تفسير سورة الرّوم

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الروم من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بهم، وإذا هم وقد ظفروا، وغنموا، وانقلبوا بنعمة من الله وفضل، لم يمسسهم سوء!! ومن هذه الآيات الأولى التي تنزلت بها سورة «الرّوم» وجد المسلمون ربح رحمة الله، فى هذا الوعد الكريم، وفى تلك البشرى المسعدة التي ساقنها إليهم بين يديها.
وحفّا قد غلبت الرّوم فى هذه المعركة، وليس بالمستبعد أن يغلب المؤمنون فى معركة أو أكثر من معاركهم مع المشركين، ولكن العاقبة أبدا للمؤمنين.. ولقد غلبت الروم فى هذه المعركة، ولكن الصراع لم ينته بعد.
فهناك معركة غير منظورة، يعلمها الله، وستقع بعد بضع سنين، وفيها يكون النصر للروم، وبهذا النصر يحسم الأمر بينهم وبين الفرس، فلن تقوم للفرس قائمة بعد هذا اليوم، بل ولن تكون لهم دولة، حيث يستولى المسلمون على هذه الدولة، وتصبح بعضا من دولة الإسلام.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات: (١- ١٠) [سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)
474
[من أنباء الغيب] التفسير:
قوله تعالى:
«الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ».
قلنا إنه فى هذا الجو الخانق الكئيب، الذي كان يتنفس فيه المسلمون سموم الشماتة من أفواه المشركين، لهذه الهزيمة التي لحقت بالروم على يد الفرس- فى هذا الجو تلقى المسلمون فى مكة هذه الآيات من مطلع سورة الروم، فوجدوا فى أنفاسها المطهرة، أرواحا طيبة، سرت فى كيانهم، فتفتحت لها قلوبهم، وانتعشت بها مشاعرهم، وزغردت لها أرواحهم.!
إنهم تلقوا من الله سبحانه وعدا كريما بنصر الروم، وإنهم ليجدون هذا الوعد واقعا محققا، قبل أن يقع.. إنهم مؤمنون بربهم، مستيقنون بما يعدهم به..
475
وحين يرى المشركون هذه الحال، التي لبست المسلمين من الرضا والطمأنينة، يتساءلون فيما بينهم. ماذا جرى؟ وأي شىء بدّل حال المسلمين، فأصبحوا على غير ما أمسوا عليه؟ وتجيئهم الأنباء، بأن «محمدا» تحدث إليهم بما اعتاد أن يلقاهم به من حديث يقول إنه تلقاه من ربه، وأن ما حدثهم به اليوم، هو أن الروم وإن غلبوا فى تلك المعركة التي دارت بينهم وبين الفرس منذ قليل، فإنهم سيغلبون، وأن ذلك سيكون بعد بضع سنين!!.
أهكذا الأمر إذن؟ وأ لهذا كانت تلك الفرحة التي تعلو وجوه المسلمين؟
ألا ما أخف أحلامهم، وما أضل عقولهم؟! ألمثل هذا الكلام ينخدعون؟
وعلى مثل هذا الكلام يبنون قصورا من الأمانى والآمال؟ ألا يزالون على ضلالهم القديم، ينخدعون بما يحدثهم محمد به، من أحاديث لا تعدو أن تكون وعودا معلقة بالمستقبل البعيد أو القريب، لا يمسك المرء منها بشىء، فى يومه أو غده؟ فأين البعث؟ وأين الحساب؟ وأين الجنة والنار؟ لقد أكثر محمد من تلك الأحاديث إلينا، وصدّع بها رءوسنا، وما نرى لذلك ظلا، وما نشهد له أثرا! ثم ها هى ذى تبلغ الجرأة بمحمد، فينتقل من الرجم بالغيب فى أحشاء الزمن البعيد، المضاف إلى ما بعد موت الناس جميعا، إلى أن يرجم بالغيب فى واقع حياتنا، مما لا يجاوز مداه بضع سنين؟ إنها عثرة قائلة، ولن نقيل «محمدا» منها.. فهيا أمسكوا به، متلبسا بهذا الكذب المفضوح، واضربوه الضربة القاضية، وقد سنحت لكم الفرصة فيه!! هكذا أدار المشركون الحديث حول هذه الآيات، ووجدوا- حسب زعمهم- أن فيها فرصتهم، للنيل من محمد، وبضربته ضربة فى الصميم من دعوته...
إنها لسنوات معدودة، «بضع سنين» تنحصر فيما بين ثلاث وعشر،
476
وبعدها ينكشف الأمر، فماذا لو ظلت الحال على ما هى عليه، فلم تقع حرب بين الروم والفرس خلال هذه السنوات المعدودات؟ وماذا لو وقعت حرب بينهما ثم دارت الدائرة فيها على الروم مرة أخرى؟ أيكون لمحمد وجه يلقى به الناس بعد هذا؟ أو يجد محمد بعد هذا أذنا تسمع له، أو إنسانا يصدق له قولا؟
والحق أن هذا صحيح.. فلو أنه لم تقع حرب بين الفرس والروم خلال هذه المدة المحدودة، المحصورة في بضع سنين، ثم لو وقعت هذه الحرب ولم يكن النصر والغلب للروم على الفرس فيها- لو أنه لم يحدث هذا، لما كان لمحمد ولا لدعوة محمد مكان في هذه الدنيا، ولذهب كل شىء، ولا ختفى كل أثر لمحمد، ولدعوة محمد إلى الأبد!.
إنها دعوة قائمة على أنها من عند الله، وأن محمدا، يتلقى آياتها وكلماتها من ربه... وهذا يعنى أنها الصدق الذي لا تعلق به شائبة من كذب، وأنها الحق الذي لا يلم به الباطل أبدا.. فإذا طاف بهذا الكلام طائف من الكذب، أو علق به ولو ذرّة من شك وارتياب- كان ذلك واقعا بين أمرين، لا ثالث لهما:
إما أن يكون هذا الكلام من عمل محمد، ومن مقولاته التي يتصيدها من هنا وهناك.. وإذن فهو كاذب فيما يدعيه من أنه رسول الله، وأنه يتلقى هذا القرآن، وحيا من ربه.. وإذن فقد بطلت دعواه بأنه رسول من عند الله...
وإما أن يكون هذا الكلام، وحيا كما يقول محمد، ولكنه ليس وحيا من عند الله، وإنما هو مما تلقيه الشياطين، على بعض الناس، كالعرافين،
477
والشعراء.. وإذن فقد بطلت دعواه أيضا بأن ما يحدثهم به هو وحي من عند الله... لأن الله لا يكذب، ولا يفترى!.
والحق أيضا أن هذه الآيات، وما حملت من هذا الغيب، الذي أذاعته في الناس جميعا، والذي ترددت أنباؤه على أسماع الناس في الجزيرة العربية، وما فيها من مشركين وأهل كتاب، بل وربما جاوزت الجزيرة العربية إلى فارس والروم. الحق أن هذا كان تحديا للناس جميعا، بهذه المعجزة المادية المحسوسة... وقد كان ذلك فيما يبدو- فى ظاهر الأمر- مغامرة انتحارية من محمد، كما كان فرصة للذين يرصدون دعوة محمد، ويريدون أن يعرفوا على وجه اليقين، مبلغ صدقها أو كذبها.
وكعادة المشركين الضالين، الذين استقبلوا الدعوة الإسلامية من أول يومها بإعلان الحرب عليها، من قبل أن ينظروا في وجهها، وأن يتبينوا دلائل الحق التي بين يديها- كعادتهم في مواجهة الدعوة الإسلامية بالكفر والعناد، استقبلوا هذه الآيات بالهزء والسخرية، وأقبلوا إلى المسلمين يسلقونهم بألسنة حداد، بما عرف فيهم من لجاج ولدد في الخصومة.. فما هذا الخبر الذي حملته الآيات، إلا وعدا كتلك الوعود الكثيرة التي أوسع لها محمد في الأجل، فجعلها في عالم آخر، نصب فيه موازين الحساب والجزاء، وأقام في ساحاته الجنة والنار... وإذا كان في هذا الوعد الجديد شىء، فهو في قرب الأجل المضروب له... وهذا القرب هو في ذاته دليل على كذبه، وأنه ليس من عند الله...
إذ لو كان عن إرادة نصر من عنده لأهل الكتاب على المجوس- لكان ذلك أمرا منجزا، ولما كان لله أن يؤخره بضع سنين... إذ لا داعية لهذا التأخير، ما دامت قدرة الله حاضرة قادرة أبدا.. بل وأكثر من هذا، فإن هذا النصر لو كان إرادة لله لما وقعت الهزيمة أصلا بالروم، ولكان
478
نصرهم قبل هزيمتهم أوقع وأقرب من نصرهم بعد الهزيمة!.
هكذا، لقى المشركون المسلمين بهذه المقولات وأمثالها، حتى لقد أدّى الأمر إلى أن تقوم مخاطرات بين المسلمين والمشركين، على وقوع هذا الخبر أو عدم وقوعه، وحتى لقد قيل إن أبا بكر- رضى عنه- خاطر أبىّ بن خلف، على عدد من الإبل، يؤديها إلى أبى بكر، إذا غلبت الروم الفرس خلال سبع سنوات، ويؤديها أبو بكر إلى أبىّ، إذا غلبت الفرس الروم، أو لم تقع بينهما حرب أصلا، خلال هذه السنوات السبع!.
وتمضى الأيام، وتتحرك الأحداث، ويهاجر النبي والمسلمون إلى المدينة، ويلتقى المسلمون والمشركون في موقعة بدر في السابع عشر من رمضان، للسنة الثانية من الهجرة، وينتصر المسلمون نصرا كاملا مؤزرا، ويهزم المشركون هزيمة نكراء، فيقتل منهم سبعون رأسا من رءوسهم، ويؤسر سبعون..!
وفي هذا الوقت الذي كانت تدور فيه معركة بدر بين المسلمين والمشركين، وتدور فيها الدائرة على الشرك وأهله، كانت هناك معارك دائرة بين الروم والفرس، وفيها ينهزم الفرس هزيمة إلى الأبد، فلا تقوم لهم بعدها دولة...
فما هى إلا سنوات بعد هذه الهزيمة التي حلّت بهم، حتى تدخل جيوش المسلمين بلاد فارس، وتستولى عليها، وتضمها إلى الدولة الإسلامية.
وليس هذا رجما بالغيب، ولا استملاء من أساطير الأولين، كما يتخرص المتخرصون عن القصص القرآنى.
وهذه صحف التاريخ التي سجّلت هذه الأحداث في وقتها، لا تزال بين يدى أهلها، الذين ليس لهم مصلحة في أن يقيموا تاريخهم على ما يطابق أخبار القرآن، ويجىء مصدّقا له.
والثابت في هذا التاريخ، أنه في سنة ٦١٤ من الميلاد كانت تدور معركة
479
بين القرس والروم، وقد بدأت طلائع الهزيمة تنزل بالروم، فاستولى الفرس على أنطاكية، وهى من كبريات المدن الشرقية للدولة الرومانية، ثم استولوا بعد ذلك على دمشق، ثم على بيت المقدس ذاتها، وأشعلوا فيها النيران، وأحرقوا كنيسة القيامة..
وعام ٦١٤ من الميلاد واقع بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وسابق لهجرته صلوات الله وسلامه عليه.
وطبيعى أن أنباء هذه المعركة، لم تصل إلى مكة في يومها، وربّما يكون ذلك بعد عام أو أقل من عام، وإن لنا أن نفترض أنه في عام ٦١٥ من الميلاد كان نزول هذه الآيات التي نزلت بها أول سورة الروم، لتلتقى مع هذا الحدث، ووقعه على المسلمين والمشركين في مكة...
وقد حدّدت الآيات أنه بعد بضع سنين سيكون الغلب للروم.. وإذا كان البضع بين ثلاث إلى عشر.. فاسمع ما جرى، وما تحدث به صحف التاريخ الرومانىّ.
تقول تلك الصحيفة: إنه في سنة ٦٢٢ من الميلاد- أي بعد سبع أو ثمانى سنين من حرب الروم والفرس، بدأت المعارك بين الروم والفرس مرة أخرى، وكان هذا إرهاصا- عند من يرقب الأحداث- بأن ما تحدّث به القرآن عن هاتين الدولتين يمكن أن يقع على ما أخبر به!.
ومع هذا، فإن المشركين حين بلغتهم أنباء هذه المعارك، كانوا يتوقعون النصر للفرس، ولهذا، فإن أبىّ بن خلف حين علم بهجرة أبى بكر طلب إلى عبد الله بن أبى بكر أن يكون كفيلا لأبيه في أداء ما خاطره به، إذا غلبت الفرس، وقد قبل عبد الله بن أبى بكر هذا.
وفي عام ٦٢٤ من الميلاد، كانت معركة بدر، وحين خرج أمية بن خلف
480
فيمن خرج من المشركين لحرب النبي والمسلمين، أمسك به عبد الله بن أبى بكر عن الخروج، إلا أن يقيم كفيلا يؤدى عنه ما خاطر عليه أبا بكر إذا انهزمت الفرس، وغلبت الروم، فأقام كفيلا له.
وهذا يعنى أن الحرب التي بدأت بين الدولتين في سنة ٦٢٢، كانت ما تزال قائمة لم تنته بعد إلى نتيجة حاسمة، أو أنها قد تكون قد انتهت، ولكن أخبارها لم تكن قد وصلت إلى أهل مكة.
وعلى أىّ فإنه لم يكد المسلمون يفرغون من المشركين في معركة بدر، ويأخذون طريقهم إلى المدينة، وفي قلوبهم فرحة النصر، وفي أيديهم ما وقع لهم من مغانم- حتى يلقاهم على طريق المدينة من يخبرهم بما انتهى إليه أمر القتال الذي كان دائرا بين الفرس والروم، وأن الروم قد هزموا الفرس، وأخرجوهم من بيت المقدس، وما استولوا عليه من بلاد الروم، كما استولوا على كثير من مدن فارس وأقاليمها.. وبهذا جاءت فرحة المسلمين بهذا النصر الذي مكن لهم من رقاب المشركين يوم بدر- جاءت هذه الفرحة موقوتة بالوقت الذي نطقت به الآيات في قوله تعالى: «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» أي أن يوم غلبة الروم للفرس، سيكون في هذا اليوم الذي ينتصر فيه المسلمون على المشركين، وتمتلىء قلوبهم فرحة بهذا النصر العظيم.. فالنصر الذي يفرح به المؤمنون حقّا، هو نصرهم على المشركين من أهل مكة، الذين سخروا منهم، وصبّوا عليهم ألوان البلاء، وأخرجوهم من ديارهم.. وهذا هو نصر الله الذي وعدهم به، ووقّت له غلبة الروم للفرس! وهذا هو السرّ- والله أعلم- فى هذا الذي جاء عليه النظم القرآنى، من التعبير عن الصراع بين الفرس والروم بالغلب والتغالب، على حين جاء التعبير عن غلبة المسلمين للمشركين، بكلمة «النصر».. فهو نصر لدين الله،
481
ونصر للحق في أعلى منازله.. إنه صراع بين إيمان خالص وشرك صريح.
فإذا غلب لإيمان الشرك، فهو نصر للحياة، وللإنسانية كلها، وحقّ له أن يضاف إلى الله: «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ»..
أما الصراع الذي كان دائرا بين الروم والفرس، فلم يكن قتالا في سبيل الله، ولا انتصارا لدين الله، وإنما كان قتالا على سلطان، وتقاتلا على سلطة، تتنازعها لدولتان منذ قرون طويلة..
أما التفات الدعوة الإسلامية إلى هذا الصراع، فلم يكن إلا ردّا على ما تنادى به المشركون في مكة، وما استقبلوا به أخبار انتصار الفرس وهزيمة الروم، فاتخذوا من الفرس جبهة لهم، على حين عدّوا جبهة الروم المهزومة جبهة للمسلمين.. ولهذا جاء قوله تعالى:
«غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» - جاء خبرا حياديّا، يحدث عن الواقع الذي سيقع بعد بضع سنين، ليقطع على المشركين فرحتهم التي اصطنعوها من هذا الخبر الذي جاهم بنصر الفرس، وليقول لهم: لا تفرحوا لأمر تستقبلون أوله، ولا تدرون ما يقع في آخره.. فهذا الغلب الذي تفرحون به، هو غلب موقوت ستعقبه هزيمة خلال بضع سنين! ولهذا جاه قوله تعالى بعد ذلك:
«وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» فهذا للقول وإن كان تعقيبا واقعا على قوله تعالى: «وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» فإنه يشير من طرف خفىّ إلى قصر أنظار المشركين، وأنهم لا تمدون أبصارهم إلى أبعد من مواقع أقدامهم، ولو أنهم أحسنوا النظر إلى هذا النبأ الذي جاءهم بغلبة الفرس، لما استبدّ بهم الفرح، ولعلموا أن الغلب
482
قد تعقبه هزيمة، وأن الهزيمة قد يتلوها غلب... هكذا تجرى أمور الناس فى هذه الحياة: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ».. ولكن القوم- لجهلهم، وعمى بصائرهم- لا يقفون من الأمور إلا عند ظواهرها، ولا يأخذون منها إلا ما يلقاهم على يومهم.. وهذا شأنهم في دينهم الذي يدينون به.. إنهم أحلوا أنفسهم من كلّ شىء يشغلهم عن حياتهم الدنيا، فهى يومهم الذي لا يوم لهم بعده.. أما الآخرة، فلا شأن لهم بها.. إنهم في غفلة عن كلّ أمر يصلهم بها، وفي صمم عن كل حديث يلقى إليهم عنها..
قوله تعالى:
«غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ».
المراد بأدنى الأرض، أقربها، وهى أقرب البلاد من مملكة الروم الشاسعة، إلى جزيرة العرب، وهى تلك البلاد الواقعة في المناطق الشرقية من مملكة الروم.. كدمشق وبيت المقدس وغيرها..
«فِي بِضْعِ سِنِينَ»..
هو تحديد للوقت الذي يقع فيه هذا الخبر.. والبضع من السنين ما بين الثلاث إلى العشر..
«لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» أي أن الأمر كله لله، من قبل الغلب ومن بعده.. فما غلب الغالبون إلا بأمر الله، وعن إرادته ومشيئته.. وما سيغلب المنهزمون إلا بأمر الله، وعن إرادته ومشيئته «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (٧٨: النساء).
«وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ».
أي في هذا الوقت الذي يقع فيه هذا الخبر، وهو غلبة الروم للفرس، سيقع أمر أهمّ وأعظم، وهو انتصار المسلمين على المشركين، حيث يمدهم الله بنصره،
483
ويمنحهم عونه وتأييده، فتمتلىء بالفرحة صدورهم، وتخفق بالرضا والسرور قلوبهم..
«يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ.. وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».. فالنصر بيد الله وحده، ليس لأحد شركة مع الله فيه، فهو العزيز ذو القوة والبأس، الرحيم الذي يوسع من رحمته لعباده المؤمنين، فيعزهم بعزته.
«وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».
«وَعْدَ اللَّهِ» مفعول به لفعل محذوف، تقديره: صدّقوا وعد الله، أو استيقنوا وعد الله. ونحو هذا.
وقوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» أي لا يعلمون هذه الحقيقة، وهى أن الله لا يخلف وعده.. والمراد بأكثر الناس هنا هم المشركون والضالون، الذين لا يؤمنون بالله.. فهؤلاء هم أكثرية الناس.. وهم لا يصدقون ما تتحدث به إليهم آيات الله، عن الله، لأنهم لا يقدرون الله حق قدرة، ولا يعلمون ما ينبغى أن يكون له سبحانه من صفات الكمال والجلال..
«يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ».
هذا هو علم المشركين، والضالين المكذبين بالله.. إن علمهم محصور فيما يتعلق بأمور الدنيا، وما هم فيه من لهو ومتاع بها..
وفي قوله تعالى: «ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» - إشارة إلى أن العلم في ذاته مطلوب، لكل أمر يعالجه الإنسان.. وأن العلم- حيث كان- نور يهدى صاحبه، ويكشف له معالم الطريق إلى الخير والحق.. هذا إذا كان العلم قائما على نظر سليم، وإدراك صحيح، وإلا فهو سراب يخدع صاحبه، ويضله عن سواء السبيل..
484
وعلم هؤلاء المشركين، الضالين، المكذبين بالله- مع أنه مقصور على هذه الحياة الدنيا- هو علم يقف عند ظاهر الأمور فيها، ولا ينفذ إلى الصميم منها.. ومن هنا ينخدع هؤلاء الضالون بهذا العلم الذي لا يمسك من الأشياء إلا ببريقها، ولمعانها، فيندفعون به إلى مواقع الهلاك، كما يندفع الفراش إلى النار، مأخوذا بضوئها، مبهورا بألسنة لهيبها..
أما العلم الحقيقي بالحياة الدنيا، وبما فيها من آيات الله المبثوثة في كل ذرة من ذراتها، وما أودع الله سبحانه في الكائنات من أسرار، فذلك علم من شأنه أن يفتح مغالق العقول، ويضىء جوانب البصيرة، ويهدى صاحبه إلى كل ما هو حق وخير..
وبهذا العلم، يرى العالم قدرة الله، ويتعرف إلى بعض ماله- سبحانه- من علم وحكمة، فيؤمن بالله، ويؤمن بما أرسل الله من رسل، وما أنزل من كتب.. وبهذا العلم يصل العالم بين الدنيا والآخرة، فيعمل لهما معا.. إذ لا تعارض بين الدنيا والآخرة، عند من يعلم حقيقة الدنيا، ومكانها من الآخرة..
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ».
هو دعوة إلى هؤلاء المشركين الغافلين عن الحياة الآخرة، أن يتفكروا فى أنفسهم وما قام عليه خلقهم.. وكيف كان الإنسان ترابا، ثم نطفة، ثم صار رجلا.. فإن أقرب شىء إلى الإنسان هو ذاته، وهذا يوجب عليه أن يتعرف إلى أقرب قريب إليه، قبل أن يمد بصره إلى ما وراءه، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ».
فإذا نظر الإنسان إلى نفسه، نظرا سليما واعيا، عرف بعض ما للخالق سبحانه
485
وتعالى، من عظمة، وجلال، وعلم، وقدرة.. حتى يخرج من هذا التراب الهامد، هذا الإنسان العاقل، المدرك، المتكلم! وبهذا يعلم الإنسان أن هذا الوجود في أرضه وسمائه، وفيما بين أرضه وسمائه- لم يخلق إلا بالحق، ولم يخلق لهوا وعبثا... وأن كل مخلوق في هذا الوجود هو بعض منه، وأنه لن تنتقض لبنة من بناء هذا الوجود أبدا.. فكل كائن فيه- وإن صغر- دوره الذي يقوم به في وحدة هذا النظام الممسك بالوجود، وله فلكه الذي يدور فيه، كما تدور النجوم في أفلاكها... تشرق، وتغرب.. ولكنها لا تفنى، ولا تندثر! والإنسان كائن من الكائنات ذات الشأن العظيم في هذا الوجود، فكيف يقع لعقل عاقل أن تنتهى حياة هذا الإنسان بتلك الدورة القصيرة التي يدورها في فلك الوجود، والتي هى سنوات معدودة يقضيها في هذه الدنيا؟ ألهذا خلق الإنسان؟ ولهذا كان خلقه على تلك الصورة العجيبة التي استحق بها أن يكون خليفة لله في هذه الأرض؟.
كلا، إن الإنسان لن تنتهى حياته بهذه الدورة القصيرة على الكوكب الأرضى، وإن له لحياة أخرى، أعظم، وأبقى... ولكن كثيرا من الناس بلقاء ربهم كافرون.. لا يصدقون بأنهم مبعوثون بعد الموت، وأنهم ملاقون ربهم، يوم يقوم الناس لرب العالمين...
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».
486
هؤلاء المشركون الضالون، إذا لم يكن لهم نظر في أنفسهم، أو كان لهم نظر ولكنه لم يكشف لهم مواقع الحق فيما رأوا منها- أفما كان لهم نظر إلى ما بين أيديهم، وتحت أبصارهم، من بقايا هذه الأمم التي كانت تعمر تلك الأطلال البالية، وهذه القرى الغارقة في أحضان البلى؟ ثم ألا رأوا في هذه المخلفات ما كان عليه أهلها من حياة عامرة، زاخرة، وما كان لهم من قوة وبأس شديد... ؟ ثم ألا أعادوا النظر مرة أخرى، فرأوا كيف تبدلت الحال، وكيف ساء المصير؟ لقد كفروا بآيات الله، وكذبوا رسله، فأوقع الله بهم عقابه، وأخذهم ببأسه، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهمَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
لقد ظلموا هم أنفسهم، فحادوا بها عن طريق الهدى، وأوردوها موارد الهلاك.
- وفي قوله تعالى: «أَثارُوا الْأَرْضَ» إشارة إلى أنهم قلّبوا وجوهها، واستخرجوا خبأها.
قوله تعالى:
«ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ».
السّوءى: أي العاقبة السيئة، وهى ضد الحسنى.. كما يقول الشاعر:
أنّى جزوا عامرا سوءا بفعلهم... أم كيف يجزوننى السوءى من الحسن؟
وهى اسم كان مرفوع، وخبرها «عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا» والتقدير: ثم كانت السوءى عاقبة الذين أساءوا.. أي جزاهم الله سوءا لفعلهم السيّء..
كما يقول سبحانه: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها»، وهو من باب المقابلة، وذلك لأن ما يجزون به، إنما هو سوء بالنسبة لهم، لأنه يسوءهم ويؤذيهم.. أما الجهة التي توجهت به إليهم، فهو ليس منها، وإنما هو فعلهم، عاد إليهم، فالأمر لا يعدو أن يكون فعلا وردّ فعل!.
487
وقدم الخبر على الاسم، وأخر الاسم، لإثارة حب الاستطلاع إليه، بحجبه قليلا وراء الخبر، فإذا طلع على أهله لم يجدوا فيه إلا ما يسوء!! وقوله تعالى: «أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ» - هو تعليل لهذا الجزاء السيّء الذي جوزوا به، أي لأنهم كذبوا بآيات الله ولم يقفوا عند حد التكذيب بها، بل اتخذوها هزءا وسخرية، ومادة للعبث والبذاءة- كان هذا جزاؤهم السيّء.
الآيات: (١١- ١٩) [سورة الروم (٣٠) : الآيات ١١ الى ١٩]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
هو تعقيب على ما دعت إليه الآيات السابقة، من التفكر في النفس، أي
488
فى الذات الإنسانية، وما أودع الخالق العظيم في الإنسان من قوى وملكات ثم النظر في خلق السموات والأرض.. ثم السير في الأرض، والوقوف على أطلال الأمم الغابرة ليروا ما حلّ بالظالمين من بأس الله وعذابه.
فهذا التفكر والنظر والتدبر، فى داخل النفس وخارجها، من شأنه أن يفتح للإنسان طريقا إلى الحق، وأن يدلّه على الله سبحانه وتعالى، وما له جلّ شأنه من قدرة لا يعجزها شىء... فكان قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» - هو الحكم الذي يقضى به النظر فى هذا الوجود، والذي إن لم يستدل إليه الإنسان بنظره، ثم جاءه من يحدثه به، كان جديرا بأن يقبله، إذ كان على امتداد النظر، وفي مواجهة الفكر.
فإن أنكر الإنسان معطيات حواسه، ومدركات عقله، ثم كذّب ما يحدّثه به أهل الصدق والعلم، فلن يهتدى إلى حق أبدا، ولن يحصل على خير أبدا، ولن يصير إلا إلى أسوأ مصير.
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ».
هو تهديد وإزعاج لهؤلاء المشركين، الذين أنكروا البعث، ولم يتلقوا قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» - لم يتلقوه بالقبول، والإيمان... إنهم مجرمون.. والمجرمون وإن رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، فإنهم سيلقون يوم القيامة هوانا وبلاء، حيث يشتمل عليهم الهول، مما يرون من عذاب الله، فيبلسون، أي يحمدون في أماكنهم، وتجمد حواستهم، مما يطلع عليهم من أهوال ومفزعات.
قوله تعالى:
«وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ».
489
أي لم يكن لهؤلاء المجرمين من شافع يشفع لهم، ويجيرهم من عذاب الله، وأن معبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، قد ضلّت عنهم، وقد كانوا من قبل على يقين بأنهم سيشفعون لهم عند الله، كما يقول الله تعالى عنهم:
«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (١٨: يونس) - وقوله تعالى: «وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ».. أي وكان هؤلاء المشركون، من أهل الكفر والضلال، بسبب شركائهم هؤلاء الذين عبدوهم من دون الله... فهم بعبادة هذه المعبودات لبسوا ثوب الكفر، وكانوا من الكافرين... وللكافرين عذاب مهين.
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ».. أي أنه إذا كان بين هؤلاء المشركين وبين معبوداتهم ولاء، هو ولاء التابع للمتبوع- ثم كان بين بعضهم وبعض، اجتماع وائتلاف، على عبادة هذه المعبودات، والدفاع عنها، ودفع كل يد أو لسان يمتد إليها بسوء- فإنه في يوم القيامة، ستتقطع بينهم جميعا الأسباب، فلا يلتفت المعبودون إلى عابديهم، ولا ينظر عابد في وجه عابد أو معبود.. «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ».. «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً».
قوله تعالى:
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ».
الحبر، والحبور: السّرور والغبطة، والرضوان.. والروضة: الجنة.
أي أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا يحزنهم هذا اليوم، ولا يضرّهم التفرّق، إذ كان مع كل مؤمن عمله، الذي يؤنسه، ويذهب وحشته،
490
ويملأ قلبه طمأنينة وأمنا، بما يرى من بشريات الإيمان والأعمال الصالحة، التي بين يديه.
إن المؤمنين الذين عملوا الصالحات سينزلون في هذا اليوم أكرم منزل..
إنهم في روضات الجنات، ينعمون بما أعد الله لهم فيها من موائد فضله وإحسانه..
قوله تعالى:
«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ».
هؤلاء هم الفريق الآخر، الشقىّ التعس يوم القيامة... إنهم هم الذين كفروا وكذّبوا بآيات الله، وأنكروا البعث والحساب والجزاء، فلم يقدّموا ليومهم هذا شيئا.. فليس لهم في الآخرة إلا النار..
وفي قوله تعالى: «فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ».. إشارة إلى أنهم يساقون إلى العذاب سوقا، ويدفعون إلى البلاء دفعا.. إنهم يودّون أن يفرّوا من هذا البلاء الذي بين أيديهم، ولكن هناك من يمسك بهم على هذا البلاء، ويدفعهم إليه، فى قوة قاهرة مدلة، لا يملكون لها دفعا.
قوله تعالى:
«فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ».
هو خبر، يراد به الأمر.. أي سبّحوا الله، وعظّموه، وأقيموا وجوهكم إليه بالدعاء والعبادة..
والخطاب دعوة للناس جميعا.. مؤمنين، وكافرين...
أما المؤمنون، فقد رأوا الجنة ونعيمها- وأما الكافرون، فقد عاينوا
491
النار ولظاها.. فالمؤمنون يسبّحون الله، ليبقى عليهم ما أراهم من رحمته...
والكافرون يسبّحون الله، ليدفع عنهم ما أراهم من عذابه.
- وقوله تعالى: «حِينَ تُمْسُونَ» أي تدخلون في المساء «وَحِينَ تُصْبِحُونَ» أي تدخلون في الصباح...
- وقوله تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» اعتراض بين مطلوب الدعوة بالتسبيح لله سبحانه، من الناس، وذلك ليرى الناس أنهم ليسوا وحدهم الذين يسبّحون الله، فالسموات والأرض ومن فيهن تسبّح بحمد الله، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ».
وقوله تعالى: «وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» معطوف على قوله تعالى:
«فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ» لأنه بمعنى: سبّحوا الله مساء وصبحا، وعشيّا، وحين تظهرون.
وفي هذه الآيات إشارة إلى الصلوات الخمس المفروضة، وأوقاتها..
ففى المساء.. صلاة المغرب والعشاء. وفي الإصباح.. صلاة الصبح، وفي العشى، صلاة العصر.. وفي الظهيرة.. صلاة الظهر..
قوله تعالى:
«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ».
فى هذه الآية استعراض عام، كاشف، لبعض قدرة الله، الذي يدعى العباد إلى تسبيحه، وعبادته... فالذى يسبّح الله مجرد تسبيح، ويعبده عبادة منقطعة عن التعرف على ما لله سبحانه من جلال وعظمة، لا يحدث له هذا التسبيح، ولا تلك العبادة، حالا من اللقاء بربّه، لقاء تشرق به الروح،
492
ويأنس به القلب، وتصفو به النفس، الأمر الذي من شأن العبادات أن تترك آثاره في العابدين.
- وفي قوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» دعوة إلى القراءة الواعية في صحف الطبيعة، وما فيها من آيات الخلاق العظيم.. ففى كل نظرة يلقيها الإنسان على أي موقع من مواقع الحياة، يرى حياة تخرج من موات، ومواتا يخرج من حياة.. الشيء وضدّه، يتبادلان موقفهما.. فالميت يأخذ مكان الحىّ، والحىّ يحل مكان الميت، حتى لكأنهما كائن واحد لا فرق بينهما، فى حالى الحياة والموت..
وهذا من عجيب قدرة الله، وبسط سلطانه على المخلوقات.
وفي قوله تعالى: «وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ» إشارة إلى أن خروج الموتى من القبور، لا يخرج عن أن يكون صورة من تلك الصور، التي تخرج فيها الحياة من عالم الموات... وأقرب مثل لهذا، الأرض الجرداء الجديب، ينزل عليها الماء، فتهتزّ وتربو وتنبت من كل زوج بهيج..
فهل تعجز قدرة الله أن تنفخ في هذا التراب الهامد، الذي احتوى أجساد الآدميين، فإذا هم بشر ينتشرون؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» (١٧- ١٨: نوح)..
فلم ينكر المنكرون البعث؟ ولم يجادلون فيه؟ إنه ليس عن إنكار لقدرة الله، فما ينكر عاقل على هذه القدرة أي شىء.. ولكنه هروب من المسئولية، وفرار من مواجهة الحساب يوم القيامة، وإخلاء النفس من مشاعر الإيمان بالحياة الآخرة، لتنطلق كما تشاء، لاهية عابثة، تنفق كل شىء في سبيل حظوظها الدنيوية، لا تستبقى للآخرة شيئا!.. وهكذا يغرر المرء بنفسه، ويخدع عقله، ويستجيب لداعى هواه، فلا يرى من حقائق الأمور إلا ما يتفق وهواه..
493
الآيات: (٢٠- ٢٧) [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٠ الى ٢٧]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
التفسير قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ».
هذه الآية معطوفة على الآية قبلها:
494
وقضية خلق الإنسان، كما جاء بها القرآن، تلتقى مع العقل، فى كل طور من أطواره، صعودا، أو نزولا..
ففى القرآن الكريم عشرات من الصور التي خرج بها الإنسان إلى هذا العالم.. وهذه الصور وإن اختلفت مظهرا، فإنها تلتقى جميعا في مضمونها ومحتواها.
فالعقل في أدنى مستوياته يلتقى مثلا مع قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا» (١٣: الحجرات) وتلك حقيقة لا يستعلى عليها العقل في أعلى منازله، ولا يستغنى عن الأخذ بها..
فإذا ترقى العقل شيئا كان له لقاء آخر مع قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» (١: النساء).
ثم ما يزال العقل يلتقى مع آيات الله، آية آية.. فيجد في كل آية منها لونا جديدا، تزداد به الصورة وضوحا، وعمقا..
ومن هذه الآيات:
- «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ» (٢٠- ٢١ المرسلات).
- «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (١٧: نوح).
- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» (١٢: المؤمنون).
- «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ» (١٤: الرحمن).
- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» (٢٦: الحجر).
- «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» (٤٥: النور).
فهذه الآيات، وكثير غيرها مما جاء في خلق الإنسان، تضع العقل أمام قضايا، ومقررات، كلها تحدث عن خلق الإنسان، وبعضها واضح جلى،
495
يعرف بأدنى نظر، وبعضها دقيق خفى، لا ينال إلا بنظر دقيق، وإدراك سليم، مع قدر كبير من العلم والمعرفة..
ومع هذا، فإن التقاء هذه الآيات في أي عقل مؤمن لا يحدث صداما بينها، ولا يدعو إلى انفصال في وحدتها، وذلك بحمل الخفي عليه منها، على الجلىّ، والمتشابه- عنده- على المحكم.. ثم يبقى مع هذا للعقل- على امتداد الزمن- مكانه من الآيات الخفية، ينظر في وجهها، ويدور باحثا عن أسرارها.. وفي كل يوم يجد العقل من هذه الآيات جديدا من العلم، ومزيدا من المعرفة، وكثيرا من الأسرار.. وإذا التراب، والطين والصلصال، والحمأ المسنون، والماء، والنبات.. وكل هذه المواد التي تحدث عنها القرآن في خلق آدم- هى العناصر التي شكلت هذا المخلوق العجيب، والتي أقام منها الخالق العظيم، هذا البناء، فى أحسن تقويم..! وحتى ليجىء العلم الحديث متخاضعا بين يدى القرآن الكريم، مستسلما ومسلما لما ضمت عليه آيات الله من أسرار، لم ير هذا العلم بكل وسائله إلا لمحات منها، فيما قررته علوم الحياة من تلك الصلة الوثيقة التي تصل الإنسان بالأحياء، وتجعله حلقة من حلقات سلسلتها الممتدة، الضاربة في أعماق الطبيعة «١».
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».
الخطاب هنا للناس عموما، رجالا، ونساء.. وليس للرجال، كما فهم ذلك كثير من المفسدين.. فكما خلق الله سبحانه للرجال من أنفسهم
(١) انظر في هذا، المبحث الخاص الذي عرضنا فيه قصة خلق آدم، فى الكتاب الأول من هذا التفسير.
496
أزواجا، خلق سبحانه للنساء من أنفسهن أزواجا.. فكان الوفاق وكان الائتلاف بين المتزاوجين..
والمراد بقوله سبحانه: «مِنْ أَنْفُسِكُمْ» أي من جنسكم، وطبيعتكم..
وهذا من شأنه أن يؤلف بين الزوجين، وأن يجمع بينهما على الأنس، والمودة.. إذ أن الكائن الحي، ينجذب بطبيعته إلى ما يشاكله من الأحياء..
فكل جنس يجتمع إلى جنسه، ويجد الطمأنينة، والأمن، والسكينة في جواره.
سواء في هذا، الإنسان، والطير، والوحش، والذر.. حتى النبات.. فإنه يزكو، وبنضر، ويزهو في المغارس التي نجمع الجنس منه إلى الجنس.
وفي قوله تعالى: «لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» بيان لهذه النعمة، وكشف عن وجه الحكمة فيها، وهى أنه باجتماع الإنسان إلى الإنسان، والذكر إلى الأنثى، تستريح النفس، وتسكن المشاعر، وتطمئن القلوب.. وإنه لا نعمة أجل ولا أعظم من نعمة تفيض على الإنسان الأمن والسكينة.
وفي قوله تعالى: «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» - إشارة إلى أن المودة والرحمة أمران يتولدان من الألفة والسكن، وأنه لولا السكن والائتلاف، ما قامت مودة ورحمة.. لهذا جاء النظم القرآنى مفرقا بين الأمرين، فجعل المشاكلة في الطبيعة البشرية بين الناس، ذكورا وإناثا- خلقا، أي في أصل الخلقة، على حين جعل المودة والرحمة، عرضا من أعراض هذه الطبيعة، وثمرة من ثمراتها، فعبر عنها بلفظ «الجعل». «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً»..
وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، الذي يتجلى في روعة أسلوبه، وجلال صدقه..
إذ ليس كل لقاء بين طبيعتين متماثلتين يحدث الرحمة والمودة، وإن كان من شأنه أن يجمع، ويقرب.. فإن المودة والرحمة ثمرة احتكاك، وتجاوب، بين النفوس، وجهد مبذول، ومعاناة معطاة من كل نفس، وعلى قدر هذا الجهد
497
وتلك المعاناة تكون الثمرة.. وما أكثر الأشجار التي لا تعطى ثمرا!! وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» دعوة إلى الزوجين أن يدبرا تفكيرهما إلى هذه الآية من آيات الله، وأن يحققا الثمر المرجو منها. فإن لم يتحقق لهما هذا، كان عليهما أن يرجعا إلى نفسهما، وأن يصححا الوضع الذي هما عليه، حتى يحىء الثمر المطلوب من الزواج، وهو السكن، والمودة، والرحمة.
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ».
فى الجمع بين خلق السموات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان، إشارة إلى هذه الظاهرة التي لا يكاد يلتفت إليها الناس، من اختلاف ألسنتهم وألوانهم. إنها- وهى التي لا يكاد يلتفت إليها أحد- لا تقل عن خلق السموات والأرض، وما فيهما من أجرام وعوالم، فى الدلالة على قدرة الخالق، وجلاله، وعظمته، وعلمه، وحكمته.
إن كل إنسان من الناس هو عالم قائم بذاته، فى ظاهره، وباطنه، جميعا.
ففى كل إنسان آية متفردة من آيات الخلق، وقدرة الخالق. فعلى حين يبدو الناس وكأنهم ثمار شجرة واحدة، إذ هم ثمار مختلفة الطعوم، ولألوان، والأشكال.. كل ثمرة لها طعمها، ولونها، وريحها.
إن العين لتأخذ الناس جميعا، وكأنهم كائن واحد. فإذا عاد النظر إليهم، فردا فردا، كان كل واحد كائنا قائما بذاته، بماله من سمات،
498
وخصائص.. فلكل إنسان نبرات صوته، ومخارج كلماته، وطبقات أنغامه، التي تميزه عن غيره، فلا تختلط نبرة بنبرة، ولا يشتبه مخرج بمخرج، ولا تتماثل طبقة مع طبقة، وإن بدا في ظاهر الأمر أن هناك تماثلا وتشابها، بين صوت وصوت، ونغم ونغم، فإن الحقيقة غير هذا، حيث توجد فروق دقيقة، وخطوط هندسية غاية في الدقة، تفصل بين صوت وصوت، وتحجز بين نغم، ونغم. وكذلك الشأن في الألوان والأشكال، والصور.. إن يد القدرة القادرة المحكمة، قد أقامت كلا منها في موضعه، وجعلت بينها حاجزا، فلا يبغى بعضها على بعض.. تماما كما حجزت بين البحرين: «هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» هذا، فى ظاهر الإنسان.. أماما في باطنه، فالأمر أعجب وأغرب..
فمنازع التفكير، ومناحى العواطف، ومسارب المشاعر، وخلجات الضمائر، ووسوسات الأهواء- إنها أمواج متدافعة على صدر محيط لا حدود له..
ومع هذا فلا تختلط موجة بموجة، ولا يضيع تيار في عباب تيار..!
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ» - إشارة إلى أن عين العلم هنا، هى التي تكشف هذه الأسرار، وتطّلع على هذه الآيات..
[الليل.. وما وسق]
قوله تعالى:
«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ». فهذا من آيات الله أي ومن آياته كذلك أن خلق الناس من تراب، ثم إذا هم بشر ينتشرون..
«وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ».
ومن دلائل قدرة الله، أن أليس الإنسان لباس النوم، ليجد فيه الجسم سكنه وراحته، مما يعالج في يقظته من أعمال، وما يحمل من أعباء.. فكان النوم واليقظة خلفة، يدوران في فلك الإنسان، كما يدور الليل والنهار في فلك
499
الوجود.. وبهذا التوارد للإنسان على موارد النوم واليقظة، يعرف نعمة الله عليه، وإحسانه إليه، ويجد للنوم طعمه الهنيء في كيانه، كما يجد لليقظة مساغها العذب في كل جارحة من جوارحه.
- وفي قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» وفي تقديم النوم، على اليقظة التي يدل عليها قوله تعالى: «وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» - فى هذا إلفات إلى نعمة النّوم، التي قلّ أن يلتفت إليها كثير من الناس، إذ كان في النوم عزل للإنسان عن الحياة، وقطع للصلة بينه وبين ذاته، حتى لكأنه قد فقد وجوده.. ومن هنا كانت نظرة كثير من الناس إلى النوم على أنه عارض دخيل على الإنسان، أشبه بالآفات التي تعرض للجسد..
وهذا فهم خاطئ هذه النعمة العظيمة التي تضيفها يد الرحمة الإلهية على الإنسان!..
وندع النظر إلى النوم- كظاهرة جسدية- وإلى وظيفته العضوية في كيان الجسد الإنسانى وتنظر إلى ما يقع للإنسان في رحلة النوم، وما يصادفه على طريقه من رؤى وأحلام، حيث تنطق قوى الإنسان الخفية، وتسبح في عوالمها، وتحقق قليلا أو كثيرا من مطالبها التي أمسكتها عنها يقظة الجسد، وقيدتها دونها جوارحه.
ففى رحلة النوم، وفيما بين اليقظة والنوم، يسبح الإنسان بعقله وروحه، فيما وراء هذا العالم المادي.. حيث لا قيود ولا سدود.. وحيث يحقق الإنسان فى هذا العالم ما عجز عن تحقيقه في عالمه المادىّ، فيجد في هذا ما يجد الجوعان بعد الشبع، والظمآن بعد الرىّ! فكم من محروم، طعم في نومه من كل طيّب كانت تشتهيه نفسه، وتقصر عنه يده؟ وكم من مظلوم، اكتوى بنار الظلم من يد ظالمه، ثم جاء إليه
500
فى عالم الأحلام، صاغرا ذليلا، فكال له الصاع صاعين، وشفى ما بنفسه من قسوة الظلم ومرارته؟.
وكم من محبّ باعد الزمن بينه وبين حبيبه، وانقطع بينهما حبل اللقاء، بغربة نائية في عالم الأحياء، أو عالم الموتى.. وإذا هما في الكرى على لقاء، يتساقيان كئوس الحبّ مترعة، ويرتشفان راح المودة صافية؟.
وكم من عالم وقف به علمه أمام معضلة لم يجد لها حلّا، حتى دبّ اليأس فى صدره، وغربت شمس الرجاء من أفقه، وإذا هواتف الرؤى تناديه، وتبوح إليه في نومه بما ضنت به عليه في يقظته.. وإذا الحقيقة بين يديه سافرة، والمعضلة بديهة!! وكم؟ وكم؟ وكم؟
إننا في عالم النوم لنجنى من الثمرات العقلية، والروحية، والنفسية، ما لا نحصل عليه في يقظتنا، بمدركاننا، وحواسنا.
ذلك أن النوم إذا قطع صلتنا بعالم الحسّ، وصلنا بعالم الروح.. وكما تأخذ أجسادنا حظّها من طعام وشراب، من عالمها المادي، فإن أرواحنا، ونفوسنا، وعقولنا تتزود في رحلة النوم، من عالم الروح بكل ما تستطيع الوصول إليه منه.
فالنوم ليس إلا حبسا للجسد، وإطلاقا للروح. وهو بهذا إنما يعطى الجانب الروحىّ من الإنسان حظه، من التحرر والانطلاق من كثافة المادة، وضغوطها، وظلامها.. وإلّا، فإنه لو ظنّت الروح حبيسة في كيان الجسد، تقوم على حراستها في داخل هذا السجن المظلم- الحواسّ والمدركات- لاختنقت، وانطفأ نورها، ومات شعاعها.
وماذا يبقى للإنسان أو من الإنسان إذا عطبت روحه، وانطفأ هذا المصباح الإلهى المشتعل في كيانه؟ إنه لا إنسان بغير روح، وإنه لا وجود لإنسانية
501
فقدت روحها، وإن لم تفقد حياتها.. ومن هنا نستطيع أن نفهم قول الرسول الكريم: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا».. فهذا يعنى أن الروح قد تخلصت بالموت تخلصا تاما من الجسد، وخرجت بوجودها كلية من سجنه المطبق عليها، وعندئذ بحد الإنسان وجوده كاملا.. فالإنسان في حقيقته روح، وما الجسد إلا منزلا نزلته الروح في مرحلة من مراحل السفر في هذا الوجود! ومن هنا نستطيع أيضا أن نلمح أن البعث بالروح لا بالجسد... ولهذا مبحث خاص سنعرض له- إن شاء الله! فالذين يستخفون بالنوم، ويمدونه ضرورة من الضرورات الثقيلة المفروضة على الطبيعة البشرية، ويحسبونه داء من تلك الأدواء التي تلحق الإنسان، وتطغى على وجوده، كالطفولة، والشيخوخة- هؤلاء مخطئون أشد الخطأ، إما لجهلهم، الذي يقصر بهم عن إدراك ما لا تلمسه أيديهم، وتذوقه أفواههم، وإما لأنهم ماديون، لا يرون إلا المادة، ولا يتعاملون إلا بها، ولا يجدون في الإنسان إلا أنه حيوان، مخلف بهذا الخلاف المادي من العظم واللحم! وإذا كان «النوم» - على ما رأيت- نعمة جليلة، فإن الله سبحانه وتعالى، قد جعل الليل الذي هو الظرف الطبيعي للنوم- نعمة جليلة أيضا، كما يقول سبحانه: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ» (٧٢: القصص)..
فالليل، ستار يغشى الكائنات الحية، ومنها الإنسان، فيسلمها ذلك إلى السكن، ثم النوم!.
إن لليل سلطانا قاهرا كسلطان النهار على الأحياء.. هذا النوم، وذاك
502
لليقظة... ذلك للموت، وهذا للبعث.. «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى.. ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» (٦٠: الأنعام).
وقد كان الليل، لسلطانه هذا، إلها، يناظر النهار، ويقاسمه حكم هذا العالم.. فدان كثير من الناس بهذه الديانة المثنوية، فجعلوا الآلهة اثنين، إلها للنور، وآخر للظلمة.. واعتقدوا في إله النور الخير، على حين كان معتقدهم فى إله الظلام أنه شر، وأن الحرب دائرة بينهما، وأن على المؤمنين أن ينتصروا لإله الخير، وأن يرقبوا خلاص العالم، من الظلام، والشر، على يديه... وإلى هذا المعنى أشار المتنبي بقوله:
وكم لظلام الليل عندك من يد تحدّث أن المانوية تكذب
فهو يجد في الليل طيف محبوبه يلمّ به، ويسعده، فى زورة من زورات الأحلام، وهذا يحدث عن الليل بما يكذب المانوية، التي تعتقد أن الليل شر لا يجىء منه خير! بل إن المتنبي ليجد هذه اليد الكريمة لليل عنده في عالم اليقظة حيث يتخذ من الليل ستارا يخفيه عن أعين الرقباء، فيقول:
أزورهم وسواد الليل يشفع لى وأنثنى وبياض الصبح يغرى بي
وكم تغنى الشعراء بالليل؟ وكم حدا الحداة وهم سائرون في عبابه، مأخوذون بهيبته وجلاله؟.
وكم ناجى العبّاد ربهم بالليل، وقطعوا آناءه حمدا وتسبيحا، وركوعا وسجودا؟
إن الليل، وإن لم يستول على الإنسان سلطان النوم فيه، فإن في ظلامه غرصة تحجز الحواس عن الانطلاق، وتمسكها عن العمل، وعندئذ تصحو
503
شاعر الإنسان، وتستيقظ روحه، ومن هنا يكون مهيئا للانصال بالعالم العلوي، والوقوف على موارده، والري من مشاربه..!
ولأن الليل هو الظرف الطبيعي للنوم- كما قلنا- فقد أقسم الله سبحانه وتعالى به، وسمى سورة من القرآن الكريم به، تنويها بقدره، وإشارة ترفع تلك الغشاوة التي تنظر إليه نظرة باردة، أو شاردة، أو متهمة.. فقال تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» (١- ٢ الليل) وقال سبحانه: «وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها، وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها» (١- ٤: الشمس) وقال سبحانه: «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» (١٧: الانشقاق).
- وفي عطف النهار على الليل في قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ» - تقرير لتلك الحقيقة الواقعة، وهى أن الليل، وإن كان هو الظرف الطبيعي للنوم، فإن ذلك لا يمنع أن يكون النهار ظرفا للنوم أيضا، حيث ينام الناس بالليل، وينامون كذلك بالنهار، وإن كان النوم بالليل أصلا، والنوم بالنهار فرعا... ولهذا قدم الليل على النهار في هذا المقام..
ومن جهة أخرى، نجد في قوله تعالى: «وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» وإن جاء مجاورا للنهار، فإنه معطوف على قوله تعالى: «مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ».. وهذا يعنى أن النهار، وإن كان الظرف الطبيعي للسعى والعمل، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون الليل ظرفا للسعى والعمل! كما هو واقع في الحياة. فالناس يعملون بالنهار، ويعملون بالليل، كما ينامون بالليل، وينامون بالنهار..
وعلى هذا يكون مفهوم النظم القرآنى هكذا: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله، بالليل والنهار.
ولكن أين هذا من ذاك؟ هذا كلام، وذاك قرآن..!
504
وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» وفي استدعاء السمع هنا، دون حواس الإنسان وملكاته الأخرى- فى هذا إشارة إلى أن السمع الذي يحقق إدراكا، ويعطى فهما، ثم يعطى لهذا الفهم، وذلك الإدراك، ثمرة- هو السمع الذي يخلى له الإنسان حواسه كلها، ويعطيه وجوده كله، على ما يكون عليه الإنسان في الليل، وقد اشتمل عليه، وأمسك كل حواسه، فلم يبق الإنسان إلا سمعه المرهف، الموجه إلى العالم الخارجي، وما يجىء منه... وذلك ما يكون عليه الإنسان، حين يقع تحت حكم الآية:
«وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ»، فيحتويه الليل، ويبسط عليه سلطانه.
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».
مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها، أنهما جميعا في معرض الدلالة على قدرة الله سبحانه، والكشف عن أنعمه وآلائه.. ثم إن البرق إنما يظهر سلطانه على أئمّه، حين يلمع بالليل الذي جاء ذكره في الآية السابقة.
ورؤية البرق، إشارة دالة على الرحمة المرسلة من عند الله، على يد هذا السحاب الذي ينطلق البرق من خلاله.. فإذا لمع البرق توقع الناس الغيث، واختلفت توقعاتهم له بين يأس ورجاء، وخوف وطمع.. وذلك أن البرق وإن كان رسولا من رسل الغيث، إلا أنه قد يحىء بالغيث، وقد لا يجىء.. فهناك برق يسمى برق الخلّب، وهو الذي يبرق ولا يصحبه مطر.. ومن هنا كان قوله تعالى: «خَوْفاً وَطَمَعاً» - إشارة إلى أن لمعان البرق، وإن طلع على
505
الناس بما يبشر بالغيث، فإنّه يضع المشاعر المترقبة للمطر، المتلهفة عليه، فى موضع متأزم، بين الخوف والرجاء.. بل إن الخوف ليغلب على الرجاء، وخاصة إذا كانت الحاجة إلى المطر شديدة، والطلب له ملحا وهذا هو بعض السرّ في تقديم الخوف على الطمع.. إذ كانت الآية الكريمة منجهة أوّلا إلى من يقيمون حياتهم على ماء المطر، مثل سكان الصحارى، ونحوها. فهؤلاء إذا تأخر نزول المطر أياما، وأمسكت السماء رحمتها قليلا عنهم، فزعوا، واضطربوا، وتعلقت أنظارهم بالسماء، يرقبون السحب، ويرصدون مسيرتها.
فإذا لمع البرق، بدا لهم منه الوجه الضاحك المبشر بالخير، فقرحوا، واستبشروا..
ولكن سرعان ما يطلع عليهم شعور أسود كالح، يقطع عليهم هذه الفرحة، كأنه يقول لهم: وما يدريكم أن وراء هذا البرق مطرا؟ ألا يجوز أن يكون برفا خلبا؟ وهنا يأخذ الخوف مكان الصدارة على مشاعرهم، شأن الحريص على الشيء، المتلهف إليه... يغلب عليه الخوف على فقده أكثر من الطمأنينة إلى بقائه!.
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» قيام السماء والأرض بأمر الله، هو حفظ نظامهما، والإمساك بهما على هذا النظام الذي أوجدهما الله سبحانه وتعالى عليه.. وأمر الله، هو سلطانه وقدرته. ، وهذا يعنى أنه إذا ساغ لتفكير إنسان أن يضيف هذا الوجود، فى أرضه وسمائه إلى غير الله سبحانه، كما يقول بذلك الملحدون من الطبيعيين الذين ينسبون الموجودات إلى الطبيعة، ويقولون إن الأشياء وجدت هكذا بطبيعتها- نقول إنه إذا ساغ لتفكير إنسان أن يقول مثل هذا القول،
506
فكيف يسوغ له أن يقول إن هذا التجاوب بين الموجودات، وهذا النظام الذي يمسك بها، ويولّف منها نغما موسيقيا منسجما- هو من عمل الطبيعة ذاتها؟ إن هذا يعنى أن الطبيعة عاقلة، حكيمة، مدبرة، عالمة، قادرة.. وهذه هى بعض صفات الألوهية.. فلم تسمّى إذن الطبيعة طبيعة، ولا تسمى إلها؟
إن المسافة قريبة جدا هنا بين الطبيعة وبين الإله.. وإنه لأقرب إلى العقل والمنطق أن يقوم على الموجود مدبّر واحد، يولف بين وحداته، ويجمع بين أشتاته، بدلا من قيام مدبرات تقوم في وحدات الطبيعة، وتجعل منها نظاما واحدا! - وفي قوله تعالى: «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ».
إشارة إلى أن أمر الله وسلطانه، الذي تقوم به السموات والأرض، أن تدعوا من القبور بعد موتكم، دعوة واحدة، فإذا أنتم قيام تنظرون..
وهذا يعنى أن البعث بعد الموت، نظام قائم في هذا الوجود، أشبه بنظام دوران الكواكب في أفلاكها، والليل والنهار في فلكهما.
وفي العطف «بثم» إشارة إلى أن هذه الدعوة التي يدعى بها الموتى لم يجى وقتها بعد، وأنها أمر مستقبل، لا يعلم أحد متى يكون.. وإن كان من المعلوم أنها لا تقع إلا بعد أن يموت الناس جميعا.. وفي تصدير الجملة الخبرية «إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» بأداة المفاجأة «إذا» - إشارة إلى أن البعث من القبور سيعقب الدّعوة مباشرة، بلا مهل... كما يقول سبحانه: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» (٥١: يس). والفجاءة إنما نقع على أولئك الذين لا يرجون بعثا، ولا يؤمنون بالحياة الآخرة..
ولهذا فهم إذا بعثوا أخذهم الدهش والعجب، وقالوا ما حكاه القرآن الكريم عنهم: «يا وَيْلَنا.. مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» (٥٢: يس)..
507
قوله تعالى:
«وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ».
القانت: الخاضع المستجيب لغيره، طوعا.
والآية تعقيب، على الآية السابقة، وأن هذا الوجود في سمائه وأرضه، هو خاضع لأمر الله، مستجيب له.. وأن الموتى إذا دعوا من قبورهم لا يملكون إلا أن يستجيبوا لما دعاهم إليه سبحانه وتعالى: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (٩٣: مريم) وفي التعبير عما في السموات والأرض من مخلوقات، بلفظ «من» التي للعقلاء- إشارة إلى أن هذه الموجودات، محكومة بنظام، مسيّرة بحكمة وعلم، حتى لكأن في كل كائن منها عقلا مدبّرا، وموجّها.. فهى بهذا الاعتبار، عاقلة، مدركة!..
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».
وهذه الآية تعقيب كذلك على الآية السابقة، وهى تقرر أن من له من في السموات والأرض، هو الذي بدأ الخلق، وهو الذي يعيده كما بدأه..
والمراد بالخلق هنا، المخلوقات كلها.. وهذا يعنى أن الوجود في حركة دائمة، وفي هدم وبناء مستمرّين.. وأن الوجود في أية لحظة، هو على غير صورته في اللحظة السابقة أو اللاحقة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ».. فمعنى الهلاك هنا هو التحول، والتبدل، وتغاير الصور والأشكال، وليس معنى الهلاك الفناء المطلق... إذ أن المادة لا تفنى، وإنما تتبدّل وتتحول، وتأخذ قوالب مختلفة! وكذلك ما جاء في
508
قوله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» هو من هذا المعنى، وأن الفناء هو زوال صور الأشياء، وقوالبها وأخذها صورا وقوالب أخرى.. فعملية الخلق مستمرة دأبا، وتقابلها من جهة أخرى عملية الموت، أو البلى، أو الفناء، أو الهلاك..
وكلها هنا بمعنى واحد، وهو التحول والتبدل، لا الفناء المطلق الأبدى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» (١٠٤: الأنبياء).
وقوله تعالى: «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ».
«أهون» صيغة تفضيل، وأصله من هان الأمر، أي خف بعد ثقل، وأمر هين: خفيف الحمل، قليل المئونة، ومنه قوله تعالى: «قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ».
وليس بالإضافة إلى الله سبحانه وتعالى، ما هو هين، وأهون منه.. فكل شىء في قدرة الله، لا يعجزه سبحانه، شىء في الأرض ولا في السماء.. لا يتكلف- سبحانه وتعالى- لأمر جهدا.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».. يستوى في هذا كبير الأمور وصغيرها.. السموات والأرض ومن فيهن، هى في قدرة الله كالذرة أو البعوضة.. «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ».
فهذا التفضيل «أهون» - منظور فيه إلى قدرة الإنسان، وإلى ما يقوم على صنعه من أشياء.. فاختراع الشيء، لا يتوصل إليه الإنسان إلا بعد جهد، ومعاناة، وتبديل وتغيير، وتسوية، وحذف وإضافة، حتى يستقر الشيء على الصورة التي يرتضيها. ، فإذا انتهى الإنسان إلى تلك الصورة، كان حلها وتركيبها، أمرا هينا عنده، لا يتكلف له جهدا.. إن مثال الصورة قائم بين يديه، وحاضر في تفكيره، وما عليه إلا أن يضع الأجزاء
509
التي تناثرت أشلاؤها، فى هذا القالب، فإذا الصورة قائمة على ما كانت عليه...
- وفي قوله تعالى: «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» - إشارة إلى أن قوله تعالى: «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» هو من قبيل التمثيل، بضرب هذا المثل الله، منتزعة صورته من أفعال الخلق، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. فهو سبحانه: «العزيز» الذي تعنو لعزته وسلطانه كل عزة، وكل سلطان، ويستجيب لقدرته كل موجود في هذا الوجود..
«الحكيم» الذي تقوم عزته، ويعمل سلطانه، ويمضى حكمه- بالحكمة والعدل، والإحسان.
الآيات: (٢٨- ٣٢) [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٢]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
510
التفسير:
قوله تعالى:
«ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».
هذا مثل آخر، ضربه الله سبحانه، من واقع الناس، وعلى مستوى وجودهم فيه، ليروا من خلال هذا المثل ما ينبغى لله من كمال.
ففى الآية السابقة على هذه الآية، وهى قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» مثل مضروب من واقع الناس في حياتهم، وهو أن تشكيل الأشياء على صورة معروفة للناس، أهون عليهم من ابتداع هذه الصورة، واختراعها.. وكذلك- مع بعد ما بين قدرة الله وقدرة الناس- يكون بعث الموتى من قبورهم، وإعادتهم إلى الصورة التي كانوا عليها، ليس أمرا مستبعدا، حتى ينكره المنكرون، ويمارى فيه الممارون، إذ كان ذلك البعث إعادة للشىء إلى ما كان عليه، وإعادة الشيء- كما هو معروف عندهم ومسلّم به لديهم- أهون وأيسر من خلقه ابتداء..
وفي هذه الآية مثل للذين يجعلون لله أندادا، ويتخذونهم أربابا، يحبونهم كحب الله، بل ويؤثرونهم بالحب والولاء... !
وفي هذا المثل يطلب إلى المشركين أن ينظروا إلى أنفسهم، وإلى الوضع الذي بينهم وبين عبيدهم، وما ملكت أيمانهم.. أيرضى هؤلاء السادة أن يسلّموا لعبيدهم- وهم بشر مثلهم- أن يشاركوهم فيما أتاهم لله من مال ومتاع؟
وأن يقفوا منهم موقف الند والشريك؟ وأن يحاسبوهم فيما يجرون عليه من
511
تصرفات في هذا المال وذلك المتاع؟ أيقبل السيد أن يكون لعبده يد على ما ملكت يده فلا يتصرف في شىء حتى يأخذ رضاه وموافقته؟ ذلك مالا يرضاه ولا يقبله سيد! وإلا فأين السيادة؟ وأين سلطانها المبسوط على ما بين يديها؟.
هذا، والأمر يجرى بين مخلوقين لله، من سادة وعبيد، وفي مال الله، وفيما رزق، وأنعم من نعم!.
فكيف إذا خرج هؤلاء المشركون عن دائرة أنفسهم، ينقلب هذا المنطق، حتى تنعكس هذه الصورة، وحتى يجعلوا خلقا من خلق الله، وعبيدا من عبيده، شركاء له، فيما ملك ملك خالص له، لم يفده من أحد، ولم يتلقه من مخلوق؟ كيف يقبل هذا الضلال عقل، ويطمئن إليه عاقل؟..
فهل مع هذا البيان الواضح المبين، ومع هذه الحجة الدامغة القاطعة، يقبل المشركون أن يكون مع الله شريك، يرجون رحمته، أو يخافون عذابه؟
قد يكون! وهو كائن فعلا، فما أكثر المشركين الذين عميت بصائرهم، وزاغت قلوبهم، فلم يروا، فى هذا البيان المبين، ولا في تلك الحجة القاطعة، ما يقيم لهم طريقا إلى الله..
وماذا تجدى الآيات، وماذا تغنى الحجج، إذا لم تجد الآذان المصغية، ولا العقول المدركة المستبصرة؟ «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»..
فالعقلاء وحدهم، هم الذين ينتفعون بآيات الله، ويهتدون بهديها، يتلقون العبرة والعظة منها...
قوله تعالى:
«بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ؟.
512
هو إضراب على ما يتلقاه المشركون من آيات الله المفصلة.. إنهم لا ينتفعون بها، ولا يجنون من ثمرها المبارك الطيب شيئا، بل يظلون على ما هم عليه من ضلال وشرك.. إنهم منقادون لأهواء غالبة عليهم، متسلطة على عقولهم.. ومن كان هذا شأنه، فلن ينقاد إلا بمقود هواه، ولا يستجيب إلا لنداء شيطانه..
وفي قوله تعالى: «بِغَيْرِ عِلْمٍ».. إشارة إلى أن هذا الهوى المتسلط على المشركين، هو هوى أعمى عمى مطبقا، لا تنفذ إليه شعاعة من ضوء النهار الساطع... فقد يكون الإنسان متبعا هواه، ثم إذا نبّه تنبّه، وإذا أرشد رشد... شأن كثير من المشركين، الذين عاشوا في شرك الجاهلية، مستسلمين لأهوائهم، فلما أدركهم الإسلام، وطلعت عليهم شمسه، صحوا من نومهم، واستقبلوا نور الله، فأبصروا من عمى، واهتدوا من ضلال...
وقوله تعالى: «فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ».. إشارة إلى هؤلاء المشركين الذين جمدوا على شركهم، وأقاموا على ضلالهم، وأنهم لن يتزحزحوا عما هم عليه من ضلال، ولن يخرجوا عما هم فيه من شرك، لأن الله سبحانه وتعالى قد أركسهم في هذا الضلال، وأغرقهم في هذا الشرك، وخلّى بينهم وبين أهوائهم: «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ».. إنهم لن يقبلوا هدى، ولن يطبّ لدائهم طبيب.. وهكذا يعيشون في ضلالهم، ويموتون به... فإذا جاء وعد الله، ووقفوا موقف الحساب والمساءلة، لم يكن لهم من جزاء إلا النار: «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» يدفعون عنهم بأس الله.
قوله تعالى:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها.. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» :.
513
هو أمر للنبىّ الكريم، أن يمضى على طريقه، وأن يدع هؤلاء المشركين وما أركسوا فيه..
وإقامة الوجه للدّين هو، اتجاه القاصد إليه، بكل كيانه، من غير التفات إلى شىء غيره.. والخطاب، وإن كان خاصا للنبىّ، فإنه عام، يدخل فيه كل مؤمن.
- وقوله تعالى: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» هو جملة تفسيرية، للدين الحنيف.. ففطرة الله، منصوب بفعل محذوف تقديره، أعنى، أو أريد، أو نحو هذا.. فالدين الحنيف، وهو الإسلام، هو فطرة الله التي فطر الله الناس عليها، وخلقهم على استعداد فطرى لقبول هذا الدين، كما يقول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه».
وهذا التأويل- والله أعلم- هو أولى من نصب «فطرة الله» على الإغراء، بتقدير لزم فطرة الله، أو نحو هذا.. لأن ذلك يقطع الصلة بين الدين الحنيف وفطرة الله، ويجعل كلا منهما كيانا مستقلا، على حين يجعلهما التأويل الذي تأولناه، شيئا واحدا.. وهو الأولى! وفطرة الله، هى ما أودع الله سبحانه وتعالى في الإنسان من قوى عاقلة، وطبيعة سليمة، فى أصل الخلقة، تقبل الطيب، وتنفر من الخبيث.. وهذا هو ملاك أمر الدين، دين الله، الذي ارتضاه لعباده..
514
الآفات، وذلك بما يحمله رسل الله من آيات الله، وما في هذه الآيات من هدى ونور..
- وقوله تعالى: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ».. هو خبر، مراد به الأمر..
والتقدير، لا تبدّلوا خلق الله، وهو الفطرة، ولا تفسدوا هذا الخلق السوىّ، بما تدخلون عليه من أهواء، بل عليكم بحراسة هذه النعمة، وعرضها على هدى الله، إذا طاف بها طائف من الضلال.
- وقوله تعالى: «ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ».. الإشارة هنا إلى الدين، فى قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً».. والدين القيم، هو الدين المستقيم على فطرة الله التي فطر الناس عليها..
- وقوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».. الناس هنا هم المشركون، الذين عموا عن أن يروا هذه الحقيقة، وأن يقع لعلهم أن هذا الدين هو الدين المطلوب للفطرة، المتجاوب معها.
قوله تعالى:
«مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ- مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»..
المنيب: الراجع إلى الله، المتجه إليه، المقيم وجهه لدينه، مجافيا كلّ دين غيره..
و «منيبين».. كلام مستأنف، هو إجابة عن سؤال مقدّر، دلّ عليه ما سبق، وهو قوله تعالى: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ».. وذلك أنه لما كان قوله تعالى: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» خبرا يراد به الأمر، أي لا تبدّلوا خلق الله- وقع في نفس الذين سمعوا هذا الأمر، وأرادوا الاستجابة له، سؤال، هو: كيف نتصرف حتى لا نبدّل خلق الله؟ فكان الجواب: أنيبوا
515
إلى ربكم، واتقوه، وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين»..
فقوله تعالى: «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ..» هو في تقدير أنيبوا إلى الله، ولذا عطف عليه فعل الأمر: «وَاتَّقُوهُ»..
هذا، وإذا كانت قواعد النحو لا تتسع لهذا التحريج، فإن أسلوب القرآن لا تحكمه قوالب النحو، على ما انتهى إليه اجتهاد المجتهدين في ضبط قواعده..!
وإذا كان لا بد من احترام هذه القواعد، فإن في مجال التخريج متسعا، لقبول كل شارد ووارد.. وبهذا فإن لنا أن نقول: إن «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» منصوب بفعل محذوف تقديره: كونوا «منيبين إليه» أو نحو هذا..
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»..
معطوف على «منيبين» الذي هو في قوة فعل الأمر، أو على فعل أمر مقدر..
والإنابة إلى الله، هى الرجوع إليه، وذلك بتصحيح الفطرة، ومعالجة كل ما عرض لها من آفات، ولهذا جاء بعد ذلك، الأمر بتقوى الله، وإقامة الصلاة حيث يلتقى هذا الأمر مع فطرة سليمة، أناب أصحابها إلى الله، ورجعوا إليه، بعد أن بعدت بهم الطريق عنه.
وقدّم الأمر بالتقوى على إقامة الصلاة، لان التقوى، وهى خوف الله وخشيته، هى التي تجعل للصلاة ثمرتها.. فالصلاة، وأية عبادة من العبادات، أو قربة من القربات، لا محصّل لها إلا إذا كانت عن إيمان بالله، ومعرفة به، وولاء وخشوع لجلاله وعظمته، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» وقوله سبحانه: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى».
516
وقوله تعالى:
«مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»..
هو بدل من قوله تعالى: «مِنَ الْمُشْرِكِينَ».. أي ولا تكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم باختلافهم فيه، حتى تفرقهم شيعا وأحزابا.. لأنهم يدينون بالباطل، والباطل وجوه كثيرة، وطرق متشعبة، فبعضهم يعبد هذا الضم أو ذاك، وبعضهم يعبد النار، وبعضهم يعبد الملائكة، وبعضهم يعبد الشمس والقمر.. ولكل جماعة مع معبودها أسلوب عبادة، وطقوس صلوات وقربات، وهى عند نفسها أنها على الهدى، وأن كل ما سواها في ضلال وخسران..
وليس هكذا الحق، فإنه وجه واحد، وطريق واحد..!
الآيات: (٣٣- ٤٠) [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٣ الى ٣٩]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)
517
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ».
تشير الآية الكريمة إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، والتي هى حظ مقسوم في الناس جميعا، يولدون بها كما يولدون على هذه الصورة الإنسانية، وما فيها من جوارح، وما في كيانها من قوى عقلية، ونفسية، وروحية، ثم تمضى بهم الحياة، فيختلفون أشكالا، ويتعددون صورا وأنماطا، فى ألسنتهم، ومدركاتهم، ومشاعرهم..
وهناك حال واحدة، تأخذ فيها الفطرة مكانها في الناس جميعا، حتى أولئك الذين أفسدوا فطرتهم بكفرهم وضلالهم- تلك الحال هى ما يلبس الناس من ضر، وما ينزل بهم من بلاء وكرب.. ففى تلك الحال، يعود الإنسان إلى فطرته، أو تعود إليه فطرته، وإذا هو- من غير حساب أو تقدير، وعلى غير وعى أو إدراك- قد فزع إلى الله، ولاذبه من وجه هذا البلاء المطل عليه..
وفي هذه التجربة التي يمر بها كل إنسان مرات كثيرة في حياته، شاهد يقوم في كيان الإنسان، يشهد بأن الله في ضمير كل إنسان، وفي وجدان كل
518
كافر، ومشرك، وإن كان هو ينكر ذلك، ولا يعترف به.. ولكن إذا مسه الضر، وكربه الكرب، أخذته صحوة كصحوة الموت، وإذا نفسه قد أشرقت بنور الحق، فعرف الله ومد يده إليه.. ولكن سرعان ما يخبو هذا النور، ويطغى عليه ظلام كثيف، حين تزال عنه هذه الغاشية، وتزايله تلك الصحوة، وإذا هو على ما عهد عليه نفسه من كفر وضلال...
وقوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» تقرير لهذه الحقيقة التي أشرنا إليها، وأن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم على سواء في اللّجأ إلى الله، والضراعة إليه، حين ينزل بهم الضر، ويحتويهم البلاء.. ثم تختلف بهم الحال بعد هذا، كما كانت حالهم مختلفة من قبل.. فالمؤمنون على اتصال بالله في السراء والضراء، وعلى إيمان به وولاء له، فى اليسر والعسر.
أما غير المؤمنين فإنهم لا يعرفون الله، ولا يؤمنون به، إلا حين تضطرب بهم سفينة الحياة، ويغشاهم الموج من كل مكان..
هنالك يدعون الله مخلصين له الدين، كما دعا فرعون ربه، وآمن به حين أدركه الغرق!.
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ».
تصوير لحال هؤلاء الكافرين بالله، حين يرفع عنهم البلاء، وتتداركهم رحمة الله.. إنهم لا يكادون يخرجون من يد الهلاك، حتى ينسوا ربهم الذي دعوه من قبل، وكأنهم لم يكن بينهم وبينه شىء! وفي العطف «بثم» بين الفزع إلى الله، وبين الغوث، واستجابة الدعاء، إشارة إلى أنه ليس في كل غوث يغاث المستغيثون.. فذلك مرهون بتقدير الله وحكمته، وفيما قضى به في عباده..
519
ثم إن الاستجابة، إذا وقعت لا تقع على حسب تقدير الإنسان لحدود زمانها، ولا للصورة التي تقع عليه.. فذلك أيضا، مرهون بتقدير الله، وعلمه، وحكمته.. وهذا مما يبتلى به العباد.. فالمؤمنون يدعون الله تضرعا وخفية، ولا ييأسون من روح الله ورحمته أبدا.. حتى أنه إذا لم يستجب لهم، ووقع ما يكرهون، أصبح هذا المكروه عندهم محبوبا مستساغا، لأنه من عند الله، وبتقدير الله، وبإرادته فيهم.. أما الذين لا يؤمنون بالله، فلا يزيدهم ذلك إلا كفرا بالله، وبعدا عنه..
- وفي قوله تعالى: «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» - «إذا» هنا فجائية، وهى ذات دلالتين:
أولاهما: مبادرة المشركين والضالين، وإسراعهم إلى ما كانوا عليه من شرك وضلال:
وثانيتهما: أن ذلك خروج على غير المنتظر، من قوم كانوا إلى لحظات قليلة يتجهون إلى الله، ثم إذا هم يحولون وجوههم عنه، لا لسبب، إلا ما ساق إليهم الله من خير، وما مسهم به من رحمة!! وهذا أمر يثير العجب، والدهش والاستغراب.. أفهكذا يقابل الإحسان، ويستقبل الفضل؟ ولكن متى كان للعمى أن يبصروا، وللصم أن يسمعوا؟
وفي قوله تعالى: «مِنْهُمْ» أي من الناس، والمراد بالفريق، المشركون الضالون.
وفي إضافة المشركين إلى «ربهم» - إشارة إلى فداحة هذا الظلم، الذي ركبه هؤلاء المشركون، فجحدوا نعمة ربهم، الذي استجاب لهم، ودفع البلاء عنهم!.
520
قوله تعالى:
«لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ».
اللام في «ليكفروا» هى لام التعليل، فشركهم بالله، هو علّة لكفرهم بما آتاهم الله من نعم، فهم بهذا الشرك. ينكرون نعم الله عليهم، ولا يضيفونها إليه، بل يجعلونها لمعبوداتهم التي يعبدونها من دون الله..
وفي قوله تعالى: «فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» انتقال من الغيبة إلى الخطاب، حيث يواجه هؤلاء المشركون بهذا الوعيد من ربّهم.. فليتمتعوا بما هم فيه، وسوف يعلمون ما يجره عليهم كفرهم وشركهم من بلاء شديد، وعذاب أليم.
قوله تعالى:
«أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ».
السلطان: الحجة، البرهان..
وفي الآية إضراب عن خطابهم، وعن الحديث إليهم، وإبعادهم من مقام الحضور، بعد أن تلقوا هذا الوعيد الشديد.. ثم التفات إلى من هم أهل للخطاب من المؤمنين، ليحاكم هؤلاء المجرمون أمامهم.. إنهم أشركوا بالله، فما الحجة التي بين أيديهم على هذا الشرك؟ أأنزل الله عليهم كتابا ينطق بهذا الضلال الذي هم فيه؟ أم قام فيهم رسول من عند الله يدعوهم إلى هذا الذي يدينون به؟ ما برهانهم على هذا؟ وما الحجة التي بين أيديهم والتي يعبدون هذه المعبودات عليها؟ إنهم مطالبون بأن يقيموا على هذه المعبودات حجة، من عقل، أو كتاب، أو رسول... وإلّا فهو الضلال المبين، والمصير المشئوم. «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (١١٧ المؤمنون).
521
قوله تعالى:
«وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ».
الناس هنا، هم مطلق الناس.. فإن من شأن الإنسان من حيث هو إنسان، إذا أذاقه الله من رحمته، وأفاض عليه من نعمه.. فرح، ورضى.. وإن أصابه سوء تكرّه، وساء ظنّه، وطاف به طائف اليأس والقنوط! «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» (١٩- ٢٣ المعارج) والناس في هذا درجات متفاوتة.. فالمؤمنون، على حال غير حال المشركين والكافرين..
ثم إن المؤمنين ليسوا على حال واحدة.. بل هم درجات.. والدرجة التي يتحقق بها إيمان المؤمن على صورة سويّة محمودة، هى ألا يستبدّ به الفرح إذا لبسته نعمة، وألا يدخل عليه اليأس والقنوط من رحمة الله إذا مسّه ضرّ، وأصابه سوء.. فهو على رجاء أبدا من رحمة الله، وإنه- وهو في البلاء- ليستسيغ طعمه، وينزله منزل الرضا والتسليم من نفسه.. مفوضا أمره إلى الله، راضيا بما قسم الله له..
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».
الرؤية هنا بصرية، وعلمية معا.. أي أنها رؤية بالنظر في وجوه الحياة وفي أحوال الناس، ومن هذه الرؤية يجىء العلم الذي يرى منه المبصرون أن
522
الله سبحانه لم يجعل الناس على سواء، فيما قدّر لهم من أرزاق في هذه الدنيا، كما يقول سبحانه: «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا..» (٣٢: الزخرف) فهذا العلم الذي يجىء به النظر في أحوال الناس، وفي اختلاف أرزاقهم- يدلّ على أن ذلك لم يكن إلا بإرادة عليا، وعن تقدير لمالك الملك، المتصرف فى العباد.. فيبسط الله الرزق ويوسعه لبعض الناس، ويضيّقه ويقدره لآخرين، بحكمة وتقدير.. فالأرزاق بيد الله، يعطى منها ما يشاء لمن يشاء.. ذلك ما يعرفه المؤمنون بالله، ويرضون بما قسم الله لهم، فلا يبطر المؤمن إذا أصابته نعمة، ولا ييأس، أو يحزن، إذا قدر الله عليه رزقه.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».. أما غير المؤمنين فإنهم لا يرون لله في ذلك شيئا.. وإنما هى الدنيا، يقتتل فيها الناس، ويتخاطفون ما عليها، كما تتخاطف الذئاب فريسة وقعت لها.. فمن وقع ليده أو فمه ما يشبعه رضى واطمأن، ومن لم يقع ليده أو لفمه شىء، أغتمّ وحزن، ومات أسى وحسرة! وهذه الآية، هى أشبه بتعقيب على الآية التي قبلها، وهى قوله تعالى:
«وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ».. ذلك أنه لو نظر الإنسان إلى أحوال الدنيا وتقلبات الأيام، وتبدّل الأحوال بالناس، ثم كان له من هذا النظر عبرة وموعظة- لكان له من ذلك موقف رشيد حكيم مع ما يبتلى الله سبحانه، العباد، من نعم ونقم..
فإذا ساق الله تعالى إليه مزيدا من النعم والإحسان، لم يستبدّ به الفرح، ولم يأخذه الغرور، لأنه يعلم أن ذلك إنى تبديل، وتحويل، وزوال.. وأنه إذا مسه سوء، وأصابه ضرّ، لم يقتله الجزع، ولم يخنقه اليأس والقنوط، لأنه يعلم- بإيمانه بالله- أن تلك الحال لن تدوم، وأن مع العسر يسرا، وأن بعد
523
الضيق فرجا وسعة، كما يقول سبحانه «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» وكما يقول جل شأنه «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً».
قوله تعالى:
«فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» وهذه الآية كذلك تعقيب على سابقتها، لأنه إذا علم الإنسان علما يقينيا، أن الله هو الذي بيده كلّ شىء، وأنه هو سبحانه الذي يجرى أرزاق العباد كما شاء وقدّر- إذا علم الإنسان هذا العلم، سخت نفسه بالعطاء والبذل، وسمحت يده بالإحسان ببعض ما آتاه الله، وخاصة ما كان متعلقا بذي القربى، واليتامى والمساكين.. فهؤلاء لهم حقوق في أموال ذوى المال، وقد أوجبها الله لهم، فى تلك الأموال وجعل أداءها فرضا واجب الأداء، لا تبرأ الذمة إلا بأدائه.
وشتان بين إنسان يعلم أن هذا المال الذي في يده، ليس له فيه شىء، وأن سعيه وكدّه لم يحصّل له إلا ما قدّره الله، وبين من يرى أن هذا المال الذي جمعه هو ثمرة عمله وكدّه، حتى ولو كان وارثا له.. إنه ابن المورّث وكفى!.
فالأول لا يحرص كثيرا على هذا المال، ولا يضنّ به على الحقوق الواجبة لله فيما أعطاه الله.. لأنه إنما يعطى مما أعطاه ربّه، ولا يرى هذا المال الذي فى يده إلا وديعة لله عنده، يأكل منه بالمعروف، ويؤدّى ما أمره به الله تعالى فيه.. إنه ينظر إلى هذا المال على ضوء ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» (٧: الحديد) فهو خليفة لله» ووكيل
524
عنه، فى هذا المال الذي أعطاه الله، وليس للخليفة أن يخرج عن أمر من استخلفه، وما كان للوكيل أن يذهب مذهبا غير الذي رسمه له موكّله.
وأما الثاني، الذي يرى أن المال الذي معه، هو من جمعه، وكده، فإنه يتصرف في هذا المال تصرف المستبدّ بما يملك ملكا خالصا، لا يرى لأحد شيئا معه.. كذلك فعل قارون، وكان جوابه على من دعاه أن يبتغى بما آتاه الله الدار الآخرة، أن قال: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي!» (٧٨: القصص) وقوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» - الإشارة هنا إلى البذل والإنفاق، على ذوى القربى والمساكين وابن السبيل.. أي هذا الإنفاق فى هذا الوجه، هو خير مدخر، للذين يريدون بما أنفقوا وجه الله، ويبتغون مرضاته، بامتثال أمره، وهؤلاء هم المؤمنون بالله.. أما غير المؤمنين، فإنهم إذا أنفقوا في هذا الوجه، فلا ينالون بما أنفقوا خيرا، لأنهم لم ينفقوا ما أنفقوا وهم ناظرون إلى الله، مؤمنون به، ممتثلون أمره، وإنما أنفقوا ما أنفقوا إرضاء لنزعات نفوسهم، ووساوس خواطرهم..
وقوله تعالى: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» - الإشارة للمنفقين المؤمنين، الذين يريدون بما أنفقوا وجه الله، فهؤلاء يتقبل الله سبحانه وتعالى منهم ما أنفقوا، ويضاعف لهم الجزاء الطيب عليه.. كما يقول سبحانه: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (٢٧: المائدة) وكما يقول جل شأنه: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (٢٦: يونس) وكما يقول سبحانه: «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» (٣٧: سبأ).
525
قوله تعالى:
«وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ».
الربا: هو الزيادة والنماء.. يقال ربا الشيء يربو، أي نما وزاد، ومنه الربوة، وهى ما ارتفع على ما حوله من الأرض.
والربا، فى لسان الشريعة الإسلامية، هو القرض في مقابل عوض..
وقوله تعالى: «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ» - معطوف على قوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» - فهو في تقدير، ما أنفقتم من خير، وما آتيتم من مال لذوى القربى واليتامى والمساكين تريدون به وجه الله، فهو خير عند الله، تجزون به خيرا وتلقون فوزا وفلاحا.. وما آتيتم من مال تريدون به أن يربو ويزداد في أموال الناس، فلا يقبله الله، ولا يزكيه.. وقد سمى هذا المال المعطى، ربا، لأنه أعطى وهو منظور إليه على أنه يربو ويزيد، ثم يعود إلى صاحبه أضعافا مضاعفة..
- وفي قوله تعالى: «لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ» - إشارة إلى أن ربا هذا المال، إنما يربو ويزداد بما يأكل من أموال الناس.. لأنه إنما يربو ويزداد من أموال من أخذوه، ويرعى في أموالهم، ويلتهمها التهاما.. فهو آفة تدخل على الذين يأخذونه، فيغتالها، ويعيث فسادا فيها، ويرعى كل صالحه منها..
وهذا يعنى أن الذين يقترضون بالربا إنما يجنون على أنفسهم، بهذا الوباء الذي يدخلونه عليهم، ويخلطونه بأموالهم..
- وقوله تعالى: «وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ
526
الْمُضْعِفُونَ»
- أي أن ما يعطى من مال قرضا حسنا، بلا مقابل وعوض، هو عمل من أعمال البر، يتقبله الله ويضاعفه للمقرضين، فيبارك عليهم هذا المال، فى الدنيا، ويجزيهم الجزاء الحسن عليه في الآخرة.. هذا إذا كان مرادا به وجه الله، ومعطى من يد مؤمنة بالله، تريد بهذا القرض، تفريج كرب المكروبين، وسدّ حاجة المحتاجين.. أما إذا كان القرض لغير هذا الوجه، فلا مكان له في الصالحات من الأعمال عند الله..
الآيات: (٤٠- ٤٥) [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٠ الى ٤٥]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ.. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ».
527
عادت الآيات، تتحدث عن المشركين، وتضعهم موضع المساءلة مرة أخرى، لتكشف لهم عما هم فيه من سفه وضلال.. وأنهم وقد طولبوا من قبل أن يأتوا بحجة وبرهان على ما يعبدون من دون الله.. إذ يقول سبحانه..
«أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» ؟.
وأما وقد خلت أيديهم من هذا السلطان المطالبين به، من كتاب سماوى أو رسول إلهى- فقد جاءتهم آيات الله تدعوهم إلى أن يبحثوا عن هذا السلطان في داخل أنفسهم، وأن يدبروا عقولهم- إن كانت لهم عقول- إلى مظاهر الوجود وحقائقه.. فإن في كل مظهر من مظاهره، وفي كل حقيقة من حقائقه، سلطانا، وبرهانا على المعبود الحق الذي يجب أن يعبد..
إنه الله، الذي خلق الخلق ورزقهم، وإنه الله، الذي يميتهم ثم يحييهم.. فهل من معبودات المشركين من يفعل شيئا من ذلك؟ هل من آلهتهم تلك، من له مشاركة في خلقهم؟ وهل من آلهتهم تلك، من له مشاركة في رزقهم؟ وهل تملك آلهتهم تلك، إماتتهم أو بعثهم بعد موتهم؟.
هذه أسئلة ينبغى أن يجيبوا عليها.. فإن كان جوابها إيجابا- وهيهات- كان ذلك حجة لهم، وبرهانا مبينا، يعبدون به تلك الآلهة عليه، ويعطون ولاءهم خالصا لها.. وإن كان الجواب سلبا، وهو- الواقع- فقد سقطت الحجة، وضل البرهان، وكان عليهم أن ينفضوا أيديهم من تلك الآلهة، وأن يجلوها عن عقولهم، وأن يلفظوها من مشاعرهم.. وإلا فهو الضلال والعمى، وهو الضياع، والهلاك..
إنها قضية منطقية.. قامت مقدمتها على فرض، هو: هو أن الألوهية لمن يخلق ويرزق، ويميت ويحيى.. والله هو الذي يخلق ويرزق، ويميت ويحيى.. فهل من معبوداتكم من يفعل شيئا من هذا؟ إنها لا تفعل شيئا..
528
وإذن فلا مدخل لها إلى الألوهية.. وإذن فالله وحده هو المتفرد بها، لا شريك له.. «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» أي تنزه سبحانه، وتعالى علوا كبيرا عن أن يكون له ندّ من هؤلاء المعبودين الذين يعبدونهم من دونه..
قوله تعالى:
«ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».
هذا الفساد الذي ظهر على هذه الأرض، وشمل برّها وبحرها، هو من صنع الناس، لأنهم هم الخلفاء عليها، وهم أصحاب الإرادات العاملة، فيها.. إن كل ما على هذه الأرض من كائنات، إنما تتحرك حركة منبعثة من طبيعتها التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيها، دون أن تخرج عليها..
ولهذا كان كل نوع من الكائنات على طريق واحد، لا اختلاف فيه بين فرد وفرد.. والإنسان وحده، هو الذي يعيش في الجماعة الإنسانية ذاتا مستقلة، لها تفكيرها، ولها أسلوبها في الحياة..
ومن هنا كان التغيير والتبديل في المجتمعات الإنسانية، وكانت الحروب الدائرة بينها، وكانت هذه الانحرافات والضلالات في العقائد والمعاملات، من كفر بالله، وكذب، وغش، وخداع، ونفاق.. إلى غير ذلك مما تمتلىء به دنيا الناس من مساوئ ومقابح..
وفي قوله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» - إشارة إلى أن هذا الفساد طارئ على هذه الأرض، لم تكن تعرفه قبل ظهور الإنسان فيها..
فلما ظهر الإنسان، ظهر الفساد..
وليس معنى هذا أن الإنسان هو عنصر الفساد في هذه الأرض، إذ لو كان
529
ذلك كذلك، لما استحق أن يكون خليفة الله فيها.. ولكن هذا يشير إلى أن أصل الخلقة الموجودات كلها، ومنها الأرض، قائم على الصحة والسلامة، شأنها في هذا شأن الإنسان في أصل خلقه، وما أودع فيه الخالق- جل وعلا- من فطرة سليمة.. وكما أفسد كثير من الناس فطرتهم، أفسد الناس كذلك فطرة الطبيعة، واتخذوا كثيرا من أدواتها الصالحة النافعة أدوات للإفساد، والتدمير.. وإلى هذا المعنى يشير المتنبي بقوله:
وهذه الفطرة، تعرض لها عوارض كثيرة تشوّه معالمها، أو تفسد طبيعتها، شأنها في هذا شأن حواس الإنسان، من سمع، وبصر، وذوق، ولمس، وشم وكما أن لما يعرض للحواس من آفات، دواء تداوى به، كذلك جعل الله سبحانه للفطرة ما تتداوى به، إذا هى أصيبت بآفة من
كلّما أنبت الزمان قناة ركّب المرء في القناة سنانا
ومع هذا، فإنه لا ينكر فضل الإنسان وآثاره العظيمة في هذه الدنيا، وما أقام على وجه الأرض، من عمران، وما أحدث، من حضارات.
وقوله تعالى: «بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» - إشارة إلى أن هذا الفساد والاعوجاج الذي ظهر على هذه الأرض، هو مما كسبته أيدى الناس، فهو من صنعهم، ومن فعل إرادتهم الحرة.. ولهذا، فهم محاسبون عليه، مؤاخذون به.. فالباء هنا للسببية، أي بسبب ما كسبت أيديهم...
وفي قوله تعالى: «لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» - تقرير لتلك الحقيقة، وهى أن ما يعمله الناس، هو محسوب عليهم، مجزبّون به، من خير أو شر...
وليس كذلك ما تعمله الكائنات الأخرى التي تعيش مع الناس على هذه الأرض.. إن ما تعمله لا إرادة لها فيه، شأنها في هذا شأن البذرة تدفن في الثرى، فيخرج منها ما في طبيعتها من زهر وثمر..
ومن هنا كانت مسئولية الإنسان عن كل عمل يعمله، ليذوق ثمر ما يعمل، حلوا كان أو مرا.. «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» (٣٩: النجم).
530
والآية هنا، إنما تنبه إلى الأعمال السيئة، التي من شأنها، الإفساد في الأرض، والتي كان من شأن الإنسان العاقل أن يتجنبها، ويعمل ما هو خير، وما هو حسن...
وفي قوله «لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى- فضلا منه وكرما وإحسانا- لم يجز الناس بكل ما عملوا من شر، بل ببعض ما كسبوا منه، حتى يكون، لهم من ذلك زاجر يزجرهم، وأدب سماوى يأخذون منه العبرة والعظة، وليرجعوا إلى الله من قريب، ويستقيموا على طريق الخير والإحسان...
ولو آخذ الله الناس بما كسبوا، لأهلكهم جميعا، بل وأهلك معهم كل دابة تدب على ظهر الأرض، وفي هذا يقول سبحانه: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (٤٥: فاطر) وإنه ليكفى أن يدين بعض الناس بغير دين الله، وأن يتخذوا من دونه أولياء، وأن يدعوا له ولدا، أو شريكا.. فذلك ذنب عظيم: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» (٩٠: مريم).
قوله تعالى:
«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ».
هو تهديد للمشركين من قريش، وأن مصيرهم، هو مصير المشركين من قبلهم، وما أخذهم الله به من عذاب، وما أرسل عليهم من مهلكات.
وفي قوله تعالى: «كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» - إشارة إلى أن الذين ورد عليهم الهلاك في الأمم السابقة كان يغلب عليهم الشرك والضلال،
531
وقليل منهم من آمنوا بالله، واستجابوا لرسل الله، كقوم نوح، الذين يقول الله فيهم: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» (٤٠: هود) وكقوم إبراهيم، الذي لم يؤمن من قومه إلا نفر قليل، منهم لوط.. وهكذا كان شأن قوم عاد، وصالح، وشعيب، ولوط.. وفي كل مرة، يهلك الله الضالين المكذبين، وينجّى النفر القليل من المؤمنين..
قوله تعالى:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ».
هو التفات إلى النبي الكريم، وإلى أن يلتفت إلى نفسه، وإلى المؤمنين معه، وألا يشغله أمر هؤلاء المشركين عن طلب النجاة لنفسه، ولمن معه، بالإقبال على الله، وإخلاص العمل له، وذلك ليكون مستعدا للقاء ربه على ما يرضى ربه، من قبل أن يجىء يوم الجزاء والحساب، وهو يوم لا مردّ له من الله، أي لا يملك أحد ردّ هذا اليوم، أو تأخيره عن وقته الموقوت له..
والدين القيم، هو الإسلام، الذي هو أصل كل دين سماوى، ومنبع كل شريعة إلهية، وبهذا كانت له القوامة على كل دين، والهيمنة على كل شريعة، وعلى كل كتاب..
وقوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ» أي في هذا اليوم، وهو يوم الجزاء والحساب، يتصدع الناس، وتتفرق جماعاتهم، فلا يلتفت أحد منهم إلى أحد..
قوله تعالى:
«مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ».
هو تعقيب على قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ».. فمن أقام وجهه
532
للدين القيم، فقد مهد لنفسه مهادا طيبا، وأعد الدار التي ينزلها في الآخرة..
أما من أعرض وكفر؟ فعليه وزر إعراضه وكفره.
قوله تعالى:
«لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ.. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ»..
التعليل هنا، هو لقوله تعالى: «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ»..
أي أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قد توسّلوا بهذه الوسيلة إلى مرضاة الله، ليجزيهم الجزاء الحسن، من فضله وإحسانه.
وجاء التعبير بالظاهر «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا» بدلا من المضمر «ليجزيهم» - للتنويه بهم، بذكر الصفات الطيبة التي اتصفوا بها، والتي كانت سببا فى رضا الله عنهم، وإسباغ فضله وإحسانه عليهم..
وفي قوله تعالى: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» إبعاد للكافرين من مواقع إحسان الله وفضله، لأنه لا يحبّهم، ولا يقرّبهم منه، على حين أحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأنزلهم منازل القرب والرضوان.
الآيات: (٤٦- ٥٣) [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٦ الى ٥٣]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)
533
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
عادت الآيات بعد هذا العرض الموجز ليوم القيامة، وما يلقى المؤمنون هناك من فضل الله وإحسانه، وما يجد الكافرون من حرمان وطرد من موقع الرحمة- عادت الآيات لتذكّر النّاس- مؤمنين وكافرين- بما لله سبحانه من نعم لا تحصى، يعيشون فيها، ولا يكادون يلتفتون إليها، إذ كانت نعما عامة شاملة، تسع الناس جميعا: كالماء، والهواء، والنور، وغيرها.. فهذه النعم، إذ كانت حظا مشاعا في الناس، لا يتكلفون لها ثمنا، بل تأتيهم عفوا صفوا بلا حساب- إذ كانت كذلك- فإنهم قلّ أن يلتفتوا إليها، وأن يعدوها نعمة من نعم الله عليهم.. إن الإنسان إنما ينظر إلى نفسه خاصة، ويلتفت إلى
534
الأشياء التي تعنيه وحده، وتقع ليده دون غيره، ويكاد يستأثر بها، أو تلك التي يتمايز فيها الناس، وتختلف حظوظهم منها، والتي هى مجال تنافس بينهم.
- وفي قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ»، إشارة إلى هذه النعمة العظيمة، العامة الشاملة، وهى الرياح التي يرسلها الله مبشرات، تسوق بين يديها السحاب، الذي يحمل الحياة للناس، والدواب، والأنعام، والأرض، بما ينزل منه من ماء.. فهو الرحمة التي ينزلها الله على عباده، ويذيقهم منها طعوم فضله وإحسانه.
وفي عطف «لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» على مبشرات، إشارة إلى أن البشرى التي تحملها الرياح إلى الناس، فيها سعادة، ورضا، وتهيؤ لاستقبال هذا الخير الوافد..
وقوله تعالى: «وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ» آية أخرى من آيات الله، فى هذه الرياح المرسلة من عنده.. إنها تدفع السفن على ظهر البحار والأنهار، وتسيرها حيث يريد الناس، وذلك بأمر الله وقدرته، ولو شاء لأمسك الريح، فظلت السفن رواكد على ظهر الماء، لا تتحرك إلى أي اتجاه، كما يقول سبحانه:
«إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» (٣٣: الشورى).
وقوله تعالى: «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» آية من آيات الله في هذه الرياح المرسلة، التي تدفع السفن إلى حيث يتجه بها الناس.. فتحركها على ظهر الماء، هو في ذاته آية تدل على قدرة القادر العظيم.. وما يحصله الذين يركبون هذه السفن من منافع، هو آية أخرى من آيات الله، فيما يجرى بين الناس من تبادل المنافع.
وقوله تعالى: «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».. هو آية أخرى من آيات الله
535
فى هذه الرياح المرسلة من عنده، التي تحدث هذه الآثار العظيمة في حياة الناس..
وهذه الآية هى تحريك ألسنة العباد بحمد الله والثناء عليه، وإقامة مشاعرهم على الولاء له، وإفراده بالعبودية.. ولكن أكثر الناس لا يقيمون وجوههم إلى الله، ولا يذكرون له هذه النعم.. وهذا هو السرّ في تصدير الشكر بحرف الرجاء «لعلّ».. الذي يفيد الدعوة إلى هذا الأمر المحبوب، المطلوب، ولكن قليل هم أولئك الذين يقع لهم، أو منهم.. هذا الأمر..
وانظر في وجه الآية الكريمة مرة أخرى، وتأمل هذه «الواوات» التي تقوم على كل مقطع من مقاطعها، وكأنها رسل من رسل الله، يحمل كلّ رسول منها الآية المرسل بها في هذا العرض العظيم لآيات الله، وكأنه يقول لمن يمرّ به: قف، وخذ حظك من النظر فيما أحمل إليك من آيات ربك!.
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ.. وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ.. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»..
ألا خسىء وخسر من لا يسجد لجلال الله، ويعنو لعظمته، وينقاد لدعوته!! قوله تعالى:
َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ».
هو تعقيب على الآية السابقة، التي حملت بين يديها آيات كثيرة، من دلائل القدرة الإلهية وكمالها، فلم تتفتح لها قلوب كثير من المشركين، كما لم تتفتح لدعوة الحق قلوب كثير من أهل الضلال في الأمم الماضية، الذين كذّبوا رسلهم، واستخفّوا بما حملوا إليهم من آيات الله.
وفي هذا التعقيب عزاه للنبىّ الكريم، ومواساة له، فيما يلقى من قومه من جحود وصدود.. إنه ليس وحده هو الذي كذّب من بين رسل الله
536
جميعا.. بل إن رسل الله جميعا قد كذّبوا من أقوامهم، وأوذوا من سفهائهم.
- وفي قوله تعالى: َانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا»
تهديد للمشركين، وعرض لهم على المصير الذي هم صائرون إليه.. فكما انتقم الله من الضالّين في الأمم السابقة، سينتقم كذلك من هؤلاء المجرمين..
- وفي قوله تعالى: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
وعد كريم من الله سبحانه للنبىّ، بنصره ونصر المؤمنين معه.. فعلى حين يخزى الله الكافرين، ويكبت الضالين المجرمين- فإنه ينصر المؤمنين، ويعزّهم، ويجعل العاقبة لهم.. فقد أوجب سبحانه على نفسه- فضلا وكرما- أن ينصر المؤمنين، ويجعل لهم الغلب على أعدائهم، كما يقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (٢١: المجادلة) قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ».
وتعود الآيات لاستكمال هذا الغرض الذي تكشف فيه عن آيات الله، ودلائل قدرته، بعد هذه اللفتة الرحمانية من الله سبحانه إلى النبي الكريم في قوله تعالى: َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ..»
والآية هنا، تعرض هذه الظاهرة التي تتشكل من حركة الرياح، وما تثير من أمواج، وبخار، وسحاب، وما ينزل من السحاب من ماء، وما يدخل منه على الناس من بشر وغبطة، بعد يأس ووجوم!.
ويلاحظ أنه في آية سابقة، قد جاء ذكر الرياح، وما تسوق من بشريات،
537
وذلك في قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
وقد يبدو لمن لا يحس نقد الكلام، ولا تذوق البلاغة، أن هذا من التكرار، الذي يعاب على أرباب البيان، ويعدّ قصورا في البلاغة، وفقرا فى المعاني التي يملكها الأديب..
ولكن أهكذا- حقا- يكون حساب التكرار إذا ورد في القرآن الكريم؟.
لندع المشاعر الدينية، حتى يمكن أن نجيب على هذا السؤال، إجابة قائمة على ميزان النقد البلاغى، وعلى اعتبار أن هذا كلام، لا يقوم وراءه سلطان العقيدة، ولا تزكّيه مشاعر الإيمان..
ونعرض أولا الآيتين في سياق واحد.. هكذا.
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ..»
«اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ»..
وننظر في الآيتين الكريمتين، فنجد:
أولا: أنه يمكن أن تتصل تلاوتهما معا، دون أن يحس القارئ أو السامع أن هناك تكرارا في الصورة، وأن الآيتين يحققان معا صورة واحدة، لهذه الظاهرة الرائعة من ظواهر الطبيعة.. ومع هذا، فقد فصل النظم القرآنى بين الآيتين بآية أخرى، ليس فيها لون من ألوان تلك الصورة التي رسمتها الآيتان..
538
وثانيا: فى الآية الأولى من الآيتين. نرى «الرياح» آية من آيات الله، مندرجة مع تلك الآيات تولدت عنها، فكانت آيات قائمة بذاتها..
فما أن تظهر آية الرياح، حتى تختفى، وتأخذ آية أخرى مكانها.. وإذا الذي كل ما للرياح في هذه الآية هو قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ».
وثالثا: فى الآية الثانية نرى «الرياح» التي لمحناها في الآية السابقة لمحا، وأنها مجرد شىء منطلق- نراها هنا- وقد اهتزت وربت، فكانت منها الآيات الرائعة، المعجبة.. انظر:
الرياح.. تثير سحابا، فيبسطه الله في السماء كيف يشاء، ويجعله كسفا، أي قطعا متراكمة، وسرعان ما يتفتق هذا السحاب عن ودق، أي مطر، يدق الأرض، ويترك عليها آثاره، وإذا الذين يستقبلون هذا المطر، قد لبسوا ثوب البشر، ونزعوا ما كانوا قد لبسوا من قبل، من همّ وكرب! «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ، وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ.. فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ».
إن الرياح هنا، هى التي أثارت السحاب، وهى التي قبل أن تثيره قد أثارت وجه البحار وحركت أمواجها، وحملت ما على وجهها من أبخرة إلى السماء، فإذا هى ضباب، وسحاب.. ثم ضربت هذه السحاب بعضه ببعض، فانقدح منه هذا الشرر الذي ولد الرعد، والبرق، والمطر! هذه هى آية الرياح، التي أشارت إليها الآية الأولى، قد كشفت عن وجهها في الآية الثانية، فكانت هذا العطاء الجزيل من آيات الله، ودلائل قدرته..
539
وعلى هذا يمكن أن يرجع البصر كرة أخرى، إلى تلك الآيات في قوله تعالى: «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ».. ففى كلّ آية آيات، لو وجدت النظر الذي ينظر إليها، ويكشف عن بعض معطياتها..
ففى قوله تعالى: «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» تتمثل تلك الصورة التي يفعلها المطر حين ينزل الأرض، فيسفر به وجهها، ويهزّ له كيانها، وإذا هى وقد كانت جرداء، ميتة موحشة، قد لبست أثوابا قشيبة مختلفة الألوان والأصباغ، وإذا هى حياة دافقة، وشباب نضير.. وهكذا في جريان الفلك، وفي الابتغاء من فضل الله.. فيهما مجال فسيح للنظر، ومراد واسع للفكر، ومسبح رائع للخاطر..
وفي قوله تعالى: «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ» - إشارة إلى ما يكون عليه الناس، حين تنقطع عنهم موارد الماء، ويغبّر وجه الأرض، ويتهددهم القحط والموات.. ففى هذه الحال يغشى الناس همّ ثقيل، وينزل بهم كرب كارب، فإذا هم وقد أبلسوا، وجمدوا في أماكنهم، فلا حسّ، ولا حركة.. قد أسلموا أنفسهم ليأس قاتل.. فإذا طلعت عليهم رحمة الله، بعثوا بعثا جديدا، وسرت في أوصالهم ريح العافية، فانتشوا نشوة صاحية، ذاقوا منها حلاوة النعمة، وعرفوا قدرها..
قوله تعالى:
«فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها.. إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى.. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»..
الأمر هنا، دعوة إلى كل ذى نظر أن ينظر إلى آثار هذه الرحمة المنزلة من الله، مع هذا الماء المنزل من السماء..
540
وليست الدعوة إلى النظر لمجرد النظر، وإنما هى دعوة إلى نظر متدبّر، متأمل، يأخذ العبرة والعظة مما يقع له.. فمن هذه الرحمة المنزّلة من السماء، تغيّر وجه الأرض، وسرت الحياة في أوصالها الميتة، وإذا هى أمّ ولود، تلد مواليد عجبا من كل جنس، وكل لون.. ثم إذا امتد نظر الإنسان إلى أبعد من هذا وجد أن هذه الحياة التي قامت من هذا التراب الهامد، ليس بالمستغرب ولا المستبعد أن تلبس هذه الأجسام التي ضمها التراب في كيانه، وجعلها بعضا منه.. «إِنَّ الَّذِي أَحْياها.. لَمُحْيِ الْمَوْتى» (٣٩: فصلت).. فهذا من ذاك سواء بسواء..
- وقوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى» - الإشارة هنا إلى الله سبحانه وتعالى، وفي الإشارة إليه سبحانه، إشارة إلى قدرته، وإلى مقامه، وإلى تفرده وحده سبحانه بهذا الأمر، وهو إحياء الموتى.
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ».
إشارة إلى أن هذه الرياح التي أرسلها الله بشرا بين يدى رحمته، وساق بها الحياة إلى عباده، يمكن أن يسوقها إليهم، وقد صفرت يداها من كل خير، بل ربما حملت معها السّموم والغبار.. فهذا وذاك بيد الله، ومن فعل الله..
وقد كان من الإيمان بالله، والرضا بمقدوره، أن يستقبل الناس هذه الريح العقيم بالصبر على قضاء الله، وبالطمع في رحمة الله، التي تعقب هذا البلاء..
ولكن كثيرا من الناس ينكرون الله في هذه الحال ويسخطون على ما أصابهم به! والضمير في قوله تعالى «فَرَأَوْهُ» يعود إلى الناس جميعا، حيث يغلب
541
عليهم في تلك الحال، اليأس، والقنوط من رحمة الله، وقليل منهم من يعتصم بإيمانه، ويرضى بما أراد الله له..
والريح المصفرة: هى الريح المحملة بالسموم، قد ذهبت حرارتها بكل ما في الهواء من بخار الماء، فاصفرّت كما يصفر الزرع حين يجف ماؤه وتذهب خضرته..
«فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ».
الفاء في قوله تعالى «فَإِنَّكَ» سببية، وما بعدها مسبب عن فعل محذوف تقديره- والخطاب للنبى-: اصرف نظرك عن هؤلاء المشركين، أو دع هؤلاء المشركين وما هم فيه من ضلال.. أو نحو هذا.. «فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» وهؤلاء موتى، وإن كانوا أحياء..
إنهم موتى المدركات، والمشاعر.. وإن أردت أن تحسبهم في الأحياء، بما لهم من صور آدمية متحركة- فإنهم صم لا يسمعون، لأن ما يلقى إليهم من كلمات الله لا تصغى إليه آذانهم، ولا تقبله عقولهم.. لقد تعطلت منهم حاسة السمع فلا يسمعون خيرا، ولا يستجيبون لخير..
ثم إنه قد لا يستمع الإنسان لغيره، ولا يتقبل نصح ناصح، ولا هداية هاد، ويكون له مع ذلك، نظر يهديه، ويكشف له معالم الطريق إلى الحق والخير.. ولكن هؤلاء المشركين، عمى لا يبصرون شيئا، ولا يسلمون أيديهم إلى المبصرين، حتى يأخذوا بهم إلى طريق مستقيم، فلا يضلون، ولا يتعثرون..
542
وفي تعدى اسم الفاعل: «هاد» بحرف المجاوزة «عن» - إشارة إلى أنهم عاكفون على الضلال، لا يتحولون عنه أبدا، ولا يتجاوزون حدوده، ولهذا ضمّن الفعل «هدى» معنى الفعل، صرف، أو أبعد، أو نحو هذا، مما يحتاج إلى مدافعة ومعاناة.. وهذا يعنى أنه ليس من شأن النبي أن يحمل هؤلاء العمى حملا على أن ينقادوا له.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» محددا وظيفة النبي، وضابطا منهج دعوته.. وهو أن يعرض دعوته، ويتلو آيات ربه، ويسمع كلمات الله، بإبلاغها إلى الناس، فيسمعها، ويستجيب لها، من هو مستعد للإيمان، لم تفسد فطرته، ولم يختم الله على سمعه وقلبه، ولم يجعل على بصره غشاوة.. ولهذا أيضا جاء قوله تعالى «فَهُمْ مُسْلِمُونَ»
تعقيبا على قوله تعالى سبحانه: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» ليكشف عن السبب في استماعهم لآيات الله، وإيمانهم بها. وهو أنهم مسلمون بفطرتهم، واستعدادهم، قبل أن يلتقوا بالدعوة النبوية، وقبل أن يدعوا إلى الإسلام فلما التقوا بالنبي، وبدعوة الإسلام، صافح الإسلام الذي في فطرتهم، الإسلام الذي دعو إليه..
«وإن» فى قوله تعالى: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» نافية، بمعنى «ما».. أي ما تسمع إلا من يؤمن بآياتنا، أي من هو مستعد بفطرته للإيمان..
المندسّ في كيانه.. أما من فسدت فطرته، فلن تجاوز كلمات الله أذنه.
وفي عود الضمير على الاسم الموصول: «من» مفردا وهو فاعل (يؤمن)، ثم عوده إليه جمعا هكذا: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» - إشارة إلى أن الإيمان شأن من شئون الإنسان خاصة، فهو الذي يحصّل الإيمان بنظره الشخصي وبتقديره الذاتي، وبما يقع له من اقتناع عقلى، واطمئنان قلبى..
فإذا آمن، شارك غيره في صفة الإيمان، وكان واحدا من جماعة المؤمنين
543
يدخل معهم فيما تحمل شريعة الإسلام إلى المسلمين من أوامر ونواه، فيكون واحدا في صفوف المصلّين، أو جنديا في جيش المجاهدين.. إنه منذ دخل فى الإسلام لم يعد كائنا مفردا مستقلا بذاته، منعزلا بدينه، بل هو منذ أول يوم يدخل فيه في الإسلام، يصبح لبنة في بناء الجماعة الإسلامية، وعضوا فى الجسد الاجتماعى، الذي يجمع المسلمين جميعا.
فالمسلم إذ يدخل الإسلام، يدخله مفردا، بعد أن ينظر فيه ببصره هو ويدركه بعقله هو، ويستشعره بوجدانه هو، ويفتح باب قلبه بيده هو، من غير أن يكون واقعا تحت إكراه، أو إغراء، ومن غير أن يكون متابعا أو مقلدا.. فإذا دخل الإسلام على تلك الصفة أصبح مسلما، وأصبح بهذا صالحا لأن يكون في جماعة المسلمين..
الآيات: (٥٤- ٦٠) [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٤ الى ٦٠]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨)
كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
544
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ».
عادت الآيات مرة أخرى، لتصل العرض الذي تجلّى فيه آيات الله، وتعرض فيها دلائل قدرته على الناس، من مؤمنين وكافرين، فيجد فيها المؤمنون نظرا مجدّدا إلى قدرة الله، وإلى علمه، وحكمته، فيزداد إيمانهم تمكينا في قلوبهم، وإشراقا في نفوسهم، على حين تقوم على المشركين والضالين من هذه الآيات حجة أخرى، إلى جانب ما قام عليهم من حجج، بكفرهم وضلالهم.
وفي الآية الكريمة صورة من الصّور الحسّية التي يعيش فيها الناس، ويمرّ بها كل فرد من أفرادهم، على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وأوطانهم.
فبدء حياة الإنسان تكون صورة باهتة من صور الحياة، لا يكاد يرى ظلّها إلا البصر النافذ، حيث يبدأ خلق الإنسان من نطفة، لا تبدو في مرأى العين أكثر من سائل مختلط، أشبه بالمخلط.. ثم يتدرج الإنسان من نطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى عظام، إلى لحم يكسو هذا العظام..
ثم إلى وليد ينشقّ عنه رحم الأم، وإذا هو إنسان يأخذ مكانه في المجتمع البشرى، وبتدرج في مدارج الحياة، من الطفولة إلى الصبا، إلى الشباب والكهولة، ثم ينحدر إلى الشيخوخة والهرم.
هذا هو بعض ما لله في الإنسان.. فلينظر الإنسان ممّ خلق؟ ثم لينظر كيف دار دورته في الحياة، كما يدور القمر في دورته من الهلال إلى المحاق!
545
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» وهذا الإنسان الذي خلق من ضعف، والذي تعهدته القدرة الإلهية، فأخرجت من هذا الضعف، قوة وعقلا، وبصرا، وسمعا- هذا الإنسان قد كفر بخالقه، وأبى أن يجعل ولاءه له وحده، فاتخذ من دونه شركاء، وإذا حشود كثيرة في جميع الأزمان والأمكنة، تجتمع على الكفر بالله، وتعيش فى هذا الضلال، لا تعمل ليوم الجزاء والحساب، ولا تؤمن به، حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة، وراجعوا حسابهم مع دنياهم التي أفنوا حياتهم فيها، وجدوا أنها لم تكن إلا لحظة عابرة، بل لقد بلغ بهم الأمر أن أيقنوا هذا، وتحققوا منه، فأقسموا أنهم لم يلبثوا غير ساعة.. ولا شك أن هذا غير الواقع، وأن الوهم هو الذي يحيّل لهم قصر الزمن الذي مضى.. فقد عاش كل منهم سنين في الدنيا، لا ساعة، ولا يوما، ولا شهرا.. ولكن هكذا الدنيا، التي اتخذها الضالون المشركون، لهوا ولعبا، فلم يعمروها بالتقوى والأعمال الصالحة.. ولهذا جاء قوله تعالى: «كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» مكذّبا مقولتهم تلك، وإنها إفك من إفكهم، وضلال من ضلالهم، الذي كانوا عليه في الدنيا.. ذلك أنهم وهم في الدنيا قد رأوا الحق باطلا، والهدى ضلالا، والخير شرّا.. ووقع في وهمهم أنهم على الحق، وأن ما يمسكون به من ضلال هو الهدى.. وقد صحبهم هذا الإفك في حياتهم الآخرة، فأقسموا هذا القسم الكاذب، أنهم ما لبثوا في دنياهم غير ساعة! وقوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».
546
هو ردّ على هؤلاء المجرمين، الذين أقسموا هذا القسم، وأنهم ما لبثوا غير ساعة، وفي هذا الرد تصحيح لما وهموه من لبثهم في الدنيا.. وهذا التصحيح إنما يجيئهم من أهل العلم والإيمان الذين يقولون لهم: «لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ».. وكتاب الله، هو علمه الذي حدّد به آجال الناس، وأزمانهم، وأودع فيه أعمالهم، وما هو كائن في هذا الوجود..
وقوله تعالى: «فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ» - هو خبر يراد به التقريع والنّخس لهؤلاء المجرمين، فهم يعرفون أن هذا اليوم الذي هم فيه هو يوم البعث، وإخبارهم به هو تذكير لهم بما كان منهم من إنكار له، وسخرية واستهزاء بمن كانوا يحدّثونهم به، والذين كانوا يغرسون في الدنيا ليجنوا ثمار ما غرسوا فى الآخرة، وفي ذلك ما يزيد في آلام المكذبين ويضاعف حسرتهم.
وفي قوله تعالى: «وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» تقريع بعد تقريع، ونخسة بعد نخسة! وفي قرن العلم بالإيمان، إشارة إلى أن العلم الذي لا يثمر عملا لا قيمة له، وكثير من الذين أوتوا العلم لا يؤمنون بالله، بل تغلب عليهم شقوتهم، ويصبح العلم الذي علموه حجّة عليهم، يضاعف لهم به العقاب، وفي هذا يقول الله تعالى في علماء بنى إسرائيل: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (٧١: آل عمران) ويقول سبحانه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» (١٤٤: البقرة) ويقول جل شأنه: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (٧٥: البقرة).. فالعلم الذي لا يعمل صاحبه بمقتضى ما علم، هو شؤم على صاحبه، لأنه لا يهتدى معه إلى
547
خير أبدا. على خلاف الذي لا علم عنده، فإنه قد يطلب العلم، وقد يجد الهدى مما علم.
قوله تعالى:
«فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ».
أي أنه في يوم القيامة، لا يقبل من معتذرين عذر، ولا يطلب منهم أن يقيموا عذرا لما كان منهم من ضلال وكفر.. لقد جلّ الأمر عن العتاب.. إذ أنه إنما يعاتب من يرجى منه إصلاح ما أفسد.. وأما وأنه لا عمل بعد اليوم، فإنه لا عتاب، وإنما حساب وجزاء..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ».
هو بيان لانقطاع عذر المعتذرين، وعتاب المستعتبين، الذين يطلبون المعاتبة.. وذلك لما جاءهم في دنياهم من آيات الله، وما حمل إليهم القرآن الكريم من دلائل وبراهين بين يدى دعوتهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد ضربت لهم الأمثال على وجوه مختلفة، فما انتفعوا بها، ولا أخذوا العبرة والعظة من مهلك القوم الظالمين في الأمم الغابرة..
وقوله تعالى: «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ». إشارة إلى أن هؤلاء المكذبين المشركين، لن تنفعهم الآيات المادية التي كانوا يطالبون النبىّ بها، ويتحدونه بأن يأتى بمعجزة من تلك المعجزات المحسوسة التي كانت بين يدى الرسل من قبله.. ففى كل ما جاء به القرآن من آيات، وما ضرب من أمثال، معجزات قاهرة بيّنة، لمن يطلب
548
الهدى أو يقبله، إذا عرض عليه.. وهؤلاء المشركون لا يطلبون الهدى، ولا يستجيبون له إذا دعوا، لما ركب في طبيعتهم من فساد.
قوله تعالى:
«كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ».
الإشارة هنا إلى ما تضمنته الآية السابقة، من استغلاق مدارك المشركين عن أن يدخل عليها هدى، وذلك لأن الله قد طبع على قلوبهم.. وإنه مع ما ضرب الله سبحانه من أمثال، وما حملت هذه الأمثال من شواهد واضحة وآيات بينة، فإن أهل الضلالات والأهواء لم ينتفعوا بها، ولم يروا إشارة مضيئة من إشاراتها، تعدل بهم عن طريق الكفر الذي يركبونه، إلى طريق الإيمان الذي يدعون إليه، وهذا شأنهم أبدا مع كل آية من آيات الله.. وهذا لا يكون إلا عن فساد فطرة، وعمى بصيرة، وزيغ قلب، وهذا ما عليه حال أولئك الذين شغلتهم دنياهم عن أن يقفوا على آيات الله، وأن ينظروا فيها، وأن يحصلوا علما منها، فخذلهم الله، وخلّى بينهم وبين أنفسهم كما يقول سبحانه: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (٥ الصف) قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ».
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وهى تحمل إلى النبي الكريم دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى الصبر على ما يلقى من قومه من مكاره، مستعينا على الصبر، واحتمال المكروه، بما وعده ربه من نصر لدين الله الذي يدعو إليه، ومن تمكن له وللمؤمنين معه في هذه الدنيا، ومغفرة من الله ورضوان
549
فى الآخرة، هذا، إلى ما يلقى هؤلاء المشركون الضالون من خزى وخذلان فى الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة.
وفي قوله تعالى: «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» - إشارة لافتة إلى ما قد يرد على النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من تلك الخواطر التي تساور بعض النفوس، من المؤمنين الذين اشتدت عليهم وطأة البلاء، وطال بهم الانتظار لملاقاة ما وعدهم الله من نصر، ففى ساعات الضيق والعسرة، قد يتسرب إلى بعض المؤمنين شىء من القلق، وربما شىء من الشك والريب، ذلك أن للنفس البشرية حدا من الاحتمال والصبر على المكاره، إذا بلغته زايلتها القدرة على الاحتمال، وآذنها الصبر بالرحيل، وعندئذ تنحلّ العزيمة، ويضعف اليقين، وتبرد حرارة الإيمان، وفي هذا يقول الله تعالى:
«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» (٢١٤: البقرة).. فهذه حال تعرض المؤمنين، ولن يعصهم منها إلا التحصن بالإيمان، واللّياذ باليقين الذي يدفع كل شك في قدرة الله، وفي تحقيق ما وعد المؤمنين به، من نصر، وعافية مما هم فيه من بلاء.
فقوله تعالى: «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» دعوة للمؤمنين أن يوثّقوا إيمانهم بالله، وأن يمتحنوا هذا الإيمان على محك الشدائد والمحن، فعلى هذا المحك يظهر معدن الإيمان، وتعرف حقيقته..
والاستخفاف: أصله من الخفة، والمراد به التحول من حال إلى حال، والانتقال من وضع إلى وضع، عند كل خاطرة، ولأية مسة.. فإن
550
الخفيف من الشيء، هدف سهل لكل عارض يعرض له، ويريد زحزحته عن موضعه الذي هو عليه..
والآية، إذ تدعو المؤمنين إلى أن يكونوا من الموقنين بالله، والمستيقنين بنصره، فإنها تدعو النبي إلى أن يثبت في موقفه من الإيمان بربه، والثقة فيما وعده به، حتى ترتدّ عنه العوارض التي تعرض له داخل نفسه أو خارجها، حين تجده جبلا راسخا، لا تصادف أية خفة في أي جانب منه.. وقد كان صلوات الله وسلامه عليه على هذا اليقين الذي تزول الجبال ولا يزول.. حتى ليقول لعمه أبى طالب، وقد جاء يدعوه إلى مهادنة قومه، على أن يحتكم بما شاء فيهم، من مال أو سلطان، فيقول:
«والله يا عم لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، أو أهلك دونه»..
551
٣١- سورة لقمان
نزولها: مكية.
عدد آياتها: أربع وثلاثون آية..
عدد كلماتها: خمسمائة وثمان وأربعون..
عدد حروفها: ألفان، ومائة، وعشرة..
مناسبتها لما قبلها ختمت سورة الروم، بقوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ».. وفي هذا الختام- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- دعوة للنبىّ، وللمؤمنين معه إلى الصبر على المكاره، واحتمال الشدائد، على طريق لإيمان، وذلك بما يمتلىء به القلب من إيمان بالله، ومن يقين راسخ في لقاء ما وعد الله النبىّ والمؤمنين من نصر وإعزاز وتمكين، وأنهم إذا كانوا على يقين من الفوز والرضوان في الآخرة، فليكونوا على هذا اليقين من النصر والتمكين في الدنيا، وأنه إذا طال انتظارهم لما وعدوا به في الدنيا، فهو- على أي حال- أقرب مما وعدوا به في الآخرة.. فليصبروا إذن، حتى يلقوا ما وعدهم لله به في الدنيا، ليزداد يقينهم بما وعدهم الله به فى الآخرة.
هذا، هو ما ختمت به سورة «الروم»، وهو يلتقى لقاء تامّا بما بدئت به سورة لقمان.. وهو قوله تعالى:
«الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»..
وذلك على ما نرى عند تفسير هذه الآيات.
552
Icon