تفسير سورة الأنبياء

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام
[السورة مكية بإجماع*]. ابن عطية.
[اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... (١) *]
قال ابن [مسعود*]: هي والكهف، ومريم، وطه من [العتاق*] الأول؛ لأن فعل الخطأ غير مقصود، الثاني المتصل تقتضي تكليف الفصل، إشارة إلى أنه طالب له؛ كقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)؛ أي طالب عليكم، فحيثما مررتم به حالة تفرون؛ فكذلك الحساب طالب للاقتراب.
قوله تعالى: (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).
ولم يقل: في إعراض غافلون، فعادتهم يجيبون بأن الغفلة أعم من الإعراض، والظرف أوسع من المظروف، فناسب أن تجعل الغفلة [ظرفا*] أو بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه لأنهما يشتركان في عدم الاهتداء، ويتنافيان في الذكر والمعارض ذاكر للشيء وتارك، [والغافل غير ذاكر*].
قوله تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ... (٢)﴾
قيل لابن عرفة: ما أفاد قوله (مُحْدَثٍ)؟ فقال: [سرعة إعراضهم*] عنه [بنفي*] نزوله؛ مع أن القول أول ما يسمع تتشوق النفس إليه وتقبله؛ بخلاف ما إذا تكرر.
ولذلك قال الشاطبي في القرآن: [وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلاً*] ولا فرق عند أهل السنة بين [المحدث والحادث*]، وفرق المعتزلة بينهما وفسر الإحداث إما باعتبار نزولها وهو إشارة إلى أنه معجز باعتبار الحروف الدالة عليه وهي محدثة، وإما أن يراد بالذكر نفس الذاكر وهو الرسول.
قوله تعالى: (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ).
ولم يقل: يسمعوه؛ لأن استمع أخص؛ إذ الاستماع يقتضي القصد إلى السماع، فإذا أعرضوا عنه بعد قصدهم استماعه فأحرى أن يعرضوا عنه إذا استمعوه من غير قصد إلى استماعه.
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ... (٣)﴾
إن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)؟ قلنا: إعراضهم عنه بالظاهر والباطل أعني بالفصل والنية، فهو إشارة إلى تجانبهم بقوتهم العلمية والعملية.
قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى).
ابن عرفة: (أَسَرُّوا) أي أخفوا النجوى إشارة إلى اختصاصهم بالحديث لبعض دون بعض، فليس فيه تكرار، ولا يرد السؤال الذي أورده الزمخشري بأن الإنسان قد ينفرد بالحديث مع بعض النَّاس، ويجهر فيه ولم ينفرد به ويسره له.
وقال ابن عطية: (أَسَرُّوا) من أسماء الأضداد، فمعناه هنا اظهروا الحديث الذي كانوا أخفوه بينهم.
قوله تعالى: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).
مذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام مساوون في [**الخلقة الجسمية]، ومذهب بعض الحكماء أنهم اختصوا بطبيعة مزاجية.
قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ... (٤)﴾
ولم يقل: يعلم السر؛ لأن القول أعم يطلق على السر والجهر، ويطلق على اللفظي والنفسي، والسر لَا يطلق إلا على اللفظ.
قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
دليل على عدم مغايرة صفة السمع تخص العلم بالمسموعات، والبصر يخص العلم بالبصريات والعلم عام في الجميع.
قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ... (٥)﴾
قال ابن عرفة: إن كان هذا الإضراب إضراب انتقال فلا كلام، وأما الإبطال فعادتهم يقولون: إن كان المضرب عنه نفس القول فهو إبطال، وإن وقع بما هو باطل، وإن قلنا: الإبطال لَا يصح إلا بالحق فهو إضراب انتقال، وإن قلنا: الإبطال يصح أن يقع بالحق وبالباطل فهو إضراب باطل.
قوله تعالى: (بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ).
هذا ترق قولهم: (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ) أشد من قولهم فيه: إنه ساحر، وقولهم: إنه مفتر أشد من قولهم (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ)، وقولهم (شَاعِرٌ) أشد؛ لأن الشاعر غالب أمره يقول ما لَا يفعل.
قوله تعالى: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا... (٦)﴾
معناه: أن العادة جارية في الأمة المحفوظة، أنا إذا أتيناها على يد الرسول ولم يؤمن به قومه، فإنا نعاجلهم بالعقوبة، وهؤلاء بحالهم كذلك [**لَا قالوا: سمعناهم لمرادهم]، [ما آمنوا*] فيكون ذلك سببا لإهلاكهم عاجلا.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا... (٧)﴾
قال ابن عرفة: من شرط الرسالة نفي المانع منها ووجوب المقتضي لها.
قالوا: الكفار ادعوا وجود المانع من الرسالة، وهو وصف البشرية بقولهم: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)؟ فطلبوا إثبات المقتضي لها بقولهم: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) فرد عليهم في دعواهم وجود المانع؛ بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) إشارة إلى أن الرسل المتقدمة من البشر، فهم من جنسها.
قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ).
يؤخذ منه أن [التواتر*] يفيد العلم وإن استفيد من الكافر.
فإن قلتم: بخت نصر، قد استأصل اليهود وأهلكهم، قلنا: لم يستأصل جميعهم وبقى عامتهم وليس [التواتر*] مستفاد منهم فقط؛ بل منهم ومن النصارى، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وتركنا من قومهم كذلك؛ لأن الرسل قد أهلك من قومهم كثير، قال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) ويحتمل أن يراد بالإهلاك هنا الاستئصال، ولا شك أن هلاك الاستئصال خاص بالكفار ومن أهلك من المؤمنين فهلاكه غير مستأصل.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا... (١٠)﴾
هداية عليهم في قولهم (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ).
قوله تعالى: (فِيهِ ذِكْرُكُمْ).
إما أن يراد فيه ذكر شرفكم، أو فيه تذكيركم المواعظ، أو يراد المعجزات.
قوله تعالى: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا... (١٧)﴾
قال الزمخشري: لو أردنا اتخاذ اللهو اتخذناه من جهة قدرتنا لأني على كل شيء قدير.
وقيل: اللهو الولد بلغة [اليمن*]، وقيل: المرأة.
قال ابن عرفة: يحتمل أن يريد حقيقة المرأة، وحقيقة الزوجة المنكوحة، أو يراد ابن التبني والزوجة المعاشرة غير المنكوحة وهو الظاهر؛ لأن الولد مستحيل عقلا وما ينفي إلا ما هو [قابل لأن يكون*]، ويشترط أن يكون ابن التبني على قسمين:
تارة يقصد به مجرد الرحمة له والشفقة عليه، وكذلك الزوجة [فهذا*] ممكن هنا عقلا فيصح دخول النفي الشرعي عليه.
وتارة بقصد التلذذ به وبالزوجة، فهذا محال هنا عقلا، فلا يصح نفيه إذ لَا فائدة فيه.
قال ابن عرفة: وهذا الأولى أنهم ذكروه لما قلناه: لكن هو المناسب بسبب نزول الآية، لأنهم ادعوا نسبة الولد والزوجة إلى الله تعالى بدليل قوله في الآية: (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفونَ).
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يفسر هذه الآية بمعنى آخر وهو أن الإقبال على ما لا فائدة فيه، إن كان لقصد شغل البال به عن شيء آخر فهم [لهو*] وإلا فهو لعب، فأتت الآية [ترد على المعتزلة*]، في إيجابهم مراعاة الأصلح عقلا، فقال الله تعالى (لَو أَرَدْنَا أَن) نخلق شيئا لتحصيل منفعة أو لدرء مفسدة عنكم، لفعلنا ذلك في أنفسنا [مِنْ جِهَةِ قُدْرَتِنَا*] [بعيدا*] عما [يجلب*] المصلحة ويدرأ المفسدة، لكن من عادتنا ربط الأسباب بمسبباتها [وإننا لم نخلق شيئا عبثا*] بل [خلقنا*] كل نوع من النبات والحيوانات والجماد لمنفعة ومصلحة علمها من علمها وجعلها من جعلها فحصل من هذا نفي التحسين والتقبيح عقلا بهذه الشرطية وأسلم به سمعا، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: [(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) *]، ولذلك لاتخذناه من لدنا في أنفسنا لاستغنينا عن جلب المصالح ودرء المفاسد.
فإن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ)، وأنت لَا يجوز لك أن تقول: قم إن قمت، ولا تقول أو أردت القيام قم إن قمت، ؛ لأن الشرط عين الجزاء فلا فائدة في الجزاء، قال: قلت: إن لازم الشرطية الأولى منفي فلذلك دخل عليه الشرط في الثانية.
قوله تعالى: ﴿فَيَدْمَغُهُ... (١٨)﴾
هذا تشبيه أمر [معقول*] للمحسوس.
قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (١٩)﴾
غلب فيه العاقل على غيره؛ أي إذا ملك العاقل فأحرى غيره، فيدخل فيه السماوات والأرض، ؛ لأن ملك المظروف يستدعي ملك الظرف.
قوله تعالى: (لَا يَسْتَكبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ).
أي لَا يطلبون الاستكبار.
ابن عرفة: ومنهم من قال استفعل إذا لم يكن للطلب، فيكون للمبالغة أي لا يبالغون في التكبر، ولا في التحسر.
وأورده الزمخشري: كيف نفى الأبلغ دون ما تحته، وأجاب بأنه لو فرض هناك آخر فما كان إلا بعد الطلب.
قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠)﴾
قيل لابن عرفة: استدل بعضهم بقوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، فظاهره أن الملائكة يستقلون باللعنة ولا يسبحون، وأجيب باحتمال، وأجيب أيضا بأن تقول لعنهم يسبح.
وأجاب ابن عرفة ناقلا عن عز الدين ابن عبد السلام بأنه لَا مانع لاجتماع الأمرين على الخبر الواحد واحدا وهو جواب حسن.
قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١)﴾
ابن عرفة: إما بمعنى جعلوا واتخذوا الله إبراهيم خليلا أو بمعنى سيروا.
قال: [(أَم) *] هنا منقطعة بمعنى بل، والإضراب بها انتقال؛ لأن فيها وله من في السماوات والأرض، وهذا لَا يصح إبطاله.
قوله تعالى: (هُمْ يُنْشِرُونَ).
النشور الإحياء، يقال: وأنشر الله الموتى ونشرها (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ)، وقال تعالى (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).
وقال الزمخشري: إن قلت: ما أفاد بقوله (هُمْ)، قلنا: أفاد الخصوصية؛ أي اتخذوا آلهة من الأرض [لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم*].
ورده ابن عرفة: بأن أم مقدرة بـ بل، والهمزة، فهو استفهام في معنى النفي فلا يصح جريانها على الفعل من البناء على المضمر للاختصاص، ؛ [لأن نفى اتخاذهم آلهة
[مختص*] بإحياء الموتى لَا يلزم منه نفي [اتخاذهم*] آلهة مشاركة لغيرها في إحياء الموتى*]، مع أنهم ادعوا المشاركة؛ [كقوله] تعالى: (مَا نَعْبُدُهُم إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، فالصواب حملها على ما أجاب به الزمخشري: في سورة البقرة في قوله تعالى: (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ)، لما رآها مصادفة لمذهبه.
قال: إن الضمير لمطلق الربط؛ كقوله: هم يفرشون لك كل مضرة، وهذا أفاد كمال الملازمة كما يفرق بين قوله زيد ناطق زيد كاتب.
قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا... (٢٢)﴾
أي لو وجد فيهما آلهة غير الله، وليس المراد به الكون في السماء والأرض لئلا يلزم عليه كون الله في السماء، وإنما المراد الوجود كما قال الزمخشري في حديث سودة حين قال لها النبي ﷺ وعلى آله الطيبين وسلم: أين الله تعالى؟ فقالت: في السماء، فقال لربها: أعتقها فإنها مؤمنة.
قال: مرادها نفي الإلهية الأرضية التي هي الأصنام لَا إثبات السماء مكانا [لله عز وجل*].
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨)﴾
ابن عرفة: يؤخذ منه جواز أن يقال: سبحان من تواضع كل شيء لعظمته، قيل لابن عرفة: كيف يستقيم أن يقال: وهم من [خوفه*] خائفون؛ لأن الإشفاق هو الخوف، وأجاب ابن عرفة: [بإن الإشفاق أخص*].
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا... (٣٠)﴾
قيل: فتقنا السماء بالماء والأرض بالنبات، وقيل: غير ذلك.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: يحتمل أن يراد بقوله (كَانَتَا رَتْقًا) أنهما كانتا جوهرا واحدا (فَفَتَقْنَاهُمَا)؛ بخلاف الأعراض، وهذا جار على مذهب أهل السنة في أن الجواهر كلها عندهم متساوية في الحد والحقيقة، وإنما تختلف بالأعراض.
وأورد الفخر: أن الرؤية [إما أن تكون بصرية أو علمية*]؛ لأن الكفار لم [يروا*] ذلك ولا علموه، وأجاب: بأنهم علموه من [التوراة*] والإنجيل.
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ... (٣١)﴾
قال ابن عرفة: فيها رد على الحكماء القائلين بأن الأرض في مركزها الطبيعي لما احتيج إلى إرساها بالجبال خوفا أن تميد بهم، إذ لَا تميد إلا إذا لم تكن في مركزها الطبيعي.
قوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (٣٤)﴾
إن قلت: لم عبر بإن دون [إذا*] مع أن موته محقق؛ فأجاب بأن الملازمة غير محققة، وهي ملزومية موته لخلودهم.
قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ... (٣٥)﴾
[إنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ*] بالقديم لقوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، وقوله تعالى: (ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) دليل على أن الموت أمر وجودي، وعلى أن النفوس باقية بعد الموت بإبقاء الله تعالى؛ لأنها إذا ذاقت الموت فهي ذائقة.
قال ابن عرفة: والعدم لَا يذوق موتا.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥)﴾
قال ابن عرفة: لم عبر في الأول بالفعل، وفي الثاني بالاسم، وهلا قالوا: أتيت بحق أم أنت من اللاعبين، أو كان يقال: أجئتنا بالحق أم جئتنا باللعب، أم أنت من اللاعبين، الثاني: أنهم قصدوا تحقيق كونه من اللاعبين، وأنه أمر ثابت عندهم ولازم الإتيان بأنه بحق أمر مشكوك فيه عندهم غير ثابت.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا... (٦٢)﴾
قال [ابن هشام المصري*]: هو محتمل [لإِرَادَة الِاسْتِفْهَام*] الحقيقي بأن يكون لم يعلموا أنه الفاعل [ولإرادة*] التَّقْرِير؛ [بأن*] يكونوا قد علموا، [ولا يكون استفهاما*] عن الفعل [وَلَا تقريرا بِهِ*]؛ لأن الهمزة [لَم تدخل عليه*]، ولأنه عليه السلام قد أجابهم بالفاعل بقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا).
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)﴾
قيل: [(ما) *] نافية بالفعل، وهو علم تعلق، ويحتمل أن جملة النفي في موضع مفعول واحد [إن تَعَدَّتْ علم إلى واحد، وفي موضع مفعولين إن تَعَدَّتْ إلى اثنين*].
قال أبو حيان: ورد الأول بأنه إذا كانت تَعَدَّتْ إلى مفعول فخرجت عن علم الأفعال التي تعلق وصارت بمعنى صرف فلا تعلق.
وأجاب ابن عرفة: بأن مراده بالتعلق.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (٧٤)﴾
يؤخذ منها تجريح من شهد فيه أنه رجل سوء.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)﴾
فعاقبهم بالغرق، وقد كان الفقيه ابن إسحاق إبراهيم ابن عبد الرفيع جرح بها بعض في مرأى لما شهد فيه بذلك الفقيه عبد الله المراجلي.
قوله تعالى: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ... (٧٦)﴾
قال ابن عطية: ذكر القصص في القرآن إما تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم، وإما تخويف لقومه، وذلك بحسب الواقع.
قال بعضهم: [ولذلك لم تتكرر قصة*] يوسف عليه الصلاة والسلام؛ لأنها خارجة عن القسمين.
قال ابن عرفة: أو يقال: إن الأصل عدم التكرار؛ فهي واردة على الأصل ولشهرتها؛ فلذلك لم يتكرر بخلاف غيرها من القصص لأنها لم تشتهر كشهرتها والعامل في (وَنُوحًا) [مضمر تقديره اذْكُرْ أَيْ وَاذْكُرْ قصة نوح*]، أو [آتينا*] نوحا، ورده أبو حيان.
وأجاب ابن عرفة بأن هذا الإتيان خاص.
وكذلك [اذْكُرْ*] ورده بعض الطلبة؛ بأن آتينا الأول أعم، وليس فيه خصوصية عما تقدم، فيكف تكون هنا خاصة.
فأجاب ابن عرفة: بأنه لَا مانع بأن يكون تقولا بالتشكيك، فهو [خاص*] وأخص ونادى بالدعاء في قومه، فقال: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا).
قوله تعالى: (فَنَجَّيْنَاهُ)
تفسيرا لما وقعت به الإجابة.
فإن قلت: لم قال: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ... (٧٧).. ، ولم يقل: ولم (وَنَصَرْنَاهُ) على القوم؟ قلت: أجيب بثلاثة أوجه:
165
الأول: لابن عطية: نحن نصرناه يعني خلصناه وعصمناه؛ لأن هذا الأمر ليس من سببه ولا له تكسب بوجه ولا قدرة على [إغراقهم*]؛ بل لَا قدرة له على تخليص نفسه منهم.
ورده السفاقسي بأن هذا مرادف له.
قال ابن عرفة: هذا لَا يليق به؛ أي لَا يضمن الفعل إلا معنى فعل غير مرادف له في المعنى.
الجواب الثاني: قال الزمخشري: نصر مطاوع النصر، وسمعت هذليا يدعو على سارق يقول: اللهم انصره منه، أين تقديره عدى بمن كما عدى انتصر بها.
ابن عرفة: ويراد بأنه لَا يلزم من تعدي فعل بحرف تعدي فعل بحرف تعدي غيره به، والصواب تقديره بأن فعل المطاوعة لازم للفعل الذي جعل مطاوعا له، فانتصر لازم لنصر، وما عرض للازم فهو عارض [لملزومه*]، واستدلال الزمخشري بما سمعه وتركه الاستدلال بالقرآن ضعيف بجواز كون الهذلي ممن لَا يوثق بعربيته، ولفظ القرآن أوثق من شعر الآحاد، وهو في القرآن كذلك [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ*].
قلت: وقال ابن عرفة: كلام الزمخشري مردود بوجهين:
الأول: أن كلام الله [لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ*] [لا إشكال فيه كما في الآية*].
الثاني: أنه ترك الاحتجاج بالقرآن، وهو قوله تعالى: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُم)، قال: تقدير كلامه أنه يقول: نصر مطاوعه أن يتعدى بـ على ومن، فكذلك يتعدى [إذ كل ما لزم الأعم لزم الأخص*].
ورده بعض الطلبة بأن نصر يتعدى بنفسه، والنصر قاصر، فبطل قولهم كل ما لزم المطاوع لزم مطاوعه.
وأجاب ابن عرفة بأن عدم التعدي أمر عادي، وكل ما انتفى عن الأعم لَا يلزم أن ينتفي عن الأخص، إنما اللزوم بينهما في الثبوت لَا في العدم.
قال: وكان بعضهم يقدر كلام الزمخشري بأن الأعم الأغلب في نصر، إنما يرد فيمن عاقب من ناوأه من غير أن يتقدم له عليه ذنب يستحق به العقوبة، قال تعالى (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ).
قال: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) وقد وقعت هنا نصر فدل بمعنى أنها انتصر فهذا الذي حمل الزمخشري على ذلك الجواب.
166
قوله تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ).
[**نصرا على أنه إذا خرج باللفظ عمل عليه مثل هو أذن، وشارب خمر وقاطع طريق، وإذا خرج بلفظ منهم مثل شرير ونحوه، فلا شيء فيه إذ فعله شرير في استخلاص حقه، وإن قال: هو رجل سوء، فإن كان القائل عدلا فقيها لم يستفسر ولا استفسر على أن فيه خلافا].
قوله تعالى: (فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ).
قال ابن مالك: أكثر ما يقع أجمعين تابعا لغيرها عن ألفاظ التوكيد.
ورده السفاقسي بهذه الآية؛ مع أن ابن مالك لم يقل: أنها لم تقع إلا معها؛ بل قال إنه الأكثر فيها، ويحتمل أن يكون أجمعين هنا حالا، فلا يكون بينهما دليلا عليه.
وقوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ... (٧٨)
الثانية بدل من الأولى بدل اشتمال.
ابن عرفة: قال بعضهم: إذ يحكمان في شأن الحرث إذ نفشت.
قال ابن الحاجب: [المسألة التي لَا قاطع فيها*].
قال القاضي الباقلاني: [كل مجتهد فيها مصيب*]، وحكم الله تعالى فيها تابع لظن المجتهد.
وقيل: [الْمُصِيبُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ*]، فقيل: إن لله تعالى في كل قضية حكما دليلا عليه، فإذا صادف المكلف كان [كَدَفِينٍ يُصَابُ*].
وقال الأستاذ أبو بكر ابن فورك، وأبو إسحاق الإسفراييني: دليله ظني لمن ظفر به فهو [المصيب*].
وقال الليثي والأصم: دليله قطعي والمخطئ آثم ونقل عن الأئمة الأربعة التصويب والتخطئة، فإن كان فيها قاطع فقصر فهو [مخطئ آثم*]، وإن لم يقصر، فالمختار أنه مخطئ غير آثم.
ثم قال ابن عرفة: وعادتهم يستشكلون القول بأن لله تعالى في القضية حكما لا دليل عليه، وهو كدفين، قالوا: لأنه يلزم عليه أن يكون بعض أحكام الشريعة لَا دليل عليه وهذا باطل، فأجاب بعض الطلبة بأن المراد لَا دليل على تصوره وتصويبه.
167
وقال بعضهم: القول بأن كل مجتهد مصيب يؤدي ثبوته إلى نفيه؛ لأنه يقول: من قال المصيب واحد؛ لأن هذا القائل من [جملة مجتهدين*] فهو مصيب، وأجيب: بأن ذلك في الأصول والعقليات والعقول بأن كل واحد مجتهد مصيب إنما هو في الفروع والأحكام الشرعية.
قال ابن عطية: ذهبت فرقة إلى أن المصيب في العقليات واحد والحق في طرف واحد فمن صادفه وأصابه [فله أجران*] ومن لم يصادفه فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في عدم الإصابة، وله أجر واحد وهو [غير معذور*].
قلت: واستشكله ابن عرفة؛ لأن قوله [غير معذور*] يقتضي أن عليه الخروج، فكيف يقول الإثم عليه؟ وأجيب: بأن مراده بعدم عذره أن يسميه مخطئا؛ لأنه يثبت عليه الخروج.
قال ابن عطية: ويؤخذ من قوله ﷺ وعلى آله وسلم: "كل مجتهد مصيب" العالم [يجتهد*] فيخالف نصا؛ كقول سعيد بن المسيب في المطلقة ثلاثا: أنها تحل لزوجها بمجرد عقد الثاني عليها النكاح وطلاقه إياها.
ابن عرفة: حقه أن يفرق بين أن يقصر النظر أو لَا؛ كما تقدم لابن الحاجب.
فإن قلت: ابن المسيب لم يقصر النظر، فكيف حكم بالحيلة؟ قوله ﷺ وعلى آله وسلم: "لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ": فالجواب: أن ابن المسيب قصر في طلب الحديث: فلو بحث عنه [لعثر عليه*]؛ لأنه قصر في النظر فيه، لأنه نص [جلي*]، قال ابن عطية: وداود وسليمان عليهما السلام توصلا إلى ذلك إما بوحي، أو اجتهاد منهما.
ابن عرفة: أو أحدهما بوحي والآخر باجتهاد، ومن هو الموحى إليه منهما فجاءت القسمة رباعية، ويدل على أنه باجتهاد.
قوله تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ).
[قال الفخر: الإدراك والعلم والشعور*]، والفهم بمعنى واحد.
وكان بعضهم يرد عليه ويقول: الفهم يقتضي النظر والبحث، فدل قوله تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)، على أنه تروى في القضية ونظر واجتهد.
قوله تعالى: (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ)
168
قال ابن عطية والزمخشري: إنما جمع الضمير؛ لأن المراد الحاكم والمحكوم عليه لهما، واحتج بها ابن التلمساني على أن أقل الجمع ثلاثة، وأجاب: عن إرادة الجمع بأن يلزم عليه أن يكون موضع الضمير [رفعا ونصبا*] في حالة واحدة وهو باطل.
وأجاب بعضهم بأن الممتنع من ذلك إنما هو الأمور اللفظية الواقعة، وأما الأمور التقديرية فلا يمتنع أن يكون الموضع على تقدير نصبا ورفعا على تقدير، ولم يأخذ مالك بحكم أحد منهما.
قال ابن عطية: (وَدَاوُدَ) معطوف على [وآتينا*] ورده بعض الطلبة بلزوم التكرار* لأن قوله تعالى: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) يعني معه، وأجيب: بأنه عطفهم عليه ينفي عنهما النقص المتوهم في الحكومة في هذه القضية، وأفاد قوله تعالى: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) حصول ذلك لهما بالإطلاق في كل قضية.
قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ... (٨٠)﴾
قال ابن عرفة: اختلالفوا هل يستثنى الله من هذه الأفعال اسم أم لَا؟ كقوله تعالى: (الَّذِي عَلَّمَ بالْقَلَمِ)، فمنهم من أجازه فيما ليس فيه إيهام ومنعه في الموهم، فلذلك يقول الحكام: العلم الأولى يصفونه بالأول؛ لأنه موهم واختلفوا هل يطلق على هذه الصنائع المختصة بشيء دون آخر كالخياطة والتجارة علم أو لَا؟ وكذلك المنطق والنحو اختلفوا هل هو علم أو صناعة؟
قوله تعالى: (مِنْ بَأْسِكُمْ).
يحتمل الإضافة للفاعل والمفعول.
وكان بعضهم يقول: إن أريد التأثير أثر الضرب والطعن والإضافة للمفعول، لأنها أخص من ذلك.
قوله تعالى: (فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ).
عبر بالاستفهام دون صريح اللفظ بالشكر؛ لأنه أبلغ والمخاطب لَا يهتم إلا بالموافقة [بخلاف*] الأمر بالشكر؛ لأنه قد يمتثله فيخالف، ويحتمل أن يريد (فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) داود وشاكرون الله تعالى، فيؤخذ منه أن [شكر النعمة*] يستلزم شكر من تسبب فيها، فأنعم بها عليك*].
قوله تعالى: ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ... (٨٢)﴾
مع أنك إذا قلت: فلان يحمل الصخرة ويحمل الرطل لم يكن له فائدة، ؛ لأنه إذا حمل الثقيل فأحرى أن يحمل ما دونه، وأجيب بأن المراد ويعملون عملا [غيره*] (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)، ويكون المراد أنهم نوعان: نوع يغوص، ونوع يعمل عملا آخر.
فرده ابن عرفة: بأن ذلك بعيد من لفظ دون، قال: والجواب الآخر يحتاج إلى إضمار.
قال: وإنما عادتهم يجيبون بأنه إن جعلنا اللفظ باعتبار القوة والقدرة فهو تكرار كما قلتم، وإن جعلناه باعتبار الامتثال والطاعة فهو تأسيس، لأن من يطيعك في حمل الثقيل قد تأنف نفسه عن طاعتك في حمل الخفيف لكونه يستحقره؛ كقولك: يتآزر الجيش العظيم [ويجعل*] للسلطان فعله إذا جلس، فهذا ليس بتأكيد، وإنما هو تأسيس لهذا الاعتبار.
قوله تعالى: (لَهُمْ حَافِظِينَ).
هذا احتراس، أي حالهم مستعدين في أمورهم لئلا يأتون على غير الوجه المراد منها، فهو إشارة إلى أن جميع الأشياء بخلق الله وقدرته.
قوله تعالى: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ... (٨٣)﴾
ولم يقل: لحقني أو أصابني مع أن المس أخف، وقد طال زمن، فمر هذا إشارة إلى أن هذا بالنسبة إلى غيره كالمبدأ، وهذا على جهة التلطف منه في الدعاء، ولذلك لم يقل فارحمني.
قوله تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ... (٨٤)﴾
هذا العطف على جهة الترقي؛ لأن كشف الضر أمر حاجي ضروري، إذ هو من دفع المؤلم، فآتيناه الأهل والمال أمر تكميلي، ؛ لأن من جلب الملائم فأعطاه الأمر التكميلي بعد الأمر الحاجي أقوى وأبلغ، قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في سورة ص (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) فذكر السبب في كشف الضر هنا، لم يذكر له سببا، وقال تعالى هناك [(رَحْمَةً مِنَّا) *]، وقال هنا (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)، وقال هناك (وَذِكرَى لأُولِي
الأَلْبَاب)، وقال هنا (وَذِكرَى لِلْعَابِدِينَ)، فأجاب بأنه أسند الفعلَ هناك للشيطان، قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) أشعر أن وقوعه به كان سببا، أن يقرن رفعه بسبب وهنا لم يذكر لنزوله به سببا فلم يقرن رفعه بسبب، وإن كانت القضية واحدة لكن هذا في الحكاية عنها، وقال هنا (ذِكرَى لِلْعَابِدِينَ)، لأنهم أعلى درجة من أولي الألباب، ؛ لأن أولي الألباب إن تذكروا صاروا من العابدين، وإن لم يتذكروا لم يكونوا من العابدين.
قوله تعالى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ... (٨٥)﴾
قال ابن عطية: إسماعيل أبو العرب المعروفين اليوم.
قال ابن عرفة: يريد أن أبوته للعرب لم تنقطع، لأنه أب لهؤلاء بأعيانهم.
قال: وترتب المعطوفات ليس بصواب باعتبار التقدم الزماني، وإنَّمَا هو باعتبار علو المنزلة والقدر أو باعتبار الشهوة وعدمها.
قوله تعالى: (وَذَا الكِفْلِ).
قال الزمخشري: قيل: خمسة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام [ذوو اسمين إسرائيل ويعقوب، وإلياس وذو الكفل، وعيسى والمسيح، ويونس وذو النون، ومحمد وأحمد*].
ابن عرفة: لَا يريد أنهما اسمان علمان؛ لأن النحويين حكوا عن الفارسي: أنه منع تسمية الشخص الواحد باسمين علمين، وأجازه غيره، قال: والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اسمه الحقيقي محمد، وأما أحمد فمشتق من الحمد، ؛ لأنه الفعل، فإن قلت: منعه من الصرف ووزن الفعل والعلمية، قلت: له اسمان باعتبار ملتين، واسمه أحمد في التوراة، ومحمد في ملتنا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)﴾
مع أن النبوة أعلى درجة من الصلاح، ولكن صلاح كل شيء بحسبه، فصلاح الأنبياء أكمل من صلاح غيرهم.
قوله تعالى: (وَذَا النونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا).
قال ابن عرفة: وكان بعض القراء يقول في قول الشاطبي في سورة الفرقان: [وَيَأْكُلُ مِنْهَا النُّونُ شَاعَ وَجَزْمُنَا... وَيَجْعَلْ بِرَفْعٍ دَلَّ صَافِيهِ كُمَّلَا*] إشارة إلى ما ورد في الحديث: "يكون أول طعامهم زيادة كبد الحوت" وهو حديث شائع ذائع، وليس هو
قصد الشاطبي؛ لأنه معنى حسي، وإنما قصد الشاطبي التنبيه على قراءة قوله: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ)، قلت: إنما يجيء هذا على قضية النون لَا على رفعها.
قوله تعالى: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى... (٨٧)﴾
قال الزمخشري: وعن ابن عباس، أن معاوية قال له: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. قال: وما هي يا معاوية، فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبىّ الله أن لا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر لا من القدرة.
قال ابن عرفة: أي من الإرادة، أي يظن أن لن نريد عقوبته.
قال ابن عرفة: وتحمل الآية على ظاهرها؛ لأن إمام الحرمين ذكر في الشامل خلافا هل تتعلق القدرة بنقيض الواقع أم لَا، فذهب أهل السنة المنع، والمعتزلة أجازوه، فنحن الآن جلوس هنا فهل يصح أن يقال: غير قادر على أن يوجدنا في هذا الزمان نفسه في موضع آخر أم لَا؟ أهل السنة منعوا ذلك، والمعتزلة أجازوا إطلاق ذلك، والواقع في الوجود معلوم، والمستقبل مظنون، فإذا كنت ظانا أنك تقوم كدا، وغلب ذلك على ظنك فتقول هذا مذهب المعتزلة أن الله غير قادر على جلوسي غدا، فكذلك يونس عليه السلام، تعلق ظنه لشيء، فظن أن القدرة على نقيضه منفية.
قوله تعالى: (فَنَادَى).
ولم يقل: قال إشارة إلى رفع صوته بذلك، أو إشارة إلى النداء تنبيه من أراد إقباله عليك.
قوله تعالى: (فِي الظُّلُمَاتِ).
دليل على الظلمات أمر وجودي، وجمع الظلمات بناء على أن العرض لَا يبقى زمانين، أو لكون النداء المدة بعد المرة، فكل نداء في الظلمات، أو بناء على الظروف لا بد أن تكون أوسع من الظرف، وفيه دليل على أن الظروف في الظروف في الشيء مظروف في ذلك الشيء؛ لأن يونس نادى في بطن الحوت، والحوت في بطن حوت آخر أكبر منه والحوت الكبير في البحر.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)﴾
ولم يقل: وكذلك ننجي المسبحين، كما قال: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) مراعاة لأول القصة في التسبيح، وأَول القصة (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) فمن حصل له هذه الكلمة نجا، وإن لم يكن مسبحا.
قوله تعالى: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ... (٩٣)﴾
قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: ما أفاد قوله (بَيْنَهُمْ)؟ فكانوا يجيبون بأن مادة التقسيم تفيد الانقسام بين الشخصين، فلو قال: تقسموا أمرهم لأفاد أن كل واحد منهم أخذ منه قسما بخلاف قوله: تقطعوا لحمهم، أو أمرهم بأنه يحتمل؛ لأن يكون تقطعوه وأخذ بعضهم بعضه، والبعض الآخر أخذه أجنبي، أو أخذ كله بعضهم، فلو قال: بينهم أفاد قسمة بين المتقطعين أنفسهم.
قوله تعالى: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ).
التنوين عوض عن ضمير مضاف أو مجرور، فإنه قدر مضافا كان كلا، وإن قدر مجرورا؛ فإن كلية أي كل منه وهو أولى لإفادته تعلق علم الله بالجزئيات، وفي الآية الوعد [للطائع والوعيد للعاصي*].
وقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ... (٩٤)
الآية حجة لأهل السنة في أن الإيمان هو مجرد التصديق، وأنه غير العمل الصالح، ولو كان هو نفس العمل لكان قوله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) تأكيدا، وأجاب بعض الطلبة: بأنهم يقولون إن الإيمان هو الأعمال الصالحة الواجبة، والآية تناولت مطلق الأعمال واجبها ومندوبها.
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ... (٩٦)﴾
ذكر ابن عرفة: ما قال المفسرون [وذكر*] عن بعضهم أن حتى غاية.
كقوله تعالى: (وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ).
لما ورد من أن الشمس إذا طلعت من مغربها يغلق باب التوبة ولا يقع بعدها عمل صالح، فلا يكتب الأعمال الصالحة، وإنما يكتب السيئة مع أن يأجوج ومأجوج مقارب أو مقارن طلوع الشمس من مغربها.
وزاد أنه وقف بعض النحويين، وهو ابن خروف: على أن الغاية إنما هي لازمة بحتى الجارة فقط، فإن قلت: لم هنا فتحت، وقال في الكهف: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)، الفتحة أخف من الدك، بأن
الفتح يصدق بأن يفتح فيه باب واحد، والدك يقتضي فتح جميعه، وانظر حديث حذيفة، حيث قال أحمد في [الفتنة: "وَإِنَّ دُونَ ذَلِكَ بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ عُمَرُ: فَيُفْتَحُ أَوْ يُكْسَرُ؟ قَالَ: يُكْسَرُ، قَالَ: ذَاكَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ يُغْلَقَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ"*]: ذلك أحرى أن لَا يغلق أبدا، فالجواب: أنه اعتبر في ذلك حال السد نفسه لخروجها في سياق القوة، والشدة؛ لقوله تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ)، الآية وفي الآية اعتبر حال المسدود عليه.
فإن قلت: فما هو الواقع، قلت: يفتح أولا ثم يجعل ذلك دكا، والدك إما بهدمه كله أو بنزوله في الأرض وغيبته فيها حتى لَا يظهر منه شيء على وجهها، فلا يحتاج إلى ما أجاب به الفخر قال: [كيف صح هدمه وهو من حديد وأفراغ*]، وأجاب بأن الله يلينه لهم فلا يقدرون على هدمه.
قوله تعالى: (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ).
الضمير عائد على بني آدم في خروجهم من القبور لتوافق قراءة [جدث*]، وهو القبر لقراءة الحرف [حدب*]، ولا يتناقض الحديث الوارد، بأن يأجوج ومأجوج لَا يطلعون إلى أعالي الجبال حيث يكون عيسى ومن معه.
قال ابن عطية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم: ["يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟، قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ "قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا ذَلِكَ الوَاحِدُ؟ قَالَ: "أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا"*].
قال ابن عرفة: الحديث صحيح خرجه البخاري ومسلم، إلا أنه مشكل من كل ألف وتسعمائة وتسعة وتسعون، فيكون الرجل الواحد عُشر عشر العشر فهو مخالف لقوله: إن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل.
قال ابن عرفة: وهذا الحديث مقتضي أن يأجوج ومأجوج بلغتهم الدعوة، إما دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، أو دعوة من قبله من الأنبياء لقوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
قوله تعالى: ﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا... (٩٧)﴾
فإن قلت: فهلا قيل: [(يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) *]، أو يقولون قد كنا في غفلة بل كنا في ظلم؟ فالجواب: أن الغفلة سبب في الظلم وإضافة
الحكم إلى السبب أقوى من إضافته إلى مسببه، فلذلك جعلهم مظلومين في الغفلة، وإنما أحاطت بهم حتى كانت سببا في ظلمهم.
قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا... (٩٩)﴾
قال ابن عرفة: الإشارة إليهم بلفظ القريب تحقيرا لهم؛ كقوله تعالى: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)، قال بعضهم وفيها رد على النحويين في قولهم: إن لو يمنع الورود لامتناع كونهم آلهة، والتقدير هنا لكنهم [واردوها*]، فليسوا بآلهة.
قوله تعالى: (وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ).
أخص من الورود؛ لأن الخلود ورود [وزيادة*].
وأورد ابن عرفة: تشكيكا، ولم يجب عنه، قال: هذا إما خطاب للمؤمنين أو للمشركين، وعلى التقديرين فلا فائدة فيه، المؤمنون مقرون بأنهم واردوها فلا حاجة إلى الاستدلال عليهم والمشركون مكذبون بورودهم النار، فلا فائدة في هذا الدليل، وأجيب: بوجهين:
الأول: قال ابن عرفة: الخطاب للمشركين في الدنيا، والدليل يفيد بصحيحه إلى المعجزة الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جميع ما جاء به، ومن جملة ما أخبر به أن آلهتهم تدخل النار، فلو كانت آلهة ما أدخلوها، وهو قد علم صادقا لم يجربوا عليه كذبا [فيصدقونه*] في ذلك.
القول الثاني: قال ابن عبد السلام: هذا للكافرين في الدار الآخرة حين عاينوهم في النار.
قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ... (١٠٠)﴾
صوت المعذب وهو كنهيق الحمير، أو [شبهه*]، إلا أنه من المصدر.
قال ابن عرفة: هذا غير صحيح بدليل قوله تعالى: في صفة جهنم (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) فلو كان الزفير صوت المعذب لما وصفت به جهنم لأنها يعذب بها،
ولا تعذب هي بحال والصحيح ما قاله ابن سيده في المحكم والجوهري في الصحاح: الزفير، إخراج الصوت من الصدر يمد فيه.
قوله تعالى: (وَهُم فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ).
قيل: لَا يسمعون خيرا، وقيل: لَا يسمعون شيئا من أصل.
ابن عطية قيل: يجمعون في توابيت حتى لَا يسمعون شيئا.
ابن عرفة: اختلفوا في أصول الدين في السماع هل هو بقوة يخرج من صوت المتكلم يقرع آذان السامع أو بغير ذلك، وتقدم إبطال الأول بسماعنا الصوت من خلف حائط كثيف دون من يسمعه من هو دون الحائط مما يجيء هذا إلا على قول من زعم أن السماع بالهوى الذي يقرع السمع، فلذلك جعلوا في توابيت.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ... (١٠٤)﴾
قال ابن عرفة: اليوم يحتمل أن يراد به [الدهر*] والقطعة من الزمان، ويوم القيامة الذي مقداره [خمسين ألف سنة*]، وهو الظاهر، والطي هو جعل السطح المستوي الأجزاء مثنيا بعضه على بعض، والسجل إما اسم رجل وإما الكتاب، وإما المراد به ما يفعله أهل المشرق من أنهم يكتبون ويطوون. السماء: المراد بها الجنس، قال تعالى (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).
قوله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ).
يحتمل أن يريد به آدم عليه السلام، وحده أو ذريته أو كل شيء كما بدأناه نعيده، فيكون ردا على الحكماء القائلين بعدم الإعادة، وأنها [إيجاد*] بعد عدم لَا جمع بعد تفريق.
قوله تعالى: ﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)﴾
في هذه الأمور ثلاثة أمور: [التهييج بالاتصاف بالصلاح*]، وتشريف الصالحين، وتوبيخ من لم يعمل بعملهم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (١٠٦)﴾
إن هذا الأمر مبلغا لدرجة القوم العابدين، وإما قال: (عَابِدِينَ)، ولم يقل: صالحين، إشارة إلى وصف الصلاح إنما يحصل لمن اتصف بالعبادة والزيادة على الواجب.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾
قال أبو حيان: رحمة إما مفعول من أجله، أو حال.
ابن عرفة: فعلى الأول تكون الرحمة من فعل الله تعالى، وما أرسلناك إلا لنرحم بك [العالمين*]، وعلى أنه حال الرحمة من صفته، وما أرسلناك إلا لترحم المؤمنين.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (١١٠)﴾
إن قلت: عبر في الجهر بالاسم وفي العلم بالفعل.. ؛ لأن الكتم فعل قلبي وخواطر القلب كثيرة التجدد والاختلاف، والجهر أمر ظاهر، والأمور الظاهرة أقرب إلى الثبوت والتفرد، لأن الإنسان ما يظهر إلا ما يثبت عليه.
فإن قلت: الجهر مسموع، هلا قيل: يسمع الجهر من القول؟ فالجواب: أنه إشارة إلى علمه به قبل وقوعه، ولو قيل: يسمع [لا يتناول إلا ما وقع*].
* * *
Icon