ﰡ
ان هذا الكتاب العظيم مُنزل من عند الله العزيز الحكيم، أنزلناه اليك ايها النبي آمراً بالحق لإظهاره وتفصيله للناس، فاعبد الله ﴿مُخْلِصاً لَّهُ الدين﴾ لا شِرك فيه ولا باطل.
﴿أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص﴾
فالعبادة يجب ان تكون لله وحده، خالصة له، وكذلك جميع الأعمال.
في الحديث الصحيح: «جاء رجلٌ الى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إني أتصدق بالشيء وأَصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس، فقال الرسول الكريم: والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يقبل الله شيئا شُورك فيه، ثم تلا قوله تعالى: ﴿أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص﴾ »
وبعد ان بين تعالى ان رأس العبادة الاخلاص، أعقب ذلك بذّم طريق المشركين، الذين اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، ويقولون: ما نعبدهم الا ليقرّبونا عند الله منزلة ويشفعوا لنا.
﴿إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ فيه من أمرِ الشِرك والتوحيد، وهو لا يوفق للهداية من هو كثير الكذب والكفر.
ولو اراد الله ان يتخذ ولدا، لاختار من خلْقه كما يشاء، ولكنه لم يلد ولم يولد، وهو منزه عن هذا كله ﴿هُوَ الله الواحد القهار﴾ وكل ما سواه مفتقرٌ إليه.
خلق الله هذا الكون بما فيه بأبدع نظام وأروع هيئة فهو:
﴿يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل﴾
وهذا تعبير عجيب ينطق بالحقّ والواقع، فإن تعاقُبَ الليل والنهار لا يحصلان الا لكروية الأرض ودورانها حول نفسها، فالتكوير معناه لفُّ الشيء على الشيء على سبيل التتابع، وهذا لم يُعلم الا منذ سنين معدودة. وهذا اكبر دليل على ان القرآن ليس من صنع البشر بل ﴿تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم﴾.
﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ العزيز الغفار﴾
وجعل الشمس والقمر كل منهما يجري لوقت معلوم، وكذلك دوران الشمس وجريانها لم يكتُشَف الا بعد الرسول، وفي بدء دراستنا نحن وأبناء جيلنا مثلاً كان معلمو الجغرافيا يقولون لنا إن الشمس لا تجري، وكل هذه الكواكب تدور حولها....
ثم بعد أن بيّن تعالى أن هذا النظام من خلقه وإبداعه، وانه مسخّرٌ للإنسان - ذيّل هذه الآية بقوله ﴿أَلا هُوَ العزيز الغفار﴾ حتى يبين للناس بأنه غفور رحيم، فلا يقنطون من رحمته بل يسارعون الى طلب المغفرة والرجوع اليه.
لقد خلقكم الله ايها الناس من نفسٍ واحدة، وخلق من هذه النفس زوجاً لها، وخلق لكم من الانعام ثمانية أزواج هي: الإبل والبقر والضأن والماعز، فهذه اربعة انواع ثمانية أزواج، يخلقكم في بطون أمهاتكم طورا بعد طور في ظلمات ثلاث، هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. ان خالق هذه الأمور العجيبة هو الله المنعم المتفضّل، ربكم ومالكُ امركم، له الملك على الاطلاق في الدنيا والآخرة، لا معبود بحقٍّ سواه، فكيف تعدِلون عن عبادته الى عبادة يغره؟ اين ذهبت عقولكم!؟.
وبعد ان اقام الدليل على وحدانيته، وبيّن أن المشركين ذهبت عقولُهم حين عبدوا الأصنام - بين هنا ان الله هو الغني عما سواه من المخلوقات، فهو لا يريد بعبادته جَرَّ منفعة، ولادفع مضرة، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر، ﴿وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ فكل نفس مطالَبةٌ بما عملت، وبعدئذ تُردّ الى عالم الغيب والشهادة فيجازيها بما كسبت.
ثم بين تناقُضَ المشركين فيما يفعلون، فاذا أصابهم الضرُّ رجعوا في طلب دفْعه الى الله.
﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾ وعاد الى عبادة الأوثان.
ثم أمر الله رسوله ان يقول لهم متهكّما بهم:
﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار﴾ مخلَّد فيها.
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو والكسائي: وان تشكروا يرضهُ لكم باشباع ضمة الهاء. وقرأ يعقوب يرضهْ باسكان الهاء. والباقون: يرضهُ بضم الهاء بدون مد ولا اشباع. وقرأ ابن كثير وابو عمرو ورويس: لِيَضِل عن سبيله بفتح الياء من يضل. والباقون: لِيُضل بضم الياء.
بعد ان ذكر الله من يؤمن عندما يمسَه ضر، ويكفر عند السرّاء - بين انه ليس سواءً عند اله مع من هو قانت يعبد الله في جميع حالاته، ولا تزيده النعمة الا إيماناً وشكراً، رجاءَ رحمة ربه. قل لهم ايها الرسول: هل يستوي الذين يعلمون حقوق الله، والذين لا يعلمون! انما يعتبر ويتعظ اولو الألباب، اصحاب العقول الواعية المدركة.
وقدر كرر الله تعالى هذا التعبير ﴿أُوْلُو الألباب﴾ ثلاثَ مرات في هذه السورة الكريمة دلالة على قيمة من يستعمل عقله ويفكر تفكيراً سليما.
وبعد اننفى المساواة بين من يعبد الله في جميع حالاته ومن يلجأ اليه عند الاضطرار وينساه عند النعمة، ثم من يعلم ومن لا يعلم - امر رسوله الكريم ﷺ ان ينصح المؤمنين بجملة نصائح.
١ - قل ايها النبي: يا عبادي الذين آمنوا بي، اتقوا ربكم بالأعمال الصالحة، فان الله قرر ان يُجزل الحسناتِ للذين آمنوا. واذا تعذرتْ طاعته في بلدٍ فتحولوا عنه الى بلد غيره ﴿وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ﴾. ثم بيّن فضيلة الصبر، وأن جزاءها للصابرين بغير حساب. وهل هناك وعدٌ أعظم من هذا الجزاء!
٢ - وقل لهم: إني أُمرت بعبادة الله مخلصاً له الدين، ولا تنظر لي ما يقوله كفار قريش بأن تعود الى ملّة أبيك وجدّك وتعبد الاصنام. فاعتبِروا ايها المسلمون واتبعوا رسولكم الكريم وأخلصوا العبادة والطاعة لله.
٣ - وقل لهم: إني أخاف عذابَ يوم القيامة ان عصيتُ ربي، ولذلك فإني أعبد الله مخلصاً له ديني، فأخلِصوا بعبادتكم لله.
٤ - اما انتم ايها الجاحدون فاعبدوا ما شئتم من الأصنام والأرباب من دون الله. وذكِّرهم ايها الرسول ان الخاسرين هم الذين أضاعوا أنفسَهم بضلالهم، وخسروا أهلهم بإضلالهم، وان ذلك هو الخسران الكبير.
ثم فصّل ذلك الخسران وبينه بقوله تعالى:
﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ﴾
طقات متراكمة من النار حتى تحيط بهم النار من كل جانب. هذا ما خوّف الله به عباده وحذّرهم منه، فاتقون يا عبادي واحذروا ذلك الشر العظيم. وتلك منّةٌ من الله تعالى تنطوي على غاية اللطف والرحمة منه وهو الغفور الرحيم دائما.
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وحمزة: أمَن هو قانت: بفتح الميم بدون تشديد. والباقون: أمّن بفتح الميم المشددة.
بعد ان ذكر وعيده لعَبَدة الأصنام، بيّن هنا ما أعده للذين آمنوا واجتنبوا ذلك وأنابوا الى الله ورجعوا اليه. هؤلاء لهم البشارةُ العظيمة من الله، فبشرّ أيها الرسول عبادي الذين يستمعون القول، فيتّبعون أحسنه وأهداه - بأنهم هم الذين وفقهم الله للرشاد، وهم أًحاب العقول المدركة النيّرة.
ثم بيّ الذين انحرفوا فحقّت عليهم كلمةُ العذاب. ويخاطب بذلك رسوله الكريم فيقول:
﴿أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار؟﴾ ليس يمكنك ان تنقذ هؤلاء الذين كفروا ووجبت عليهم النار.
ثم كرر القول في الذين آمنوا واتقوا، عنايةً بأمرهم، فقال:
﴿لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ....﴾
سيكون لهم في أعالي الجنان غرف مبنيّة بأحسن طراز، بعضُها فوق بعض، تجري من تحتها الأنهار. هذا وعد من الله، والله لا يخلف وعده.
وبعد ذلك اعقب بذكر صفات الدنيا وأنهار زائلة مهما طال عمر الانسان فيها، تحذيراً من الاغترار بما فيها من متعة، فمثّل حالها بحال نباتٍ يُسقى بماء المطر فيخرج به زرعٌ مختلف الأصناف والانواع والالوان. بعد ذلك يجفّ الزرع ويصير حطاماً يابسا، فما اسرع زواله!.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب﴾
ان في هذا الذي بينّاه لَذكرى لأصحاب العقول المدركة فلا تغتروا بها وببهجتها.
هل كان الناس سواه؟ أفمن دخل نورُ الاسلام قلبه وهداه الله فهو على بصيرة من ربه كمن أعرض عن ذكر الله، وطُبع على قلبه! ويلٌ لمن قسَت قلوبهم عن ذكر الله، ﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ وشتّان بين الفئتين.
الله نزل احسن الحديث كتاباً متناسقا لا اختلاف في معانيه والفاظه، وهو في الذروة في الإعجاز والمواعظ والأحكام، تكرر مقاطعه وققصه وتوجيهاته ومشاهدة، ولكنها لا تختلف ولا تتعارض، بل تُعاد في تناسق على أصول ثابتة متشابهة لا ولا تصادم فيها. فاذا تليت آياته اقشعرّت جلود الذين يخشَون ربهم، ووجلت قلوبهم، ثم تلين جلودهم، وتطمئن قلوبهم الى ذكر الله، ذلك الكتاب هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلله الله فليس له من يهديه.
﴿أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة....﴾ لأن يده مغلولةٌ الى عنقه، كمن هو آمن لا يعتريه سوء، ويأتي آمنا يوم القيامة!
﴿وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ القَوا جزاء أعمالكم الشريرة من الكفر والعصيان والجحود.
ثم يعرض الكتابُ حال المكذّبين لرسول الله ويذكر ما جرى للمكذّبين من الأمم الماضية قبلهم لعلّهم يتعظون ويرجعون عن كفرهم وجحودهم. ان بعض الأمم الماضية كذّبت رسُلَها في الدنيا فأتاها العذابُ نم حيث لا تَحتسِب ولا يخطر لها على بال.
فأذاقهم الله الذلّ والصَّغار في الدنيا، وفي الآخرة ينتظرهم العذاب الاكبر ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ ولكنهم عن ذلك كله غافلون.
ولقد بينّا للناس في هذا القرآن من كل مثل يذكّرهم بالحق ﴿لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، وأنزلناه قرآنا عربياً بلسانه ليفهموه، ولكنه إنسانيُّ للناس كافة لا يحدُّه ومانٌ ولا مكان. وهو ﴿عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ بل مستقيم في مبناه ومحتواه.
وبعد ان ذكر الحكمة في ضرب الامثال للناس، جاء بمثل هنا فيه عبرة فقال:
﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
ان المشرك الذي يعبد اكثر من إله هو أشبه بعبدٍ مملوك لجماعة مختلفين متشاكسين فيه فلا يتفقون على شيء، ولا يستطيع هو تلبية طلبات الجميع.
اما المؤمن الموحِّد الذي يعبد إلهاً واحداً فهو أشبه ما يكون بعبد يمتلكه رجل واحد، فالاثنان لا يستويان ابدا. الحمد لله على إقامة الحجة على الناس، ولكن أكثرهم لا يعلمون الحق.
ثم بين الله تعالى ان مصير الجميع اليه، وان النبي الكريم ميت وهم ميتون، وانهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو الحَكَم العدل، يجازي كلاًّ على ما قدم.
قراءات:
قرا ابن كثير وابو عمر: ورجلا سالما: بمعنى خالصا. والباقون: سَلَما.
ليس هناك اظلم ممن كذب على الله فنسب اليه ما ليس فيه، وأنكر الحق حين جاءه على لسان الرسُل، فمثلُ هؤلاء الناس ستكون إقامتهم في جهنم كما قال تعالى: ﴿فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ﴾.
ثم بين حال الصادقين المصدّقين، وما ينتظرهم من حسن جزاء وكرم ضيافة، هم ومن جاءهم بالصدق، وهو الرسول الكريم، والذين ساروا على نهجه، ﴿أولئك هُمُ المتقون﴾ لهم من الكرامة عند ربهم ما يشاؤون ويحبون. وذلك جزاء كل من احسن عملا، وأخلص في دينه.
والله سبحانه وتعالى سيكفّر عنهم أسوأ ما عملوا من السيئات في الدنيا ويغفر لهم كل ذنوبهم ﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ وهذا يدل على سعة رحمة الله، وعظيمة غفرانه والحمد لله.
ثم بين الله تعالى انه مع رسوله الكريم، فلا يستطيع احد ان يؤذي ذلك الرسول والله وحده يكفيه كل ما يهمه. انهم يخوفونك يا محمد بآلهتهم واصنامهم، وذلك من ضلالهم وتعاستهم. يقولون لك: أتسبّ آلهتنا؟ لئن لم تكفّ عنها لنصيبنّك بسوء. لا تخف منهم فانهم لن يضرّوك أبدا، ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ﴾ والله هو العزيز الذي بيده كل شيء، لا يغالَب، وهو ذو انتقام من أعدائه لأوليائه، يحفظهم ويمنعهم من كل شيء.
قراءت:
قرأ حمزة والكسائي وخلف: اليس الله بكافٍ عبادَه بالجمع. والباقون: عبده بالافراد.
بعد ان بين الله تعالى حال المؤمنين في الجنة، حيث يتمتعون بنعيمها ويؤتيهم الله ما يشاؤون - يؤكد هنا انه يكفيهم في الدنيا ما أهمَّهم، ولا يضيرهم ما يخوّفهم به المشركون من غضب الأوثان وما يعبدون من آلهة مزيفة. فالأمور كلها بيد الله. كذلك بيّن ان قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم: من خلق السموات والارض؟ يقولون: الله. وهم مع ذلك يعبدون غيره.
ثم يسألهم سؤال تعجيز:
﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ؟﴾ كلا، طبعا. وما دامت هذه الاصنام لا تنفع ولا تضر، فقل يا محمد ﴿قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون﴾.
ثم أمر رسوله الكريم ان يقول لهم:
﴿قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ....﴾
اعملوا ما تشاؤون وعلى الحال التي تحبو، اني عاملٌ حسب ما أمرني الله، ويوم الحساب ترون المحقَّ من المبطِل، ومن سيحل عليه عذاب مقيم يخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وبعد ان حاجّهم الرسول الكريم ﷺ بالأدلة القاطعة على وحدانية الله تعالى - بيّن الله تعالى أنه انما انزل عليه القرآن بالحق وليس عليه الا إبلاغه للناس، فمن اهتدى فقد فاز، ومن ضل فعليه وزره يتحمله، ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ لتجبرهم على الإيمان والهدى.
ثم بين الله تعالى انه يأمر بقبض الأرواح حين موتها بانتهاء أجلها، ويقبض الأرواح التي لم يحنْ اجلُها حين نومها، فيمسك التي قضى عليها الموت لا يردّها الى بدنها، ويرسل الاخرى التي لم يحن أجلها عند اليقظة الى أجل محدد عنده. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ من اهل العقول المفكرة المدبرة.
ثم بين ان الاصنام التي اتُخذت شفعاء لا تملك لنفسهاشيئاً ولا تعقل شيئا، فكيف تشفع لهم؟.
قل لهم يا محمد: الشفاعة لله وحده، وله وحده ملك السموات والارض. ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
ثم بين الله معايب المشركين وسُخفهم بانه اذا قيل لا اله الا الله وحده نفرت قلوبهم وانقبضت وظهر الاشمئزاز على وجوههم، واذا ذُكرت آلهتهم التي يعبدونها من دون الله ﴿إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ويفرحون.
قراءات: قرأ ابو عمرو والكسائي عن ابي بكر: كاشفاتٍ ضره.... ممسكاتٍ رحمته. بتنوين كاشفات وممسكات، ونصب ضره ورحمته، والباقون بالاضافة كشافات ضره.... وقرأ حمزة والكسائي: فيمسك التي قُضي عليها.... بالبناء للمفعول. والباقون: قَضى بفتح القاف والضاد.
قل يا محمد متوجهاً الى مولاك: يا الله، أنت خالق السموات والأرض، وعالم السر والعلَن، انت تحكم بين عبادك وتفصِل بينهم فيما كانوا يختلفون بشأنه في الدنيا.
وبعد ان علّم الله تعالى رسوله الكريم هذا الدعاء يعرِض حال الظالمين المخيفة يوم القيامة، يوم يرجعون للحكم والفصل. ولو ان للذين ظلموا أنفسهم بالشِرك جميعَ ما في الارض وضعفه معه لدّموه فداءً لأنفسهم من سوء العذاب يوم القيامة، يوم يرون بأعينهم ما لم يخطر لهم على بال من العذاب الأليم، وتظهر لهم سيئاتهم التي عملوها في الدنيا، ويحيط بهم ما كانوا به يستهزئون.
ثم بين الله تعالى أن الانسان إذا اصابه ضر نادى الله متضرعاً، لكنه اذا اعطاه نعمة قال: ما أوتيتُ هذه النعم الا لعلمٍ عندي، وجميل تدبيري، وقد غاب عنه ان الأمر ليس كما قال، بل ان هذه النعمة التي تفضّل الله بها عليه هي اختبارٌ له وفتنةٌ ليظهر الطائع من العاصي، ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
ثم بين الله ان هذه مقالة قديمة قد سبقهم بها كثير من الأمم قبلهم فقال:
﴿قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾
فما دفع عنهم العذابَ كل ما اكتسبوه من مال ومتاع، فحلّ بالكفار السابقين جزاءُ سيئات أعمالهم، والذين كفروا من قومك وظلموا انفسهم ايها النبيّ، سيصيبهم ايضا وبالُ السيئات التي اكتسبوها.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
انما خص المؤمنين بذلك، لأنهم هم الذين يفكرون وينتفعون بايمانهم. وقد تقدم مثل هذا المعنى في سورة الرعد ٢٦، والاسراء ٣٠، وغيرها من السور.
﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله....﴾
ان هذه الآية الكريمة اعظم بشرى لنا نحن المؤمنين، فهي دعوة صريحة من الله لنا الى التوبة، ووعدٌ باعلفو ولاصفح عن كل ذنبٍ مهما كبر وعظم. وقد ترك الله تعالى بابه مفتوحا للرجوع اليه امام من يريد ان يكفّر عن سيئاته، ويصلح ما أفسد من نفسه.
روى الامام احمد عن ثوبان مولى رسول الله قال قال رسول الله ﷺ: «ما أحبّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ....﴾ فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت الرسول الكريم، ثم قال: أَلا ومن الشرك - ثلاث مرات» الى احاديث كثيرة كلها تبشر بسعة رحمة الله، والبشرى بالمغفرة مهما جل الذنب وكبر، ويا لها من بشرى. ﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ صدق الله العظيم. ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾ فمن أبى هذا التفضل العظيم، والعطاء الجسين، وجعل يقنّط الناس، وتزمّتَ مثل كثير من وعَاظ زماننا، وبعض فئات المتدينين على جَهل - فقد ركب أعظم الشطط، فبشّروا ايها الناس ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، يرحمكم الله.
ثم امر سبحانه بشيئين: فقال:
١ - ﴿وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ....﴾ اغتنموا هذه الفرصة ولا تضيعوها ايها الناس، وتبوا الى بارئكم.
٢ - ﴿واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ....﴾.
ثم بين بعد ذلك ان عاقبة من أهل التوبةَ هو ما يحل به من الندامة يوم القيامة فقال:
﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين﴾.
بادروا الى العمل الصالح والتوبة واحذَروا ان تفوتكم الفصرة، فتوقل بعض الانفس يوم القيامة: يا حسرتا على تقصيري وتفريطي في طاعة الله، وكثرة سخريتي واستهزائي بدين الله وكتابه ورسوله. او تقول: لو ان الله هداني الى دينه وطاعته لكنتُ من الفائزين. او تقول حين ترى العذاب: ليس لي رجعةً الى الدنيا فأكون من المهتدين. فيقال له:
﴿بلى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا﴾
ليس الأمر كما زعمتَ، ولا فائدة من ذلك، فقد جاءتك آياتي في الدنيا على لسان رسولي فكذّبته وكذّبت بآتي، واستكبرت عن قبولها ﴿وَكُنتَ مِنَ الكافرين﴾.
ويوم القيامة أيها الرسول يدل على الذين كذبوا على الله ذلٌّ وحسْرة ظاهرة على وجوههم. ان في جعهنم مقاما كبيرا للمتكبرين. وينجي الله من عذابه الذين اتقوا ربَّهم فلا يصيبهم سوء ولا هم يحزنون.. لقد أمِنوا من كل خوف وشر، والله وحده خالق هذا الكون ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ قائم بالحفظ، يتولى التصرف بحسب حكمته.
﴿والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله﴾
لأنهم حُرموا من الرحمة يوم القيامة بخلودهم في النار.
قل لهم يا محمد: أبعد وضوح الآيات على وحدانية الله تأمرونني ان أعبد غيره أيها الجاهلون!!
ثم بين الله تعالى أنه قد أوحى الى الرسول الكريم والأنبياء من قبله ان يكونوا موحِّدين ولا يشركون بالله شيئاً، ومن يشركْ يذهبْ عملُه هباءً ويكون من الخاسرين.
ثم بين لرسوله الكريم أن لا يجيب المشركين الى ما طلبوه من عبادة الأوثان، وان يعبد هو ومن اتبعه من المؤمنين الله وحده، وان يكون من الشاكرين لنعم الله التي لا تحصى.
ثم بين الله تعالى جهل اولئك الجاحدين بقوله:
﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾
اذ أشركوا معه غيره ودعوالرسول الى الشرك به، واللهُ سبحانه هو مالك هذا الكون، وتكون السموات مطوية بيمينه يوم القيامة ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
والغرض من هذا الكلام تصوير عظمة الله وجلاله، وكل ما يرد في القرآن الكريم من هذه الصورة والمشاهد انما هو من باب تقريب الحقائق الى أفهام الناس الذين لا يدركونها بغير ان توضع لهم في تعبير يدركونه.
قراءات:
قرأ الكوفيون غير حفص: بمفازاتهم بالجمع، والباقون: بمفازتهم. وقرأ ابن عامر: تأمرونني وقرأ ابن كثير: تأمرونّيَ بتشديد النون وفتح الياء. وقرأ ناف: تأمرنيَ بتخفيف النون وفتح الياء.
في هذه الآيات والتي بعدها تصوير حيّ لمشهد يوم القيامة وما فيه من حساب وجزاءه، وهو يبدأ بالنفخ في الصور (وهو بوق لا ندري كيف شكله) فيصعق جميع من في السموات والارض إلا من اراد الله ان يؤخرهم الى وقت آخر، ثم ينفخ فيه مرة اخرى فاذا الجميع قائمون من قبورهم ينتظرون ما يُفعل بهم.
واشرقت ارض المحشر بنور الله، ووُضع الكتاب الذي سُجلت فيه أعمالهم، وجيء بالانبياء والعدول ليشهدوا على الخلق.
﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق﴾
وفصل اللهُ بين الخلق بالعدل، فهم لا يُظلمون بنقص ثوابٍ او زيادة عقاب. وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت جزاء كاملا ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ دون حاجة الى كتاب او حاسب. اما حشرُ الناس ومحاسبتهم ووضع الكتاب فهو لتكميل الحجة عليهم وقطع المعذرة.
ثم بعد ان يحاسَب كل انسان ويأخذ كتابه بيمينه او شماله ينقسم الناس فريقين: ﴿فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير﴾ فيساق الذين كفروا الى جهنم جماعات جماعات، حتى اذا وصلوا الى جهنم تفتح لهم ابوابها، ويدخلونها مهانين، ويوبخهم خزنة جهنم بقولهم: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾ فيجيبونهم معترفين ولا يقدروا على الجدل بقولهم: ﴿بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين﴾. ثم يقال لهم ادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها أبداً ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾ على الحق، والخارجين على العدل.
قراءات:
قرأ الكوفيون: فتحت بتخفيف التاء. والباقون: فتحت بالتشديد.
بعد ان بين الله تعالى حالَ أهل النار وكيف يساقون الى جهنم جماعاتٍ باذلالاٍ وتوبيخ، وان ابواب جهنم لا تفتح لهم الا عند وصولهم اليها لتبقى امية تنتظرهم - يذكر هنا حالَ أهل الجنة وما ينتظرهم من استقبال طيب، وثناء ومدح وترحيب. فهم يساقون الى الجنة جماعاتٍ، واذا وصلوها وجدوا ابوابها مفتوحة ليستنشقوا روائحها عن بعد. وهناك يرحب بهم الملائكة بقولهم ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ﴾ فيها ابدا في ضيافة رب العالمين، ونعم الضيافة في ذلك النعيم الخاليد.
وعندما يستقرون فيه مكرّمين معززين يقولون: ﴿الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ وحقق لنا ما وعدَنا به على لسان رسله، وملَّكنا الجنة ننزِل منها حيث ما نشاء ﴿فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾.
ويومها يكون الملائكة محيطين بالعرش، ينزّهون اللهَ عن كل نقص، ويكون قد قضى بين العباد، وذهب كلٌّ الى مأواه، ونطق الكون كله بحمد ربه. ﴿وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾.
قراءات:
قرأ أهل الكوفة: وفُتِحت بتخفيف التاء. والباقون: وفُتِّحت بتشديد التاء.
وهكذا تختم هذه السورة الجليلة بهذا المشهد الذي يغمر النفس بالروعة والرهبة والجلال، وقد بدأ الله سبحانه هذه الآية الأخيرة بالحمد وختمها بالحمد، وبهذا يختم المجلد الثالث ونسأ الله حسن الختام.