ﰡ
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤)كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)
الإعراب:
حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ قال الرازي: الأقرب ها هنا أن يقال حم اسم للسورة، فقوله حم مبتدأ، وقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ خبر، والتقدير: إن هذه السورة المسماة بحم تنزيل الكتاب، فقول: تَنْزِيلُ مصدر، لكن المراد منه: المنزل.
ويرى القرطبي وغيره أن تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ، والخبر مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
ويجوز أن يكون تَنْزِيلُ خبرا لمبتدأ محذوف، أي هذا تَنْزِيلُ الْكِتابِ ويجوز أن يكون حم مبتدأ، وتَنْزِيلُ خبره، كما قال الرازي، والمعنى: إن القرآن أنزله الله وليس منقولا، ولا مما يجوز أن يكذّب به. وغافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ إما نعتان أو بدلان، ويجوز النصب على الحال. وأما شَدِيدِ الْعِقابِ فهو نكرة ويكون خفضه على البدل.
وحم: قرئ بالسكون، وهو المشهور على الأصل في الحروف المقطعة، وقرئ «حاميم»
أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ بدل الكل من اللفظ أو الاشتمال من المعنى.
البلاغة:
الذَّنْبِ والتَّوْبِ بينهما طباق.
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وارد بصيغة الحصر.
المفردات اللغوية:
حم تقرأ هكذا: حاميم بالسكون، أو بالفتح حاميم، وهذه الحروف المقطعة المبدوء بها بعض السور للتنبيه على إعجاز القران وتحدي العرب أن يأتوا بمثله، وللدلالة على أن هذا القرآن المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية التي تتركب منها الكلمات والجمل العربية.
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ القوي في ملكه، العليم بخلقه، قال البيضاوي: لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإعجاز والحكم، الدال على القدرة الكاملة والحكمة البالغة. غافِرِ الذَّنْبِ للمؤمنين التائبين. وَقابِلِ التَّوْبِ يقبل منهم التوبة فضلا منه ورحمة. شَدِيدِ الْعِقابِ للكافرين. ذِي الطَّوْلِ صاحب الفضل والإنعام على عباده، وذو الغنى والسعة أيضا، وإيراد هذه الصفات للترغيب والترهيب والحثّ على الإيمان. الْمَصِيرُ المرجع، فيجازي المطيع والعاصي.
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ القرآن. إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي مكة وأمثالهم، فيه تسجيل صفة الكفر على المجادلين في القرآن بالباطل والطعن فيه لإدحاض الحق. فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ لا تغترّ بإمهالهم وإقبالهم في دنياهم وتقلبهم في بلاد الشام واليمن بالتجارات الرابحة بقصد المعاش، فإن عاقبتهم النار والهلاك. والتقلب في البلاد: التصرف والتنقل.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ كذبت قوم نوح بالرسل وعادوهم، وكذلك كذبت الأحزاب (الجماعات) من بعدهم كعاد وثمود وغيرهما. وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من هؤلاء هَمَّتْ عزمت. لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا منه بما أرادوا من تعذيب وقتل، فيحبسوه ويأسروه ويعذبوه ويقتلوه. بِالْباطِلِ بما لا حقيقة له. لِيُدْحِضُوا يزيلوا به الحق. فَأَخَذْتُهُمْ بالإهلاك والعقاب. فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي لهم، بأن وقع موقعه.
حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وجبت كلمته أي حكمه بالهلاك وقضاؤه بالعذاب. عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لكفرهم. أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي وتلك الكلمة هي أنهم مستحقون للنار.
ما يُجادِلُ..: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله تعالى:
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا قال: نزلت في الحارث بن قيس السهمي.
التفسير والبيان:
موضوع هذه الآيات بيان مصدر نزول القرآن: وهو أنه من عند الله، الذي وصف نفسه بصفات ست، ثم مناقشة الكفار الذين جادلوا في آيات الله بالباطل أي بقصد الطعن فيها وإدحاض الحق، فاستحقوا التهديد بعذاب الله وهو أنهم في النار.
حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ حم: من الحروف المقطعة في فواتح السور، للتنبيه على مضمون السورة وعلى إعجاز القرآن المكون نظمه من حروف اللغة العربية التي ينطق بها العرب وينظمون بها الأشعار ويدبّجون بها الخطب الرنانة، ومع ذلك لا يستطيعون معارضته، لأنه كلام الله تعالى.
والقرآن المتلو بين الناس على الملأ منزّل من عند الله، ليس بكذب عليه، والله الذي أنزله هو العزيز أي الغالب القوي القادر القاهر، والعليم أي البالغ العلم التام بخلقه وما يقولونه ويفعلونه، الذي يعلم السر وأخفى.
ثم وصف الله نفسه بستة أنواع من الصفات الجامعة بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فقال:
غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ،
أي إن الله منزل القرآن هو غافر الذنب الذي سلف لأوليائه، سواء أكان صغيرة أم كبيرة بعد التوبة أو قبل التوبة بمشيئته، وقابل توبتهم المخلصة، وشديد العقاب لأعدائه، وذو التفضل والإنعام والسعة والغنى، ينعم بمحض إحسانه تعالى، وهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا ندّ ولا صاحبة ولا ولد، وإليه المرجع والمآب في اليوم الآخر، لا إلى غيره.
ثم ذكر تعالى أحوال المجادلين في القرآن بقصد إبطاله وإطفاء نوره، فقال:
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أي ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا، فهم يجادلون بالباطل بقصد دحض الحق، كوصفهم القرآن بأنه شعر أو سحر أو أساطير الأولين، فلا تغترّ أيها النبي وكل مؤمن بشيء من رفاهية الدنيا التي تراهم فيها، كالتجارة في البلاد، وتحقيق الأرباح، وجمع الأموال، فإنهم معاقبون عما قليل، وعاقبتهم في النهاية الدمار والهلاك، وهذا تسلية للنبي ص، كما قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتاعٌ قَلِيلٌ، ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمران ٣/ ١٩٦- ١٩٧]، وقال سبحانه: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان ٣١/ ٢٤].
ويلاحظ أن الجدال نوعان: جدال في تقرير الحق، وجدال في تقرير الباطل، أما الجدال بالحق لبيان غوامض الأمور والوصول إلى فهم الحقائق: فهو جائز مشروع، اتخذه الأنبياء أسلوبا في دعوتهم إلى الدين الحق، قال تعالى حكاية عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا له: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هود ١١/ ٣٢]، وقال تعالى لنبيه محمد ص: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل ١٦/ ١٢٥].
وأما الجدال بالباطل كالمذكور هنا فهو مذموم، كما قال تعالى: ما ضَرَبُوهُ
[الزخرف ٤٣/ ٥٨]، وهو المشار إليه في
قوله ص: «لا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر»، «إن جدالا في القرآن كفر».
قال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن، قوله:
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [البقرة ٢/ ١٧٦].
ثم أخبر الله تعالى عن تشابه أقوام الأنبياء في تكذيب رسلهم، فقال:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي كذبت قبل قوم قريش قوم نوح (وهو أول رسول بعثه الله للنهي عن عبادة الأوثان) والجماعات الذين تخربوا على الرسل من بعد قوم نوح، كعاد وثمود وأصحاب لوط وقوم فرعون، بتكذيب رسلهم، فعوقبوا أشد العقاب.
وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي وعزمت وحرصت كل أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم المرسل إليهم على أخذه، لحبسه وتعذيبه وإصابة ما يريدون منه أو قتله، فمنهم من قتل رسوله، وخاصموا رسولهم بالشبهة وبالباطل من القول، ليردوا الحق الواضح الجلي، وليبطلوا الإيمان.
روى أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي ص قال: «من أعان باطلا ليدحض به حقا، فقد برئت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله ص».
وقال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان.
فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل بالعذاب، وأهلكتهم، فقد جاء الأخذ بمعنى الإهلاك في قوله تعالى: ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [الحج ٢٢/ ٤٤]. فانظر كيف عقابي الذي عاقبتهم
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي ومثل ذلك عذاب كل كافر، والمعنى: وكما وجب العذاب على الأمم المكذبة لرسلهم، وجب على الذين كفروا بك يا محمد، وجادلوك بالباطل، وتحزبوا عليك، فالسبب واحد والعلة واحدة، وذلك العذاب هو استحقاقهم النار.
والمراد بكلمة العذاب هي أنهم مستحقون النار.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- إن تنزيل القرآن من الله ذي العزة والعلم، فهو ليس منقولا ولا مما يصحّ أن يكذّب به.
٢- وصف الله تعالى نفسه بستّ صفات تجمع بين الترغيب والترهيب، وتفتح باب الأمل للعصاة والكفار للمبادرة إلى ساحة الإيمان والتزام جادة الاستقامة على أمر الله ومنهجه. وتشير القصتان التاليتان إلى مدى فعالية هذا الأسلوب القرآني في إصلاح البشرية.
روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي إسحاق السبيعي قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، إني قتلت، فهل لي من توبة؟ فقرأ عمر رضي الله عنه: حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ.. الآية، وقال: اعمل ولا تيأس.
اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. ثم قال لأصحابه: ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه.
فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل يقرؤه ويردده، ويقول:
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ قد حذّرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي. فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع.
فلما بلغ عمر خبره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زلّ زلّة، فسدّدوه ووثّقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه.
٣- قد يعفو الله تعالى عن الذنوب الصغائر بتوبة أو بغير توبة، وقد يعفو أيضا عن الكبائر كالقتل والسرقة والزنى بعد التوبة، وإطلاق الآية غافِرِ الذَّنْبِ يدل على كونه غافرا للذنوب الكبائر قبل التوبة، إذا شاء وأراد.
ولكن قبول التوبة من الذنب يقع على سبيل التفضل والإحسان من الله، وليس بواجب على الله، لأنه تعالى ذكر كونه قابلا للتوب على سبيل المدح والثناء، ولو كان ذلك من الواجبات لم يبق فيه من معنى المدح إلا القليل.
وقالت المعتزلة: إنه واجب على الله بإيجاب منه على نفسه، لا بإيجاب غيره عليه.
ذِي الطَّوْلِ.
٥- إن الجدال لتقرير الباطل لدحض الحق وإبطال الإيمان، بالاعتماد على الشبهات، بعد البيان القرآني وظهور البرهان الإلهي: كفر وضلال وجحود لآيات الله وحججه وبراهينه.
والجدال في آيات الله أن يقال مثلا عن القرآن: إنه سحر أو شعر أو من قول الكهنة، أو أساطير الأولين، أو إنما يعلّمه بشر، ونحو ذلك.
أما الجدال لتوضيح الحق ورفع اللّبس والرّد إلى الحق، فهو من أعظم ما يتقرّب به المتقرّبون، قال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت ٢٩/ ٤٦].
٦- لا يغترن أحد بإمهال الكفرة والعصاة وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يترددون في البلاد للتجارة وطلب المعاش، فإن الله يمهل ولا يهمل، وإنه وإن أمهلهم فإنه سينتقم منهم كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية.
٧- المثال المتكرر في القرآن الكريم: هو أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة برسلها، الذين جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان، وقد لمس الناس آثار ذلك الهلاك في ديارهم ومساكنهم، لذا قال تعالى: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي كيف كان عقابي إياهم، أليس وجدوه حقا؟! ٨- إن مثل الذي وجب (حق) على الأمم السالفة من العقاب، يجب
محبة الملائكة حملة العرش للمؤمنين ونصرتهم
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧ الى ٩]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
الإعراب:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ مبتدأ، وخبره: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ.
وَمَنْ صَلَحَ معطوف على هم ضمير وَأَدْخِلْهُمْ.
وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ مَنْ اسم موصول، مبتدأ، وخبره جملة فَقَدْ رَحِمْتَهُ.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ هم الملائكة الكروبيون الذين هم أعلى طبقات الملائكة وأولهم وجودا، وحملهم العرش عند بعضهم: مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له، والْعَرْشَ مركز تدبير العالم، وهو حقيقة، الله أعلم به. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يقرنون التسبيح (تنزيه الله عن كل النقائص) بالحمد والشكر، فيقولون: سبحان الله وبحمده. وَيُؤْمِنُونَ بِهِ بالله تعالى، أي يصدقون ببصائرهم بوحدانية الله. وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يطلبون المغفرة لهم، فهم يشفعون لهم ويلهمون المؤمنين ما يوجب المغفرة، ويحملونهم على التوبة، وفيه تنبيه على أن المشاركة في
فَاغْفِرْ المغفرة: الستر. تابُوا من الشرك. وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ دين الإسلام.
وَقِهِمْ احفظهم واصرف عنهم. عَذابَ الْجَحِيمِ عذاب النار.
جَنَّاتِ عَدْنٍ إقامة دائمة. الْعَزِيزُ القوي الغالب القاهر. الْحَكِيمُ في صنعه.
وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ احفظهم من عذابها أي جزاء السيئات. وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ يوم القيامة.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة للمؤمنين، بيّن هنا أن أشرف المخلوقات وهم حملة العرش والذين هم حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين، فلا تبال بالكفرة أيها الرسول، ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزنا، فإن حملة العرش ومن حوله ينصرونك.
التفسير والبيان:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا إن الملائكة حملة العرش ومن حوله من الملائكة الكروبيين الذين هم أفضل الملائكة يقرنون بين التسبيح (التنزيه) الدال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات الثناء والتمجيد، ويصدقون بوجود الله ووحدانيته ولا يستكبرون عن عبادته، فهم خاشعون له، أذلاء بين يديه، ويطلبون المغفرة للذين آمنوا من أهل الأرض ممن آمن بالغيب.
ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم السلام، فهم يؤمّنون على دعاء المؤمن لأخيه المؤمن بظهر الغيب، كما
ثبت في صحيح مسلم: «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب، قال الملك: آمين، ولك بمثله».
ونحن نؤمن بحمل الملائكة العرش، ونترك الكيف والعدد لله عز وجل،
وذكر ابن كثير أن حملة العرش اليوم أربعة، فإذا كانوا يوم القيامة كانوا ثمانية، كما قال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة ٦٩/ ١٧] «١».
وفائدة وصف الملائكة بالإيمان، مع أن التسبيح والتحميد يكون مسبوقا بالإيمان: هو إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتاب الله بالصلاح لذلك، وكما عقّب أعمال الخير بقوله تعالى:
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد ٩٠/ ١٧] فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى هي التنبيه على أن إيمانهم كغيرهم سواء بطريق النظر والاستدلال لا غير، لا بالمشاهدة والمعاينة «٢».
وصيغة استغفارهم للمؤمنين هي:
رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، فاستر واصفح عن الذين تابوا عن الذنوب، واتبعوا سبيل الله وهو دين الإسلام، واحفظهم من عذاب الجحيم- عذاب النار.
قال خلف بن هشام البزار القارئ: كنت أقرأ على سليم بن عيسى، فلما بلغت: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا بكى، ثم قال: يا خلف! ما أكرم المؤمن على الله، نائما على فراشه، والملائكة يستغفرون له.
(٢) الكشاف: ٣/ ٤٥، تفسير الرازي: ٢٧/ ٣٢ [.....]
ونظير الآية: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ، أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور ٥٢/ ٢١].
قال مطرّف بن عبد الله الشّخيّر: أنصح عباد الله للمؤمنين: الملائكة، ثم تلا هذه الآية: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ الآية، وأغشّ عباده للمؤمنين: الشياطين.
وقال سعيد بن جبير: إن المؤمن إذا دخل الجنة، سأل عن أبيه وابنه وأخيه، أين هم؟ فيقال: إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل، فيقول: إني إنما عملت لي ولهم، فيلحقون به في الدرجة، ثم قرأ سعيد بن جبير هذه الآية:
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
ودعاؤهم إيجابي وسلبي، يشمل دخول الجنان ومنع العقاب، فقال تعالى:
وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ، وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي واحفظهم من العقوبات أو العذاب وجزاء السيئات التي عملوها، بأن تغفرها لهم، ولا تؤاخذهم بشيء منها، وأبعد عنهم ما يسوؤهم من العذاب،
وفائدة استغفار الملائكة للمؤمنين التائبين الصالحين الموعودين المغفرة وعدا لا خلف فيه: زيادة الكرامة والثواب.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- أخبر الله تعالى عن الملائكة حملة العرش بثلاثة أشياء: التسبيح المقرون بالتحميد، والإيمان الكامل بالله تعالى وحده لا شريك له، والاستغفار للمؤمنين شفقة عليهم. ويلاحظ أنه قدم التسبيح والتحميد على الاستغفار، لأن التعظيم لأمر الله مقدم على الشفقة على خلق الله.
والتسبيح: تنزيه الله تعالى عما لا يليق، والتحميد: الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق، والأول إشارة إلى الجلال، والثاني إشارة إلى الإكرام، كما قال تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن ٥٥/ ٧٨].
والعرش أعظم المخلوقات، نؤمن به، وندع أمر وصفه لله عز وجل. لكن يجب تنزيه الله عن التحديد والتجسيم والتكييف والحصر في مكان معين.
٢- احتج كثير من العلماء بهذه الآية: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ.. في إثبات أن الملك أفضل من البشر، لأن الملائكة لما فرغوا من الثناء على الله والتقديس، اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم، وهم المؤمنون. وهذا يدل على أنهم مستغنون عن الاستغفار لأنفسهم، وإلا لبدؤوا بأنفسهم قبل غيرهم، بدليل
قوله ص: فيما رواه النسائي عن جابر «ابدأ بنفسك»
وقوله تعالى لنبيه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد ٤٧/ ١٩] فأمر محمدا ص أن يستغفر لنفسه، ثم لغيره.
٤- قال أهل التحقيق: إن هذه الشفاعة الصادرة عن الملائكة في حق البشر تجري مجرى اعتذار عن زلة سبقت.
٥- إن الدعاء في أكثر الأحوال يبدأ بلفظ «ربنا» كما فعل الملائكة في دعائهم: رَبَّنا وَسِعْتَ.. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ.. ومن أرضى الدعاء: أن ينادي العبد ربه بقوله: «يا رب».
٦- السنة في الدعاء: أن يبدأ فيه بالثناء على الله تعالى، ثم يذكر الدعاء عقيبه، بدليل هذه الآية، فإن الملائكة لما عزموا على الدعاء والاستغفار للمؤمنين، بدؤوا بالثناء، فقالوا: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وكذلك بدأ إبراهيم الخليل بالثناء أولا على الله الهادي، الرزاق، الشافي، المحيي، الغفار، ثم قال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء ٢٦/ ٧٨- ٨٣]. والعقل والأدب يدلان أيضا على هذا الترتيب.
٧- وصف الملائكة الله تعالى في ثنائهم بقولهم: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً بثلاث صفات: الربوبية والرحمة والعلم، والربوبية إشارة إلى الإيجاد والإبداع، والرحمة إشارة إلى أن جانب الخير والرحمة والإحسان راجح على جانب الضر، وأنه تعالى خلق الخلق للرحمة والخير، لا للإضرار والشر.
٨- قوله سبحانه: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً دليل على كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات.
٩- اشتمل دعاء الملائكة على الخير كله وعلى أشياء كثيرة للمؤمنين وهي:
ب- الوقاية من عذاب جهنم حتى لا يصل إليهم.
ج- إدخالهم جنات عدن، قال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار:
ما جنات عدن؟ قال: قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيون والصدّيقون والشهداء وأئمة العدل.
وإدخال أقاربهم معهم أيضا من الآباء والأزواج والذريات.
د- إن صونهم من جزاء السيئات، أي وقايتهم في الدنيا من العقائد الفاسدة والأعمال الفاسدة والوقاية من عذاب السيئات دليل على رحمة الله بدخول الجنة، وتلك هي النجاة الكبيرة.
والخلاصة: إن أكمل الدعاء: ما طلب فيه ثواب الجنة، والنجاة من النار.
اعتراف الكفار بذنوبهم وباستحقاقهم العقاب الأخروي والتذكير بقدرة الله وفضله
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٠ الى ١٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤)
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)
لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مبتدأ وخبر، واللام لام الابتداء، وقعت بعد يُنادَوْنَ لأنها في معنى: يقال لهم.
إِذْ تُدْعَوْنَ إِذْ: ظرف زمان، وعامله: إما: لَمَقْتُ اللَّهِ أو مَقْتِكُمْ أو تُدْعَوْنَ أو فعل مقدر، تقديره: مقتكم إذ تدعون، أي حين دعيتم إلى الإيمان فكفرتم، وقيل:
تقديره: اذكروا إذ تدعون.
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ يَوْمَ: بدل منصوب من قوله يَوْمَ التَّلاقِ وهذا منصوب على أنه مفعول به لفعل: ينذر، لا الظرف، لأن الإنذار لا يكون في يوم التلاق، وإنما يكون الإنذار به، لا فيه. وهُمْ بارِزُونَ: جملة اسمية في موضع جر بإضافة يَوْمَ إليها.
ولِمَنِ الْمُلْكُ مبتدأ وخبر والْيَوْمَ منصوب متعلق بمدلول قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ أي لمن استقر الملك في هذا اليوم، أو متعلق بنفس الْمُلْكُ. أو يوقف على الْمُلْكُ، ويبتدأ: الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي هو مستقر لله الواحد القهار في هذا اليوم.
البلاغة:
أَمَتَّنَا. وأَحْيَيْتَنَا بينهما طباق.
فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ.. استفهام يراد به التمني، وأنهم يعلمون أنهم لا يخرجون.
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بينهما مقابلة، قابل بين التوحيد والشرك، والكفر والإيمان.
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ الرُّوحَ كناية عن الوحي، لأنه كالروح للجسد.
المفردات اللغوية:
يُنادَوْنَ يوم القيامة من قبل الملائكة، فيقال لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ إياكم، وهو أشد البغض. أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ الأمارة بالسوء. إِذْ تُدْعَوْنَ أي إن مقت الله حين دعيتم إلى الإيمان به في الدنيا، فكفرتم. أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ إماتتين، بأن خلقتنا أمواتا أولا، ثم صيرتنا أمواتا عند انقضاء آجالنا، فإن الإماتة: جعل الشيء عادم الحياة، إما ابتداء، أو انتقالا من الحياة إلى الموت. وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا بالشرك والكفر بالبعث. فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ نوع من الخروج من النار لنطيع ربنا. مِنْ سَبِيلٍ طريق، فنسلكه. جوابهم: لا.
ذلِكُمْ أي العذاب الذي أنتم فيه. بِأَنَّهُ بسبب أنه. إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ عبد الله وحده دون غيره. كَفَرْتُمْ بالتوحيد. وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ يجعل له شريك في العبادة. تُؤْمِنُوا تصدقوا بالإشراك. فَالْحُكْمُ لِلَّهِ فالقضاء لله في تعذيبكم بالعذاب السرمدي. الْعَلِيِّ عن أن يشرك به أحد من خلقه ويسوّى به. الْكَبِيرِ العظيم الكبير على من أشرك به بعض مخلوقاته في العبادة.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ دلائل قدرته وتوحيده وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أسباب الرزق وهو المطر. وَما يَتَذَكَّرُ يتعظ بالآيات المستقرة في الفطر والعقول. إِلَّا مَنْ يُنِيبُ يرجع عن الشرك.
فَادْعُوا اللَّهَ اعبدوه. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك. وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إخلاصكم له وشق عليهم. رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي الله عظيم الصفات، المنزه عن مشابهة المخلوقات.
ذُو الْعَرْشِ خالقه ومالكه. يُلْقِي الرُّوحَ الوحي سمي روحا، لأنه كالروح للجسد.
مِنْ أَمْرِهِ من قوله، وهذه أخبار ثلاثة بعد قوله: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ. لِيُنْذِرَ يخوف النبي الملقى عليه الوحي الناس. يَوْمَ التَّلاقِ يوم اجتماع وتلاقي الخلائق للحساب أمام الله، فإنه يوم يلتقي فيه أهل السماء والأرض والعابد والمعبود والظالم والمظلوم والأعمال والعمال.
بارِزُونَ ظاهرون لا يسترهم شيء، أو خارجون من قبورهم. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ حكاية لسؤال وما يجاب به، يسأله تعالى ويجيب نفسه، فهو القهار لخلقه.
المناسبة:
بعد بيان أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله، بيّن الله تعالى أنهم يوم القيامة يعترفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب الذي ينزل بهم، ويسألون الرجوع إلى الدنيا، ليتلافوا ما فرط منهم.
وبعد ذكر ما يوجب التهديد الشديد للمشركين، ذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته، بإظهار البيّنات والآيات، وإنزال الرزق من السماء، وإلقاء الوحي على من يشاء من عباده، لإنذار الناس بالعذاب يوم الحساب.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن مناداة الكفار يوم القيامة وهم يتلظون في النار، فيقول:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ، إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ أي تنادي الملائكة الكافرين يوم القيامة، وهم يعذبون في نار جهنم، فيمقتون أنفسهم، ويبغضونها غاية البغض، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة التي كانت سبب دخولهم إلى النار، قائلين لهم: أيها المعذّبون أنفسهم في هذه الحالة، إن بغض الله لكم حين عرض عليكم الإيمان في الدنيا من طريق الأنبياء، فتركتموه وكفرتم وأبيتم قبوله، أشد من بغضكم أنفسكم حين عاينتم عذاب النار يوم القيامة، ففي الآية حذف وتقديم وتأخير، أي لمقت الله إياكم حال ما تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم.
قالُوا: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ، فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أي قال الكفار المعذبون: ربنا أمتنا مرتين، حين كنا نطفا في أصلاب الآباء قبل الحياة الظاهرة، وحين أصبحنا أمواتا بعد حياتنا الدنيوية، وأحييتنا مرتين أيضا: الأولى في الدنيا، والثانية عند البعث، كما قال تعالى في آية أخرى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة ٢/ ٢٨].
فاعترفنا بذنوبنا التي ارتكبناها في الدنيا، من تكذيب الرسل، والإشراك بالله وترك توحيده، وإنكار البعث، ولكنه اعتراف وندم في وقت لا ينفعهم فيه الندم، فهل لنا طريق إلى الخروج من النار والرجوع إلى الدنيا، لنعمل غير الذي كنا نعمل؟ كما قال تعالى في آية أخرى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة ٣٢/ ١٢] وقال سبحانه: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام ٦/ ٢٧] وقال عز وجل: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها، فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ، قالَ: اخْسَؤُا فِيها، وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون ٢٣/ ١٠٨].
فأجيبوا بالرفض مع بيان السبب، فقال تعالى:
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ أي أنتم هكذا على وضعكم، وإن رددتم إلى الدار الدنيا: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام ٦/ ٢٨] فلا رجعة لكم، وتظلمون في العذاب، بسبب أنكم كنتم إذا دعي الله وحده دون غيره في الدنيا، كفرتم به وتركتم توحيده باستمرار، وإن يشرك به غيره من الأصنام أو غيرها، تؤمنوا بالإشراك به وتجيبوا
ثم ذكر الله تعالى ما يدل على كمال قدرته وكبريائه وعظمته، فقال:
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً، وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ الله تعالى هو الذي يظهر لكم دلائل توحيده وعلامات قدرته، بما أودع في سمائه وأرضه من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها، وهو سبحانه الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه، مع أنه من ماء واحد وتراب واحد، مما يدل على قدرته وعظمة صنعه، ولكن ما يتعظ ويعتبر بتلك الآيات الباهرة إلا من يرجع إلى ربه، بالتأمل والتفكر والنظر في آيات الله، ثم بالطاعة والإذعان إليه.
ولما قرر الله تعالى ما يوجب توحيده، صرح بالمطلوب وهو الإقبال بالكلية على الله تعالى، والإعراض عن غير الله، فقال:
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أي فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء، وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم، ولو كره الكافرون منهجكم ذلك، فلا تلتفتوا إلى كراهتهم، ودعوهم يموتوا بغيظهم.
ثبت في الصحيح عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله ص كان يقول عقب الصلوات المكتوبات: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون».
ثم ذكر تعالى أيضا ثلاث صفات أخرى من صفات الجلال والعظمة، فقال:
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ، ذُو الْعَرْشِ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ أي هو الذي يريكم آياته، وهو رفيع الصفات، وهو صاحب العرش ومالكه وخالقه والمتصرف فيه، وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه، وهو الذي ينزل الوحي على من يريد من عباده الذين يختارهم لرسالته وتبليغ أحكامه، وهم الأنبياء، ليقوموا بإنذار الناس بالعذاب يوم يلتقي أهل السموات والأرض في المحشر، ويلتقي الأولون والآخرون.
وسمي الوحي روحا، لأن الناس يحيون به من موت الكفر، كما تحيى الأبدان بالأرواح. والمراد بقوله: مِنْ أَمْرِهِ أي من شرائعه التي يوحي بها إلى أنبيائه ليمتثلوا ويسيروا في حياتهم بموجبها.
ونظائر الآية كثيرة، مثل قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل ١٦/ ٢] ونحو قوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء ٢٦/ ١٩٣- ١٩٥].
ومن صفات يوم القيامة أيضا ما يلي:
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ، لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي إن يوم التلاق هو اليوم الذي هم فيه ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لاستواء الأرض، وهم خارجون من قبورهم في العراء،
ويكون فيه الملك المطلق والسلطان الشامل لله الواحد الأحد، القاهر عباده وكل شيء بقدرته، قهرهم بالموت، ثم بالبعث الشامل. وقد أورد هذا المعنى لتقريره في الأذهان بصورة سؤال يسأل فيه الرب تعالى، يقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ أي يوم القيامة، فلا يجيبه أحد، فيجيب تعالى نفسه، فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
والخلاصة: ذكر تعالى هنا أربع صفات ليوم القيامة: هي كونه يوم التلاق، وكون الخلق فيه ظاهرين جميعا أمامه لا يسترهم شيء، وكونه يوما لا يخفي الله فيه من الأعمال شيئا، والمقصود بذلك الوعيد، فإنه تعالى إذا جمع الخلق، يجازي كلا بحسبه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وكون الملك المطلق فيه لله عز وجل.
ثم ذكر تعالى صفة خامسة وسادسة ليوم القيامة، تبينان صفات عدل الله في حكمه بين خلقه، وفضله ورحمته، فقال:
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي إن يوم القيامة هذا هو يوم الجزاء وثواب كل عامل بعمله، من خير وشر، ولا ظلم في الحكم فيه على أحد، بنقص من ثوابه أو بزيادة في عقابه، وإن الله سريع حسابه لعباده على أعمالهم في الدنيا، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا واحدة كما قال تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان ٣١/ ٢٨] وقال: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر ٥٤/ ٥٠] ولأنه تعالى لا يحتاج إلى تفكر، ويحيط علمه بكل شيء، فلا يغيب عنه مثقال ذرة.
وذكر سرعة الحساب في هذا الموضع لائق جدا، لأنه تعالى لما بيّن أنه لا ظلم، بيّن
وقد روى مسلم في صحيحة حديثا في بيان منع الظلم في الحساب عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله ص، فيما يحكي عن ربه عز وجل أنه قال: «يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّما، فلا تظالموا- إلى أن قال- يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يأتي:
١- إن الله تعالى يحب الخير لعباده ويكره الكفر والشر لهم، لذا كان مقته وبغضه للكفار في وقت تعذيبهم بالنار أشد من بغضهم أنفسهم في ذلك الوقت، لأنها أوبقتهم في المعاصي.
٢- احتج أكثر العلماء بآية: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ في إثبات عذاب القبر، بناء على تفسير السدّي: أنهم أميتوا في الدنيا، ثم أحياهم في القبور للسؤال، ثم أميتوا ثم أحيوا في الآخرة. وإنما جنح إلى هذا التفسير، لأن لفظ الميت لا ينطلق في العرف على النطفة. ولو كان الثواب والعقاب للروح دون الجسد فما معنى الإحياء والإماتة؟.
كذلك تدل هذه الآية على حصول الحياة في القبر.
٣- يعترف الكفار بذنوبهم واستحقاقهم العقاب يوم القيامة، ويندمون على ذلك، لكن لا ينفعهم فيه الندم والاعتراف.
٤- يطلب الكفار الرجوع إلى الدنيا للإيمان والطاعة، ولكن لا رجعة لهم.
٦- أقام الله تعالى آيات وأدلة كثيرة على وجوده وتوحيده وقدرته وحكمته، ومنها هنا آيات السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما من الشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والبحار والأنهار والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا، ومنها إنزال الرزق بإنزال المطر سبب الحياة والبركة والخير.
ويلاحظ أنه جمع في هذه الآية بين رعاية مصالح الأديان ومصالح الأبدان، لأن بإظهار الآيات قوام الأديان، وبإنزال الرزق من السماء قوام الأبدان.
ولكن ما يتعظ بهذه الآيات، فيوحد الله إلا من ينيب ويرجع إلى طاعة الله، والمعنى: إنّ لمس وإدراك دلائل توحيد الله كالشيء المستقر في العقول، والاشتغال بالشرك وبعبادة غير الله مانع يحجب أنوار العقل والفكر، فإذا تخلى العبد عن الشرك، وأناب إلى الله، زال الغطاء، واستنار القلب، فحصل الفوز التام، وظهرت سبيل النجاة.
٧- وكما أن من صفات كبرياء الله وإكرامه: كونه مظهرا للآيات، منزلا للأرزاق، فله صفات ثلاث أخرى من صفات الجلال والعظمة، وهي كونه رفيع الصفات، خالق العرش ومدبره ومالكه، منزل الوحي والنبوة على من يشاء من عباده. وسمي الوحي روحا، لأن الناس يحيون به من موت الكفر، كما تحيا الأبدان بالأرواح، كما تقدم.
٨- ما على العباد أمام هذه الصفات العليا إلا عبادة الله وحده لا شريك له، مخلصين له العبادة والطاعة، حتى ولو كره الكافرون عبادة الله، فلا تعبدوا أيها المؤمنون غيره.
أصح ما قيل فيه: ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة، لم يعص الله جل وعز عليها، فيؤمر مناد ينادي:
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فيقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا، ويقوله الكافرون غمّا وانقيادا.
ثم أردف القرطبي قائلا: والقول الأول ظاهر جدا، لأن المقصود إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوى المدّعين وانتساب المنتسبين، إذ قد ذهب كل ملك وملكه، ومتكبر وملكه، وانقطعت نسبهم ودعاويهم. ودل على هذا قوله الحق عند قبض الأرض والأرواح وطيّ السماء: «أنا الملك، فأين ملوك الأرض» كما في حديثي أبي هريرة وابن عمر، ثم يطوي الأرض بشماله والسموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟! «١».
١٠- ومن صفات ذلك اليوم: أن تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر، وأنه لا ظلم فيه، فلا ينقص أحد شيئا من عمله، وإن الله سريع الحساب، فلا يحتاج إلى تفكر واستدلال، لأنه تعالى العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء، فلا يؤخر جزاء أحد للاشتغال بغيره، وكما يرزقهم في ساعة واحدة يحاسبهم كذلك
جاء في الخبر: «ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار».
والخلاصة: ذكر الله تعالى ست صفات ليوم القيامة: وهي كونه يوم التلاق، وكون الخلق بارزين ظاهرين فيه، ولا يخفى على الله منهم شيء، ويظهر فيه الملك التام لله الواحد القهار، وتجزى فيه كل نفس بما كسبت من خير أو شر، ولا ظلم في الحساب الذي هو سريع الإجراء والتنفيذ وتحقيق المطلوب.
أوصاف أخرى هائلة رهيبة ليوم القيامة
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)
الإعراب:
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ إِذِ بدل من يَوْمَ الْآزِفَةِ الذي هو مفعول به ل أَنْذِرْهُمْ لا ظرف، لأن الإنذار لا يكون يوم الآزفة. والْقُلُوبُ مبتدأ، ولَدَى الْحَناجِرِ خبر. وكاظِمِينَ
ما للظالمين حميم ولا شفيع. ويُطاعُ جملة فعلية صفة ل شَفِيعٍ.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا.. فَيَنْظُرُوا إما منصوب على جواب الاستفهام بالفاء بتقدير «أن» أو مجزوم عطفا على يَسِيرُوا وكَيْفَ في موضع نصب، لأنها خبر كانَ وعاقِبَةُ: اسم كان المرفوع، وفي كَيْفَ ضمير يعود على العاقبة. ويجوز جعل كانَ تامة، فلا تحتاج إلى خبر، فيكون كَيْفَ ظرفا ملغى لا ضمير فيه. وكذلك كانُوا في قوله: الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ يجوز فيها الوجهان، ويكون أَشَدَّ إذا جعلت كانَ بمعنى «وقع» حالا. وقُوَّةً تمييز. وجملة كان واسمها وخبرها مفعول: ينظروا. وكانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً جواب كَيْفَ.
البلاغة:
ما لِلظَّالِمِينَ أي الكفار، فيه وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بهم، وإنه لظلمهم.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ؟ استفهام إنكاري.
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ من صيغ المبالغة.
المفردات اللغوية:
يَوْمَ الْآزِفَةِ يوم القيامة، سميت بها لأزوفها، أي قربها، يقال: أزف الرحيل يأزف أزفا: قرب إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ ترتفع خوفا عند الحناجر أي الحلوق، جمع حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى. لِلظَّالِمِينَ الكفار كاظِمِينَ ممتلئين غما حَمِيمٍ قريب نافع أو محب وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ مشفع أي تقبل شفاعته، ولا مفهوم للوصف: يُطاعُ إذ لا شفيع لهم أصلا كما قال تعالى فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ [الشعراء ٢٦/ ١٠٠] أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء أي لو شفعوا فرضا لم يقبلوا.
يَعْلَمُ الله خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي النظرة الخائنة، كالنظرة الثانية إلى الحرام، واستراق النظر إليه، فالمراد الأعين الخائنة: وهي التي تختلس النظر إلى المحرّم وتسارقه وَما تُخْفِي الصُّدُورُ القلوب، أي ما تكتمه الضمائر. والجملة خبر خامس للقلوب، للدلالة على أنه ما من خفي إلا وهو متعلّق العلم والجزاء.
عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ مآل حال الذين كذبوا الرسل قبلهم كعاد وثمود كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة وتمكنا وَآثاراً فِي الْأَرْضِ من قلاع ومصانع وقصور ومدائن حصينة فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أهلكهم واقٍ حافظ يدفع عنهم السوء أو العذاب.
بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرات والأحكام الواضحة إِنَّهُ قَوِيٌّ متمكن مما يريده غاية التمكن شَدِيدُ الْعِقابِ ليس هناك عقاب أشد منه.
المناسبة:
بعد بيان كون الأنبياء ينذرون الناس يوم التلاق، أتى بأوصاف هائلة رهيبة أخرى ليوم القيامة، لتخويف الكفار بعذاب الآخرة، ثم خوفهم بعذاب الدنيا المماثل لإهلاك الأمم السابقة الذين كذبوا الرسل.
التفسير والبيان:
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ أي خوف أيها الرسول الكفار يوم القيامة، ليؤمنوا ويقلعوا عن الشرك، ذلك اليوم الذي لكأن القلوب تزول من مواضعها من الخوف، وترتفع حتى تصير إلى الحلوق، حال كون أصحابها مكروبين ممتلئين غما.
ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ أي وحال كون أولئك الكافرين ليس لهم قريب ينفعهم، ولا شفيع مشفع تقبل شفاعته لهم.
والمقصود بالآية تخويف الكفار وترويعهم من شدة الخوف وأهوال يوم
والقيامة وإن طال زمانها في تقدير الناس إلا أنها آتية من غير أي شك فيها، وكل آت قريب، كما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر ٥٤/ ١] وقال جل وعلا: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء ٢١/ ١] وقال سبحانه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل ١٦/ ١] وقال عز وجل: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً، سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك ٦٧/ ٢٧].
ثم أعلمهم تعالى بشمول علمه وضبطه ودقته، فقال:
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي إن الله يعلم النظرة الخائنة التي ينظرها العبد إلى المحرّم، ويعلم ما تسرّه الضمائر من أمور خيّرة أو شريرة، حتى حديث النفس أو خواطر النفس. وهذا يعني أن علم الله تام محيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها، ليحذر الناس علمه فيهم، فيستحيوا من الله حق الحياء، ويتقوه حق تقواه، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، فإنه تعالى يعلم العين الخائنة، وإن أبدت أمانة، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر، أي مضمرات القلوب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء، أو تمرّ به وبهم المرأة الحسناء، فإذا غفلوا لحظ إليها، فإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غفلوا لحظ، فإذا فطنوا غض، وقد اطّلع الله تعالى من قلبه أنه ود أن لو اطلع على فرجها «١».
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي والذين يعبدونه من الأصنام من غير الله، لا يتمكنون من القضاء بشيء، أي فلا يحكمون بشيء، ولا يملكون شيئا، لأنهم لا يعلمون شيئا، ولا يقدرون على شيء، فالذي تجب عبادته هو القادر على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، فإن الله سميع لأقوال خلقه، بصير بأفعالهم، فيجازيهم عليه يوم القيامة.
وهذا وعيد لهم على أقوالهم وأفعالهم وأنه يعاقبهم عليه، وتصريح بعدم جدوى عبادة الأصنام والأوثان والأنداد وغيرها من المعبودات، وتهكم بهم، لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه: يقضي أو لا يقضي.
هذه موجبات التخويف من عذاب الآخرة، ثم خوفهم الله تعالى بعذاب الدنيا، فقال:
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي أرشدهم الله تعالى إلى الاعتبار بغيرهم، والمعنى: أفلم يمش هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد، فينظروا مآل حال الذين مضوا من الكفار المكذبين بالأنبياء، وما حل بهم من العذاب والنكال، مع أنهم كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من كفار مكة وأمثالهم، وأبقى آثارا في الأرض، بما عمروا فيها من الحصون والقصور، وأقاموا من المدن والحضارات.
فأهلكهم الله بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وما كان لهم من دافع يدفع عنهم العذاب، وللكافرين أمثالها. وهذا تحذير واضح للكافرين في كل زمان بما حل بالأمم الغابرة.
ثم ذكر الله تعالى علة إهلاكهم وتدميرهم، فقال:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَكَفَرُوا، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ، إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ أي ذلك الأخذ والإهلاك بسبب أن رسلهم كانوا يأتونهم بالحجج الواضحة على الإيمان الحق، فكفروا بما جاءوهم به، فأهلكهم الله ودمّر عليهم، إن الله ذو قوة عظيمة وبطش شديد، يفعل كل ما يريده، لا يعجزه شيء، وعقابه أليم شديد وجيع لكل من عصاه، فيا أيها الكفار والعصاة اعتبروا واتعظوا بغيركم، فالسعيد من وعظ بغيره.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات شيئان: التخويف من عذاب الآخرة، والتحذير من عذاب الدنيا.
أما عذاب الآخرة: فقد ذكر الله تعالى ثمانية أسباب موجبة للخوف وهي «١» :
١- أنه سمى ذلك اليوم يوم الآزفة، أي يوم القرب من العذاب لمن أذنب.
٢- أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن زال القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة.
٣- لا يمكنهم أن ينطقوا لشدة ما اعتراهم من الحزن والخوف، وذلك يوجب القلق والاضطراب.
٤- ليس لهم قريب ينفعهم، ولا شفيع يطاع فيهم، فتقبل شفاعته.
٦- الله يقضي بالحق المطلق والعدل التام، وهذا أيضا يوجب عظم الخوف.
٧- لا فائدة مما عول عليه المشركون من شفاعة الأصنام، فهم لا يقضون بشيء.
٨- إن الله يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ونحوها من المعبودات الباطلة، ويبصر خضوعهم وسجودهم لها.
وأما عذاب الدنيا: فأمام هؤلاء الكفار المكذبين لرسول الله محمد ص نماذج وألوان من عذاب الأمم القديمة المكذبة رسلها، وقد نزل بهم العذاب لأجل أنهم كفروا وكذبوا الرسل، وهؤلاء الحاضرون يشاهدون آثار دمارهم وهلاكهم، والله يحذر الكفار قوم الرسول من مثل أفعال أولئك الماضين، وقد ختم الكلام بقوله: إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ مبالغة في التحذير والتخويف.
قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان
- ١- تعذيب بني إسرائيل والتهديد بقتل موسى
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ فيه وضع الظاهر وهو الْكافِرِينَ موضع الضمير أي كيدهم لتعميم الحكم والدلالة على العلة وهي الكفر.
كَذَّابٌ صيغة مبالغة.
المفردات اللغوية:
بِآياتِنا أي المعجزات وَسُلْطانٍ حجة وبرهان مُبِينٍ ظاهر واضح، والعطف بين الآيات والسلطان لتغاير الوصفين فِرْعَوْنَ ملك مصر وَهامانَ وزير فرعون وَقارُونَ كان ثريا ساحِرٌ كَذَّابٌ يعنون موسى عليه السلام، وفيه تسلية لرسول الله ص وبيان عاقبة من هو أشد بطشا من الذين كانوا من قبلهم وأقربهم زمانا.
بِالْحَقِّ بالصدق قالُوا: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ استبقوهم أحياء، والمعنى: أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم من قتل الأولاد الذكور وإبقاء النساء أحياء للخدمة وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع.
وَقالَ فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ فيه غاية الكيد والحقد والتجلد وعدم المبالاة بدعاء ربه ليمنعه منه إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغير ما أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام. أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ أي ما يفسد دنياكم من القتل والتجارب وإثارة الفتن إن لم يقدر أن يبطل دينكم وَقالَ مُوسى لقومه لما سمع كلام فرعون إِنِّي عُذْتُ استعذت واستجرت واستعنت، وبدأ ب «إن» للتأكيد والدلالة على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ خص اسم الرب، لأن المطلوب هو الحفظ والتربية، وقوله: وَرَبِّكُمْ للحث على الاقتداء به، فيتعوذوا بالله مثله ويعتصموا بالتوكل عليه مثله
المناسبة:
لما سلّى الله تعالى رسوله بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم، سلاه أيضا بذكر قصة موسى عليه السلام التي دلت على أنه مع قوة معجزاته، كذبه فرعون وهامان وقارون، وقالوا عنه: هو ساحر كذاب.
ولكن في النهاية انتصر عليهم، وتلك بشارة لنبينا ص بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة، كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي تالله لقد أرسلنا موسى بالمعجزات التي هي الآيات التسع كاليد والعصا، وبحجة بينة واضحة وبرهان قوي.
إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ، فَقالُوا: ساحِرٌ كَذَّابٌ أرسلنا موسى إلى فرعون ملك مصر، وهامان وزيره، وقارون أغنى أهل زمانه، فقالوا عنه: إنه ساحر مخادع مجنون مموه، كذاب فيما زعم أن الله أرسله، كما قال تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات ٥١/ ٥٢- ٥٣].
وخص هؤلاء الطغاة بالذكر، لأنهم رؤساء المكذبين بموسى، وغيرهم تابع لهم. وشأن الجبابرة عدم الإصغاء للحجة والمنطق واللجوء إلى القوة، كما قال
قالُوا: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي قال أولئك الطغاة: عودوا إلى قتل الذكور وترك النساء، لئلا يكثر جمعهم، ولكي يضعف شأنهم. وهذه هي المرة الثانية بالأمر بذلك بعد بعثة موسى، وكانت المرة الأولى قبل ولادة موسى، لأجل تفادي وجوده، ولإذلال الشعب الإسرائيلي، ولتقليل عددهم، لئلا ينصروا عليهم. ولكن الله تعالى أحبط كيدهم وأفشل خطتهم كما قال:
وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي وما مكرهم وقصدهم تقليل عدد بني إسرائيل إلا في ضياع وذهاب سدى، لم يحقق فائدة لهم، فإنهم لما باشروا قتلهم أولا، فما أفادهم، وعاش موسى، فكذلك لا يفيدهم تجديد مأساة القتل الجماعي، وسيكون النصر للمؤمنين.
ولكنه زاد في هذه المرة العزم على قتل موسى، فقال:
وَقالَ فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى، وَلْيَدْعُ رَبَّهُ أي قال فرعون لقومه: دعوني أقتل موسى، وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك، ولا أبالي به. وهذا في الظاهر استهانة بدعاء رب موسى، وفي الباطن كان يرتعد من دعائه، فقوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ شاهد صدق على فرط خوفه منه.
وسبب القتل ما قال تعالى:
إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ أي إني أخشى أن يغير منهاج دينكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام، ويدخلكم في
وإذا كان فرعون اعتز بجبروته وقوته، فإن موسى عليه السلام اعتصم بالله، فقال:
وَقالَ مُوسى: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ، لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ أي لما بلغ موسى قول فرعون: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى.. قال: إني استجرت بالله وعذت به من شره وشر أمثاله من كل متعاظم متعال مستكبر عن الإذعان للحق، كافر مجرم لا يؤمن بالبعث والحساب والجزاء.
وقد استعاذ موسى ممن جمع بين الاستكبار والتكذيب بالجزاء، لأنهما عنوان الجرأة على الله وعلى عباده. وقال موسى بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ لحث قومه على مشاركته في الاستعاذة بالله من شر فرعون وملئه.
وقد ثبت في الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله ص كان إذا خاف قوما قال: «اللهم انا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- يشترك الأنبياء في أمور هي تأييدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، وإعراض أقوامهم عنهم، واتهامهم بالكذب والتمويه والسحر، والتهديد بالطرد والتشريد أو القتل والتعذيب، ولكن النصر في النهاية للأنبياء والمؤمنين.
٣- وزاد طغيان فرعون، وامتد إلى القتل الجماعي لبني إسرائيل، وإبادة الأولاد الذكور بعد الولادة، وإبقاء النساء أحياء للإذلال والخدمة والإهانة، لئلا ينشأ الأطفال على دين موسى، فيقوى بهم، وتلك عودة منه إلى عادته القديمة بارتكاب هذه المنكرات.
قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى، أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبة لهم، فيمتنع الإنسان من الإيمان، ولئلا يكثر جمعهم، فيعتضدوا بالذكور من أولادهم، فشغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب، كالضفادع والقمّل والدم والطوفان، إلى أن خرجوا من مصر، فأغرقهم الله تعالى.
٤- تحقق نصر الله تعالى لموسى عليه السلام، وأحبط مكائد فرعون وقومه، وجعل مكرهم في خسران وضياع، فإن الناس لا يمتنعون من الإيمان، وإن فعل بهم مثلما فعل فرعون أو أشد.
٥- عزم فرعون أيضا على قتل موسى غير مبال ببطش الله وقوته، وأبان لقومه السبب الموجب لقتله وهو أن وجوده يؤدي إلى أحد أمرين أو كليهما: إما فساد الدين أو فساد الدنيا. والمراد بالدين: هو عبادة فرعون والأصنام،
٦- لما هدد فرعون بالقتل، لجأ موسى إلى ربه مستعيذا به من كل متعظم عن الإيمان، ولا يؤمن بالآخرة.
٧- استنبط الرازي من كلمات موسى ودعائه ثماني فوائد هي بإيجاز:
الأولى- إن قول موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مستخدما لفظة إِنِّي الدالة على التأكيد، للدلالة على أن الطريق المؤكد المفيد في دفع الشرور والآفات عن النفس، الاعتماد على الله، والتوكل على عصمة الله تعالى.
الثانية- الاستعاذة بالله تصون الإنسان من شياطين الإنس والجن، فإذا قال المسلم: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساوس شياطين الجن، فكذلك إذا قال المسلم: أعوذ بالله، فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات.
الثالثة- قوله بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ: لما كان المولى ليس إلا الله، وجب ألا يرجع العاقل في دفع كل الآفات إلا إلى حفظ الله تعالى، فهو المربي والحافظ.
الرابعة- قوله وَرَبِّكُمْ فيه بعث أو حث لقوم موسى عليه السلام على أن يقتدوا به في الاستعاذة بالله.
الخامسة- لم يذكر موسى فرعون في دعائه، رعاية لحق تربيته له في الصغر.
السادسة- بالرغم من عزم فرعون على قتل موسى، فلا فائدة في الدعاء عليه بعينه، بل الأولى الاستعاذة بالله في دفع كل من كان موصوفا بصفة التكبر والكفر بالبعث، حتى يشمل كل من كان عدوا ظاهرا أو خفيا.
الثامنة- أجاب موسى عن استهزاء فرعون بقوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ: بأن ما ذكرته يا فرعون بطريق الاستهزاء هو الدين الحق، وأنا أدعو ربي، وأطلب منه أن يدفع شرك عني، وسترى كيف أن ربي يقهرك، وكيف يسلطني عليك.
وهو رد قولي وفعلي.
الخلاصة من هذا الدعاء: أن طريق دفع كيد الأعداء وإبطال مكرهم هو الاستعاذة بالله، والرجوع إلى حفظ الله تعالى.
- ٢- قصة مؤمن آل فرعون ودفاعه عن موسى عليه السلام
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)
أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ منصوب بنزع الخافض، أي بأن يقول.
وَإِنْ يَكُ كاذِباً حذفت النون من يَكُ لكثرة الاستعمال، وهو رأي جمهور النحاة، أو تشبيها لها بنون الإعراب في نحو «يضربون» وهو قول المبرّد، والوجه الأول أوجه.
ظاهِرِينَ حال.
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ مِثْلَ: بدل منصوب من مِثْلَ الأول في قوله تعالى:
مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ.
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ يَوْمَ بدل منصوب من يَوْمَ الأول في قوله تعالى:
يَوْمَ التَّنادِ.
الَّذِينَ يُجادِلُونَ.. الَّذِينَ: بدل منصوب من مِنْ في قوله تعالى: مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ويجوز جعله خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم الذين. ورأى السيوطي أن الَّذِينَ مبتدأ، وكَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ.. هو الخبر.
البلاغة:
كاذِباً وصادِقاً بينهما طباق.
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا.. استفهام على سبيل الإنكار.
كَذَّابٌ جَبَّارٍ من صيغ المبالغة.
رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ من أقاربه، فهو ابن عم فرعون وولي عهده وصاحب شرطته، وهو الظاهر، وقيل: إنه رجل إسرائيلي أو غريب موحد كان يجاملهم أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أتقصدون قتله؟ أَنْ يَقُولَ لأن يقول: رَبِّيَ اللَّهُ وحده، وذلك من غير روية وتأمل في أمره وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرات والبراهين الواضحات على وحدانية الله والدالة على صدقه مِنْ رَبِّكُمْ نسب الرب إليهم استدراجا لهم إلى الاعتراف به، ثم احتج عليهم بقوله:
وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ: لا يتخطاه وبال كذبه وضرره، فلا حاجة إلى قتله وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فلا أقل من أن يصيبكم بعضه. قال البيضاوي: وفيه مبالغة في التحذير، وإظهار للإنصاف وعدم التعصب، ولذلك قدم كونه كاذبا إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ مشرك مفتر، فالمسرف: المقيم على المعاصي المكثر منها، والكذاب: المفتري. وهو احتجاج ثالث من وجهين: أحدهما- أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله إلى البينات، ولما عضده بتلك المعجزات، وثانيهما- أن من خذله الله وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله. وفيه تعريض بفرعون وتكذيب ربوبيته.
ظاهِرِينَ غالبين عالين على بني إسرائيل فِي الْأَرْضِ أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟ من يمنعنا من عذاب الله إن قتلتم أولياءه؟ أي لا ناصر لنا، وإنما أدرج نفسه في ضميري الفعلين لأنه كان قريبا لهم، وليريه أنه معهم قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي ما أشير عليكم إلا بما أشير به على نفسي، وهو قتل موسى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي ما أدلكم إلا على طريق الصواب.
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ في تكذيبه والتعرض له مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ أي مثل أيام الأمم الماضية، يعني وقائعهم، والْأَحْزابِ الأقوام الذين تحزّبوا على أنبيائهم وكذبوهم، وكلمة يَوْمِ مفرد مضاف فيعم، فقد أغنى جمع الأحزاب عن جمع اليوم مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ...
أي مثل عادة وجزاء ما كانوا عليه من الكفر وإيذاء الرسل، بتعذيبهم في الدنيا واستئصالهم وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ فلا يعاقبهم بغير ذنب، ولا يترك الظالم منهم بغير انتقام، وهو أبلغ من قوله: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لأن المنفي فيه عدم تعلق إرادته بالظلم.
يَوْمَ التَّنادِ يوم القيامة، ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة، ويكثر فيه نداء أصحاب الجنة وأصحاب النار وبالعكس، فينادى بالسعادة لأهل الجنة، وبالشقاوة لأهل النار وغير ذلك
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ يوسف بن يعقوب عليه السلام، من قبل موسى عليه السلام بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرات الدالة على صدقه هَلَكَ مات يوسف لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا فيه تكذيب رسالته في حياته والكفر بها، وتكذيب رسالة من بعده كَذلِكَ مثل إضلالكم يُضِلُّ اللَّهُ في العصيان مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في معاصي الله مستكثر منها مُرْتابٌ شاك فيما شهدت به البينات على وحدانية الله ووعده ووعيده. سُلْطانٍ حجة قوية وبرهان ظاهر مَقْتاً المقت: أشد البغض كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ أي مثل إضلالهم يطبع (يختم) الله بالضلال على قلوب المتجبرين، ومتى تكبر القلب تكبر صاحبه، وبالعكس.
وقرئ بتنوين قَلْبِ وكُلِّ على القراءتين يراد به عموم الضلال جميع القلب، لا عموم القلب.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه ما زاد في دفع شر فرعون الذي عزم على قتله، على الاستعاذة بالله، أبان تعالى أنه قيّض له رجلا من آل فرعون يدافع عنه، لتسكين الفتنة وإزالة الشر. واشتمل دفاعه على أمور ثلاثة كبري هي:
الأول- استنكار قتل موسى المؤمن بربه، المستضعف مع قومه في مواجهة قوم فرعون.
الثاني- تحذيرهم بأس الله في الدنيا والآخرة في المكذبين للرسل وهم جماعات الأحزاب كقوم نوح وعاد وثمود.
الثالث- تذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف عليه السلام من تكذيب رسالته ورسالة من بعده.
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ أي قال رجل من أقارب فرعون ورجال دولته: كيف تقتلون رجلا لا ذنب له إلا أن قال: الله ربي، والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات والأدلة الدالة على نبوته وصحة رسالته وصدقه؟
فهذا لا يستدعي القتل، فتوقف فرعون عن قتله، بسبب صدقه في الدفاع.
قال ابن عباس رضي الله عنهما- فيما رواه ابن أبي حاتم-: «لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل، وامرأة فرعون، والذي قال: يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص ٢٨/ ٢٠].
والحق أنه كان لهذه الكلمة: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ تأثير عظيم في نفس فرعون، وقد كررها أبو بكر في محاولة عقبة بن أبي معيط خنق رسول الله ص، أخرج البخاري في صحيحة عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ص، قال: بينا رسول الله ص يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله ص، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي ص، ثم قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟.
وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «أيها الناس، أخبروني من أشجع الناس؟ قال: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني عن أشجع الناس، قالوا:
لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر، رأيت رسول الله ص، وأخذته قريش، فهذا
فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويجأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله؟ ثم رفع- أي علي- بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثم قال: أنشدكم، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فو الله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا رجل أعلن إيمانه، وبذل ماله ودمه».
ثم أورد مؤمن آل فرعون ست حجج أخرى مفصلة لتأييد رأيه، فقال تعالى:
١- وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أي إن كان هذا الرجل كاذبا في دعوته، كان وبال كذبه وإثمه عليه يجازيه الله في الدنيا والآخرة، فاتركوه، وإن كان صادقا في دعواه يصبكم بعض الذي يعدكم به إن خالفتموه من العقوبة الدنيوية والأخروية، فاتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه.
وإنما قال: بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فلأنه ص كان يتوعدهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة، فإذا أصابهم عذاب الدنيا، فقد أصابهم بعض الذي يعدهم به.
والمراد أنه إذا لم يصبكم كل العذاب المتوعد به، فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، وفي بعض ذلك هلاككم.
٢- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أي لو كان موسى مسرفا في قوله، متجاوزا حده، كذابا في دعواه النبوة، لما هداه الله إلى البينات، ولا أيده بالمعجزات، ولو كان كاذبا على الله، خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله.
وإنما قال: يَنْصُرُنا وجاءَنا لأنه كان يظهر من نفسه أنه منهم، وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه، وأنه حريص على دفع الشر عنهم، ليتأثروا بنصحه.
فرد فرعون بنصيحة فيها مراوغة، مظهرا أنه أخلص نصحا لقومه من هذا الرجل، فقال تعالى:
قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي قال فرعون مجيبا الرجل المؤمن: ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي، وما أدلكم وأدعوكم إلا إلى طريق الصواب الذي يؤدي إلى الفوز والنجاة والغلبة وهو قتل موسى. وقد كذب فرعون وافترى في قوله: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى فإنه كان يتحقق صدق موسى عليه السلام فيما جاء به من الرسالة، وكذب أيضا في قوله:
وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد، ولكن قومه مع ذلك قد أطاعوه واتبعوه بسبب سلطانه ونفوذه، قال تعالى: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ، وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود ١١/ ٩٧] وقال سبحانه: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه ٢٠/ ٩٧]
جاء في الحديث الثابت الذي رواه الشيخان عن معقل بن يسار: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت، وهو غاشّ لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمس مائة عام».
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أي لا يريد الله إلحاق ظلم بعباده، فلم يهلكهم بغير جرم، إنما أهلكهم بذنوبهم وتكذيبهم رسله، ومخالفتهم أمره.
ثم خوفهم العذاب الأخروي، فقال:
٥- وَيا قَوْمِ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ، ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ويا قومي، إني أخشى عليكم عذاب يوم القيامة، حين ينادي بعضكم بعضا مستغيثا به من الأهوال، أو حين ينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، كما قال تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، قالُوا: نَعَمْ [الأعراف ٧/ ٤٤] وقال سبحانه: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ [الأعراف ٧/ ٤٨]. وقال عز وجل: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف ٧/ ٥٠].
وحين تفرّون هاربين من النار، أو منصرفين عن الموقف إلى النار، لا تجدون واقيا ولا مانعا ولا عاصما يعصمكم من عذاب الله ويمنعكم منه، وهذا تأكيد للتهديد.
٦- وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ، فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ، حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ: لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أي أذكركم بأن تكذيب الرسل موروث لديكم من الآباء والأجداد، فلقد بعث الله لكم أي لآبائكم يا أهل مصر رسولا من قبل موسى عليه السلام هو يوسف بن يعقوب، وجاءكم بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه، والآيات الواضحات المبينة لدين الله وشرائعه، فكذبتموه وكذبتم من جاء بعده من الرسل، وما زلتم في شك من البينات ولم تؤمنوا به، حتى إذا مات أنكرتم بعثة رسول من بعده، فكفرتم به في حياته، وكفرتم بمن بعده من الرسل بعد موته، مما يدل على توارث التكذيب، واستمرار العناد في مواجهة الرسل، والكفر برسالاتهم.
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أي مثل هذا الضلال وسوء الحال، يكون حال من يضله الله لإسرافه في المعاصي والاستكثار منها، وارتياب قلبه في دين الله، وشكه في وحدانية الله ووعده ووعيده.
وصفة هؤلاء المسرفين المرتابين ما حكاه تعالى:
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا أي إن أولئك المسرفين المرتابين هم الذين يجادلون في آيات الله ليبطلوها، بغير حجة واضحة ولا دليل بيّن، ويحاربون الحق بالباطل، كبر ذلك الجدل بغضا عند الله والمؤمنين، لأنه جدال بالباطل لا أساس له، أما مقت الله فهو تعذيبه العصاة، وأما مقت المؤمنين فهو هجر الكفار وترك التعامل معهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لقد كان دفاع هذا الرجل المؤمن الصالح من آل فرعون في مجلس فرعون وسلطانه في غاية القوة والجرأة والعقل والمنطق.
٢- لا مسوغ لإنسان مهما كان أن يعتدي على الحرية الدينية ويصادرها، فكيف يصح أن يقتل رجل لا جرم له إلا أنه يقول: ربي الله؟
٣- لا عذر للناس في تكذيب الرسل والكفر بهم بعد أن يأتوهم بالمعجزات الباهرات والأدلة الواضحات على صدقهم.
٤- عجبا من مكذبي الرسل فإن منطقهم أعوج وتفكيرهم أخرق، فإن الرسول إذا كان كاذبا فعليه وزر كذبه ولا يتضرر به من لا يتبعه، وإن كان صادقا نفعهم صدقه، وسلموا من الآفات وألوان العذاب الذي يهدد به.
وقد استخدم المؤمن هذا الأسلوب: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ..
لا لشك منه في صحة رسالة موسى وصدقه، ولكن تلطفا في الدفاع، وبعدا عن الأذى، وإظهار للتجرد والموضوعية.
٦- إن من المستغرب حقا أن يخشى أصحاب السلطان والقهر المعتمدين على الجند أو الجيش أو العسكر المدجج بأنواع الأسلحة الفتاكة، من الأنبياء والرسل والقادة المصلحين الذين ليس لهم إلا البيان القوي، والحجة الهادفة، والكلمة المؤثرة. وما ذاك إلا لأن الحق فوق القوة وأثبت منها وأنفذ، لذا تهتز العروش بصوت الحق، ولا يتأثر أصحابها ببأس الأقوياء، وقوة الشجعان.
فهذا فرعون الطاغية ملك مصر يحذر رجلا عاديا هو موسى عليه السلام لا سند له من قوة مادية أو سلاح أو عسكر.
٧- كذلك لقد خوف هذا الرجل المؤمن قومه بهلاك معجل في الدنيا، ثم خوفهم أيضا بهلاك الآخرة بقوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ فاهتز قلب فرعون.
٨- زاد هذا المؤمن في الوعظ والتخويف، وأفصح عن إيمانه، إما مستسلما موطنا نفسه على القتل، أو واثقا بأنهم لا يقصدونه بسوء، وقد وقاه الله شرهم، بقوله الحق: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا [غافر ٤٠/ ٤٥] وصرح بالخوف من عذاب يوم القيامة- يوم التناد، حيث ينادي الناس بعضهم بعضا للاستغاثة، وينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار.
٩- وذكّرهم أيضا بالماضي السحيق، حيث جاء أسلافهم نبي الله يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وذكّرهم قديم عتوهم على الأنبياء، فجاءهم يوسف بالشواهد القاطعة الدالة على صدقه، فكفروا به وكذبوه في حياته، وكفروا بالأنبياء من بعده، فأضلهم الله بعدئذ عن الحق والصواب.
١١- ما أروع تلك الكلمات التي كان مؤمن آل فرعون يختم بها حججه وبراهينه!! فهي كما حكاها تعالى مع إقرارها دستور الحق، وسنة الله، وسبيل إقامة العدل، وأساس الحساب في الدار الآخرة، وتلك هي:
أ- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ إشارة إلى علو شأن موسى عليه السلام على طريق الرمز والتعريض، أو إلى أن فرعون مسرف في عزمه على قتل موسى، كذاب في إقدامه على ادعاء الألوهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يدمره ويهدم بنيانه.
ب- وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يعني أن تدمير الأحزاب الذين تحزنوا على الرسل، فكذبوهم وكفروا بهم، كان عدلا، لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء.
ج- وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ تنبيه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم بعد أن أكد التهديد بقوله: ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ.
د- كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أي مثل ذلك الضلال في الآباء والأجداد يضل الله من هو مشرك، شاكّ في وحدانية الله تعالى، مثل قوله تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم ١٤/ ٢٧] وقول سبحانه: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة ٢/ ٢٦].
- ٣- بحث فرعون عن إله موسى استهزاء به وإنكارا لرسالته
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧)
الإعراب:
أَسْبابَ السَّماواتِ بدل من الْأَسْبابَ الأولى. فَأَطَّلِعَ بالنصب جواب لَعَلِّي بالفاء، بتقدير «أن»، ويقرأ بالرفع عطفا على لفظ أَبْلُغُ.
المفردات اللغوية:
فِرْعَوْنُ ملك القبط في مصر. يا هامانُ وزير فرعون. صَرْحاً بناء ضخما عاليا كالأبراج العالية اليوم. الْأَسْبابَ الطرق الموصلة إلى المطلوب، جمع سبب: وهو ما يتوصل به إلى شيء كحبل وسلّم وطريق، والمراد هنا: الأبواب. فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى أنظر إليه، متأثرا بدين المشبهة الذين يعتقدون أن الله في السماء لا أنه سمع ذلك من موسى عليه السلام، قال البيضاوي: ولعله أراد أن يبني له مرصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله إيّاه، أي موسى.
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً لأظن موسى كاذبا في دعوى الرسالة أو في ادّعاء إله غيري، قال
وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود ١١/ ١٠١].
المناسبة:
بعد وصف فرعون بأنه متكبر جبار، أخبر الله تعالى عن عتوه وتمرده وافترائه في تكذيب موسى عليه السلام، حتى بلغ به الأمر أن أمر وزيره ببناء قصر عال منيف شاهق من الآجر، ليصعد به إلى السماء، للاطلاع على إله موسى، قاصدا بذلك التحدي والتمويه، والاستهزاء بموسى وإنكار رسالته.
التفسير والبيان:
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً، لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً أي قال فرعون الملك لوزيره هامان بعد سماع دفاع الرجل المؤمن عن موسى: يا هامان، ابن لي قصرا مشيدا منيفا عاليا، لعلي أصل إلى أبواب السماء وطرقها، فإذا وصلت إليها بحثت عن إله موسى. وهو لا يريد بذلك إلا الاستهزاء منه، وإنكار رسالته. ثم أكّد ذلك بقوله: وإني لأظن موسى كاذبا في ادّعائه بأن له إلها غيري، وأنه أرسله إلينا.
وقد قصد بذلك التمويه والتلبيس على قومه، من أجل إبقائهم في الكفر، واعتقادهم بأنه هو الإله، والاستخفاف بعقولهم، وإيهامهم بما يريد.
وهذا تصريح من فرعون بتكذيب موسى عليه السلام في أن الله أرسله إليه، كما قال تعالى:
وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ، وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا
أي ومثل ذلك التزيين المفرط في الحماقة والبلادة والغباوة، زيّن لفرعون الجبار سوء عمله وقبح صنعه، من الشرك والتكذيب، فتمادى في الغي، واستمر على الطغيان، أي زيّن له الشيطان عمله السيء، فصده عن سبيل الهدى والرشاد، وحجبه عن طريق الحق والعدل والسداد، وما كان كيده واحتياله وعمله الذي يوهم به الناس إلا في خسار وضياع مال، لذهاب نفقته سدى دون التوصل إلى شيء مما أراد.
والخلاصة: أن فعل فرعون وأمثاله صنيع المكذبين الضالين، وأن عاقبة كفرهم وضلالهم وتكذيبهم الهلاك والخسران، وأن تدبير فرعون الذي دبّره ليصرف الناس عن الإيمان بموسى عليه السلام مبدّد ضائع لا فائدة فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
تدلّ هذه الآيات على نوع من التمويه والمكر والخداع الذي لجأ إليه فرعون، لإنكار ألوهية الله ووجوده، وتكذيب رسالة موسى عليه السلام، لما خاف أن يتمكن كلام الرجل المؤمن في قلوب القوم، وقد أدرك قوة حجته، وأصالة فكره، وسلامة منطقه.
أوهم الناس أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فإن نجح تحقق غرصه، وإن خاب ثبّتهم على دينهم، فأمر هامان ببناء الصّرح. ونحن نثق بوجود هذا الوزير في عهد فرعون، وإن لم يعرف هذا الاسم في تاريخ الفراعنة، لأن كلام الله تعالى حجة قطعية.
وأغلب المفسرين الظاهريين على أن فرعون قصد فعلا بناء الصرح ليصعد إلى السماء، فيرى إله موسى إن كان موجودا، وإلا أخبر قومه بعدم وجوده، وأنه هو الإله والرّب الأعلى. واستبعد الرازي على فرعون الذكي الحاكم القوي لجوءه إلى
وأبطل الرازي هذه الشبهة، لأن طرق العلم بالأشياء ثلاثة: الحس، والخبر، والنظر، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد هو الحس، انتفاء المطلوب، وذلك لأن موسى عليه السلام كان قد بيّن لفرعون أن الطريق إلى معرفته تعالى إنما هو الحجة والدليل، كما قال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء ٢٦/ ٢٦]، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الشعراء ٢٦/ ٢٨] إلا أن فرعون لخبثه ومكره تغافل عن ذلك الدليل «١».
ولقد توهم فرعون أن الله في السماء، فهذا دين المشبّهة، ولعله كان على دينهم، فهو إنما ذكر هذا الاعتقاد من قبل نفسه، لا لأجل أنه قد سمعه من موسى عليه السلام. وربما فهم خطأ من قول موسى عليه السلام: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أنه ربّ السموات بمعنى كونه فيها، كما يقال: ربّ الدار بمعنى كونه ساكنا فيها. وأما عقيدتنا فهي كما أخبر الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الزخرف ٤٣/ ٨٤].
ويتلخص أمر فرعون في أن الشيطان زيّن له عمله وهو الشرك والتكذيب، فصده عن سبيل الحق والرشاد، وأصبح كيده واحتياله في دمار وخسران وضلال.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٨ الى ٤٦]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢)
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
الإعراب:
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ.. الجملة بدل أو عطف بيان. والدعاء كالهداية في التعدية ب «إلى» واللام.
لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ.. فيه محذوف، أي ليس له إجابة دعوة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ آلَ فِرْعَوْنَ: مفعول به لفعل أَدْخِلُوا وقرئ بوصل همزة أَدْخِلُوا وضمها وضم الخاء، فيكون آلَ فِرْعَوْنَ منادى مضاف، أي ادخلوا يا آل فرعون.
البلاغة:
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها استعارة تمثيلية، حيث شبه حالهم بحال متاع يعرض للبيع، وجعل النار كالطالب الراغب في الكفار.
غُدُوًّا وعَشِيًّا بينهما طباق.
يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ بينهما ما يسمى بالمقابلة في علم البديع.
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ. تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ فيها توافق أواخر الآيات مع السجع البديع، والبيان الرائع الذي يهز أعماق النفس الإنسانية.
المفردات اللغوية:
اتَّبِعُونِ بإثبات الياء: اتبعوني. أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ أدلكم على طريق الصواب والسداد، والرَّشادِ: وهو ضدّ الغي والضلال، وهو السبيل الذي يصل سالكه إلى المقصود الأسمى والنجاة. وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي. مَتاعٌ تمتع يسير، لسرعة زوالها، يستمتع به زمنا قليلا ثم يزول. دارُ الْقَرارِ دار البقاء والدوام والخلود.
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها عدلا من الله، وفيه دليل على أن الجنايات في الأبدان والأموال تغرم بمثلها. بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير ولا تقنين ولا موازنة بالعمل، فهو رزق واسع لا حدود له، فضلا من الله ورحمة. وقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ قيد أو شرط في اعتبار العمل، وأن ثوابه أعلى من ذلك. والتعبير في جانب الثواب على العمل الصالح مع الإيمان بالجملة الاسمية. فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ للدلالة على الثبوت والاستمرار، وتغليب الرحمة، وجعل العمل عمدة.
وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أشرك بما لا وجود له، ولم يقم على ربوبيته دليل ولا برهان.
وفيه إيماء بأن الألوهية لا بدّ لها من برهان واعتقاد بيقين.
لا جَرَمَ أي حق، وفاعله: أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.. لأعبده لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ ليس له إجابة دعوة لمن يدعو إليه، والمعنى: حقّ عدم استحقاق آلهتكم العبادة، لأنها جمادات، ولأنّها ليس لها دعوة مستجابة. مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ مرجعنا بالموت إلى لقاء الله. وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين الحدّ، الذين يغلب شرهم على خيرهم، الواقعين في الضلالة والطغيان، كالإشراك والكفر وسفك الدماء. هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها.
فَسَتَذْكُرُونَ تتذكرون عند معاينة العذاب. ما أَقُولُ لَكُمْ من النصيحة. وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ليعصمني من كل سوء. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فيحرسهم. وكان هذا جواب توعدهم المفهوم من قوله تعالى: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا حماه الله وحفظه من شدائد مكرهم الذي مكروا به من القتل. وَحاقَ نزل. بِآلِ فِرْعَوْنَ بفرعون وقومه. سُوءُ الْعَذابِ بالغرق في الدنيا والموت، والنار في الآخرة.
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها مثل يصلونها، أي يحرقون بها، فإن عرضهم على النار: إحراقهم بها، مأخوذ من قولهم: عرض الحاكم الأسارى على السيف: إذا قتلهم به. غُدُوًّا وَعَشِيًّا صباحا ومساء، وذكر هذين الوقتين يفيد التأبيد والدوام ما دامت الدنيا، فإذا قامت القيامة قيل لهم:
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ عذاب جهنم، فإنه أشدّ مما كانوا فيه، أو أشدّ عذاب جهنم.
والمعنى: أن أرواح الكفار وهم في القبور تعرض على النار صباح مساء، أي تحرق بها، مما يدلّ على بقاء النفس، وثبوت عذاب القبر، كما روى ابن مسعود رضي الله عنه: «أن أرواحهم في أجواف طير سود، تعرض على النار، بكرة وعشيا إلى يوم القيامة» وقد يراد بهذين الوقتين التخصيص، فيعذبون بالنار فيهما، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم: فإما أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفّس عنهم.
المناسبة:
هذا بقية كلام مؤمن آل فرعون، فإنه أعاد عليهم النصح مرة أخرى حينما رآهم يتمادون في كفرهم وبغيهم، ونادى قومه ثلاث مرات، في المرة الأولى دعاهم
فدعاهم إلى الإيمان بالله سبحانه طريق الرشاد، ثم حذّرهم من الاغترار بالدنيا، وحثّهم على العمل للآخرة لدوامها، وقارن بين دعوته لهم إلى الإيمان بالله تعالى طريق النجاة، وبين دعوتهم له إلى عبادة الأصنام طريق النار. ثم أخبر سبحانه عن وقايته وعصمته من السوء الذي دبّروه له، وإغراق آل فرعون، وإدخالهم في جهنم يوم القيامة.
التفسير والبيان:
وَقالَ الَّذِي آمَنَ: يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ قال مؤمن آل فرعون يعظ قومه: يا قوم، اتبعوني فيما أقول لكم وأدعوكم إليه، أدلكم على طريق الرشاد والخير والسداد، وهو اتباع دين الله الذي جاء به موسى.
وفيه تعريض بأن سبيل فرعون وآله سبيل الغي والضلال والفساد.
ثم حذرهم من الافتتان بنعيم الدنيا والاغترار بزخارفها، فقال:
يا قَوْمِ، إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ أي يا قوم، ما هذه الحياة الدنيوية إلا مجرد متاع يستمتع به قليلا ثم يزول وينتهي بالموت، وإن الآخرة هي دار الاستقرار والبقاء والخلود، فهي دائمة باقية لا زوال عنها، ولا انتقال منها، والناس إما في النعيم وإما في الجحيم، ولا ثالث غيرهما، فالسعيد من سعى إلى النعيم، والشقي من سعى إلى الجحيم، لأن النعيم فيها دائم، والعذاب فيها دائم.
وهذا نعى للدنيا الزائلة الفانية عما قريب، وبشارة بالآخرة الدائمة الباقية.
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ، أي من ارتكب معصية من المعاصي، فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها، عدلا من الله، ومن عمل العمل الصالح وهو اتباع أمر الله واجتناب نهي الله، وكان مصدقا بالله وبرسله، فهؤلاء هم لا غيرهم أهل الجنة التي يتمتعون بنعيمها ورزقها أضعافا مضاعفة، بغير تقدير ولا تساو مع العمل، فضلا من الله ونعمة ورحمة.
وهذا دليل على أن جزاء السيئة مقصور على المثل، وجزاء الحسنة خارج عن الحساب، غير مقصور على المثل. والآية أيضا أصل كبير في أحكام الشريعة فيما يتعلق بأحكام الجنايات، فإن مقتضى الآية أن يكون المثل مشروعا، وأن الزائد عن المثل غير مشروع، أي إن الواجب في الجنايات على الأنفس والأموال هو إما المثل في المثليات كالحبوب، وإما القيمة في القيميات كالأمتعة والأثاث واللآلئ والجواهر.
ثم أكّد وكرر الرجل المؤمن دعوته إلى الله، وصرّح بإيمانه بالله وحده لا شريك له، فقال:
وَيا قَوْمِ، ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ، وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ أي ما لكم يا قوم؟ أخبروني عنكم، ما بالي أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة، بالإيمان بالله تعالى، وعبادة الله وحده لا شريك له، وتصديق رسوله المبعوث إليكم من عند ربكم، وتدعونني إلى عمل أهل النار، بما تريدون مني من الشرك وعبادة الأصنام؟
ثم فسّر الدعوتين قائلا:
ثم أكّد تفنيد دعوتهم وفساد منهجهم، فقال:
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ أي قد حقّ وثبت وصحّ عقلا وواقعا أن الذي تدعونني إليه من عبادة الأصنام والأنداد ليس له أي دعوة مستجابة، فلا يجيب داعيه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، لأنه جماد لا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يضرّ، كما في آية أخرى:
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف ٤٦/ ٥- ٦]، وقال تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [غافر ٤٠/ ١٤].
وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي والواقع الحتمي أن مرجعنا ومصيرنا إلى الله بالموت ثم بالبعث في الدار الآخرة، فيجازي كل إنسان بعمله، وأن المسرفين في المعاصي، المستكثرين منها، المتعدّين حدود الله، المنغمسين في الشرك والوثنية والكفر، هم أهل النار الذين يصيرون إليها، الخالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عزّ وجلّ.
ثم ختم كلامه بخاتمة لطيفة مؤثّرة فيها تذكير بالمستقبل وبعد نظر، فقال:
ثم أخبر الله تعالى عن مصير هذا الرجل المؤمن الجريء الناصح الفصيح، فقال:
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ أي حفظه الله وحماه في الدنيا من سوء وشرّ ما أرادوا به من قتل، ونجّاه من بأس فرعون، كما نجّى موسى عليه السلام، كما نجّاه في الآخرة من النار، وأنعم عليه بالجنة، ونزل بفرعون وقومه سوء العذاب في الدنيا بالغرق جميعا في البحر، وسيعذبون في الآخرة بالنار.
ثم أوضح الله تعالى ذلك العذاب السيء، فقال:
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ أي إن أرواح فرعون وقومه بعد موتهم في عالم البرزخ، وقبل مجيء القيامة تعرض على النار وتحرق فيها صباحا ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ويقال للملائكة:
أدخلوا آل فرعون في جهنم، حيث يكون العذاب فيها أشد ألما وأعظم نكالا
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله ص: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة
وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله ص قال: «إن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار تعرض على النار، بالغداة والعشي، فيقال:
هذه داركم».
وفي حديث آخر عنه تقدّم: «إن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين، فذلك عرضها».
وهذه الآية والأحاديث أصل أساسي في إثبات عذاب البرزخ في القبر، وأن عذاب القبر حقّ واقع لا شكّ فيه.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله ص عن عذاب القبر، فقال: «نعم عذاب القبر حقّ»
ولكن ليس في الآية دلالة على أن الأجساد في القبور تتألم مع الروح، وتتعذب معها، وإنما دلّت السنّة على ذلك،
كالحديث المتقدّم: «نعم عذاب القبر حقّ»
وكذلك اقتصرت دلالة الآية على عذاب الكفار في البرزخ، ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب، ولكن يفهم ذلك من الأحاديث النّبوية المتقدّمة، لكن العذاب متفاوت بدليل
ما رواه ابن أبي حاتم والبزار في مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النّبي ص قال: «ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى، قلنا:
يا رسول الله، ما إثابة الله الكافر؟ فقال: إن كان قد وصل رحما أو تصدّق بصدقة أو عمل حسنة، أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا: فما إثابته في الآخرة؟ قال ص: عذابا دون العذاب» وقرأ:
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كان مؤمن آل فرعون في نصحه لقومه من أشدّ الناس إخلاصا لهم وحبّا وحرصا على إنقاذهم من ورطة الكفر، والدخول في ساحة الإيمان بالله عزّ وجلّ وحده لا شريك له.
٢- لقد كرّر النّصح وأكّده، ونوّع الخطاب والترغيب والترهيب، مبتدئا بالدعوة إلى الإيمان بالله، وسلوك طريق الهدى وهو الجنة، ونادى قومه بلطف هنا للمرة الثانية.
٣- ثم حذّر من الاغترار بزخارف الدنيا ولذائذها وشهواتها، وزهّدهم فيها بعد أن آثروها على الأخرى، ولا يسع العاقل البصير إلا عدم التعلق الشديد بالدنيا الفانية، وإيثار الآخرة دار الاستقرار والخلود.
٤- وأبان لقومه كيفية المجازاة في الآخرة، فمن اقترف معصية- وأكبرها الشرك- فلا يجزى إلا مثلها من العذاب عدلا من الله، ومن عمل بما أمر الله به واجتنب ما نهى عنه، وهو مصدق بقلبه بالله وبالأنبياء، فهو من أهل الجنة، فضلا ورحمة من الله، ورزق الجنة دائم واسع لا تقدير فيه.
٥- ثم نادى قومه للمرة الثالثة مؤكّدا دعوتهم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة، وترك الكفر الذي يوجب النار، علما بأنه لا دليل ولا برهان يقبل على صحة الدعوة إلى الشرك، وإنما الدليل القاطع والبرهان الساطع متوافر في صحة الدعوة إلى الإيمان بالله المتصف بصفات الألوهية الحقّة من الخلق والقدرة والإرادة والعلم والعزّة والمغفرة والتعذيب.
٧- إن المسرفين وهم المشركون، والسفهاء، وسفاكو الدماء بغير حقها، والجبارون والمتكبرون، والذين تعدّوا حدود الله، هم أصحاب النار.
٨- ثم لجأ مؤمن آل فرعون إلى نوع من التهديد والوعيد، مبينا أن قومه سيتذكرون يوم القيامة وحين حلول العذاب بهم، ما قاله لهم، وأما هو فقد توكّل على الله وأسلم أمره إليه، لأنهم أرادوا قتله، ولكن من يتوكل على الله فهو حسبه.
٩- لقد حفظ الله هذا المؤمن من إلحاق أنواع العذاب به، فطلبوه فما وجدوه، لأنه فوّض أمره إلى الله تعالى.
١٠- وأما آل فرعون فإنه نزل بهم العذاب الشامل في الدنيا وهو الغرق، وسيعذبون في الآخرة، ويعرضون أيضا في البرزخ في القبور على النار صباح مساء.
وهذا كما تقدّم يدلّ على إثبات عذاب القبر، لقوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ما دامت الدنيا. قال جمهور المفسرين: هذه الآية تدلّ على عذاب القبر في الدنيا، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.
ورأى الرازي أن الآية لا تدلّ على عذاب القبر، وإنما ذكر الغدوة والعشية
المناظرة بين الرؤساء والأتباع في النار
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠)
الإعراب:
تَبَعاً أورده بلفظ الواحد، وإن كان خبرا عن جماعة، لأنه مصدر، والمصدر يصلح للجميع.
مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مفعول به ل مُغْنُونَ.
إِنَّا كُلٌّ فِيها كُلٌّ: مبتدأ، وهو في تقدير الإضافة، وفِيها: خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع خبر (إن). ولا يجوز أن ينصب كُلٌّ على البدل من ضمير إِنَّا، لأن ضمير المتكلم لا يبدل منه، لأنه لا لبس فيه، حتى يوضح بغيره. وقرئ «كلّا» على التأكيد، لأنه بمعنى كلنا، وتنوينه عوض عن المضاف إليه.
ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ جواب مجزوم، والأكثر في كلام العرب أن يكون جواب الأمر وشبهه بغير فاء، وهو الأفصح.
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ واذكر يا محمد وقت تخاصم الكفار في النار، والمحاجّة: المجادلة والتخاصم بين اثنين فأكثر. إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أتباعا جمع تابع، كخدم جمع خادم. مُغْنُونَ دافعون أو حاملون. نَصِيباً جزءا وقسطا، أي فهل أنتم حاملون عنّا جزءا من العذاب أو دافعون جزءا؟
إِنَّا كُلٌّ فِيها نحن وأنتم، فكيف نغني عنكم؟ ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ فأدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار. وحَكَمَ قضى، ولا معقّب لحكمه. لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ هم القوّام بتعذيب أهل النار، جمع خازن. يَوْماً مِنَ الْعَذابِ قدر يوم مِنَ الْعَذابِ شيئا من العذاب. قالُوا أي الخزنة تهكّما. بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرات. قالُوا: بَلى أقروا بإرسال الرسل، لكنهم كفروا بهم. قالُوا: فَادْعُوا قال الخزنة لأهل النار: فادعوا أنتم، فإنه لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم، وإننا لا نشفع للكافرين، وفيه إقناط من الإجابة، فقال تعالى حاكيا ما أخبروهم به: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ خسار وضياع وانعدام.
المناسبة:
هذا ابتداء قصة لا تختص بآل فرعون، فبعد أن أوضح الله تعالى أحوال النار في عظة مؤمن آل فرعون، ذكر تعالى عقيبها قصة المناظرة والجدل التي تجري بين الرؤساء والأتباع من أهل النار.
التفسير والبيان:
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ أي واذكر أيها الرسول لقومك للعظة والعبرة وقت تخاصم الكفار أهل النار وهم فيها، ومنهم فرعون وقومه، فيقول الضعفاء الأتباع للرؤساء والسادة والقادة الذين استكبروا عن اتّباع
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي قال المستكبرون للمستضعفين: إنا نحن وأنتم جميعا في جهنم، فكيف نغني عنكم؟
فلو قدرنا على دفع شيء من العذاب لدفعناه عن أنفسنا، إن الله قضى قضاءه العادل المبرم بين العباد، بأن فريقا في الجنة، وفريقا في السعير، وقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كلّ منّا، كما قال تعالى: قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف ٧/ ٣٨].
ولما يئسوا من السادة اتّجهوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم الدعاء، فقال تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ أي وقال أهل النار من الأمم الكافرة لسدنة جهنم وقوّامها (وهم الملائكة القائمون عليها لتعذيب أهل النار) : ادعوا الله ربّكم لعله أن يخفف عنا مقدار يوم من العذاب، بأن تشفعوا لنا عند الله تعالى لتخفيف يسير، وذلك لما علموا أن الله عزّ وجلّ لا يستجيب منهم، ولا يستمع لدعائهم.
فردّت الخزنة عليهم موبّخين ملزمين لهم الحجة، كما قال تعالى:
قالُوا: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ قالت الخزنة لأهل النار:
أو ما جاءتكم الرسل في الدنيا بالحجج والأدلة الواضحة على توحيد الله، والتحذير من سوء العاقبة؟! أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الزمر ٣٩/ ٧١].
فلما اعترفوا قالت لهم الخزنة تهكّما:
قالُوا: فَادْعُوا، وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي قالت الخزنة لأهل النار: إذا كان الأمر كما ذكرتم، فادعوا أنتم لأنفسكم، فنحن لا ندعو لمن كفر بالله وكذّب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة، ونحن برآء منكم، ثم أخبروهم بأن دعاءهم لا يفيد شيئا، فما دعاء الكافرين بالله ورسله إلا في ضياع وبطلان وذهاب لا يقبل ولا يستجاب.
أخرج الترمذي وغيره عن أبي الدرداء قال: «يلقى على أهل النار الجوع، حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه، فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، فيأكلونه لا يغني عنهم شيئا، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة، فيغصّون به، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب، فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطّع أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون:
ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ فيجيبوهم: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ، قالُوا: بَلى، قالُوا: فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ- أي خسار وتبار».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- يشتدّ الجدال والخصام يوم القيامة في نار جهنم بين الأتباع الضعفاء والمتبوعين الرؤساء الذين استكبروا عن الانقياد للأنبياء، فيقول الأولون: إنّا
٢- أجاب الكبراء: إنا نحن وأنتم جميعا في نار جهنم، وإن الله قضى بين العباد، وأخذ كل واحد منا ما يستحقه، ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره، فكل منا كافر.
٣- لما يئس الكفار من بعضهم طلبوا من خزنة جهنم وهم ملائكة العذاب أن يدعوا لهم ربّهم بأن يخفف عنهم شيئا من عذاب جهنم، ولو يوما واحدا.
فردت عليهم الخزنة: ألم تأتكم الرسل بالبيّنات الدالة على طريق النجاة، والحيلولة بينكم وبين سوء العاقبة؟! وهذا دليل على أن الواجب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشرع، فلا تكليف قبل إرسال الرسل وإنزال الشرائع، ولا عقاب أيضا، كما قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ١٥].
٤- ثم قال الملائكة خزنة جهنم للكفار: ادعوا أنتم، فإنا لا نجترئ على ذلك، ولا نشفع إلا بشرطين:
أحدهما- كون المشفوع له مؤمنا.
والثاني- حصول الإذن في الشفاعة، ولم يوجد واحد من هذين الشرطين.
لكن ادعوا أنتم، للدلالة على الخيبة، لا لرجاء النفع، ثم يصرّحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي خسار وبطلان وزوال.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦)
الإعراب:
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ: معطوف بالنصف على موضع الجار والمجرور، وهو فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مثل: جئتك في أمس واليوم. ويَوْمَ لا يَنْفَعُ بدل من الأول.
وَأَوْرَثْنا.. هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ هُدىً حال من الْكِتابَ، وَذِكْرى: معطوف عليه، وعامل الحال: أَوْرَثْنا.
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ بكسر الهمزة: مصدر «أبكر إبكارا» وقرئ بفتحها على أنه جمع بكر، مثل سحر وأسحار.
إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ إن بمعنى «ما» مثل إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ وكِبْرٌ مرفوع بالظرف، وهو فِي صُدُورِهِمْ لأن الظرف قد فرّغ له، مثل: ما في الدار إلا زيد.
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ هُوَ ضمير فصل، ويصح كونه مبتدأ، وما بعده خبره، والجملة خبر (إن).
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ بينهما طباق.
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ صيغة مبالغة.
المفردات اللغوية:
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا بالحجة والظفر على الكفرة. وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ هو يوم القيامة، والْأَشْهادُ جمع شاهد، مثل أصحاب وصاحب، وهم الذين يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الكفار بالتكذيب، وهم الملائكة والأنبياء والمؤمنون، فيكون نصر الرسل في الدارين.
مَعْذِرَتُهُمْ عذرهم، وعدم نفع العذر، لأنه باطل، أو لأنه لا يؤذن للظالمين فيعتذرون.
اللَّعْنَةُ الطرد والبعد من الرحمة. وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي الدار الآخرة، وهو شدة عذابها في جهنم.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ما يهتدى به في الدين من التوراة المشتملة على الشرائع والمعجزات المثبتة للصدق. وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي تركنا التوراة من بعد موسى لهم. هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ هداية وتذكرة لأصحاب العقول، أو هاديا ومذكرا.
فَاصْبِرْ يا محمد على أذى المشركين. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بالنصر، لا يخلفه أبدا.
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أمر له بالاستغفار للاستنان والتأسي به، أو المعنى أقبل على أمر دينك، وتدارك زلاتك، كترك الأولى، فإنه تعالى كافيك في النصر وإظهار الأمر. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ نزه الله مع حمده وشكره، أي دم على التسبيح والتحميد لربك. بِالْعَشِيِّ في المساء وَالْإِبْكارِ في الصباح، وقيل: إن هذا الأمر بالصلاة في هذين الوقتين، لأن الواجب كان بمكة ركعتين بكرة، وركعتين عشيا. وفسره آخرون بأن ذلك يشمل الصلوات الخمس، لأن الإبكار:
صلاة الفجر، والعشي وهو ما بعد الزوال ويشمل الصلوات الأربع الباقية.
فِي آياتِ اللَّهِ القرآن. بِغَيْرِ سُلْطانٍ بغير حجة وبرهان. كِبْرٌ تكبر عن الحق، وطمع في الاستعلاء عليك، وتعظم عن التفكر والتعلم. ما هُمْ بِبالِغِيهِ ببالغي دفع الآيات أو ببالغي مرادهم. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فالتجئ إليه من شرهم. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم.
الْبَصِيرُ بأحوالهم وأفعالهم. قال السيوطي: ونزل ذلك في منكري البعث.
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: جاءت اليهود إلى رسول الله ص، فذكروا الدجال، فقالوا: يكون منا في آخر الزمان، فعظّموا أمره، وقالوا: يصنع كذا ويملكون به الأرض، فأنزل الله:
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ، ما هُمْ بِبالِغِيهِ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال.
ومع أن الآية نزلت في مشركي مكة منكري البعث أو في اليهود كما تبين، فهي عامة في كل مجادل مبطل. لكن قال ابن كثير عما ذكره أبو العالية: وهذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم. والأصح أن الآية نزلت في المشركين والكفار عامة.
التفسير والبيان:
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي إننا لنؤيد رسلنا والمؤمنين، بأن نجعلهم الغالبين لأعدائهم، القاهرين لهم، في الدنيا، وفي الآخرة حين يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين، بأن يشهدوا للرسل بإبلاغ رسالاتهم، وعلى الأمم بتكذيبهم.
والنصر في الدنيا إما معنوي وإما حسي، فالمعنوي: كالنصر بالحجة والبرهان، أو بالمدح والتعظيم، أو بإعلاء الجاه وعزة السلطان، وانتشار الدين، كنصر داود وسليمان على من كذبوهم، ونصر محمد ص على من كذبه من قومه، وجعل الدولة والسلطة له في الجزيرة العربية. والنصر الحسي يكون بالقهر والانتقام من المكذبين كإغراق قوم نوح وآل فرعون، وقتل زعماء قريش في بدر
والنصر في الآخرة: بإعلاء الدرجات في مراتب الثواب، والتكريم بالكرامات في الجنة، وصحبة الأنبياء، كما قال تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء ٤/ ٦٩] ومجازاة أهل الإيمان بأعمالهم، ومجازاة الكفار بأعمالهم، باللعن ودخول النار، كما في الآية التالية:
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي حين يقوم الأشهاد يوم القيامة، ذلك اليوم الذي لا يقبل من المشركين اعتذارهم ولا تقديم فدية منهم، لأن معذرتهم باطلة، وشبهتهم زائفة، ولهم الطرد والبعد من الرحمة، ولهم سوء الدار وشر ما في الآخرة وهو النار، والعذاب الأليم فيها.
وبعد بيان نصر الأنبياء في الدنيا والآخرة، ذكر تعالى بعض مظاهر النصر في الدنيا، فقال:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى، وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ، هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي تالله لقد أعطينا موسى التوراة والنبوة، فاشتملت التوراة على الأحكام والشرائع الهادية لقومه، وتأيدت نبوته بالمعجزات الظاهرة كاليد والعصا، ثم أبقينا التوراة بعد موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، يتوارثها الخلف عن السلف، هداية لهم وتذكرة لذوي العقول الصحيحة السليمة، أو هاديا ومذكرا لأهل العقول، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [المائدة ٥/ ٤٤].
وإذا كان النصر مقررا للرسل والأنبياء، فما عليهم إلا الصبر، لذا أمر الله به نبيه قائلا:
صل في الوقتين: صلاة العصر وصلاة الفجر، أو صل الصلوات الخمس، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هود ١١/ ١١٤].
وهذا دليل على ضرورة الصبر والاستغفار من الأمة، وإنما خوطب به النبي ص للإرشاد والتعليم، وهو دليل أيضا على ملازمة التسبيح والتحميد أو أداء الصلوات المفروضة. ويلاحظ أنه تعالى قدم التوبة والمغفرة على العمل، فإنه لا يقبل العمل إلا بعد التوبة الخالصة، والتوبة قد تكون من خلاف الأولى الذي هو ذنب إذا قيس مع درجة النبي ص، ولا يعد شيئا في حق غيره.
ثم عاد البيان إلى توضيح سبب مجادلة المشركين في آيات الله، فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ أي إن الذين يناقشون ويجادلون في آي القرآن، ويدفعون الحق بالباطل، بغير برهان ولا حجة أتتهم من الله، ما في قلوبهم إلا تكبر وتعاظم عن قبول الحق والتفكر فيه، وطمع أن يغلبوا محمدا ص وتكون لهم الرياسة والنبوة بعده، ولكن ما هم ببالغي ذلك، ولا بحاصل لهم، ولا محققي المراد، بل إن راية الحق ستظل مرفوعة، وقول المبطلين وفعلهم موضوع ذليل.
والمعنى بإيجاز: إن سبب تكذيب المشركين هو ما تنطوي عليه نفوسهم من الكبر والحسد، وما هم بمحققي الآمال ولا بالغي المراد.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يأتي:
١- إن الله تكفل بنصر عباده المرسلين وأوليائه المؤمنين في الدنيا والآخرة، قال السّدّي: ما قتل قوم قط نبيا أو قوما من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله عز وجل من ينتقم لهم، فصاروا منصورين فيها، وإن قتلوا.
٢- قال مجاهد والسدي: تشهد الملائكة للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب، وقال قتادة: الملائكة والأنبياء.
٣- إن الإكرام العظيم والتشريف الكامل عند حضور الجمع العظيم من أهل المشرق والمغرب يكون أتم وأبهج وأمتع.
٤- قد يكون النصر والتكريم بسبب الدفاع عن المسلم،
جاء في الحديث الثابت الذي رواه البيهقي عن أبي الدرداء، يقول النبي ص: «من ردّ عن عرض أخيه المسلم، كان حقا على الله عز وجل أن يردّ عنه نار جهنم، ثم تلا:
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا
وعنه ص أنه قال فيما رواه أحمد وأبو داود عن معاذ بن أنس: «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه، بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكا يحميه من النار، ومن ذكر مسلما بشيء يشينه به، وقفه الله عز وجل على جسر من جهنم حتى يخرج مما قال».
٥- من أنواع نصر الرسل في الدنيا والآخرة: إيتاء موسى عليه السلام
٦- أمر الله نبيه بأمور ثلاثة: الصبر على أذى المشركين، والاستغفار للذنب الصغير أو ما هو خلاف الأولى، أو ما صدر منه قبل النبوة أو محض التعبد، والتسبيح المقرون بالتحميد بالشكر له والثناء عليه، أو المواظبة على صلاة الفجر وصلاة العصر، قيل: هي صلاة كانت بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس: ركعتان غدوة وركعتان عشية. وبعد نسخ ذلك لا بد من المواظبة على الصلوات الخمس. والأصح حمل الاستغفار على التوبة عن ترك الأولى والأفضل، أو على ما كان قد صدر عنه قبل النبوة.
٧- إن مجادلة المشركين في آيات الله هي بغير حجة عقلية أو نقلية، ودافعهم إليها الكبر عن اتباع الحق، وقصدهم إبطال آيات الله، وإثارة الشبهات حولها، ولكن لن يحقق الله آمالهم. وما على النبي ص وأتباعه إلا الاستعاذة بالله من شر الكفار، والاعتصام به، والاستعانة بعزته وقدرته.
من دلائل وجود الله وقدرته وحكمته
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥٧ الى ٦٥]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١)
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ مبتدأ أو خبر.
قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ قَلِيلًا: صفة مصدر محذوف، تقديره: تذكرا قليلا تتذكرون، وما: زائدة، والمعنى: لا تذكّر لهم، لأنه قد يطلق لفظ القلة، ويراد بها النفي، كقولك:
قلما تأتيني، وتريد: ما تأتيني.
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ اسم إن وخبرها، واللام لام المزحلقة.
البلاغة:
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ بينهما طباق، وكذا بين اللَّيْلَ والنَّهارَ.
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ استعارة، استعار الأعمى للكافر، والبصير للمؤمن.
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ تأكيد بإن واللام.
وَالنَّهارَ مُبْصِراً مجاز عقلي، من إسناد الشيء إلى زمانه، وهو إسناد الإبصار إلى وقته.
صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ أي إن خلقها مع عظمها أولا في ابتداء خلق الكون من غير أصل: أكبر وأعظم من خلق الناس مرة ثانية في حال الإعادة للبعث، فالقادر على الأكبر قادر على الأصغر. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لفرط غفلتهم واتباعهم أهواءهم. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الغافل والمستبصر. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ أي ولا يستوي المحسن والمسيء، ولَا زائدة في قوله: وَلَا الْمُسِيءُ وزيادتها، لأن المقصود نفي مساواة المسيء للمحسن فيما له من الفضل والكرامة. قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ تتعظون أيها الناس، والمراد أن تذكرهم قليل جدا في حكم المعدوم، فكأنه لا تذكر لهم. وقراءة ما تَتَذَكَّرُونَ بالتاء لتغليب المخاطب أو الالتفات، وقرئ بالياء: «يتذكرون».
لا رَيْبَ فِيها لا شك في مجيئها، لوضوح الدلالة على حدوثها وإمكانها. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدّقون بها لقصور نظرهم على ظاهر المحسوسات التي يحسون بها. ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ادعوني أثبكم، بقرينة ما بعده: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ صاغرين أذلاء، ويصح أن يراد بقوله: ادْعُونِي الدعاء والسؤال، ويكون المراد بقوله عِبادَتِي الدعاء.
لِتَسْكُنُوا فِيهِ، لتستريحوا فيه، بأن خلق الليل باردا مظلما ليؤدي إلى ضعف الحركات، وهدوء الحواس. وَالنَّهارَ مُبْصِراً يبصر فيه أو به، وإسناد الإبصار إليه مجاز. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ لا يوازيه فضل. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ، الله، فلا يؤمنون، لجهلهم بالمنعم، وتكرار الناس لتخصيص الكفر بهم.
ذلِكُمُ المخصوص بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية. اللَّهُ رَبُّكُمْ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة يخصص اللاحق منها السابق ويقرره. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن عبادة الله والإيمان به إلى عبادة غيره. كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي مثل إفك هؤلاء وانصرافهم إلى عبادة الأصنام يؤفك ويصرف كل من جحد بآيات الله ومعجزاته ولم يتأملها.
قَراراً مستقرا. وَالسَّماءَ بِناءً أي سقفا قائما ثابتا مثل القبة في أبنية العرب.
وَصَوَّرَكُمْ خلقكم في تناسب واستعداد لمزاولة أعمال الحياة. الطَّيِّباتِ اللذائذ. فَتَبارَكَ اللَّهُ تقدس وتنزه. هُوَ الْحَيُّ المنفرد بالحياة الذاتية غير المستمدة من آخر. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
المناسبة:
بعد الرد على المجادلين في آيات الله بتعريفهم أن جدلهم بغير سلطان ولا حجة، وكان من جدلهم إنكار البعث، ذكر الله تعالى في هذه الآيات وما يليها عشرة أدلة على وجود الله وقدرته وحكمته، للدلالة على إمكان يوم القيامة ووجوده بالفعل، منها هنا خلق السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وجعل الأرض قرارا والسماء بناء، وخلق الإنسان في أحسن صورة، ورزقه من الطيبات، واتصافه تعالى بالحياة الذاتية والوحدانية، وكان يردف بعض هذه الأدلة بالأمر بعبادة الله وطاعته، والإخلاص فيها.
التفسير والبيان:
١- لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي إن خلق السموات والأرض وما فيهما من عوالم وأفلاك وكواكب وذخائر أكبر وأعظم من خلق نفوس الناس بدءا وإعادة، فمن قدر على ذلك، فهو قادر على ما دونه، بطريق الأولى والأحرى، عملا بمقاييس الناس وتقديراتهم، وإلا فالبدء والإعادة سواء على الله تعالى، فكيف ينكرون البعث؟ كما قال سبحانه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس ٣٦/ ٨١] وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف ٤٦/ ٣٣].
ولكن أكثر الناس لا يعلمون بعظيم قدرة الله، ولا يتفكرون ولا يتأملون بهذه الحجة الدامغة. وهذا أول دليل على قدرة الله تعالى.
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي لا يتساوى الذي يجادل بالباطل، والذي يجادل بالحق، ولا يتساوى الكافر الذي لا يتأمل حجج الله وبيناته فيتدبرها، والمؤمن الذي يتفكر فيها ويتعظ بها، فالأول شبيه بالأعمى الذي تعطلت عنده حاسة البصر، والثاني شبيه بالبصير الذي تفتحت عيناه، فتأمل في الكون واتعظ، وهذا تشبيه بالمحسوسات، وبينهما فرق عظيم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَلَا الْمُسِيءُ، قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ أي وكذلك لا يستوي المحسن بالإيمان والعمل الصالح، والمسيء بالكفر وارتكاب المعاصي، فما أقل ما يتذكر كثير من الناس ويتعظ بهذه الأمثال، ويدرك الفرق الواضح بين المؤمنين الأبرار المطيعين لربهم، وبين الكفرة الفجار المخالفين أمر ربهم.
وبعد تقرير الدليل الدال على إمكان وجود القيامة، أردفه بالإخبار عن وقوعها حتما، فقال تعالى:
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي إن يوم القيامة آت لا ريب في مجيئه ووقوعه وحصوله، فآمنوا بذلك إيمانا قاطعا لا شك فيه، ولكن أكثر الناس وهم الكفار لا يصدقون بالبعث، بل يكذبون بوجوده، لقصور أفهامهم، وضعف عقولهم عن إدراك الحجة.
ولما أثبت الله تعالى أن القيامة حق وصدق، أوضح طريق النجاة فيها وهو طاعة الله تعالى، فقال:
وَقالَ رَبُّكُمُ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
أي وأخبر الله أنه إن دعاه العبد وعبده بحق، استجاب له، فإن
«الدعاء مخ العبادة»
كما في الحديث الآتي تخريجه، فالدعاء في نفسه عبادة، والدعاء: هو السؤال بجلب النفع ودفع الضر. ودعاء غير الله لا يفيد شيئا، فإن القادر على إجابة الدعاء هو الله، والله سبحانه هو الذي أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده الحق. وإن الذين يتكبرون ويتعظمون عن دعاء الله وعبادته وحده، سيدخلون جهنم صاغرين أذلاء.
والآية اشتملت على أمر العبادة بالدعاء والتكفل لهم بالإجابة فضلا من الله وكرما، وهذا وعد، كذلك اشتملت أيضا على وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، فالله هو الكريم الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدنيا والآخرة.
أخرج الإمام أحمد والبخاري في الأدب والحاكم وأصحاب السنن (الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه) وغيرهم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال:
قال رسول الله ص: «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.. الآية.
وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ص: «الدعاء مخ العبادة»
لكنه ضعيف
وفي حديث آخر صحيح أخرجه الحاكم عن ابن عباس قال: «أفضل العبادة الدعاء».
وأخرج أحمد والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «من لم يدع الله عز وجل غضب عليه»
وفي رواية أخرى لأحمد والبزار: «من لم يسأل الله يغضب عليه».
ثم تابع الله تعالى إيراد أدلة أخرى على قدرته، والتذكير بنعمته على عباده، فقال:
٢- ٣: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي إن الله تعالى أوجد تعاقب الليل والنهار، فجعل الليل باردا مظلما للسكون والنوم
ويلاحظ أن جَعَلَ هنا بمعنى: خلق، لأنها متعدية إلى مفعول واحد، فإذا لم تكن بمعنى: خلق عديت إلى مفعولين مثل إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف ٤٣/ ٣].
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أي إن الله تعالى بهذه النعمة وغيرها مما لا يحصى هو المتفضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون النعم ولا يعترفون بها، إما لجحودهم لها مثل الكفار، وإما لإهمالهم النظر وما يجب من شكر المنعم، مثل الجهال، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ [الحج ٢٢/ ٦٦]. إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم ١٤/ ٣٤].
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات ١٠٠/ ٦]. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ ٣٤/ ١٣].
ثم ذكر الله تعالى أنه الخالق وحده، فتجب عبادته وحده، فقال:
٤- ٥: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ أي ذلكم الذي فعل كل هذا المذكور وأنعم بهذه النعم هو الله المربي المدبر، فلا رب سواه، وهو خالق الأشياء كلها، لم يعاونه في الخلق أحد، وهو الإله الواحد الذي لا إله سواه، فكيف تنقلبون عن عبادته، وتنصرفون عن توحيده، وتعبدون غيره من الأصنام وغيرها مما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا يخلق شيئا، بل هو مخلوق؟! وهذا الضلال مرض قديم، فقال تعالى:
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي مثل هذا الإفك
ثم أضاف الله تعالى دليلا آخر على قدرته وحكمته، فقال:
٦- ٧: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً أي إن الله هو الذي جعل الأرض موضع استقرار وثبات، تستقر عليها المباني والأمتعة، ويحيى فيها الأشخاص ويموتون، ويمشون ويتصرفون في أنحائها، وجعل أيضا السماء سقفا للعالم محفوظا قائما ثابتا أيضا، لا ينهدم ولا يتصدع، وزيّنه بالكواكب والنجوم.
وبعد بيان بعض دلائل الآفاق والأكوان (وهي كل ما هو غير الإنسان من هذا العالم) وهي اثنان (أحوال الليل والنهار، وأحوال الأرض والسماء) ذكر الله تعالى دلائل الأنفس على وجوده وقدرته وهي ثلاثة (إحداث صورة الإنسان، وتحسينها، والرزق من الطيبات) فقال:
٨- ٩: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي وخلقكم في أحسن صورة، وأجمل شكل، وأبدع تقويم في انتصاب القامة، وتناسب الأعضاء، والتهيؤ لمزاولة مختلف أنواع المكاسب والمعاشات، ورزقكم من طيبات الرزق ولذائذه من الطعام والشراب.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي ذلكم المتصف بهذه الصفات الجليلة، المنعم بهذه النعم العظيمة، هو الرب الذي لا تصلح الربوبية لغيره، فتقدس وتنزه الله رب العالمين من الإنس والجن عن صفات النقص وعما لا يليق به من الشريك والولد والصاحبة.
وبعد إثبات توحيد الربوبية أثبت توحيد الألوهية، فقال تعالى:
وهو سبحانه المستحق الحمد والثناء والشكر على نعمه، فقال آمرا ومعلما عباده:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي إنه صاحب الحمد، المستحق الشكر والثناء، رب العالمين من الملائكة والإنس والجن. والجملة خبر فيها إضمار أمر، أي ادعوه واحمدوه.
روى ابن جرير عن ابن عباس قال: «من قال: لا إله إلا الله، فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين» ثم قرأ هذه الآية: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله ص يقول في دبر كل صلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إثبات البعث والاحتجاج على منكريه، فإن خلق السموات والأرض أكبر وأعظم من إعادة خلق الناس، والقادر على الأكبر قادر على الأصغر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك.
٣- إن الساعة آتية لا ريب فيها، فكما أن القيامة ممكنة الوجود، فهي واقعة فعلا وحادثة حتما، ولكن أكثر الناس لا يصدقون بذلك، وعندها يبين الفرق ما بين الطائع والعاصي.
٤- لا ينتفع أحد في يوم القيامة الذي هو حق وصدق إلا بطاعة الله تعالى، وأشرف أنواع الطاعات: الدعاء والتضرع، جاء في الحديث المتقدم: «الدعاء هو العبادة» فما على الناس إلا توحيد الله وعبادته، والله- تفضلا وكرما- يتقبل العبادة ويغفر للعابدين. جاء في الحديث عن أنس بن مالك فيما رواه الترمذي وابن حبان: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع». والشسع: زمام النعل.
٥- من إحسان الله العظيم أنه ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء، في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ.
٦- الله خلق الليل للسكن والراحة، وخلق النهار مضيئا لإبصار الحوائج فيه والتصرف في طلب المعايش، والله ذو الفضل العظيم على عباده، ولكن أكثر الناس لا يشكرون فضله وإنعامه.
٧- الأدلة على وحدانية الله وقدرته بيّنة واضحة، فهو الله المربي والمدبر، وخالق كل شيء، والواحد الأحد، فمن العجب كيف ينصرف الناس عن الإيمان بعد توافر أدلته؟ وكما يصرف هؤلاء عن الحق مع قيام الدليل عليه يصرف عن الحق الجاحدون بآيات الله تعالى.
٩- والله هو رازق الطيبات اللذائذ، وهو الحي الباقي الذي لا يموت، فما على الناس إلا عبادته بإخلاص، وحمده وشكره والثناء عليه.
١٠- يلاحظ أن الآيات انتهت بنهايات قوية مؤثرة تناسب المقام: وهي وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لا يُؤْمِنُونَ لا يَشْكُرُونَ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ يَجْحَدُونَ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
النهي عن عبادة غير الله وسبب النهي
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
المفردات اللغوية:
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعبدون. الْبَيِّناتُ الحجج ودلائل التوحيد أو الآيات القرآنية، فإنها مقوّية لأدلة العقل، منبهة عليها. أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أنقاد له نُطْفَةٍ مني.
عَلَقَةٍ دم غليظ. ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أطفالا، والإفراد لإرادة الجنس. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أي لتصلوا إلى تكامل قوتكم من الثلاثين إلى الأربعين سنة، واللام متعلقة بمحذوف تقديره:
ثم يبقيكم. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد. وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أي ويفعل ذلك لتبلغوا وقتا محددا، هو وقت الموت. وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في ذلك من الحجج والعبر ودلائل التوحيد، فتؤمنوا. قَضى أَمْراً أراد إيجاد شيء. فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ بتقدير أن، أي يوجد عقب الإرادة التي هي معنى القول المذكور. والفاء الأولى للدلالة على أن ذلك نتيجة ما سبق، من حيث إنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على عدّة أو مادّة.
سبب النزول: نزول الآية (٦٦) :
قُلْ: إِنِّي نُهِيتُ..: أخرج جويبر عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة قالا: يا محمد، ارجع عما تقول بدين آبائك، فأنزل الله:
قُلْ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية.
المناسبة:
بعد إيراد دلائل القدرة والتوحيد وصفات الجلال والعظمة، نهى الله عن عبادة غيره، بقول لين لطيف، لصرف المشركين عن عبادة الأوثان، ثم أبان سبب النهي وهو البينات التي جاءت النبي من ربه، من دلائل الآفاق والأنفس، أما الأولى فهي أربعة: الليل والنهار والأرض والسماء، وأما الثانية فذكر منها سابقا ثلاثة وهي: تكوين الصورة، وحسن الصورة، ورزق الطيبات. وذكر منها هنا كيفية تكون الإنسان ومراحل تدرجه وأطوار حياته من الاجتنان إلى الولادة والطفولة، إلى الشباب والكهولة، ثم الشيخوخة، ثم الموت.
التفسير والبيان:
قُلْ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي قل أيها الرسول لمشركي قومك في مكة وغيرها: إن الله ينهى أن يعبد
ثم ذكر الله تعالى من دلائل الأنفس ما يدل على توحيد الله وهو كيفية تكون الإنسان ومراحل نشأته، فقال:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي إن الله هو الذي خلق أباكم الأول آدم من التراب، وجعل ذريته أيضا من تراب، إذ كل مخلوق من المني ناشئ من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من النبات، والنبات من الماء والتراب، فثبت أن كل إنسان متكون من التراب، ثم صيّر الله ذلك التراب نطفة (منيا) ثم علقة (قطعة دم متجمدة) ثم ولدتم وأخرجتم أطفالا، ثم وصلتم إلى بلوغ الأشد أي مرحلة اكتمال القوة والعقل، ثم تصيرون شيوخا (والشيخ: من جاوز الأربعين).
ومن الناس من يتوفى من قبل الشيخوخة أو الشباب أو الولادة، وقد فعل ذلك لتبلغوا الأجل المحدود وهو وقت الموت أو يوم القيامة، واللام لام العاقبة أو الصيرورة، ولكي تعقلوا ما في هذا التدرج والتطور في المراحل المختلفة من دليل دال على قدرة الله البالغة على البعث وغيره، وعلى توحيد ربكم، في خلقكم على هذه الأطوار:
طور الاجتنان، وطور الطفولة، وطور بلوغ الأشد، وطور الشيخوخة،
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي وإن الله هو القادر على الإحياء والإماتة، والمتفرد بذلك لا يقدر عليه أحد سواه، فإذا قضى وقدر أمرا من الأمور التي يريدها، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي يحدث فور الإرادة من غير توقف على شيء، ولا معاناة ولا كلفة. وهذا أقصى ما يمكن به تقريب الخلق إلى الأذهان، فإن المخلوق يوجد بسرعة فائقة جدا بمجرد تعلق الإرادة به.
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات أمورا ثلاثة هي:
١- النهي الجازم عن عبادة غير الله بعد قيام الأدلة على وجود الله وتوحيده، مما صرح به القرآن في آياته، ومما أرشد إليه العقل الصحيح في تفكيره، والعبادة تقتضي الانقياد التام والخضوع وإخلاص الدين لله رب العالمين، فلا أمل في عبادة الأصنام والأوثان وغيرها من أنواع الشرك.
والخلاصة: نهى تعالى عن عبادة الأوثان، ثم أمر بالاستسلام لله تعالى، ثم أقام الدليل على الوحدانية والألوهية فيما، مع العلم بأن والتي أصنامهم عارية عن شيء منهما بدليل تدرج ابن آدم.
٢- بيان مراحل تطور الإنسان وتدرجه في التكوين والخلقة، فأصله من تراب، ثم يصبح نطفة فعلقة فمضغة، ثم يولد طفلا، ثم يشب ويقوى بدنه وعقله، ثم يهرم ويشيخ، وقد يموت من قبل هذه الأحوال، ثم يحدث موت الكل. والإخبار عن تلك المراحل الانتقالية ليعقل الإنسان أنها ترشده وتعلمه أن لا إله إلا الله. آمنت بالله وحده.
جزاء المجادلين بالباطل في آيات الله
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)
الإعراب:
الَّذِينَ كَذَّبُوا بدل من الَّذِينَ الأولى، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب على الذم.
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ السَّلاسِلُ: مرفوع معطوف على الْأَغْلالُ وتقديره: إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم. ومنهم من وقف على أَعْناقِهِمْ وابتدأ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ وتقديره: والسلاسل يسحبون بها في الحميم، فحذف الجار والمجرور. وقرئ «والسلاسل يسحبون» بنصب اللام وفتح ياء الفعل، على أنه مفعول يُسْحَبُونَ أي يسحبون السلاسل. وقرئ «والسلاسل» بالجر، بالعطف على أعناقهم، وهي قراءة ضعيفة، لأنه يصير المعنى: الأغلال في الأعناق والسلاسل، ولا معنى للأغلال في السلاسل.
بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ التفات عن الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ. ويوجد جناس ناقص بين تَفْرَحُونَ وتَمْرَحُونَ.
المفردات اللغوية:
يُجادِلُونَ كرر ذم المجادلة لتعدد المجادل أو المجادل فيه، أو للتأكيد آياتِ اللَّهِ القرآن أَنَّى كيف يُصْرَفُونَ يبعدون عن الإيمان بالله. الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ بالقرآن أو بجنس الكتب السماوية وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب والوحي والتوحيد والبعث والشرائع فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عقوبة تكذيبهم.
إِذِ الْأَغْلالُ إِذِ: ظرف للفعل المتقدم يَعْلَمُونَ بمعنى إذا للاستقبال، أي ليعلمون إذ الأغلال، وعبر ب إِذِ التي هي ظرف للماضي عن المستقبل، لتيقن وقوع الأمر المخبر به وكونه مقطوعا به والْأَغْلالُ: جمع غل: وهو القيد الذي يوضع في العنق يُسْحَبُونَ يجرّون بعنف بالسلاسل فِي الْحَمِيمِ جهنم، وهي الماء الحار يُسْجَرُونَ يحرقون ويوقدون، يقال: سجّر التنور: ملأه بالوقود، ومنه وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ المملوء ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ يقال لهم توبيخا وتقريعا: أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا ضَلُّوا عَنَّا غابوا واضمحلوا، فلا نراهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أنكروا عبادتهم إياها، ثم أحضرت كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أي مثل إضلال هؤلاء المكذبين يضل الله الكافرين، حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة.
ذلِكُمْ العذاب تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ تبطرون وتتكبرون بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشرك والطغيان وإنكار البعث وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تختالون أشرا وبطرا وتتوسعون في الفرح أَبْوابَ جَهَنَّمَ الأبواب السبعة المقسومة لكم خالِدِينَ فِيها مقدّرا لكم الخلود فيها مَثْوَى مأوى.
المناسبة:
عاد الحق تعالى في هذه الآيات إلى ذم المجادلين في آيات الله، مبينا عظيم جرمهم في تكذيب القرآن وجزاءهم على ذلك، فليس فيه تكرار، إذ السابق لبيان منشأ الجدل وسببه، وهذا تعجيب من حال المجادلين وآرائهم الفاسدة، مع
التفسير والبيان:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ أي ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين المشركين المجادلين بالباطل في آيات الله الواضحة الموجبة للإيمان بها، كيف تصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال؟ مع قيام الأدلة الدالة على صحتها، وأنها في نفسها موجبة للتوحيد.
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي إنهم هم الذين كذبوا بالقرآن وبالذي أرسلنا به الرسل من التوحيد وإخلاص العبادة لله والشرائع الصالحة لحياة الإنسان في الدنيا، والتبرؤ من الشرك والوثنية، والإيمان بالبعث، ثم هددهم وأوعدهم بقوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم ووبال كفرهم.
ثم ذكر مضمون التهديد الشديد والوعيد الأكيد بقوله:
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ أي فسوف يعلم هؤلاء المكذبون حين تجعل القيود في أعناقهم، ويسحبون بالسلاسل في الحميم: وهو الماء المتناهي في الحرارة، فتتقطع جلودهم وتنسلخ لحومهم، ثم يحرقون في النار التي توقد بهم وتحيط بهم، كما قال تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن ٥٥/ ٤٣- ٤٤] وقال سبحانه بعد ذكر أكلهم الزقوم وشربهم الحميم: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات ٣٧/ ٦٨] وقال عز وجل: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان ٤٤/ ٤٧- ٥٠].
قالوا مجيبين: غابوا عنا وذهبوا فلم ينفعونا، وفقدناهم فلا نراهم، والحق أننا لم نكن نعبد شيئا، أي تبينا أننا لم نكن نعبد شيئا ينفع، لأنه لا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، وذاك الذي صدر عنهم اعتراف صريح بأن عبادتهم إياها كانت باطلة.
ومثل ذلك الضلال يضل الله الكافرين حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار، أي هكذا يتبين بطلان جميع أعمال الكافرين، وتنقطع العلائق والصلات بين العابدين والمعبودين.
ثم أبان الله تعالى سبب تعذيبهم فقال:
ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ أي ذلكم العذاب والإضلال بسبب ما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله، والسرور بمخالقة رسله وكتبه، وبسبب ما كنتم تبطرون وتأشرون وهو جزاء المرح بغير الحق وهو الشرك وعبادة الأوثان.
ثم أوضح لهم نوع الجزاء تبكيتا وتوبيخا وتيئيسا لهم من تفادي العذاب، فقال:
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، خالِدِينَ فِيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم، كما قال تعالى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ، لِكُلِّ
بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ
[الحجر ١٥/ ٤٤] وإنكم مخلدون فيها أبدا على الدوام، فبئس المنزل والمأوى الذي فيه الهوان والعذاب الشديد لمن استكبر عن آيات الله واتباع دلائله وحججه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يأتي:
١- من العجب العجاب أن المشركين الذين يجادلون في آيات الله بغير حق ويكذبون بها يصرفون عن الهدى إلى الضلال، وعن الحق إلى الباطل.
٢- سيعلمون عما قريب بطلان ما هم فيه إذا دخلوا النار، وغلّت أيديهم إلى أعناقهم، وسحبوا بالسلاسل في الحميم، أي الماء المسخن بنار جهنم، وأحاطت بهم النار إحاطة تامة.
٣- تقول لهم الملائكة بعد دخولهم النار تقريعا وتوبيخا: أين أصنامكم التي كنتم تعبدونها من دون الله، ما لكم لا تنصرون بها اليوم؟
فأجابوا: لقد هلكوا وذهبوا عنا، وتركونا في العذاب، فلا نراهم ولا نستشفع بهم. ثم اعترفوا بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلة، فإنها ليست بشيء، لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، وهكذا تبين لهم أنهم لم يكونوا شيئا، كما تقول: حسبت أن فلانا شيء، فإذا هو ليس بشيء، إذا جربته، فلم تجد عنده خيرا «١». وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام ٦/ ٢٣].
٤- قال الله تعالى عقب هذا الاعتراف: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أي كما فعل بهؤلاء من الإضلال، يفعل بكل كافر، وهو إضلال لا توفيق فيه عن
٥- ذلكم العذاب وسببه هو ما كانوا يفرحون به من المعاصي، ويظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال والأتباع والصحة، وهو أيضا بسبب بطرهم وتكبرهم عن اتباع الحق وقبوله، واختيارهم الشرك وعبادة الأصنام.
٦- ويقال لهم يوم القيامة: ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم، فبئس المأوى مأوى المتكبرين عن آيات الله واتباع دلائله على توحيده وقبول شرائعه.
الصبر والنصر
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)
الإعراب:
فَإِمَّا إن الشرطية مدغمة، وما: زائدة تؤكد معنى الشرط أول الفعل، والنون تؤكد آخره، وقد لحقت الفعل بناء على وجود «ما» ولا تلحقه النون مع «إن» وحدها. وجواب الشرط محذوف مثل: فذاك.
البلاغة:
أَرْسَلْنا رُسُلًا جناس الاشتقاق.
مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ طباق السلب.
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالعذاب وهلاك الكافرين حَقٌّ كائن لا محالة بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي بعض ما نعدهم به من العذاب في الدنيا بالقتل والأسر أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن تراه أي قبل رؤية تعذيبهم فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ للعذاب الشديد يوم القيامة، فنجازيهم بأعمالهم، وهو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ. وهو يدل على شدة العذاب للاقتصار على ذكر الرجوع.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا.. قيل: إن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، وروي أنه تعالى بعث ثمانية آلاف نبي: أربعة آلاف نبي من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس.
والمذكور قصتهم: أشخاص معدودة.
وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لأنهم عبيد مربوبون لله، والمعجزات عطايا من الله بحسب حكمته فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بنزول العذاب على الكفار في الدنيا والآخرة قُضِيَ بِالْحَقِّ بين الرسل ومكذبيهم، بإنجاء المحق وتعذيب المبطل وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أي ظهرت خسارة المعاندين باقتراح الآيات، بعد وجود ما يغنيهم عنها.
المناسبة:
كان الكلام من أول السورة إلى هنا في تزييف طريقة المجادلين في آيات الله، ثم أمر الله تعالى هنا رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم، ووعده بالنصر عليهم، وإنزال العذاب على أعدائه.
التفسير والبيان:
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي فاصبر أيها الرسول على تكذيب بعض قومك، فإن وعد الله بالنصر عليهم والانتقام منهم كائن لا محالة، إما في الدنيا، وإما في الآخرة.
فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أي إن نرك في حياتك أيها الرسول بعض ما نعدهم به من العذاب، كالقتل والأسر يوم بدر، ثم فتح مكة وسائر جزيرة العرب، فذاك ما يستحقونه، وقد تحقق ذلك في
ونظير الآية: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ، فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ، فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف ٤٣/ ٤٢].
ثم قال الله تعالى مسليا رسوله ص:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أي ولقد أرسلنا رسلا وأنبياء كثيرين من قبلك إلى أقوامهم، منهم من أنبأناك بأخبارهم وما لقوه من قومهم وهم خمسة وعشرون، ومنهم من لم نقصص عليك خبره، وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف، كما قال تعالى:
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ..
[النساء ٤/ ١٦٤].
وأخرج الإمام أحمد عن أبي ذرّ قال: «قلت: يا رسول الله، كم عدد الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر، جمّا غفيرا».
والذين ذكرهم الله في القرآن من الرسل قريب من خمسة وعشرين رسولا.
وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بمعجزة خارقة للعادة إلا أن يأذن الله له في ذلك، فيستدل حينئذ على صدقه فيما جاءهم به. والمراد بالآية: المعجزة الدالة على نبوته. وكان أقوام الأنبياء يقترحون على الأنبياء إظهار المعجزات عنادا وتعنتا.
فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أي إذا حان الوقت المعين لعذابهم في الدنيا أو في الآخرة، قضي بالعدل فيما بينهم، فينجي الله بقضائه الحق عباده المرسلين المحقين والذين آمنوا معهم، ويهلك الكافرين الذين
فما عليك يا محمد ص إلا الصبر، تأسيا بالأنبياء قبلك، وإذا جاء أمر الله بالفصل بينك وبين قومك، قضي بينكم بالحق، فنصرت، وخسر المبطلون من ملأ قريش الذين يصدّون عن دعوتك.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أمور أربعة:
١- الأمر بالصبر للنبي ص تسلية له، وإعلامه بأن الله سينتقم له من قومه المكذبين لرسالته، إما في حياته، أو في الآخرة. وأمة النبي ص مأمورة مثله بالصبر.
٢- أرسل الله تعالى للأمم المتقدمة رسلا وأنبياء كثيرين، منهم من أخبر الله نبيه بأخبارهم وما لقوا من قومهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، ومنهم من لم يخبره الله بهم.
٣- ليس لنبي من قبل نفسه أن يأتي بآية بيّنة أو معجزة لإثبات نبوته وصدقه، إلا بإذن من الله وتيسير له بذلك، فإن المعجزة وهي الأمر الخارق للعادة لا يستطيعها إلا من اتصف بالقدرة الإلهية، وهو الله وحده الذي يظهر المعجز على يد نبي أو رسول لما يرى من الحكمة والصلاح.
٤- إذا جاء الوقت المسمى لعذاب المكذبين برسالة النبي في الدنيا أو في الآخرة، أهلكهم الله في الدنيا، وخسر في الآخرة المبطلون الذين يتبعون الباطل والشرك، وهذا وعيد شديد لهم.
وإنما يؤخر الله عنهم العذاب أحيانا ليترك الفرصة والمجال لإسلام من علم الله إسلامه منهم، ولمن في أصلابهم من المؤمنين.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)
الإعراب:
َيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
أَيَ
: استفهام، وهي منصوب بنْكِرُونَ
والاستفهام إنما ينصب بما بعده، لأن له صدر الكلام. وهو استفهام توبيخ. وتذكيرأَيَ
أشهر من تأنيثه، وهنا جاءت على اللغة المستفيضة، وقولك «فأية آيات الله» قليل، لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة: غريب، وهي في أَيَ
أغرب، لإبهامه.
المفردات اللغوية:
الْأَنْعامَ هي الإبل والبقر والغنم والمعز لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ منها ما يؤكل كالغنم، ومنها ما يؤكل ويركب كالإبل وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كالألبان والجلود والأصواف والأوبار وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بالمسافرة عليها وحمل الأثقال إلى البلاد، والحاجة: الأمر المهم وَعَلَى الْفُلْكِ السفن في البحر، وإنما قال: عَلَى الْفُلْكِ ولم يقل: في الفلك، كما في قوله تعالى: قُلْنَا: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود ١١/ ٤٠] للمزاوجة والمطابقة بينها وبين ما قبلها وهو: وَعَلَيْها ولأن راكب السفينة يستعليها، فيصح كونه فيها، لأنها وعاء له، ويصح كونه عليها لاستعلائها.
يُرِيكُمْ آياتِهِ
دلائله الدالة على كمال قدرته وفرط رحمته ووحدانيته أَيَّ آياتِ اللَّهِ
الدالة على ما ذكر من تلك الآيات نْكِرُونَ
فإنها لوضوحها وظهورها لا تقبل الإنكار.
بعد الإطناب في وعيد المكذبين المجادلين في آيات الله، بما فيه العبرة والكفاية، عاد الحق تعالى إلى إيراد دلائل أخرى تدل على وجود الله ووحدانيته، ويصلح تعدادها نعما على العباد، ثم أجمل في الإحالة على أدلة كثيرة تحيط بالناس.
التفسير والبيان:
يمتن الله تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام ذات المنافع الكثيرة والدالة على قدرة الله فقال:
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها، وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي إن الله تعالى هو الذي خلق لأجلكم الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم الشامل للمعز، لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها، فالإبل: تركب وتؤكل وتحلب ويحمل عليها الأثقال في الأسفار، والبقر: تؤكل ويشرب لبنها، ويحرث عليها الأرض، والغنم تؤكل ويشرب لبنها، والجميع تتناسل وتجز أصوافها وأشعارها وأوبارها، فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة، لذا قال تعالى:
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أي ولكم فيها منافع أخر غير الركوب والأكل، كأخذ الوبر والصوف والشعر والزبد والسمن والجبن وغير ذلك مما يستعمل للثياب والأمتعة والمأكولات، ولتحمل أثقالكم إلى البلاد النائية بيسر وسهولة، وعلى الإبل في البر، وعلى السفن في البحر تحملون وتنقلون من بلد إلى آخر، ومن موضع إلى آخر، وقد قيل: «الجمل سفينة الصحراء». ويلاحظ أنه تعالى قرن بين الامتنان بنعمة الركوب في البر، ونعمة الامتنان بركوب البحر.
[الأنعام ٦/ ١٤٣- ١٤٤] وقوله سبحانه: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النحل ١٦/ ٥- ٧].
ولما ذكر الله هذه الدلائل الكثيرة الدالة على قدرة الله التي لا تنكر قال:
يُرِيكُمْ آياتِهِ، فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
أي إن الله تعالى يري عباده عيانا هذه الآيات والبراهين التي عددها في الآفاق والأنفس، والتي هي كلها ظاهرة باهرة دالة على كمال قدرته ووحدانيته، فما الذي تنكرونه منها؟ وهي كلها ظاهرة واضحة، بحيث لا ينكرها ذو بصيرة نيّرة إن كان منصفا، أي إنكم في الواقع لا تقدرون على إنكار شيء من آياته، إلا أن تعاندوا وتكابروا، كما قيل:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
والسبب في إدخال اللام على لِتَرْكَبُوا ولِتَبْلُغُوا وعدم دخولها على البواقي: هو الاهتمام بجل المنافع وهو الركوب والحمل عليها، وأما الأكل والانتفاع بالأوبار والأشعار فهو غرض أقل وأبسط.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه ادلة أخرى على كمال قدرة الله ووحدانيته، وتشير إلى عظم نعم الله على عباده، وهي تتمثل في خلق الأنعام للأكل والركوب، والانتفاع بها في منافع كثيرة للثياب والأمتعة والمأكولات، وحمل الأثقال، والتنقل عليها في الأسفار وقطع المسافات، سواء في البر والبحر.
وإذا كنتم أيها المشركون لا تنكرون أن هذه الأشياء من الله، فلم تنكرون قدرته على البعث والنشر؟! أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها [النازعات ٧٩/ ٢٧- ٢٨] ؟! وإن تلك الآيات كثيرة لا يمكن إنكار شيء منها عقلا.
تهديد المكذبين المجادلين في آيات الله وتركهم الشرك حين رؤية العذاب
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٨٢ الى ٨٥]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
الإعراب:
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَيْفَ: خبر مقدم لكان وعاقِبَةُ:
اسمها المؤخر، ومِنْ قَبْلِهِمْ صلة الموصول.
فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مِنَ: للتبيين، أي تبيين «ما» أي فرحوا بالشيء الذي عندهم من العلم. أو تبيين «البينات» وفي الآية تقديم وتأخير، والتقدير: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات من العلم، فرحوا بما عندهم. والأوجه هو الأول.
سُنَّتَ اللَّهِ منصوب على المصدر، بفعل مقدر من لفظه، أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد، وهي من المصادر المؤكدة بمنزلة «وعد الله» وما أشبهه من المصادر المؤكدة.
البلاغة:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ.. ؟ استفهام للإنكار، إنكار عدم السير المترتب عليه النظر السليم.
المفردات اللغوية:
كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ.. استئناف مبين لحالهم وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ما أبقوه من القصور والمصانع والحصون ونحوها بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات والآيات الواضحات فَرِحُوا أي الكفار فرح استهزاء وضحك، متنكرين له بِما عِنْدَهُمْ عند الرسل مِنَ الْعِلْمِ أي واستحقروا علم الرسل، والمراد بالعلم: عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة، وسماها علما على زعمهم تهكما بهم، والآية كقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [النحل ١٦/ ٦٦] أي تكامل واستحكم علمهم بأحوالها في الآخرة، وهو تهكم بهم لفرط جهلهم بها، وعلمهم: هو قولهم: لا نبعث ولا نعذب، وما أظن الساعة قائمة، ونحوها.
وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي نزل بهم ما هزئوا به من العذاب، وهذا يؤيد أن المراد بفرحهم: استهزاؤهم بالرسول وضحكهم منه بَأْسَنا شدة عذابنا وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون الأصنام فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ أي لم يصح ولم يستقم، لامتناع قبوله سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد أو الأمم ألا ينفعهم الإيمان وقت نزول العذاب وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ تبين خسرانهم لكل أحد، وهم خاسرون في كل وقت قبل ذلك. وهُنالِكَ أي وقت رؤيتهم البأس، وهو اسم مكان أستعير للزمان.
وسبب ترادف الفاءات هو كما أبان الزمخشري: أما قوله تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ فهو نتيجة لقوله: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ. وأما قوله: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فهو كالتفسير
المناسبة:
اشتملت السورة على فصلين: فصل في دلائل الألوهية وكمال القدرة والرحمة والحكمة، وفصل في التهديد والوعيد، وهذه الآيات التي ختمت بها السورة متعلقة بالفصل الثاني في تهديد الكفار الذين يجادلون في آيات الله، المتكبرين على رسله المكذبين لهم، اغترارا منهم بدنياهم وأموالهم وأولادهم، وطلبا للرياسة والجاه، وهو تهديد يبين نهاية من هم أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، فلم ينفعهم شيء من ذلك حين حلول بأس الله، بل إن إيمانهم بالله وتركهم الشرك حين رؤية البأس لم ينفعهم أيضا.
التفسير والبيان:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي أفلم يسر في البلاد هؤلاء المجادلون في آيات الله من المشركين، فينظروا في أسفارهم كيف كان مصير الأمم السابقة التي عصت الله، وكذبت رسلها، ويشاهدوا آثارهم الموجودة في ديارهم التي تدل على ما نزل بهم من عقوبة وعذاب شديد، مع أنهم كانوا أكثر من مشركي قريش عددا، وأقوى منهم أجسادا، وأوسع منهم أموالا، وأبقى في الأرض آثارا بالعمائر والمصانع والحصون والمزارع والسدود، ونحو ذلك من مظاهر الحضارة والعمران والفن والعلوم.
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي فلما جاءت الرسل بالحجج الواضحات والمعجزات الظاهرات إلى تلك الأمم المكذبة، لم يلتفتوا إليهم، ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم، أي الشبهات الداحضة والدعاوي الزائغة التي ظنوها علما نافعا لهم، مثل قولهم: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية ٤٥/ ٢٤] وقولهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام ٦/ ١٤٨] وقولهم: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس ٣٦/ ٧٨] وفرحوا بهذه الترهات والأباطيل، لأنهم كما قال تعالى:
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم ٣٠/ ٧].
ولكن نزل وأحاط بهم ما كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه وهو العذاب، استهزاء وسخرية، أي نزل بالكفار عقاب استهزائهم برسالات الرسل.
وقد سمى الله تعالى ما عندهم من العقائد الزائفة والشبه الداحضة «علما» تهكما بهم واستهزاء منهم، كما تقدم.
ثم صوّر تعالى ما يكون من شأن الإنسان حين تطبيق العقاب عليه، فقال:
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا، قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ أي فلما عاينوا وقوع العذاب بهم، صدقوا بالله ووحدوه، وكفروا بمعبوداتهم الباطلة التي اتخذوها شركاء لله، وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها، ولكن لم ينفعهم ذلك الإيمان، ولم تنفعهم المعذرة، كما قال تعالى:
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي لم يصح ولم يستقم أن إيمانهم ينفعهم عند معاينة عذابنا، لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان النافع لصاحبه، فهو
وهذا كما فرعون حين أدركه الغرق: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فقال الله تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس ١٠/ ٩٠- ٩١] فلم يقبل الله منه إيمانه.
ثم ذكر الله تعالى حكما عاما، فقال:
سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي إن هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل، وإن الله سبحانه سن هذه السنة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب.
وخسر الكفار وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه، والكافر خاسر في كل وقت، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.
جاء في الحديث الثابت: «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «١»
أي فإذا غرغر، وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك، فلا توبة حينئذ، ولهذا قال تعالى هنا: وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ وقال: وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ [غافر ٤٠/ ٧٨]. فليحذر الكافر والمقصر، وليتدارك الأمر قبل فوات الأوان، ولات ساعة مندم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن آثار تدمير الأمم الغابرة بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل عبرة
٢- كان سبب تدمير أولئك الأقوام في الماضي هو تكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات والآيات الواضحات، وفرحهم بعقائدهم الزائفة وشبههم الباطلة، مثل قولهم: لن نعذب ولن نبعث، واستهزاؤهم بما جاء به الرسل، فأحدق بهم العقاب من كل جانب.
٣- لقد آمن هؤلاء المشركون بالله وحده، وكفروا بالأوثان التي أشركوها في العبادة مع الله، عند رؤية العذاب.
٤- ولكن الإيمان بالله عند معاينة العذاب، وحين رؤية البأس لا ينفع ولا يفيد صاحبه.
٥- سنّ الله عز وجل في الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب، وأضحى عدم قبول الإيمان حال اليأس من النجاة سنة الله المطردة في كل الأمم.
٦- والغاية أن يحذر أهل مكة وغيرهم من المشركين سنة الله في إهلاك الكفرة، وأن يعلموا أن الإيمان وقت رؤية الهلاك لا ينفع، وأن ما يدّعونه من علم وحضارة لا يغني عن دين الله ورسالة الأنبياء، فشريعة الله هي الأصح.
٧- ليعلم أولئك الذين يصفون شريعة الإسلام بالهمجية والوحشية والقسوة، وهم الذين احتضنوا أفكار الغرب غير الدينية، وآمنوا بالقوانين الوضعية الحديثة، وأحلوها محل شريعة الله تعالى، ليعلموا أنهم جهلة بهذه الشريعة، وأنهم كفروا بالإسلام من حيث لا يشعرون، وأن بواعث تحضّرهم،
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فصّلت أو: السجدةمكيّة، وهي أربع وخمسون آية.
تسميتها:
سمّيت سورة فصلت لافتتاحها بقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ.. وقد فصّل الله تعالى فيها الآيات، وأوضح الأدلة والبراهين على وجوده وقدرته ووحدانيته، من خلقه هذا الكون العظيم وتصرفه فيه. وتسمى أيضا حم، السجدة لأن رسول الله ص عند قراءة أولها على زعماء قريش حتى انتهى إلى السجدة منها، سجد.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبتها لما قبلها وهي سورة غافر من وجهين:
الأول- افتتاح كلتيهما بوصف الكتاب الكريم وهو القرآن العظيم.
الثاني- اشتراكهما في تهديد ووعيد وتقريع المشركين المجادلين في آيات الله في مكة وغيرها، ففي آخر السورة المتقدمة توعدهم بقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [٨٢]، وفي القسم الأول من هذه السورة هددهم مرة أخرى بقوله:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [١٣]. وهذا كله مناسب لآخر سورة المؤمن من عدم انتفاع مكذّبي الرّسل حين رؤية العذاب، كما
مشتملاتها:
موضوع هذه السورة مثل موضوع باقي السّور المكية وهو إثبات أصول العقيدة: «الوحدانية، الرّسالة والوحي، البعث والجزاء».
ابتدأت بوصف القرآن العظيم بأنه المنزّل من عند الله بلسان عربي مبين، والذي يبيّن أدلة قدرة الله وتوحيده، وكونه المبشّر المنذر، والذي يثبت صدق النّبي محمد ص فيما جاء به من عند ربّه.
وأبانت موقف المشركين وإعراضهم عن تدبّره، وقررت حقيقة الرسول ص وأنه بشر خصّه الله تعالى بالوحي المتضمن إعلان وحدانية الله عزّ وجلّ، وإيضاح جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات.
ثم أنكرت على المشركين الكفر، وأقامت الأدلة على وحدانية الله من خلق السموات والأرض، وأنذرتهم بإنزال عقاب مماثل لعقوبة الأمم الغابرة، كعاد وثمود الذين أهلكوا ودمرت ديارهم بسبب تكذيب رسل الله، ولكن بعد إنجاء المؤمنين المتّقين.
وحذّرت من حساب القيامة، وأخبرت بأن أعضاء الإنسان تشهد عند الحشر على أصحابها، وأن قرناء السوء زيّنوا لهم أعمالهم، وأنّهم هم صدّوا عن سبيل الله ودينه، وقالوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ وطلبوا إهانة من أضلوهم ليكونوا من الأسفلين.
وفي مواجهة أولئك أشاد تعالى بأهل الاستقامة وبشّرهم بالجنة والكرامة، ووصف من يلقّى الجنة وهم الصابرون على طاعة الله تعالى.
وأعقب ذلك التعريف بعلم الله المحيط بكل شيء، والإشارة لعظيم قدرته، والكشف عن طبع الإنسان من التّكبر عند الرّخاء، والتّضرع عند الشدة والعناء.
وختمت السورة بوعد الله أن يطلع الناس في كل زمان على بعض أسرار الكون والتّعرف على آيات الله في الآفاق والأنفس الدالة على الوحدانية والقدرة الإلهية، ثم ذكرت أن المشركين يشكون في البعث والحشر، ولكن الله محيط بهم وبكل شيء، وذلك ردّ حاسم عليهم.
فضلها:
أخرج الإمام العالم عبد بن حميد في مسنده وأبو يعلى والبغوي وغيرهم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «اجتمعت قريش يوما، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرّق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولننظر ماذا يردّ عليه. فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.
فقالوا: ائته يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟
فسكت رسول الله ص، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله ص، فقال عتبة: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلّم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن
أيها الرّجل، إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا، وإن كان إنما بك الباءة «١»، فاختر أي نساء قريش شئت، فلنزوجك عشرا؟ فقال رسول الله ص:
فرغت؟ قال: نعم، فقال رسول الله ص:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ..- حتى بلغ-: فَإِنْ أَعْرَضُوا، فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ فقال رسول الله ص: لا.
فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم، لا، والذي نصبها بنية (أي الكعبة) ما فهمت شيئا مما قاله غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك، يكلّمك الرجل بالعربية، لا تدري ما قال، قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة».
وفي رواية البغوي: «والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته، وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ».
وفي رواية محمد بن إسحاق في سيرته: «قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟