عليه» وهذا بعيدٌ عن المعنى. والظاهرُ هو الأولُ.
و «من السحرِ» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الهاءِ في «عليه» أو من الموصولِ. ويجوزُ أن تكونَ لبيانِ الجنسِ.
قوله: ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ﴾ : الهاءُ ضميرُ الشأنِ. والجملةُ الشرطيةُ خبرُها. و «مُجْرِماً» حالٌ مِنْ فاعلِ «يأْتِ». وقولُه: ﴿لاَ يَمُوتُ﴾ يجوز أن يكونَ حالاً مِنَ الهاءِ في «له» وأَنْ يكونَ حالاً من «جهنَّم» ؛ لأنَّ في الجملة ضميرَ كلٍ منهما.
[قوله: ﴿جَنَّاتُ﴾ : بدلٌ من «الدرجات» أو بيانٌ]. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أن يكونَ التقديرُ: هي جناتُ؛ لأن» خالدين «حالٌ. وعلى هذا التقديرِ لا يكونُ في الكلام ما يعملُ في الثاني، وعلى الأولِ يكونُ العاملُ في الحال الاستقرارَ أو معنى الإِشارة».
قوله: ﴿طَرِيقاً﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ به؛ وذلك على سبيلِ المجاز: وهو أنَّ الطريقَ مُتَسَبِّبٌ عن ضَرْب البحرِ، إذ المعنى: اضربْ البحرَ لينغلقَ لهم فيصيرَ طريقاً، فبهذا صَحَّ نسبةُ الضربِ إلى الطريق. وقيل: «ضرب» هنا بمعنى جَعَلَ أي: اجعل لهم طريقاً وأَشْرِعْه فيه. والثاني: أنه منصوبٌ على الظرفِ. قال أبو البقاء: «التقدير: موضعَ طريقٍ، فهو مفعولٌ به على الظاهر. ونظيرُه قولُه ﴿أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر﴾ [الشعراء: ٦٣] وهو مثلُ» ضربْتُ زيداً «. وقيل:» ضرب «هنا بمعنى» جعل «و» شرع «
80
مثلَ قولهم: ضربْتُ له بسَهْم» انتهى. فقولُه على الظاهر يعني أنه لولا التأويلُ لكان ظرفاً.
قوله: ﴿يَبَساً﴾ صفةٌ ل «طريقاً» وصَفَه به لِما يَؤُول إليه؛ لأنه لم يكنْ يَبَساً بعدُ، إنما مرَّت عليه الصَّبا فجفَّفَتْه، كما يروى في التفسيرِ. وهل في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به مبالغةً، أو على حذفِ مضافٍ أو جمع يابس كخادم وخَدَم، وُصِف به الواحدُ مبالغةً كقولِه:
٣٣٠٧ -........................ ................ ومِعَىً جِياعاً
أي: كجماعةٍ جِياع، وَصَفَ به لفَرْط جوعه؟
وقرأ الحسنُ «يَبْساً» بالسكونِ. وهو مصدرٌ أيضاً. وقيل: المفتوحُ اسمٌ، والساكنُ مصدرٌ. وقرأ أبو حيوة «يابساً» اسمُ فاعل.
قوله: ﴿لاَّ تَخَافُ﴾ العامَّةُ على «لا تَخاف» مرفوعاً، وفيه أوجهٌ، أحدها: أنه مستأنفٌ فلا محلَّ له من الإِعراب. الثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل «اضرِبْ» أي: اضرب غيرَ خائفٍ. والثالث: أنه صفةٌ ل «طريقاً»، والعائدُ محذوفٌ أي لا تخافُ فيه.
81
[وقرأ] حمزةُ وحدَه من السبعة «لا تَخَفْ» بالجزم على النهي. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ نَهْياً مستأنِفاً. الثاني: أنه نهيٌ أيضاً في محلِّ نصب على الحال من فاعل «اضرِبْ» أو صفةٌ لطريقاً، كما تقدَّم في قراءةِ العامَّةِ، إلاَّ أن ذلك يحتاج إلى إضمار قول أي: مقولاً لك، أو طريقاً مقولاً فيها: لا تخف. كقوله:
٣٣٠٨ - جاؤوا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطّ... الثالث: مجزومٌ على جوابِ الأمر أي: إن تضربْ طريقاً يَبَساً لا تَخَفْ.
قوله: ﴿وَلاَ تخشى﴾ لم يُقْرأ إلاَّ ثابتَ الألفِ. وكان مِنْ حَقِّ مَنْ قرأ «لا تَخَفْ» جزماً أن يَقْرأ «لا تَخْشَ» بحذفِها، كذا قال بعضُهم. وليس بشيءٍ لأنَّ القراءةَ سُنَّةٌ. وفيها أوجه أحدها: أن تكونَ حالاً. وفيه إشكالٌ: وهو أنَّ المضارعَ المنفيَّ ب «لا» كالمُثْبَتِ في عدمِ مباشرةِ الواو له. وتأويلُه على حذف مبتدأ أي: وأنت لا تخشى كقولِه:
٣٣٠٩ -........................ نَجَوْتُ وأَرْهَنُهم مالِكا
والثاني: أنه مستأنفٌ. أخبره تعالى أنه لا يَحْصُل له خوفٌ.
والثالث: أنه مجزومٌ بحذفِ الحركةِ تقديراً كقولِه:
82
وقولِ الآخر:
٣٣١٠ - إذا العَجوْزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ
٣٣١١ -........................ كَأَنْ لم تَرَى قبلي أسيراً يمانيا
ومنه ﴿فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦] في أحد القولين، إجراءً لحرفِ العلة مُجْرى الحرفِ الصحيح. وقد تقدَّم لك من هذا جملةٌ صالحة في سورةِ يوسف عند ﴿مَن يَتَّقِ﴾ [الآية: ٩٠]. والرابع: أنه مجزومٌ أيضاً بحذفِ حرفِ العلةِ. وهذه الألفُ ليسَتْ تلك، أعني لامَ الكلمة، إنما هي ألفُ إشباع أُتِيَ بها موافقةً للفواصلِ ورؤوسِ الآي، فهي كالألفِ في قولِه: ﴿الرسولا﴾ [الأحزاب: ٦٦] و ﴿السبيلا﴾ [الأحزاب: ٦٧] و ﴿الظنونا﴾ [الأحزاب: ١٠] وهذه الأوجهُ إنما يحتاجُ إليها في قراءةِ جزمِ «لا تَخَفْ». وأمَّا من قرأه مرفوعاً فهذا معطوفٌ عليه.
وقرأ أبو حيوة «دَرْكاً» بسكون الراء. والدَّرَك والدَّرْك [اسمان] من الإِدراك أي: لا يُدركك فرعونُ وجنوده. وقد تقدَّم الكلامُ عليهما في سورة النساء، وإنَّ الكوفيين قرؤوه بالسكونِ كأبي حيوةَ هنا.
83
قوله: ﴿بِجُنُودِهِ﴾ : فيه أوجهٌ: أحدها: أن تكونَ الباءُ للحالِ: وذلك على أنَّ «أَتْبَعَ» متعدٍّ لاثنين حُذف ثانيهما. والتقدير: فَأَتْبَعهم
83
فرعونُ عقابهُ. وقدَّره الشيخ: «رُؤَساءه وحَشَمه» والأول أحسن. والثاني: أنَّ الباءَ زائدةٌ في المفعولِ الثاني. والتقدير: فَأَتْبَعهم فرعونُ جنودَه فهو كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥] [وقولِ الشاعر] :
٣٣١٢ -........................ ............... لا يَقْرَأْن بالسُّوَرِ
وأتبع قد جاء متعدِّياً لاثنين مُصَرَّحٍ بهما قال: «وَأَتْبَعْنَاهُم....». والثالث: أنها مُعَدِّيَةٌ على أنَّ «أَتْبَعَ» قد يتعدَّى لواحدٍ بمعنى مع، ويجوزُ على هذا الوجه أن تكونَ الباءُ للحالِ أيضاً، بل هو الأظهرُ.
وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ والحسنُ «فاتَّبَعَهُمْ» بالتشديد، وكذلك قراءة الحسن في جميع القرآن/ إلاَّ في قولِه: ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ [الصافات: ١٠].
قوله: ﴿مَا غَشِيَهُمْ﴾ فاعلُ «غَشِيَهم»، وهذا من باب الاختصار وجوامعِ الكَلِمِ التي يَقِلُّ لفظُها ويكثُر معناها أي: فغشِيَهم ما لا يَعْلم كُنْهَه إلاَّ اللهُ تعَالى. وقرأ الأعمش: «فَغَشَّاهم» مضعَّفاً. وفي الفاعل حينئذٍ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه «ما غَشَّاهم» كالقراءةِ قبله. أي: غَطَّاهم من اليَمِّ ما غَطَّاهم.
84
والثاني: هو ضميرُ الباري تعالى أي: فَغَشَّاهم اللهُ. والثالث: هو ضميرُ فرعونَ لأنه السببُ في إهْلاكهم. وعلى هذين الوجهين ف «ما غَشَّاهم» في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً.
85
قوله: ﴿قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ﴾ : قرأ الأخَوان «قد أَنْجَيْتُكم» و «واعَدْتُكم» و ﴿رَزَقْتُكم﴾ بتاءِ المتكلم. والباقون «أَنْجَيْناكم» و «رَزَقْناكم» و «واعَدْناكم» بنونِ العظمة. واتفقوا على «ونَزَّلْنا». وتقدَّم خلافُ أبي عمرو في «وَعَدْنا» في البقرة. وقرأ حميد «نَجَّيْناكم» بالتشديد.
وقُرِىء «الأَيْمَنِ» بالجرِّ. قال الزمخشري: «خَفْضٌ على الجِوارِ، كقولِهِم:» جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ «وجعله الشيخ شاذاً ضعيفاً. وخَرَّجه على أنه نعتٌ للطُّور قال:» وُصِفَ بذلك لما فيه من اليُمْن، أو لكونِه على يمين مَنْ يستقبلُ الجَبَلَ «.
و»
جانبَ «مفعولٌ ثانٍ على حَذْفِ مضاف أي: إتيانَ جانبِ. ولا يجوزُ أن يكونَ المفعولُ الثاني محذوفاً. و» جانب «ظرف للوعد. والتقدير: وواعَدْناكم التوراةَ في هذا المكانِ؛ لأنه ظرفُ مكانٍ مختصّ، لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسِه ولو قيل: إنه تُوُسِّعَ في هذا الظرفِ فجُعِل مفعولاً به أي: جُعل نفسَ الموعود نحو:» سِيْر عليه فرسخان وبريدان «لجاز.
قوله: ﴿فَيَحِلُّ﴾ : قرأ العامة «فيحِلُّ» بكسر الحاء، واللام من «يَحْلِلْ». والكسائيُّ في آخرين بضمِّهما، وابن عتيبة وافق العامَّةَ في الحاء، والكسائيَّ في اللام. فقراءةُ العامَّةِ مِنْ حَلَّ عليه كذا أي: وَجَبَ، مِنْ حَلَّ الدَّيْنُ يَحِلُّ أي: وَجَبَ قضاؤُه. ومنه قولُه: ﴿حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: ١٩٦] ومنه أيضاً ﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ [الزمر: ٤٠]. وقراءةُ الكسائي مِنْ حَلَّ يَحُلُّ أي: نَزَل، ومنه ﴿أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ﴾ [الرعد: ٣١].
والمشهورُ أنَّ فاعلَ «يَحلُّ» في القراءتين هو «غضبي». وقال صاحب «اللوامح» :«إنه مفعولٌ به، وإنَّ الفاعلَ تُرِك لشُهْرَته، والتقدير: فيحِلُّ عليكم طُغْيانُكم غضبي، ودَلَّ عليه» ولا تَطْغَوا «. ولا يجوز أن يُسْند إلى» غضبي «فيصيرَ في موضعِ رفعٍ بفعله». ثم قال: «وقد يُحْذَفُ المفعولُ للدليلِ عليه، وهو» العذابَ «ونحوه». قلت: فعنده أنَّ حَلَّ متعدٍّ بنفسِه لأنه من الإِحلال كما صَرَّح هو به. وإذا كان من الإِحْلال تعدى لواحدٍ، وذلك المتعدى إليه: إمَّا «غضبي»، على أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على الطغيانِ، كما قَدَّره، وإمَّا محذوفٌ، والفاعل «غضبي». وفي عبارته قَلَقٌ.
وقرأ طلحة «لا يَحِلَّنَّ عليكم» ب «لا» الناهيةِ وكسرِ الحاء، وفتحِ اللامِ
86
مِنْ يَحِلَّنَّ، ونونِ التوكيد المشددة أي: لا تتعرَّضوا للطُغْيان فيحقَّ عليكم غضبي، وهو من باب «لا أُرَيَنَّك ههنا».
وقرأ زيدُ بن علي «ولا تَطْغُوا» بضم الغين مِنْ طغا يَطْغُوا، كغَدا يَغْدو.
وقوله: ﴿فَيَحِلَّ﴾ يجوز أن يكونَ مجزوماً عطفاً على «لا تَطْغَوا» كذا قال أبو البقاء، وفيه نظر؛ إذ المعنى ليس على نَهْيَ الغضبِ أن يَحِلَّ بهم. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ ِ «أَنْ» في الجواب. وهو واضحٌ.
87
قوله: ﴿وَمَآ أَعْجَلَكَ﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ و «ما» استفهاميةٌ عن سببِ التقدُّم على قومِه. قال الزمخشري: «فإن قلت:» ما أَعْجلك «سؤالٌ عن سببِ العَجَلة، فكان الذي ينطبقُ عليه من الجواب أَنْ يُقَالَ: طَلَبُ زيادةِ رضاك والشوقِ إلى كلامِك وتَنَجُّزِ مَوْعِدك. وقوله: ﴿هُمْ أولاء على أَثَرِي﴾ كما ترى غيرُ منطبقٍ عليه. قلت: قد تَضَمَّنَ ما واجَهَه به رَبُّ العزةِ شيئين، أحدهما: إنكارُ العَجَلة في نفسها. والثاني: السؤالُ عن سببِ المُسْتَنْكَر والحاملِ عليه، فكان أهمُّ الأمرَيْن إلى موسى بَسْطَ العُذْرِ وتمهيدَ العلةِ في نفس ما أَنْكر عليه، فاعتَلَّ بأنه لم يوجَدْ مني إلاَّ تقدُّمٌ يسيرٌ، مثلُه لا يُعْتَدُّ به في العادةِ ولا يُحتفل به، وليس بيني وبين مَنْ سبقتُه إلاَّ مسافةٌ قريبةٌ، يتقدَّمُ بمثلِها الوفدَ رأسُهم ومقدمتُهم. ثم عَقَّبه بجوابِ السؤالِ عن السبب فقال: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى﴾.
قوله: ﴿هُمْ أولاء على أَثَرِي﴾ : كقوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة: ٨٥] و «على أَثَري» يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً.
وقرأ الجمهور «اُوْلاء» بهمزةٍ مكسورة. والحسن وابن معاذ بياء مكسورة، أبدال الهمزةَ ياءً تخفيفاً. وابن وثاب «أُوْلاَ» بالقصرِ دونَ همزةٍ. وقرأَتْ طائفةٌ «أولايَ» بياءٍ مفتوحةٍ، وهي قريبةٌ من الغَلَط.
والجمهورُ على أَثَري «بفتح الهمزة، والياء. وأبو عمروٍ في روايةِ عبد الوارث وزيدُ بن علي» إثْري «بكسر الهمزةِ وسكونِ الياء. وعيسى بضمِّها وسكون الياء، وحكاها الكسائيُّ لغةً.
قوله: ﴿وَأَضَلَّهُمُ﴾ : العامَّةُ على أنَّه فعلٌ ماضٍ مسندٌ إلى السامريّ. وقرأ أبو معاذ في آخرين «وأَضَلُّهم» مرفوعاً بالابتداءِ، وهو أفعلُ تفضيلٍ. و «السامريُّ» خبره.
قوله: ﴿غَضْبَانَ أَسِفاً﴾ : حالان. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سورة الأعراف.
قوله: ﴿وَعْداً حَسَناً﴾ / يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكداً، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه: يَعِدُكم بالكتاب وبالهداية، أو يُترك المفعولُ الثاني ليعُمَّ. ويجوز أن يكونَ الوعدُ بمعنى الموعود فيكونَ هو المفعولَ الثاني.
قوله: ﴿مَّوْعِدِي﴾ مصدرٌ. ويجوز أَنْ يكونَ مضافاً لفاعلِه بمعنى: أَوَجَدْتُموني أخلَفْتُكم ما وعدْتُكم. وأن يكونَ مضافاً لمفعوله، بمعنى: أنهم وَعَدُوْه أن يتمسَّكوا بدينه وشيعته.
قوله: ﴿بِمَلْكِنَا﴾ : قرأ الأخَوان بضم الميم. ونافع وعاصم بفتحها، والباقون بكسرها: فقيل: لغاتٌ بمعنى واحدٍ كالنَّقْض والنِّقْضِ. ومعناها: القُدْرَةُ والتسلُّطُ. وفرَّق الفارسيُّ وغيرُه بينها فقال: «المضمومُ معناه: لم يكنْ [لنا] مُلْكٌ فَنُخْلِفَ موعدَك بسُلْطَانِه، وإنما فَعَلْناه بنظرٍ واجتهادٍ، فالمعنى على: أَنْ ليس لهم مُلْكٌ.
كقول ذي الرمة:
89
٣٣١٣ - لا تُشْتكى سَقْطَةٌ منها وقد رَقَصَتْ بها المفاوِزُ حتى ظهرُها حَدِبُ
أي: لا يقع منها سَقْطَةٌ فتشتكى». وفتحُ الميمِ مصدرٌ مِنْ مَلَكَ أمرَه. والمعنى: ما فعلناه بأنَّا مَلَكْنا الصوابَ، بل غَلَبَتْنا أنفسُنا. وكسرُ الميمِ كَثُر فيما تَحُوْزه اليدُ وتحويه، ولكنه يُسْتعمل في الأمورِ التي يُبْرِمُها الإِنسانُ ومعناها كمعنى التي قبلها. والمصدرُ في هذين الوجهين مضافٌ لفاعلِه، والمفعولُ محذوفٌ أي: بملكِنا الصوابَ.
قوله: ﴿حُمِّلْنَآ﴾ قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابنُ عامر وحفصٌ بضم الحاء وكسر الميم مشددة. وأبو جعفرٍ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف الميم، والباقون بفتحِهما خفيفةَ الميمِ. فالقراءةُ الأولى والثانية نَسَبوا فيهما الفعلَ إلى غيرِهم، وفي الثالثةِ نَسَبُوه إلى أنفسهم.
و ﴿أَوْزَاراً﴾ مفعولٌ ثانٍ على غيرِ القراءة الثالثة. و ﴿مِّن زِينَةِ﴾ يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً ب «حُمِّلْنا»، وأن يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «أَوْزار».
وقوله: ﴿فَكَذَلِكَ﴾ نعتٌ لمصدرٍ، أو حالٌ من ضميره عند سيبويه أي: إلقاءً مثلَ إلقائِنا ألقى السامريُّ.
90
قوله: ﴿أَلاَّ يَرْجِعُ﴾ : العامَّةُ على «يرجعُ» لأنها المخففةُ من الثقيلة. ويدلُّ على ذلك وقوعُ أصلِها وهو المشدَّدةُ في قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٤٨].
90
وقرأ أبو حيوةَ والشافعيُّ وأبانُ بنصبه. جعلوها الناصبةَ. والرؤيةُ على الأولى يقينيةُ، وعلى الثانية بَصَريةٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذين القولين في سورة المائدة.
والسامريُّ: منسوبٌ لقبيلةٍ يُقال لها: سامرة.
وقرأ الأعمشُ «فنسْي» بسكون السين وهي لغةٌ فصيحةٌ. والضميرُ في «نسي» يجوز أن يعود على السامِرِيِّ، وعلى هذا فهو مِنْ كلامِ اللهِ تعالى، ويجوز أن يعودَ على موسى صلَّى الله عليه وسلَّم. وعلى هذا فهو من كلامِ السامريِّ أي: نَسِي إلهَه. والقولان منقولان لأهل التفسير.
91
وقرأ العامَّةُ: «إنما فُتِنْتُم» و «إنَّ ربَّكم الرحمنُ» بالكسر فيهما، لأنهما بعد القول لا بمعنى الظن. وقرأت فرقة بفتحِهما وخُرِِّجت على لغة سُلَيْم: وهو أنهم يفتحون «أنَّ» بعد القول مطلقاً. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ، والحسن وعيسى بن عمر بفتح «أنَّ ربَّكم» فقط. وخُرِّجَتْ على
91
وجهين، أحدهما: أنها وما بعدها بتأويل مصدرٍ في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديرُه: والأمرُ أَنْ ربَّكم الرحمنُ فهو مِنْ عطفِ الجملِ لا مِنْ عطفِ المفرداتِ. والثاني: أنها مجرورةٌ بحرفٍ مقدَّرٍ ِأي: لأنَّ ربَّكم الرحمنُ فاتَّبعوني. وقد تقدَّم القولُ في نظيرِ ذلك بالنسبة إلى هذه الفاء.
92
و «إذْ» منصوبٌ ب «مَنَعَك» أي: أيُّ شيءٍ مَنَعَك وقتَ ضلالِهم؟
و «لا» فيها قولان. أحدُهما: أنها مزيدةٌ. أي ما منعك مِنْ أَنْ تَتَّبِعَني. والثاني: أنها دَخَلَتْ حَمْلاً على المعنى، إذ المعنى: ما حملك على أن لا تتبعَني، وما دعاك إلى أَنْ تَتَّبِعَني؟ ذكره علي بن عيسى. وقد تقدَّم تحقيقُ هذين القولين بحمدِ الله في أول الأعراف.
وتَقَدَّم الكلامُ والقراءةُ في «يا بنَ أُمَّ».
والجمهورُ على كسرِ اللامِ من اللِّحْيةِ وهي الفصحى. وفيها الفتح. وبه قرأ عيسى بن سليمان الحجازي. والفتحُ لغة الحجاز. ويجمع على لِحَى كقِرَب. ونُقل فيها الضمُّ، كما قالوا: صِوَر بالكسر، وحقُّها الضمُّ. والباء في «بلِحْيَتي» ليست زائدةً: إمَّا لأنَّ المعنى: لا يكنْ منك أَخْذٌ، وإمَّا لأنَّ المفعولَ
92
محذوفٌ أي: لا تَأْخُذْني. ومَنْ زعم زيادتَها كهي في ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥] فقد تَعَسَّف.
قوله: ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ هذه الجملةُ محلُّها النصبُ نَسَقاً [على] ﴿فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ﴾ أي: أن تقولَ: فَرَّقْتَ بينهم، وأَنْ تقولَ: لم تَرْقُبْ قولي أي: لم....
وقرأ أبو جعفر «تُرْقِبْ» بضمِّ حرفِ المضارعةِ مِنْ أَرْقَبَ.
93
قوله: ﴿فَمَا خَطْبُكَ﴾ مبتدأٌ وخبر. والخَطْبُ تقدَّم الكلامُ عليه في يوسف. وقال ابن عطية هنا: / «إنه يقتضي انتهاراً كأنه قال: ما نَحْسُك وما شؤمك» ؟ وردَّ عليه الشيخ بقوله تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون﴾ [الحجر: ٥٧].
قوله: ﴿بَصُرْتُ﴾ : يقال: بَصُرَ بالشيءِ أي عَلِمه، وأبصرَه. أي: نظر إليه. كذا قاله الزجاج. وقال غيره: «بَصْرَ به وأبصره بمعنى علم».
93
والعامَّةُ على ضم الصاد في الماضي ومضارعِه. وقرأ الأعمش وأبو السَّمَّال «بَصِرْتُ» بالكسر، يَبْصَروا بالفتح وهي لغة. وعمرُو بن عبيد بالبناء للمفعول في الفعلين أي: أُعْلِمْتُ بما لم يُعْلَموا به.
وقرأ الأخَوان «تَبْصُروا» خطاباً لموسى وقومه أو تعظيماً له كقوله: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء﴾ [الطلاق: ١] و [قوله] :
٣٣١٤ -....... حَرَّمْتُ النساءَ سواكُمُ .......................
والباقون بالغَيْبة عن قومه.
والعامَّةُ على فتحِ القافِ من «قَبْضَة» وهي المرَّةُ من قَبَضَ. قال الزمخشري: «وأمَّا القَبْضَةُ فالمَرَّةُ من القَبْض، وإطلاقُها على المقبوضِ مِنْ تسمية المفعولِ بالمصدر» قلت: والنحاة يقولون: إن المصدرَ الواقعَ كذلك لا يُؤَنَّثُ بالتاء تقول: هذه حُلَّةٌ نَسْجُ اليمن «ولا تقول: نَسْجَةُ اليمن. ويعترضون بهذه الآية، ثم يُجيبون بأنَّ الممنوعَ إما هو التاءُ الدالةُ على التحديدِ لا على مجرد التأنيث. وهذه التاءُ دالَّةٌ على مجردِ التأنيث، وكذلك قوله: ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ﴾ [الزمر: ٦٧].
94
وقرأ الحسن» قُبْضَة «بضم القاف وهي كالغُرْفَة والمُضْغة في معنى المَغْروف والمقبوض. ورُوي عنه» قُبْصَة «بالصاد المهملة. والقَبْضُ بالمعجمة بجميع الكفِّ، وبالمهملة بأطرافِ الأصابع. وله نظائر كالخَضْمِ وهو الأكلُ بجميع الفمِ، والقَضْمِ بمقدَّمِه. والقَصْمُ: قطعٌ بانفصالٍ، والفَصْمُ بالفاء باتصالٍ. وقد تقدم شيءٌ من ذلك في البقرة.
وأدغم ابن محيصن الضادَ المعجمة في تاءِ المتكلم مع إبقائه الإِطباقَ، كما تقدَّم [في] »
بَسَطْتَ «. وأدغم الأخَوان وأبو عمروٍ الذال في التاء مِنْ» فَنَبَذْتُها «.
95
قوله: ﴿لاَ مِسَاسَ﴾ : قرأ العامَّةُ بكسرِ الميمِ وفتحِ السين. وهو مصدرٌ ل فاعَل كالقِتال مِنْ قاتَل، فهو يقتضي المشاركةَ. وفي التفسير: لا تَمَسُّني ولا أَمَسُّك، وإنَّ مَنْ مَسَّه أصابَتْه الحمى.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين. قلت: هكذا عَبَّر الشيخُ وتَبعَ فيه أبا البقاء. ومتى أَخَذْنا بظاهِر
95
هذه العبارة لَزِم أن يُقرأ «مَسِيس» بقلب الألفِ ياءً لانكسارِ ما قبلها ولكن لم يُرْوَ ذلك، فينبغي أَنْ يكونوا أرادوا بالكسرِ الإِمالةَ. ويَدُلُّ على ما قُلْتُه ما قاله الزمخشريُّ: «وقُرِىء لا مَساسِ بوزن فَجار. ونحوُه قولهم في الظباء:» إن وَرَدَتِ الماءَ فلا عَباب وإن فَقَدَتْه فلا أَباب «وهي أعلامٌ للمَسَّة والعَبَّة والأَبَّة وهي المرَّة من الأَبِّ وهو الطلَبُ». فهذا تصريحٌ منه ببقاء الألفِ على حالِها.
ويدلُّ أيضاً قولُ صاحبِ «اللوامح» :«هو على صورة نَزَالِ ونَظارِ من أسماء الأفعال بمعنى انْزِلْ وانْظُرْ» فهذا أيضاً تصريحٌ بإقرار الألِف على حالها. ثم قال صاحب «اللوامح» :«فهذه الأسماء التي بهذه الصيغةِ معارفُ، ولا تدخُلُ عليها» لا «النافيةُ التي تَنْصِبُ النكراتِ، نحو» لا مالَ لك «لكنه فيه نَفْيُ الفعلِ فتقديرُه: لا يكون منك مساسٌ، ومعناه النهيُ أي: لا تَمَسَّني».
وقال ابنُ عطية: «لا مَساسِ هو معدولٌ عن المصدرِ كفَجارِ ونحوِه. وشبَّهه أبو عبيدة وغيرُه بَنزالِ ودَراكِ ونحوه، والشَّبَهُ صحيحٌ من حيث هُنَّ معدولاتٌ. وفارقه في أنَّ هذه عُدِلَتْ عن الأمر، ومَساس وفَجار عُدلت عن المصدر. ومِن هذا قولُ الشاعر:
96
٣٣١٥ - تميمٌ كرَهْطِ السَّامِرِيِّ وقَوْلِه ألا لا يريدُ السَّامِرِيُّ مَساسِ
فكلامُ الزمخشريِّ وابنِ عطيةَ يعطي أنَّ» مَساس «على هذه القراءةِ معدولٌ عن المصدرِ كفجَار عن الفَجَرة، وكلامُ صاحبِ اللوامحِ يقتضي أنها معدولةٌ عن فعل أمرٍ، إلا أَنْ يكونَ مرادُه أنها مَعْدُوْلَةٌ، كما أنَّ اسمَ الفعلِ معدولٌ، كما تَقَدَّم توجيهُ ابنِ عطية لكلام أبي عبيدة.
قوله: ﴿لَّن تُخْلَفَهُ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو بكسرِ اللامِ على البناء للفاعل. والباقون بفتحِها على البناءِ للمفعولِ. وقرأ أبو نهيك فيما حكاه عنه ابن خالويه بفتح التاء من فوقُ، وضمِّ اللام، وحكى عنه صاحب»
اللوامح «كذلك، إلاَّ أن بالياء مِنْ تحتُ. وابنُ مسعودٍ والحسن بضمِّ نونِ العظمة وكسرِ اللام.
فأمَّا القراءةُ الأولى فمعناها: لن تجدَه مُخلَّفاً كقولك: أَحْمَدْتُه وأَجْبَنْتُه/ أي: وَجَدْتُه مَحْمُوداً وجَباناً. وقيل: المعنى: سيصلُ إليك، ولن تستطيعَ الرَّوَغانَ ولا الحَيْدَة عنه. قال الزمخشري:»
وهذا مِنْ أَخْلَفْتُ الوعدَ إذا وجدتَه مُخْلَفاً. قال الأعشى:
97
٣٣١٦ - أثوى وقَصَّر لَيْلَةً لِيُزَوَّدا فمضى وأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدا
ومعنى الثانيةِ: لن يُخْلِفَ اللهُ موعدَه الذي وَعَدك. وأمَّا قراءتا أبي نهيك فهما مِنْ خَلَفَه يَخْلُفُه إذا جاء بعدَه أي: الموعدَ الذي لك لا يَدْفع قولَك الذي تقولُه. وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ. قال أبو حاتم: «لا نعرف لقراءةِ أبي نهيك مذهباً» وأمَّا قراءةُ ابنِ مسعود فأسند الفعلَ فيها إلى الله تعالى. والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي: لن يُخْلِفَكه.
قوله: ﴿ظَلْتَ﴾ العامَّةُ على فتح الظاء، وبعدها لامٌ ساكنة. وابنُ مسعودٍ وقتادةُ والأعمشُ بخلافٍ عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر [على] كسرِ الظاء. ورُوي عن ابن يعمر ضمُّها أيضاً. وأُبَيٌّ والأعمش في الرواية الأخرى «ظَلِلْتَ» بلامَيْنِ أولاهما مكسورةٌ «.
فأمَّا قراءةُ العامَّة ففيها: حَذْفُ أحدِ المِثْلين، وإبقاءُ الظاءِ على حالِها مِنْ حركتها، وإنما حُذف تخفيفاً. وعدَّه سيبويه في الشاذ. يعني شذوذَ قياسٍ لا شذوذَ استعمالٍ، وعَدَّ معه ألفاظاً أُخَرَ نحو: مَسْتُ وأَحَسْتُ كقولِه:
98
وعَدَّ ابنُ الأنباري» هَمْتُ «في» هَمَمْتُ «ولا يكونُ هذا الحذفُ إلاَّ إذا سُكِّنَتْ لامُ الفعلِ. وذكر بعضُ المتأخرين أن هذا الحذفَ منقاسٌ في كلِّ مضاعفِ العينِ واللامِ سَكَنَتْ لامُه، وذلك في لغة سُلَيْم.
والذي أقولُه: إنه متى التقى التضعيفُ المذكورُ والكسرُ نحو: ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ انقاس الحذفِ. وهل يَجْري الضمُّ مجرى الكسرِ في ذلك؟ فالظاهرُ أنه يجري. بل بطريق الأَوْلى؛ لأن الضمَّ أثقلُ من الكسر نحو: غُضْنَ يا نسوةُ أي: أغْضُضْنَ أبصارَكُنَّ، ذكره جمال الدين ابن مالك. وأمَّا الفتحُ فالحذفُ فيه ضعيفٌ نحو:»
قَرْن يا نسوةُ في المنزل «ومنه في أحدِ توجيهَيْ قراءةِ ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٣] كا سيأتي إنْ شاء الله تعالى.
وأمَّا الكسرُ فوجهُه أنه نَقَل كسرةَ اللامِ إلى الفاءِ بعد سَلْبِها حركتَها لتدُلَّ عليها. وأمَّا الضمُّ فيحتمل أن يكونَ جاء فيه لغةٌ على فَعَل يفعُل بفتحِ العينِ في الماضي وضمِّها في المضارع، ثم نُقِلَتْ، كما تقدّم ذلك في الكسر. وأمَّا ظَلِلْت بلامين فهذه هي الأصلُ، وهي مَنْبَهَةٌ على غيرِها. و»
عاكفاً «خبرُ» ظلَّ «.
قوله: ﴿لَّنُحَرِّقَنَّهُ﴾ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي: واللهِ لَنُحَرِّقَنَّهُ. والعامَّة على ضمِّ النونِ وكسرِ الراءِ مشددةً مِنْ حَرَّقه يُحرِّقُه بالشديد. وفيها تأويلان. أظهرُهما: أنها مِنْ حَرَّقه بالنار. والثاني: أنه مِنْ حَرَق نابُ البعير، إذا وقع عَضُّ ببعضِ أنيابِه على بعضٍ. والصوتُ المسموعُ منه يُقال له الصَّريفُ.
99
والمعنى: لنَبْرُدَنَّه بالمِبْرد بَرْداً نمحقُه به كما يفعل البعيرُ بأنيابِه بعضها على بعض.
وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر» لَنُحْرِقَنَّه «بضم النون وسكونِ الحاءِ وكسرِ الراء، مِنْ أحرق رباعياً. وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر» لَنَحْرُقَنَّه «كذلك إلاَّ أنه ضمَّ الراء. فيجوز أن يكونَ أَحْرق وحرَّق بمعنى كأَنْزَل ونَزَّل. وأمَّا القراءةُ الأخيرة فبمعنى لنَبْرُدَنَّه بالمبرد.
قوله: ﴿لَنَنسِفَنَّهُ﴾ العامَّةُ على فتح النون الأولى وسكونِ الثانية وكسرِ السين خفيفةً. وقرأ عيسى بضم السين. وقرأ ابن مقسم بضمِّ النون الأولى وفتح الثانية وكسر السينِ مشددةً. والنَّسْفُ: التفرقةُ والتَّذْرِيَةُ وقيل: قَلْعُ الشيء مِنْ أصله يقال: نَسَفَه يَنْسُِفه بكسر السين وضمها في المضارع، وعليه القراءتان. والتشديد للتكثير.
100
قوله: ﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ : العامَّةُ على كسر السين خفيفةً. و «عِلْماً» على هذه القراءةِ تمييزٌ منقولٌ من الفاعلِ؛ إذِ الأصلُ: وَسِعٍ كلَّ شيءٍ عِلْمُه. وقرأ مجاهد وقتادة بفتح السين مشددةً. وفي انتصاب «
100
علماً» حينئذ [وجهان]، أحدهما: أنه مفعولٌ به. قال الزمخشري: «وَجْهُه أنَّ وَسِع متعدٍّ إلى مفعولٍ واحد. وأمَّا» عِلْماً «فانتصابُه على التمييز فاعلاً في المعنى. فلما ثُقِّل نُقِل إلى التعديةِ إلى مفعولَيْنِ فنصبُهما معاً على المفعولية؛ لأن المُميِّز فاعلٌ في المعنى، كما تقول في» خاف زيد عمراً «:» خَوَّفْت زيداً عمراً «فتردُّ بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً». وقال أبو البقاء: «والمعنى: أعطى كل شيء عِلْماً» فضمَّنه معنى أعطى. وما قاله الزمخشريُّ أولى.
والوجه الثاني: أنه تمييزٌ أيضاً كما هو في قراءةِ التخفيفِ. قال أبو البقاء: «وفيه وجهٌ آخرُ: / وهو أن يكونَ بمعنى: عَظَّم خَلْقَ كلِ شيءٍ كالأرض والسماء، وهو بمعنى بَسَط، فيكون عِلْماً تمييزاً». وقال ابن عطية: «وسَّع خَلْقَ الأشياءِ وكَثَّرها بالاختراع».
101
قوله: ﴿كذلك نَقُصُّ﴾ : الكافُ: إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ المقدَّرِ. والتقديرُ: كَقَصِّنا هذا النبأ الغريبَ نَقُصُّ. و «من أنباءِ» صفةٌ لمحذوفٍ هو مفعولُ نَقُصُّ أي: نَقُصُّ نبأً من أنباءِ.
قوله: ﴿مَّنْ أَعْرَضَ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ «مَنْ» شرطيةً أو موصولة. والجملةُ الشرطيةُ أو الخبريةُ الشبيهةُ بها في محلِّ نصبٍ صفةً ل «ذِكْراً».
قوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ : حالٌ مِنْ فاعل «يَحْمِلُ». فإنْ قيل: كيفَ [وقع] الجمعُ حالاً من مفردٍ؟ فالجوابُ أنه حُمِل على لفظ «مَنْ» فَأُفْرِدَ الضميرُ في قولِه «أَعْرَضَ» و «فإنَّه» و «يَحْمِلُ»، وعلى معناها فَجُمِعَ في «خالدين» و «لهم». والضميرُ في «فيه» يعود ل «وِزْراً». والمرادُ في العقاب المتسَبِّبِ عن الوِزْرِ وهو الذنبُ فَأُقيم السببُ مُقامَ المُسَبَّبِ.
وقرأ داود بن رفيع «يُحَمَّلُ» مُضَعَّفاً مبنياً للمفعول والقائمُ مقامَ فاعلِه ضميرُ «مَنْ». و «وِزْراً» مفعولٌ ثانٍ.
قوله: ﴿وَسَآءَ﴾ هذه «ساء» التي بمعنى بِئْس. وفاعلُها مستترٌ فيها يعودُ على «حِمْلاً» المنصوبِ على التمييز، لأنَّ هذا البابَ يُفَسَّر الضمير فيه بما بعدَه. والتقديرُ: وساء الحِمْل حِمْلاً. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه: وساء الحِمْل حِمْلاً وِزْرُهم: ولا يجوز أن يكون الفاعلُ ل «بِئْس» ضميرَ الوِزْرِ، لأنَّ شَرْطَ الضميرِ في هذا الباب أن يعودَ على نفس التمييز. فإن قلت: ما أنكْرتَ أن يكونَ في «ساء» ضميرُ الوِزْر؟ قلت: لا يَصِحُّ أن يكونَ في «ساء» وحكمُه حكمُ «بئس» ضميرُ شيءٍ بعينه غيرِ مبهمٍ. ولا جائزٌ أن تكونَ «ساء» هنى بمعنى أهمَّ وأحزنَ، فتكونَ متصرفةً كسائر الأفعال. قال الزمخشري: «كفاك صادَّاً عنه أَنْ يَؤُول كلامُ الله تعالى إلى [قولِك] : وأحزن
102
الوِزرُ لهم يومَ القيامة حِمْلاً. وذلك بعد أن تَخْرَجَ عن عُهْدةِ هذه اللامِ وعُهْدَةِ هذا المنصوب» انتهى.
واللامُ في «لهم» متعلقةٌ بمحذوفٍ على سبيلِ البيان، كهي في ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: ٢٣].
103
قوله: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ﴾ :«يومَ» بدل من «يومَ القيامة» أو بيانٌ له، أو منصوبٌ بإضمار فعل، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وبُني على الفتحِ على رأي الكوفيين كقراءةِ ﴿هذا يَوْمَ يَنفَعُ﴾ [المائدة: ١١٩] وقد تقدم.
وقرأ أبو عمروٍ «نَنْفُخُ» مبنياً للفاعل بنونِ العظمة، أُسْنِدَ الفعلُ إلى الآمِر به تعظيماً للمأمورِ، وهو المَلَكُ إسرافيل. والباقون بالياءِ مضمومةً مفتوحَ الفاءِ على البناءِ للمفعول. والقائمُ مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرورُ بعدَه. والعامَّةُ على إسكانِ الواو. وقرأ الحسنُ وابنُ عامرٍ في روايةٍ بفتحها جمعَ «صُوْرَة» كغُرَف جمع غُرْفَة. وقد تقدَّم القولُ في «الصور» في الأنعام.
وقرىء «يَنْفُخُ» و «يَحْشُر» بالياءِ مفتوحةً مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى
103
أو المَلَكُ. وقرأ الحسنُ وطلحةُ وحميدٌ «يُنْفَخ» كالجمهور و «يَحْشر» بالياءِ مفتوحةً مبنياً للفاعل. والفاعلُ كما تقدَّم ضمير الباري أو ضميرُ المَلَك. ورُوي عن الحسن أيضاً و «يُحْشَر» مبنياً للمفعول «المجرمون» رفعٌ به. و «زُرْقاً» حال من المجرمين. والمرادُ زُرْقَةُ العيونِ. وجاءَتِ الحالُ هنا بصفةٍ تشبه اللازمةَ؛ لأنَّ أصلَها على عَدَمِ اللزومِ، ولو قلتَ في الكلامِ: «جاءني زيدٌ أزرقَ العينِ» لم يَجُزْ إلاَّ بتأويلٍ.
104
قوله: ﴿يَتَخَافَتُونَ﴾ : يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً ثانية من «المجرمين»، وأن يكونَ حالاً من الضميرِ المستتر في «زرقاً» فتكونَ حالاً متداخلةً إذ هي حالٌ من حال. ومعنى «يَتَخافَتُون:» أي: يتساْرُّوْن فيما بينهم.
وقوله: ﴿إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ﴾ هو مفعولٌ المَسارَّة. وقوله: ﴿إِلاَّ عَشْراً﴾ يجوز أن يُرادَ الليالي، فَحَذْفُ التاءِ من العددِ قياسٌ، وأن يرادَ الأيامُ فيُسألَ: لم حُذِفت التاء؟ فقيل: إنْ لم يُذْكَرِ المميِّز في عددِ المذكرِ جازت التاءُ وعدمُها. سُمع من كلامهم «صُمْنا من الشهر خمساً» والمَصُوْمُ إنما هو الأيامُ دون الليالي. وفي الحديث: «مَنْ صامَ رمضانَ وأتبعه بسِتٍّ من شوال» وحَسُن الحذف هنا لكونِه رأسَ آيةٍ وفاصلة.
قوله: ﴿إِذْ يَقُولُ﴾ : منصوبٌ ب «أعلمُ» وطريقةً «نصبٌ على التمييز.
قوله: ﴿فَيَذَرُهَا﴾ : في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه ضميرُ الأرضَ أُضْمِرَتْ للدلالةِ عليها؟ والثاني: ضمير الجبال، وذلك على حَذْفِ مضاف أي: فَيَذَرُ مراكزَها ومَقارَّها. و «نَذَرُ» يجوز أن يكونَ بمعنى يُخَلِّيها، فيكونَ «قاعاً» حالاً، وأن يكونَ بمعنى يترك التصييريةِ فيتعدَّى لاثنين ف «قاعاً» ثانيهما.
وفي «القاع» أقوالٌ فقيل: هو مستنقعُ الماء/ ولا يليقُ معناه هنا. والثاني: أنه المنكشِفُ من الأرض. قاله مكي. الثالث: أنَّه المكانُ المستوي ومنه قول ضرار بن الخطاب:
٣٣١٧ -......................... أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ
٣٣١٨ - لَتَكُوْنَنَّ بالبطاحِ قُرَيْشٌ فَقْعَةَ القاع في أَكُفِّ الإِماءِ
الرابع: أنه الأرضُ التي لا نباتَ فيها ولا بناءَ.
والصَّفْصَفُ: الأرض المَلْساء. وقيل: المستوية، فهما قريبان من المترادِفِ. وجمعُ القاعِ: أقْوع وأَقْواع وقِيْعان.
قوله: ﴿لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً﴾ : يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً من الجبال، ويجوزُ أن تكونَ صفةً للحال المتقدمةِ وهي «قاعاً» على أحدِ التأويلين، أو صفة للمفعولِ الثاني على التأويل الآخر.
والعِوَج: تقدم الكلامُ عليه. قال الزمخشري هنا: «فإنْ قلتَ: قد
105
فَرَّقوا بين العَوَج والعِوَج. قالوا: العِوَج بالكسر في المعاني، وبالفتح في الأَعْيان، والأرضُ عينٌ، فكيف صَحَّ فيها كَسْرُ العينِ؟ قلت: اختيارُ هذا اللفظِ له موقعٌ حَسَنٌ بديعٌ في وصفِ الأرضِ بالاستواءِ والمَلاسة ونفيِ الاعوجاج عنها، على أبلغِ ما يكونُ: وذلك أنك لو عَمَدْتَ إلى قطعةِ أرضٍ فَسَوَّيْتَها، وبالَغْتَ في التسوية على عينِك وعيونِ البُصَراء، واتَّفَقْتُمْ على أنَّه لم يَبْقَ فيها اعوجاجٌ قطٌ، وثم استَطْلَعْتَ رأي المهندس فيها وأمرته أن يَعْرِضَ استواءَها على المقاييسِ الهندسيةِ لَعَثَر فيها على عِوَجٍ في غير موضعٍ، لا يُدْرَكُ ذلك بحاسَّةِ البصرِ، ولكن بالقياسِ الهندسِيِّ، فنفى اللهُ تعالى ذلك العِوَجَ الذي دَقَّ ولَطُفَ عن الإِدراك، اللهم إلاَّ بالقياس الذي يَعْرِفُه صاحبُ التقديرِ الهندسيِّ. وذلك الاعوجاجُ كمَّا لم يُدْرَكْ إلاَّ بالقياسِ دون الإِحساسِ لَحِقَ بالمعاني فقيل فيه» عِوج «بالكسر».
والأمْتُ: النُّبُوُّ اليسيرُ. يقال: مَدَّ حبلَه حتى ما فيه أَمْتٌ. وقيل: الأمْتُ: التَلُّ، وهو قريبٌ من الأولِ. وقيل: الشُّقوقُ في الأرضِ. وقيل: الأكامُ.
106
قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ : منصوبٌ ب «يَتَّبِعُون». وقيل: بدلٌ من ﴿يَوْمَ القيامة﴾. قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ للفصل الكثير. وأيضاً فإنه يبقى «يَتَّبِعُون» غيرَ مرتبطٍ بما قبلَه، وبه يفوتُ المعنى. والتقدير: يومَ إذ نُسِفت الجبال.
قوله: ﴿لاَ عِوَجَ لَهُ﴾ يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مُستأنفةً، وأن تكونَ حالاً من «
106
الداعي». ويجوز أن تكونَ الجملةُ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه: يَتَّبِعُونه اتِّباعاً لا عِوَجَ له. والضميرُ في «له» فيه أوجهٌ، أظهرُها: أنه يعودُ على الداعي أي: لا عِوَجَ لدعائِه بل يَسْمع جميعَهم، فلا يميلُ إلى ناسِ دونَ ناسٍ. وقيل: هو عائدٌ على ذلك المصدرِ المحذوفِ أي لا عِوَج لذلك الاتِّباع. الثالث: أنَّ في الكلام قلباً. تقديرُه لا عِوَجَ لهم عنه.
قوله: ﴿إِلاَّ هَمْساً﴾ مفعولٌ به وهو استثناءٌ مفرغٌ. والهَمْسُ: الصوتُ الخفيُّ. قيل: هو تحريكُ الشفتين دون نطقٍ. قال الزمخشري: «هو الرِّكْزُ الخفيُّ. ومنه الحروفُ المهموسةُ». وقيل: هو ما يُسْمع مِنْ وَقْعِ الأقدامِ على الأرض. ومنه هَمَسَتِ الإِبلُ: إذا سُمع ذلك مِنْ وَقْعِ أخفافِها على الأرض قال:
٣٣١٩ - وهُنَّ يَمْشِيْنَ بنا هَمِيْسا...
107
قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ : بدلٌ ممَّا تقدم أو منصوب بما بعد «لا» عند مَنْ يُجيز ذلك. والتقديرُ: يومَ إذ يَتَّبِعُون لا تنفعُ الشفاعةُ.
قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أَذِنَ﴾ فيه أوجه. أحدُها: أنه منصوبٌ على المفعولِ به. والناصبُ له «تَنْفَعُ». و «مَنْ» حينئذٍ واقعةٌ على المشفوعِ له. الثاني: أنه في محلِّ رفعٍ بدلاً من الشفاعةِ، ولا بدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ تقديرُه: إلاَّ شفاعةَ مَنْ أَذِن له. الثالث: أنه منصوبٌ على الاستثناءِ من الشفاعةِ بتقدير المضاف المحذوف، وهو استثناءٌ متصلٌ على هذا. ويجوزُ أَنْ يكونَ استثناءً منقطعاً إذا لم تقدِّرْ شيئاً، وحينئذٍ يجوزُ أن يكونَ منصوباً وهي لغةُ الحجازِ، أو مرفوعاً وهو
107
لغة تميم. وكلُّ هذه الأوجهِ واضحةٌ ممَّا تقدم فلا أُطيل بتقريرها. و «له» في الموضعين للتعليل كقوله: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [الأحقاف: ١١] أي: لأجله ولأجلهم.
108
قوله: ﴿وَعَنَتِ الوجوه﴾ : يُقال: عَنا يَعْنُو إذا ذَلَّ وخَضَع. وأَعْناه غيرُه أي: أذلَّه. ومنه العُنَاة جمع عانٍ. وهو الأسيرُ قال:
٣٣٢٠ - فيا رُبَّ مَكْروبٍ كرَرْتُ وراءَه وعانٍ فَكَكْتُ الغُلَّ عنه فَفَدَّاني
وقال أمية بن أبي الصلت:
٣٣٢١ - مَلِيكٌ على عَرْشِ السماء مُهَيْمِنٌ لِعِزَّته تَعْنُوا الوجوهُ وتَسْجُد
وفي الحديث: «فإنَّهنَّ عَوانٍ».
قوله: ﴿وَقَدْ خَابَ﴾ يجوز أَنْ تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً، ويجوز أن تكونَ اعتراضاً. قال الزمخشري: «وقد خابَ وما بعده اعتراضٌ
108
كقولك: خابوا وخَسِروا، وكلُّ مَنْ ظَلَم فهو خائبٌ خاسِرٌ»، ومرادُه بالاعتراضِ هنا أنَّه خَصَّ الوجوهَ بوجوهِ العصاةِ حتى تكونَ الجملةُ قد دَخَلَتْ بين العُصاةِ وبين ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات﴾ فهذا/ عنده قسيمُ «وعَنَتِ الوجوهُ» فلهذا كان اعتراضاً. وأمَّا ابنُ عطية فجعل الوجوهَ عامة، فلذلك جعل «وقد خابَ مَنْ حَمَل ظلماً» معادَلاً بقولِه: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات﴾ إلى آخره.
109
قوله: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ : جملةٌ حاليةٌ. وقوله: ﴿فَلاَ يَخَافُ﴾. قرأ ابنُ كثيرٍ بجزمِه على النهي. والباقون برفعِه على النفي والاستئنافِ أي: فهو لا يَخافُ.
والهَضْمُ: النَّقْصُ. تقول العرب: «هَضَمْتُ لزيدٍ مِنْ حقي» أي: نَقَصْتُ منه، ومنه «هَضِيم الكَشْحَيْن» أي ضامِرُهما. ومِنْ ذلك أيضاً ﴿طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ [الشعراء: ١٤٨] أي: دقيقٌ متراكِبٌ، كأنَّ بعضَه يظلم بعضاً فيُنْقِصُه حقَّه. ورجل هضيم ومُهْتَضَم أي: مظلومٌ. وهَضَمْتُه واهْتَضَمْتُه وتَهَضَّمْتُه، كلٌ بمعنىً. اقل المتوكل الليثي:
٣٣٢٢ - إنَّ الأذِلَّةَ واللِّئامَ لَمَعْشَرٌ مَوْلاهُمُ المُتَهَضِّمُ المظلومُ
قيل: والظلمُ والهَضْمُ متقاربان. وفَرَّق القاضي الماوردي بينهما
109
فقال: «الظلمُ مَنْعُ جميعِ الحقِّ، والهضمُ مَنْعُ بعضِه».
110
قوله: ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ﴾ : نسقٌ على ﴿كذلك نَقُصُّ﴾. قال الزمخشري: «ومِثْلُ ذلك الإِنزالِ، وكما أنزَلْنا عليك هؤلاء الآيات أَنْزَلْنا القرآنَ كلَّه على هذه الوتيرةِ». وقال غيرُه: «والمعنى: كما قَدَّرْنا هذه الأمورَ وجَعَلْناها حقيقةً بالمرصادِ للعبادِ، كذلك حَذَّرْنا هؤلاءِ أمرَها وأنزَلْناه قرآناً».
قوله: ﴿مِنَ الوعيد﴾ صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ أي: صَرَّفْنا في القرآنِ وعيداً مِن الوعيد، والمرادُ به الجنسُ. ويجوزُ أَنْ تكونَ «مِنْ» مزيدةً على رأيِ الأخفشِ في المفعولِ به. والتقديرُ: وصَرَّفْنا فيه الوعيدَ.
وقرأ الحسن «أو يُحْدِثْ» كالجماعة، إلاَّ أنه سَكَّن لامَ الفعل. وعبد الله والحسنُ أيضاً في روايةٍ ومجاهدٌ وأبو حيوة: «نُحْدِثْ» بالنون وتسكينِ اللام أيضاً. وخُرِّجَ على إجراء الوصل مُجْرى الوقفِ، أو على تسكينِ الفعل استثقالاً للحركة، كقول امرىء القيس:
٣٣٢٣ - فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ............................
وقول جرير:
٣٣٢٤ -..............................
110
أو نهرُ تيرى فلا تَعْرِفْكُمُ النَّفَرُ
وقد فعلَه كما تقدَّم أبو عمروٍ في الراءِ خاصةً نحو ﴿يَنصُرُكُم﴾ [آل عمران: ١٦٠].
وقُرِىء «تُحْدِثُ» بتاء الخطاب أي: تُحْدِثُ أنت.
111
قوله: ﴿يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ : العامَّةُ على بناء «يقضى» للمفعولِ ورفع «وَحْيُه» لقيامه مقامَ الفاعلِ. والجحدري وأبو حيوةَ والحسنُ وهي قراءةُ عبد الله «نَقْضي» بنون العظمة مبنياً للفاعلِ، «وَحْيَه» مفعول به. وقرأ الأعمشُ كذلك، إلاَّ أنه سَكَّن لامَ الفعلِ. استثقلَ الحركةَ وإن كانَتْ خفيفةً على حرفِ العلةِ. وقد تقدَّم لك منه شواهدُ عند قراءةِ ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْالِيكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩].
وقرأ اليماني «فَنُسِي» بضم النون وتشديد السين بمعنى: نَسَّاه الشيطانُ.
قوله: ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ يجوزُ أن تكونَ «وجد» علميةً فتتعدى لاثنين، وهما «له عَزْما»، وأنْ تكونَ بمعنى الإِصابة فتتعدى لواحدٍ، وهو «عَزْما». و «له»
111
متعلقٌ بالوجدانِ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عَزْما» إذ هو في الأصل صفةٌ له قُدِّمَتْ عليه.
112
قوله: ﴿أبى﴾ : جملة مستأنفةٌ لأنها جوابُ سؤالٍ مقدرٍ. أي: ما منعه منِ السجود؟ فأُجيب بأنه أبى واستكبر. ومفعولُ الإِباءِ يجوز أن يكونَ مُراداً. وقد صَرَّح به في الآيةِ الأخرى في قولِه ﴿أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين﴾ [الحجر: ٣١]. وحَسَّن حَذْفَه هنا كونُ العاملِ رأسَ فاصلةٍ، ويجوز أَنْ لا يُرادَ البتةَ، وأنَّ المعنى: إنه مِنْ أهلِ الإِباءِ والعصيانِ، من غيرِ نظرٍ إلى متعلَّقِ الإِباء ما هو؟
قوله: ﴿فتشقى﴾ : منصوبٌ بإضمار «أَنْ» في جواب النهي. والنهيُ في الصورةِ لإِبليس، والمرادُ به هما أي: لا تتعاطيا أسبابَ الخروجِ فيحصُلَ لكما الشقاءُ، وهو الكَدُّ والتعبُ الدنيوي خاصة. ويجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعاً على الاستئنافِ أي: فأنت تَشْقَى. كذا قَدَّره الشيخ. وهو بعيدٌ أو ممتنع؛ إذ ليس المقصودُ الإِخبارَ بأنه يشْقَى، بل إنْ وَقَع الإِخراجُ لهما من إبليسَ حَصَلَ ما ذكر. وأسند الشقاوةَ إليه دونَها؛ لأنَّ الأمورَ معصوبةٌ برؤوس الرجال. وحسَّن ذلك كونُه رأسَ فاصلةٍ.
قوله: ﴿إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ﴾ في محلِّ نصب اسماً ل «إنَّ». والخبرُ «لك». والتقديرُ: إنَّ لك عَدَمَ الجوع والعريِ. ف «تعرى» منصوبٌ تقديراً نَسَقاً على «تجوعَ». والعُرْيُ: تجرُّدُ الجِلْدِ عن شيءٍ يَقيه. يُقال منه: عَرِي يعرى عُرِيَّاً قال الشاعر:
112
113
قوله: ﴿وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ﴾ : قرأ نافع وأبو بكر و «إنك» بكسرِ الهمزةِ. والباقون بفتحها. فَمَنْ كَسَرَ فيجوز أن يكونَ ذلك استئنافاً، وأن يكونَ نَسَقاً على «إنَّ» الأولى. ومَنْ فتح فلأنَّه عَطَفَ مصدراً مؤولاً على اسمِ «إنَّ» الأولى. والخبرُ «لك» المتقدمُ. والتقديرُ: إنَّ لك عَدَمَ الجوعِ وعدمَ العُرِيِّ وعَدَمَ الظمأ والضُّحا. وجاز أن تكون «أنَّ» بالفتح أسماً ل «إنَّ» بالكسر للفصل بينهما، ولولا ذلك لم يَجُزْ. لو قلت: «إن إنَّ زيداً قائم/ حَقٌّ» لم يَجُزْ فلمَّا فُصِل بينهما جاز. وتقول: «إنَّ عندي أن زيداً قائم» ف «عندي» هو الخبرُ قُدِّم على الاسمِ وهو «أنَّ» وما في تأويلِها لكونِه ظرفاً، والآيةُ من هذا القبيل؛ إذ التقديرُ: وإنَّ لك أنَّك لا تظمأ. وقال الزمخشري: «فإنْ قلت:» إنَّ «لا تدخل على» أنَّ «فلا يُقال:» إنَّ أنَّ زيداً منطلق «، والواوُ نائبةٌ عن» أنَّ «، وقائمةٌ مقامَها فِلمَ دَخَلَتْ عليها؟ قلت: الواوُ لم تُوْضَعْ لتكون أبداً نائبةً عن» أنَّ «إنما هي نائبةٌ عن كلِّ عاملٍ، فلمَّا لم تكنْ حرفاً موضوعاً للتحقيق خاصة ك» إنَّ «لم يمتنعْ اجتماعُهما كما [امتنع اجتماع] إنَّ وأنَّ».
وضحى يَضْحَى أي: برز للشمسِ. قال عمر بن أبي ربيعة:
113
٣٣٢٥ - وإنْ يَعْرَيْنَ إن كُسِيَ الجَواري فَتَنْبُو العينُ عن كَرَمٍ عِجافِ
٣٣٢٦ - رَأَتْ رجلاً أَيْما إذا الشمسُ عارَضَتْ فيضحى وأيْما بالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ
وذكر الزمخشريُّ هنا معنًى حسناً في كونِه تعالى ذكر هذه الأشياءَ بلفظ النفي، دونَ أَنْ يذكرَ أضدادَها بلفظِ الإِثباتِ. فيقول: إنَّ لك الشِّبَعَ والكِسْوةَ والرِّيَّ والاكتنانَ في الظلِّ فقال: «وَذَكَرها بلفظِ النفيِ لنقائضِها التي هي الجوعُ والعُرِيُّ والظمأُ والضَّحْوُ ليطرُقَ سمعَه بأسامي أصنافِ الشِّقْوَةِ التي حَذَّره منها حتى يَتحامى السببَ الموقعَ فيها كراهةً لها.
114
قوله: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ﴾ : وَسْوَسَ إليه أي: أنهى إليه الوسوسةَ. وأمَّا وَسْوس له فمعناه لأجلِه. الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف عدى» وَسْوس «تارة باللامِ في قوله: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان﴾ [الأعراف: ٢٠] وأخرى ب إلى؟ قلت: وَسْوَسَةُ الشيطانِ كوَلْوَلَةِ الثَّكْلى ووَقْوَقَةِ الدجاجة في أنها حكاياتٌ للأصواتِ، فحكمُها حكمُ صوتٍ أو جَرْسٍ. ومنه وَسْوَسة المُبَرْسَم، وهو مُوَسْوِس بالكسر. والفتحُ لحنٌ. وأنشد ابن الأعرابي:
٣٣٢٧ - وَسْوَسَ يَدْعو مُخْلِصاً رَبَّ الفَلَقْ... فإذا قلت: وَسْوَسَ له فمعناه لأجلِه كقوله:
114
٣٣٢٨ - أجْرِسْ لها يا ابنَ أبي كِباشِ... ومعنى وَسْوس إليه: أنهى إليه الوَسْوَسة لكونِه بمعنى ذكر له. ويكون بمعنى لأجله.
115
قوله: ﴿فغوى﴾ : الجمهورُ على فتحِ الواوِ وبعدها ألفٌ. وتفسيرُها واضحٌ. وقيل: معناه بَشِمَ. من قولهم: «غَوِي البعير» بكسر الواو، والياء، إذا أصابه ذلك. وقد حكى أبو البقاء هذه قراءةً وفسَّروها بهذا المعنى. قال الزمخشريُّ: «وعن بعضِهم: فَغَوى فبشِم من كثرةِ الأكل. وهذا وإن صَحَّ على لغةِ مَنْ يَقْلِبُ الياءَ المكسورَ ما قبلَها ألفاً فيقولُ في فَنِي وبَقِي: فَنا وبَقا وهم بنو طيِّىء تفسيرٌ خبيثٌ». قلت: كأنه لم يَطَّلِعْ على أنه قُرِىء بكسر الواو، ولو اطَّلع عليها لَرَدَّها. وقد فَرَّ القائلُ بهذه المقالةِ مِنْ نسبةِ آدمَ عليه السلام إلى الغَيِّ.
قوله: ﴿ضَنكاً﴾ : صفةٌ ل «معيشة»، وأصلُه المصدرُ فلذلك لم يُؤَنَّثْ. ويقع للمفردِ والمثنى والمجموعِ بلفظٍ واحدٍ.
وقرأ الجمهورُ «ضَنْكاً» بالتنوينَ وَصْلاً وإبدالِه ألفاً وقفاً كسائِرِ المعربات. وقرأتْ فرقةٌ قوله: «ضنكى» بألفٍ كسكرى. وفي هذه الألف احتمالان،
115
أحدهما: أنها بدلٌ من التنوين، وإنما أجرى الوصلَ مجرى الوقف كنظائرَ له مَرَّتْ. وسيأتي منها بقيةٌ إن شاء الله تعالى. والثاني: أن تكونَ ألفَ التأنيث، بُني المصدرُ على فَعْلى نحو دعوى.
والضَّنْكُ: الضِّيقُ والشِّدة. يُقال منه: ضَنُكَ عيشُه يَضْنُك ضَنَاكة وضَنْكاً. وامرأة ضِناك كثيرةُ لحمِ البدنِ، كأنهم تخيَّلوا ضِيْقَ جِلْدِها به.
وقرأ العامَّةُ «ونَحْشُرُه» بالنونِ ورَفْعِ الفعلِ على الاستئناف. وقرأ أبانُ ابن تغلب في آخرين بتسكينِ الراءِ. وهي محتملةٌ لوجهين، أحدُهما: أن يكونَ الفعلُ مجزوماً نَسَقاً على مَحَلِّ جزاء الشرط، وهو الجملةُ مِنْ قولِه ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً﴾ فإنَّ محلَّها الجزمُ، فه كقراءةِ ِ ﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرْهُمْ﴾ [الأعراف: ١٨٦] بتسكين الراء. والثاني: أَنْ يكونَ السكونُ سكونَ تخفيفٍ نحو ﴿يَأْمُرْكُمْ﴾ [البقرة: ٦٧] وبابِه.
وقرأ فرقةٌ بياءِ الغَيْبة وهو اللهُ تعالى أو المَلَك. وأبان بن تغلب في رواية «ونَحْشُرهْ» بسكونِ الهاء وصلاً. وتخريجُها: إمَّا على لغةِ بني عقيل وبني كلاب، وإمَّا على إجراء الوصل مُجرى الوقف. و «أعمى» نصب على الحال.
116
قوله: ﴿وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً﴾ : جملةٌ حالية من مفعولِ «حَشَرْتني». وفَتَحَ الياءَ مِنْ «حَشَرْتني» قبل الهمزةِ نافعٌ وابن كثير.
قوله: ﴿كذلك أَتَتْكَ﴾ : قال أبو البقاء: / «كذلك» في موضعِ نصبٍ أي: حَشْراً مثلَ ذلك، أو فَعَلْنا مثلَ ذلك، أو إتياناً مثلَ ذلك، أو جزاءً مثلَ إعراضِك أو نِسْياناً «. وهذه الأوجهُ التي قالها تكون الكافُ في بعضها نصباً على المصدر، وفي بعضها نَصْباً على المفعول به. ولم يذكر الزمخشريُّ فيه غيرَ المفعولِ به فقال:» أي: مثلَ ذلك فَعَلْتَ أنت، ثم فُسِّر بأنَّ آياتِنا أَتَتْك واضحةً مستنيرةً فلم تنظر إليها بعينِ المُعْتَبِرِ «.
قوله تعالى: ﴿وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ﴾ : أي: ومثلَ ذلك الجزاءِ نَجْزي مَنْ أسرف.
قوله: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ : في فاعل «يَهْدِ» أوجهٌ، أحدها: أنه ضميرُ الباري تعالى. ومعنى يَهْدي: يُبَيِّن. ومفعولُ يهدي محذوفٌ تقديرُه: أفلم يُبَيِّنِ اللهُ لهم العبرَ وفِعْلَه بالأمم المكذبة. قال أبو البقاء: «وفي فاعلِه وجهان، أحدهما: ضميرُ اسم الله تعالى، وعَلَّق» بَيَّن «هنا إذا كانَتْ بمعنى اعلمْ، كما عَلَّقه في قولِه تعالى: ﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ [إبراهيم: ٤٥]. قال
117
الشيخ: و» كم «هنا خبريةٌ ل تعَُلِّق العاملَ عنها». وقال الزمخشري: «ويجوز أَنْ يكونَ فيه ضميرُ اللهِ أو الرسولِ. ويدلُّ عليه القراءةُ بالنونِ.
الوجه الثاني: أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يُفَسِّره ما دَلَّ عليه من الكلام بعدَه. قال الحوفي:»
كم أَهْلكنا «قد دَلَّ على هلاك القرونِ. التقدير: أفلم يَتَبَيَّن لهم هلاكُ مَنْ أَهْلكنا من القرن ومَحْوُ آثارِهم فيتَّعِظوا بذلك. وقال أبو البقاء:» الفاعلُ ما دَلَّ عليه قوله: ﴿أَهْلَكْنَا﴾ أي إهلاكنا والجملةُ مفسِّرةٌ له «.
الوجه الثالث: أنَّ الفاعلَ نفسُ الجملة بعده. قال الزمخشري:»
فاعلُ «لم يَهْدِ» الجملةُ بعده. يريدُ: ألم يَهْدِ لهم هذا بمعناه ومضمونِه. ونظيرُه قولُه تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين﴾ [الصافات: ٧٩] أي تَرَكْنا عليه هذا الكلامَ «. قال الشيخ:» وكَوْنَ الجملةِ فاعلَ «يَهْدِ» هو مذهبٌ كوفي. وأمَّا تشبيهُه وتنظيرُه بقولِه: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين﴾ فإنَّ «تركْنا» معناه معنى القول، فحُكِيَتْ به الجملةُ كأنه قيل: وقُلْنا عليه وأَطْلقنا عليه هذا اللفظ، والجملةُ تحكى بمعنى القولِ كما تُحْكَى بالقولِ «.
118
الوجهُ الرابعُ: أنه ضميرُ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنه هو المُبَيِّن لهم بما يوحى إليه من أخبار الأممِ السالفةِ والقرونِ الماضية. وهذا الوجهُ تقدَّم نَقْلُه عن أبي القاسم الزمخشري.
الوجهُ الخامسُ: أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، قال ابنُ عطية نقلاً عن غيره:» إن الفاعلَ مقدرٌ تقديرُه: الهدى أو الأمرُ أو النظرُ والاعتبار «قال ابن عطية:» وهذا عندي أحسنُ التقادير «.
قال الشيخ:»
وهو قولُ المبردِ، وليس بجيدٍ؛ إذ فيه حَذْفُ الفاعلِ وهو لا يجوز عند البصريين، وتحسينُه أَنْ يقالَ: الفاعل مضمر تقديره: يهد هو أي الهدى «، قلت: ليس في هذا القولِ أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، بل فيه أنه مقدرٌ، ولفظٌ» مقدرٌ «كثيراً ما يُستعمل في المضمر. وأما مفعولُ» يَهْدِ «ففيه وجهان أحدهما: أنه محذوف. والثاني: أن يكونَ الجملةَ من» كم «وما في حَيِّزها؛ لأنها معلِّقَةٌ له فهي سادَّة مَسَدَّ مفعولِه.
الوجه السادس: أنَّ الفاعلَ»
كم «، قاله الحوفي وأنكره على قائله؛ لأنَّ» كم «استفهامٌ لا يَعْمل فيها ما قبلها.
قال الشيخ: «وليست هنا استفهاماً بل هي خبرية»
. واختار الشيخ أن يكون الفاعلُ ضميرَ الله تعالى فقال: «وأحسنُ التخاريجِ أن يكونَ الفاعلُ ضميراً عائداً على الله تعالى فكأنه قال: أفلم يبيِّنِ الله. ومفعول» يُبَيِّن «محذوفٌ أي: العبر بإهلاك القرونِ السابقة. ثم قال: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ أي: كثيراً أَهْلَكْنا ف» كم «مفعولةٌ بأهلكنا، والجملةُ كأنها مفسِّرةٌ للمفعولِ المحذوف ل» يَهْدِ «.
119
قوله: ﴿مِّنَ القرون﴾ في محلِّ نصبٍ نعتاً ل» كم «لأنها نكرة. ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً من النكرة. ولا يجوزُ أن يكونَ تمييزاً على قواعد البصريين، و» مِنْ «داخلةٌ عليه على حَدِّ دخولِها على غيرِه من التمييزات لتعريفِه.
وقرأ العامَّةُ»
يَهْدِ «بياءِ الغَيْبة. وتقدَّم الكلامُ في فاعِله. وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن بالنونِ المُؤْذِنَةِ بالتعظيم، وهي مؤيدةٌ لكونِ الفاعلِ في قراءةِ العامَّةِ ضميرَ الله تعالى.
قوله: ﴿يَمْشُونَ﴾ حالٌ من القرون أو مِنْ مفعولِ»
أهلَكْنا «. والضميرُ على هذين عائدٌ على القرونِ المُهْلَكَة. ومعناه: إنَّا أهلكناكم وهم في حالِ أَمْنٍ ومَشْيٍ وتَقَلُّبٍ في حاجاتهم كقوله: ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٤] ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في» لهم «. والضميرُ في» يَمْشُون «على هذا عائدٌ على مَنْ عاد عليه الضمير في» لهم «، وهم المشركون المعاصرون لرسول الله صلَّى الله عليه وسلِّم. والعاملُ فيها» يَهْدِ «. / و [المعنى] : أنكم تَمْشُون في مساكن الأمم السالفةِ، وتتصرَّفون في بلادهم، فينبغي أَنْ تعتبروا لئلاَّ يَحُلَّ بكم ما حلَّ بهم. وقرأ ابن السميفع» يُمَشَّوْن «مبنياً للمفعول مضعَّفاً؛ لأنه لَمَّا تعدى بالتضعيف جاز بناؤه للمفعول.
120
قوله: ﴿وَأَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ : في رفعِه وجهان، أظهرُهما: عطفُه على «كلمةٌ» أي: ولولا أجلٌ مُسَمَّى لكان العذابُ لازماً لهم.
120
الثاني: جَوَّزه الزمخشريُّ وهو أَنْ يكونَ مرفوعاً عطفاً على الضمير المستتر. والضميرُ عائدٌ على الأخذِ العاجلِ المدلولِ عليه بالسياقِ. وقام الفصلُ بالجرِّ مَقامَ التأكيدِ. والتقدير: ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ مِنْ ربك لكان الأخذُ العاجل وأجلٌ مُسَمَّى لازِمَيْن لهم، كما كانا لازِمَيْنِ لعادٍ وثمودَ، ولم ينفردِ الأجلُ المسمى دون الأخذِ العاجل.
قلت: فقد جعل اسمَ «كان» عائداً على ما دَلَّ عليه السياقُ، إلاَّ أنه قد تُشْكِلُ عليه مسألةٌ: وهو أنه قد جَوَّز في «لزام» وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ مصدرَ لازَمَ كالخِصام، ولا إشكال على هذا.
والثاني: أن يكون وصفاً على فِعال بمعنى مُفْعِل أي: مُلْزِم، كأنه آلةُ اللُّزوم لفَرْطِ لُزومه كما قالوا: لِزازُ خَصْمٍ، وعلى هذا فيُقال: كان ينبغي أَنْ يطابق في التثنية فيقال: لِزَامَيْنِ بخلاف كونه مصدراً فإنه يُفْرَدُ على كل حال.
وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ «لزاماً» جمعَ لازم كقِيام جمعَ قائِم.
121
قوله: ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ : حالٌ أي: وأنت حامدٌ له.
قوله: ﴿وَمِنْ آنَآءِ الليل﴾ متعلِّقٌ ب «سَبِّحْ» الثانيةِ، وقد تقدَّم ما في هذه الفاء.
قوله: ﴿وَأَطْرَافَ﴾ العامَّةُ علت نصبِه. وفيه وجهان أحدُهما: أنه عطفٌ
121
على محلِّ ﴿وَمِنْ آنَآءِ الليل﴾. والثاني: أنه عطفٌ على «قبلَ». وقرأ الحسنُ وعيسى بنُ عمر «وأطرافِ» بالجرِّ عَطْفاً على «آناءِ الليل». وقوله هنا «أطرافَ» وفي هود ﴿طَرَفَيِ النهار﴾ [الآية: ١١٤] فقيل: هو مِنْ وَضْعِ الجمعِ موضعَ التثنيةِ كقوله:
٣٣٢٩ - ظَرْاهما مثلُ ظُهورِ التُّرْسَيْنْ... وقيل: هو على حقيقتِه. والمرادُ بالأَطْراف: الساعات.
قوله: ﴿ترضى﴾ قرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم تُرْضَى «مبنياً للمفعول. والباقون مبنياً للفاعلِ، وعليه ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى﴾ [الضحى: ٥].
122
قوله: ﴿أَزْوَاجاً﴾ : في نصبِه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على المفعولِ به وهو واضح. والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من الهاء في «به». راعى لفظَ «ما» مرةً، ومعناها أخرى، فلذلك جَمَع. قال الزمخشري: «ويكون الفعلُ واقعاً على» منهم «. قال الزمخشري:» كأنه قيل: إلى الذي مَتَّعْنا به وهو أصنافُ بعضِهم وناساً منهم «.
قوله: ﴿زَهْرَةَ﴾ في نصبه تسعة أوجه، أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ لأنه ضَمَّن مَتَّعْنا معنى أَعْطَيْنا. ف»
أزواجاً «مفعولٌ أولُ، و» زهرةَ «هو الثاني. الثاني: أن يكونَ بدلاً من» أَزْواجاً «، وذلك: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذوي زهرة، وإمَّا
122
على المبالغةِ جُعِلوا نفسَ الزهرة. الثالث: أن يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ دَلَّ عليه» مَتَّعْنا «تقديرُه: جَعَلْنا لهم زهرةً. الثالث: نَصْبُه على الذَّمِّ، قال الزمخشري:» وهو النصبُ على الاختصاص «. الرابع: أن يكونَ بدلاً من موضعِ الموصولِ. قال أبو البقاء:» واختاره بعضُهم. وقال آخرون: لا يجوزُ لأنَّ قولَه ﴿لِنَفْتِنَهُمْ﴾ مِنْ صلة «مَتَّعْنا» فيلزمُ الفصلُ بين الصلةِ والموصولِ بالأجنبي «. وهو اعتراضٌ حسنٌ.
الخامس: أن ينتصبَ على البدلِ من محلِّ»
به «. السادس: أن ينتصِبَ على الحال مِنْ» ما «الموصولةِ. السابع: أنه حالٌ من الهاء في» به «وهو ضميرُ الموصولِ فهو كالذي قبله في المعنى، فإنْ قيل: كيف تقع الحالُ معرفةً؟ فالجوابُ أن تجعلَ» زهرةَ «منونةً نكرة، وأنما حُذِفَ التنوينُ لالتقاء الساكنين نحو:
٣٣٣٠ -......................... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا
وعلى هذا: فيم جُرَّتِ الحياة؟ فقيل: على البدل مِنْ»
ما «الموصولة. الثامن: أنه تمييزٌ ل» ما «أو للهاءِ في» به «قاله الفراء. وقد رَدُّوه عليه بأنه
123
معرفةٌ، والمميِّزُ لا يكون معرفة. وهذا غيرُ لازمٍ له؛ لأنه يجوزُ تعريفُ التمييز على أصول الكوفيين.
التاسع: أنه صفةٌ ل» أَزْواجاً «بالتأويلين المذكورَيْن في نصبِه حالاً. وقد منع أبو البقاء من هذا الوجهِ بكونِ الموصوفِ نكرةً، والوصفِ معرفةً، وهذا يُجابُ عنه بما أُجيب في تسويغِ نصبهِ حالاً، أعني حذفَ التنوينِ لالتقاءِ الساكنين.
والعامَّةُ على تسكينِ الهاء. وقرأ الحسن وأبو البرهسم وأبو حيوةَ بفتحِها، فقيل: بمعنى، ك جَهْرَة وجَهَرَة. وأجاز الزمخشري أَنْ يكونَ جمعَ زاهر كفاجِر وفَجَرة وبارّ وبَرَرَة، وروى الأصمعي عن نافع»
لنُفْتِنَهم «بضمِّ النون مِنْ أَفْتَنَه إذا أوقعه في الفتنةِ.
والزَّهْرَةُ: بفتحِ الهاء وسكونِها كنَهْر ونَهَر، ما يَرُوْقُ من النَّوْر. وسِراجٌ زاهِرٌ لبريقِه، ورجلٌ أزهرُ وأمرأةٌ زهراءُ من ذلك. والأنجمُ الزهرُ هي المضيئةُ.
124
قوله: ﴿للتقوى﴾ : أي: لأهلِ التقوى. ويؤيد هذا قولُه في موضعٍ أخرَ ﴿والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٨]، وقرأ ابن وثاب «نَرْزقُك» بإدغام
124
القاف في الكاف. / والمشهورُ عنه أنه لا يدُغِمُ إلاَّ إذا كانَتِ الكافُ متصلةً بميمٍ جمعٍ نحو ﴿خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] وقد تقدم.
125
قوله: ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ﴾ : قرأ نافع وأبو عمرو وحفص «تأتهم» بالتأنيثِ والباقون بالياء مِنْ تحت؛ لأنَّ التأنيثَ مجازي. وقرأ العامَّةُ «بَيِّنَةُ ما» بإضافة «بَيِّنَة» إلَى «ما» مرفوعةً وهي واضحةٌ. وقرأ أبو عمروٍ فيما رواه أبو زيدٍ بتنوينِ «بَيِّنَةٌ» مرفوعةً. وعلى هذه القراءةِ ففي «ما» أوجهٌ، أحدُها: أنها بدلٌ من «بَيِّنَةٌ» بدل كل من كل. والثاني: أن تكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هي ما في الصحف الأولى. والثالث أَنْ تكونَ «ما» نافيةً. قال صاحب: اللوامح «:» وأُريدَ بذلك ما في القرآن من الناسخ والفصلِ ممَّا لم يكنْ في غيرِه من الكتب «.
وقرأَتْ جماعةٌ»
بَيِّنَةً «بالتنوين والنصب. ووجهُها أَنْ تكونَ» ما «فاعلةً، و» بَيِّنَةً «نصب على الحال، وأنَّث على معنى» ما «. ومَنْ قرأ بتاء التأنيث فحملاً على معنى» ما «، ومَنْ قرأ بياءِ الغَيْبة فعلى لفظِها.
وقرأ ابنُ عباس بسكونِ الحاء.
والهاءُ في «قَبْلِهِ» يجوزُ أَنْ تعودَ للرسول بدليلِ قولِه: ﴿لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾. وجَوَّز الزمخشري وغيرُه أَنْ تعودَ على «بَيِّنَةٍ» باعتبارِ أنها في معنى البرهان والدليل.
125
قوله: ﴿فَنَتَّبِعَ﴾ نصبٌ بإضمار «أَنْ» في جوابِ التخصيص. وفي إعراب أبي البقاء: «في جوابِ الاستفهام» وهو سهوٌ.
وقرأ ابنُ عباس وابنُ الحنفية والحسن وجماعةٌ كثيرة «نُذَلَّ ونخزى». مبنيين للمفعول.
126
و «مُتَرَبِّصٌ» خبرُ «كل»، أَفرَدَ حملاً على لفظ «كل».
قوله: ﴿مَنْ أَصْحَابُ﴾ يجوز في «مَنْ» هذه وجهان، أظهرهما: أَنْ تكونَ استفهاميةً مبتدأةً، و «أصحابُ» خبره. والجملةُ في محلِّ نصبٍ سادَّة مَسَدَّ المفعولَيْن. والثاني ويعزى للفراء أن تكونَ موصولةً بمعنى الذين. و «أصحابُ» خبر مبتدأ مضمر أي: هم أصحاب، وهذا على مقتضى مذهبِهم، يحذفون مثلَ هذا العائدِ وإن لم تَطُلِ الصلةُ. ثم «عَلِمَ» يجوز أَنْ تكونَ عرفانيةً فتكتفيَ بهذا المفعولِ، وأن تكون على بابها فلا بُدَّ مِنْ تقديرِ ثانيهما.
وقرأ العامَّةُ: «السَّوِيِّ» على وزن فَعيل بمعنى المُسْتَوي. وقرأ أبو مجلز وعمران بن حدير «السَّواء» بفتحِ السينِ والمدِّ، بمعنى الوسط الجيِّد. وقرأ يحيى بن يعمر والجحدري «السوءى» على فعلى باعتبار أن الصراط يُذَكَّرُ ويؤنث. وقرأ ابن عباس «السَّوْء» بفتح السين بمعنى الشرِّ.
126
ورُوي عنهما «السوى» بضم السين وتشديد الواو. ويحتمل ذلك وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ قَلَبَ الهمزةَ واواً، وأدغم الواوَ في الواو، وأَنْ يكونَ فُعْلَى من السَّواء. وأصلُه السُّوْيا فقُلِبَتِ الياءُ واواً وأُدْغم أيضاً. وكان قياسُ هذه السُّيَّا؛ لأنه متى اجتمع ياءٌ وواوٌ وسَبَقت إحداهما بالسكون قُلبت الواوُ ياءً وهنا فُعِل بالعكس.
وقُرِىء «السُّوَيِّ» بضم السين وفتح الواو وتشديد الياءِ تصغيرَ «سُوْء» قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وليس بجيدٍ إذ لو كانَ كذلك لثَبَتَتْ همزةُ» سوء «. والأجودُ أَنْ يكونَ تصغيرَ» سواء «، كقولِهم عُطَيّ في عَطاء». قلت: وقد جعله أبو البقاء أيضاً تصغيرَ السَّوْء يعني بفتح السين. ويَرِدُ عليه ما تقدَّم إيرادُه على الزمخشريِّ، وإبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ جائزٌ فلا إيرادَ.
قوله: ﴿وَمَنِ اهتدى﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تكونَ استفهاميةً، وحكمُها كالتي قبلها إلاَّ في حَذْفِ العائِد. الثاني: أنها في محلِّ رفعٍ على ما تقدَّم في الاستفهاميةِ. الثالث: أنها في محلِّ جرٍّ نَسَقاً على «الصراطِ» أي: وأصحابُ مَنِ اهتدى. وعلى هذين الوجهين تكونُ موصولةً، قال أبو البقاء في الوجه الثاني: «وفيه عَطْفُ الخبرِ على الاستفهام، وفيه تقويةٌ قولِ الفرَّاءِ» يعني أنه إذا جَعَلَها موصولةً كانت خبريةً.
127
Icon