قال النسائي : حدثنا محمد بن النضر بن مساور، حدثنا حماد، عن مروان أبي لبابة، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول : ما يريد أن يفطر. ويفطر حتى نقول : ما يريد أن يصوم. وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
ﰡ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوِرٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ مَرْوَانَ أَبِي لُبَابَةَ (١)، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ. وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: مَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ. وَكَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالزُّمَرَ (٢).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤) ﴾.يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ تَنْزِيلَ هَذَا الْكِتَابِ -وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ-مِنْ عِنْدِهِ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَهُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٢-١٩٥].
وَقَالَ: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤٢، ٤١]. وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ﴾ أَيِ: الْمَنِيعِ الْجَنَابِ، ﴿الْحَكِيمِ﴾ أَيْ: فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَشَرْعِهِ، وَقَدَرِهِ.
﴿إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ أَيْ: فَاعْبُدِ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَادْعُ الْخَلْقَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ [وَحْدَهُ] (٣)، وَأَنَّهُ (٤) لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ وَلَا عَدِيلٌ وَلَا نَدِيدٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ أَيْ: لَا يُقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا أَخْلَصَ فِيهِ الْعَامِلُ لِلَّهِ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عُبّاد الْأَصْنَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ لَهُمْ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى أَصْنَامٍ اتَّخَذُوهَا عَلَى صُوَرِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي زَعْمِهِمْ، فَعَبَدُوا (٥) تِلْكَ الصُّوَرَ تَنْزِيلًا لِذَلِكَ مَنْزِلَةَ عِبَادَتِهِمُ الْمَلَائِكَةَ؛ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عند الله في
(٢) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٤٤).
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) في ت: "فإنه".
(٥) في أ: "فعدوا".
قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَابْنِ زَيْدٍ: ﴿إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ أَيْ: لِيَشْفَعُوا لَنَا، وَيُقَرِّبُونَا عِنْدَهُ مَنْزِلَةً.
وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ إِذَا حَجُّوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ: "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ (٢)، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ". وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْمُشْرِكُونَ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، وَجَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، بِرَدِّهَا وَالنَّهْيِ عَنْهَا، وَالدَّعْوَةِ إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ هَذَا شَيْءٌ اخْتَرَعَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ وَلَا رَضِيَ بِهِ، بَلْ أَبْغَضَهُ وَنَهَى عَنْهُ: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النَّحْلِ: ٣٦] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٥].
وَأَخْبَرَ أَنَّ الملائكة التي في السموات مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَغَيْرِهِمْ، كُلَّهُمْ عَبِيدٌ خَاضِعُونَ لِلَّهِ، لَا يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِمَنِ ارْتَضَى، وَلَيْسُوا عِنْدَهُ كَالْأُمَرَاءِ عِنْدَ مُلُوكِهِمْ، يُشَفَّعُونَ عِنْدَهُمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فِيمَا أَحَبَّهُ الْمُلُوكُ وَأَبَوْهُ، ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ﴾ [النَّحْلِ: ٧٤]، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أَيْ: سَيَفْصِلُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، وَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ (٣) [سَبَأٍ: ٤١، ٤٠].
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ أَيْ: لَا يُرْشِدُ إِلَى الْهِدَايَةِ مَنْ قَصْدُهُ (٤) الْكَذِبُ وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ، وَقَلْبُهُ كَفَّارٌ يَجْحَدُ بِآيَاتِهِ [وَحُجَجِهِ] (٥) وَبَرَاهِينِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ كَمَا يَزْعُمُهُ جَهَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَالْمُعَانِدُونَ (٦) مَنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْعُزَيْرِ، وَعِيسَى فَقَالَ: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أَيْ: لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا يَزْعُمُونَ (٧). وَهَذَا شَرْطٌ لَا يَلْزَمُ وُقُوعُهُ وَلَا جَوَازُهُ، بَلْ هُوَ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَجْهِيلَهُمْ (٨) فِيمَا ادَّعَوْهُ وَزَعَمُوهُ، كَمَا قَالَ: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٧] ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٨١]، كُلُّ هَذَا مِنْ بَابِ الشَّرْطِ، وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الشَّرْطِ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ أَيْ: تَعَالَى وَتَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ عَبْدٌ لَدَيْهِ، فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ الَّذِي قَدْ قَهَرَ الْأَشْيَاءَ فَدَانَتْ لَهُ وَذَلَّتْ وَخَضَعَتْ.
(٢) في أ": "لك لبيك".
(٣) في أ: "نقول".
(٤) في أ: "قصد".
(٥) زيادة من أ.
(٦) في أ: "المعاندين".
(٧) في س: "تزعمون".
(٨) في أ: "بجهلهم".
قال قتادة، والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد :﴿ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ أي : ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده منزلة.
ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم :" لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك ". وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بردها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [ النحل : ٣٦ ]﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ].
وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم، كلهم عبيد خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه، ﴿ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ ﴾ [ النحل : ٧٤ ]، تعالى الله عن ذلك.
وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ أي : يوم القيامة، ﴿ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ أي : سيفصل بين الخلائق يوم معادهم، ويجزي كل عامل بعمله، ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ﴾ [ سبأ : ٤١، ٤٠ ].
وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ أي : لا يرشد إلى الهداية من قصده الكذب والافتراء على الله، وقلبه كفار يجحد بآياته وحججه وبراهينه.
وقوله :﴿ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ أي : تعالى وتنزه وتقدس عن أن يكون له ولد، فإنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي كل شيء عبد لديه، فقير إليه، وهو الغني عما سواه الذي قد قهر الأشياء فدانت له وذلت وخضعت.
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْخَالِقُ لِمَا فِي السموات وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَأَنَّهُ مَالِكُ الْمُلْكِ الْمُتَصَرِّفُ، فِيهِ يُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ أَيْ: سَخَّرَهُمَا يَجْرِيَانِ (١) مُتَعَاقِبَيْنَ لَا يَقِرَّانِ (٢)، كُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، كَقَوْلِهِ: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٤] هَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى﴾ أَيْ: إِلَى مُدَّةِ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ اللَّهِ ثُمَّ تَنْقَضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ﴿أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ أَيْ: مَعَ عِزَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ هُوَ غَفَّارٌ لِمَنْ عَصَاهُ ثُمَّ تَابَ وَأَنَابَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أَيْ: خَلَقَكُمْ مَعَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِكُمْ وَأَصْنَافِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، وَهِيَ حَوَّاءُ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، كَقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النِّسَاءِ: ١].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ أَيْ: وَخَلَقَ لَكُمْ مِنْ ظُهُورِ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ، أَزْوَاجٍ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٤٣]، ﴿وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٤٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ﴾ أَيْ: قَدَّرَكُمْ (٣) فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴿خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ﴾ أَيْ: يَكُونُ أَحَدُكُمْ أَوَّلًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً، ثُمَّ يُخْلَقُ فَيَكُونُ لَحْمًا وَعَظْمًا وَعَصَبًا وَعُرُوقًا، وَيُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَيَصِيرُ خَلْقًا آخَرَ، ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ﴾ يَعْنِي: ظُلْمَةَ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةَ الْمَشِيمَةِ (٤) -الَّتِي هِيَ كَالْغِشَاوَةِ وَالْوِقَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ -وَظُلْمَةَ الْبَطْنِ. كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ (٥) زَيْدٍ [وَغَيْرُهُمْ] (٦).
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ أي: هذا الذي خلق السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَخَلَقَكُمْ وَخَلَقَ آبَاءَكُمْ (٧)، هُوَ الرَّبُّ لَهُ الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ (٨) فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، ﴿لَا إِلَهَ إِلا هُوَ﴾ أَيِ: الَّذِي لَا تنبغي
(٢) في أ: "لا يفتران".
(٣) في ت، س: "يخلقكم" وفي ا: "يذرأكم".
(٤) في ت، س: "الشيمة".
(٥) في ت، س: "وأبو".
(٦) زيادة من ت.
(٧) في أ: "آباءكم وإياكم".
(٨) في أ: "والتصريف".
﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (٨) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى: أَنَّهُ (١) الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قَالَ مُوسَى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٨].
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا" (٢).
وَقَوْلُهُ ﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ أَيْ: لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ، ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ أَيْ: يُحِبُّهُ مِنْكُمْ وَيَزِدْكُمْ (٣) مِنْ فَضْلِهِ.
﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ أَيْ: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا، بَلْ كُلٌّ مُطَالَبٌ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أَيْ: فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ﴾ أَيْ: عِنْدَ الْحَاجَةِ يَضْرَعُ وَيَسْتَغِيثُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٦٧]. وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: فِي حَالِ الرَّفَاهِيَةِ يَنْسَى ذَلِكَ الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾ [يُونُسَ: ١٢].
﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ أَيْ: فِي حَالِ الْعَافِيَةِ يُشْرِكُ بِاللَّهِ، وَيَجْعَلُ لَهُ (٤) أَنْدَادًا. ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ أَيْ: قُلْ لِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ وَطَرِيقَتُهُ وَمَسْلَكُهُ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا. وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٠]، وَقَوْلُهُ: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [لقمان: ٢٤].
(٢) صحيح مسلم برقم (٢٥٧٧) مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٣) في أ: "ويزيدكم".
(٤) في: "لله".
﴿ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ أي : في حال العافية يشرك بالله، ويجعل له١ أندادا. ﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾ أي : قل لمن هذه حاله وطريقته ومسلكه : تمتع بكفرك قليلا. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، كقوله :﴿ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾ [ إبراهيم : ٣٠ ]، وقوله :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ].
يَقُولُ تَعَالَى: أَمَّنَ هَذِهِ صِفَتُهُ كَمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَجَعَلَ لَهُ (١) أَنْدَادًا؟ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٣]، وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾ أَيْ: فِي حَالِ سُجُودِهِ وَفِي حَالِ قِيَامِهِ؛ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْقُنُوتَ هُوَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ، لَيْسَ هُوَ الْقِيَامُ وَحْدَهُ كَمَا، ذَهَبَ إِلَيْهِ آخَرُونَ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: الْقَانِتُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ : جَوْفُ اللَّيْلِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ: بَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ : أَوَّلُهُ وَأَوْسَطُهُ وَآخِرُهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ أَيْ: فِي حَالِ عِبَادَتِهِ خَائِفٌ رَاجٍ (٢)، وَلَا بُدَّ فِي الْعِبَادَةِ مِنْ هَذَا وَهَذَا، وَأَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ هُوَ الْغَالِبُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ فَلْيَكُنِ الرَّجَاءُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ (٣) الْإِمَامُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ: "كَيْفَ تَجِدُكَ (٤) ؟ " قَالَ: أَرْجُو وَأَخَافُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي يَرْجُو، وَأَمْنَهُ الَّذِي يَخَافُهُ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سَيَّار بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهِ (٥). وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "غَرِيبٌ. وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا".
وَقَالَ (٦) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شبَّة (٧)، عَنْ عُبَيْدَةَ النُّمَيْرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَلَف عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى الخَزَّاز، حَدَّثَنَا (٨) يَحْيَى البّكَّاء، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ قَرَأَ: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ ؛ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ذَاكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ؛ لِكَثْرَةِ صَلَاةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بِاللَّيْلِ وَقِرَاءَتِهِ، حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (٩)، وَقَالَ الشاعر (١٠).
(٢) في ت: "خائفا راجيا".
(٣) في ت: "روى".
(٤) في أ: "تحذر".
(٥) المنتخب لعبد بن حميد برقم (١٣٦٨) وسنن الترمذي برقم (٩٨٣) وسنن ابن ماجه برقم (٤٢٦١) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٩٠١).
(٦) في ت: "روى".
(٧) في أ: "شيبة".
(٨) في ت: "عن".
(٩) في ت: "عنهما".
(١٠) هو حسان بن ثابت الأنصاري، والبيت في ديوانه (ص ٢٤٨).
وَقَالَ (١) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: كَتَبَ إِلَيَّ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ (٢)، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ بِمِائَةِ آيَةٍ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قُنُوتُ لَيْلَةٍ".
وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَالرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ حُمَيْدٍ، بِهِ (٣).
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ مِمَّنْ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ؟! ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مَنْ له لب وهو العقل.
﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠) ﴾
(٢) في ت: "بإسناده".
(٣) المسند (٤/١٠٣) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٥٥٣).
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَقْوَاهُ ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ أَيْ: لِمَنْ أَحَسَنَ الْعَمَلَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: فَهَاجِرُوا فِيهَا، وَجَاهِدُوا، وَاعْتَزِلُوا الْأَوْثَانَ.
وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ﴾ قَالَ: إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى الْمَعْصِيَةِ فَاهْرُبُوا، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النِّسَاءِ: ٩٧].
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَيْسَ يُوزَنُ لَهُمْ وَلَا يُكَالُ (١)، إِنَّمَا يُغْرَفُ لَهُمْ غَرْفًا.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَا يَحْسِبُ عَلَيْهِمْ ثَوَابَ عَمَلِهِمْ قَطُّ، وَلَكِنَّ يُزَادُونَ (٢) عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يَعْنِي: فِي الْجَنَّةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا أُمِرْتُ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،.
﴿وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي مِنْ أُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
(٢) في ت: "يزدادون".
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ: ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا شَرْط، وَمَعْنَاهُ التَّعْرِيضُ بِغَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ وَهَذَا أَيْضًا تَهْدِيدٌ وتَبَرّ (١) مِنْهُمْ، ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا الْخَاسِرُونَ كُلَّ الْخُسْرَانِ (٢) ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أَيْ: تَفَارَقُوا فَلَا الْتِقَاءَ لَهُمْ أَبَدًا، سَوَاءً ذَهَبَ أَهْلُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَقَدْ ذَهَبُوا هُمْ إِلَى النَّارِ، أَوْ أَنَّ الْجَمِيعَ أُسْكِنُوا النَّارَ، وَلَكِنْ لَا اجْتِمَاعَ لَهُمْ وَلَا سُرُورَ، ﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ أَيْ: هَذَا هُوَ الْخَسَارُ الْبَيِّنُ الظَّاهِرُ الْوَاضِحُ.
ثُمَّ وَصَفَ حَالَهُمْ فِي النَّارِ فَقَالَ: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ كَمَا قَالَ: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٤١]، وَقَالَ: ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥٥].
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَقص خَبَرَ هَذَا الْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ لِيُخَوِّفَ بِهِ عِبَادَهُ، لِيَنْزَجِرُوا عَنِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ أَيِ: اخْشَوْا بَأْسِي وَسَطْوَتِي، وَعَذَابِي وَنِقْمَتِي.
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُواْ الألْبَابِ (١٨) ﴾
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾ نَزَلَتْ فِي زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيل، وَأَبِي ذَرٍّ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا شاملةٌ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، مِمَّنِ اجْتَنَبَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأَنَابَ إِلَى عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ. فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ أَيْ: يَفْهَمُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى حِينَ آتَاهُ التَّوْرَاةَ: ﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٤٥].
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ أَيِ: الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُمُ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (٣)، أَيْ: ذَوُو العقول الصحيحة، والفطَر المستقيمة.
(٢) في ت، س: "الخاسرون".
(٣) في س: "والأخرى".
وقوله :﴿ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ﴾ أي : إنما يَقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده، لينزجروا عن المحارم والمآثم.
وقوله :﴿ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ أي : اخشوا بأسي وسطوتي، وعذابي ونقمتي.
والصحيح أنها شاملةٌ لهم ولغيرهم، ممن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى عبادة الرحمن. فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ثم قال :﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ أي : يفهمونه ويعملون بما فيه، كقوله تعالى لموسى حين آتاه التوراة :﴿ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ﴾ [ الأعراف : ١٤٥ ].
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ﴾ أي : المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة، أي : ذوو العقول الصحيحة، والفطَر المستقيمة.
والصحيح أنها شاملةٌ لهم ولغيرهم، ممن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى عبادة الرحمن. فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ثم قال :﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ أي : يفهمونه ويعملون بما فيه، كقوله تعالى لموسى حين آتاه التوراة :﴿ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ﴾ [ الأعراف : ١٤٥ ].
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ﴾ أي : المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة، أي : ذوو العقول الصحيحة، والفطَر المستقيمة.
يَقُولُ تَعَالَى: أَفَمَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ شَقِي تَقْدر تُنْقذُه مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْهَلَاكِ؟ أَيْ: لَا يَهْدِيهِ أَحَدٌ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَمَنْ يَهْدِهِ فَلَا مُضِلَّ لَهُ.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عِبَادِهِ السُّعَدَاءِ أَنَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْقُصُورُ الشَّاهِقَةُ ﴿مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ﴾، أَيْ: طِبَاقٌ فَوْقَ طِبَاقٍ، مَبْنيات مُحَكَمَاتٌ مُزَخْرَفَاتٌ عَالِيَاتٌ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا يُرَى بُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا، وَظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا" فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ (١)، وَقَالَ: "حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ مِنْ قبَل حِفْظِهِ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ ابْنِ مُعانق -أَوْ: أَبِي مُعَانق -عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرْفَةً (٢) يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَلَانَ الْكَلَامَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى وَالنَّاسُ نِيَامٌ".
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَانق الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، بِهِ.
وَقَالَ (٣) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ (٤)، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الْغُرْفَةِ فِي الْجَنَّةِ كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ فِي السَّمَاءِ". قَالَ: فحدثتُ بِذَلِكَ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: "كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ (٥) فِي الْأُفُقِ الشَّرْقِيِّ أَوِ الْغَرْبِيِّ".
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ (٦)، وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٧).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا فَزارة، أَخْبَرَنِي فُلَيح، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ فِي الْجَنَّةِ أَهْلَ الْغُرَفِ، كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَارِبَ فِي الْأُفُقِ الطَّالِعِ، فِي تَفَاضُلِ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ؟ فَقَالَ: "بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَأَقْوَامٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الرسل".
(٢) في س، أ: "غرفة".
(٣) في ت: "وروى".
(٤) في ت: "بإسناده".
(٥) في س، أ: "الذي".
(٦) المسند (٥/٣٤٠) وصحيح البخاري برقم (٦٥٥٥) وصحيح مسلم برقم (٢٨٣٠).
(٧) صحيح البخاري برقم (٦٥٥٦) وصحيح مسلم برقم (٢٨٣١).
قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي، حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن في الجنة لغرفًا يُرَى بطونها من ظهورها، وظهورها من بطونها » فقال أعرابي : لمن هي يا رسول الله ؟ قال :«لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى لله بالليل والناس نيام ».
ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، وقال :" حسن غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم فيه من قبَل حفظه ".
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن مُعانق - أو : أبي مُعَانق - عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن في الجنة لغرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى والناس نيام ». تفرد به أحمد من حديث عبد الله بن مُعَانق الأشعري، عن أبي مالك، به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء ». قال : فحدثتُ بذلك النعمان بن أبي عياش، فقال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول :" كما تراءون الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي ". أخرجاه في الصحيحين، من حديث أبي حازم، وأخرجاه أيضًا في الصحيحين من حديث مالك، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا فَزارة، أخبرني فُلَيح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف، كما تراءون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع، في تفاضل أهل الدرجات ». فقالوا : يا رسول الله، أولئك النبيون ؟ فقال :«بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل ». ورواه الترمذي عن سُويد، عن ابن المبارك عن فُلَيح به وقال : حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر وأبو كامل قالا حدثنا زهير، حدثنا سعد الطائي، حدثنا أبو المدَلَّة - مولى أم المؤمنين - أنه سمع أبا هريرة يقول : قلنا : يا رسول الله، إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَممْنَا النساء والأولاد. قال :«لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي، لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم. ولو لم تُذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم ». قلنا : يا رسول الله، حَدّثنا عن الجنة، ما بناؤها ؟ قال :«لَبِنَةُ ذهب ولَبِنَةُ فضّة، وملاطها المسك الأذْفَر، وحَصْباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يَبْأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه. ثلاثة لا تُرَدَّ دعوتُهم : الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تُحمَل على الغَمام، وتفتح لها أبواب السموات، ويقول الرب : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ».
وروى الترمذي، وابنُ ماجه بعضَه، من حديث سعد أبي مجاهد الطائي - وكان ثقة - عن أبي المُدَلِّه - وكان ثقة - به.
وقوله :﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ﴾ أي : تسلك الأنهار بين خلال ذلك، كما يشاءوا وأين أرادوا، ﴿ وَعَدَ اللَّهُ ﴾ أي : هذا الذي ذكرناه وعد وعده الله عباده المؤمنين ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾.
وَقَالَ (٣) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ وَأَبُو كَامِلٍ (٤) قَالَا حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا سَعْدٌ الطَّائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو المدَلَّة -مَوْلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ-أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا إِذَا رَأَيْنَاكَ رَقَّتْ قُلُوبُنَا، وَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا فَارَقْنَاكَ أَعْجَبَتْنَا الدُّنْيَا وشَممْنَا النِّسَاءَ وَالْأَوْلَادَ. قَالَ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدِي، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَكُفِّهِمْ، وَلَزَارَتْكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ. وَلَوْ لَمْ تُذنبوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَيْ يَغْفِرَ لَهُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدّثنا عَنِ الْجَنَّةِ، مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: "لَبِنَةُ ذَهَبٍ ولَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الأذْفَر، وحَصْباؤها اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأس، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ. ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدَّ دعوتُهم: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحمَل عَلَى الغَمام، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السموات، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لِأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ" (٥).
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وابنُ مَاجَهْ بعضَه، مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ (٦) أَبِي مُجَاهِدٍ الطَّائِيِّ -وَكَانَ ثِقَةً-عَنْ أَبِي المُدَلِّه -وَكَانَ ثِقَةً-بِهِ (٧).
وَقَوْلُهُ: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ﴾ أَيْ: تَسْلُكُ (٨) الْأَنْهَارُ بَيْنَ خِلَالِ ذَلِكَ، كَمَا يَشَاءُوا (٩) وَأَيْنَ أَرَادُوا، ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ أَيْ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَعْدٌ وَعْدَهُ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ (٢١) ﴾
(٢) المسند (٢/٣٣٩) وسنن الترمذي برقم (٢٥٥٦).
(٣) في ت: "وروى".
(٤) في أ: "وأبو عامر".
(٥) المسند (٢/٣٠٤).
(٦) عيد".
(٧) سنن الترمذي برقم (٣٥٩٨) وسنن ابن ماجه برقم (١٧٥٢) قال الترمذي: "هذا حديث حسن" ثم أشار إلى رواية أحمد المطولة.
(٨) في ت: "تلك".
(٩) في أ: "يشاءون".
يُخْبِرُ تَعَالَى: أَنَّ أَصْلَ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الْفُرْقَانِ: ٤٨]، فَإِذَا أَنْزَلَ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ كَمَن فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يَصْرِفُهُ تَعَالَى فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ كَمَا يَشَاءُ، ويُنِبُعه عُيُونًا مَا بَيْنَ صِغَارٍ وَكِبَارٍ، بِحَسْبِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ﴾.
قَالَ (١) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ عُتْبَةُ بْنُ يَقْظَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ (٢)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ﴾، قَالَ: لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَاءٌ إِلَّا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَكِنْ عروق في الأرض
(٢) في ت: "بسنده".
وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: أَنَّ كُلَّ مَاءٍ فِي الْأَرْضِ فَأَصْلُهُ مِنَ السَّمَاءِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَصْلُهُ مِنَ الثَّلْجِ يَعْنِي: أَنَّ الثَّلْجَ يَتَرَاكَمُ عَلَى الْجِبَالِ، فَيَسْكُنُ فِي قَرَارِهَا، فَتَنْبُعُ الْعُيُونُ مِنْ أَسَافِلِهَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾ أَيْ: ثُمَّ يُخْرِجُ بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ زَرْعًا ﴿مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾ أَيْ: أَشْكَالُهُ وَطُعُومُهُ وَرَوَائِحُهُ وَمَنَافِعُهُ، ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ أَيْ: بَعْدَ نَضَارَتِهِ وَشَبَابِهِ يَكْتَهِلُ (١) ﴿فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا﴾، قَدْ خَالَطَهُ اليُبْس، ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا﴾ أَيْ: ثُمَّ يَعُودُ يَابِسًا يَتَحَطَّمُ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ﴾ أَيِ: الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ بِهَذَا فَيَعْتَبِرُونَ إِلَى أَنَّ الدُّنْيَا هَكَذَا، تَكُونُ خَضرةً نَضِرَةً حَسْنَاءَ، ثُمَّ تَعُودُ عَجُوزا شَوْهَاءَ، وَالشَّابُّ يَعُودُ شَيْخًا هَرِما كَبِيرًا ضَعِيفًا [قَدْ خَالَطَهُ الْيُبْسُ] (٢)، وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ الْمَوْتُ. فَالسَّعِيدُ مَنْ كَانَ حَالُهُ بَعْدَهُ إِلَى خَيْرٍ، وَكَثِيرًا مَا يَضْرِبُ اللَّهُ تَعَالَى مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَا يُنَزِّلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ، وَيُنْبِتُ بِهِ زُرُوعًا وَثِمَارًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ حُطاما، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الْكَهْفِ: ٤٥].
وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ أَيْ: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَمَنْ هُوَ قَاسِي الْقَلْبِ بِعِيدٌ مِنَ الْحَقِّ؟! كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٢٢] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أَيْ: فَلَا تَلِينُ عِنْدَ ذِكْرِهِ (٣)، وَلَا تَخْشَعُ وَلَا تَعِي وَلَا تَفْهَمُ، ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾
﴿اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٢٣) ﴾
هَذَا مَدْحٌ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-لِكِتَابِهِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ مَثَانِي.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْآيَةُ تُشْبِهُ الْآيَةَ، وَالْحَرْفُ يُشْبِهُ الْحَرْفَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿مَثَانِيَ﴾ تَرْدِيدُ الْقَوْلِ لِيَفْهَمُوا عَنْ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ: ثنَّى اللَّهُ فِيهِ الْقَضَاءَ -زَادَ الْحَسَنُ: تَكُونُ السُّورَةُ فِيهَا آيَةٌ، وَفِي السُّورَةِ الْأُخْرَى آيَةٌ تُشْبِهُهَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿مَثَانِيَ﴾ مُرَدَّد، رُدِّد موسى في القرآن، وصالح وهود
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في ت، أ: "ذكر الله".
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿مَثَانِيَ﴾ قَالَ: الْقُرْآنُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ويُرَدُّ (١) بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وُيرْوى عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ أَنَّ سِيَاقَاتِ الْقُرْآنِ تَارَةً تكونُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، فَهَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَتَارَةً تكونُ بِذِكْرِ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ، كَذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ الْكَافِرِينَ، وَكَصِفَةِ الْجَنَّةِ ثُمَّ صِفَةِ النَّارِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، فَهَذَا مِنَ الْمَثَانِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الِانْفِطَارِ: ١٤، ١٣]، وَكَقَوْلِهِ ﴿كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ [الْمُطَفِّفِينَ: ٧]، إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٨]، ﴿هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: ٤٩]، إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ [ص: ٥٥]، وَنَحْوِ هَذَا مِنَ السِّيَاقَاتِ فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ (٢) الْمَثَانِي، أَيْ: فِي مَعْنَيَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ السِّيَاقُ كُلُّهُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَهُوَ الْمُتَشَابِهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٧]، ذَاكَ مَعْنًى آخَرُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أَيْ هَذِهِ صِفَةُ الْأَبْرَارِ، عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ الْجَبَّارِ، الْمُهَيْمِنِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لِمَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُهُمْ مِنَ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ، ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ لِمَا يَرْجُونَ ويُؤمِّلون مِنْ رَحْمَتِهِ (٣) وَلُطْفِهِ، فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ (٤) مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ سَمَاعَ هَؤُلَاءِ هُوَ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ، وَسَمَاعُ أُولَئِكَ نَغَمات لِأَبْيَاتٍ، مِنْ أَصْوَاتِ القَيْنات.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيَّا، بِأَدَبٍ وَخَشْيَةٍ، وَرَجَاءٍ وَمَحَبَّةٍ، وَفَهْمٍ وَعِلْمٍ، كَمَا قَالَ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٢-٤] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾ [الْفُرْقَانِ: ٧٣] أَيْ: لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ سَمَاعِهَا مُتَشَاغِلِينَ لَاهِينَ عَنْهَا، بَلْ مُصْغِينَ إِلَيْهَا، فَاهِمِينَ بَصِيرِينَ بِمَعَانِيهَا؛ فَلِهَذَا إِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِهَا، وَيَسْجُدُونَ عِنْدَهَا عَنْ بَصِيرَةٍ لَا عَنْ جَهْلٍ وَمُتَابَعَةٍ لِغَيْرِهِمْ [أَيْ يَرَوْنَ غَيْرَهُمْ قَدْ سَجَدَ فَيَسْجُدُونَ تَبَعًا لَهُ]. (٥).
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ الْأَدَبَ عِنْدَ سَمَاعِهَا، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ مَعَ قُلُوبِهِمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. لَمْ يَكُونُوا يتصارخُون وَلَا يَتَكَلَّفُونَ مَا لَيْسَ فِيهِمْ، بَلْ عِنْدَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ وَالسُّكُونِ وَالْأَدَبِ وَالْخَشْيَةِ مَا لَا يَلْحَقُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا فَازُوا بالقِدح المُعَلّى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَر قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾
(٢) في أ: "في".
(٣) في ت: "من رحمة الله".
(٤) في ت، س، أ: "الفجار".
(٥) زيادة من أ.
وَقَالَ السُّدِّي: ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أَيْ: إِلَى وَعْدِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أَيْ: هَذِهِ صِفَةُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ، ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الرَّعْدِ: ٣٣].
﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، ويُقْرَعُ فَيُقَالُ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ مِنَ الظَّالِمِينَ: ﴿ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾، كَمَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟! كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الْمُلْكِ: ٢٢]، وَقَالَ: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [الْقَمَرِ: ٤٨]، وَقَالَ [تَعَالَى] (١) ﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤٠]، وَاكْتَفَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ (٢).
فَمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا... أريدُ الخيرَ: أَيُّهُمَا يَليني؟...
يَعْنِي: الْخَيْرَ أَوِ الشَّرَّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ يَعْنِي: الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ الْمُكَذِّبَةَ لِلرُّسُلِ، أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أَيْ: بِمَا أَنْزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَتَشَفِّي (٣) الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ، فَلْيَحْذَرِ الْمُخَاطَبُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا أَشْرَفَ الرُّسُلِ، وَخَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ أعظمُ مِمَّا أَصَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
(٢) البيت في تفسير الطبري (٢٢/٩٨).
(٣) في س، أ: "يشفي".
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ أَيْ: بَيَّنَّا لِلنَّاسِ فِيهِ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، فَإِنَّ الْمَثَلَ يُقَرّب الْمَعْنَى إِلَى الْأَذْهَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [الرُّومِ: ٢٨] أَيْ: تَعْلَمُونَهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَقَالَ: ﴿وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ أَيْ: هُوَ قُرْآنٌ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ وَلَا لَبْسَ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ وَوُضُوحٌ وَبُرْهَانٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (١) كَذَلِكَ، وَأَنْزَلَهُ بِذَلِكَ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أَيْ: يَحْذَرُونَ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا (٢) فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ (٣).
ثُمَّ قَالَ: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾ أَيْ: يَتَنَازَعُونَ فِي ذَلِكَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمْ، ﴿وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ أَيْ: خَالِصًا لِرَجُلٍ، لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا﴾ أَيْ: لَا يَسْتَوِي هَذَا وَهَذَا. كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُشْرِكُ الَّذِي يَعْبُدُ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُخْلِصُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هَذِهِ الْآيَةُ ضَرَبَتْ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِ وَالْمُخْلِصِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا المثلُ ظَاهِرًا بَيِّنا جَلِيًّا، قَالَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أَيْ: عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: فَلِهَذَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا الصِّدِّيقُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٤) عِنْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ (٥) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى تَحَقَّقَ النَّاسُ مَوْتَهُ، مَعَ قَوْلِهِ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٤].
وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: سَتُنْقَلُونَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لَا مَحَالَةَ وَسَتَجْتَمِعُونَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتَخْتَصِمُونَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَيَفْتَحُ بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ، فَيُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ الْمُوَحِّدِينَ، وَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ.
ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ -وَإِنْ كَانَ سِيَاقُهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وذِكْر الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ-فَإِنَّهَا شَامِلَةٌ لِكُلِّ مُتَنَازِعَيْنِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ تُعَادُ عَلَيْهِمُ الْخُصُومَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
قَالَ (٦) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ حَاطِبٍ -يَعْنِي يَحْيَى بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ-عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ قَالَ الزُّبَيْرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكَرَّرُ عَلَيْنَا الْخُصُومَةُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ إذًا لَشَدِيدٌ.
وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سُفْيَانَ، وَعِنْدَهُ زِيَادَةٌ: وَلَمَّا نَزَلَتْ: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾
(٢) في ت، أ: "لما".
(٣) في ت، أ: "الوعيد".
(٤) زيادة من ت.
(٥) في ت: "رسول الله".
(٦) في ت: "روى".
وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الزِّيَادَةَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، بِهِ (٢). وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو-عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ (٣) قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، أَيُكَرَّرُ عَلَيْنَا مَا كَانَ بَيْنَنَا فِي الدُّنْيَا مَعَ خَوَاصِّ الذُّنُوبِ؟ قَالَ: "نَعَمْ لَيُكَرَّرَنَ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يُؤدَّى إِلَى كُلِّ ذِي حَقِّ حَقُّهُ". قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَمْرَ لَشَدِيدٌ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ (٤) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ (٥) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ أَبِي عُشَّانة، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أَوَّلُ الْخَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (٦).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ (٧)، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيَخْتَصِمُ (٨)، حَتَّى الشَّاتَانِ فِيمَا انْتَطَحَتَا" تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (٩).
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [أَنَّهُ] (١٠) قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم شَاتَيْنِ يَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ: "أَتُدْرِي فِيمَ يَنْتَطِحَانِ يَا أَبَا ذَرٍّ؟ " قُلْتُ: لَا. قَالَ: "لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَحْكُمُ بَيْنَهُمَا" (١١).
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَحْرٍ، حَدَّثَنَا حَيَّانُ بْنُ أَغْلَبَ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ (١٢) [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (١٣)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُجَاءُ بِالْإِمَامِ الْخَائِنِ (١٤) يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتُخَاصِمُهُ الرَّعِيَّةُ فَيَفْلُجُونَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: سُدَّ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ جَهَنَّمَ".
ثُمَّ قَالَ: الْأَغْلَبُ بْنُ تَمِيمٍ لَيْسَ بِالْحَافِظِ (١٥).
(٢) المسند (١/١٦٤) وسنن الترمذي برقم (٣٣٥٦) وسنن ابن ماجه برقم (٤١٥٩).
(٣) في م: "العوام رضي الله عنه".
(٤) المسند (١/١٦٧) وسنن الترمذي برقم (٣٢٣٦).
(٥) في ت: "وروى".
(٦) المسند (٤/١٥١) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٧/٣٠٣) من طريق ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي عشانة به.
(٧) في ت: "وروى أيضا".
(٨) في أ: "يختصم".
(٩) المسند (٣/٢٩) ودراج أبو السمح عن أبي الهيثم ضعيف.
(١٠) زيادة من ت.
(١١) المسند (٥/١٦٢).
(١٢) في ت: "وروى الحافظ أبو بكر البزار بسنده عن أنس".
(١٣) زيادة من أ.
(١٤) في أ: "الجائر".
(١٥) مسند البزار برقم (١٦٤٤) "كشف الأستار" ولفظه: "يجاء بالإمام الجائر يوم القيامة فيخاصمه الرعية، فيفلحوا عليه" ثم ذكر بقية الحديث كما هو هنا.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ "الرُّوحِ"، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَخْتَصِمُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى تَخْتَصِمَ الرُّوحُ مَعَ الْجَسَدِ، فَتَقُولُ الرُّوحُ لِلْجَسَدِ: أَنْتَ فَعَلْتَ. وَيَقُولُ الْجَسَدُ لِلرُّوحِ: أَنْتِ أَمَرْتِ، وَأَنْتِ سَوَّلْتِ. فَيَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، فَيَقُولُ [لَهُمَا] (٣) إِنْ مَثَلَكُمَا كَمَثَلِ رَجُلٍ مُقْعَدٍ بَصِيرٍ وَالْآخَرُ ضَرِيرٌ، دَخَلَا بُسْتَانًا، فَقَالَ الْمُقْعَدُ لِلضَّرِيرِ: إِنِّي أَرَى هَاهُنَا ثِمَارًا، وَلَكِنْ لَا أَصِلُ إِلَيْهَا. فَقَالَ لَهُ الضَّرِيرُ: ارْكَبْنِي فَتَنَاوَلْهَا، فَرَكِبَهُ فَتَنَاوَلَهَا، فَأَيُّهُمَا الْمُعْتَدِي؟ فَيَقُولَانِ: كِلَاهُمَا. فَيَقُولُ لَهُمَا الْمَلَكُ. فَإِنَّكُمَا قَدْ حَكَمْتُمَا عَلَى أَنْفُسِكُمَا. يَعْنِي: أَنَّ الْجَسَدَ لِلرُّوحِ كَالْمَطِيَّةِ، وَهُوَ رَاكِبُهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَوْسَجة، حَدَّثَنَا ضِرَارٌ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا الْقُمِّيُّ -يَعْنِي يَعْقُوبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ-عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (٤) [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (٥) قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَمَا نَعْلَمُ فِي أَيِّ شَيْءٍ نَزَلَتْ: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [قَالَ] (٦) قُلْنَا: مَنْ نُخَاصِمُ؟ لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ خُصُومَةٌ، فَمَنْ نُخَاصِمُ؟ حَتَّى وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هَذَا الَّذِي وَعَدَنَا رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-نَخْتَصِمُ فِيهِ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ (٧).
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ [فِي قَوْلِهِ] (٨) ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ قَالَ: يَعْنِي أَهْلَ الْقِبْلَةِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلَ الْكُفْرِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ الْعُمُومُ، والله أعلم.
(٢) في أ: "المتكبر".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عمر".
(٥) زيادة من أ.
(٦) زيادة من أ.
(٧) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٤٧).
(٨) زيادة من ت، أ.
قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد : هذه الآية ضربت مثلا للمشرك والمخلص، ولما كان هذا المثلُ ظاهرا بَيِّنا جليا، قال :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ أي : على إقامة الحجة عليهم، ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ أي : فلهذا يشركون بالله.
ثم إن هذه الآية - وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين، وذِكْر الخصومة بينهم في الدار الآخرة - فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة.
قال ابن أبي حاتم، رحمه الله : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سفيان، عن محمد بن عمرو، عن ابن حاطب - يعني يحيى بن عبد الرحمن - عن ابن الزبير، عن الزبير قال : لما نزلت :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ قال الزبير : يا رسول الله، أتكرر علينا الخصومة ؟ قال :«نعم ». قال : إن الأمر إذًا لشديد.
وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان، وعنده زيادة : ولما نزلت :﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [ التكاثر : ٨ ] قال الزبير : أي رسول الله، أي نعيم نسأل عنه ؟ وإنما - يعني : هما الأسودان : التمر والماء - قال :" أما إن ذلك سيكون ".
وقد روى هذه الزيادة الترمذي وابن ماجه، من حديث سفيان، به. وقال الترمذي : حسن.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا ابن نمير حدثنا محمد - يعني ابن عمرو - عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير بن العوام قال : لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ قال الزبير : أي رسول الله، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال :«نعم ليكررن عليكم، حتى يُؤدَّى إلى كل ذي حق حقه ». قال الزبير : والله إن الأمر لشديد. ورواه الترمذي من حديث محمد بن عمرو به وقال : حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لَهِيعة، عن أبي عُشَّانة، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أول الخصمين يوم القيامة جاران ". تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفسي بيده، إنه ليختصم، حتى الشاتان فيما انتطحتا " تفرد به أحمد.
وفي المسند عن أبي ذر، رضي الله عنه أنه قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين ينتطحان، فقال :«أتدري فيم ينتطحان يا أبا ذر ؟ » قلت : لا. قال :«لكن الله يدري وسيحكم بينهما ».
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا سهل بن بحر، حدثنا حيان بن أغلب، حدثنا أبي، حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يجاء بالإمام الخائن يوم القيامة، فتخاصمه الرعية فيفلجون عليه، فيقال له : سد ركنا من أركان جهنم ".
ثم قال : الأغلب بن تميم ليس بالحافظ.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ يقول : يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهدي الضال، والضعيف المستكبر. .
وقد روى ابن منده في كتاب " الروح "، عن ابن عباس أنه قال : يختصم الناس يوم القيامة، حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد : أنت فعلت. ويقول الجسد للروح : أنت أمرت، وأنت سولت. فيبعث الله ملكا يفصل بينهما، فيقول لهما إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير والآخر ضرير، دخلا بستانا، فقال المقعد للضرير : إني أرى هاهنا ثمارا، ولكن لا أصل إليها. فقال له الضرير : اركبني فتناولها، فركبه فتناولها، فأيهما المعتدي ؟ فيقولان : كلاهما. فيقول لهما الملك. فإنكما قد حكمتما على أنفسكما. يعني : أن الجسد للروح كالمطية، وهو راكبه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن أحمد بن عَوْسَجة، حدثنا ضرار، حدثنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة، حدثنا القمي - يعني يعقوب بن عبد الله - عن جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : نزلت هذه الآية، وما نعلم في أي شيء نزلت :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ قال : قلنا : من نخاصم ؟ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة، فمن نخاصم ؟ حتى وقعت الفتنة فقال ابن عمر : هذا الذي وعدنا ربنا - عز وجل - نختصم فيه. ورواه النسائي عن محمد بن عامر، عن منصور بن سلمة، به.
وقال أبو العالية في قوله ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ قال : يعني أهل القبلة. وقال ابن زيد : يعني أهل الإسلام وأهل الكفر.
وقد قدمنا أن الصحيح العموم، والله أعلم.
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ، وَجَعَلُوا مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى، وَادَّعَوْا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ وَلَدًا -تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا-وَمَعَ هَذَا كَذَّبُوا بِالْحَقِّ إِذْ جَاءَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِ اللَّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ [وَسَلَامُهُ] (١) عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ﴾ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ طرفي الباطل،
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ (١) زَيْدٍ: ﴿الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ﴾ هُوَ الرَّسُولُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ﴿وَصَدَّقَ بِهِ﴾ يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ﴾ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ﴿وَصَدَّقَ بِهِ﴾ يَعْنِي: رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَرَأَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: "الَّذِينَ جَاءُوا (٢) بِالصِّدْقِ" يَعْنِي: الْأَنْبِيَاءَ، "وَصَدَّقُوا بِهِ" يَعْنِي: الْأَتْبَاعَ.
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ قَالَ: أَصْحَابُ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنُونَ يَجِيئُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَا أَعْطَيْتُمُونَا، فَعَمِلْنَا فِيهِ بِمَا أَمَرْتُمُونَا.
وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُجَاهِدٍ يَشْمَلُ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَقُولُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى النَّاسِ بِالدُّخُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، فَإِنَّهُ جَاءَ بِالصِّدْقِ (٣)، وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ، وَآمَنَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ﴾ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وَصَدَّقَ بِهِ﴾ الْمُسْلِمُونَ (٤).
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اتَّقَوُا الشِّرْكَ.
﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ يَعْنِي: فِي الْجَنَّةِ، مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا، ﴿ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ [الأحقاف: ١٦].
(٢) في أ: "والذي جاء".
(٣) في أ: "جاء بالحق".
(٤) في ت، س، أ: "قال المسلمون".
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس :﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ﴾ قال : من جاء بلا إله إلا الله، ﴿ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾ يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الربيع بن أنس :" الذين جاءوا٢ بالصدق " يعني : الأنبياء، " وصدقوا به " يعني : الأتباع.
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد :﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾ قال : أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة، فيقولون : هذا ما أعطيتمونا، فعملنا فيه بما أمرتمونا.
وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به، والرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير، فإنه جاء بالصدق٣، وصدق المرسلين، وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ﴾ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾ المسلمون٤.
﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ قال ابن عباس : اتقوا الشرك.
٢ - في أ: "والذي جاء"..
٣ - في أ: "جاء بالحق"..
٤ - في ت، س، أ: "قال المسلمون"..
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ -وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "عِبَادَهُ"-يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَكْفِي مَنْ عَبَدَهُ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ (١) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ (٢) ابْنُ أَخِي ابْنِ، وَهْبٍ حَدَّثَنَا عَمِّي، حَدَّثَنَا أَبُو هَانِئٍ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِيِّ (٣)، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا، وقَنَعَ بِهِ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِي هَانِئٍ الْخَوْلَانِيِّ، بِهِ (٤). وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ.
﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ يُخَوِّفُونَ الرَّسُولَ وَيَتَوَعَّدُونَهُ بِأَصْنَامِهِمْ وَآلِهَتِهِمُ الَّتِي يَدْعُونَهَا (٥) مِنْ دُونِهِ؛ جَهْلًا مِنْهُمْ وَضَلَالًا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾ أَيْ: مَنِيعِ الْجَنَابِ لَا يُضَامُ، مَنِ اسْتَنَدَ إِلَى جَنَابِهِ وَلَجَأَ إِلَى بَابِهِ، فَإِنَّهُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا أَعَزَّ مِنْهُ، وَلَا أَشَدَّ انْتِقَامًا مِنْهُ، مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَأَشْرَكَ وَعَانَدَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ يَعْنِي: [أَنَّ] (٦) الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، مِمَّا (٧) لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾ أَيْ: لَا تَسْتَطِيعُ شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ (٨).
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثَ قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ (٩) ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَضُرُّوكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ، جَفَّتِ الصُّحُفُ، وَرُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَاعْمَلْ لِلَّهِ بِالشُّكْرِ فِي الْيَقِينِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (١٠).
﴿قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ أَيِ: اللَّهُ كَافِيَّ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ، كَمَا قَالَ هُودٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٤-٥٦].
(٢) في أ: "عبد الله".
(٣) في أ: "الحسيني".
(٤) ورواه الحاكم في المستدرك (٤/١٢٢) والطبراني في المعجم الكبير (١٨/٣٠٦) مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أبي هانئ به.
(٥) في أ: "يدعون بها".
(٦) زيادة من ت، أ.
(٧) في ت، س، أ: "ممن".
(٨) في ت: "الأمور".
(٩) في ت: "حدثنا بسنده إلى".
(١٠) رواه أحمد في مسنده (١/٢٩٣) والترمذي في السنن برقم (٢٥١٦) من طريق الليث بن سعد عن قيس بن الحجاج به، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ أَيْ: عَلَى طَرِيقَتِكُمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ.. ﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾ أَيْ: عَلَى طَرِيقَتِي وَمَنْهَجِي، ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: سَتَعْلَمُونَ غَبَّ ذَلِكَ وَوَبَالِهِ ﴿مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، ﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ أَيْ: دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ، لَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهُ. وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
(٢) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده إلى ابن عباس".
(٣) زيادة من ت.
(٤) زيادة من ت، س، أ.
(٥) ورواه أبو نعيم في الحلية (٣/٢١٨) من طرق عن أبي المقدام به، ورواه ابن عدي في الكامل (٥/٢٤١) من طريق شيبان عن عيسى ابن ميمون عن محمد بن كعب القرظي به.
وقال١ ابن أبي حاتم هاهنا : حدثنا أبو عبيد الله٢ ابن أخي ابن، وهب حدثنا عمي، حدثنا أبو هانئ، عن أبي علي عمرو بن مالك الجنبي٣، عن فضالة بن عبيد الأنصاري ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا، وقَنَعَ به ".
ورواه الترمذي والنسائي من حديث حيوة بن شريح، عن أبي هانئ الخولاني، به٤. وقال الترمذي : صحيح.
﴿ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾ يعني : المشركين يخوفون الرسول ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها٥ من دونه ؛ جهلا منهم وضلالا ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ﴾ أي : منيع الجناب لا يضام، من استند إلى جنابه ولجأ إلى بابه، فإنه العزيز الذي لا أعز منه، ولا أشد انتقاما منه، ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله صلى الله عليه وسلم.
٢ - في أ: "عبد الله"..
٣ - في أ: "الحسيني"..
٤ - ورواه الحاكم في المستدرك (٤/١٢٢) والطبراني في المعجم الكبير (١٨/٣٠٦) من طريق عبد الله بن وهب عن أبي هانئ به..
٥ - في أ: "يدعون بها"..
وذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديث قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن٤ ابن عباس مرفوعا :«احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، جفت الصحف، ورفعت الأقلام، واعمل لله بالشكر في اليقين، واعلم أن الصبر على ما تكره خير كثير، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا »٥.
﴿ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ﴾ أي : الله كافيّ، عليه توكلت وعليه يتوكل المتوكلون، كما قال هود، عليه السلام، حين قال له قومه :﴿ إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [ هود : ٥٤ - ٥٦ ].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري، حدثنا عبد الله بن بكر٦ السهمي، حدثنا محمد بن حاتم، عن أبي المقدام - مولى آل عثمان - عن محمد بن كعب القرظي، حدثنا ابن عباس٧ [ رضي الله عنهما ] ٨ - رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق [ منه ]٩ بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله " ١٠.
٢ - في ت، س، أ: "ممن"..
٣ - في ت: "الأمور"..
٤ - في ت: "حدثنا بسنده إلى"..
٥ - رواه أحمد في مسنده (١/٢٩٣) والترمذي في السنن برقم (٢٥١٦) من طريق الليث بن سعد عن قيس بن الحجاج به، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"..
٦ - في أ: "بكير"..
٧ - في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده إلى ابن عباس"..
٨ - زيادة من ت..
٩ - زيادة من ت، س، أ..
١٠ - ورواه أبو نعيم في الحلية (٣/٢١٨) من طرق عن أبي المقدام به، ورواه ابن عدي في الكامل (٥/٢٤١) من طريق شيبان عن عيسى ابن ميمون عن محمد بن كعب القرظي به..
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ ﴿لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لِتُنْذِرَهُمْ بِهِ، ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ﴾ أَيْ: فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، ﴿وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ أَيْ: بِمُوَكَّلٍ أَنْ يَهْتَدُوا، ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [هُودٍ: ١٢]، ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرَّعْدِ: ٤٠].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْوُجُودِ بِمَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الْوَفَاةَ الْكُبْرَى، بِمَا يُرْسِلُ مِنَ الْحَفَظَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَهَا مِنَ الْأَبْدَانِ، وَالْوَفَاةَ الصُّغْرَى عِنْدَ الْمَنَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٦١، ٦٠]، فَذَكَرَ الْوَفَاتَيْنِ: الصُّغْرَى ثُمَّ الْكُبْرَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ الْكُبْرَى ثُمَّ الصُّغْرَى؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا تَجْتَمِعُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرُهُ. وَفِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ (١) بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عنه،
وقال بعض السلف [ رحمهم الله ] ٣ يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله تعالى أن تتعارف ﴿ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ﴾ التي قد ماتت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى.
قال السدي : إلى بقية أجلها. وقال ابن عباس : يمسك أنفس الأموات، ويرسل أنفس الأحياء، ولا يغلط. ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
٢ - صحيح البخاري برقم (٦٣٢٠) وصحيح مسلم برقم (٢٧١٤)..
٣ - زيادة من ت..
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ [رَحِمَهُمُ اللَّهُ] (٢) يَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ إِذَا مَاتُوا، وَأَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إِذَا نَامُوا، فَتَتَعَارَفُ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَتَعَارَفَ ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾ الَّتِي قَدْ مَاتَتْ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى.
قَالَ السُّدِّيُّ: إِلَى بَقِيَّةِ أَجَلِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُمْسِكُ أَنْفُسَ الْأَمْوَاتِ، وَيُرْسِلُ أَنْفُسَ الْأَحْيَاءِ، وَلَا يَغْلَطُ. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ شُفَعَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُمُ الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ، الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ حَدَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ، بَلْ وَلَيْسَ لَهَا عَقْلٌ تَعْقِلُ بِهِ، وَلَا سَمْعٌ تَسْمَعُ بِهِ، وَلَا بَصَرٌ تُبْصِرُ بِهِ، بَلْ هِيَ جَمَادَاتٌ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحَيَوَانِ بِكَثِيرٍ (٣).
ثُمَّ قَالَ: قُلْ: أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ مَا اتَّخَذُوهُ (٤) شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أَخْبِرْهُمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ وَأَذِنَ لَهُ، فَمَرْجِعُهَا كُلِّهَا إِلَيْهِ، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥].
﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أَيْ: هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَحْكُمُ بَيْنَكُمْ بِعَدْلِهِ، وَيَجْزِي كُلًّا بِعَمَلِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُشْرِكِينَ أَيْضًا: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ﴾ أَيْ: إِذَا قِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴿اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿اشْمَأَزَّتْ﴾ انْقَبَضَتْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَفَرَتْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَفَرَتْ وَاسْتَكْبَرَتْ. وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: اسْتَكْبَرَتْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ٣٥]، أَيْ: عَنِ الْمُتَابَعَةِ وَالِانْقِيَادِ لَهَا. فَقُلُوبُهُمْ (٥) لَا تَقْبَلُ الْخَيْرَ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْخَيْرَ يَقْبَلِ الشَّرَّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ أَيْ: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، ﴿إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أي: يفرحون ويسرون.
(٢) زيادة من ت.
(٣) في س: "بكبير".
(٤) في ت: "ما اتخذوا".
(٥) في ت: "بقلوبهم".
﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ﴾ أي : هو المتصرف في جميع ذلك. ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي : يوم القيامة، فيحكم بينكم بعدله، ويجزي كلا بعمله.
وقال السدي : نفرت. وقال قتادة : كفرت واستكبرت. وقال مالك، عن زيد بن أسلم : استكبرت. كما قال تعالى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ الصافات : ٣٥ ]، أي : عن المتابعة والانقياد لها. فقلوبهم١ لا تقبل الخير، ومن لم يقبل الخير يقبل الشر ؛ ولهذا قال :﴿ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾ أي : من الأصنام والأنداد، قاله مجاهد، ﴿ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ أي : يفرحون ويسرون.
يَقُولُ تَعَالَى بَعْدَ مَا ذَكَرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْمَذَمَّةِ، لَهُمْ فِي حُبِّهِمُ الشِّرْكَ، وَنُفْرَتِهِمْ عَنِ التوحيد ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أَيِ: ادْعُ أَنْتَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَفَطَرَهَا، أَيْ: جَعَلَهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أَيِ: السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، ﴿أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أَيْ: فِي دُنْيَاهُمْ (١)، سَتَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ وَنُشُورِهِمْ، وَقِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ.
وَقَالَ (٢) مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ (٣) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] (٤) بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: "اللَّهُمَّ رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (٥) وَقَالَ (٦) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَأَخْبَرَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيم، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (٧) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا (٨) أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبُنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدُنِي مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينيه يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، إِلَّا قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لِمَلَائِكَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّ عَبْدِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا فَأَوْفُوهُ إِيَّاهُ، فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ".
قَالَ سُهَيْلٌ: فَأَخْبَرْتُ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَوْنًا أَخْبَرَ بِكَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: مَا فِي أَهْلِنَا جَارِيَةٌ إِلَّا وَهِيَ تَقُولُ هَذَا فِي خِدْرِهَا. انْفَرَدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (٩).
وَقَالَ (١٠) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنِي حُييّ (١١) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ
(٢) في ت: "روى".
(٣) في ت: "عن أبي سلمة".
(٤) زيادة من ت.
(٥) صحيح مسلم برقم (٧٧٠).
(٦) في ت: "وروى".
(٧) في ت، أ: "مسعود رضي الله عنه".
(٨) في أ: "في الحياة الدنيا".
(٩) المسند (١/٤١٢) قال الهيثمي في المجمع (١٠/١٧٤) :"رجاله رجال الصحيح".
(١٠) في ت: "وروى".
(١١) في ت: "يحيى".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُ (٢) عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَنَامَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا (٣).
وَقَالَ (٤) [الْإِمَامُ] (٥) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ (٦)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيِّ، عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الحُبْرَاني قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَلْقَى بَيْنَ يَدَي صَحِيفَةً فَقَالَ: هَذَا مَا كَتَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرْتُ فِيهَا فَإِذَا فِيهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ (٧) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي مَا أَقُولُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، رَبَّ كُلِّ شَيٍّ وَمَلِيكَهِ، أُعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، أَوْ (٨) أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ (٩)، بِهِ (١٠)، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أَقُولَ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ، وَإِذَا أَخَذْتُ مَضْجَعِي من الليل: "اللهم فاطر السموات وَالْأَرْضِ" إِلَى آخِرِهِ (١١).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، ﴿مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ أَيْ: وَلَوْ أَنَّ جَمِيعَ مُلْكِ الْأَرْضِ وَضِعْفِهُ مَعَهُ ﴿لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ﴾ أَيِ: الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَعَ هَذَا لَا يُتقبل مِنْهُمُ الْفِدَاءُ وَلَوْ كَانَ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ أَيْ: وَظَهَرَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ فِي بَالِهِمْ وَلَا فِي حِسَابِهِمْ،.
﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ أَيْ: وَظَهَرَ لَهُمْ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ، ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أَيْ: وَأَحَاطَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فِي الدَّارِ الدنيا.
(٢) في ت، س: "يعلم".
(٣) المسند (٢/١٧١).
(٤) في ت: "وروى".
(٥) زيادة من أ.
(٦) في ت: "عباس".
(٧) في ت: "الصديق رضي الله عنه".
(٨) في ت، أ: "أن".
(٩) في أ: "عباس".
(١٠) المسند (٢/١٩٦) وسنن الترمذي برقم (٣٥٢٩).
(١١) المسند (١/١٤).
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ (١) الْإِنْسَانِ أَنَّهُ فِي حَالِ الضَّرَّاءِ يَضْرَع إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيُنِيبُ إِلَيْهِ وَيَدْعُوهُ، وَإِذَا (٢) خَوَّلَهُ مِنْهُ نِعْمَةً بَغَى وَطَغَى، وَقَالَ: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ أَيْ: لِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِي لَهُ، وَلَوْلَا أَنِّي عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى خِصِّيصٌ لَمَا خَوَّلني هَذَا!
قَالَ قَتَادَةُ: ﴿عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ عَلَى خيرٍ عِنْدِي.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ﴾ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، بَلْ [إِنَّمَا] (٣) أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ لِنَخْتَبِرَهُ فِيمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ، أَيُطِيعُ أَمْ يَعْصِي؟ مَعَ عِلْمِنَا الْمُتَقَدِّمِ بِذَلِكَ، فَهِيَ فِتْنَةٌ أَيِ: اخْتِبَارٌ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فَلِهَذَا يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ، وَيَدْعُونَ مَا يَدْعُونَ.
﴿قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أَيْ: قَدْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَزَعَمَ هَذَا الزَّعْمَ وَادَّعَى هَذِهِ الدَّعْوَى، كَثِيرٌ مِمَّنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أَيْ: فَمَا صَحَّ قَوْلُهُمْ وَلَا مَنَعَهُمْ جَمْعُهُمْ وَمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ﴾ أَيْ: مِنَ الْمُخَاطَبِينَ (٤) ﴿سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ أَيْ: كَمَا أَصَابَ أُولَئِكَ، ﴿وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَارُونَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ قَوْمَهُ: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الْقَصَصِ: ٧٦-٧٨]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سَبَأٍ: ٣٥].
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ أَيْ: يُوَسِّعُهُ عَلَى قَوْمٍ وَيُضَيِّقُهُ عَلَى آخَرِينَ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي: لعبرا وحججا.
(٢) في ت: "فإذا".
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) في ت: "المخلطين".
هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر. ولا يصح حمل هذه [ الآية ]١ على غير توبة٢ ؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه.
٢ - في ت: "التوبة"..
وقوله :﴿ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ أي : إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ غير موقن مصدق.
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَعْوَةٌ لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ مِنَ الْكَفَرَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا لِمَنْ تَابَ مِنْهَا وَرَجَعَ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَهْمَا كَانَتْ وَإِنْ كَثُرَتْ وَكَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ. وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ هَذِهِ [الْآيَةِ] (١) عَلَى غَيْرِ تَوْبَةٍ (٢) ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ؛ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ: قَالَ يَعْلَى: إِنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (٣) [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (٤) ؛ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا. فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةٌ. فَنَزَلَ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ﴾ [الْفُرْقَانِ: ٦٨]، وَنَزَلَ [قَوْلُهُ] (٥) :﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾.
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِهِ (٦).
وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ: ﴿إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ الْآيَةَ. [الْفُرْقَانِ: ٧٠].
وَقَالَ (٧) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو قَبِيلٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرِّيَّ (٨) يَقُولُ: سَمِعْتُ (٩) ثَوْبَانَ -مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ أَشْرَكَ؟ فَسَكَتَ النَّبِيِّ (١٠) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: "أَلَا وَمَنْ أَشْرَكَ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (١١).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ (١٢) بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ جَابِرٍ الْحُدَّانِيِّ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ (١٣) عَمْرِو بْنِ عَبَسة (١٤) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَيْخٌ كَبِيرٌ يُدَعِّمُ عَلَى عَصًا لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي غَدَرَاتٍ وَفَجَرَاتٍ، فَهَلْ يُغْفَرُ لِي؟ فَقَالَ: "أَلَسْتَ تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ " قَالَ: بَلَى، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: "قَدْ غُفِرَ لك غدراتك وفجراتك". تفرد به أحمد (١٥).
(٢) في ت: "التوبة".
(٣) في ت: "روى البخاري بسنده عن ابن عباس".
(٤) زيادة من أ.
(٥) زيادة من ت، س.
(٦) صحيح البخاري برقم (٤٨١٠) وصحيح مسلم برقم (١٢٢) وسنن أبي داود برقم (٧٢٧٤) وسنن النسائي (٧/٨٦).
(٧) في ت: "وروى".
(٨) في أ: "السري".
(٩) في ت: "سمعت عن".
(١٠) في ت: "رسول الله".
(١١) المسند (٥/٢٧٥).
(١٢) في أ: "شريح".
(١٣) في ت: "وعن".
(١٤) في ت، ا: "عنبسة".
(١٥) المسند (٤/٣٨٥).
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ، بِهِ (٣).
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّهُ يَغْفِرُ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعَ التَّوْبَةِ، وَلَا يَقْنَطَنَّ (٤) عَبْدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَإِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَكَثُرَتْ؛ فَإِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ وَاسِعٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٠٤]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النِّسَاءِ: ١١٠]، وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلا الَّذِينَ تَابُوا﴾ [النِّسَاءِ: ١٤٦، ١٤٥]، وَقَالَ ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٧٣]، ثُمَّ قَالَ ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٧٤]، وَقَالَ ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ [الْبُرُوجِ: ١٠].
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: انْظُرْ (٥) إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ، قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ!.
وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدِيثُ الَّذِي (٦) قَتَلَ تِسْعًا (٧) وَتِسْعِينَ نَفْسًا، ثُمَّ نَدِمَ وَسَأَلَ عَابِدًا مِنْ عُبَّاد بَنِي إِسْرَائِيلَ: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ وَأَكْمَلَ (٨) بِهِ مِائَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَالِمًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى قَرْيَةٍ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا، فَقَصَدَهَا فَأَتَاهُ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَقِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبُ فَهُوَ مِنْهَا. فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا بِشِبْرٍ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. وَذُكِرَ أَنَّهُ نَأَى بِصَدْرِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْبَلْدَةَ الْخَيِّرَةَ أَنْ تَقْتَرِبَ، وَأَمَرَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ أَنْ تَتَبَاعَدَ (٩) (١٠) هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَقَدْ كتبناه في موضع آخر بلفظه.
(٢) في أ: "يزيد رضي الله عنها".
(٣) المسند (٦/٤٥٤) وسنن أبي داود برقم (٣٩٨٢) وسنن الترمذي برقم (٣٢٣٧).
(٤) في ت: "ولا يقنط".
(٥) في ت: "انظروا".
(٦) في ت: "أن رجلا".
(٧) في أ: "تسعة".
(٨) في ت: "فأكمل".
(٩) في أ: "تبتعد".
(١٠) رواه البخاري في صحيحه برقم (٣٤٧٠) ومسلم برقم (٢٧٦٦).
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُتَير بْنِ شَكَل أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ إِنَّ أَعْظَمَ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥]، وَإِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِخَيْرٍ وَشَرٍّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾ [النَّحْلِ: ٩٠]، وَإِنَّ أَكْثَرَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَرَجًا فِي سُورَةِ الْغُرَفِ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾، وَإِنَّ أَشَدَّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَصْرِيفًا (٦) ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطَّلَاقِ: ٣، ٢]. فَقَالَ لَهُ مَسْرُوقٌ: صَدَقْتَ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الْكَنُودِ قَالَ: مَرَّ عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ-عَلَى قَاصٍّ، وَهُوَ يَذَكِّرُ النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُذَكِّرُ لِمَ تُقَنِّط (٧) النَّاسَ؟ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
ذِكْرُ أَحَادِيثَ فِيهَا نَفْيُ الْقُنُوطِ:
قَالَ (٨) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ (٩)، حَدَّثَنِي أَخْشَنُ السَّدُوسِيُّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (١٠) فَقَالَ (١١) سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمُ اللَّهَ لَغَفَرَ لَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُخْطِئُوا (١٢) لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُخْطِئُونَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ" تَفَرَّدَ بِهِ [الْإِمَامُ] (١٣) أَحْمَدُ (١٤). وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى (١٥) حَدَّثَنِي لَيْثٌ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ -قَاصُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ-عَنْ أَبِي صِرْمة، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: قَدْ كُنْتُ كَتَمْتُ مِنْكُمْ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "لولا أنكم تذنبون، لخلق الله
(٢) زيادة من أ.
(٣) في ت: العزير."
(٤) زيادة من ت.
(٥) في أ: "العباد".
(٦) في ت، س: "تفويضا".
(٧) في س: "يقنط".
(٨) في ت: "روى".
(٩) في أ: "عبيد الله السدوسي".
(١٠) في ت: "عن ابن مالك" وفي أ: "أنس بن مالك رضي الله عنه".
(١١) في ت: "قال".
(١٢) في ت: "تخطئون".
(١٣) زيادة من أ.
(١٤) المسند (٣/٢٣٨).
(١٥) في أ: "إسحاق بن أبي عيسى".
هَكَذَا (١) رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ جَمِيعًا، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ (٢). وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ أَبِي صِرْمَةَ -وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ صَحَابِيٌّ-عَنْ أَبِي أَيُّوبَ بِهِ (٣).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ النُّكري قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنِ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (٤) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَفَّارَةُ الذَّنْبِ (٥) النَّدَامَةُ"، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ" تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (٦).
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ النَّرسِي، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَسْلَمَةُ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْبَجَلِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ أَبِيهِ، عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ". لَمْ يُخْرِجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (٧).
وَقَالَ (٨) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: إِنَّ إِبْلِيسَ -عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ-قَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ أَخْرَجْتَنِي مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ أَجْلِ آدَمَ، وَإِنِّي لَا أَسْتَطِيعُهُ إِلَّا بِسُلْطَانِكَ. قَالَ: فَأَنْتَ مُسَلَّطٌ. قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ إِلَّا وُلِدَ لَكَ مِثْلُهُ. قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: أَجْعَلُ صُدُورَهُمْ مَسَاكِنَ لَكُمْ، وَتَجْرُونَ مِنْهُمْ مَجْرَى الدَّمِ. قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا. فَقَالَ آدَمُ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (٩) يَا رَبِّ، قَدْ سَلَّطْتَهُ عَلَيَّ، وَإِنِّي لَا أَمْتَنِعُ [مِنْهُ] (١٠) إِلَّا بِكَ. قَالَ: لَا يُولَدُ لَكَ وَلَدٌ إِلَّا وَكَّلْتُ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ. قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: الْحَسَنَةُ عَشَرٌ أَوْ أَزِيدُ، وَالسَّيِّئَةُ وَاحِدَةٌ أَوْ أَمْحُوهَا. قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ مَا كَانَ الرُّوحُ فِي الْجَسَدِ. قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ نَافِعٌ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي حَدِيثِهِ قَالَ: وَكُنَّا نَقُولُ مَا اللَّهُ بِقَابِلٍ مِمَّنِ افْتُتِنَ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَلَا تَوْبَةً، عَرَفُوا اللَّهَ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ لِبَلَاءٍ أَصَابَهُمْ. قَالَ: وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ وَفِي قَوْلِنَا وَقَوْلِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾
(٢) المسند (٥/٤١٤) وصحيح مسلم برقم (٢٧٤٨) وسنن الترمذي برقم (٣٥٣٩).
(٣) صحيح مسلم برقم (٢٧٤٨).
(٤) في أ: "ابن عباس رضي الله عنهما".
(٥) في أ: "الذنوب".
(٦) المسند (١/٢٨٩).
(٧) زوائد عبد الله على المسند (١/٨٠).
(٨) في ت: "وروى".
(٩) زيادة من ت، س، أ.
(١٠) زيادة من ت، س، أ.
ثُمَّ اسْتَحَثَّ [سُبْحَانَهُ] (١) وَتَعَالَى عِبَادَهُ إِلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، فَقَالَ: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ أَيِ: ارْجِعُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَسْلِمُوا لَهُ، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ أَيْ: بَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ حُلُولِ النِّقْمَةِ،.
﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أَيْ: مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُونَ وَلَا تَشْعُرُونَ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَحَسَّرُ الْمُجْرِمُ الْمُفَرِّطُ فِي التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَيَوَدُّ لَوْ كَانَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الْمُخْلِصِينَ الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا كَانَ عَمَلِي فِي الدُّنْيَا عَمَلَ سَاخِرٍ مُسْتَهْزِئٍ غَيْرِ مُوقِنٍ مُصَدِّقٍ.
﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ أَيْ: تَوَدُّ أَنْ لَوْ (٢) أُعِيدَتْ إِلَى الدَّارِ فَتُحْسِنُ (٣) الْعَمَلَ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ (٤)، مَا الْعِبَادُ قَائِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوهُ، وَعَمَلَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ (٥)، وَقَالَ: ﴿وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فَاطِرٍ: ١٤]، ، ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنْ لَوْ رُدوا لَمَا قَدَرُوا عَلَى الْهُدَى، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٢٨].
وَقَدْ قَالَ (٦) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي؟! فَتَكُونُ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ". قَالَ: "وَكُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي! " قَالَ: "فَيَكُونُ لَهُ الشُّكْرُ".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، بِهِ (٧).
(٢) في ت: "أن لو أن".
(٣) في أ: "لتحسن".
(٤) في أ: "أخبرنا الله تعالى".
(٥) في ت، س: "وعلمهم قبل أن يعلموه".
(٦) في ت: "روى".
(٧) المسند (٢/٥١٢).
قال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس : أخبر الله سبحانه٣، ما العباد قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه٤، وقال :﴿ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [ فاطر : ١٤ ]، ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ فأخبر الله تعالى : أن لو رُدوا لما قدروا على الهدى، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ].
وقد قال٥ الإمام أحمد : حدثنا أسود، حدثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول : لو أن الله هداني ؟ ! فتكون عليه حسرة ». قال :«وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني ! » قال :«فيكون له الشكر ».
ورواه النسائي من حديث أبي بكر بن عياش، به٦.
٢ - في أ: "لتحسن"..
٣ - في أ: "أخبرنا الله تعالى"..
٤ - في ت، س: "وعلمهم قبل أن يعلموه"..
٥ - في ت: "روى"..
٦ - المسند (٢/٥١٢)..
٢ - في ت: "قل" وهو خطأ..
٣ - في أ: "منه جاءتك"..
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ تَسْوَدُّ فِيهِ وُجُوهٌ، وَتَبْيَضُّ فِيهِ وُجُوهٌ، تَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ، وَتَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، قَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ﴾ أَيْ: فِي دَعْوَاهُمْ لَهُ شَرِيكًا وَوَلَدًا ﴿وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ أَيْ: بِكَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ أَيْ: أَلَيْسَتْ جَهَنَّمُ كَافِيَةً لَهَا (٤) سِجْنًا وَمَوْئِلًا لَهُمْ فِيهَا [دَارُ] (٥) الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ، بِسَبَبِ تَكَبُّرِهِمْ وَتَجَبُّرِهِمْ وَإِبَائِهِمْ عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنُ أَخِي ابْنِ وهب، حَدَّثَنَا عَمِّي، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى الْخَيَّاطُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ (٦)، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمُتَكَبِّرِينَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشْبَاهَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ، يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ، حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا مِنَ النَّارِ فِي وَادٍ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ، مِنْ نَارِ الْأَنْيَارِ، وَيُسْقَوْنَ عُصَارَةَ أَهْلِ النَّارِ، وَمِنْ طِينَةِ الخَبَال" (٧).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ﴾ أَيْ: مِمَّا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْفَوْزِ عِنْدَ اللَّهِ، ﴿لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أَيْ: وَلَا يَحْزُنُهُمُ (٨) الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، بَلْ هُمْ آمَنُونَ مِنْ كُلِّ فَزَع، مُزَحْزَحُونَ عَنْ كُلِّ شَرٍّ، مُؤمَلون كُلَّ خَيْرٍ.
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ (٩) الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَرَبُّهَا وَمَلِيكُهَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، وَكُلٌّ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ وَقَهْرِهِ وكلاءته.
(٢) في ت: "قل" وهو خطأ.
(٣) في أ: "منه جاءتك".
(٤) في ت، س: "لهم".
(٥) زيادة من ت، س.
(٦) في ت: "روى ابن أبي حاتم بإسناده عن عمرو بن شعيب"
(٧) ورواه أحمد في مسنده (٢/١٧٨) والترمذي في السنن برقم (٢٤٩٢) من طريق محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب بنحوه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
(٨) في ت: "أي لا يجزيهم".
(٩) في ت: "خلق".
وقال السدي: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أي: خزائن السموات وَالْأَرْضِ.
وَالْمَعْنَى عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ أزمَّة الْأُمُورِ بِيَدِهِ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ أَيْ: حُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا -وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ-وَلَكِنْ (١) نَذْكُرُهُ كَمَا ذَكَرَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ (٢) بْنُ سِنان الْبَصْرِيُّ بِمِصْرَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا الْأَغْلَبُ بْنُ تَمِيمٍ، عَنْ مُخَلَّدِ بْنِ هُذَيْلٍ الْعَبْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تفسير: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾ فَقَالَ: "مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ قَبْلَكَ يَا عُثْمَانُ"، قَالَ: "تَفْسِيرُهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، وَالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَنْ قَالَهَا يَا عُثْمَانُ إِذَا أَصْبَحَ عَشْرَ مِرَارٍ أُعْطِيَ خِصَالًا سِتًّا: أَمَّا أُولَاهُنَّ: فَيُحْرَسُ مِنْ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَيُعْطَى قِنْطَارًا مِنَ الْأَجْرِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَتُرْفَعُ (٣) لَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الرَّابِعَةُ: فَيَتَزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَأَمَّا الْخَامِسَةُ: فَيَحْضُرُهُ (٤) اثْنَا عَشَرَ مَلَكًا، وَأَمَّا السَّادِسَةُ: فَيُعْطَى مِنَ الْأَجْرِ كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ. وَلَهُ مَعَ هَذَا يَا عُثْمَانُ مِنَ الْأَجْرِ كَمَنْ حَجَّ وَتُقُبِّلَتْ حَجَّتُهُ، وَاعْتَمَرَ فَتُقُبِّلَتْ عُمْرَتُهُ، فَإِنْ مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ طُبِعَ بِطَابِعِ الشُّهَدَاءِ".
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ، بِهِ مِثْلَهُ (٥). وَهُوَ غَرِيبٌ، وَفِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ] (٦) : إِنَّ الْمُشْرِكِينَ بِجَهْلِهِمْ دَعَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ، وَيَعْبُدُوا مَعَهُ إِلَهَهُ، فَنَزَلَتْ: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٨٨].
وَقَوْلُهُ: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ أَيْ: أَخْلِصِ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لا شريك له، أنت
(٢) في أ: "زيد".
(٣) في ت: "فيرفع".
(٤) في س: "فتحضره".
(٥) ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (٧٣) من طريق أبي عن شجاع بن مخلد عن يحيى بن حماد به، وقال الهيثمي في المجمع (١٠/١١٥) :"رواه أبو يعلى في الكبير، وفيه الأغلب بن تميم، وهو ضعيف".
(٦) زيادة من ت، س.
وقال السدي :﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ﴾ أي : خزائن السموات والأرض.
والمعنى على كلا القولين : أن أزمَّة الأمور بيده، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ؛ ولهذا قال :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ أي : حججه وبراهينه ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا غريبا جدًا - وفي صحته نظر - ولكن١ نذكره كما ذكره، فإنه قال :
حدثنا يزيد٢ بن سِنان البصري بمصر، حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا الأغلب بن تميم، عن مخلد بن هذيل العبدي، عن عبد الرحمن المدني، عن عبد الله بن عمر، عن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير :﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ﴾ فقال :" ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان "، قال :" تفسيرها : لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، أستغفر الله، ولا قوة إلا بالله، الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، من قالها يا عثمان إذا أصبح عشر مرار أعطي خصالا ستا : أما أولاهن : فيحرس من إبليس وجنوده، وأما الثانية : فيعطى قنطارا من الأجر، وأما الثالثة : فترفع٣ له درجة في الجنة، وأما الرابعة : فيتزوج من الحور العين، وأما الخامسة : فيحضره٤ اثنا عشر ملكا، وأما السادسة : فيعطى من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور. وله مع هذا يا عثمان من الأجر كمن حج وتقبلت حجته، واعتمر فتقبلت عمرته، فإن مات من يومه طبع بطابع الشهداء ".
ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث يحيى بن حماد، به مثله٥. وهو غريب، وفيه نكارة شديدة، والله أعلم.
٢ - في أ: "زيد"..
٣ - في ت: "فيرفع"..
٤ - في س: "فتحضره"..
٥ - ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (٧٣) من طريق أبي عن شجاع بن مخلد عن يحيى بن حماد به، وقال الهيثمي في المجمع (١٠/١١٥): "رواه أبو يعلى في الكبير، وفيه الأغلب بن تميم، وهو ضعيف"..
وهذه كقوله :﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأنعام : ٨٨ ].
وهذه كقوله :﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأنعام : ٨٨ ].
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: وَمَا قَدَّرَ الْمُشْرِكُونَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، حِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَوْ قَدَّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَا كَذَّبُوهُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (١) :﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِقُدْرَةِ اللَّهِ [تَعَالَى] (٢) عَلَيْهِمْ، فَمَنْ آمَنَ أن الله على كل شي قَدِيرٌ، فَقَدْ قَدَرَ اللَّهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ فَلَمْ يُقَدِّرِ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وَقَدْ وَرَدَتْ (٣) أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالطَّرِيقُ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا مَذْهَبُ السَّلَفِ، وَهُوَ إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَحْرِيفٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (٤) قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ: إِنَّا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرْضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ (٥) وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلَائِقِ عَلَى إِصْبَعٍ. فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ الْآيَةَ (٦).
وَ [قَدْ] (٧) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ (٨) صَحِيحِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ سَنَنَيْهِمَا، كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ [عَبْدِ اللَّهِ] (٩) ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِنَحْوِهِ (١٠).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأعمش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أُبَلِّغَكَ أَنَّ اللَّهَ [تَعَالَى] (١١) يَحْمِلُ الْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، والسموات عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرْضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى
(٢) زيادة من أ.
(٣) في ت: "ورد".
(٤) في ت، أ: "مسعود رضي الله عنه".
(٥) في ت، أ: "والماء على إصبع".
(٦) صحيح البخاري برقم (٤٨١١).
(٧) زيادة من أ.
(٨) في أ: "في".
(٩) زيادة من ت.
(١٠) صحيح البخاري برقم (٧٤١٤، ٧٤١٥، ٧٤٥١) والمسند (١/٤٢٩) و٢صحيح مسلم برقم (٢٧٨٦) وسنن الترمذي برقم (٣٢٣٨) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٥١).
(١١) زيادة من أ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ -مِنْ طُرُقٍ-عَنِ الْأَعْمَشِ (١) بِهِ (٢).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حَسَنٍ الْأَشْقَرُ، حَدَّثَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (٣) قَالَ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ: يَوْمَ يَجْعَلُ اللَّهُ السَّمَاءَ عَلَى ذِهْ -وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ-وَالْأَرْضَ عَلَى ذِهْ، وَالْجِبَالَ عَلَى ذِهِ وَسَائِرَ الْخَلْقِ (٤) عَلَى ذِهْ -كُلُّ ذَلِكَ يُشِيرُ بِإِصْبُعِهِ (٥) -قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ الْآيَةَ.
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْت، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي كُدَيْنَةَ يَحْيَى بْنُ الْمُهَلَّبِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ، بِهِ (٦)، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنِ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ (٧)، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ".
تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (٨)، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (٩).
وَقَالَ (١٠) الْبُخَارِيُّ -فِي مَوْضِعٍ آخَرَ-: حَدَّثَنَا مُقَدَّم بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (١١)، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَرْضِينَ على إصبع، وتكون السموات بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ".
تَفَرَّدَ بِهِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (١٢)، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (١٣). وَقَدْ رَوَاهُ (١٤) الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِلَفْظٍ آخَرَ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَأَطْوَلَ، فَقَالَ:
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (١٥) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَكَذَا بِيَدِهِ، يُحَرِّكُهَا يُقْبِلُ بِهَا وَيُدْبِرُ: "يُمَجِّدُ الرَّبُّ نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا
(٢) المسند (١/٣٧٨) وصحيح البخاري برقم (٧٤٥١) وصحيح مسلم برقم (٢٧٨٦) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٥٢).
(٣) في ت: "عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا".
(٤) فِي أ: "الخلائق".
(٥) في ت: "بأصابعه".
(٦) المسند (١/٣٢٤) وسنن الترمذي برقم (٣٢٤٠).
(٧) في ت: "وروى البخاري بإسناده أن أبا هريرة".
(٨) صحيح البخاري برقم (٤٨١٢).
(٩) صحيح مسلم برقم (٢٧٨٧) مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هريرة به.
(١٠) في ت: "وروى".
(١١) في أ: "عن ابن عمر رضي الله عنهما".
(١٢) صحيح البخاري برقم (٤٨١٢).
(١٣) صحيح مسلم برقم (٢٧٨٨) من طريق سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر به.
(١٤) في ت: "وروى".
(١٥) في أ: "عن ابن عمر رضي الله عنهما".
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ -زَادَ مُسْلِمٌ: وَيَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ (١) عُمَرَ، بِهِ، نَحْوَهُ (٢).
وَلَفْظُ مُسْلِمٍ -عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ (٣) فِي هَذَا الْحَدِيثِ-: أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ يَحْكِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَأْخُذُ اللَّهُ سمواته وَأَرْضِيهِ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا: أَنَا الْمَلِكُ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي لَأَقُولَ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ (٤)، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ المنْقرَي، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (٥)، أن رسول الله ﷺ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، فَقَالَ الْمِنْبَرُ هَكَذَا، فَجَاءَ وَذَهَبَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (٦).
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَالَ: صَحِيحٌ (٧).
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ العُتْبي، حَدَّثَنَا حَيَّانُ بْنُ نَافِعِ بْنِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَّةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيْس، عَنْ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَرِيرٍ (٨) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لِنَفِرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: "إِنِّي قَارِئٌ عَلَيْكُمْ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الزُّمَرِ، فَمَنْ بَكَى مِنْكُمْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ"؟ فَقَرَأَهَا مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَمِنَّا مَنْ بَكَى، وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَبْكِ، فَقَالَ الَّذِينَ لَمْ يَبْكُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ جَهِدْنَا أَنْ نَبْكِيَ فَلَمْ نَبْكِ؟ فَقَالَ: "إِنِّي سَأَقْرَؤُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ لَمْ يَبْكِ فَلْيَتَبَاكَ". هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا (٩).
وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ مُرْثَد (١٠)، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي ضَمْضَمُ بْنُ زُرْعَةَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أبي مالك
(٢) المسند (٢/٧٢) وصحيح مسلم برقم (٢٧٨٨) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٧٦٨٩) وسنن ابن ماجه برقم (٤٢٧٥).
(٣) في ت: "عمر".
(٤) في أ: "يوسف".
(٥) زيادة من أ.
(٦) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (١٢٨) : حدثنا أبو بكر البرذعي عن سليمان بن سيف به، ورواه ابن عدي في الكامل (٤/٣٤٢) والطبراني في المعجم الكبير (١٢/٣٥٢) من طريق عبادة بن ميسرة به، وفي إسناده عباد بن ميسرة المنقري، وهو ضعيف وعند ابن عدي: "فتحرك المنبر مرتين".
(٧) لم أجده في المطبوع من مسند عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٨) في ت: "وروى الطبراني في المعجم الكبير بإسناده عن جرير".
(٩) المعجم الكبير (٢/٣٤٨) وقال الهيثمي في المجمع (٧/١٠١) :"فيه بكر بن خنيس وهو متروك".
(١٠) في هـ، ت، أ: "زيد" والتصويب من المعجم.
وَهَذَا إِسْنَادٌ مُتَقَارِبٌ، وَهِيَ نُسْخَةٌ تُرْوَى بِهَا أَحَادِيثُ جَمَّةٌ، والله أعلم.
(٢) في هـ: "قبضت الأرضين" وفي س، ت، أ: "قبضت الأرض ثم الأرضين" والمثبت من المعجم.
(٣) في س: "أريهم".
(٤) المعجم الكبير (٣/٢٩٤)، وفي إسناده: محمد بن إسماعيل بن عياش، ضعيف ولم يسمع من أبيه.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالزَّلَازِلِ الْهَائِلَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾، هَذِهِ النَّفْخَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَهِيَ الَّتِي يموت (١) بها الأحياء من أهل السموات وَالْأَرْضِ، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا هُوَ (٢) مُصَرَّحٌ (٣) بِهِ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ الصُّورِ الْمَشْهُورِ. ثُمَّ يَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْبَاقِينَ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ مَنْ يَمُوتُ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَيَنْفَرِدُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي كَانَ أَوَّلًا وَهُوَ الْبَاقِي آخِرًا بِالدَّيْمُومَةِ (٤) وَالْبَقَاءِ، وَيَقُولُ: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غَافِرٍ: ١٦] ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ يُجِيبُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فَيَقُولُ: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ أَيِ: الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ وَقَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَحَكَمَ بِالْفَنَاءِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. ثُمَّ يُحْيِي أَوَّلَ مَنْ يُحْيِي إِسْرَافِيلَ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُنْفَخَ فِي الصُّورِ أُخْرَى، وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْبَعْثِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ أَيْ: أَحْيَاءٌ بَعْدَ مَا كَانُوا عِظَامًا وَرُفَاتًا، صَارُوا أَحْيَاءً يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النَّازِعَاتِ: ١٤، ١٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٥٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [الرُّومِ: ٢٥].
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ: سمعت
(٢) في أ: "جاء".
(٣) في ت، س: "مصرحا".
(٤) في أ: "بالديمومية".
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ (٧).
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٨) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ" (٩). قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أبي، قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا عَجْبُ ذَنَبِهِ فِيهِ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ (١٠).
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (١١)، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَأَلْتُ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ مَنِ الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يَصْعَقَهُمْ؟ قَالَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ، مُقَلِّدُونَ أَسْيَافَهُمْ حَوْلَ عَرْشِهِ، تَتَلَقَّاهُمْ مَلَائِكَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَى الْمَحْشَرِ بِنَجَائِبَ مِنْ يَاقُوتٍ نِمَارُهَا أَلْيَنُ مِنَ الْحَرِيرِ، مَدُّ (١٢) خُطَاهَا مَدُّ أَبْصَارِ الرِّجَالِ، يَسِيرُونَ فِي الْجَنَّةِ يَقُولُونَ عِنْدَ طُولِ النُّزْهَةِ: انْطَلَقُوا بِنَا إِلَى رَبِّنَا، عَزَّ وَجَلَّ، لِنَنْظُرَ كَيْفَ يَقْضِي بَيْنَ خَلْقِهِ، يَضْحَكُ إِلَيْهِمْ إِلَهِي، وَإِذَا ضَحِكَ إِلَى عَبْدٍ فِي مَوْطِنٍ فلا حساب عليه".
(٢) في أ: "الله تعالى".
(٣) في أ: "ابن مريم عليه السلام".
(٤) في أ: "فيهلكه الله على يده".
(٥) في ت، س، أ: "حتى أن لو كان".
(٦) في س: "وتسعون".
(٧) المسند (٢/١٦٦) وصحيح مسلم برقم (٢٩٤٠).
(٨) زيادة من أ.
(٩) في ت: "أربعين".
(١٠) صحيح البخاري برقم (٤٨١٤).
(١١) زيادة من ت، أ.
(١٢) في أ: "قدر".
٢ - زيادة من ت، س، أ..
٣ - زيادة من أ..
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ أَيْ: أَضَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا تَجَلَّى الْحَقُّ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لِلْخَلَائِقِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: كِتَابُ الْأَعْمَالِ، ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ بِأَنَّهُمْ بَلَّغُوهُمْ رِسَالَاتِ (٢) اللَّهِ إِلَيْهِمْ، ﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾ أَيِ: الشُّهَدَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: بِالْعَدْلِ ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قَالَ اللَّهُ [تَعَالَى] (٣) :﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٤٧]، وَقَالَ [اللَّهُ] (٤) تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النِّسَاءِ: ٤٠]، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ﴾ أَيْ: مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ الْكُفَّارِ كَيْفَ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ؟ وَإِنَّمَا يُسَاقُونَ سَوْقًا عَنِيفًا بِزَجْرٍ وَتَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطُّورِ: ١٣] أَيْ: يُدْفَعُونَ إِلَيْهَا دَفْعًا. هَذَا وَهُمْ عِطَاشٌ ظِمَاءٌ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ [مَرْيَمَ: ٨٦، ٨٥]. وَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ صُمُّ وَبُكْمٌ وَعُمْيٌ، مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى وَجْهِهِ، ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٩٧].
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ أَيْ: بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُهَا سَرِيعًا، لِتُعَجِّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ خَزَنَتُهَا مِنَ الزَّبَانِيَةِ -الَّذِينَ هُمْ غِلَاظُ الْأَخْلَاقِ، شِدَادُ الْقُوَى عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّنْكِيلِ-: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ أَيْ: مِنْ جِنْسِكُمْ تَتَمَكَّنُونَ مِنْ مُخَاطَبَتِهِمْ وَالْأَخْذِ عَنْهُمْ، ﴿يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ﴾ أَيْ: يُقِيمُونَ عَلَيْكُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ (٥) عَلَى صِحَّةٍ مَا دَعَوْكُمْ إِلَيْهِ، ﴿وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ أَيْ: وَيُحَذِّرُونَكُمْ مِنْ شَرِّ هَذَا الْيَوْمِ؟ فَيَقُولُ الْكُفَّارُ لَهُمْ: ﴿بَلَى﴾ أَيْ: قَدْ جَاءُونَا وَأَنْذَرُونَا، وَأَقَامُوا عَلَيْنَا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
(٢) في س، أ: "رسالة".
(٣) زيادة من ت، س، أ.
(٤) زيادة من أ.
(٥) في س، أ: "والبرهان".
٢ - في أ: "هذا الذي قاله"..
وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: ﴿قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أَيْ: كُلُّ مَنْ رَآهُمْ وَعَلِمَ حَالَهُمْ يَشْهَدُ (٢) عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلْعَذَابِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُسْنِدْ هَذَا الْقَوْلَ (٣) إِلَى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ أَطْلَقَهُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْكَوْنَ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ مَا هُمْ فِيهِ بِمَا حَكَمَ الْعَدْلُ الْخَبِيرُ عَلَيْهِمْ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا ﴿قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أَيْ: مَاكِثِينَ فِيهَا لَا خُرُوجَ لَكُمْ مِنْهَا، وَلَا زَوَالَ لَكُمْ عَنْهَا، ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ أَيْ: فَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَبِئْسَ الْمَقِيلُ لَكُمْ، بِسَبَبِ تَكَبُّرِكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِبَائِكُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَهُوَ الَّذِي صَيَّرَكُمْ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ، فَبِئْسَ الْحَالُ وَبِئْسَ الْمَآلُ.
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٧٤) ﴾.
وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ السُّعَدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ يُسَاقُونَ عَلَى النَّجَائِبِ وَفْدًا إِلَى الْجَنَّةِ ﴿زُمَرًا﴾ أَيْ: جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ: الْمُقَرَّبُونَ، ثُمَّ الْأَبْرَارُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كُلُّ طَائِفَةٍ مَعَ مَنْ يُنَاسِبُهُمْ: الْأَنْبِيَاءُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقُونَ مَعَ أَشْكَالِهِمْ، وَالشُّهَدَاءُ مَعَ أَضَرَابِهِمْ، وَالْعُلَمَاءُ مَعَ أَقْرَانِهِمْ، وَكُلُّ صِنْفٍ مَعَ صِنْفٍ، كُلُّ زُمْرَةٍ تُنَاسِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا﴾ أَيْ: وَصَلُوا إِلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الصِّرَاطِ حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَاقْتَصَّ لَهُمْ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصُّوَرِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ تَشَاوَرُوا فِيمَنْ يَسْتَأْذِنُ لَهُمْ بِالدُّخُولِ، فَيَقْصِدُونَ، آدَمَ، ثُمَّ نُوحًا، ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، ثُمَّ مُحَمَّدًا، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، كَمَا فَعَلُوا فِي الْعَرَصَاتِ (٤) عِنْدَ اسْتِشْفَاعِهِمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، لِيَظْهَرَ شَرَفُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ" وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: "وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ". (٥).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ
(٢) في أ: "شهد".
(٣) في أ: "هذا الذي قاله".
(٤) في ت، أ: "الصرخات".
(٥) صحيح مسلم برقم (١٩٦).
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرٍو (١) النَّاقِدِ وَزُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ سُلَيْمَانَ -وَهُوَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ الْقَيْسِيُّ-عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، بِهِ (٢).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَر عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (٣) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ (٤) الْجَنَّةَ صُوَرُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا، وَلَا يَمْتَخِطُونَ فِيهَا، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ فِيهَا. آنِيَتُهُمْ وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَمُجَامِرُهُمُ الْأَلُوَّةُ (٥)، ورَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يَرَى مُخَّ سَاقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الْحُسْنِ. لَا اخْتِلَافَ بَيْنِهِمْ وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ (٦) يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ (٧). وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٨)، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٩).
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمة، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (١٠) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أول زُمْرَة يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى ضَوْءِ أشدُّ كَوْكَبٍ دُرِّي فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يتْفلون وَلَا يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الْأَلُوَّةُ، وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أَبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ" (١١).
وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ (١٢).
وَقَالَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَة، هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ". فَقَامَ عُكَّاشة بْنُ مِحْصَن فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ، أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ: فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ". ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشة".
أَخْرَجَاهُ (١٣) (١٤) وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ -فِي السَّبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ-الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعِمْرَانَ بْنِ حصين، وابن مسعود، ورفاعة بن عرابة
(٢) المسند (٢/٣١٦) وصحيح مسلم برقم (١٩٧).
(٣) في أ: "أبي هريرة رضي الله عنه".
(٤) في ت: "يدخلون".
(٥) في س، أ: "ومجامرهم من الألوة".
(٦) في أ: "قلب رجل واحد".
(٧) المسند (٢/٣١٦) وصحيح البخاري برقم (٣٢٢٥) وصحيح مسلم برقم (٢٨٣٤).
(٨) زيادة من أ.
(٩) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (٣٢٤٦).
(١٠) زيادة من أ.
(١١) مسند أبي يعلى (١٠/٤٧٠).
(١٢) صحيح البخاري برقم (٣٣٢٧) وصحيح مسلم برقم (٢٨٣٤).
(١٣) في ت: "أخرجه البخاري ومسلم".
(١٤) صحيح البخاري برقم (٦٥٤٢) وصحيح مسلم برقم (٢١٥).
وَلَهُمَا عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رسول الله ﷺ قال: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا -أَوْ: سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ-آخذٌ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمُ الْجَنَّةَ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ". (١).
وَقَالَ (٢) أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ (٣) الْبَاهِلِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَعَدَنِي رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَلَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ، وَثَلَاثُ حَثَيَات مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ" (٤).
وَكَذَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ [وَ] (٥) أَبِي الْيَمَانِ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لحُيّ (٦) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٧) (٨).
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلمي: "ثُمَّ يُشَفَّعُ كُلُّ أَلْفٍ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا" (٩).
وَرُوِيَ مِثْلُهُ، عَنْ ثَوْبَانَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَنْمَارِيِّ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ لَمْ يَذْكُرِ الْجَوَابَ هَاهُنَا، وَتَقْدِيرُهُ: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مِنْ فَتْحِ الْأَبْوَابِ لَهُمْ إِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا، وَتَلَقَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْخَزَنَةُ بِالْبِشَارَةِ وَالسَّلَامِ وَالثَّنَاءِ، لَا كَمَا تَلْقَى الزَّبَانِيَةُ الْكَفَرَةَ بِالتَّثْرِيبِ (١٠) وَالتَّأْنِيبِ، فَتَقْدِيرُهُ: إِذَا كَانَ هَذَا سَعِدوا وَطَابُوا، وسُرّوا وَفَرِحُوا، بِقَدْرِ كُلِّ مَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهِ نَعِيمٌ. وَإِذَا حُذِفَ الْجَوَابُ هَاهُنَا ذَهَبَ الذِّهْنُ كُلَّ مَذْهَبٍ فِي الرَّجَاءِ وَالْأَمَلِ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ "الْوَاوَ" فِي قَوْلِهِ: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ وَاوُ الثَّمَانِيَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةٌ، فَقَدْ أَبْعَدَ النّجْعَة وَأَغْرَقَ فِي النَّزْعِ. وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ كَوْنُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (١١)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (١٢) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَلِلْجَنَّةِ أَبْوَابٌ (١٣)، فَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِي مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا
(٢) في ت: "وروى".
(٣) في ت: "عن أبي أمامة".
(٤) المصنف (١١/٤٧١) ورواه الترمذي في السنن برقم (٢٤٣٧) من طريق إسماعيل بن عياش به، وقال: "هذا حديث حسن غريب".
(٥) زيادة من أ.
(٦) في أ: "يحيى".
(٧) زيادة من أ.
(٨) رواه الطبراني في المعجم الكبير (٨/١٨٧).
(٩) المعجم الكبير (١٧/١٢٦، ١٢٧).
(١٠) في أ: "بالذم".
(١١) في ت: "فروى البخاري ومسلم".
(١٢) في أ: "أبي هريرة رضي الله عنه".
(١٣) في أ: "أبواب ثمانية".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، بِنَحْوِهِ (٢).
وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ (٣)، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، بَابٌ مِنْهَا يُسَمَّى الرَّيَّانُ، لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ" (٤).
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغَ -أَوْ: فَيُسْبِغَ الْوُضُوءَ-ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ". (٥).
وَقَالَ (٦) الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَين، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب، عَنْ مُعَاذٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (٧).
ذِكْرُ سَعَةِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ -نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِهَا-:
فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثَ أَبِي زُرْعَة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٨) فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ: "فَيَقُولُ اللَّهُ (٩) يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلْ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ (١٠).
مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِي الْأَبْوَابِ الْأُخَرِ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ -مَا بَيْنَ عِضَادَتَيِ الْبَابِ-لَكُمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ-أَوْ هَجَرٍ وَمَكَّةَ". وَفِي رِوَايَةٍ: "مَكَّةَ وَبُصْرَى" (١١).
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ أَنَّهُ خَطَبَهُمْ خُطْبَةً فَقَالَ فِيهَا: "وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ، مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلِيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ" (١٢).
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلُهُ (١٣).
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً" (١٤).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ﴾ أَيْ: طَابَتْ أَعْمَالُكُمْ وَأَقْوَالُكُمْ، وَطَابَ سَعْيُكُمْ فَطَابَ جَزَاؤُكُمْ، كَمَا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَادَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ: "إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ" وَفِي رِوَايَةٍ: "مُؤْمِنَةٌ". (١٥).
(٢) المسند (٢/٢٦٨) وصحح البخاري برقم (٣٦٦٦) وصحيح مسلم برقم (١٠٢٧).
(٣) في ت: "وفي الصحيحين".
(٤) صحيح البخاري برقم (١٨٩٦) وصحيح مسلم برقم (١١٥٢).
(٥) صحيح مسلم برقم (٢٣٤).
(٦) في ت: "وروى".
(٧) زورواه أحمد في مسنده (٥/٢٤٢) من طريق إسماعيل بن عياش به، وشهر بن حوشب فيه كلام ولم يسمع من معاذ.
(٨) زيادة من أ.
(٩) في أ: "قال الله عز وجل".
(١٠) في أ: "لا حساب عليه ولا ملامة".
(١١) صحيح البخاري برقم (٤٧١٢) وصحيح مسلم برقم (١٩٤).
(١٢) صحيح مسلم برقم (٢٩٦٧).
(١٣) المسند (٥/٣).
(١٤) المنتخب برقم (٩٢٤) ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(١٥) رواه النسائي في السنن (٥/٢٣٤) من حديث أبي هريرة.
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ أَيْ: يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ إِذَا عَايَنُوا فِي الْجَنَّةِ ذَلِكَ الثَّوَابَ الْوَافِرَ، وَالْعَطَاءَ الْعَظِيمَ، وَالنَّعِيمَ الْمُقِيمَ، وَالْمُلْكَ الْكَبِيرَ، يَقُولُونَ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ أَيِ: الَّذِي كَانَ وَعَدَنَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ الْكِرَامِ، كَمَا دَعَوْا فِي الدُّنْيَا: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٤]، ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٤٣]، ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ [فَاطِرٍ: ٣٥، ٣٤].
وَقَوْلُهُمْ: ﴿وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ (١) : أَيْ أَرْضِ الْجَنَّةِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٥]، وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾ أَيْ: أَيْنَ (٢) شِئْنَا حَلَلْنَا، فَنِعْمَ الْأَجْرُ أَجْرُنَا عَلَى عَمَلِنَا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْمِعْرَاجِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ" (٣).
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٤) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم سَأَلَ ابْنَ صَائِدٍ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: دَرْمَكة بيضاءُ مِسْك خَالِصٌ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ".
وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْلَمَةَ (٥)، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، بِهِ (٦).
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ [أَيْضًا] (٧) عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الجُرَيْرِي، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ؛ أَنَّ ابْنَ صَائِدٍ (٨) سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: "دَرْمكة بَيْضَاءُ مِسْكٌ خَالِصٌ" (٩).
وَقَوْلُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ (١٠)، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾، قَالَ: سِيقُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَوَجَدُوا عِنْدَهَا شَجَرَةً يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَاقِهَا عَيْنَانِ، فَعَمَدُوا إِلَى إِحْدَاهُمَا فَتَطَهَّرُوا مِنْهَا، فَجَرَتْ عليهم نضرة
(٢) في أ: "حيث".
(٣) انظر: الحديث بطوله عند تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء.
(٤) زيادة من أ.
(٥) في س: "سلمة".
(٦) المنتخب برقم (٨٧٤) وصحيح مسلم برقم (٢٩٢٨).
(٧) زيادة من أ.
(٨) في س: "صياد".
(٩) صحيح مسلم برقم (٢٩٢٨).
(١٠) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده عن علي" وفي أ: "حمزة".
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا، أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النّهْدِي، حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ (٦) بْنُ جَعْفَرٍ الْبَجَلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْبَصْرِيَّ يَقُولُ: إِنَّ عَلِيَّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (٧) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي، بِيَدِهِ إِنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يُسْتَقبلون -أَوْ: يُؤْتون-بِنُوقٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ، وَعَلَيْهَا رِحَالُ الذَّهَبِ، شِرَاكُ نِعَالِهِمْ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ كُلُّ خَطْوَةٍ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَيَنْتَهُونَ إِلَى شَجَرَةٍ يَنْبُعُ مَنْ أَصِلُهَا عَيْنَانِ، فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فيُغْسَل مَا فِي بُطُونِهِمْ مَنْ دَنَسٍ، وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْأُخْرَى، فَلَا تَشْعَثُ أَبْشَارُهُمْ وَلَا أَشْعَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، فَيَنْتَهُونَ -أَوْ: فَيَأْتُونَ-بَابَ الْجَنَّةِ، فَإِذَا حَلْقَةٌ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ عَلَى صَفَائِحِ الذَّهَبِ، فَيَضْرِبُونَ بِالْحَلْقَةِ عَلَى الصَّفِيحَةِ (٨)، فَيُسْمَعُ (٩) لَهَا طَنِينٌ يَا عَلِيُّ، فَيَبْلُغُ كُلَّ حَوْرَاءَ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ أَقْبَلَ، فَتَبْعَثُ قَيّمها فَيَفْتَحُ لَهُ، فَإِذَا رَآهُ خَرّ لَهُ -قَالَ مَسْلَمَةُ: أُرَاهُ قَالَ: سَاجِدًا (١٠) -فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَإِنَّمَا أَنَا قَيمك، وُكِّلْتُ بِأَمْرِكَ. فَيَتْبَعُهُ وَيَقْفُو أَثَرَهُ، فَتَسْتَخِفُّ الْحَوْرَاءَ الْعَجَلَةُ، فَتَخْرُجُ مِنْ خِيَامِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ حَتَّى تَعْتَنِقَهُ، ثُمَّ تَقُولُ: أَنْتَ حِبِّي، وَأَنَا حِبُّكَ، وَأَنَا الْخَالِدَةُ الَّتِي لَا أَمُوتُ، وَأَنَا النَّاعِمَةُ الَّتِي لَا أَبْأَسُ، وَأَنَا الرَّاضِيَةُ الَّتِي لَا أَسْخَطُ، وَأَنَا الْمُقِيمَةُ الَّتِي لَا أَظْعَنُ". فَيَدْخُلُ بَيْتًا مِنْ أُسِّهِ إِلَى سَقْفِهِ مِائَةُ أَلْفِ ذِرَاعٍ، بِنَاؤُهُ عَلَى جَنْدَلِ اللُّؤْلُؤِ، طَرَائِقُ أصفر وأخضر وأحمر، ليس فيها (١١) طريقة تُشَاكِلُ صَاحِبَتَهَا، فِي الْبَيْتِ سَبْعُونَ سَرِيرًا، عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ حَشْيَة، عَلَى كُلِّ حَشِيَّةٍ سَبْعُونَ زَوْجَةً، عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً، يُرَى مُخّ سَاقِهَا مِنْ بَاطِنِ الحُلَل، يَقْضِي جِمَاعَهَا فِي مِقْدَارِ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيكُمْ هَذِهِ. الأنهار
(٢) في أ: "مثل".
(٣) في س: "أسفكة".
(٤) في أ: "بنائه".
(٥) زيادة من ت، س، أ.
(٦) في ت، أ: "سلمة".
(٧) في ت: "رسول الله".
(٨) في س: "الصفحة".
(٩) في أ: "فلو سمع".
(١٠) في ت: "خر له ساجد" وهو خطأ والصواب: "ساجدا".
(١١) في ت، س:: منها".
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَكَأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(٢) في ت: "شعور".
وقولهم :﴿ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ قال أبو العالية، وأبو صالح، وقتادة، والسدي، وابن زيد١ : أي أرض الجنة.
وهذه الآية كقوله :﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ]، ولهذا قالوا :﴿ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾ أي : أين٢ شئنا حللنا، فنعم الأجر أجرنا على عملنا.
وفي الصحيحين من حديث الزهري، عن أنس في قصة المعراج قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك " ٣.
وقال عبد بن حميد : حدثنا روح بن عبادة، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد [ رضي الله عنه ]٤ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ابن صائد عن تربة الجنة ؟ فقال : دَرْمَكة بيضاءُ مِسْك خالص : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صدق ".
وكذا رواه مسلم، من حديث أبي مسلمة ٥، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، به٦.
ورواه مسلم [ أيضا ]٧ عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن الجُرَيْرِي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد ؛ أن ابن صائد٨ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة، فقال :" دَرْمكة بيضاء مسك خالص " ٩.
وقول ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة ١٠، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في قوله تعالى :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ﴾، قال : سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة، فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلم تُغَير أبشارهم بعدها أبدا، ولم تُشْعَث أشعارهم أبدا بعدها، كأنما دهنوا بالدهان، ثم عمدوا إلى الأخرى كأنما أمروا بها، فشربوا منها، فأذهبت ما كان في بطونهم من أذى أو قذى، وتلقتهم الملائكة على أبواب١١ الجنة :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾. ويلقى كل غلمان صاحبهم يطيفُون به، فعل ١٢ الولدان بالحميم جاء من الغيبة : أَبْشِر، قد أعَد الله لك من الكرامة كذا وكذا، قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا. وقال : وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين، فيقول : هذا فلان - باسمه في الدنيا - فيقلن : أنت رأيته ؟ فيقول : نعم. فيستخفهن الفرح حتى تخرج إلى أَسكُفَّة١٣ الباب. قال : فيجيء فإذا هو بنمارق مصفوفة، وأكواب موضوعة، وزرابي مبثوثة. قال : ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه١٤، فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ، بين أحمر وأخضر وأصفر [ وأبيض ]١٥، ومن كل لون. ثم يرفع طرفه إلى سقفه، فلولا أن الله قدره له، لألمَّ أن يذهب ببصره، إنه لمثل البرق. ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين، ثم يتكئ على أريكة من أرائكه، ثم يقول :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ] الآية.
ثم قال : حدثنا، أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النّهْدِي، حدثنا مسلمة١٦ بن جعفر البجلي قال : سمعت أبا معاذ البصري يقول : إن عليا، رضي الله عنه، كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي ١٧ صلى الله عليه وسلم :" والذي نفسي، بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يُسْتَقبلون - أو : يُؤْتون - بنوق لها أجنحة، وعليها رحال الذهب، شراك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان، فيشربون من إحداهما فيُغْسَل ما في بطونهم من دنس، ويغتسلون من الأخرى، فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا، وتجري عليهم نضرة النعيم، فينتهون - أو : فيأتون - باب الجنة، فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب، فيضربون بالحلقة على الصفيحة١٨، فيسمع ١٩ لها طنين يا علي، فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل، فتبعث قَيّمها فيفتح له، فإذا رآه خَرّ له - قال مسلمة : أراه قال : ساجدًا ٢٠ - فيقول : ارفع رأسك، فإنما أنا قَيمك، وُكِّلْتُ بأمرك. فيتبعه ويقفو أثره، فتستخف الحوراء العجلة، فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه، ثم تقول : أنت حبي، وأنا حبك، وأنا الخالدة التي لا أموت، وأنا الناعمة التي لا أبأس، وأنا الراضية التي لا أسخط، وأنا المقيمة التي لا أظعن ". فيدخل بيتًا من أسّه إلى سقفه مائة ألف ذراع، بناؤه على جندل اللؤلؤ، طرائق أصفر وأخضر وأحمر، ليس فيها٢١ طريقة تشاكل صاحبتها، في البيت سبعون سريرا، على كل سرير سبعون حَشْيَة، على كل حشية سبعون زوجة، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مُخّ ساقها من باطن الحُلَل، يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه. الأنهار
من تحتهم تَطّرد، أنهار من ماء غير آسن - قال : صاف، لا كدر فيه - وأنهار من لبن لم يتغير طعمه - قال : لم يخرج من ضروع الماشية - وأنهار من خمر لذة للشاربين - قال : لم تعصرها الرجال بأقدامهم - وأنهار من عسل مصفى - قال : لم يخرج من بطون النحل. يستجني الثمار، فإن شاء قائما، وإن شاء قاعدا، وإن شاء متكئا - ثم تلا ﴿ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا ﴾ [ الإنسان : ١٤ ] - فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض - قال : وربما قال : أخضر. قال :- فترفع أجنحتها، فيأكل من جنوبها، أي الألوان شاء، ثم يطير فيذهب٢٢، فيدخل الملك فيقول : سلام عليكم، تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون. ولو أن شعرة من شعر ٢٣ الحوراء وقعت لأهل الأرض، لأضاءت الشمس معها سوادًا في نور ".
هذا حديث غريب، وكأنه مرسل، والله أعلم.
٢ - في أ: "حيث"..
٣ - انظر: الحديث بطوله عند تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء..
٤ - زيادة من أ..
٥ في س: "سلمة"..
٦ المنتخب برقم (٨٧٤) وصحيح مسلم برقم (٢٩٢٨)..
٧ زيادة من أ..
٨ في س: "صياد"..
٩ صحيح مسلم برقم (٢٩٢٨)..
١٠ في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده عن علي" وفي أ: "حمزة"..
١١ - في أ: "باب"..
١٢ - في أ: "مثل"..
١٣ - في س: "أسفكة"..
١٤ - في أ: "بنائه"..
١٥ - زيادة من ت، س، أ..
١٦ - في ت، أ: "سلمة"..
١٧ - في ت: "رسول الله"..
١٨ - في س: "الصفحة"..
١٩ - في أ: "فلو سمع"..
٢٠ - في ت: "خر له ساجد" وهو خطأ والصواب: "ساجدا"..
٢١ - في ت، س: : منها"..
٢٢ - في س: "ثم تطير فتذهب"..
٢٣ - في ت: "شعور"..
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَهُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَنَّهُ نَزَّلَ كُلا فِي الْمَحِلِّ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ وَيَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ الْعَادِلُ فِي ذَلِكَ الَّذِي لَا يَجُورُ -أَخْبَرَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ مُحْدِقُونَ مِنْ حَوْلِ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَيُمَجِّدُونَهُ (١) وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُقَدِّسُونَهُ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْجَوْرِ، وَقَدْ فَصَلَ الْقَضِيَّةَ، وَقَضَى الْأَمْرَ، وَحَكَمَ بِالْعَدْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ: بَيْنَ الْخَلَائِقِ ﴿بِالْحَقِّ﴾
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ: وَنُطْقُ الْكَوْنِ أَجْمَعِهِ (٢) -نَاطِقِهِ وَبَهِيمِهِ-لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِالْحَمْدِ فِي حُكْمِهِ وَعَدْلِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُسْنِدِ الْقَوْلَ إِلَى قَائِلٍ بَلْ أَطْلَقَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ شَهِدَت لَهُ بِالْحَمْدِ.
قَالَ قَتَادَةُ: افْتَتَحَ الْخَلْقَ بِالْحَمْدِ فِي قَوْلِهِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١] وَاخْتَتَمَ بِالْحَمْدِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّمَرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ (٣) [أَوَّلًا وآخرًا ظاهرًا وباطنًا] (٤)
(٢) في ت، س: "جميعه".
(٣) في أ: "والله أعلم".
(٤) زيادة من س.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَدْ كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنْ يُقَالَ: "الْحَوَامِيمُ" وَإِنَّمَا يُقَالُ: "آلُ حم".
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "آلُ حم" دِيبَاجُ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابًا ولُبَاب الْقُرْآنِ "آلُ حم"-أَوْ قَالَ: الْحَوَامِيمُ.
قَالَ مِسْعَر بْنُ كِدَام: كَانَ يُقَالُ لَهُنَّ: "الْعَرَائِسُ".
رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ الْإِمَامُ العَلم (٢) أَبُو عُبيد الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِ: "فَضَائِلِ الْقُرْآنِ". (٣) وَقَالَ حُميد بْنُ زَنْجويه: حَدَّثَنَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (٤) قَالَ: إِنْ مَثَلَ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ انْطَلَقَ يَرْتَادُ لِأَهْلِهِ مَنْزِلًا فَمَرَّ بِأَثَرِ غَيْثٍ فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ فِيهِ وَيَتَعَجَّبُ [مِنْهُ] (٥)، إِذْ هَبَطَ عَلَى رَوْضَاتٍ دَمِثات فَقَالَ: عَجِبْتُ مِنَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ، فَهَذَا أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مَثَلَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ مَثَلُ عِظَم (٦) الْقُرْآنِ، وَإِنَّ مَثَلَ هَؤُلَاءِ الرَّوْضَاتِ الدَّمِثَاتِ، مَثَلُ آلِ حم فِي الْقُرْآنِ. أَوْرَدَهُ الْبَغَوِيُّ (٧).
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعة عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ الْجَرَّاحَ بْنَ أَبِي الْجِرَاحِ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابٌ، وَلُبَابُ الْقُرْآنِ الْحَوَامِيمُ (٨).
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا وَقعتُ فِي "آلِ حم" فَقَدْ وقعتُ فِي رَوْضَاتٍ أتأنَّق فِيهِنَّ (٩).
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا الْأَشْجَعِيُّ، حَدَّثَنَا مِسْعر -هُوَ ابْنُ كِدَام -عَمَّنْ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَجُلًا رَأَى أَبَا الدَّرْدَاءِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (١٠) يَبْنِي مَسْجِدًا، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أَبْنِيهِ مِنْ أَجْلِ "آلِ حم" (١١).
وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْمَسْجِدُ الَّذِي بَنَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ هُوَ الْمَسْجِدُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ دَاخِلَ قَلْعَةِ دِمَشْقَ. وَقَدْ يَكُونُ صِيَانَتُهَا وَحِفْظُهَا بِبِرْكَتِهِ وَبِرْكَةِ مَا وُضع لَهُ، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (١٢) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ: "إِنْ بَيّتم اللَّيْلَةَ فَقُولُوا: حم، لَا يُنْصَرُونَ" وَفِي رِوَايَةٍ: "لَا تُنْصَرُونَ" (١٣).
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ ظَبْيان بْنِ خَلف الْمَازِنِيُّ، وَمُحَمَّدُ بن
(٢) في أ: "العالم".
(٣) فضائل القرآن (ص١٣٧، ١٣٨).
(٤) في ت: "عبد الله".
(٥) زيادة من ت، س، أ.
(٦) في أ: "عظيم".
(٧) معالم التنزيل للبغوي (٧/١٣٤).
(٨) رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص١٣٧) والبغوي في تفسيره (٧/١٣٤).
(٩) رواه أبو عبيدة في فضائل القرآن (ص١٣٧).
(١٠) زيادة من ت، أ.
(١١) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص١٣٧).
(١٢) في ت: "النبي".
(١٣) رواه الإمام أحمد في مسنده (٤/٦٥) وأبو داود في السنن برقم (٢٥٩٧) والترمذي في السنن برقم (١٦٨٢) عن المهلب بن أبي صفرة عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم.