ﰡ
أكثر أهل العلم، على أن المراد بالذاريات الرياح. وهو الحق إن شاء الله، ويدل عليه أن الذرو صفة مشهورة من صفات الرياح.
ومنه قوله تعالى ﴿ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ ﴾ [ الكهف : ٤٥ ]، ومعنى تذروه : ترفعه وتفرقه، فهي تذرو التراب والمطر وغيرهما، ومنه قول ذي الرمة :
ومنهل آجن قفر محاضره | تذرو الرياح على جماته البعرا |
ويدل لهذا القول تصريح الله جل وعلا بوصف السحاب بالثقال، وهو جمع ثقيلة، وذلك لثقل السحابة بوقر الماء الذي تحمله كقوله تعالى :﴿ وينشئ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾ [ الرعد : ١٢ ]، وهو جمع سحابة ثقيلة، وقوله تعالى ﴿ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ].
وقال بعضهم : المراد بالحاملات وقراً : السفن تحمل الأثقال من الناس وأمتعتهم، ولو قال قائل : إن الحاملات وقراً الرياح أيضاً كان وجهه ظاهراً.
ودلالة بعض الآيات عليه واضحة، لأن الله تعالى صرح بأن الرياح تحمل السحاب الثقال بالماء، وإذا كانت الرياح هي التي تحمل السحاب إلى حيث شاء الله، فنسبة حمل ذلك الوقر إليها أظهر من نسبته إلى السحاب التي هي محمولة للرياح، وذلك في قوله تعالى ﴿ وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يدي رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ] الآية.
فقوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً ﴾ : أي حتى إذا حملت الرياح سحاباً ثقالاً، فالإقلال الحمل، وهو مسند إلى الريح. ودلالة هذا على أن الحاملات وقراً هي الرياح ظاهرة كما ترى، ويصح شمول الآية لجميع ذلك.
وقد قدمنا مراراً أنه هو الأجود في مثل ذلك، وبينا كلام أهل الأصول فيه، وكلامهم في حمل المشترك على معنييه أو معانيه، في أول سورة النور وغيرها.
والقول بأن الحاملات وقراً : هي حوامل الأجنة من الإناث، ظاهر السقوط.
والأظهر أن هذا المصدر المنكر حال كما قدمنا نحوه مراراً : أي فالجاريات في حال كونها ميسرة مسخراً لها البحر، ويدل لهذا القول كثرة إطلاق الوصف بالجري على السفن كقوله تعالى :﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ الْجَوَارِ في الْبَحْرِ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ في الْجَارِيَةِ ﴾ [ الحاقة : ١١ ]، وقوله تعالى :﴿ وَالْفُلْكَ تَجْرِى في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ﴾ [ الحج : ٦٥ ] وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ الذي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ﴾ [ الجاثية : ١٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقيل الجاريات الرياح. وقيل غير ذلك.
والتحقيق أن قوله : أمراً مفعول به للوصف الذي هو المقسمات، وهو مفرد أريد به الجمع.
وقد أوضحنا أمثلة ذلك في القرآن العظيم، وفي كلام العرب مع تنكير المفرد كما هنا، وتعريفه وإضافته في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ﴾ [ الحج : ٥ ]، والمقسم عليه بهذه الأقسام هو قوله :﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِق ٌوَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ﴾ [ الذاريات : ٥ -٦ ]، والموجب لهذا التوكيد هو شدة إنكار الكفار للبعث والجزاء.
وقال بعض العلماء : ما، مصدرية، أي إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق.
وقال بعضهم : إن صيغة اسم الفاعل في لصادق بمعنى اسم المفعول. أي إن الوعد أو الموعود به لمصدوق فيه لا مكذوب به، ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ في عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٢١ ] أي مرضية.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من صدق ما يوعدونه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [ آل عمران : ٩ ]. وقوله :﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ ﴾ [ الأنعام : ١٣٤ ]. وقوله تعالى :﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [ الواقعة : ٢ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقد نزه الله نفسه عن كونه خلق الخلق لا لبعث وجزاء، وبين أن ذلك ظن الكفار، وهددهم على ذلك الظن السيئ بالويل من النار، قال تعالى منكراً على من ظن عدم البعث والجزاء، ومنزهاً نفسه عن أنه خلقهم عبثاً لا لبعث وجزاء :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون َفَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ -١١٦ ]. وقال تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ﴾ [ ص : ٢٧ ]، في قوله في آية في ص هذه : باطلاً أي عبثاً لا لبعث وجزاء.
قوله تعالى :﴿ ذَاتِ الْحُبُكِ ﴾ فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً، فذهب بعض أهل العلم، إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك، وعليه فالمعنى ذات الحبك أي ذات الطرائق، فما يبدو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح هو الحبك، وهو جمع حبيكة أو حباك، قالوا : ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك، ومن هذا المعنى قول زهير :
مكلل بأصول النجم تنسجه *** ريح خريق بضاحي مائة حبك
وقول الراجز :
كأنما جللها الحواك *** طنفسة في وشيها حباك
وممن نقل عنه هذا القول الكلبي والضحاك.
وقال بعض أهل العلم : ذات الحبك أي ذات الخلق الحسن المحكم، وممن قال به ابن عباس وعكرمة وقتادة.
وهذا الوجه يدل عليه قوله تعالى :﴿ الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى في خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور ٍثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [ الملك : ٣ -٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا القول فالحبك مصدر، لأن كل عمل أتقنه عامله وأحسن صنعه، تقول فيه العرب : حبكه حبكاً بالفتح على القياس. والحبك بضمتين بمعناه.
وقال بعض العلماء : ذات الحبك : أي الزينة.
وممن روي عنه هذا سعيد بن جبير والحسن، وعلى هذا القول، فالآية كقوله :﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ﴾ [ الملك : ٥ ] الآية، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في ق في الكلام على قوله :﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ﴾[ ق : ٦ ].
وقال بعض العلماء : ذات الحبك أي ذات الشدة، وهذا القول يدل له قوله تعالى :﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ﴾ [ النبأ : ١٢ ].
والعرب تسمى شدة الخلق حبكاً، ومنه قيل للفرس الشديد الخلق : محبوك.
ومنه قول امرئ القيس.
قد غدا يحملني في أنفه *** لاحق الأطلين محبوك ممر
ويدل على أن الاختلاف إنما هو بين المكذبين دون المصدقين. قوله تعالى في ق ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾ [ ق : ٥ ] أي مختلط. وقال بعضهم : مختلف، والمعنى واحد.
ومن أوضح الأدلة على كذب القول وبطلانه اختلافه وتناقضه كما لا يخفى، فهذا القول المختلف الذي يحاول كفار مكة أن يصدوا به الناس عن الإسلام، الذي يقول فيه بعضهم : إن الرسول ساحر، وبعضهم يقول شاعر، وبعضهم يقول : كذاب. ظاهر البطلان لتناقضه وتكذيب بعضه لبعض، فلا يصرف عن الإسلام بسببه إلا من صرف، أي صرفه الله عن الحق لشقاوته في الأزل فمن لم يكتب عليه في سابق علم الله الشقاوة والكفر لا يصرفه عن الحق قول ظاهر الكذب والبطلان لتناقضه.
وهذا المعنى جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ﴾ [ الصافات : ١٦١-١٦٣ ].
ومعنى هذه الآية أن دين الكفار، الذي هو الشرك بالله وعبادة الأوثان، مع حرصهم على صد الناس عن دين الإسلام إليه ما هم بفاتنين، أي ليسوا بمضلين عليه أحداً لظهور فساده وبطلانه إلا من هو صال الجحيم، أي إلا من قدر الله عليه الشقاوة وأنه من أهل النار في سابق علمه، هذا هو الظاهر لنا في معنى هذه الآية الكريمة.
وأكثر المفسرين على أن الضمير في قوله :﴿ يُؤْفَكُ عَنْهُ ﴾ راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن، أي يصرف عن الإيمان بالنبي أو القرآن، من أفك أي صرف عن الحق، وحرم الهدي لشدة ظهور الحق في صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن منزل من الله، وهذا خلاف ظاهر السياق كما ترى.
وقول من قال : يؤفك عنه. أي يصرف عن القول المختلف الباطل من أفك، أي من صرف عن الباطل إلى الحق لا يخفى بعده وسقوطه.
والذين قالوا : هذا القول يزعمون أن الإفك يطلق على الصرف عن الحق إلى الباطل، وعن الباطل إلى الحق، ويبعد هذا أن القرآن لم يرد فيه الإفك مراد به إلا الصرف عن الخير إلى الشر دون عكسه.
لا يخفى على من عنده علم بأصول الفقه أن هذه الآية الكريمة فيها الدلالة المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإيماء والتنبيه على أن سبب نيل هذه الجنات والعيون هو تقوى الله والسبب الشرعي هو العلة الشرعية على الأصح، وكون التقوى سبب دخول الجنات الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٣ ] وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ النحل : ٣١ ].
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الجاثية.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الجاثية.
اختلف العلماء في المراد بكون رزق الناس في السماء، فذهبت جماعة من أهل العلم، أن المراد أن جميع أرزاقهم منشؤها من المطر وهو نازل من السماء، ويكثر في القرآن إطلاق اسم الرزق على المطر، لهذا المعنى كقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً ﴾ [ غافر : ١٣ ]. وقوله تعالى :﴿ وَاخْتِلَافِ الليل وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ ﴾ الجاثية ٥ ] الآية.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة المؤمن.
وإنزاله تعالى الرزق من السماء بإنزال المطر من أعظم آياته الدالة على عظمته وأنه المعبود وحده، ومن أعظم نعمه على خلقه في الدنيا، ولذلك كثر الامتنان به في القرآن على الخلق.
وقال بعض أهل العلم : معنى قوله :﴿ وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ ﴾ أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة، والله جل وعلا يدبر أمر الأرض من السماء، كما قال تعالى :﴿ يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ﴾ [ السجدة : ٥ ] الآية : قوله تعالى :﴿ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾، ما، في محل رفع عطف على قوله :﴿ رِزْقُكُمْ ﴾، والمراد بما يوعدون، قال بعض أهل العلم : الجنة، لأن الجنة فوق السماوات، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح، لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك كما قيل :
وقد يسمى سماء كل مرتفع | وإنما الفضل حيث الشمس والقمر |
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا | وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا |
وقال بعض أهل العلم : وما توعدون من الخير والشر كله مقدر في السماء، كما بيناه في القول الثاني في المراد بالرزق في الآية، وهذا المعنى فيما يوعدون به أنسب لهذا القول الثاني في معنى الرزق.
وقد وردت قصص تدل على أنه هو الذي يتبادر إلى ذهن السامع، فمن ذلك ما ذكره غير واحد عن سفيان الثوري أنه قال : قرأ واصل الأحدب هذه الآية ﴿ وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢٢ ] فقال : ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، فدخل خربة يمكث ثلاثاً لا يصيب شيئاً، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب، وكان له أخ أحسن منه نية، فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت.
ومن ذلك أيضاً : ما ذكره الزمخشري في تفسير هذه الآية قال : وعن الأصمعي قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له، فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع. قال : من أين قبلت ؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمان. فقال : اتل علي فتلوت : والذاريات فلما بلغت قوله تعالى :﴿ وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ ﴾ قال : حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل أصغر فسلم علي واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت ﴿ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢٣ ] فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤوه إلى اليمين، قائلاً ثلاثاً، وخرجت معها نفسه. انتهى.
إلى آخر القصة. قد قدمنا إيضاحه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الحجر : ٥١ ]. وفي سورة هود في القصة المذكورة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
إلى آخر القصة. قد قدمنا إيضاحه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الحجر : ٥١ ]. وفي سورة هود في القصة المذكورة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ [ الحجر : ٧٦ ]، وفي غير ذلك من المواضع.
قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ﴾ [ فصلت : ١٦ ] الآية.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ ﴾ [ فصلت : ١٧ ] الآية.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة ق في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ﴾ [ ق : ٦ ] الآية.
تنبيه
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ بَنَيْنَاهَا بِأَييدٍ ﴾، ليس من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم، لأن قوله ﴿ بِأَييدٍ ﴾ ليس جمع يد : وإنما الأيد القوة، فوزن قوله هنا بأيد فعل، ووزن الأيدي أفعل، فالهمزة في قوله :﴿ بِأَييدٍ ﴾ في مكان الفاء والياء في مكان العين، والدال في مكان اللام. ولو كان قوله تعالى :﴿ بِأَييدٍ ﴾ جمع يد لكان وزنه أفعلاً، فتكون الهمزة زائدة والياء في مكان الفاء، والدال في مكان العين والياء المحذوفة لكونه منقوصاً هي اللام.
والأيد، والآد في لغة العرب بمعنى القوة، ورجل أيد قوي، ومنه قوله تعالى ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ [ البقرة : ٨٧ و ٢٥٣ ] أي قويناه به، فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط فاحشاً، والمعنى : والسماء بنيناها بقوة.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما أتى نبي قوماً إلا قالوا ساحر أو مجنون،
وهذا يدل على أنهم إنما اتفقوا لأن قلوب بعضهم تشبه قلوب بعض في الكفر والطغيان، فتشابهت مقالاتهم للرسل لأجل تشابه قلوبهم.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة البقرة :﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ البقرة : ١١٨ ].
نفيه جل وعلا في هذه الآية الكريمة للوم عن نبيه صلى الله عليه وسلم، يدل على أنه أدى الأمانة ونصح للأمة.
وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نعمتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ﴾ [ المائدة : ٣ ]. وقوله تعالى :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [ الرعد : ٤٠ ]، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة معلومة.
قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يجعل الله شيئاً لحكم متعددة، فيذكر بعض حكمه في بعض المواضع، فإنا نذكر بقية حكمه، والآيات الدالة عليها، وقد قدمنا أمثلة ذلك.
ومن ذلك القبيل هذه الآية الكريمة، فإنها تضمنت واحدة من حكم التذكير وهي رجاء انتفاع المذكر به، لأن تعالى قال هنا :﴿ وَذَكِّرْ ﴾، ورتب عليه قوله :﴿ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
ومن حكم ذلك أيضاً خروج المذكر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد جمع الله هاتين الحكمتين في قوله ﴿ قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٦٤ ].
ومن حكم ذلك أيضاً النيابة عن الرسل في إقامة حجة الله على خلقه في أرضه لأن الله تعالى يقول ﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [ النساء : ١٦٥ ].
وقد بين هذه الحجة في آخر طه في قوله ﴿ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ ﴾ [ طه : ١٣٤ ] الآية.
وأشار لها في القصص في قوله ﴿ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ القصص : ٤٧ ].
وقد قدمنا هذه الحكم في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠٥ ].
اختلف العلماء في معنى قوله ﴿ لِيَعْبُدُونِ ﴾، فقال بعضهم المعنى ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [ الأنعام : ٨٩ ]، وهذا القول نقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان.
وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق فيها المجموع وأراد بعضهم.
وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، ومن أوضحها قراءة حمزة والكسائي : فإن قتلوكم فاقتلوهم، من القتل لا من القتال، وقد بينا هذا في مواضع متعددة، وذكرنا أن من شواهده العربية قول الشاعر :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به | نبا من يَدَيْ ورقاء عن رأس خالد |
وقد قدمنا في الحجرات أن من ذلك قوله تعالى ﴿ قَالَتِ الأعراب ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ﴾ [ الحجرات : ١٤ ] الآية بدليل قوله :﴿ وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر ﴾ إلى قوله ﴿ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : ٩٩ ].
وقال بعض العلماء : معنى قوله :﴿ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ : أي «إلا ليقروا لي بالعبودية طوعاً أو كرهاً »، لأن المؤمن يطيع باختياره والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبراً عليه، وهذا القول رواه ابن جرير عن ابن عباس واختاره، ويدل له قوله تعالى :﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّمَاوَاتِ والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾ [ الرعد : ١٥ ] الآية، والسجود والعبادة كلاهما خضوع وتذلل لله جل وعلا، وقد دلت الآية على أن بعضهم يفعل ذلك طوعاً وبعضهم يفعله كرهاً.
وعن مجاهد أنه قال :﴿ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ : أي إلا ليعرفوني. واستدل بعضهم لهذا القول بقوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ] ونحو ذلك من الآيات. وهو كثير في القرآن، وقد أوضحنا كثرته فيه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى ﴿ إِنَّ هذا الْقُرْءَانَ يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ].
وقال بعض أهل العلم : وهو مروي عن مجاهد أيضاً معنى قوله :﴿ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ : أي إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره، وعلى هذا القول : فإرادة عبادتهم المدلول عليها باللام في قوله :﴿ لِيَعْبُدُونِ ﴾ إرادة دينية شرعية وهي الملازمة للأمر، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل لطاعة الله لا إرادة كونية قدرية، لأنها لو كانت كذلك لعبده جميع الإنس والجن، والواقع خلاف ذلك بدليل قوله تعالى ﴿ قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ [ الكافرون : ١ -٣ ] إلى آخر السورة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية الكريمة ﴿ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾، أي إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم أي أختبرهم بالتكاليف ثم أجازيهم على أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية، لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملاً، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم.
قال تعالى في أول سورة هود :﴿ وَهُوَ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ ﴾ [ هود : ٧ ]، ثم بين الحكمة في ذلك فقال :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ هود : ٧ ].
وقال تعالى في أول سورة الملك :﴿ الذي خَلَقَ الْمَوْتَ والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ الملك : ٢ ].
وقال تعالى في أول سورة الكهف :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ الكهف : ٧ ] الآية.
فتصريحه جل وعلا في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق، هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، يفسر قوله ﴿ لِيَعْبُدُونِ ﴾. وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولاً وبعثهم ثانياً، هو جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وذلك في قوله تعالى في أول يونس :﴿ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٤ ]، وقوله في النجم :﴿ وَلِلَّهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرض لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ﴾ [ النجم : ٣١ ].
وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يترك سدى، أي مهملاً، لم يؤمر ولم ينه، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت أي ويجازيه على عمله، قال تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ﴾ إلى قوله ﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى ﴾ [ القيامة : ٣٦ -٤٠ ].
والبراهين على البعث دالة على الجزاء، وقد نزه تعالى نفسه عن هذا الظن الذي ظنه الكفار به تعالى، وهو أنه لا يبعث الخلق ولا يجازيهم منكراً ذلك عليهم في قوله :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ -١١٦ ].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى ﴾ [ الأحقاف : ٣ ].
تنبيه
اعلم أن الآيات الدالة على حكمة خلق الله للسماوات والأرض وأهلهما وما بينهما قد يظن غير المتأمل أن بينهما اختلافاً، والواقع خلاف ذلك. لأن كلام الله لا يخالف بعضه بعضاً، وإيضاح ذلك أن الله تبارك وتعالى ذكر في بعض الآيات أن حكمة خلقه للسماوات والأرض هي إعلام خلقه بأنه قادر على كل شيء، وأنه محيط بكل شيء علماً، وذلك في قوله تعالى في آخر الطلاق :﴿ اللَّهُ الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شيء عِلْمَا ﴾ [ الطلاق : ١٢ ].
وذكر في مواضع كثيرة من كتابه أنه خلق الخلق ليبين للناس كونه هو المعبود وحده، كقوله تعالى :﴿ وإلهكم إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ ﴾ [ البقرة : ١٦٣ ]، ثم أقام البرهان على أنه إله واحد بقوله بعده :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ إلى قوله ﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ]، ولما قال :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] بين أن خلقهم برهان على أنه المعبود وحده بقوله بعده :﴿ الذي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] الآية.
والاستدلال على أن المعبود واحد بكونه هو الخالق كثير جداً في القرآن، وقد أوضحنا الآيات الدالة عليه في أول سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرا ًوَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً ﴾ [ الفرقان : ٢ -٣ ] الآية، وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى ﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء ﴾ [ الرعد : ١٦ ] الآية، وفي غير ذلك من المواضع.
وذكر في بعض الآيات أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي الناس، وذلك في قوله :﴿ وَهُوَ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ هود : ٧ ].
وذكر في بعض الآيات أنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم وذلك في قوله :﴿ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ﴾ [ يونس : ٤ ] الآية، وذكر في آية الذاريات هذه أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، فقد يظن غير العالم أن بين هذه الآيات اختلافاً مع أنها لا اختلاف بينها، لأن الحكم المذكور فيها كلها راجع إلى شيء واحد، وهو معرفة الله وطاعته ومعرفة وعده ووعيده، فقوله :﴿ لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ﴾ [ الطلاق : ١٢ ] وقوله :﴿ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] راجع إلى شيء واحد هو العلم بالله، لأن من عرف الله أطاعه ووحده.
وهذا العلم يعلمهم الله إياه ويرسل لهم الرسل بمقتضاه ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حيي عن بينة، فالتكليف بعد العلم، والجزاء بعد التكليف، فظهر بهذا اتفاق الآيات لأن الجزاء لا بد له من تكليف، وهو الابتلاء المذكور في الآيات والتكليف لا بد له من علم، ولذا دل بعض الآيات على أن حكمة الخلق للمخلوقات هي العلم بالخالق، ودل بعضها على أنها الابتلاء، ودل بعضها على أنها الجزاء، وكل ذلك حق لا اختلاف فيه، وبعضه مرتب على بعض.
وقد بينا معنى ﴿ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة هود في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [ هود : ١١٩ ] وبينا هناك أن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله :﴿ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ أي ولأجل الاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم، وفي قوله :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] إرادة كونية قدرية، وأن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله :﴿ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾، إرادة دينية شرعية.
وبينا هناك أيضاً الأحاديث الدالة على أن الله خلق الخلق منقسماً إلى شقي وسعيد، وأنه كتب ذلك وقدره قبل أن يخلقهم. وقال تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾ [ التغابن : ٢ ] : وقال :﴿ فَرِيقٌ في الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ ﴾ [ الشورى : ٧ ].
والحاصل : أن الله دعا جميع الناس على ألسنة رسله إلى الإيمان به وعبادته وحده وأمرهم بذلك، وأمره بذلك مستلزم للإرادة الدينية الشرعية، ثم إن الله جل وعلا يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء ب
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾ [ الأنعام : ١٤ ].
أصل الذنوب في لغة العرب الدلو، وعادة العرب أنهم يقتسمون ماء الآبار والقلب بالدلو، فيأخذ هذا منه ملء دلو، ويأخذ الآخر كذلك، ومن هنا أطلقوا اسم الذنوب، التي هي الدلو على النصيب. قال الراجز في اقتسامهم الماء بالدلو :
لنا ذنوب ولكم ذنوب *** فإن أبيتم فلنا القليب
ويروى : إنا إذا شاربنا شريب *** له ذنوب ولنا ذنوب
* فإن أبى كان لنا القليب *
ومن إطلاق الذنوب على مطلق النصيب قول علقمة بن عبدة التميمي.
وقيل عبيد :
وفي كل حي قد خبطت بنعمة *** فحق لشأس من نداك ذنوب
وقول أبي ذؤيب :
لعمرك والمنايا طارقات *** لكل بني أب منها ذنوب
فالذنوب في البيتين النصيب، ومعنى الآية الكريمة، فإن للذين ظلموا بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ذنوباً، أي نصيباً من عذاب الله مثل ذنوب أصحابهم من الأمم الماضية من العذاب لما كذبوا رسلهم.
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هؤلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [ الزمر : ٥٠ -٥١ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ ﴾ قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ﴾ [ الرعد : ٦ ]. وفي سورة مريم في الكلام على قوله :﴿ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ﴾ [ مريم : ٨٤ ] وغير ذلك من المواضع.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار بالويل من يوم القيامة لما ينالهم فيه من عذاب النار، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى في ص ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ﴾ [ ص : ٢٧ ]. وقوله في إبراهيم ﴿ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢ ]. وقوله في المرسلات :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [ المرسلات : ١٥-١٩-٢٣-٢٤-٢٨-٣٤ -٣٧-٤٠-٤٥-٤٧-٤٩ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقد قدمنا أن كلمة ﴿ وَوَيْلٌ ﴾، قال فيها بعض أهل العلم : إنها مصدر لا فعل له من لفظه، ومعناه الهلاك الشديد، وقيل : هو واد في جهنم تستعيذ من حره، والذي سوغ الابتداء بهذه النكرة أن فيها معنى الدعاء.