تفسير سورة طه

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة طه من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿طه﴾ هو اسم من أسمائه. وقيل: بمعنى: يا رجل. وقيل: يا حبيبي؛ بلغة عك. وقيل: هو بمعنى: طأها؛ أي طإ الأرض يا محمد. وقد كان - لكثرة قيامه بالليل - يرفع رجلاً ويحط أخرى
﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ أي لتتعب نفسك في العبادة، ولتذهبها حسرات إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً
﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ استواء يليق به؛ لا كاستواء المخلوقين: لأن الديان، يتقدس عن المكان؛ وتعالى المعبود، عن الحدود
﴿وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ أي يعلم السر، وما هو أخفى منه؛ وهو الذي يخطر بالبال
﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى﴾ لفظاً ومعنى (انظر آيتي ١٨٠ من سورة الأعراف، و١١٠ من سورة الإسراء)
﴿فَقَالَ لأَهْلِهِ﴾ أي لامرأته؛ وهي ابنة شعيب عليهما السلام ﴿إِنِّي آنَسْتُ﴾ أي أبصرت ﴿نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ﴾ القبس: قطعة من النار ﴿أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾ أي أناساً يهدونني الطريق
﴿فَلَمَّآ أَتَاهَا﴾ أي أتى موسى النار {نُودِيَ يمُوسَى *
إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} المطهر ﴿طُوًى﴾ اسم للوادي؛ وهو بالشام
﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ من بين سائر خلقي؛ لحمل رسالتي ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ أي لما أوحي به إليك
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ﴾ فاعلم أنه ﴿لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي﴾ وحدي ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾ أي لتذكرني فيها، أو لأذكرك في عليين إذا أقمتها، أو إذا نسيتها وتذكرت فصلِّ؛ قال سيد الخلق عليه الصلاة والسلام: «من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ﴾
﴿إِنَّ السَّاعَةَ﴾
القيامة ﴿آتِيَةٌ﴾ لا ريب فيها ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ من نفسي؛ وقد أخفاها الله تعالى عن رسله، وأنبيائه؛ بل عن ملائكته المقربين؛ وفيهم من يقوم بالنفخ في الصور، وطي السماء، وتسيير الجبال، وتسجير البحار، وتسعير الجحيم، وإزلاف الجنة
﴿فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا﴾ أي لا يصرفنك عن الإيمان بها ﴿مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا﴾ من الكفرة الفجرة ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ أطاع نفسه وشيطانه (انظر آية ١٧٦ من سورة الأعراف) ﴿فَتَرْدَى﴾ فتهلك
﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾ ضع كفك اليمنى تحت إبطك الأيسر؛ مكان الجناح
-[٣٧٧]- ﴿تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ أي بياضاً نورانياً، لا بياضاً مرضياً؛ كبرص ونحوه ﴿آيَةً أُخْرَى﴾ أي معجزة أخرى لك، وآية دالة على نبوتك، والآية الأولى: العصا وانقلابها حية
﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى﴾ الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا؛ لتجابه بها فرعون إمام أهل البغي والكفر أي وسعه، ونوره بالإيمان والنبوة
﴿وَيَسِّرْ لِي﴾ سهل لي ﴿أَمْرِي﴾ الذي كلفتني بالقيام به
﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي﴾ أي قوِّ حجتي، وأيدني بالأدلة والبراهين. وقيل: كانت به لثغة من جمرة وضعها في فيه وهو صغير
﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي﴾ الوزير: المؤازر. وسمي الوزير وزيراً: لأنه يؤازر السلطان، ويحمل عنه وزره
﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾: القوة والضعف؛ أي قوِّ به ضعفي. والأزر أيضاً: الظهر
﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يمُوسَى﴾ أي أجيب طلبك الذي سألتنا إياه
﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى﴾ قبل هذه: بإنجائك من فتك فرعون بك
﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ﴾ مناماً أو إلهاماً
﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ﴾ وهو الصندوق ﴿لِلَّهِ﴾ اقذفي الصندوق في نهر النيل ﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ﴾
هو أمر منه تعالى للنيل بأن يلقي التابوت بموسى على الشاطىء ﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي﴾ هو مدعي الألوهية فرعون ﴿وَعَدُوٌّ لَّهُ﴾ عدو لموسى أيضاً؛ لأن من عادى الله تعالى؛ فقد عادى أولياءه؛ ولأن موسى أظهر كفره وكذبه على ملإ من قومه: الذين يؤمنون به ويؤلهونه ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾ وقد أحبه كل من رآه؛ حتى فرعون - الذي أمر بقتله وقتل أمثاله - أحبه أيضاً ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ أي لتربى على رعايتي وحفظي لك
﴿فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ﴾ كما وعدناها ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ﴾
-[٣٧٨]- ﴿وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ﴾ (انظر آية ١٥ من سورة القصص) و «الغم»: القصاص. وقيل: «الغم»: القتل ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾ أي ابتليناك ابتلاء، واختبرناك اختباراً. أو هو بمعنى: محصناك تمحيصاً؛ لتكون أهلاً لمحبتنا ورسالتنا. من فتن الذهب: إذا امتحنه بالنار، وخلصه من الشوائب ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ﴾ على تقدير مني، وموعد
﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ اصطفيتك واخترتك لرسالتي
﴿وَلاَ تَنِيَا﴾ لا تقصرا
﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً﴾ لطيفاً. انظر - أيها اللبيب الأريب - كيف يعلم الله تعالى عباده حسن الخلق، وكمال الأدب: يرسل موسى وهرون عليهما السلام - وهما أزكى المقربين، في ذلك الحين - إلى فرعون اللعين - وهو شر الأشرار، وأفجر الفجار - ويقول لهما: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً﴾ وانظر الآن حينما يلقاك أحد المتنطعين؛ ويحب أن يتظاهر بأنه أول الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر؛ فيبدأ بنسبة الكفر إليك - وهو إلى الكفر أقرب - ويصفك بأحط الصفات، وأرذل السمات - وهو المبغوض عندالله، المرذول عند الناس - فما ضر هؤلاء لو تخلقوا بأخلاقالله، واتبعوا هداه؛ وقالوا للناس حسناً، ونصحوا عباد الله لوجهالله؛ ولكنهم والعياذ ب الله ﴿يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ تلى قوله تعالى:
﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً﴾ عند يحيىبن معاذ: فبكى، وقال: هذا رفقك بمن يقول: إنا إله؛ فكيف بمن قال: أنت الإله وهذا رفقك بمن قال: ﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ فكيف بمن قال: سبحان ربي الأعلى أي أطلقهم من الاستعباد والاسترقاق
﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ﴾ أي أعطى كل مخلوق ما يحتاج إليه في أحواله المعيشية، وما يناسبه من الهيئة والانسجام. أو أعطى خلقه كل شيء يحتاجون له، يفترقون إليه ﴿ثُمَّ هَدَى﴾ أي بعد أن أعطى كل شيء خلقه: هداه لما يصلحه؛ فترى الإنسان يخرج إلى هذه الدنيا لا يدري من أمورها شيئاً؛ فيلهم العلوم، والمعارف، والفنون، ويدرك من خواص الأشياء وطبائعها الشيء الكثير؛ مما لا يستطيع إدراكه ومعرفة كنهه بقوته الفطرية؛ وإن شئت فتأمل الحاكي «الفوتوغراف» والمذياع «الراديو» والتليفزيون، واللاسلكي، والكهرباء، وما شاكل ذلك من القوى التي ساق الله تعالى معرفتها إلى البشر بطريق المصادفة حيناً، والإلهام أحياناً؛ بل منها ما لا يدرك مداه، ولا تعرف حقيقته؛ حتى لصانعيه ومستخدميه وترى الحيوان الأعجم حين يولد: يعرف أن رجليه معدتان لحمله؛ فيقوم عليها واقفاً، وأن فمه معد للأكل؛ فيتناول به طعامه. ومن عجب أنه يعرف الطريق إلى ثدي أمه بغير مرشد ولا هاد وترى كل مولود يولد؛ إذا لم تربط سرته مات
378
لساعته؛ فمن يربط للوحوش في الفلوات؟ إن الهادي يهديها، والرشيد يرشدها: فتقطع سرة مولودها بأسنانها؛ بعد أن تترك جزءاً كافياً لحفظ حياته. وهكذا الكلاب والهررة وأشباهها. وترى النحلة وقد اهتدت إلى طعامها وشرابها فالتهمت من الزهرة رحيقها، دون أن تتلفها، ومن الثمرة صفوتها دون أن تنقصها، وبعد ذلك تتجه إلى خليتها - من غير أن تضل عنها - فتفرغ فيها العسل؛ بعد أن تعد له أوعيته من الشمع بشكل أنيق، ونظام دقيق وكل ذلك بهداية الهادي القدير جل شأنه، وعز سلطانه
وفوق كل هذا فإن النوع الإنساني يعتبر واحداً بين ملايين الأنواع التي تزخر بها هذه الأرض التي تعتبر من أصغر الكواكب المخلوقةلله تعالى. وبعض هذه الأنواع يعيش معنا فنراه ويرانا، وبعضها ينتشر بيننا فلا نراه؛ لتناهيه في الصغر والدقة، وأنواع أخرى لا يحصيها سوى خالقها: بعضها في أعماق الماء، وبعضها في عنان السماء، وبعضها تحت الثرى، وبعضها فوق الذرى؛ وبعضها في بطون الصخور؛ كل أولئك يسيرها الخالق القدير، وينظمها ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾.
ولا شك أن هناك أنواعاً أخرى - تعد بالملايين - لم ندر من أمرها شيئاً، ولم يصل إلى علمنا بصيص من معرفتها، ولا ندري كيف تحيا، وكيف تعيش.
والنوع الإنساني يعيش بين هذه الملايين كفرد في هذه المجموعة الضخمة من الأحياء
وهذه المخلوقات - التي لا عداد لها - يتنازعها حب البقاء، والتشبث بالحياة؛ شأن بني الإنسان تماماً؛ ولو ترك أحدها على سجيته ونما على طبيعته لضاقت به الأرض بما رحبت، ولما وسعه هذا الكوكب الكبير الصغير.
وكل واحد من هذه المخلوقات - صغيرها وكبيرها، عظيمها وحقيرها - له رسالة قائم بأدائها؛ رسمها له النافع الضار، اللطيف الخبير وقد لا يدرك الإنسان أهمية هذه الرسالة؛ ولكن الخالق الأعظم يراها لازمة لزوم الماء والهواء؛ ليسير بنا وبغيرنا ركب الحياة.
وهناك نظام دقيق للتوازن الحيوي بين سائر المخلوقات؛ وضعه المبدع الحكيم فلو ترك ذكر واحد وأنثى واحدة من الذباب؛ وعاش نسلهما، وتناسل هذا النسل - لمدة ستة شهور فحسب - لغطى الذباب سطح الكرة الأرضية بعمق سبعة وأربعين قدماً.
وما يقال عن الذباب؛ يقال أيضاً عن الجراد والنمل وغيرهما. فلم نر جحافل الجراد الضخمة، وأسراب
379
النمل العظيمة، أو جيوش الذباب الجرارة، غطت مساحة الكرة الأرضية وزاحمت بني الإنسان في مكانه منها
وذلك لأن الله تعالى قد أعد لكل شيء عدته؛ حتى تتوازن سائر الأحياء بعضها مع البعض؛ دون أن يطغى نوع على الآخر؛ فتفسد بذلك أسباب العمران
ويأتي دور الإنسان - الذي يعتبر نفسه بحق سيداً على المخلوقات الأرضية - فيحاول بشتى الوسائل إبادة كل ما يعترضه من هذه الكائنات؛ فلا يكاد يبيد نوعاً من الأنواع؛ إلا ويفاجأ بأنواع أخرى من سلالته؛ يضيفها الإنسان إلى قائمة ما يصارع؛ حتى تكاثرت عليه الأعداء، وعز الداء. فمن بكتريا وفيروسات، إلى طحالب وفطريات، إلى هوام وحشرات، إلى كواسر وحيوانات، إلى ما لا حد له من المخلوقات؛ التي أخرجها مبدع الأرض والسموات
ولكل نوع من هذه الأنواع أعداء - غير بني الإنسان - خاصة به، أوجدها الله تعالى لتحفظ توازنه، وتحد من تكاثره؛ فللجراد أعداء، وللنمل والذباب والبعوض أعداء، وللجرذان والحيات والعقارب أعداء؛ وإذا لم توجد هذه الأعداء، أو قل شرها: لكان النوع نفسه عدواً لنفسه؛ فإذا تكاثر الجراد مثلاً وزاد عن الحد المرسوم: قل الغذاء؛ فيتصارع النوع فيما بينه، ويقتل بعضه بعضاً؛ بل ويأكل بعضه بعضاً.
وما يقال عن الجراد يقال عن الهوام والحشرات، والبكتيريا والفيروسات.
حتى النباتات: يسري عليها قانون التوازن الذي يسري على سائر المخلوقات: فإذا ناءت بعض الأشجار بحملها: تخلصت من بعض أزهارها وثمارها، وتخففت من ثقلها؛ خشية أن يتلف بعضها البعض، أو تهلك الشجرة نفسها.
وهذا القانون السماوي: ملموس مشاهد في كل الأوقات، وسائر الحالات؛ فتجد مثلاً دودة القطن؛ وقد عاثت به فساداً حتى أهلكته وأتلفته؛ فلم نسمع يوماً ما أن هذا العيث، أو ذلك الفساد؛ كان سبباً في عري الإنسان، ونقصان ما اختصه الله به من نعمة الستر واللباس؛ بل هو في ظاهره فساد وإفساد، وفي باطنه وحقيقته: نظام عجيب، وتوازن دقيق
وهكذا الإنسان: تحل به الرزايا، وتحيط به البلايا؛ وتجتاحه الأوبئة والطواعين، وتنيخ عليه الحروب بكلكلها؛ وهو بين كل ذلك متضجر متململ؛ لا يدري أن جميع ذلك يسير بحكمة الحكيم العليم؛ الذي قدر كل شيء، وأعطى كل شيء حقه وخلقه؛ فتعالى المبدع الحكيم (انظر آية ٢٥١ من سورة البقرة)
380
﴿مَهْداً﴾ فراشاً ﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً﴾ طرقاً ﴿أَزْوَاجاً﴾ أصنافاً ﴿مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى﴾ مختلفة ومتنوعة
﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ أي إن في جعل الأرض مهاداً، وشق الطرق فيها والعلامات، وإنزال الماء من السماء، وإخراج النبات من الأرض؛ لأكلكم ورعي أنعامكم؛ إن في جميع ذلك ﴿لآيَاتٍ﴾ دالات على وجود الخالق الحكيم المبدع ﴿لأُوْلِي النُّهَى﴾ ذوي العقول
﴿مِّنْهَا﴾ أي من الأرض ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾ خلقنا أصلكم آدم عليه السلام من تراب ﴿وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ بعد الموت ﴿وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ﴾ عند البعث ﴿تَارَةً﴾ مرة
﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ﴾ أي أرينا فرعون ﴿آيَاتِنَا كُلَّهَا﴾ الدالة على صدق موسى، وصحة رسالته ﴿فَكَذَّبَ﴾ بها ﴿وَأَبَى﴾ أن يؤمن ﴿قَالَ﴾ فرعون لموسى ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا﴾
سمى عدو الله المعجزة سحراً؛ وشتان بين المعجزة والسحر
﴿مَكَاناً سُوًى﴾ مستوياً؛ ليرانا سائر من يحضرنا؛ ويشهدوا دلائل صدقنا وكذبك وقد توهم عدو الله أنه منتصر على حق موسى بباطله، وعلى آياته بسحره
﴿قَالَ﴾ موسى؛ وهو مطمئن إلى حجته، واثق بمعونة ربه ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ هو يوم العيد؛ لأنهم يتزينون فيه ﴿وَأَن يُحْشَرَ﴾ يجتمع ﴿النَّاسُ ضُحًى﴾ أول النهار؛ وقد اختار موسى هذا اليوم: لتكون فضيحة فرعون أكبر، وخزيه أعظم؛ أمام ملإ كبير من شيعته وعبدته
﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ﴾ انصرف وأعرض عن موسى: ليعد عدته، ويأخذ أهبته ﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ أي جمع سحرته الذين ظن أنهم يستطيعون كيد موسى
﴿قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ﴾ أي جعل الله تعالى الويل والعذاب لكم ﴿فَيُسْحِتَكُم﴾ يهلككم
﴿فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ قال بعض السحرة للبعض الآخر: إن كان موسى ساحراً غلبناه. وإن كان أمره من السماء غلبنا ﴿وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى﴾ أي تشاوروا في السر متناجين. قال بعضهم: ما هذا بقول ساحر
﴿قَالُواْ﴾ أي قال فرعون وشيعته للسحرة الذين جمعهم، أو قال السحرة لبعضهم ﴿إِنْ هَذَانِ﴾ يقصدون موسى وهرون ﴿لَسَاحِرَانِ﴾ أي ما هذان إلا ساحران ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ أي بعبادتكم الحسنة
﴿فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ﴾ أي أحكموا أمركم واستعدوا لعدوكم ﴿ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً﴾ مجتمعين متساندين ليحصل لموسى وهرون الرعب، ويدب في نفسيهما الخوف ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ غلب وفاز. فجاءوا صفاً كما أمرهم فرعون، و ﴿قَالُواْ يمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ﴾ سحرك، أو عصاك؛ وذلك لأنهم كانوا قد سمعوا بها
﴿قَالَ بَلْ أَلْقُواْ﴾ أنتم أولاً. فألقوا ما معهم من الحبال والعصي
﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا﴾ حيات ﴿تَسْعَى﴾ تمشي وتتحرك
﴿فَأَوْجَسَ﴾ أحس ﴿فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى﴾ أي لم يبد عليه الخوف؛ بل كان
-[٣٨٢]- إحساساً كامناً في نفسه
﴿قُلْنَا﴾ لموسى عن طريق الوحي ﴿لاَ تَخَفْ﴾ مما تراه ﴿إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى﴾ الغالب الفائز
﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ عصاك ﴿تَلْقَفْ﴾ تبتلع ﴿وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ بسحره؛ فألقى موسى عصاه فابتلعت حبالهم وعصيهم وحين رأى السحرة ما حل بسحرهم؛ علموا أن ما صنعه موسى ليس من نوع السحر الذي يمارسونه؛ بل هو من المعجزات الظاهرات؛ التي لا يستطيع مخلوق الإتيان بها، بغير معونة من الخالق
﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً﴾ بدافع من إيمانهم واقتناعهم؛ وبدافع خفي من مولاهم وهاديهم وخالقهم؛ ليرى فرعون فساد عمله، وضعف عماله؛ ورفع جل شأنه السحرة من مصاف الكفار الفجار، إلى مصاف المؤمنين الأبرار ﴿قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ وكفرنا بفرعون
﴿قَالَ﴾ فرعون للسحرة؛ حين رأى هزيمته المنكرة، وأحس بتصدع أركانه، وانهيار بنيانه قال لهم ﴿آمَنتُمْ لَهُ﴾ استفهام؛ أي أآمنتم لموسى ﴿قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ﴾ بالإيمان ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾ أي إن موسى رئيسكم في السحر، وهو ﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ من قبل ﴿فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ﴾ أي اليد اليمنى، والرجل اليسرى، أو العكس ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ﴾ أنا وموسى، أو أنا ورب موسى ﴿أَشَدُّ عَذَاباً﴾ أي أشد تعذيباً لكم
﴿وَأَبْقَى﴾ وأدوم
﴿قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ﴾ لن نختارك، أو نفضلك ﴿عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ بعد الذي شاهدناه من الحجج الظاهرات؛ الدالات على صدق موسى وكذبك، وقدرة إلهه وعجزك ﴿وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾ خلقنا. أي و «لن نؤثرك» أيها الفاسق الكافر على «الذي فطرنا» أو هو قسم أي «لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات» وحق الذي فطرنا ﴿فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ﴾ فافعل ما أنت فاعل ﴿إِنَّمَا تَقْضِي﴾ قضاءك الظالم في ﴿هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ﴾ الفانية؛ أما الآخرة الباقية فلا سبيل لك عليها؛ وسيقضي لنا الله تعالى فيها بنعيمه الأوفر، ورضوانه الأكبر؛ حيث يقضي عليك بالجحيم والعذاب الأليم
﴿إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾ أي ليغفر لنا ذنوبنا التي ارتكبناها حال جهلنا وكفرنا، والسحر الذي أكرهتنا على إتيانه
﴿لاَ يَمُوتُ فِيهَا﴾ فيرتاح ﴿وَلاَ يَحْيَى﴾ حياة تنفعه وتفيده
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ جنات الإقامة ﴿وَذلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى﴾ تطهر من الشرك والذنوب
﴿أَسْرِ بِعِبَادِي﴾ أي سر بهم ليلاً ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ﴾ بعصاك ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ يجعل الله تعالى مكان ضربك بالعصا ﴿يَبَساً﴾ يابساً في وسط الماء؛ تستقر عليه الرجل عند المشي ﴿لاَّ تَخَافُ دَرَكاً﴾ لا تخشى إدراكاً من عدوك
﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ﴾ سار في إثرهم في هذا الطريق اليابس؛ الذي جعله الله تعالى آية لموسى، وعذاباً لفرعون ﴿فَغَشِيَهُمْ﴾ أصابهم وغطاهم ﴿مِّنَ الْيَمِّ﴾ البحر ﴿مَا غَشِيَهُمْ﴾ أي
-[٣٨٣]- غشيهم الأمر العظيم، والخطر الداهم الذي غشيهم
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾
هما الترنجبين والسماني. أو هو كل ما يمن به من أطايب الرزق، وما يتسلى به من المأكول والفاكهة؛ وقلنا لهم
﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أي من الرزق الحلال الطيب الذي رزقناكموه (انظر آيتي ١٧٢ من البقرة، و٥٨ من الأعراف) ﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ﴾ لا تكفروا بالنعمة، ولا تدخلوا فيما طعمتم الشبهات ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ سقط في العذاب
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ أي إن من شرائط الغفران: التوبة، والإيمان، والعمل الصالح، والاهتداء
﴿وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يمُوسَى﴾ أي أي شيء حملك على أن تسبقهم، وتدعهم عرضة للأهواء وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام أقام هرون على بني إسرائيل؛ على أن يسير بهم في إثره
﴿قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي﴾ أي ها هم سائرون خلفي، أو هم منتظرون عودتي إليهم بأوامرك ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ طالباً لمرضاتك، مشتاقاً لملاقاتك
﴿قَالَ﴾ تعالى ﴿فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ﴾ اختبرناهم وامتحناهم ﴿مِن بَعْدِكَ﴾ بعد فراقك لهم ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ هو موسىبن ظفر: كان منافقاً؛ وقد أضلهم بدعوتهم إلى عبادة العجل
﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً﴾ أي حزيناً؛ والأسف: الحزن، والغضب. قال تعالى: ﴿فَلَمَّآ آسَفُونَا﴾ أي أغضبونا
﴿قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا﴾ بقدرتنا، أو بأمرنا ﴿وَلَكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ﴾ أي أثقالاً من الذهب والفضة ﴿فَقَذَفْنَاهَا﴾ طرحناها في النار ﴿فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ﴾ الحلي التي معه؛ كما ألقينا
﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً﴾ أي صنع لهم السامري عجلاً من ذهب ﴿لَّهُ خُوَارٌ﴾
صوت كصوت البقر. قيل: صنع به ثقوباً وفتحات؛ إذا دخلها الهواء صار له صوت كالخوار. وقيل: دبت في العجل الحياة؛ بسبب قبضة التراب التي أخذها السامري من أثر جبريل عليه الصلاة والسلام وألقاها على العجل الذهبي ﴿فَقَالُواْ﴾ أي السامري وأصحابه لقوم موسى ﴿فَنَسِيَ﴾ أي فنسي السامري ما كان عليه من إظهار الإيمان. أو المراد: هذا العجل هو إلهكم وإله موسى؛ فنسيه موسى هنا، وذهب يطلبه عند الطور، أو نسي أن يخبركم به
﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ﴾ عبدة هذا العجل ﴿أَلاَّ يَرْجِعُ﴾ أنه لا يرجع ﴿إِلَيْهِمْ قَوْلاً﴾ لا يرد عليهم جواباً
﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ﴾ أي ابتليتم وأضللتم بالعجل
﴿قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ﴾ أي لن نزال ﴿عَلَيْهِ عَاكِفِينَ﴾ مقيمين ﴿حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ فلما رجع موسى، ورأى ما حل بهم: اتجه إلى أخيه هرون؛ الذي استخلفه عليهم حال غيبته؛ و
﴿قَالَ﴾ له ﴿يهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ﴾ عن سبيل الله، وعبدوا ما لا يعبد
﴿أَلاَّ تَتَّبِعَنِ﴾ أي أن تتبعني، و «لا» زائدة؛ مثل قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ والمراد بالاتباع: اتباع سنته وطريقته؛ في محاربتهم والإنكار عليهم، أو المراد: تركه لهم في ضلالهم واتباع موسى
﴿قَالَ يابْنَأُمِّ﴾ لما رأى هرون ثورة موسى، وشدة غضبه، ومزيد تأسفه على ما حدث: ذكره بمركز الحنان، ومنبع الشفقة، وأساس الحب؛ قائلاً «يا ابن أم» لا تغضب عليّ، و ﴿لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي﴾ فإني لم أخطىء، ولم أقصد بما فعلت سوى الخير والصواب ﴿إِنِّي خَشِيتُ﴾ إن اتبعتك بمن أقام على الإيمان ولم يعبد العجل، أو حاربت المشركين بالمؤمنين ﴿أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾ وجعلتهم أعداء وشيعاً ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾
لم تحفظ وصيتي، ولم تنتظر أمري. وقد قال له عند ذهابه لموعد ربه ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ﴾ وعندئذٍ ﴿سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ﴾ والتفت إلى موسى السامري
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يسَامِرِيُّ﴾ أي ما شأنك؟ وما حقيقة أمرك؟
﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ﴾ أي رأيت ما لم يروه. قيل: رأى جبريل عليه الصلاة والسلام على فرسه؛ فزينت له نفسه أن يأخذ من أثره؛ وهو معنى قوله تعالى: ﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ﴾ قيل: أخذ قبضة من التراب الذي تحت حافر فرسه ﴿فَنَبَذْتُهَا﴾ ألقيتها على العجل المصاغ من ذهب ﴿وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ﴾ زينت ﴿لِي نَفْسِي﴾ فتحول غضب موسى عن هرون البريء؛ إلى المجرم موسى السامري
﴿قَالَ فَاذْهَبْ﴾ من أمامي، ولا تريني وجهك ﴿فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ﴾ أي إنه أصيب - بدعاء موسى عليه: عقوبة له - بأمراض خبيثة فتاكة معدية؛ جعلت الناس تهرب من مسه؛ فإذا مسه إنسان: حم، وأصيب بالأمراض التي ابتلى بها. وقيل: إنه جن وجعل ينادي ويقول: لا مساس، لا مساس. وقيل: أمر موسى بني إسرائيل بمقاطعته: فلا يكلمه منهم إنسان، ولا يعامله، ولا يقربه ﴿وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً﴾ للعذاب الأليم ﴿لَّن تُخْلَفَهُ﴾ يوم القيامة ﴿وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ﴾ العجل ﴿الَّذِي ظَلْتَ﴾ ظللت وداومت ﴿عَلَيْهِ عَاكِفاً﴾ على عبادته مقيماً ﴿لَّنُحَرِّقَنَّهُ﴾ لنذيبنه بالنار ﴿ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ﴾ البحر
﴿إِنَّمَآ إِلَهُكُمُ﴾ الحق: هو ﴿اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ أي وسع علمه كل شيء ﴿يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾
﴿كَذلِكَ﴾ أي كما قصصنا عليك يا محمد من نبإ موسى وفرعون ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ﴾ من الأمم ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ﴾ أعطيناك وأنزلنا عليك ﴿مِن لَّدُنَّا﴾ من عندنا ﴿ذِكْراً﴾ قرآناً
﴿مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ﴾ عن هذا القرآن؛ فلم يؤمن به ﴿فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً﴾ إثماً عظيماً، وحملاً ثقيلاً
﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ﴾
-[٣٨٥]- القرن؛ ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام بأمر ربه ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ﴾ الكافرين ﴿يَوْمِئِذٍ زُرْقاً﴾ أي سوداً. وقيل: عمياً. وليس بمستبعد أن يكون ذلك كما تفعله العامة والسوقة من تلطيخ وجوههم بالصبغ الأزرق عند حلول المصائب، وتوالي الكوارث، وأي كارثة أعم من ورودهم النار؟ وأي مصيبة أطم من غضب الملك الجبار؟ أما ما ورد من أن الزرقة تكون في عيونهم؛ فيأباه وصف ما هم فيه من خزي وعار وذلة وعذاب وقبح؛ فقد تكون زرقة العيون مدحاً لا قدحاً؛ فكيف يوصف بها أقبح الناس حالاً ومآلاً؟
﴿يَتَخَافَتُونَ﴾ يتهامسون ﴿ق﴾ قائلين لبعضهم ﴿إِن لَّبِثْتُمْ﴾ ما لبثتم في الدنيا، أو ما لبثتم في القبور ﴿إِلاَّ عَشْراً﴾ من الليالي بأيامها. وذلك أنهم لهول ما يرون في القيامة: يظنون أنهم ما لبثوا في الدنيا سوى عشراً وقولهم: ﴿إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً﴾ لم يكن صادراً عن جنون منهم ﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً﴾ أي أعقلهم وأذكاهم، وأذكرهم وأفهمهم؛ يقول - لشدة ما يرى، وهول ما يكابد ويعاين ـ
﴿إِن لَّبِثْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿إِلاَّ يَوْماً﴾ واحداً؛ يستقلون أيام الدنيا - على ما نالوا فيها من شهوات وملذات - وقد فعلوا فيها ما فعلوا، وارتكبوا فيها ما ارتكبوا؛ مما أوردهم هذا المورد، وأوقفهم هذا الموقف
﴿قَاعاً﴾ منبسطاً ﴿صَفْصَفاً﴾ مستوياً
﴿وَلا أَمْتاً﴾ أي ولا ارتفاعاً
﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾ الملك الذي يدعوهم إلى المحشر: هلموا إلى عرض الرحمن فهم اليوم يتبعون مكرهين داعي الرحمن للعذاب، وبالأمس لم يستجيبوا لداعي النجاة والثواب ﴿لاَ عِوَجَ لَهُ﴾ أي لا مناص من إجابة الداعي واتباعه، أو «لا عوج» لدعائه
﴿يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ أن يشفع: من النبيين، والملائكة، والصالحين. وقيل: ﴿إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ أن يشفع فيه. (انظر آية ٢٥٥ من سورة البقرة)
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ما يؤول إليه حالهم وأمرهم في الآخرة ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ وما خلفوه وراءهم من أمر الدنيا
﴿وَعَنَتِ﴾ خضعت وذلت ﴿الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنه الاسم الأعظم ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾ من ارتكب إثماً
﴿وَلاَ هَضْماً﴾ ولا جوراً
﴿أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ﴾ القرآن ﴿ذِكْراً﴾ تذكيراً بما حدث للسابقين من المكذبين
﴿وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ﴾ أي بقراءته ﴿مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ أي من قبل أن يفرغ جبريل عليه السلام من إبلاغه إليك
﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىءَادَمَ﴾ أوحينا إليه، وأوصيناه ألا يأكل من الشجرة ﴿فَنَسِيَ﴾ وأكل منها ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ صبراً وحزماً، وثباتاً على التزام الأمر
﴿فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا﴾ أي لا تستمعا إليه؛ فيخرجنكما من الجنة بسبب وسوسته
﴿وَلاَ تَضْحَى﴾ أي ولا تتعرض فيها لحر الشمس ﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾
﴿شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾ التي من أكل منها: يخلد ولا يموت ﴿وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى﴾ لا يفنى
﴿فَأَكَلاَ مِنْهَا﴾ أي من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عن قربها ﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا﴾ عوراتهما. والسوأة: كل ما يسوء الإنسان كشفه ﴿وَطَفِقَا﴾ وجعلا ﴿يَخْصِفَانِ﴾ يلزقان ﴿عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ قيل: هو ورق التين ﴿وَعَصَىءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ أي ضل عن الرأي وجهل. وقيل: أخطأ. وليس المراد العصيان والغيّ بمعناهما المتعارف؛ بدليل قوله تعالى في آية سابقة ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ وبالجملة فإن الله تعالى يصح أن يوجه لأوليائه، وأنبيائه وأصفيائه؛ ما لا يصح أن نوجهه نحن لهم؛ كما أن الملك يخاطب وزراءه بلهجة الآمر، والزاجر؛ وهو ما لا يجوز أن يخاطبهم به سائر أفراد الرعية؛ وليس لكائن من كان أن يقول: إن آدم عاص، أو غاو؛ فمثل هذا القول كفر، أو هو بالكفر أشبه
﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾ اختاره ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ غفر له ﴿وَهَدَى﴾ هداه إلى الطريق الموصل إليه (انظر آية ٢٣ من سورة الأعراف)
﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا﴾ أي من الجنة ﴿جَمِيعاً﴾ أنت وحواء، وما اشتملتما عليه من الذرية، أو «اهبطا» أنت وإبليس ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ أي بعض ذريتكم، للبعض الآخر عدو، أو «بعضكم» إبليس وذريته «لبعض» أنت وذريتك ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم﴾ فإن يأتكم ﴿مِّنِّي هُدًى﴾ كتاب، وشريعة ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ﴾
في الدنيا ﴿وَلاَ يَشْقَى﴾ في الآخرة؛ وهو جزاء من الله، لمن اتبع هداه
﴿أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي﴾ كتبي المنزلة ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾ شديدة، ولو كان في يسر، ضيقة ولو كان في وسع وذلك لأن الله تعالى جعل مع الإيمان: القناعة، والتسليم، والاطمئنان، والرضا، والتوكل؛ فالمؤمن مسرور دائماً في سائر حالاته، راض عن مولاه، مطمئن لعاقبته: عيشه رغيد؛ ولو لم ينل سوى الخبز قفاراً، وقلبه سعيد؛ ولو انسابت عليه الهموم أنهاراً ويصدق عليه دائماً قول ربه تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ كما جعل تعالى مع الكفر والإعراض عنالله: الحرص، والشح، وعدم الرضا، وانشغال البال، والطمع، والجشع؛ فالكافر دائماً طالب الزيادة؛ ولو أوتي مال قارون، قابض اليد؛ ولو انصب عليه المال انصباباً، كاره لمن حوله؛ ولو بذلوا النفوس في طاعته؛ فعيشه ضنك شديد، وحياته كرب دائم، وحزن قائم؛ وحق عليه قول ربه جل شأنه: ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾ وقيل المعيشة الضنك: عذاب القبر. وقيل: هي جهنم؛ ويدفع هذا المعنى قوله تعالى:
﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ مما يدل على أن ما تقدم يكون
-[٣٨٧]- في الدنيا أو في القبر؛ أعاذنا الله تعالى من غضبه بمنه ورحمته ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى﴾ عن الحجة، أو أعمى البصر: تتقاذفه الأرجل في المحشر ﴿وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ أي تنسى من النعيم والرحمة؛ كما نسيت آياتنا، وتركت العمل بها ﴿وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ﴾ أشرك، أو جاوز الحد في العصيان
﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ﴾ الأمم ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ أي أفلم يتبين لهم، أو أفلم يرشدهم ويدلهم إهلاك من مضى قبلهم من القرون؛ وقد رأوا مساكنهم ومشوا فيها: فيهتدوا إلى طريق الحق والصدق؛ بأن يؤمنوا ب الله ورسوله. وقيل: «أفلم يهد لهم» أي الله تعالى؛ يدل عليه قراءة بعضهم «أفلم نهد لهم» ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور، أو ذلك المشي في مساكن الأمم السابقة المكذبة؛ ورؤية ما حل بها من هلاك وتدمير إن في جميع ذلك ﴿لآيَاتٍ﴾ لعبراً وتذكيراً ﴿لأُوْلِي النُّهَى﴾ لذوي العقول
﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ بتأخير العذاب عن المكذبين من أمتك إلى يوم القيامة ﴿لَكَانَ لِزَاماً﴾ أي لكان العذاب لازماً، ولزاماً عليهم؛ وقت ارتكابهم الآثام في الدنيا
﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ إشارة إلى الصلوات الخمس: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾ صلاة الفجر ﴿وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ صلاة العصر ﴿وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ﴾ ساعاته ﴿فَسَبِّحْ﴾ فصلّ.
والمراد بها صلاتا المغرب والعشاء ﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ صلاة الظهر؛ لأن وقتها يدخل بزوال الشمس والزوال: طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني من النهار. وقيل: المراد بالآية: صلاة التطوع. والذي أراه: أنه ذكر الله تعالى، وتسبيحه، وتمجيده في كل وقت وحين: قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، وآناء الليل، وأطراف النهار؛ فقد اشتملت هذه الأوقات سائر النهار والليل ﴿لَعَلَّكَ﴾ بمواظبتك على العبادة، وتمسكك بمرضاة الله تعالى ﴿تَرْضَى﴾ أي يثيبك الله تعالى حتى ترضى. وقرىء «لعلك ترضى» بضم التاء؛ أو لعلك تعطى ما يرضيك
﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ﴾ أصنافاً من الكفار ﴿زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ زينتها بالنبات والأقوات، والثمار والأشجار ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ أي لا تطل النظر والتفكر إلى ما متعنا به أصنافاً من الكفار بأنهم لا يستحقونه؛ فإنه فتنة لهم؛ ليحق عليهم العذاب ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ﴾ نعيمه في الآخرة ﴿خَيْرٌ﴾ مما تراه في الدنيا ﴿وَأَبْقَى﴾ لأنه دائم لا يفنى
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ أي داوم على أدائها، والأمر بها
﴿وَقَالُواْ﴾ أي قال المشركون ﴿لَوْلا﴾ هلا ﴿يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ معجزة مما يقترحونه. قال تعالى؛ رداً على قولهم ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ﴾ في هذا القرآن ﴿بَيِّنَةُ﴾ بيان ﴿مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى﴾ كالإنجيل، والتوراة، والزبور، وغيرها؛ مما أنزله الله تعالى. وبيان ما في هذه
-[٣٨٨]- الصحف: أنباء الرسل وأنباء الأمم المتقدمة، وما حل بالمكذبين منها. أي ألم يكفهم هذا معجزة لمحمد؟ وهو النبي الأمي، الذي لم يخط حرفاً، ولم يقرأ كتاباً
﴿وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ﴾ أي أهلكنا هؤلاء السائلين، المقترحين للآيات ﴿بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ﴾ أي من قبل أن نرسل إليهم رسولنا محمداً ﴿لَقَالُواْ﴾ محتجين على هذا الإهلاك ﴿رَبَّنَا لَوْلا﴾ هلا ﴿أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ يهدينا إليك، ويعرفنا بك، ويوصلنا إلى طريقك ﴿فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾ التي تنزلها علينا ﴿مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ﴾ في القيامة ﴿وَنَخْزَى﴾ في جهنم
﴿قُلْ كُلٌّ﴾ منا ومنكم ﴿مُّتَرَبِّصٌ﴾ منتظر ما يؤول إليه الأمر ﴿الصِّرَاطِ السَّوِيِّ﴾ الطريق المستقيم من الضلالة؛ نحن أم أنتم؟
388
سورة الأنبياء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

388
Icon