تفسير سورة غافر

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة غافر من كتاب مختصر تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- ١ - حم
- ٢ - تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
- ٣ - غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذي الطول لا إله إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعادته ههنا، وقوله تعالى: ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾، أَيْ تَنْزِيلُ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنُ مِنَ اللَّهِ ذِي الْعِزَّةِ وَالْعِلْمِ فَلَا يُرَامُ جَنَابُهُ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ الذَّر وَإِنْ تَكَاثَفَ حِجَابُهُ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ أَيْ يَغْفِرُ مَا سَلَفَ مِنَ الذَّنْبِ وَيَقْبَلُ التَّوْبَةَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لمن تاب إليه، وخضع لديه، وقوله جلَّ وعلا ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أَيْ لِمَنْ تَمَرَّدَ وَطَغَى، وَآثَرَ الحياة الدنيا، وعتا عن أوامر الله تعالى وبغى، وهذه كقوله: ﴿نبئ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وأنا عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم﴾ يقرن هذين الوصفين كثيراً في مواقف مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لِيَبْقَى الْعَبْدُ بَيْنَ الرَّجَاءِ والخوف، وقوله تعالى: ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي السَّعَةَ والغنى (وهو قول مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ)، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾ يَعْنِي الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ذِي المن، وقال قتادة: ذِي النِّعَمِ وَالْفَوَاضِلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى عباده، المتطول عليهم بما هم فِيهِ مِنَ الْمِنَنِ وَالْأَنْعَامِ الَّتِي لَا يُطِيقُونَ القيام بشكر واحدة منها، ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ الآية، وقوله جلت عظمته: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ فَلَا إِلَهَ غَيْرَهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، ﴿إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ أَيِ الْمَرْجِعُ والمآب، فيجازي كل عامل بعمله، وقال أبو بكر بن عياش: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي قتلت فهل لي من توبة؟ فقرأ عمر رضي الله عنه: ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾، وَقَالَ: اعمل ولا تيأس (أخرجه ابن أبي حاتم)، وعن يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ذُو بَأْسٍ، وَكَانَ يَفِدُ إِلَى عمر
234
بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَفَقَدَهُ عُمَرُ فقال: ما فعل فلان ابن فلان؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين تتابع فِي هَذَا الشَّرَابِ، قَالَ، فَدَعَا عُمَرُ كَاتِبَهُ، فَقَالَ: اكْتُبْ "مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى فلان ابن فلان: سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إِلَيْهِ الْمَصِيرُ"، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: ادْعُوَا اللَّهَ لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب اللَّهُ عَلَيْهِ"، فَلَمَّا بَلَغَ الرَّجُلَ كُتَّابُ عُمَرَ رضي الله عنه جعل يقرأه وَيُرَدِّدُهُ وَيَقُولُ: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ، قَدْ حَذَّرَنِي عُقُوبَتَهُ وَوَعَدَنِي أَن يَغْفِرَ لِي، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ نَزَعَ فَأَحْسَنَ النَّزْعَ، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ خبره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم آخاً لكم زل زلة فسدّدوه ووثقوه، وَادْعُوا اللَّهَ لَهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، وَلَا تكونوا أعواناً للشيطان عليه (أخرجه ابن أبي حاتم والحافظ أبو نعيم).
235
- ٤ - مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ
- ٥ - كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
- ٦ - وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
يَقُولُ تَعَالَى: مَا يَدْفَعُ الْحَقَّ ويجادل فيه بعد البيان وظهرو الْبُرْهَانِ ﴿إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أَيِ الْجَاحِدُونَ لِآيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، ﴿فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ أَيْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَنَعِيمِهَا وَزَهْرَتِهَا، كَمَا قال جلَّ وعلا: ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، بِأَنَّ لَهُ أُسْوَةَ مَنْ سَلَفَ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فَإِنَّهُ قَدْ كَذَّبَهُمْ أُمَمُهُمْ وَخَالَفُوهُمْ وَمَا آمَنَ بِهِمْ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَقَالَ: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ وَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ يَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ﴿وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِم﴾ أَيْ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، ﴿وهمَّت كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ أَيْ حَرَصُوا عَلَى قَتْلِهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ رَسُولَهُ ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق﴾ أي ما حلوا بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي، روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِنْ أَعَانَ باطلاً ليدحض به حقاً فقد برئت منه ذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم» (أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما). وقوله جلت عظمته ﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾ أَيْ أَهْلَكَتْهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنْ هَذِهِ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ الْعِظَامِ، ﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ أَيْ فَكَيْفَ بَلَغَكَ عَذَابِي لَهُمْ وَنَكَالِي بِهِمْ لقد كَانَ شَدِيدًا مُوجِعًا مُؤْلِمًا؟ قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ شديداً والله. وقوله جلَّ جلاله: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أَيْ كَمَا حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَذَلِكَ حَقَّتْ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ مَن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كذبوك وخالفوك يا محمد، بطريق الأولى، لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَكَ فَلَا وُثُوقَ لَهُ بِتَصْدِيقِ غيرك، والله أعلم.
- ٧ - الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ
235
كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ
- ٨ - رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- ٩ - وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ الْأَرْبَعَةِ، ومن حوله الملائكة مِنَ الْكُرُوبِيِّينَ، بِأَنَّهُمْ ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ أَيْ يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائض، وَالتَّحْمِيدِ الْمُقْتَضِي لِإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْمَدْحِ، ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أَيْ خَاشِعُونَ لَهُ أَذِلَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنَّهُمْ ﴿يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيُّ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ ممن آمن بالغيب، فقيض الله تعالى مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ أَنْ يَدْعُوا لِلْمُؤْمِنِينَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ سَجَايَا الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا يؤمِّنون عَلَى دُعَاءِ الْمُؤْمِنِ لأخيه بظهر الغيب، كما ثبت في الصحيح: «إِذَا دَعَا الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الملك آمين ولك بمثله» (أخرجه مسلم في صحيحه). قال شهر بن حوشب رضي الله عنه: حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ، أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَأَرْبَعَةٌ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ إِذَا اسْتَغْفَرُوا لِلَّذِينِ آمَنُوا: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً﴾ أي رَحْمَتَكَ تَسَعُ ذُنُوبَهُمْ وَخَطَايَاهُمْ، وَعِلْمُكَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ ﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾، أَيْ فَاصْفَحْ عَنِ الْمُسِيئِينَ إِذَا تَابُوا وَأَنَابُوا، وَأَقْلَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ، وَاتَّبَعُوا ما أمرتهم به من فعل الخير وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، ﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ أَيْ وَزَحْزِحْهُمْ عَنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ وَهُوَ الْعَذَابُ الْمُوجِعُ الْأَلِيمُ، ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ أَيْ اجْمَعْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ لِتَقَرَّ بِذَلِكَ أَعْيُنُهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ فِي منازل متجاورة، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ أي وساوينا بَيْنَ الْكُلِّ فِي الْمَنْزِلَةِ لِتَقَرَّ أَعْيُنُهُمْ، وَمَا نَقَصْنَا الْعَالِيَ حَتَّى يُسَاوِيَ الدَّانِيَ، بَلْ رَفَعْنَا ناقص العمل فساويناه بكثير العمل، تفضلاً منا منه. وقال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا دَخَلَ الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه اين هُمْ؟ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا طَبَقَتَكَ فِي العمل، فيقول: إني عَمِلْتُ لِي وَلَهُمْ فَيُلْحَقُونَ بِهِ فِي الدَّرَجَةِ، ثُمَّ تَلَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾، وقوله تبارك وتعالى ﴿إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أَيِ الَّذِي لَا يمانع ولا يغالب، ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ أَيْ فِعْلَهَا، أَوْ وَبَالَهَا مِمَّنْ وَقَعَتْ مِنْهُ، ﴿وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ أَيْ لَطَفْتَ بِهِ وَنَجَّيْتَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ ﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
236
- ١٠ - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ
- ١١ - قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ
- ١٢ - ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ
236
وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ
- ١٣ - هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ
- ١٤ - فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ: أَنَّهُمْ يُنَادَوْنَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ فِي غَمَرَاتِ النِّيرَانِ يَتَلَظَّوْنَ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا بَاشَرُوا من عذاب الله تعالى مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِهِ، فَمَقَتُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ، وَأَبْغَضُوهَا غَايَةَ الْبُغْضِ، بِسَبَبِ مَا أَسْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ دُخُولِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَأَخْبَرَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ بأن مقت الله تعالى لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حِينَ كَانَ يُعْرَضُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ فَيَكْفُرُونَ، أَشَدُّ مِنْ مَقْتِكُمْ أَيُّهَا الْمُعَذَّبُونَ أنفسكم في هذه الحالة، قال قتادة: المعنى لَمَقْتُ اللَّهِ أَهْلَ الضَّلَالَةِ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ فِي الدُّنْيَا فَتَرَكُوهُ وَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوهُ، أَكْبَرُ مِمَّا مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ، حِينَ عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ومجاهد والسدي)، وَقَوْلِهِ: ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾
قال ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ الْآيَةُ، كقوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ الله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ ترجعون﴾ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ والمقصود أَنَّ الْكُفَّارَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ وَهُمْ وُقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رؤوسهم عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا موقنون﴾ فَلَا يُجَابُونَ، ثُمَّ إِذَا رَأَوُا النَّارَ وَعَايَنُوهَا وَوَقَفُوا عَلَيْهَا وَنَظَرُوا إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، سَأَلُوا الرَّجْعَةَ أَشَدَّ مِمَّا سَأَلُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَلَا يُجَابُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ من المؤمنين﴾ فَإِذَا دَخَلُوا النَّارَ وَذَاقُوا مَسَّهَا وَحَسِيسَهَا وَمَقَامِعَهَا وَأَغْلَالَهَا، كَانَ سُؤَالُهُمْ لِلرَّجْعَةِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ، ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نعمل﴾ كقوله ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾، وفي هذه الآية الكريمة تلفظوا فِي السُّؤَالِ وَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِمْ مُقَدِّمَةً، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: ﴿رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ أَيْ قُدْرَتُكَ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّكَ أَحْيَيْتَنَا بَعْدَ مَا كُنَّا أَمْوَاتًا ثُمَّ أَمَتَّنَا ثُمَّ أَحْيَيْتَنَا فَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى مَا تَشَاءُ، وَقَدِ اعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا، وَإِنَّنَا كُنَّا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِنَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، ﴿فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾ أَيْ فَهَلْ أَنْتَ مُجِيبُنَا إِلَى أَنْ تُعِيدَنَا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا؟ فَإِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ لِنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا كنا فيه فإنا ظالمون، فأجيبوا أن لا سَبِيلَ إِلَى عَوْدِكُمْ وَمَرْجِعِكُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا، ثُمَّ عَلَّلَ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ سَجَايَاكُمْ لا تقبل الحق ولا تقتضيه بل تمجه وتنفيه، ﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ﴾ أَيْ أَنْتُمْ هَكَذَا تكونون، وإن رددتم إلى الدار الدنيا كما قال عزَّ وجلَّ ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذبون﴾.
وقوله جلَّ وعلا: ﴿فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ فِي خَلْقِهِ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، فَيَهْدِي من يشاء ويضل مَن يَشَآءُ، وَيَرْحَمُ من يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يشاء. وقوله جلَّ جلاله: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ أَيْ يُظْهِرُ قُدْرَتَهُ لِخَلْقِهِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ فِي خَلْقِهِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ خَالِقِهَا ومبدعها ومنشئها،
237
﴿وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً﴾ وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يُخْرِجُ بِهِ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ بِالْحِسِّ مِنِ اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ وَطَعُومِهِ وَرَوَائِحِهِ وَأَشْكَالِهِ وَأَلْوَانِهِ وَهُوَ مَاءٌ وَاحِدٌ، فَبِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَاوَتَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، ﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ﴾ أَيْ يَعْتَبِرُ وَيَتَفَكَّرُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا ﴿إِلاَّ مَن يُنِيبُ﴾ أَيْ مَنْ هُوَ بَصِيرٌ مُنِيبٌ إِلَى اللَّهِ تبارك وتعالى، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ أَيْ فَأَخْلِصُوا لِلَّهِ وَحْدَهُ الْعِبَادَةَ وَالدُّعَاءَ وَخَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ فِي مَسْلَكِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ، قَالَ الْإِمَامُ أحمد: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي دُبُر كُلِّ صَلَاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهل بهن دُبُر كل صلاة" (أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي والنسائي)، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله، ولا نعبد إلا إياه» الحديث، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أَنَّ الله تعالى لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» (أخرجه ابن
أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً).
238
- ١٥ - رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ
- ١٦ - يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
- ١٧ - الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَارْتِفَاعِ عَرْشِهِ الْعَظِيمِ الْعَالِي عَلَى جَمِيعِ مخلوقاته، كالسقف لها كما قال تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْعَرْشَ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ اتِّسَاعُ مَا بَيْنَ قُطْرَيْهِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَارْتِفَاعُهُ عَنِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سنة، وقوله تَعَالَى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ من عباده﴾، كقوله جلت عظمته: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يشآء من عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أن لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون﴾، وكقوله تَعَالَى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين﴾، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: ﴿لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق﴾، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ يوم القيامة حذر الله منه عباده، يَلْتَقِي فِيهِ آدَمُ وَآخِرُ وَلَدِهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَلْتَقِي فِيهِ الْعِبَادُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: يَلْتَقِي فِيهِ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ وَالْخَالِقُ والخلق، وقال ميمون بن مهران: يلتقي الظالم والمظلوم، وقد يقال إن يوم التلاق يَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ وَيَشْمَلُ أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ سيلقى ما عمله مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ، وَقَوْلُهُ جلَّ جلاله: ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾ أَيْ ظَاهِرُونَ بَادُونَ كُلُّهُمْ، لَا شَيْءَ يُكِنُّهُمْ ولا يظلهم ولا يسترهم، ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ قَدْ تقدم في حديث ابن عمر
238
رضي الله عنهما أَنَّهُ تَعَالَى يَطْوِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِيَدِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْجَبَّارُ، أَنَا الْمُتَكَبِّرُ، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ وفي حديث الصور أنه عزَّ وجلَّ إِذَا قَبَضَ أَرْوَاحَ جَمِيعِ خَلْقِهِ فَلَمْ يَبْقَ سِوَاهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، حينئذٍ يَقُولُ: ﴿لِّمَنِ الْمَلِكُ الْيَوْمَ﴾؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يُجِيبُ نَفْسَهُ قَائِلًا: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ أَيِ الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَغَلَبَهُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عباس رضي الله عنهما: يُنَادِي مُنَادٍ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ فَيَسْمَعُهَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، قَالَ، وينزل الله عزَّ وجلَّ إلى السماء الدُّنْيَا وَيَقُولُ: ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْوَاحِدِ القهار﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً)، وقوله جلت عظمته: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، يُخْبِرُ تعالى عن عدله بَيْنَ خَلْقِهِ، أَنَّهُ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَلَا مِنْ شَرٍّ، بَلْ يَجْزِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا وَبِالسَّيِّئَةِ وَاحِدَةً، وَلِهَذَا قَالَ تبارك وتعالى: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مسلم: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا - إِلَى أَنْ قَالَ - يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه». وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ أَيْ يُحَاسِبُ الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ كَمَا يُحَاسِبُ نَفْسًا وَاحِدَةً، كَمَا قَالَ جلَّ وعلا: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾.
239
- ١٨ - وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ
- ١٩ - يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ
- ٢٠ - وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ البصير
يوم الآزفة: اسم من أسماء يوم القيامة، وسميت بِذَلِكَ لِاقْتِرَابِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ﴾، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر﴾، وقال جل وعلا: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ الآية، وقوله تبارك وتعالى: ﴿إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ﴾. قَالَ قَتَادَةُ: وَقَفَتِ الْقُلُوبُ فِي الْحَنَاجِرِ مِنَ الْخَوْفِ، فَلَا تَخْرُجُ وَلَا تَعُودُ إِلَى أَمَاكِنِهَا (وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ)، وَمَعْنَى ﴿كَاظِمِينَ﴾ أَيْ سَاكِتِينَ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بإذنه ﴿لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً﴾، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ﴿كَاظِمِينَ﴾ أَيْ بَاكِينَ، وَقَوْلُهُ سبحانه ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾، أي ليس للذين ظلموا من قريب يَنْفَعُهُمْ، وَلَا شَفِيعٍ يُشَفَّعُ فِيهِمْ، بَلْ قَدْ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ يُخْبِرُ عزَّ وجلَّ عَنْ عِلْمِهِ التَّامِّ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، دَقِيقِهَا وَلَطِيفِهَا لِيَحْذَرَ النَّاسُ ربهم، فيتقوه حَقَّ تَقْوَاهُ، وَيُرَاقِبُوهُ مُرَاقَبَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يراه، فإنه عزَّ وجلَّ يعلم العين الخائنة، ويلعم مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ خَبَايَا الصُّدُورِ مِنَ الضَّمَائِرِ والسرائر، قال ابن عباس ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور﴾: هو الرَّجُلُ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ، وَفِيهِمُ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ، أَوْ تَمُرُّ بِهِ وَبِهِمُ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ، فَإِذَا غَفَلُوا لَحَظَ إِلَيْهَا، فَإِذَا فَطِنُوا
239
غض بصره عنها، فإذا غفلوا لخظ، فإذا فطنوا غض، وقد اطلع الله تعالى من قلبه أنه ود ولو اطلع على فرجها، وَقَالَ الضَّحَّاكُ ﴿خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾: هُوَ الْغَمْزُ، وَقَوْلُ الرجل رأيت ولم ير، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعَيْنِ فِي نَظَرِهَا هَلْ تُرِيدُ الْخِيَانَةَ أَمْ لا؟ ﴿وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ يَعْلَمُ إِذَا أَنْتَ قَدَرْتَ عَلَيْهَا هَلْ تَزْنِي بِهَا أَمْ لَا؟ وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ أَيْ مِنَ الْوَسْوَسَةِ، وقوله عزَّ وجلَّ ﴿والله يَقْضِي بالحق﴾ أي يحكم بالعدل. قال ابن عباس: قَادِرٌ عَلَى
أَنْ يَجْزِيَ بِالْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ وَبِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ وَهَذَا الذي فسر به ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية، كقوله تبارك وتعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أحسنوا بالحسنى﴾، وقوله جلَّ وعلا: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ، ﴿لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾ أَيْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَحْكُمُونَ بِشَيْءٍ، ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ خَلْقِهِ بَصِيرٌ بِهِمْ، فَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَن يَشَآءُ، وَهُوَ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
240
- ٢١ - أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ
- ٢٢ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب
يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسيرُواْ﴾ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِرِسَالَتِكَ يَا مُحَمَّدُ ﴿فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ﴾ أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْ هَؤُلَاءِ قُوَّةً ﴿وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ أَثَّرُوا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْبِنَايَاتِ والمعالم ما لم يقدر هؤلاء عليه كما قال عزَّ وجلَّ، ﴿وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عمروها﴾ مع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد، ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ وَهِيَ كُفْرُهُمْ بِرُسُلِهِمْ، ﴿وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ أَيْ وَمَا دَفَعَ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَا رَدَّهُ عَنْهُمْ رَادٌّ، وَلَا وَقَاهُمْ وَاقٍ، ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ وَذُنُوبَهُمُ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا وَاجْتَرَمُوهَا، فقال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَيْ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَاتِ، ﴿فَكَفَرُواْ﴾ أَيْ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ كَفَرُوا وَجَحَدُوا، ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾ تعالى أي أهلكهم ودمر عليهم، ﴿إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أَيْ ذُو قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ وَبَطْشٍ شَدِيدٍ، وَهُوَ ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أَيْ عقابه أليم شديد وجيع، أعاذنا الله تبارك وتعالى منه.
- ٢٣ - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
- ٢٤ - إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ
- ٢٥ - فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ
- ٢٦ - وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ إِنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ
- ٢٧ - وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ
يقول تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، ومبشراً بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ وَالنُّصْرَةَ لَهُ فِي الدُّنْيَا
240
والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الواضحات، ولهذا قال تعالى: ﴿بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ وَالسُّلْطَانُ هُوَ الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ، ﴿إلى فِرْعَوْنَ﴾ وهو مَلِكُ الْقِبْطِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، ﴿وَهَامَانَ﴾ وَهُوَ وَزِيرُهُ فِي مَمْلَكَتِهِ ﴿وَقَارُونَ﴾ وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ مَالًا وَتِجَارَةً، ﴿فَقَالُواْ: سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ أَيْ كذبوه وجعلوه ساحراً مجنوناً، مموّهاً كذاباً في أن الله جلا وعلا أَرْسَلَهُ وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾، ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِّنْ عِندِنَا﴾ أَيْ بِالْبُرْهَانِ القاطع الدال على أن الله عزَّ وجلَّ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ، ﴿قَالُواْ اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَآءَهُمْ﴾، وَهَذَا أَمْرٌ ثَانٍ مِنْ فِرْعَوْنَ بِقَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَانَ لِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ مِنْ وُجُودِ مُوسَى، أَوْ لِإِذْلَالِ هَذَا الشَّعْبِ وَتَقْلِيلِ عَدَدِهِمْ، أَوْ لِمَجْمُوعِ الأمرين، واما الأمر الثاني فلإهانة هَذَا الشَّعْبِ، وَلِكَيْ يَتَشَاءَمُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا
وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾
، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ أَيْ وَمَا مَكْرُهُمْ وَقَصْدُهُمُ الَّذِي هُوَ تَقْلِيلُ عَدَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِئَلَّا يُنْصَرُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا ذَاهِبٌ وَهَالِكٌ فِي ضَلَالٍ ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾، وَهَذَا عَزْمٌ مِنْ فِرْعَوْنَ - لعنة الله - على قتل موسى عليه الصلاة والسلام؛ أَيْ قَالَ لِقَوْمِهِ دَعُونِي حَتَّى أَقْتُلَ لَكُمْ هَذَا ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ أَيْ لَا أُبَالِي مِنْهُ، وهذا في غاية الجحد والعناد ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد﴾ يَخْشَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُضِلَّ مُوسَى النَّاسَ وَيُغَيِّرَ رُسُومَهُمْ وَعَادَاتِهُمْ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: صَارَ فِرْعَوْنُ مُذَكِّرًا، يَعْنِي وَاعِظًا، يُشْفِقُ عَلَى الناس من موسى عليه السلام، ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ أَيْ لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ فِرْعَوْنَ ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾ قال موسى عليه السلام: اسْتَجَرْتُ بِاللَّهِ، وَعُذْتُ بِهِ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ أَمْثَالِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ ﴿مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ﴾ أَيْ عَنِ الْحَقِّ مُجْرِمٍ ﴿لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ، وَنَدْرَأُ بِكَ فِي نُحُورِهِمْ».
241
- ٢٨ - وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
- ٢٩ - يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ
الْمَشْهُورُ إنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ كَانَ (قِبْطِيًّا) مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، قَالَ السدي: كان ابن عم فرعون، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ انْفَعَلَ لِكَلَامِهِ وَاسْتَمَعَهُ وَكَفَّ عَنْ قَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السلام، ولو كان إسرائيلياً لأوشك أن يعاجله بالعقوبة لأنه مِّنْهُمْ، قال
ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يُؤْمَنْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ سِوَى هَذَا الرَّجُلِ وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَالَّذِي قَالَ: ﴿يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير)، وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ يَكْتُمُ
241
إِيمَانَهُ
عَنْ قَوْمِهِ الْقِبْطِ، فَلَمْ يَظْهَرْ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ حِينَ قَالَ فِرْعَوْنُ: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾ فَأَخَذَتِ الرَّجُلَ غَضْبَةٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وأفضل الجهاد كلمة حق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، كَمَا ثَبَتَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ، وَلَا أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾، اللَّهُمَّ إِلَّا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صحيحه عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قَالَ، قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: أخبرني بأشد شيء صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِفناء الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ (عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ) فَأَخَذَ بمنكِب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه، ودفعه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن ربكم﴾ (أخرجه البخاري في صحيحه)؟ وروى ابن أبي حاتم عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن سُئِلَ: مَا أَشَدُّ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا بَلَغُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: مَرَّ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ تَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ فَقَالَ: «أَنَا ذَاكَ» فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَأَخَذُوا بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ، فَرَأَيْتُ أَبَا بكر عند مُحْتَضِنُهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَهُوَ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَيَسِيلَانِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا قَوْمِ ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ﴾؟ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآية كلها (أخرجه ابن أبي حاتم والنسائي)، وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أَيْ كَيْفَ تقتلونه وَقَدْ أَقَامَ لَكُمُ الْبُرْهَانَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ؟ ثُمَّ تَنَزَّلَ مَعَهُمْ فِي الْمُخَاطَبَةِ فَقَالَ: ﴿وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾، يَعْنِي إِذَا لَمْ يُظْهِرْ لَكُمْ صِحَّةَ ما جاءكم به، فمن العقل والرأي أَنْ تَتْرُكُوهُ وَنَفْسَهُ فَلَا تُؤْذُوهُ، فَإِنْ يَكُ كاذباً فإن الله سبحانه سيجازيه على كذبه، وإن يك صادقاً وقد أذيتموه يصبكم بعذ الَّذِي يَعِدُكُمْ، فَإِنَّهُ يَتَوَعَّدُكُمْ إِنْ خَالَفْتُمُوهُ بِعَذَابٍ في الدنيا والآخرة، فينبغي أن لا تتعرضوا له بل اتركوه وشأنه.
وقوله جلَّ وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ أي لو كان هذا كَاذِبًا كَمَا تَزْعُمُونَ، لَكَانَ أَمْرُهُ بَيِّنًا يَظْهَرُ لكل أحد في أقواله وأفعاله، وهذا نرى أمره سديداً ومنهجه مستقمياً، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ الْكَذَّابِينَ، لَمَا هَدَاهُ اللَّهُ وَأَرْشَدَهُ إِلَى مَا تَرَوْنَ مِنِ انْتِظَامِ أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ، ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ مُحَذِّرًا قَوْمَهُ زَوَالَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَنْهُمْ وَحُلُولَ نِقْمَةِ اللَّهِ بِهِمْ: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْمُلْكِ، وَالظُّهُورِ فِي الْأَرْضِ بِالْكَلِمَةِ النَّافِذَةِ وَالْجَاهِ الْعَرِيضِ، فَرَاعُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ بِشُكْرِ اللَّهِ تعالى وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، واحذورا نِقْمَةَ اللَّهِ إِنْ كَذَّبْتُمْ رَسُولَهُ ﴿فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا﴾ أَيْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ هَذِهِ الْجُنُودُ وَهَذِهِ الْعَسَاكِرُ وَلَا تَرُدُّ عَنَّا شَيْئًا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنَا بِسُوءٍ، ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ﴾ لِقَوْمِهِ رَادًّا عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ الْبَارُّ الراشد ﴿مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى﴾ أَيْ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُشِيرُ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا أَرَاهُ لِنَفْسِي، وَقَدْ كَذَبَ فِرْعَوْنُ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَحَقَّقُ صدق موسى عليه السلام فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض بصائر﴾، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾، فَقَوْلُهُ: ﴿مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى﴾ كَذَبَ فيه وافترى، وخان رعيته فَغَشَّهُمْ وَمَا نَصَحَهُمْ، وَكَذَا قَوْلُهُ: ﴿وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ أَيْ وَمَا أَدْعُوكُمْ إِلَّا إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالرُّشْدِ، وَقَدْ كَذَبَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ قَدْ أطاعوه واتبعوه، قال الله تبارك
242
وتعالى: ﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾، وقال جلَّت عظمته: ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وما هدى﴾. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ إِمَامٍ يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لِيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خمسمائة عام».
243
- ٣٠ - وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ
- ٣١ - مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ
- ٣٢ - وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ
- ٣٣ - يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
- ٣٤ - وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّآ جَآءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ
- ٣٥ - الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ (مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ) أَنَّهُ حَذَّرَ قَوْمَهُ بَأْسَ
اللَّهِ تعالى في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾ أَيِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، كَيْفَ حَلَّ بِهِمْ بَأْسُ اللَّهِ وَمَا رَدَّهُ عَنْهُمْ رَادٌّ وَلَا صَدَّهُ عَنْهُمْ صَادٌّ ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ﴾، أي إنما أهلكهم الله تعالى بذنوبهم وتكذبيهم رسله ومخالفتهم أمره، فأننفذ فيهم قدره، ثم قال: ﴿يا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ يَعْنِي يوم القيامة، وسمي بذلك لَمَّا جَاءَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ إِنَّ الْأَرْضَ إِذَا زُلْزِلَتْ وَانْشَقَّتْ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، وَمَاجَتْ وَارْتَجَّتْ، فَنَظَرَ النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ ذَهَبُوا هاربين ينادي بعضهم بعضاً، وقال الضحاك: بل ذلك إذا جيء بجنهم ذهب الناس هراباً منهم، فَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَتَرُدُّهُمْ إِلَى مَقَامِ الْمَحْشَرِ وَهُوَ قوله تعالى: ﴿والملك على أرجائها﴾، وقيل: لأن الميزان عنده ملك إذا وزن عمل العبد فرحج نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ، أَلَا قَدْ سَعِدَ فَلَانُ ابن فُلَانٌ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَإِنْ خَفَّ عَمَلُهُ نَادَى أَلَا قَدْ شَقِيَ فَلَانُ ابن فلان، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُنَادَاةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ ﴿أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وعدكم رَبُّكُمْ حَقّاً؟ قَالُواْ نعم﴾، وَمُنَادَاةُ أَهْلِ النَّارِ أَهْلَ الْجَنَّةِ ﴿أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين﴾، وَلِمُنَادَاةِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَأَهْلَ النَّارِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَاخْتَارَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ جَيِّدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾ أي ذاهبين هاربين، ﴿مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ أَيْ لا مَانِعٌ يَمْنَعُكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ أَيْ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ غَيْرُهُ، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ يَعْنِي أَهْلَ مِصْرَ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ
فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ قبل موسى عليه الصلاة
243
والسلام وهو (يوسف) عليه الصلاة والسلام كَانَ عَزِيزَ أَهْلِ مِصْرَ، وَكَانَ رَسُولًا يَدْعُو إلى الله تعالى أمته بالقسط، فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي، ولهذا قال تعالى: ﴿فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّآ جَآءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً﴾ أَيْ يَئِسْتُمْ فَقُلْتُمْ طَامِعِينَ ﴿لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً﴾ وَذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾ أي كحالكم هذا يكون حال من يضله الله لإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ أَيِ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَيُجَادِلُونَ الْحُجَجَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ مَعَهُمْ مِنَ اللَّهِ تعالى، فإن الله عزَّ وجلَّ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَقْتِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ أَيْ وَالْمُؤْمِنُونَ أَيْضًا يُبْغِضُونَ مَنْ تَكُونُ هَذِهِ صِفَتَهُ، فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يَعْرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، وَلِهَذَا قَالَ تبارك وتعالى: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ﴾ أي على اتباع الحق ﴿جَبَّارٍ﴾ قال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق، والله تعالى أعلم.
244
- ٣٦ - وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ
- ٣٧ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إله موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَعُتُوِّهُ، وَتَمَرُّدِهِ وَافْتِرَائِهِ فِي تكذيبه موسى عليه الصلاة والسلام، إِنَّهُ أَمَرَ وَزِيرَهُ ﴿هَامَانَ﴾ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ ﴿صَرْحاً﴾ وَهُوَ الْقَصْرُ الْعَالِي الْمُنِيفُ الشَّاهِقُ، وَكَانَ اتِّخَاذُهُ مِنَ الْآجُرِّ الْمَضْرُوبِ مِنَ الطِّينِ الْمَشْوِيِّ، كما قال تعالى: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لي صرحاً﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾ قَالَ سعيد بن جبير: أَبْوَابَ السَّمَاوَاتِ، وَقِيلَ: طُرُقَ السَّمَاوَاتِ ﴿فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً﴾، وَهَذَا مِنْ كفره وتمرده أنه كذب موسى عليه الصلاة والسلام فِي أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل﴾ أي بصنعه هَذَا الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُوهِمَ بِهِ الرَّعِيَّةَ، أَنَّهُ يَعْمَلُ شَيْئًا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى تَكْذِيبِ موسى عليه الصلاة والسلام، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ﴾ قال ابن عباس وَمُجَاهِدٌ: يَعْنِي إِلَّا فِي خَسَارٍ.
- ٣٨ - وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ
- ٣٩ - يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ
- ٤٠ - مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ
يَقُولُ الْمُؤْمِنُ لِقَوْمِهِ مِمَّنْ تَمَرَّدَ وَطَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى فَقَالَ لَهُمْ: ﴿يَا قَوْمِ اتبعونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ لَا كَمَا كَذَبَ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، ثُمَّ زَهَّدَهُمْ فِي الدُّنْيَا الَّتِي قَدْ آثَرُوهَا عَلَى الْأُخْرَى، وصدتهم عن التصديق برسول الله موسى عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ﴾ أَيْ قَلِيلَةٌ زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ عَنْ قَرِيبٍ تذهب وَتَضْمَحِلُّ، ﴿وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ أَيِ الدار التي
244
لا زوال وَلَا انْتِقَالَ مِنْهَا وَلَا ظَعْنَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، بَلْ إِمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا جَحِيمٌ، وَلِهَذَا قال جلت عظمته ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا﴾ أَيْ وَاحِدَةً مِثْلَهَا، ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أَيْ لَا يتقدر بجزاء، بل يثيبه الله عزَّ وجلَّ ثواباً كبيراً، لا نقضاء له ولا نفاذ.
245
- ٤١ - وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ
- ٤٢ - تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ
- ٤٣ - لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
- ٤٤ - فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
- ٤٥ - فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ
- ٤٦ - النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ
يَقُولُ لَهُمُ الْمُؤْمِنُ: مَا بَالِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَصْدِيقُ رسوله ﷺ الَّذِي بَعَثَهُ ﴿وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ أي على جَهْلٌ بِلَا دَلِيلٍ ﴿وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ﴾ أَيْ هُوَ فِي عِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ يَغْفِرُ ذنب من تاب إليه ﴿لاَ جرم أنَّ ما تدعونني إِلَيْهِ﴾ يقول: حقاً، قال ابن جَرِيرٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿لاَ جَرَمَ﴾: حَقًّا، وَقَالَ الضحاك ﴿لا جَرَمَ﴾: لا كذب، المعنى إنَّ الَّذِي تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ ﴿لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخرة﴾ قال مجاهد: الوثن ليس له شيء، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْوَثَنَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يُجِيبُ دَاعِيَهُ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ﴾ وقوله: ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لكم﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ﴾ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ﴿وَأَن الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أَيْ خَالِدِينَ فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عزَّ وجلَّ ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ﴾ أَيْ سَوْفَ تَعْلَمُونَ صِدْقَ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، وَنَصَحْتُكُمْ وَوَضَّحْتُ لَكُمْ، وَتَتَذَكَّرُونَهُ وَتَنْدَمُونَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُكُمُ النَّدَمُ ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾ أَيْ وَأَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأُقَاطِعُكُمْ وَأُبَاعِدُكُمْ، ﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بالعباد﴾ أي هو بصير بهم تعالى وتقدس، فَيَهْدِي مَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ، وَيُضِلُّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِضْلَالَ، وَلَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحِكْمَةُ التَّامَّةُ، وَالْقَدَرُ النافذ.
وقوله تبارك وتعالى: ﴿فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَنَجَّاهُ اللَّهُ تعالى مع موسى عليه الصلاة والسلام، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِالْجَنَّةِ، ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ وَهُوَ الْغَرَقُ فِي الْيَمِّ ثُمَّ النَّقْلَةُ مِنْهُ إِلَى الْجَحِيمِ، فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ تُعْرَضُ عَلَى النَّارِ صَبَاحًا وَمَسَاءً إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ اجْتَمَعَتْ أَرْوَاحُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ فِي النَّارِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ أَيْ أَشَدَّهُ أَلَمًا وَأَعْظَمَهُ نَكَالًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي اسْتِدْلَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى عَذَابِ الْبَرْزَخِ في القبور، وهي قوله تعالى:
245
﴿النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾. وقد روي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَهِيَ تَقُولُ: أَشَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ؟ فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «إِنَّمَا يُفْتَنُ يَهُودُ»، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ألا إنكم تفتنون في القبور»، قالت عائشة رضي الله عنها: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد، يستعيذ من عذاب القبر (أخرجه مسلم والإمام أحمد). وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ يَهُودِيَّةً دخلت عليها فقالت: نعوذ بالله من عذاب القبر، فسألت عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن عذاب القبر، فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم عذاب القبر حق» قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله بعدُ صلَّى صَلَاةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القبر (أخرجه البخاري في صحيحه). وَأَحَادِيثُ عَذَابِ الْقَبْرِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾: صَبَاحًا وَمَسَاءً مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، يُقَالُ لَهُمْ: يَا آلَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ، تَوْبِيخًا وَنِقْمَةً وَصَغَارًا لَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هم فيها يُغْدى بِهِمْ وَيُرَاحُ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وقال ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طيور خُضْرٍ تَسْرَحُ بِهِمْ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءُوا، وَإِنَّ أَرْوَاحَ وِلْدَانِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْوَافِ عَصَافِيرَ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، فَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ فِي الْعَرْشِ، وَإِنَّ أَرْوَاحَ آلِ فرعون في أجواف طيور سُودٍ تَغْدُو عَلَى جَهَنَّمَ وَتَرُوحُ عَلَيْهَا، فَذَلِكَ عرضها (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً)، وفي حديث الإسراء، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: «ثُمَّ انْطُلِقَ بِي إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، رِجَالٌ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ، مُصَفَّدُونَ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَآلُ فِرْعَوْنَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ وَآلُ فِرْعَوْنَ كَالْإِبِلِ المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون»، وروى ابن أبي حاتم، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا أَحْسَنَ مُحْسِنٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ إِلَّا أَثَابَهُ اللَّهُ تعالى قَالَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا إِثَابَةُ الْكَافِرِ؟ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ رَحِمًا أَوْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَوْ عَمِلَ حَسَنَةً أَثَابَهُ الله تبارك وتعالى الْمَالَ وَالْوَلَدَ وَالصِّحَّةَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ». قُلْنَا: فَمَا إثابته في الآخرة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «عَذَابًا دُونَ الْعَذَابِ»، وَقَرَأَ: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم والبزار). وعن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يبعثك الله عزَّ وجلَّ إليه يوم القيامة» (أخرجه الشيخان والإمام أحمد).
246
- ٤٧ - وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ
- ٤٨ - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ
- ٤٩ - وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا
246
رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ
- ٥٠ - قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُوا وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تحاجِّ أَهْلِ النَّارِ وَتَخَاصُمِهِمْ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مَنْ جُمْلَتِهِمْ ﴿فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ﴾ وَهُمُ الْأَتْبَاعُ ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ وَهُمُ الْقَادَةُ وَالسَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ ﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً﴾ أَيْ أَطَعْنَاكُمْ فِيمَا دَعَوْتُمُونَا إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ﴾ أَيْ قِسْطًا تَتَحَمَّلُونَهُ عَنَّا ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ﴾ أَيْ لَا نَتَحَمَّلُ عَنْكُمْ شَيْئًا كَفَى بِنَا مَا عِنْدَنَا وَمَا حَمَلْنَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ حكم بين العباد﴾ أي فقسم بَيْنَنَا الْعَذَابَ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنَّا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ﴾، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ﴾ لَمَّا علموا أن الله عزَّ وجلَّ لَا يَسْتَجِيبُ مِنْهُمْ، وَلَا يَسْتَمِعُ لِدُعَائِهِمْ، بَلْ قد قَالَ: ﴿اخسئوا فِيهَا وَلاَ تكلمون﴾ سألوا الخزنة وهم كالسجَّانين لأهل النار أن يدعوا لهم الله تعالى في أَنْ يُخَفِّفَ عَنِ الْكَافِرِينَ وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا مِنَ الْعَذَابِ فَقَالَتْ لَهُمُ الْخَزَنَةُ رَادِّينَ عَلَيْهِمْ: ﴿أَوَلَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات﴾
؟ أي أو ما قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَجُ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ؟ ﴿قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُوا﴾ أَيْ أَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَنَحْنُ لَا نَدْعُو لَكُمْ وَلَا نَسْمَعُ منكم، ثم نخبركم أنه لَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْكُمْ، وَلِهَذَا قَالُوا ﴿وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ أي لا يقبل ولا يستجاب.
247
- ٥١ - إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ
- ٥٢ - يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
- ٥٣ - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ
- ٥٤ - هُدًى وَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ
- ٥٥ - فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ
- ٥٦ - إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير
قَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسلام قتله قومه كيحيى وزكريا وشعيا، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِمَّا مُهَاجِراً إِلَى الله كَإِبْرَاهِيمَ، وَإِمَّا إِلَى السَّمَاءِ كَعِيسَى، فَأَيْنَ النُّصْرَةُ في الدنيا؟ أجاب ابن جرير على ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ خَرَجَ عاماً، والمراد به البعض، وَهَذَا سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ. (الثَّانِي) أَنْ يَكُونَ المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم، كما فعل بقتلة يحيى وزكريا، سُلِّطَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مَنْ أَهَانَهُمْ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ النُّمْرُوذَ أَخَذَهُ اللَّهُ تعالى أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ رَامُوا صَلْبَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْيَهُودِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ تعالى عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم، وهذه نصرة عظيمة، وسنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر، أَنَّهُ يَنْصُرُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَيُقِرُّ أعينهم ممن آذاهم، ولهذا أهلك الله عزَّ وجلَّ قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ، وَقَوْمَ لُوطٍ وَأَهْلَ مَدْيَنَ وَأَشْبَاهَهُمْ وَأَضْرَابَهُمْ مِمَّنْ كَذَّبَ الرسل وخالف الحق، وأنجى الله تعالى من بينهم
247
الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَعَذَّبَ الْكَافِرِينَ فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدًا، قَالَ السُّدِّيُّ: "لَمْ يبعث الله عزَّ وجلَّ رَسُولًا قَطُّ إِلَى قَوْمٍ فَيَقْتُلُونَهُ أَوْ قَوْمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُونَ إِلَى الْحَقِّ فَيُقْتَلُونَ، فَيَذْهَبُ ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لَهُمْ مَنْ يَنْصُرُهُمْ، فَيَطْلُبُ بِدِمَائِهِمْ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَالَ: فَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ يُقْتَلُونَ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ مَنْصُورُونَ فِيهَا"، وهكذا نصر الله نبيه محمداً ﷺ فَجَعَلَ كَلِمَتَهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَدِينَهُ هُوَ الظَّاهِرَ على سائر الأديان، وأمره بالهجرة إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَجَعَلَ لَهُ فِيهَا أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا، ثُمَّ مَنَحَهُ أَكْتَافَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فنصره عليهم وخذلهم وقتل صناديدهم، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ فَتَحَ عَلَيْهِ مَكَّةَ، فقرت عينه ببلده المشرف المعظم، وَفَتَحَ لَهُ الْيَمَنَ، وَدَانَتْ لَهُ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ بِكَمَالِهَا، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، ثم قبضه الله تعالى إليه فأقام الله تبارك وتعالى أَصْحَابَهُ خُلَفَاءَ بَعْدَهُ، فَبَلَّغُوا عَنْهُ دِينَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، حَتَّى انْتَشَرَتِ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، ثُمَّ لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا مَنْصُورًا ظَاهِرًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَكُونُ النُّصْرَةُ أَعْظَمَ وَأَكْبَرَ وَأَجَلَّ، قَالَ مجاهد: الأشهاد الملائكة ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ﴾ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ ﴿مَعْذِرَتُهُمْ﴾ أَيْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ عُذْرٌ وَلَا فِدْيَةٌ ﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ أَيِ الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ مِنَ الرَّحْمَةِ، ﴿ولهم سوء الدار﴾ وهي النار، قال السدي: بئس المنزل والمقيل، وقال ابن عباس: أي سوء العاقبة.
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى﴾ وَهُوَ مَا بَعَثَهُ الله عزَّ وجلَّ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ، ﴿وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكتاب﴾ أي جعلنا لهم العاقبة، وأورثناهم ملك فرعون، وَفِي الْكِتَابِ الَّذِي أُورِثُوهُ وَهُوَ التَّوْرَاةُ ﴿هُدًى وَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ﴾ وَهِيَ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ السَّلِيمَةُ، وقوله عزَّ وجلَّ ﴿فَاصْبِرْ﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حق﴾ أَيْ وَعَدْنَاكَ أَنَّا سَنُعْلِي كَلِمَتَكَ، وَنَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فيه ولا شك، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ هَذَا تَهْيِيجٌ لِلْأُمَّةِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ، ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ﴾ أَيْ فِي أَوَاخِرِ النَّهَارِ وَأَوَائِلِ اللَّيْلِ ﴿وَالْإِبْكَارِ﴾ وَهِيَ أَوَائِلُ النَّهَارِ وأواخر الليل. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ أَيْ يَدْفَعُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيَرُدُّونَ الْحُجَجَ الصَّحِيحَةَ بِالشُّبَهِ الْفَاسِدَةِ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا حُجَّةٍ مِنَ اللَّهِ، ﴿إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ﴾ أَيْ مَا فِي صُدُورِهِم إِلَّا كِبَرٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَاحْتِقَارٌ لِمَنْ جَاءَهُمْ بِهِ، وَلَيْسَ مَا يَرُومُونَهُ - مِنْ إخماد الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ الْبَاطِلِ - بِحَاصِلٍ لَهُمْ، بَلِ الْحَقُّ هُوَ الْمَرْفُوعُ، وَقَوْلُهُمْ وَقَصْدُهُمْ هُوَ الْمَوْضُوعُ ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ أَيْ مِنْ حَالِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، أَوْ مِنْ شَرِّ مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، هذا تفسير ابن جرير.
248
- ٥٧ - لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
- ٥٨ - وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ
- ٥٩ - إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِ يسير لديه، بأنه خلق السماوات والأرض،
248
وَخَلْقُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ بَدْأَةً وَإِعَادَةً، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا دُونَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قدير﴾، وقال ههنا: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ فَلِهَذَا لَا يَتَدَبَّرُونَ هَذِهِ الْحُجَّةَ وَلَا يَتَأَمَّلُونَهَا، كَمَا كَانَ كثير من العرب يعترفون بأن الله تعالى خلق السماوات وَالْأَرْضَ وَيُنْكِرُونَ الْمَعَادَ اسْتِبْعَادًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِمَا هُوَ أَوْلَى مِمَّا أَنْكَرُوا، ثُمَّ قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ولا المسيء قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ﴾ أَيْ كَمَا لَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ شَيْئًا، وَالْبَصِيرُ الَّذِي يَرَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ، بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ، كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُونَ الْأَبْرَارُ، وَالْكَفَرَةُ الْفُجَّارُ ﴿قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ﴾ أَيْ مَا أَقَلَّ مَا يَتَذَكَّرُ كثير من الناس، ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ﴾ أَيْ لَكَائِنَةٌ وَوَاقِعَةٌ، ﴿لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِهَا بَلْ يُكَذِّبُونَ بِوُجُودِهَا.
249
- ٦٠ - وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ
هَذَا مِنْ فَضْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَرَمِهِ، أَنَّهُ نَدَبَ عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة، قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ ثَلَاثًا لم تعطهن أمة قبلها إِلَّا نَبِيٌّ: كَانَ إِذَا أَرْسَلَ اللَّهُ نَبِيًّا قال له: أنت شاهد على أمتك، وجعلكم شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: لَيْسَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَقَالَ لِهَذِهِ الأمة: ﴿وما جعلكم عَلَيْكُمْ فِي الدين من حرج﴾ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ، وَقَالَ لهذه الأمة: ﴿ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، وروى الإمام أحمد، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين﴾ (رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح)، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ غَضِبَ عليه» (أخرجه الإمام أحمد، قال ابن كثير: إسناده لا بأس به)، وروى الحافظ الرامهرمزي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَجَدْنَا فِي ذُؤَابَةِ سَيْفِهِ كِتَابًا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، سَمِعْتُ رسول الله ﷺ يقول: «إن لربكم في بقية أيام دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّ دَعْوَةً أَنْ توافق رحمة فيسعد صَاحِبُهَا سَعَادَةً لَا يَخْسَرُ بَعْدَهَا أَبَدًا»، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ أَيْ عَنْ دُعَائِي وَتَوْحِيدِي، ﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ أَيْ صَاغِرِينَ حقيرين، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يحشر المتكبرون يوم القيامة مثال الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ، حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ (بُولَسُ) تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةِ أهل النار» (أخرجه الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده مرفوعاً). وقال وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ قَالَ: كُنْتُ أَسِيرُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَرْضِ الرُّومِ، فَسَمِعْتُ هَاتِفًا مِنْ فَوْقِ رَأْسِ جَبَلٍ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ عَجِبْتُ لِمَنْ عَرَفَكَ كَيْفَ يَرْجُو أَحَدًا غَيْرَكَ، يَا رَبِّ عَجِبْتُ لِمَنْ عَرَفَكَ كَيْفَ يَطْلُبُ حَوَائِجَهُ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِكَ، قَالَ: ثُمَّ عَادَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: يَا رَبِّ عَجِبْتُ لِمَنْ عَرَفَكَ كَيْفَ يَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ
249
من سخطك يرضي غيرك، قَالَ، فَنَادَيْتُهُ: أَجِنِّيٌّ أَنْتَ أَمْ إِنْسِيٌّ؟ قَالَ: بل إنسي، اشغل نفسك مما يعنيك عما لا يعنيك (رواه ابن أبي حاتم) وفي الحديث: «من لم يسأل الله يغضب عليه» (أخرجه أحمد والبزار).
250
- ٦١ - اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ - ٦٢ - ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
- ٦٣ - كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
- ٦٤ - اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
- ٦٥ - هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى خَلْقِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ اللَّيْلِ الذي يسكنون فيه، ويستريحون فيه مِنْ حَرَكَاتِ تَرَدُّدِهِمْ فِي الْمَعَايِشِ بِالنَّهَارِ وَجَعَلَ النَّهَارَ مُبْصِراً، أَيْ مُضِيئًا لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِالْأَسْفَارِ، وقطع الأقطار، والتكمن مِنَ الصِّنَاعَاتِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ أَيْ لَا يَقُومُونَ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قال عزَّ وجلَّ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أَيِ الَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الأشياء هو الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، خَالِقُ الْأَشْيَاءِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ أَيْ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَخْلُقُ شَيْئًا بَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ مَنْحُوتَةٌ! وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: ﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ أَيْ كَمَا ضَلَّ هَؤُلَاءِ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، كَذَلِكَ أُفِكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَعَبَدُوا غَيْرَهُ، بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ الْجَهْلِ والهوى، وجحدوا حجج الله وآياته، وقوله تَعَالَى: ﴿آللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾ أَيْ جعلها لكم مستقراً، تَعِيشُونَ عَلَيْهَا وَتَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَتَمْشُونَ فِي مَنَاكِبِهَا، ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَآءً﴾ أَيْ سَقْفًا لِلْعَالَمِ مَحْفُوظًا، ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ أَيْ فَخَلَقَكُمْ فِي أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ، وَمَنَحَكُمْ أَكْمَلَ الصُّوَرِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ﴿وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ أَيْ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ فِي الدُّنْيَا، فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الدَّارَ وَالسُّكَّانَ وَالْأَرْزَاقَ، فهو الخالق الرزّاق، كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَآءً، وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. وقال تعالى ههنا بَعْدَ خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ فَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ وتنزه رَّبِّ العالمين، ثم قال تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ أَيْ هو الحي أولاً وأبداً، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا عَدِيلَ لَهُ ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أَيْ موحدين له مقرنين بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَلْيَقُلْ عَلَى أَثَرِهَا الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ (رواه ابن جرير).
- ٦٦ - قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
- ٦٧ - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
- ٦٨ - هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ الله عزَّ وجلَّ يَنْهَى أَنْ يُعْبَدَ أَحَدٌ سِوَاهُ مِنَ الْأَصْنَامِ والأنداد والأوثان، وقد بيَّن تبارك وتعالى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ سِوَاهُ فِي قوله جلت عظمته: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ، ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً﴾ أَيْ هُوَ الَّذِي يُقَلِّبُكُمْ فِي هَذِهِ الْأَطْوَارِ كُلِّهَا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَنْ أَمْرِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ يَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ، ﴿وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ﴾ أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوجَدَ وَيَخْرُجَ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ، بَلْ تُسْقِطُهُ أُمُّهُ سَقْطًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُتَوَفَّى صَغِيرًا وَشَابًّا وَكَهْلًا قبل الشيخوخة، كقوله تعالى: ﴿لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مسمى﴾، وقال عزَّ وجلَّ ههنا: ﴿ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: تَتَذَكَّرُونَ الْبَعْثَ، ثم قال تعالى: ﴿هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي هو التفرد بِذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، ﴿فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أَيْ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ بَلْ مَا شَاءَ كَانَ لَا مَحَالَةَ.
- ٦٩ - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ
- ٧٠ - الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
- ٧١ - إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ
- ٧٢ - فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ
- ٧٣ - ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ
- ٧٤ - مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ
- ٧٥ - ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ
- ٧٦ - ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: إِلاَّ تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بآيات الله، ويجادلون في الحق بالباطل، كَيْفَ تُصْرَفُ عُقُولُهُمْ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ؟ ﴿الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا﴾ أَيْ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، مِنَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ لِهَؤُلَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ﴾ أَيْ مُتَّصِلَةٌ بالأغلال بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوهم تارة إلى الححيم، وتارة إلى الجحيم، ولهذا قال تعالى: ﴿يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ، ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾، كما قال تبارك وتعالى: ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾، وقال تَعَالَى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ﴾، وقال عزَّ وجلَّ: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ
251
الحميم، ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ والتوبيخ، والتهكم والاستهزاء بهم، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾؟ أَيْ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ الْأَصْنَامُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ الْيَوْمَ؟ ﴿قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا﴾ أَيْ ذهبوا فلم ينفعونا، ﴿بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً﴾ أَيْ جَحَدُوا عِبَادَتَهُمْ، كَقَوْلِهِ جلَّت عظمته: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ جَزَاءٌ عَلَى فَرَحِكُمْ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَمَرَحِكُمْ وَأَشَرِكُمْ وَبَطَرِكُمْ، ﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾، أَيْ فَبِئْسَ الْمَنْزِلُ وَالْمَقِيلُ الَّذِي فِيهِ الْهَوَانُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ، لِمَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ، واتباع دلائله وحججه، والله أعلم.
252
- ٧٧ - فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
- ٧٨ - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى تكذيب من كذبه من قومه، ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ أَيْ فِي الدنيا وكذلك وقع، فإن الله تعالى أقر عينه يَوْمِ بَدْرٍ ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وسائر جزيرة العرب في حياته صلى الله عليه وسلم، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ أَيْ فَنُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشديد في الآخرة، ثم قال تعالى مُسَلِّيًا لَهُ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً
مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ﴾
أَيْ مِنْهُمْ مَنْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ خَبَرَهُمْ وَقِصَصَهُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ كَيْفَ كَذَّبُوهُمْ، ثُمَّ كَانَتْ لِلرُّسُلِ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ ذَكَرَ بِأَضْعَافِ أَضْعَافٍ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ولله الحمد والمنة، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أَيْ وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن يَأْتِيَ قَوْمَهُ بِخَارِقٍ لِلْعَادَاتِ إِلَّا أَن يَأْذَنَ الله فِي ذَلِكَ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، ﴿فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ وَهُوَ عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين، ﴿قُضِيَ بالحق﴾ فينجي المؤمنين ويهلك الكافرين، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾.
- ٧٩ - اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
- ٨٠ - وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
- ٨١ - وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يأكلون، فَالْإِبِلُ تُرْكَبُ وَتُؤْكَلُ وَتُحْلَبُ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَثْقَالُ فِي الْأَسْفَارِ وَالرِّحَالِ، إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ وَالْأَقْطَارِ الشَّاسِعَةِ، وَالْبَقَرُ تُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا وَتُحْرَثُ عَلَيْهَا الْأَرْضُ، وَالْغَنَمُ تُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا، وَالْجَمِيعُ تُجَزُّ أَصْوَافُهَا وَأَشْعَارُهَا وَأَوْبَارُهَا فَيُتَّخَذُ مِنْهَا الْأَثَاثُ وَالثِّيَابُ والأمتعة ولذا قال عزَّ وجلَّ: ﴿لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ﴾، وقوله جلَّ وعلا: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ أَيْ حُجَجَهُ -[٢٥٣]- وَبَرَاهِينَهُ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِكُمْ ﴿فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ﴾؟ أَيْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى إِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْ آيَاتِهِ إِلَّا أَنْ تُعَانِدُوا وَتُكَابِرُوا.
- ٨٢ - أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
- ٨٣ - فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- ٨٤ - فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ
- ٨٥ - فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِالرُّسُلِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ، وَمَاذَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ مَعَ شِدَّةِ قُوَاهُمْ، وَمَا أَثَّرُوهُ فِي الْأَرْضِ وَجَمَعُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا رَدَّ عَنْهُمْ ذَرَّةً مِنْ بَأْسِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالْبَيِّنَاتِ، وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ، وَالْبَرَاهِينِ الدَّامِغَاتِ، لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ وَلَا أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِي زَعْمِهِمْ عَمَّا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَرِحُوا بِمَا عندهم من العلم بحالتهم، فأتاهم من بأس الله تعالى مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، ﴿وَحَاقَ بِهِم﴾ أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ، ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أَيْ يُكَذِّبُونَ وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، ﴿فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ أَيْ عَايَنُوا وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ، ﴿قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ أي وحدوا الله عزَّ وجلَّ وَكَفَرُوا بِالطَّاغُوتِ وَلَكِنْ حَيْثُ لَا تُقَالُ الْعَثَرَاتُ، وَلَا تَنْفَعُ الْمَعْذِرَةُ، وَهَذَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ حين أدرك الْغَرَقُ ﴿آمَنتُ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
فَلَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لنبيّه موسى عليه السلام، وهكذا قال تعالى ههنا: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ أَيْ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي جَمِيعِ مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، ولهذا جاء في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لم يغرغر»، ولهذا قال تعالى: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون﴾.
253
- ٤١ - سورة فصلت
254
Icon