ﰡ
قوله: «منه» متعلقٌ ب «حَرَجٌ». و «مِنْ» سببيَّة أي: حَرَجٌ بسببه تقول: حَرِجْتُ منه أي: ضِقْتُ بسببه، ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له أي: حرج كائن وصادر منه. والضمير في «منه» يجوز أن يعود على الكتاب
قوله: لتنذرَ به «في متعلَّق هذه اللامِ ثلاثةُ أوجه أحدها: أنها متعلقة ب» أُنْزِل «أي: أُنْزِلَ إليك للإِنذار، وهذا قول الفراء قال:» اللام في «لتنذرَ» منظوم بقوله «أُنْزِل» على التقديم والتأخير، على تقدير: كتابٌ أُنزل إليك لتنذرَ به فلا يكن «. وتبعه الزمخشري والحوفي وأبو البقاء. وعلى هذا تكونُ جملةُ النهي معترضةً بين العلة ومعلولها، وهو الذي عناه الفراء بقوله» على التقديم والتأخير «. والثاني: أن اللامَ متعلقةٌ بما تعلَّق [به] خبر الكون، إذ التقديرُ: فلا يكنْ حرجٌ مستقراً في صدرك لأجل الإِنذار. كذا قاله الشيخ عن ابن الأنباري، فإنه قال:» وقال ابن الأنباري: التقدير: «فلا يكنْ في صدرك حرجٌ منه كي تنذرَ به فَجَعَلَه متعلقاً بما تعلَّق به» في صدرك «، وكذا علَّقه به صاحب» النظم «، فعلى هذا لا تكونُ الجملةُ معترضةً». قلت: الذي نقله الواحدي عن نص ابن الأنباري في ذلك أن اللامَ متعلقةٌ بالكون، وعن صاحب «النظم» أن اللام بمعنى «أن» وسيأتي بنصَّيْهما إن شاء الله، فيجوز أن يكون لهما كلامان.
قال أبو بكر ابن الأنباري: «ويجوز أن تكونَ اللامُ صلةً للكون على معنى: فلا يكن في صدرك شيءٌ لتنذر، كما يقول الرجل للرجل: لا تكن ظالماً ليقضي صاحبك دَيْنَه، فَتَحْمِل لامَ كي على الكون». وقال الزمخشري: «فإن قلت: بمَ تَعَلَّق به» لتنذر «؟ قلت ب» أُنْزِل «أي: أُنْزل لإِنذارك به، أو بالنهي، لأنه إذا لم يُخِفْهم أنذرهم، وكذا إذا علم أنه من عند الله شَجَّعه اليقين على الإِنذار». قال الشيخ: «فقوله بالنهي ظاهره أنه يتعلَّق بفعل النهي، فيكون متعلقاً بقوله» فلا يكن «، وكان [عندهم] في تعليق المجرور والعمل في الظرف فيه خلافٌ، ومبناه على أنَّ» كان «الناقصة هل تدلُّ على حَدَثٍ أم لا؟ فمن قال إنها تدلُّ على الحدث جوَّز ذلك، ومَنْ قال لا تدلُّ عليه مَنَعَه». قلت: فالزمخشري مسبوقٌ إلى هذا الوجهِ، بل ليس في عبارته ما يدل على أنه تعلُّق ب «يكون» بل قال «بالنهي» فقد يريد بما تضمَّنه من المعنى، وعلى تقدير ذلك فالصحيحُ أن الأفعالَ الناقصة كلَّها لها دلالةٌ على الحدث إلا «ليس»، وقد أقمت على ذلك أدلةً وأَثْبَتُّ من أقوال الناس بما يشهدُ لصحة ذلك كقول سيبويه وأضرابه، في غير هذا الموضوع.
وقال صاحب «النظم» :«وفيه وجهٌ آخرُ وهو أن تكونَ اللامُ بمعنى أَنْ
قوله: ﴿وذكرى﴾ يجوز أن يكونَ في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ أو جَرّ. فالرفعُ من وجهين، أحدهما: أنها عطفٌ على «كتابٌ» أي: كتاب وذكرى أي تذكير، فهي اسمُ مصدرٍ وهذا قول الفراء. والثاني من وجهي الرفع: أنها خبرُ مبتدأ مضمر أي: هو ذكرى، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج. والنصبُ من ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ من لفظه تقديره: وتَذَكَّرْ ذكرى أي: تذكيراً. والثاني: أنَّها في محلِّ نصب نسقاً على موضع «لتنذرَ» فإنَّ موضعَه نصبٌ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على المعنى، وهذا كما تُعْطَف الحال الصريحة على الحال المؤولة كقوله تعالى: ﴿دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً﴾ [يونس: ١٢] ويكونُ حينئذ مفعولاً من أجله كما تقول: «جئتك لتكرمَني وإحساناً إليّ».
والثالث: قال أبو البقاء: وبه بدأ «إنها حالٌ من الضمير في» أُنْزِل «وما بينهما معترض». وهذا سهوٌ فإن الواو مانعة من ذلك، وكيف تدخل الواوُ على حال صريحة؟
والجرُّ من وجهين أيضاً، أحدهما: العطف على المصدر المُنْسَبِكِ من «أَنْ» المقدرة بعد لام كي والفعل، والتقدير: للإِنذار والتذكير. والثاني:
و «للمؤمنين» يجوز أن تكونَ اللامُ مزيدةً في المفعول به تقويةً له، لأنَّ العاملَ فرعٌ، والتقدير: وتُذَكر المؤمنين. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفة لذكرى.
قوله: ﴿مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ :«من دونه» يجوز أن يتعلق بالفعل قبله، والمعنى: لا تعدلوا عنه إلى غيره من الشياطين والكهان. والثاني: أن يتعلق بمحذوف، لأنه كان في الأصل صفةً لأولياء، فلما تقدَّم نُصِبَ حالاً، وإليه يميل تفسيرُ الزمخشري فإنه قال: «أي لا تتولَّوا مِنْ دونِه مِنْ شياطين الإِنس والجن فيحملوكم على الأهواء والبِدَع». والضمير في «دونِه» يُحْتمل وهو الظاهر أن يعودَ على «ربكم» ؛ ولذلك قال الزمخشري: «مِنْ دون الله»، وأن يعودَ على «ما» الموصولة، وأن يعودَ على الكتاب المنزل،
قوله: ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ قد تقدَّم نظيرُ هذا في قوله تعالى: ﴿فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨] وهو أنَّ «قليلاً» نعتُ مصدرٍ محذوف أي: تذكُّراً قليلاً تَذَكَّرون، أو نعتُ ظرفِ زمانٍ محذوفٍ أيضاً أي: زماناً قليلاً تَذَكَّرون، فالمصدرُ أو الظرفُ منصوبٌ بالفعل بعده، و «ما» مزيدةٌ للتوكيد، وهذا إعراب جليٌّ واضح. وقد أجاز الحوفي أن يكونَ/ نعتَ مصدرٍ محذوف لقوله «ولا تَتَّبعوا» أي: ولا تتبعوا مِنْ دونِه أولياءَ اتِّباعاً قليلاً، وهو ضعيف، لأنه يَصير مفهومُه أنهم غيرُ مَنْهِيِّين عن اتباع الكثير، ولكنه معلومٌ من جهة المعنى فلا مفهوم له.
وحكى ابن عطية عن أبي عليّ أن «ما» مصدريةٌ موصولةٌ بالفعل بعدها، واقتصر على هذا القَدْر، ولا بد من تتمةٍ له، فقال بعض الناس: «ويكون» قليلاً «نعت زمانٍ محذوف، وذلك الزمانُ المحذوف في محل رفع خبراً مقدماً، و» ما «المصدرية وما بعدها بتأويل مصدر مبتدأ مؤخراً، والتقدير: زمناً قليلاً تذكُّرُكم أي: أنهم لا يقع تذكُّرهم إلا في بعض الأحيان، ونظيرُه: زمناً قليلاً قيامُك». وقد قيل: إن «ما» هذه نافيةٌ، وهو بعيد؛ لأن «ما» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها عند البصريين، وعلى تقدير تسليم ذلك فيصير المعنى: ما تذكَّرون قليلاً، وليس بطائل، وهذا كما سيأتي في قوله تعالى: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: ١٧] عند مَنْ جَعَلَها نافيةً.
ولا يجوز أن يكونَ «قليلاً» حالاً من فاعل «تَتَّبعوا» و «ما تذكَّرون» مرفوعٌ به، إذ يصير المعنى: أنهم نُهوا عن الاتِّباع في حالِ قلةِ تذكُّرهم، وليس ذلك بمراد.
وقرأ الأخَوان وحفص: تَذَكَّرون «بتاء واحدة وتخفيف الذال، وابن عامر بتاءين وتخفيف الذال، والباقون بتاء وتشديد الذال، وهنَّ واضحات، تقدم معناها في الأنعام.
ولا بد من حَذْفِ مضافٍ في الكلام لقوله تعالى: «أو هم قائلون» فاضْطُرِرْنَا إلى تقدير محذوف، ثم منهم مَنْ قَدَّره قبل «قرية» أي: كم من أهل قرية، ومنهم مَنْ قدَّره قبل «ها» في «أهلكناها» أي: أهلكنا أهلَها، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن التقادير إنما تكون لأجل الحاجة، والحاجةُ لا تدعو إلى تقديرِ هذا المضاف في هذين الموضعين المذكورين، لأن إهلاكَ القرية يمكن أن يقع عليها نفسِها، فإن القرى تُهْلَكُ بالخَسْف والهدمِ والحريق والغَرَق ونحوه، وإنما يُحتاج إلى ذلك عند قوله «فجاءها» لأجل عَوْدِ الضمير من قوله: «هم قائلون» عليه، فيُقَدَّر: وكم من قرية أهلكناها فجاء أهلَها بأسُنا. قال الزمخشري: «فإن قلت: هل تُقَدِّرُ المضافَ الذي هو الأهل قبل» قرية «أو قبل الضمير في» أهلكناها «؟ قلت: إنما يُقَدَّر المضافُ للحاجة ولا حاجة، فإن القرية تَهْلَكُ كما يَهْلَك أهلُها، وإنما قدَّرناه قبل الضمير في» فجاءها «لقوله» أو هم قائلون «.
وظاهرُ الآيةِ أن مجيء البأس بعد الإِهلاك وعقيبِه؛ لأن الفاء تعطي ذلك، لكن الواقعَ إنما هو مجيءُ البأس، وبعده يقع الإِهلاك. فمن النحاة من قال: الفاء تأتي بمعنى الواو فلا تُرَتِّبُ، وجَعَلَ من ذلك هذه الآيةَ، وهو ضعيفٌ. والجمهور أجابوا عن ذلك بوجهين، أحدهما: أنه على حَذْف
الثاني: أن المعنى أهلكناها أي خذلناهم ولم نوفِّقْهم فنشأ عن ذلك هلاكُهم، فعبَّر بالمُسَبَّب عن سببه وهو باب واسع. وثَمَّ أجوبةٌ ضعيفة منها: أن الفاءَ هنا تفسيرية نحو: «توضأ فغسل وجهَه ثم يديه» فليست للتعقيب، ومنها: أنها للترتيب في القول فقط كأنه أخبر عن قرىً كثيرة أنها أهلكها ثم قال: فكان من أمرها مجيء البأس. / ومنها ما قاله الفراء وهو أن الإِهلاك هو مجيء البأس، ومجيء البأس هو الإِهلاك، فلمَّا كانا متلازمَيْن لم تُبالِ بأيهما قدَّمْتَ في الرتبة كقولك: «شتمني فَأَساء» و «أساء فشتمني» فالإِساءةُ والشتمُ شيء واحد فهذه ستة أقوال.
واعلم أنه إذا حُذِف مضافٌ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه جاز لك اعتباران، أحدهما: الالتفاتُ إلى ذلك المحذوف، والثاني وهو الأكثر عدم الالتفات إليه، وقد جُمِعَ الأمران ههنا فإنه لم يُراعِ المحذوفَ في قوله «أهلكناها فجاءها» وراعاه في قوله «أو هم قائلون»، هذا إذا قدَّرْنا الحذفَ قبل «قرية»، أمَّا إذا قدَّرنا الحذفَ قبل ضمير «فجاءها» فإنه لم يُراعِ إلا المحذوفَ فقط، وهو غيرُ الأكثر.
قوله: «بَيَاتاً» فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه منصوبٌ على الحال، وهو في الأصل مصدر، بات يبيتُ بَيْتاً وبَيْتَةً وبَيَاتاً وبَيْتُوتة. قال الليث: «البَيْتوتَةُ دخولُك في الليل» فقوله «بياتاً» أي بائتين. وجَوَّزوا أن يكون مفعولاً له، وأن
قوله: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ نسقاً على الحال. و «أو» هنا للتنويع لا لشيء آخر كأنه قيل: أتاهم بأسنا تارةً ليلاً كقوم لوط، وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب. وهل يحتاج إلى تقديرِ واوِ حال قبل هذه الجملة أم لا؟ خلاف بين النحويين. قال الزمخشري: «فإن قلت: لا يقال:» جاء زيد هو فارس «بغير واو فما بالُ قوله تعالى» أو هم قائلون «؟ قلت: قَدَّر بعض النحويين الواوَ محذوفةً، وردَّه الزجاج وقال:» لو قلت: جاءني زيد راجلاً أو هو فارس، أو: جاءني زيد هو فارس لم تحتج إلى واو؛ لأن الذكر قد عاد على الأول «. والصحيح أنها إذا عُطِفَتْ على حال قبلها حُذِفت الواو استثقالاً لاجتماع حرفَيْ عطفٍ؛ لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك:» جاء زيد راجلاً أو هو فارس «كلام فصيح واردٌ على حَدِّه، وأمَّا» جاءني زيد هو فارس «فخبيث». قال الشيخ: «أما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفراء.
وأمَّا قول الزجاج [في] التمثيلين: لم تحتج فيه إلى الواو لأن الذِّكْرَ قد عاد على الأول ففيه إبهامٌ، فتعيينه أنه يمتنع دخولها في المثال الأول، ويجوز في المثال الثاني، فليس
ثم قال الشيخ:» وأمَّا قولُ الزمخشري فالصحيحُ إلى آخره فتعليلُه ليس بصحيح، لأنَّ واوَ الحال ليست بحرف عطف فيلزم مِنْ ذكرها اجتماعُ حرفَيْ عطفٍ؛ لأنها لو كانَتْ حرفَ عطف لَلَزِم أن يكون ما قبلها حالاً حتى تعطفَ حالاً على حال، فمجيئُها فيما لا يمكن أن يكونَ حالاً دليلٌ على أنها ليست واوَ عطفٍ ولا لُحِظ فيها معنى واو عطف تقول: «جاء زيد والشمسُ طالعةٌ» فجاء زيد ليس بحالٍ فتعطف عليها جملة حال، وإنما هذه الواوُ مغايرةٌ لواو العطف بكل حال، وهي قِسْمٌ من أقسام الواو، كما تأتي للقَسَمِ وليست فيه للعطف كما إذا قلت: «والله ليخرجَنَّ». قلت: أبو القاسم لم يدَّعِ في واوِ الحال أنها عاطفةٌ، بل يدَّعي أن أصلَها العطف، ويدل على ذلك قولُه: استعيرت للوصل، فلو كانت عاطفةً على حالها لما قال: استعيرت، فدلَّ قولُه ذلك على أنها خرجَتْ عن العطف واسْتُعْمِلت لمعنى آخر، لكنها أُعْطيت حكم أصلها في امتناع مُجامعها لعاطف آخر. وأمَّا تسميتُها حرفَ عطفٍ فباعتبار أصلها، ونظير ذلك واو «مع» فإنهم نَصُّوا على أن أصلَها واوُ العطف، ثم اسْتُعْمِلَتْ في المعيَّة، فكذلك واوُ الحال، لا امتناعَ أن يكونَ أصلُها واوَ العطف/.
قلت: فهذا تصريحٌ من هذين الإِمامين بما ذكره أبو القاسم، وإنما ذكرتُ نصَّ هذين الإِمامين لأُعْلِمَ اطِّلاعَه على أقوال الناس، وأنه لا يأتي بغير مصطلح أهل العلم كما يرميه به غيرَ مرة.
و «قائلون» من القَيْلُولة. يقال: قال يَقيل قَيْلولة فهو قائل كبائع. والقيلولة: الراحةُ والدَّعَةُ في الحر وسط النهار وإن لم يكن معها نوم. وقال الليث: هي نَوْمَةُ نصف النهار. قال الأزهري: «القيلولة: الراحة وإن لم يكن فيها نوم، بدليل قوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة
والدَّعْوى تكون بمعنى الدعاء وبمعنى الادِّعاء، والمقصود بها ههنا يحتمل الأمرين جميعاً، ويحتمل أيضاً أن يكون بمعنى الاعتراف. فمِنْ مجيئها بمعنى الدعاء ما حكاه الخليل: «اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين» تريد في صالح دعائهم، وأنشدوا:
٢١٣٩ - وإنْ مَذِلَتْ رِجْلي دعوتُك أشتفي | بدَعْواكَ مِنْ مَذْلٍ بها فتهونُ |
وقوله: ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ » كنَّا «وخبرُها في محلِّ رفع خبراً لإِنَّا، وإنَّ وما في حيِّزها في محلِّ نصب محكياً ب» قالوا «، و» قالوا «وما في حيزه لا محلَّ له لوقوعه صلةً لأَنْ. وأَنْ وما في حيِّزها في محل رفع أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم مِنْ كونها اسماً أو خبراً.
والثاني من وجهي الخبر: أن يكون الخبرُ «الحق»، و «يومئذ» على هذا فيه وجهان أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرف ناصبُه «الوزن» أي: يقع الوزنُ ذلك
وقد طوَّل مكي بذكر تقدير تقديم «الحق» على «يومئذ» وتأخيره عنه باعتبار الإِعرابات المتقدمة، وهذا لا حاجة إليه لأنَّا مقيَّدون في القرآن بالإِتيان بنظمه. وذكر أيضاً أنه يجوز نصبه، يعني أنه لو قرئ به لكان جائزاً، وهذا أيضاً لا حاجة إليه.
وموازين فيها قولان: أحدهما: أنها جمع ميزان: الآلة التي يُوْزَنُ بها، وإنما جُمِع لأنَّ كلَّ إنسانٍ له ميزانٌ يخصُّه على ما جاء في التفسير، أو جُمع باعتبار الأعمال المُكْثِرة، وعبَّر عن الحالِّ بالمحلِّ. والثاني: أنها جمع موزون وهي الأعمال، والجمع حينئذ ظاهر.
ومعايش جمع معيشة وفيها ثلاثة مذاهب، مذهب سيبويه والخليل: أن وزنها مَفْعُلة بضم العين أو مَفْعِلة بكسرها، فعلى الأول جُعِلت الضمةُ كسرةً ونُقِلَتْ إلى فاء الكلمة. وقياس قول الأخفش في هذا النحو أن يُغَيَّر الحرفُ لا الحركةُ، فمعيشة عنده شاذة إذ كان ينبغي أن يُقال فيها مَعُوشة. وأما على قولنا إن أصلها مَعْيِشة بكسر العين فلا شذوذَ فيها. ومذهب الفراء أنَّ وزنها مَفْعَلة بفتح العين وليس بشيء. والمعيشة اسمٌ لما يُعاشُ به أي يُحْيا، وهي في الأصل مصدرٌ لعاش يعيش عَيْشاً وعِيْشة قال تعالى: ﴿فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١]
٢١٤٠ - وقد شهدَتْ قيسٌ فما كان نصرُها | قتيبةَ إلا عضَّها بالأباهم |
٢١٤١ - إليك أشكو شِدَّةَ المعيشِ | وجُهْدَ أعوامٍ نَتَفْنَ ريشي |
٢١٤٢ - وإنِّي لَقَوَّامٌ مَقَاوِمَ لم يكن | جريرٌ ولا مَوْلَى جريرٍ يقومُها |
٢١٤٣ - بِوادٍ لا أنيسَ به يَبابٍ | وأَمْسِلةٍ مَذانِبُها خَلِيفُ |
قلت: وهذه القراءة لم ينفرد بها نافع بل قرأها جماعة جِلَّةٌ معه، فإنها منقولةٌ عن ابن عامر الذي قرأ على جماعة من الصحابة كعثمان وأبي الدرداء ومعاوية، وقد سبق ذلك في الأنعام، وقد قرأ بها قبل ظهور اللحن وهو عربي صريح. وقرأ بها أيضاً زيد بن علي وهو على جانب من الفصاحةِ والعلمِ الذي لا يدانيه إلا القليلُ. وقرأ بها أيضاً الأعمشُ والأعرجُ وكفى بهما في الإِتقان والضبط. وقد نقل الفراء أن قَلْبَ هذه الياء تشبيهاً لها بياء صحيفة قد جاء وإنْ كان قليلاً.
وقال بعضهم: المخاطبُ بنو آدم والمراد به أبوهم، وهذا من باب الخطاب لشخصٍ والمرادُ به غيره كقوله: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ إلى آخره، وإنما المُنَجَّى والذي كان يُسامُ سُوءَ العذاب أسلافُهم. وهذا مستفيضٌ في لسانهم. وأنشدوا على ذلك قوله:
٢١٤٤ - إذا افتخرَتْ يوماً تميمٌ بقوسها | وزادَتْ على ما وطَّدَتْ مِنْ مناقب |
فأنتم بذي قارٍ أمالَتْ سيوفُكمْ | عروشَ الذين استرهنوا قوسَ حاجبِ |
وقوله: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ تقدَّم الكلام عليه في البقرة. وقوله «لم يكن» هذه الجملةُ استئنافيةٌ لأنها جواب سؤال مقدر، وهذا كما تقدَّم في قوله في البقرة «أبى». وتقدم أن الوقف على إبليس. وقيل: فائدة هذه الجملة التوكيدُ لِما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس. وقال أبو البقاء: «إنها في محل نصب على الحال أي: إلا إبليس حال كونه ممتنعاً من السجود». وهذا كما تقدم له في البقرة من أن «أبى» في موضع نصب على الحال.
٢١٤٥ - أبى جودُه لا البخلَِ واستعجلَتْ نَعَمْ | به مِنْ فتى لا يمنع الجودَ نائلُه |
وقد زعم جماعةٌ أن «لا» في هذه الآية الكريمة غيرُ زائدة، لكن اختلفت عبارتهم في تصحيح معنى ذلك فقال بعضهم: في الكلام حَذْفٌ يصحُّ به النفي، والتقدير: ما منعك فأحوجك أن لا تسجد؟ وقال بعضهم: المعنى على ما ألجأك أن لا تسجد؟ وبعضهم: مَنْ أمَرَكَ أن لا تسجد؟ ومَنْ قال لك أن لا تسجد، أو ما دَعاك أن لا تسجد؟ وهذا تمحُّل مَنْ يتحرَّج مِنْ نسبة الزيادة إلى القرآن وقد تقدَّم تحقيقه، وأنَّ معنى الزيادة على معنىً يفهمه أهلُ العلم وإلا فكيف يُدَّعى زيادةٌ في القرآن بالعُرْف العام؟ هذا ما لا يقوله أحد من المسلمين.
و «ما» استفهاميةٌ في محل رفع بالابتداء، والخبرُ بعدها أي: أيُّ شيء
وقوله: «فيها» لا مفهومَ له، يعني أنه لا يُتَوَهَّم أنه يجوز أن يتكبَّر في غيرها. ولمَّا اعتبر بعضهم هذا المفهوم احتاج إلى تقدير حذف معطوف كقوله: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] قال: «والتقديرُ فما يكون لك أن تتكبَّر فيها ولا في غيرها».
وقال الشيخ: «وما ذكره من أن اللام تصدُّ عن تعلُّق الباء ب» لأقعدَنَّ «ليس حكماً مُجْمَعاً عليه بل في ذلك خلافٌ». قلت: أمَّا الخلافُ فنعم. لكنه خلافٌ ضعيف لا يُقَيَّد به أبو القاسم، والشيخُ نفسه قد قال عند قوله تعالى ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ﴾ [الأعراف: ١٨] في قراءة مَنْ كسر اللام في «لمن»، إنَّ ذلك لا يُجيزه الجمهور وسيأتي لك مبيناً إن شاء الله.
و «ما» تحتمل ثلاثة أوجه أظهرها: أنها مصدرية أي: فبإغوائك إياي. والثاني: أنها استفهامية يعني أنه استفهم عن السبب الذي أغواه به فقال: فبأي شيء من الأشياء أغويتني؟ ثم استأنف جملةَ أقْسَمَ فيها بقوله «لأقعدنَّ». وهذا ضعيفٌ عند بعضِهم أو ضرورةٌ عند آخرين من حيث إنَّ «ما» الاستفهامية إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفها، ولا تَثْبت إلا في شذوذ كقولهم: عمَّا تسأل؟ أو ضرورةً كقوله:
٢١٤٦ - أَفَعَنْكَ لا برقٌ كأنَّ وميضَه | غابٌ تَسَنَّمَه ضِرامٌ مُثْقَبُ |
٢١٤٧ - على ما قام يَشْتِمني لئيمٌ | كخنزيرٍ تمرَّغَ في رمادِ |
٢١٤٨ - مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها | والشرُّ بالشر عند الله مِثْلان |
مَنْ يفعل الخير فالرحمن يشكره | .............. |
هذا يُتَمِّمُ مذهبه.
وقوله: «صراطَك» في نصبه ثلاثة أوجه أحدها: أنه منصوب على إسقاط الخافض. قال الزجاج: «ولا اختلاف بين النحويين أنَّ» على «
٢١٤٩ - تمُرُّون الديارَ فلم تعوجوا | ................... |
٢١٥٠ -................. | ............ لولا الأسى لقضاني |
٢١٥١ - فَبِتُّ كأنَّ العائداتِ فَرَشْنني | ................ |
٢١٥٢ - جزى الله بالخيراتِ ما فعلا بكم | رفيقَيْنِ قالا خَيْمَتَيْ أمِّ معبدِ |
٢١٥٣ - لَدْنٌ بهزِّ الكفِّ يَعْسِل مَتْنَه | كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ |
ثم قال: «وأقول: وإنما خَصَّ بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإِتيان لأنهما أغلبُ ما يجيء العدوُّ منهما فينال فرصته، وقدَّم بين الأيدي على الخلف لأنها الجهة التي تدلُّ على إقدام العدو وبسالته في مواجهة قِرْنِه غيرَ خائفٍ منه، والخلف جهةُ غَدْرٍ ومخاتلة وجهالة القِرْن بمَنْ يغتاله ويتطلب غِرَّته وغَفْلَتَه، وخَصَّ الأيمان والشمائل بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدو، وإنما يجاوز إتيانَه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك، وقُدِّمت الأيمان على الشمائل لأنها هي الجهةُ القويةُ في ملاقاة العدو، وبالأَيْمان البطشُ والدفعُ، فالقِرْنُ الذي يأتي مِنْ جهتها أبسلُ وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع، والشمائل ليست في القوة والدفع كالأَيْمان.
والأَيْمان والشمائل جَمْعا يمين وشمال، وهما الجارحتان وتُجْمَعان في القلة على أَفْعُل، قال:
ويقولون: اجعلني في يمينك لا في شِمالك قال:
٢١٥٥ - أبُثْنى أفي يُمْنَى يديكِ جَعَلْتِني | فَأَفْرحَ أم صَيَّرْتني في شِمالكِ |
٢١٥٦ - رأيت بني العَلاَّتِ لمَّا تضافروا | يَحُوزون سَهْمي بينهمْ في الشَّمائل |
٢١٥٧ - وهَبَّتْ له ريحٌ بمختلف الصُّوى | صَباً وشَمالٌ في منازِلِ قُفَّالِ |
قوله: ﴿وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ﴾ الوِجْدان هنا يحتمل أن يكون بمعنى اللقاء أو بمعنى العلم أي: لا تُلْفِي أكثرَهم شاكرين، أو لا تعلم أكثرهم شاكرين، فشاكرين حالٌ على الأول، مفعول ثان على الثاني. وهذه الجملة تحتمل وجهين أحدهما: أن تكون استئنافية أخبر اللعين بذلك لتظنِّيه أو لأنه علمه بطريق. ويحتمل أن تكون داخلةً في حَيِّز ما قبلها في جواب القسم، فتكونَ معطوفةً على قوله «لأقعدَنَّ»، أَقْسَمَ على جملتين مُثْبَتَتَيْن وأخرى منفية.
٢١٥٨ - تَبِعْتُك إذْ عَيْني عليها غِشاوةٌ | فلما انجلَتْ قَطَّعْتُ نفسي أَذِيْمُها |
٢١٥٩ - وأقاموا حتى انبرَوا جميعاً | في مَقامٍ وكلُّهم مَذْؤُوْمُ |
٢١٦٠ - وقالَ لإِبليسَ ربُّ العبادِ | [أن] اخرُجْ لعيناً دحيراً مَذُوْمَا |
والدَّحْر: الطَّرْدُ والإِبعاد يقال: دَحَره يَدْحَرُه دَحْراً ودُحوراً، ومنه: ﴿وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً﴾ [الصافات: ٩] وقول أمية في البيت المتقدم» لَعيناً دحيراً «وقوله أيضاً:
٢١٦١ - وبإذنه سجدوا لآدمَ كلهمْ | إلا لعيناً خاطِئاً مَدْحورا |
وقد تقدم إيضاح ذلك غير مرة. والثاني: أن اللامَ لامُ ابتداء، «مَنْ» موصولة و «تبعك» صلتها، وهي في محل رفع بالابتداء أيضاً، و «لأملأنَّ» جواب قسم محذوف، وذلك القسمُ المحذوفُ وجوابُه في محلِّ رفع خبراً لهذا المبتدأ، والتقدير: للذي تبعك منهم والله لأملأنَّ جهنم منكم. فإن قلت: أين العائد من الجملة القسمية الواقعة خبراً عن المبتدأ؟ قلت: هو متضمِّنٌ في قوله «منكم» لأنه لمَّا اجتمع ضميرا غيبة وخطاب غَلَّب الخطاب على ما عُرِف غير مرة.
وفَتْحُ اللام هو قراءةُ العامَّة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر من بعض طرقهِ والجحدري: «لِمَنْ» بكسرها، وخُرِّجتْ على ثلاثة أوجه أحدها: - وبه قال ابن عطية - أنها تتعلق بقوله «لأَملأنَّ» فإنه قال: «لأجل مَنْ تبعك منهم لأملأنَّ»، وظاهر هذا أنها متعلقةٌ بالفعل بعد لام القسم. قال الشيخ: «ويمتنع ذلك على قول الجمهور أن ما بعد لام القسم لا يعمل فيما قبلها». والثاني: أن اللام متعلقةٌ بالذَّأْمِ والدَّحْر، والمعنى: اخرج بهاتين الصفتين لأجل تُباعك. ذكره أبو الفضل الرازي في كتاب «اللوائح على شاذ القراءة». قلت: ويمكن أن تجيء المسألةُ من باب الإِعمال لأن كلاً من
والثالث: أن يكون هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف تقديره: لمن تبعك منهم هذا الوعيدُ، ودلَّ على قوله «هذا الوعيد» قولُه «لأملأن جهنم»، لأن هذا القسمَ وجوابَه وعيدٌ، وهذا أراده الزمخشري بقوله: «بمعنى لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله» لأملأن جهنم «على أنَّ» لأملأنَّ «في محل الابتداء و» لمن تبعك «خبره. قال الشيخ:» فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأ على مذهب البصريين لأنَّ قولَه «لأملأنَّ» جملةٌ هي جوابُ قسم محذوف، من حيث كونُها جملةً فقط لا يجوز أن تكون مبتدأة، ومن حيث كونها جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً؛ لأنها إذ ذاك من هذه الحيثيَّة لا موضع لها من الإِعراب، ومن حيث كونُها مبتدأ لها موضع من الإِعراب، ولا يجوز أن تكون الجملة لها موضع من الإِعراب لا موضع لها من الإِعراب، وهو محال لأنه يلزم أن تكون في موضع رفع لا في موضع رفع، داخلٌ عليها عاملٌ غيرُ داخل عليها عاملٌ، وذلك لا يُتَصَوَّر «.
قلت: بعد أن قال الزمخشري:» بمعنى لِمَنْ تبعك الوعيد وهو لأملأنَّ «كيف يحسن أن يُتردد بعد ذلك فيُقال: إن أراد ظاهر كلامه، كيف يريده مع التصريح بتأويله هو بنفسه؟ وأمَّا قوله» على أن لأملأنَّ في محل الابتداء «فإنما قاله لأنه دالٌ على الوعيد الذي هو في محل الابتداء، فنسب إلى الدالِّ ما يُنْسب إلى المدلول من جهة المعنى.
وقول الشيخ أيضاً «ومن حيث كونُها جواباً/
وقوله تعالى: ﴿أَجْمَعِينَ﴾ تأكيد. واعلم أن الأكثر في أجمع وأخواته المستعملة في التأكيد إنما يؤتى بها بعد» كل «نحو: ﴿فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: ٣٠] وفي غير الأكثر قد تجيء بدون» كل «كهذه الآية الكريمة، فإنَّ» أجمعين «تأكيد ل» منكم «، ونظيرها فيما ذكرتُ لك أيضاً قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٤٣].
والوَسْوَسَةُ: الكلام الخفيُّ المكرر، ومثله الوَسْواس وهو صوت الحَلْيِ، والوَسْوَسة أيضاً الخَطْرة الرديئة، ووسوس لا يتعدى إلى مفعول بل هو لازم ويقال: رجل مُوَسْوِس بكسر الواو ولا يقال بفتحها، قاله ابن
٢١٦٢ - دَحَرْتُ بني الحصيب إلى قَدِيدٍ | وقد كانوا ذوي أَشَرٍ وفَخْرِ |
٢١٦ - ٣- وَسْوَسَ يدعو مُخلِصاً ربِّ الفَلَق | لمَّا دَنا الصيد دنا مِنَ الوَهَقْ |
قوله: ﴿لِيُبْدِيَ﴾ في هذه اللام قولان أظهرهما: أنها لامُ العلة على أصلها، لأنَّ قَصْدَ الشيطان ذلك. وقال بعضهم: اللام للصيرورة والعاقبة، وذلك أن الشيطان لم يكن يعلم أنهما يعاقبان بهذه العقوبة الخاصة، فالمعنى: أن أمرهما آيل إلى ذلك. والجواب: أنه يجوزُ أن يُعْلم ذلك بطريق من الطرق المتقدمة في قوله ﴿وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الاعراف: ١٧].
قوله: ﴿مَا وُورِيَ﴾ «ما» موصولة بمعنى الذي وهي مفعولٌ ل «يُبدي» أي ليُظْهِر الذي سُتِر. وقرأ الجمهور «وُوْري» بواوين صريحتين وهو ماضٍ مبني للمفعول، أصله وارَى كضارب فلمَّا بُني للمفعول أُبدلت الألفُ واواً كضُوْرِبَ، فالواو الأولى فاء والثانية زائدة. وقرأ عبد الله: أُوْرِيَ بإبدال الأولى همزةً وهو بدلٌ جائزٌ لا واجب. وهذه قاعدة كلية وهي: أنه إذا اجتمع في أول
وقرأ يحيى بن وثاب «وُرِيَ» بواو واحدة مضمومة وراء مكسورة، وكأنه من الثلاثي المتعدي، وتحتاج إلى نَقْلِ أنَّ وَرَيْتُ كذا بمعنى وارَيْتُه.
والمُواراة: السَّتْرُ، ومنه قوله عليه السلام لمَّا بلغه موت أبي طالب: «لعلِّي أذهب مُوارٍ» ومنه قول الآخر:
٢١٦٤ - على صَدىً أسودَ المُواري | في التُّرْب أمسى وفي الصفيح |
والجمهور على قراءة «سَوْءاتهما» بالجمع من غير نقلٍ ولا إدغام.
وقرأ مجاهد والحسن «سَوَّتِهما» بالإِفراد وإبدال الهمزة واواً وإدغام الواو فيها. وقرأ الحسن أيضاً وأبو جعفر وشَيْبَة بن نصاح «سَوَّاتِهما» بالجمع وتشديد الواو بالعمل المتقدم. وقرأ أيضاً سَواتِهما/ بالجمع أيضاً إلا أنه نَقَل حركةَ الهمزة إلى الواو من غير عملٍ آخر، وكلُّ ذلك ظاهر: فَمََنْ قرأ بالجمع
قوله: ﴿إِلاَّ أَنْ تَكُونَا﴾ استثناءٌ مفرغ وهو مفعول من أجله، فيقدّره البصريون إلا كراهةَ أن تكونا، وقدَّره الكوفيون إلا أن لا تكونا، وقد تقدَّم غيرَ مرة أن قول البصريين أَوْلى لأن إضمارَ الاسم أحسنُ من إضمار الحرف.
والجمهور على «مَلَكَيْن» بفتح اللام. وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك ويحيى بن أبي كثير والزهري وابن حكيم عن ابن كثير «مَلِكين» بكسرها. قالوا: ويؤيِّد هذه القراءة قولُه في موضع آخر: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى﴾ [طه: ١٢٠] والمُلك يناسِبُ المَلِك بالكسر. وأتى بقوله «من الخالدين» ولم يقل «أو تكونا خالدَيْن» مبالغةً في ذلك؛ لأن الوصف بالخلود أهم من المِلْكية أو المُلْك، فإن قولك: «فلان من الصالحين» أبلغُ من قولك صالح، وعليه ﴿وَكَانَتْ مِنَ القانتين﴾ [التحريم: ١٢].
٢١٦٥ - وقاسَمَها بالله جَهْداً لأنتمُ | ألذَّ مِنَ السَّلوى إذا ما نشورها |
٢١٦٦ - رَبَّيْتُهُ حتى إذا تَمَعْدَدا | كان جزائي بالعصا أن أُجْلدا |
ونَصَح يتعدى لواحد تارةً بنفسه وتارة بحرف الجر، ومثله شكر، وقد تقدم، وكال ووزن. وهل الأصلُ التعدِّي بحرف الجر أو التعدي بنفسه أو كلٌّ منهما أصل؟ الراجح الثالث. وزعم بعضُهم أن المفعول في هذه الأفعال محذوفٌ وأن المجرور باللام هو الثاني، فإذا قلت: نصحتُ لزيدٍ فالتقدير: نصحت لزيد الرأيَ. وكذلك شَكَر له صنيعه وكِلْتُ له طعامه ووَزَنْتُ له متاعه فهذا مذهب رابع. وقال الفراء: «العربُ لا تكاد تقول: نصحتك، إنما يقولون نصحتُ لك وأنصح لك»، وقد يجوز نصحتك. قال النابغة:
٢١٦٧ -.................. | وشفاءُ غَيِّك خابِراً أن تسألي |
٢١٦٨ - نصحتُ بني عوفٍ فلم يتقبَّلوا | رسولي ولم تنجحْ لديهم وسائلي |
والنُّصْحُ: بَذْلُ الجهد في طلب الخير خاصة، وضده الغش. وأمَّا «نصحت لزيد ثوبه» فمتعدٍ لاثنين لأحدهما بنفسه، وللثاني بحرف الجر باتفاق، وكأن النصح الذي هو بذل الجهد في الخير مأخوذ مِنْ أحد معنيين: إمَّا
٢١٦٩ - أَحْبَبْتُ حُبَّاً خالَطَتْه نَصاحةٌ | ..................... |
٢١٧٠ - أَحُصُّ فلا أُجير ومَنْ أُجِرْه | فليس كمَنْ تَدَلَّى بالغرورِ |
٢١٧٢ - تَقَضِّيَ البازيْ إذا البازي كسرْ... والذَّوْق: وجود الطعم بالفم ويعبر به عن الأكل. وقيل: الذوق مَسُّ الشيء باللسان أو بالفم يقال فيه: ذاق يذوق ذَوْقاً مثل: صام يصوم صوماً، ونام ينام نوماً.
قوله: ﴿وَطَفِقَا﴾ طَفِقَ من أفعالِ الشُّروع كأخذ وجعل وأنشأ وعَلِق وهَبَّ وانبرى، فهذه تدلُّ على التلبُّس بأول الفعل، وحكمُها حكمُ أفعالِ المقاربة من كونِ خبرها لا يكون إلا مضارعاً، ولا يجوزُ أن يقترنَ بأَنْ البتة لمنافاتها لها لأنها للشروع وهو حالٌ و «أَنْ» للاستقبال، وقد يقع الخبر جملةً اسمية كقوله:
٢١٧١ - أظن الحِلْمَ دَلَّ عليَّ قومي | وقد يُسْتَجْهَلُ الرجلُ الحليم |
٣١٧٣ - وقد جَعَلَتْ قَلوصُ بني سهيلٍ | من الأَكْوارِ مَرْتَعُها قريبُ |
والخَصْف الخَرْز في النِّعال، وهو وَضْعُ طريقة على أخرى وخَرْزُهما، والمِخْصَف: ما يُخْصَفُ به وهو الإِشْفى قال:
والخَصَفَةُ أيضاً الجُلَّة للتمر، والخَصَفُ: الثياب الغليظة، وخَصَفْتُ الخَصْفة نَسَجْتُها، والأَخْصَف والخصيف طعام يبرق، وأصله أن يُوضع لبنٌ ونحوه في الخَصْفة فيتلوَّن بلونها، وقال العباس يمدح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
٢١٧٤ -........................ | ............... |
٢١٧٥ -...... طِبْتَ في الظلال وفي | مستودَعٍ حيث يُخْصَفُ الورقُ |
قوله: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا﴾ يجوز أن تكون هذه الجملةُ التقريرية مفسرةً للنداء ولا محلَّ لها، ويُحتمل أن يكون ثَمَّ قولٌ محذوف وهي معمولةٌ له أي: فقال: ألم أنْهَكما، وذلك القولُ مفسِّر للنداء أيضاً. وقال الشيخ: «الأَوْلى أن يعود الضمير في» عليهما «على عورتيهما كأنه قيل: يَخْصِفان على سَوْءاتيهما، وعاد بضمير الاثنين لأن الجمعَ يُراد به اثنان، ولا يجوز أن يعود الضمير على آدم وحواء لأنه تقرَّر في علم العربية أنه لا يتعدَّى فعل الظاهر والمضمر المتصل إلى الضميرِ المتصلِ المنصوب لفظاً أو محلاً في غير باب ظن وفقد وعدم ووجد، لا يجوز: زيد ضربه ولا ضربه زيد، ولا زيد مرَّ به ولا مرَّ به زيد، فلو جَعَلْنا الضميرَ في» عليهما «عائداً على آدم وحواء لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي» يَخْصِفُ «إلى الضمير المنصوب محلاً وقد رفع الضمير المتصل وهو الألف في» يَخْصِفان «، فإنْ أُخِذَ ذلك على حَذْف مضاف مرادٍ جاز ذلك وتقديره:» يَخْصِفان على بَدَنَيْهما «، قلت: ومثلُ ذلك فيما ذكر
﴿وهزى إِلَيْكِ﴾ [مريم: ٢٥] {واضمم
٢١٧٦ - هَوِّنْ عليك فإن الأمور | بِكَفِّ الإِله مقاديرُها |
٢١٧٧ - دَعْ عنك نَهْباً صِيْح في حَجَراته | ولكنْ حديثاً ما حديثُ الرواحلِ |
وقرأ الزهري «يُخْصِفان» مِنْ أخصف وهي تحتمل وجهين أحدهما: أن يكون أَفْعَلَ بمعنى فَعَل. والثاني: أن تكون الهمزةُ للتعدية، والمفعولُ على هذا محذوفٌ أي: يَخْصِفان أنفسهما أي: يجعلان أنفسَهما خاصِفين. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب/ «يَخِصِّفان» بفتح الياء وكسر الخاء والصادُ مشددةٌ، والأصل: يختصفان، فأُدْغمت التاء في الصاد ثم أُتْبعت الخاءُ للصاد في حركتها، وسيأتي لهذه القراءة نظيرٌ في يونس ويس نحو ﴿يهدي﴾ [يونس: ٦] و ﴿يَخِصِّمُون﴾ [يس: ٤٩] إن شاء الله تعالى. وروى محبوب عن الحسن كذلك إلا أنه فتح الخاء فلم يُتْبِعْها للصاد، وهي قراءة يعقوب أيضاً وابن بريدة. وقرأ عبد الله «يُخُصِّفان» بضم الياء والخاء وكسر الصاد مشددة وهي مِنْ خصَّف بالتشديد، إلا أنه أتبع الخاء للياء قبلها في الحركة وهي قراءة عَسِرةُ النطق، ويدل على
قوله: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا﴾ هذه الجملةُ في محل نصب بقول مقدر ذلك القولُ حالٌ تقديره: وناداهما قائلاً ذلك. ولم يُصَرِّحْ هنا باسم المنادي للعلم به. و «لكما» متعلق ب «عدو» لِما فيه من معنى الفعل. ويجوزُ أن تكونَ متعلقةً بمحذوف على أنها حال من «عدوّ» لأنها لو تأخّرت لجاز أن تكون وصفاً له.
و [في] قوله: ﴿قَالاَ رَبَّنَا﴾ [الروم: ٢٣] : فائدةُ حَذْفِ حرف النداء هنا تعظيم المنادى وتنزيهه. قال مكي: «ونداء الربِّ قد كَثُر حَذْفُ» يا «منه في القرآن، وعلةُ ذلك أن في حذف» يا «من نداء الرب معنى التعظيم والتنزيه، وذلك أنَّ النداءَ فيه طَرَفٌ من معنى الأمر؛ لأنك إذا قلت: يا زيد فمعناه: تعالَ يا زيد، أدعوك يا زيد، فحُذِفت» يا «من نداء الرب ليزولَ معنى الأمر وينقص لأنَّ» يا «تُؤَكِّده وتُظهر معناه فكان في حذف» يا «الإِجلالُ والتعظيم والتنزيه».
والرِّيْشُ فيه قولان، أحدهما: أنه اسم لهذا الشيءِ المعروف. والثاني: أنه مصدرٌ يُقال» راشَه يَريشه رِيْشاً إذا جعل فيه الرِّيش، فينبغي أن يكون الريشُ مشتركاً بين المصدر والعين وهذا هو التحقيق. وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسُّلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن حبيش، وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما: «ورِياشاً»، وفيها تأويلان أحدهما وبه قال الزمخشري أنه جمع رِيْش فيكون كشِعْب وشِعاب. والثاني: أنه مصدرٌ أيضاً فيكون ريش ورياش مصدَريْن ل راشه الله رَيشاً ورياشاً أي: أنعم عليه. وقال الزجاج: «اللباس، فعلى هذا هما اسمان للشيء الملبوس قالوا: لِبْس ولِباس». قلت: وقد جَوَّز الفراء أن يكون مصدراً فأخذ الزمخشري بأحد القولين، وغيرُه بالآخر، وأنشدوا:
٢١٧٨ - ورِيْشي منكمُ وهَوايَ مَعْكمْ | وإن كانت زيارتُكم لِماما |
وأمَّا الرفعُ فمِنْ خمسة أوجه، أحدها: أن يكون «لباس» مبتدأ، و «ذلك» مبتدأ ثان و «خير» خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، والرابطُ هنا اسمُ الإِشارةِ وهو أحدُ الروابط الخمسة المتفق عليها، ولنا سادسٌ فيه خلافٌ تقدَّم التنبيه عليه. وهذا الوجهُ هو أَوْجَهُ الأعاريب في هذه الآية الكريمة. الثاني: أن يكون «لباس» خبرَ مبتدأ محذوف أي: وهو لباس التقوى، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، وكأن المعنى/ بهذه الجملة التفسيرُ للّباس المتقدم، وعلى هذا فيكون قوله «ذلك» جملةً أخرى من مبتدأ وخبر.
وقَدَّره مكي بأحسنَ مِنْ تقدير الزجاج فقال: «وسَتْر العورة لباس التقوى». الثالث: أن يكون «ذلك» فَصْلاً بين المبتدأ وخبره، وهذا قول الحوفي ولا أعلم أحداً من النحاة أجاز ذلك، إلا أن الواحديَّ قال: «ومَنْ قال إن» ذلك «لغوٌ لم يَلْقَ على قوله دلالة؛ لأنه يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا». قلت: فقوله «لغو» هو قريب من القول بالفصل؛ لأنَّ الفصلَ لا محلَّ له من الإِعراب على قول جمهور النحويين من البصريين والكوفيين. الرابع: أن يكون «لباس» مبتدأً و «ذلك» بدلٌ منه أو عطفُ بيان له أو نعت و «خير» خبره، وهو معنى قول الزجاج وأبي علي وأبي بكر ابن الأنباري، إلا أنَّ
قلت: أمَّا القول به فقد قيل كما ذَكَرْتُه عن الزجاج والفارسي وابن الأنباري، ونصَّ عليه أبو علي في «الحجة» أيضاً وذكره الواحدي. وقال ابن عطية: «هو أنبل الأقوال»، وذكر مكي الاحتمالات الثلاثة: أعني كونه بدلاً أو بياناً أو نعتاً، ولكن ما بحثه الحوفي صحيح من حيث الصناعةُ، ومن حيث إن الصحيح في ترتيب المعارف ما ذَكَر من كونِ الإِشارات أعرفَ من ذي الأداة، ولكن قد يقال: القائلُ بكونه نعتاً لا يجعله أعرفَ مِنْ ذي الألف واللام. الخامس: جوَّز أبو البقاء أن يكون «لباسُ» مبتدأً، وخبره محذوف أي: ولباسُ التقوى ساتر عوراتكم «وهذا تقديرٌ لا حاجةَ إليه.
وإسنادُ الإِنزال إلى اللباس: إمَّا لأن أنزل بمعنى خلق كقوله: ﴿وَأَنزْلْنَا الحديد﴾ [الحديد: ٢٥] ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: ٦] وإمَّا على ما يسمِّيه أهلُ العلم التدريجَ وذلك أنه ينزل أسبابه، وهي الماء الذي هو سببٌ في نبات القطن والكتَّان والمرعى الذي تأكله البهائم ذواتُ الصوفِ والشعر والوبر التي يُتَّخَذُ منها الملابسُ، ونحو قولِ الشاعر يصف مطراً:
٢١٧٩ - أقبل في المُسْتَنِّ من سَحابَهْ | أسنِمة الآبال في ربابَهْ |
٢١٨٠ - إذا نَزَلَ السَّماءُ بأرض قومٍ | رَعَيْناه وإن كانوا غضابا |
وقال ابن عطية: «وأيضاً فَخَلْقُ الله وأفعالُه إنما هي من علوٍّ في القَدْر والمنزلة».
وفي قراءة عبد الله وأُبَيّ «ولباس التقوى خير» بإسقاط «ذلك»، وهي مقوِّيةٌ للقول بالفصل والبدل وعطف البيان. وقرأ النحوي: «ولبُوسُ» بالواو ورفع السين. فأمَّا الرفعُ فعلى ما تقدَّم في «لباس»، وأمَّا «لبوس» فلم يُبَيِّنوها: هل هي بفتح اللام فيكون مثلَ قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٠] أو بضم اللام على أنه جمعٌ وهو مُشْكل، وأكثر ما يُتَخَيَّل له أن يكون جمع لِبْس بكسر اللام بمعنى ملبوس.
وقوله: «ذلك مِنْ آيات الله» مبتدأٌ وخبر، والإِشارة به إلى جميع ما تقدَّم من إنزال اللباسِ والريش ولباس التقوى. وقيل: بل هو إشارة لأقرب مذكور وهو لباسُ التقوى فقط.
قوله: ﴿كَمَآ أَخْرَجَ﴾ نعتٌ لمصدرٍ محذوف أي: لا يَفْتنكم فتنةً مثلَ فتنة إخراج أبوَيْكم. ويجوز أن يكون التقدير: لا يُخْرِجَنَّكم بفتنته إخراجاً مثل إخراجه أبويكم. وقوله: «يَنْزِع» جملة في محل نصب على الحال. وفي صاحبها احتمالان، أحدهما: أنه الضمير في «أخرج» العائدُ على الشيطان، والثاني: أنه الأبوين، وجاز الوجهان لأنَّ المعنى يَصِحُّ على كلٍ من التقديرين، والصناعةُ مساعدةٌ لذلك؛ فإن الجملة مشتملة على ضمير الأبوين وعلى ضمير الشيطان. قال الشيخ: «فلو كان بدل» ينزع «نازعاً تعيَّن الأولُ، لأنه إذ ذاك لو جُوِّز الثاني لكان وصفاً جرى على غير مَنْ هو له فكان يجب إبراز الضمير، وذلك على مذهب البصريين». قلت: يعني أنه يفرَّق/ بين الاسم والفعل إذا جريا على غير ما هما له في المعنى: فإن كان اسماً كان مذهبُ البصريين ما ذكر، وإن كان فعلاً لم يَحْتَجْ إلى ذلك. وقد تقدَّم لك الكلامُ على هذه المسألة، وأن الشيخ جمال الدين بن مالك سَوَّى بينهما، وأن مكيَّاً له فيها كلام مُشْكل.
و ﴿يَنْزِعُ﴾ جيء بلفظ المضارع على أنه حكاية حال كأنها قد وقَعَتْ
قوله: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ﴾ :«هو» تأكيد للضمير المتصل ليسوغَ العطفُ عليه، كذا عبارة بعضهم. قال الواحدي: «أعاد الكناية ليحسن العطف كقوله: ﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ [البقرة: ٣٥] قلت: ولا حاجةَ إلى التأكيد في مثل هذه الصورةِ لصحة العطف، إذ الفاصلُ هنا موجودٌ وهو كافٍ في صحة العطف، فليس نظيرَ ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾.
وقد تقدَّم لك بحثٌ في ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ وهو أنه ليسَ من باب العطف على الضمير لمانعٍ ذُكر ثَمَّةَ.
و ﴿وَقَبِيلُهُ﴾ المشهورُ قراءته بالرفع نسقاً على الضمير المستتر، ويجوز أن يكونَ نسقاً على اسم «إنَّ» على الموضع عند مَنْ يجيز ذلك، ولا سيما عند مَنْ يقول: يجوز ذلك بعد الخبر بإجماع. ويجوز أن يكون مبتدأً محذوفَ الخبر فتحصَّل في رفعه ثلاثة أوجه. وقرأ اليزيدي «وقبيلَه» نصباً وفيها تخريجان،
والقبيل: الجماعة يكونون من ثلاثة فصاعداً من جماعة شتى، هذا قول أبي عبيد. والقبيلةُ: الجماعةُ من أب واحد، فليست القبيلةُ تأنيثَ القبيل لهذه المغايرة.
قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾ «مِنْ» لابتداء غاية الرؤية، و «حيث» ظرفُ لمكان انتفاء الرؤية، و «لا تَرَوْنهم» في محل خفض بإضافة الظرف إليه، هذا هو الظاهر في إعراب هذه الآية.
وثَمَّ كلامٌ مُشْكل منقول عن أبي إسحاق، رأيت ذِكْرَه لئلا يَتَوَهَّم صحتَه مَنْ رآه. قال أبو إسحاق: «ما بعد» حيث «صلةٌ لها وليست بمضافةٍ إليه». قال الفارسي: «هذا غيرُ مستقيم، ولا يَصِحُّ أن يكون ما بعد» حيث «صلةً لها؛ لأنه إذا كان صلة لها وَجَبَ أن يكونَ للموصول فيه ذكرٌ، كما أن في سائر صلات الموصول ذِكْراً للموصول، فخلُّو الجملة التي بعد» حيث «من ضميرٍ يعود على» حيث «دليلٌ على أنها ليست صلة لحيث، وإذا لم تكن صلةً كانت مضافة. فإن قيل: نقدِّر العائد في هذا كما نقدِّر العائدَ في الموصولات، فإذا قلت:» رأيتك حيث زيد قائم «كان التقدير: حيث قائمه، ولو قلت: رأيتك حيث قام زيد» كان التقدير: حيث قام زيد فيه، ثم اتُّسِع في الحرف فَحُذِف فاتصل الضمير فحذف، كما يُحْذف في قولك: «زيد الذي
قلت: أبو إسحاق لم يَعْتقد كونَها موصولةً بمعنى الذي، لا يقول بذلك أحد، وإنما يزعم أنها ليست مضافةً للجملة بعدها فصارت كالصلة لها أي كالزيادة، وهو كلامٌ متهافت، فالردُّ عليه من هذه الحيثيَّةِ لا من حيثية اعتقادِه لكونها موصولةً. ويُحتمل أن يكون مرادُه أن الجملة لَمَّا كانت من تمام معناها بمعنى أنها مفتقرةٌ إليها كافتقار الموصول لصلته أُطْلق عليها هذه العبارة، ويَدُلُّ على ما قلته أنَّ مكياً ذكر في علة بنائها فقال:» ولأنَّ ما بعدها مِنْ تمامها كالصلة والموصول «إلا أنه يَرضى أنها مضافةٌ لما بعدها.
وقرئ ﴿مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُ﴾ بالإِفراد، وذلك يحتمل وجهين أحدهما: يكون الضميرُ عائداً على الشيطان وحده دون قبيله، لأنه هو رأسُهم وهم تَبَعٌ له ولأنه المَنْهيُّ [عنه] أول الكلام، وأن يكون عائداً عليه وعلى قبيله، ووحَّد الضميرَ إجراءً له مُجرى اسم الإِشارة في قوله تعالى ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]. ونظير هذه القراءة/ قول رؤبة:
٢١٨١ - فيها خطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ | كأنه في الجلد توليعُ البَهَقْ |
قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا﴾ يحتمل أن يكون بمعنى صَيَّر أي: صَيَّرْنا الشياطينَ
وقوله ﴿لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء﴾ حُذِف المفعولُ الأول للعلم به أي: لا يأمر أحداً، أو لا يأمركم بأمر... ذلك.
وقوله: ﴿مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ مفعولٌ به، وهذا مفرد في قوة الجملة، لأنَّ ما لا يعلمون ممَّا يتقوَّلونه على الله تعالى كلامٌ كثير من قولهم ﴿والله أَمَرَنَا بِهَا﴾ كتبحير البحائر وتسييب السوائب وطوافهم بالبيتِ عُراةً إلى غير ذلك، وكذلك أيضاً حُذِف المفعول من قوله ﴿أَمَرَ رَبِّي بالقسط﴾.
٢١٨٢ - لَلُبْس عباءة وتَقَرَّ عيني | ............ |
وقال الجرجاني صاحب «النظم» :«نَسَق الأمرَ على الجر، وجاز ذلك
و ﴿مَسْجِدٍ﴾ هنا يحتمل أن يكون مكاناً وزماناً. قال الزمخشري:» في وقت كل سجود وفي مكان كل سجود «وكان مِنْ حَقِّ مسجدِ مَسْجَد بفتح العين لضمها في المضارع، وله في هذا الشذوذ أخواتٌ كثيرةٌ مذكورةٌ في التصريف.
وقوله: ﴿مُخْلِصِينَ﴾ حال من فاعل» ادعُوه «، و» الدّين «مفعول به باسم الفاعل. و» له «متعلِّقٌ بمخلصين، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال من» الدين «.
قوله: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ﴾ الكافُ في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوف تقديره: تَعُودون عَوْداً مثلَ ما بدأكم. وقيل: تقديره يَخْرجون خروجاً مثل ما بدأكم ذكرهما مكي، والأول أليقُ بلفظِ الآيةِ الكريمة. وقال ابن الأنباري:» موضعُ الكاف في «كما» نصبٌ بتعودون؛ وهو على مذهبِ العرب في تقديم مفعول الفعل عليه أي: تعودون كما ابتدأ خلقكم «.
قال الفارسي «كما بدأكم تعودون» ليس على ظاهره إذ ظاهرُه: تعودون كالبَدْء، وليس المعنى تشبيهَهم بالبَدَاء، إنما المعنى على إعادةِ الخَلْق كما ابتُدِئ، فتقديرُ كما بدأكم تعودون: كما بدأ خَلْقَكم أي: يُحْيي خَلْقَكم عَوْداً كبدئه، وكما أنه لم يَعْنِ بالبَدْء ظاهرَه من غير حذفِ المضافِ إليه كذلك لم يَعْنِ
و «بدأ» بالهمز أنشأ واخترع، ويُسْتعمل بهذا المعنى ثلاثياً ورباعياً على أَفْعل، فالثلاثيُّ كهذه الآيةِ، وقد جمع بين الاستعمالين في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق﴾ [العنكبوت: ١٩] فهذا مِنْ أبدأ، ثم قال: ﴿كَيْفَ بَدَأَ الخلق﴾ [العنكبوت: ٢٠] هذا فيما يتعدَّى بنفسه. وأمَّا ما يتعدى بالباء نحو: بدأت بكذا بمعنى قَدَّمْته وجَعَلْته أولَ الأشياء يُقال منه: بدأت به وابتدأت به. وحكى الراغب أيضاً أنه يقال مِنْ هذا: أَبْدَأْت به على أَفْعَل وهو غريب، وقولهم «أَبْدَأْتُ من أرض كذا» أي ابتدأت منها بالخروج. والبَدْءُ: السيِّدُ، سُمِّيَ بذلك قيل: لأنه يُبْدأ به في العدِّ إذا عُدَّ السادات، وذكروا عليه قوله:
٢١٨٣ - فَجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً ولمَّا | فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ |
الوجه الثاني: أن ينتصبَ «فريقاً» على الحال من فاعل «تَعُودون» أي: تعودون: فريقاً مَهْدِيَّاً وفريقاً حاقَّاً عليه الضلالة، وتكون الجملتان الفعليتان على هذا في محل نصب على النعت لفريقاً وفريقاً، ولا بد حينئذ من حَذْفِ عائد على الموصوف من هَدَى أي: فريقاً هداهم، ولو قَدَّرْته «هداه» بلفظ الإِفراد لجاز، اعتبار بلفظ «فريق»، إلا أن الأحسنَ الأول لمناسبة قوله: ﴿وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ﴾، والوقف حينئذ على قوله «الضلالة»، ويؤيد إعرابَه حالاً قراءةُ أُبَيّ بن كعب: «تعودون فريقَيْن: فريقاً هدى وفريقاً حقَّ عليهم الضلالة» ففريقَيْن نصب على الحال، وفريقاً وفريقاً بدل أو منصوب بإضمار
وهذه الأوجهُ كلُّها ذكرها ابن الأنباري فإنه قال كلاماً حسناً، قال رحمه الله: «انتصب فريقاً وفريقاً على الحال من الضمير الذي في تعودون، يريد: تعودون كما ابتدأ خَلْقُكم مختلفين، بعضكم أشقياء وبعضكم سُعَداء، فاتصل» فريق «وهو نكرةٌ بالضمير الذي في» تعودون «وهو معرفة فقُطِع عن لفظه، وعُطِف الثاني عليه». قال: «ويجوز أن يكونَ الأول منصوباً على الحال من الضمير، والثاني منصوب بحقَّ عليهم الضلالة، لأنه بمعنى أضلَّهم كما يقول القائل:» عبد الله أكرمته وزيداً أحسنت إليه «فينتصب زيداً بأحسنت إليه بمعنى نَفَعْته، وأنشد:
٢١٨٤ - خَلَتِ الديارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ | ومن العَناء تفرُّدي بالسُّؤْدُدِ |
٢١٨٥ - أثعلبةَ الفوارسِ أم رِياحا | عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا |
٢١٨٦ - يا ليت ضيفَكمُ الزبيرَ وجارَكم | إيايَ لبَّس حبلَه بحبالي |
وقوله: ﴿إِنَّهُمُ اتخذوا﴾ جارٍ مَجْرى التعليل وإن كان استئنافاً لفظاً، ويدلُّ على ذلك قراءةُ عيسى بن عمر والعباس بن الفضل وسهل بن شعيب» أنهم «بفتح الهمزة وهي نصٌّ في العِلِّيَّة أي: حَقَّتْ عليهم الضلالة لاتِّخاذهم الشياطينَ أولياءَ، ولم يُسْند الإِضلال إلى ذاته المقدسة وإن كان هو الفاعلَ لها تحسيناً للفظ وتعليماً لعباده الأدبَ، وعليه: ﴿وعلى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾ [النحل: ٩].
وقوله ﴿مِنَ الرزق﴾ حالٌ من «الطيبات». قوله «خالصة» قرأها نافع رفعاً، والباقون نصباً. فالرفع من وجهين أحدهما: أن تكون مرفوعةً على خبر المبتدأ وهو «هي»، و «للذين آمنوا» متعلِّقٌ ب «خالصة»، وكذلك يوم القيامة، وقال مكي: «ويكون قوله للذين تبييناً». قلت: فعلى هذا تتعلق بمحذوف كقولهم: سَقْياً لك وجَدْعاً له. و «في الحياة الدنيا» متعلِّقٌ بآمنوا، والمعنى: قل الطيبات/ خالصة للمؤمنين في الدنيا يوم القيامة أي: تَخْلُص يومَ القيامة لِمَنْ آمن في الدنيا، وإن كانت مشتركاً فيها بينهم وبين الكفار في الدنيا،
الثاني: أن يكون خبراً بعد خبر، والخبر الأول قوله «للذين آمنوا»، و «في الحياة الدنيا» على هذا متعلِّقٌ بما تعلق به الجارُّ من الاستقرار المقدر، ويوم القيامة معمولٌ لخالصة كما مَرَّ في الوجه قبله، والتقدير: قل الطيبات مستقرة أو كائنة للذين آمنوا في الحياة الدنيا، وهي خالصة لهم يوم القيامة، وإن كانوا في الدنيا يُشاركهم الكفار فيها. ولَمَّا ذكر الشيخ هذا الوجه لم يُعَلِّقْ «في الحياة» إلا بالاستقرار، ولو عَلَّق بآمنوا كما تقدَّم في الوجهِ قبله لكان حسناً وكون «خالصة» خبراً ثانياً هو مذهبُ الزجاج، واستحسنه الفارسي ثم قال: «ويجوز عندي»، فذكر الوجه الأول كما قررته ولكن بأخصر عبارة.
والنصبُ من وجهٍ واحد وهو الحال، و «للذين آمنوا» خبر «هي» فيتعلق بالاستقرار المقدر، وسيأتي أنه يتعلَّق باستقرار خاص في بعض التقادير عند بعضهم.
و ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ على ما تقدَّم مِنْ تعلُّقِه بآمنوا أو بالاستقرار المتعلِّق به «للذين». و «يوم القيامة» متعلِّقٌ أيضاً بخالصة، والتقدير: قل الطيباتُ كائنةٌ أو مستقرة للمؤمنين في الحياة حالَ كونهم مقدَّراً خلوصُها لهم يوم القيامة. وسَمَّى الفراء نصبَها على القطع فقال: «خالصةً نصبٌ على القطع»، وجعلَ خبر «هي» في اللام التي في قوله «للذين». قلت: يعني بالقطع الحال.
وجَوَّزَ الفارسي وتبعه مكي أن يتعلق «في الحياة» بحرَّم، والتقدير: مَنْ حرَّم زينةَ الله في الحياة الدنيا؟ وجوَّز أيضاً أن يتعلق بالطيبات، وجوَّز الفارسيُّ وحدَه أن يتعلق بالرزق. ومنع مكي ذلك قال: «لأنك قد فَرَّقْتَ بينهما بقوله: ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ يعني أن الرزقَ مصدر فالمتعلَّق به مِنْ تمامه كما هو من تمام الموصول، وقد فصلْتَ بينه وبين معموله بجملة أجنبية، وسيأتي عن هذا جواب عن اعتراض اعتَرَض به على الأخفش.
وجوَّز الأخفش أن يتعلق» في الحياة «بأخرج أي: أخرجها في الحياة الدنيا. وهذا قد ردَّه عليه الناسُ، فإنه يلزم منه الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو قولُه ﴿وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق﴾ وقولُه ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾، وذلك أنه لا يُعْطَفُ على الموصول إلا بعد تمام صلته، وهنا قد عطفت على موصوف الموصول قبل تمام صلته، لأنَّ» التي أَخْرَجَ «صفة لزينة، و» الطيبات «عطف على» زينة «. وقوله:» قل هي للذين «جملة أخرى قد فَصَلَت على هذا التقدير بشيئين.
قال الفارسي كالمجيب عن الأخفش:» ويجوز ذلك وإن فُصِل بين الصلة والموصول بقوله: ﴿هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ لأنَّ ذلك كلامٌ يَشدُّ الصلة
ومنع مكي أن يتعلق ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ بزينة قال:» لأنها قد نُعِتت والمصدر واسم الفاعل متى نُعِتا لا يعملان لبُعْدهما عن شبه الفعل «قال:» ولأنه يُفَرَّق بين الصلة والموصول؛ لأنَّ نعت الموصول ليس من صلته «.
قلت: لأن «زينة» مصدر فهي في قوة حرفٍ موصولٍ وصلته، وقد تقرَّر أنه لا يُتْبع الموصولُ إلا بعد تمام صلته. فقد تحصَّل في تعلُّق «للذين آمنوا» ثلاثةُ أوجه: إمَّا أَنْ يتعلَّق بخالصة، أو بمحذوفٍ على أنها خبرٌ، أو بمحذوفٍ على أنها للبيان. وفي تعلُّق ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ سبعةُ أوجهٍ أحدها: أن يتعلَّق بآمنوا.
فإن قيل: إذا كان الأمر على ما زعَمْتَ مِنْ معنى الشِّركة بينهم في الدنيا فكيف جاء قوله: ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ وهذا مُؤْذِنٌ ظاهراً بعدم الشِّرْكة؟ قلت: قد أجابوا عن ذلك من أوجه: أحدُها: أن في الكلام حذفاً تقديره: قل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الحياة الدنيا خالصة لهم يوم القيامة، قاله أبو القاسم الكرماني، وكأنه دلَّ على المحذوف قولُه بعد ذلك ﴿خَالِصَةً يَوْمَ القيامة﴾ إذ لو كانت خالصةً لهم في الدارَيْن لم يَخُصَّ بها إحداهما. والثاني: أن «للذين آمنوا» ليس متعلقاً بكونٍ مطلقٍ بل بكون مقيدٍ، يدلُّ عليه المعنى، والتقدير: قل هي غيرُ خالصةٍ للذين آمنوا، لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة لهم يوم القيامة، قاله الزمخشري، ودلَّ على هذا الكون المقيَّد مقابلُه وهو قوله: ﴿خَالِصَةً يَوْمَ القيامة﴾. الثالث: ما ذكره الزمخشري، وسبقه إليه التبريزي قال: «فإن قلت: هَلاَّ قِيل [هي] للذين آمنوا ولغيرهم؟ قلت: التنبيهُ على أنها خُلِقَتْ للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأنَّ الكفرةَ تبعٌ لهم كقوله تعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾ [البقرة: ١٢٦]. وقال التبريزي:» ولم يَذْكر الشركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدنيا تنبيهاً أنه إنما خَلَقها للذين آمنوا بطريق الأصالة، والكفار تَبَعٌ لهم، ولذلك خاطب المؤمنين بقوله: {هُوَ الذي
٢١٨٧ - نهانا رسولُ الله أَنْ نقرَب الزِّنى | وأن نشرب الإِثمَ الذي يُوجب الوِزْرا |
٢١٨٨ - ورُحْتُ حزيناً ذاهلَ العقل بعدهمْ | كأني شربتُ الإِثمَ أو مَسَّني خَبَلُ |
٢١٨٩ - شَرِبْتُ الإِثمَ حتى ضَلَّ عقلي | كذاك الإِثمُ يَذْهب بالعقولِ |
و ﴿بِغَيْرِ الحق﴾ حالٌ، وهي مؤكدة لأن البغي لا يكون إلا بغير حق و» أَنْ تُشْرِكوا «منصوبُ المحلِّ نسقاً على مفعول» حَرَّمَ «أي: وحَرَّم إشراكَكَم عليكم، ومفعولُ الإِشراك ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ وقد تقدَّم بيانُه في الأنعام. و ﴿أَن تقولوا﴾ أيضاً نسقٌ على ما قبله أي: وحرَّم قولكم عليه مِنْ غير علمٍ. وقال الزمخشري:» ما لم يُنّزِّل به سلطاناً: تهكُّمٌ بهم لأنه/ لا يجوزُ أن يُنْزِلَ برهاناً أَنْ يُشْرَكَ به غيرُه «.
قوله: ﴿وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ هذا مستأنفٌ، معناه الإِخبار بأنهم لا يَسْبقون أَجَلَهم المضروبَ لهم بل لا بد من استيفائهم إياه، كما أنهم لا يتأخرون عنه أقلَّ زمان. وقال الحوفي وغيرُه:» إنه معطوفٌ على «لا يستأخرون» وهذا لا يجوزُ، لأن «إذا» إنما يترتَّب عليها وعلى ما بعدها الأمورُ المستقبلة لا الماضية، والاستقدامُ بالنسبة إلى مجيء الأجل متقدم عليه فكيف يترتب عليه؟ ويصير هذا من باب الإِخبار بالضروريات التي لا يَجْهل أحدٌ معناها، فيصير نظير قولك: «إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك فيما مضى» ومعلوم أن قيامَك في المستقبل لم يتقدَّمْ قيامك هذا.
وقال الواحدي: «إن قيل: ما معنى هذا مع استحالة التقديم على الأجل وقتَ حضوره؟ وكيف يَحْسُن التقديمُ مع هذا الأجل؟ قيل: هذا على المقاربة لأنَّ العربَ تقول:» جاء الشيء «إذا قَرُب وقتُه، ومع مقاربة الأجل يُتَصور الاستقدامُ، وإن كان لا يتصور مع الانقضاء، والمعنى: لا يستأخرون عن آجالهم إذا انقضَتْ ولا يَسْتقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء». قلت: هذا بناءً منه على أنه معطوفٌ على «لا يستأخرون» وهو ظاهرُ أقوال المفسرين.
وحَذَفَ مفعولَيْ «اتَّقى وأصلحَ» اختصاراً للعِلْم بهما أي: اتَّقى ربَّه وأصلح عمله، أو اقتصاراً أي: فَمَنْ كان من أهل التقوى والصلاح، من غير نظرٍ إلى مفعول كقوله: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى﴾ [النجم: ٤٨] ولكن لا بد من تقديرِ رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين الجملةِ الشرطية، والتقدير: فَمَنْ اتَّقى منكم والذين كَذَّبوا منكم.
وقرأ أُبَيُّ والأعرجُ «تأتينَّكم» بتاء مثناة من فوق، نظراً إلى معنى جماعة الرسل، فيكونُ قوله تعالى: «يَقُصُّون» بالياء من تحت حَمْلاً على المعنى؛ إذ لو حُمل على اللفظ لقال: «تَقُصُّ» بالتأنيث أيضاً.
قوله: ﴿حتى إِذَا﴾ :«حتى» هنا غايةٌ، و «إذا» وما في حَيِّزها تقدَّم لك الكلامُ عليها غيرَ مرة: هل هي جارَّةٌ أو حرفُ ابتداء؟ وتقدَّم عبارةُ الزمخشري فيها. واختلفوا فيها إذا كانت حرفَ ابتداء أيضاً: هل هي حينئذ جارّةٌَ وتتعلَّق بما قبلها تعلُّقَ حروفِ الجر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، والجملة
٣١٩٠ - سَرَيْتُ بهمْ حتى تَكِلَّ مطيُّهم | وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بأرسانِ |
٢١٩١ - فما زالت القتلى تَمُجُّ دماءَها | بدجلةَ حتى ماءُ دجلةَ أَشْكلُ |
٢١٩٢ - فيا عجبا حتى كليبٌ تَسُبُّني | كأنَّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشعُ |
وقوله: ﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال. وكُتِبت» أينما «متصلةً وحقُّها الانفصالُ، لأنَّ» ما «موصولةٌ لا صلةٌ، إذ التقدير: أين الذين تدعونهم؟ ولذلك كُتِبَ ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ﴾ [الأنعام: ١٣٤] منفصلاً و ﴿إِنَّمَا الله﴾ [النساء: ١٧١] متصلاً. وقولهم:» ضلُّوا «جواب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، وذلك أن السؤالَ إنما وقع عن مكان الذين كانوا يَدْعونهم من دون الله، فلو جاء الجوابُ على نسق السؤال لقيل: هم في المكان الفلاني، وإنما المعنى: ما فَعَل معبودُكم ومَنْ كنتم تدعونهم؟ فأجابوا بأنهم ضاعوا عنهم وغابوا.
قوله: ﴿وَشَهِدُواْ﴾ يُحتمل أن يكونَ نَسَقاً على «قالوا» الذي وقع جواباً لسؤال الرسل فيكون داخلاً في الجواب أيضاً. ويحتمل أن يكون مستأنفاً مقتطعاً عَمَّا قبله ليس داخلاً في حيز الجواب. كذا قال الشيخ وفيه نظر؛ من حيث إنه جَعَل هذه الجملة جواباً لعطفها على قالوا، وقالوا في الحقيقة ليس هو الجواب، إنما الجواب هو مقول هذا القول وهو «ضلُّوا عنا» ف «ضَلُّوا عنا» هو الجوابُ الحقيقي الذي يُسْتفاد منه الكلام. ونظيره أن يقول: سَأَلْتُ زيداً ما فعل؟ فقال: أطعمتُ وكسوتُ، فنفس أطعمتُ وكسوتُ هو الجوابُ. وإذا تقرَّر هذا فكان ينبغي أن يقول «فيكون» معطوفاً على «ضلوا عنا»، ثم لو قال كذلك لكان مُشْكلاً من جهة أخرى: وهو أنه كان يكون التركيبُ الكلامي: «ضلُّوا عنا وشهدنا على أنفسنا أنَّا كنَّا»، إلا أَنْ يُقال: حكى الجواب الثاني على المعنى، فهو محتملٌ على بُعْدٍ بعيد.
٢١٩٣ - شموسٌ وَدُوْدٌ في حياءٍ وعفةٍ | رخيمةُ رَجْع الصوتِ طيبةُ النَّشْر |
ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لأمم فتكون «أمم» قد وُصِفَتْ بثلاثة أوصاف، الأول: الجملةُ الفعليةُ وهي قولُه «قد خَلَتْ»، والثاني: الجار والمجرور وهو قوله ﴿مِّن الجن والإنس﴾، والثالث: قولُه «في النار»، والتقدير: في أمم خاليةٍ من قبلكم كائنةٍ من الجن والإِنس ومستقرةٍ في النار.
ويجوز أن تتعلَّق «في النار» بمحذوفٍ أيضاً لا على الوجه المذكور، بل على كونِه حالاً مِنْ «أمم»، وجاز ذلك وإن كانَتْ نكرة لتخصُّصها بالوَصْفَيْن
وقوله «حتى» هذه غاية لما قبلها، والمعنى: أنهم يدخلون فوجاً فوجاً لاعناً بعضُهم لبعض إلى انتهاء تداركهم فيها. والجمهور قرؤوا «إذا ادَّاركوا» بوصل الألف وتشديد الدال، والأصلُ: تداركوا، فلما أريد إدغامُه فُعِل به ما فُعِل بادَّارَأْتم. وقد تقدَّم تحقيقُ تصريفه في البقرة.
قال مكي: «ولا يُسْتطاع اللفظُ بوزنها مع ألف الوصل؛ لأنَّك تَرُدُّ الزائد أصلياً فتقول: افَّاعلوا، فتصير تاء تفاعَل فاءَ الفعل لإِدغامها في فاء الفعل، وذلك لا يجوز فإنْ وَزَنْتَها على الأصل فقلت: تَفَاعلوا جاز». قلت: هذا الذي ذَكَر مِنْ كونه لا يمكن وزنُه إلا بالأصل وهو تفاعلوا ممنوع. قوله: «لأنك تَرُدُّ الزائدَ أصلياً» قلنا: لا يلزم ذلك لأنَّا نَزِنُه بلفظِه مع همزةِ الوصل ونأتي بتاء التفاعل بلفظها فنقول: وزنُ ادَّاركوا اتْفاعَلوا فيُلْفَظُ بالتاءِ اعتباراً بأصلها لا بما صارت إليه حالَ الإِدغام.
وهذه المسألةُ نَصُّوا على نظيرها وهو أن تاءَ الافتعال إذا أُبْدلت إلى حرف مجانس لما قبلها... تُبْدَلُ طاءً أو دالاً في نحو: اصطبر واضطرب وازدجر وادَّكر، إذا وُزِن ما هي فيه قالوا: يُلْفَظُ في الوزن بأصل تاء الافتعال، ولا يُلْفَظُ بما صارَتْ إليه من طاء أو دال، فتقول: وزن اصطبر افتعل لا افطعل، ووزن ازدَجَر افتعل لا افدعل، فكذلك تقول هنا: وزن ادَّاركوا اتْفاعلوا لا افَّاعلوا، فلا فرقَ بين تاء الافتعال والتفاعل في ذلك.
وقرأ حميد «أُدْرِكوا» بضم همزة القطع، وسكون الدال وكسر الراء، مثل «أُخْرِجوا» جعله مبنياً للمفعول بمعنى: أُدْخِلوا في دَرَكاتها أو أدراكها، ونُقِل عن مجاهد بن جبر قراءتان: فَرَوى عنه مكي «ادَّارَكوا» بوصل الألف وفتح الدال مشددة وفتح الراء، وأصلُها «ادْتَرَكوا» على افتعلوا مبنياً للفاعل ثم أدغم كما أدغم ادَّان من الدَّيْن. وروى عنه غيره «أَدْرَكوا» بتفح الهمزة مقطوعةً وسكونِ الدال وفتح الراء أي أدرك بعضهم بعضاً. وقال أبو البقاء: «وقرئ: إذا ادَّاركوا» بألفٍ واحدة ساكنة بعدها دالٌ مشددة وهو جمعٌ بين ساكنين، وجاز في المنفصل كما جاز في المتصل، وقد قال بعضهم «اثنا عْشر» بإثبات الألف وسكون العين «، قلت: يعني بالمتصل نحو: الضالِّين وجانّ، ومعنى المنفصل أن ألف» إذا «من كلمة، والساكن الثاني من كلمة أخرى. وادَّاركوا بمعنى تلاحقوا. وتقدَّم تفسيرُ هذه المادة.
و ﴿جَمِيعاً﴾ حالٌ من فاعل» ادَّاركوا «. وأُخْراهم وأُولاهم: يحتمل أن تكونَ
والفرقُ بين أخرى بمعنى آخِرة وبين أخرى تأنيث آخَر بزنة أفعل للتفضيل أنَّ التي للتفضيل لا تدلُّ على الانتهاء كما لا يَدُلُّ عليه مذكَّرها، ولذلك يُعْطف أمثالُها عليها في نوعٍ واحد تقول: مررت بامرأةٍ وأخرى وأخرى، كما تقول: برجل وآخر وآخر، وهذه تدلُّ على الانتهاء كما يدلُّ عليه مذكَّرها ولذلك لا يُعْطَفُ أمثالُها عليها، ولأنَّ الأولى تفيد إفادة» غير «، وهذه لا تفيد إفادةَ» غير «.
والظاهرُ في هذه الآيةِ الكريمة أنهما ليستا للتفضيل بل لِما ذكرت لك/.
وقوله: ﴿لأُولاَهُمْ﴾ اللامُ للتعليل أي لأجل، ولا يجوز أن تكون التي للتبليغ كهي في قولك: قلت لزيدٍ افعل. قال الزمخشري: «لأنَّ خطابَهم مع الله لا معهم» وقد بَسَط القولَ قبله في ذلك الزجاج فقال: «والمعنى: وقالت أخراهم: يا ربَّنا هؤلاء أضلونا، لأولاهم» فَذَكَرَ نحوه. قلت: وعلى هذا فاللامُ الثانيةُ في قوله «أُولاهم لأخراهم» يجوز أن تكون للتبليغ، لأنَّ خطابَهم معهم بدليل قوله: «فما كان لكم علينا مِنْ فضلٍ، فذوقوا بما كنتم تَكْسِبون».
وقوله «ضِعْفاً» قال أبو عبيدة: «الضِّعْفُ: مثلُ الشيء مرةً واحدة» قال
و» ضِعْفاً «صفة ل» عذاباً «. و» من النار «يجوز أن يكون صفة ل» عذاباً «وأن يكون صفةً ل» ضِعْفاً «، ويجوز أن يكونَ ضعفاً بدلاً من» عذاباً «.
وقوله» لكلٍّ «أي: لكل فريق من الأخرى والأولى. وقوله:» ولكن لا تعلمون، قراءةُ العامة بتاء الخطاب: إمَّا خطاباً للسائلين، وإمَّا خطاباً لأهل
و «بما» الباء سببية، و «ما» مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائد محذوف أي: تكسبونه.
وقوله ﴿فِي سَمِّ الخياط﴾ متعلقٌ ب «يَلِجُ». وسَمُّ الخياط ثقب الإِبرة وهو الخُرْتُ، وسينُه مثلثةٌ، وكل ثقبٍ ضيقٍ فهو سَمّ. وقيل: كل ثقب في البدن، وقيل: كل ثقب في أنفٍ أو أذن فهو سَمٌّ، وجمعه سُموم، قال الفرزدق:
٢١٩٤ - فَنَفَّسْتُ عن سَمَّيْهِ حتى تَنَفَّسَا | وقلت له لا تخش شيئاً ورائيا |
والوُلوج: الدخول بشدة ولذلك يقال: هو الدخول في مضيق فهو أخصُّ من الدخول. والوَليجة: كلُّ ما يعتمده الإِنسان، والوليجة: الداخلُ في قومٍ ليس منهم.
والجَمَل قراءة العامة وهو تشبيه في غاية الحسن، وذلك أن الجملَ أعظمُ حيوانٍ عند العرب وأكبره جثةً حتى قال:
٢١٩٥ -................ | جسمُ الجِمالِ وأحلام العصافير |
٢١٩٦ - لقد كَبُر البعيرُ بغير لُبٍّ | ....................... |
٢١٩٧ - إذا شاب الغراب أتَيْتُ أهلي | وصارَ القارُ كاللينِ الحليب |
وقرأ ابن عباس أيضاً في رواية عطاء: الجُمُل بضم الجيم والميم مخففة، وبها قرأ الضحَّاك والحجدري. وقرأ عكرمة وابن جبير بضم الجيم وسكون الميم. والمتوكل وأبو الجوزاء بالفتح والسكون، وكلها لغات في القَلْس المذكور. وسئل ابن مسعود عن الجمل في الآية، فقال: زوج الناقة، كأنه فهم ما أراد السائل فاستغباه. وقرأ عبد الله وقتادة وأبو رزين وطلجة: «سُمّ» بضم السين. وأبو عمران الحوفي وأبو نهيك والأصمعي عن نافع: سِمّ بالكسر. وقد تقدَّم أنها لغات. وقرأ عبد الله وأبو رزين وأبو مجلز: المِخْيَط بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء. وطلحة بفتح الميم. وهذه مخالفة للسواد.
قوله: ﴿وكذلك﴾ أي: ومثل ذلك الجزاء نجزي المجرمين، فالكافُ نعتٌ لمصدر محذوف.
وغَواشٍ: جمع غاشية. وللنحاة في الجمع الذي على مفاعل إذا كان منقوصاً بقياسٍ خلافٌ: هل هو منصرف أو غير منصرف؟ فبعضهم قال: هو منصرفٌ لأنه قد زال [منه] صيغة منتهى الجموع فصار وزنُه وزن جَناح وقَذَال فانصرف. وقال الجمهور: هو ممنوع من الصرف، والتنوينُ تنوينُ عوض. واختُلِفَ في المُعَوَّض عنه ماذا؟ فالجمهور على أنه عوضٌ من الياء المحذوفة. وذهب المبرد إلى أنه عوضٌ من حركتها. والكسرُ ليس كسرَ إعراب، وهكذا جَوارٍ ومَوالٍ. وبعضهم يجرُّه بالفتحة قال:
٢١٩٨ - ولو كان عبدُ الله مولىً هجوتُه | ولكنَّ عبدَ اللهِ مَوْلَى مَواليا |
٢١٩٩ - قد عَجِبَتْ مني ومن يُعَيْلِيا | لَمَّا رَأَتْني خَلَقاً مُقْلَوْلِيا |
قوله: ﴿وكذلك﴾ تقدَّم مثله. وقوله ﴿الظالمين﴾ يحتمل أن يكون من باب وقوع الظاهرِ موقع المضمر. والمراد بالظالمين المجرمون، ويحتمل أن يكونوا غيرَهم وأنهم يُجْزَون كجزائهم.
وردَّ الشيخ الوجهين الأوَّلين: أمَّا الثاني فلأنَّ ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار﴾ ليس مِنْ صفة فاعل «نَزَعْنا» ولا مفعوله وهما «ن» و «ما» فكيف ينتصب
والغِلُّ: الحِقْد والإِحْنَةُ والبغض، وكذلك الغُلول. وجمع الغِلّ غلال. والغُلول: الأَخْذُ في خُفْية، وأحسنُ ما قيل أن ذلك من لفظ الغِلالة كأنه تَدَرَّع ولبس الحقد والخيانة حتى صار إليه كالغِلالة الملبوسة.
قوله: ﴿لولا أَنْ هَدَانَا﴾ أَنْ وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ على ما قَدَّرْته غير مرة، وجواب «لولا» مدلول عليه بقوله: «وما كنا» تقديره: لولا هدايةٌ لنا موجودة لشَقِيْنا أو ما كنا مهتدين. و «لقد جاءت» جواب قسم مقدر. و «بالحق» يجوز أن تكون الباءُ للتعدية، فبالحق مفعولٌ معنى، ويجوز أن تكون للحال أي: جاؤوا ملتبسين بالحق.
قوله: ﴿أَن تِلْكُمُ﴾ يجوز أن تكون المفسِّرة، فَسَّرَت النداء وهو الظاهر بما بعدها. ويجوز أن تكون المخففةَ، واسمُها ضمير الأمر محذوفاً، وأن وما بعدها في محل نصب أو جر؛ لأنَّ الأصلَ: بأن تلكم، وأشير إليها بإشارة البعيد لأنهم وُعِدوها في الدنيا. وعبارة بعضهم «هي إشارة لغائبة» [فيها] مسامحة لأنَّ الإِشارة لا تكون إلا لحاضر، ولكن العلماء تُطْلق على البعيد غائباً مجازاً.
و ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ تقدم غير مرة. والجماعة على «وما كنا» بواو وكذلك هي في مصاحف الأمصار غيرَ الشام. وفيها وجهان، أظهرهما: أنها واو الاستئناف، والجملة بعدها مستأنفة. والثاني: أنها حالية. وقرأ ابن عامر: «وما كنا» بدون واو، والجملة على ما تقدَّم من احتمالي الاستئناف والحال، وهي في مصحف الشاميين كذا/ فقد قرأ كلٌّ بما في مصحفه.
و ﴿نَعَمْ﴾ حرفُ جوابٍ كأجل وإي وجَيْر وبلى. ونقيضتها لا، و «نعم» تكون لتصديق الإِخبار أو إعلام استخبار أو وَعْدِ طالب، وقد يُجاب بها النفيُ المقرونُ باستفهام وهو قليل جداً كقوله:
٢٢٠٠ - أليس الليلُ يجمعُ أُمَّ عمروٍ | وإيَّانا فذاك بنا تَدَاني |
نعم وترى الهلالَ كما أراه | ويَعْلوها النهارُ كما عَلاني |
وتُكْسَرُ عينُها، وبها قرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب، وهي لغةُ كنانة. وطعن أبو حاتم عليها وقال: «ليس الكسر بمعروف». واحتجَّ الكسائي لقراءته بما يُحكى عن عمر بن الخطاب أنه سأل قوماً فقالوا: نَعَم يعني بالفتح فقال: «أمَّا النَّعَم فالإِبل فقولوا: نَعِم» أي بالكسر. قال أبو عبيد: «ولم نَرَ العرب يعرفون ما رَوَوْه عن عمر ونراه مُوَلَّداً». قلت: هذا طعنٌ في
وقوله: ﴿بَيْنَهُمْ﴾ يجوز أن يكونَ منصوباً ب «أذَّن» أو ب «مؤذِّن»، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفةٌ ل «مؤذِّن». قال مكي عند إجازته هذا الوجه: «ولكن لا يعمل في» أَنْ «» مُؤَذِّن «إذ قد نَعَته» يعني أنَّ قوله «أَنْ لعنةُ» لا يجوز أن يكونَ معمولاً [ل «مؤذن لأنه موصوف، واسم الفاعل متى وُصِف لم يعمل.
قلت: هذا يُوهِمُ أنَّا إذا لم نجعل «بينهم» نعتاً ل «مؤذِّن» جاز أن يعمل في «أن» ] وليس الأمر كذلك، [لأنك لو قلت] :«ضرب ضاربٌ زيداً» تنصب زيداً ب ضرب لا بضارب. لكني قد رأيت الواحدي [أجاز ما] أجاز مكي [من كون] «مؤذِّن» عاملاً في «أَنْ»، وإذا وَصَفْتَه امتنع ذلك، وفيه ما تقدَّم وهو حسن.
و «أَنْ» يجوز أن تكون المفسِّرة، وأن تكونَ المخففةَ، والجملة الاسميةُ بعدها الخبر، ولا حاجةَ هنا لفاصل. وقرأ الأخوان وابن عامر والبزِّي: «أنَّ» بفتح الهمزة وتشديد النون ونصب اللعنة على أنها اسمها، و «على الظالمين» خبرها، وكذلك في النور «أن لعنةُ الله عليه» خَفَّف «أَنْ» ورفع اللعنة نافع وحده، والباقون بالتشديد والنصب. وقرأ عصمة عن الأعمش: إنَّ
والأعراف جمع عُرْف بضم العين، وهو كل مُرْتَفَع من أرض وغيرها استعارةً مِنْ عُرْف الديك وعُرْف الفَرَس، كأنه عُرِف بارتفاعه دونَ الأشياءِ المنخفضة فإنها مجهولة غالباً، قال أمية بن أبي الصلت:
٢٢٠١ - وآخرون على الأعراف قد طَمِعوا | في جنة حَفَّها الرمَّانُ والخَضِرُ |
٢٢٠٢ - كلُّ كِنازِ لَحْمِه نيافِ | كالجبلِ المُوْفِي على الأعرافِ |
٢٢٠٣ - فظلَّتْ بأعرافٍ تَعادَى كأنها | رِماحٌ نَحاها وِجْهةَ الريحِ راكزٌ |
قوله: ﴿وَنَادَوْاْ﴾ هذا الضميرُ وما بعده لرجال. وقوله ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا﴾ في هذه الجملة أوجه، أحدها: أنها حال من فاعل «نادوا» أي: نادى أهل الأعراف حالَ كونهم غير داخلين الجنة. وقوله «وهم يطمعون» يحتمل أن يكون حالاً مِنْ فاعل «يَدْخلُوها» ثم لك اعتباران بعد ذلك، الأول: أن يكون المعنى: لم يدخلوها طامعين في دخولها بل/ دخلوها على يأس مِنْ دخولها. والثاني: أن المعنى: لم يدخلوها حال كونهم طامعين أي: لم يدخلوا بعد، وهم في وقت عدم الدخول طامعون، ويحتمل أن يكون مستأنَفَاً أخبر عنهم بأنهم طامعون في الدخول.
الوجه الثاني: أن يكون حالاً من مفعول «نادوا» أي: نادَوهم حالَ كونهم غيرَ داخلين. وقوله: «وهم يَطْمَعون» على ما تقدم آنفاً. والوجه
وقال مكي كلاماً عجيباً وهو أن قال: «إنْ حَمَلْتَ المعنى على أنهم دخلوها كان» وهم يطمعون «ابتداء وخبراً في موضع الحال من المضمر المرفوع في» يدخلوها «، معناه: أنهم يئسوا من الدخول فلم يكن لهم طمعٌ في الدخول، لكن دخلوا وهم على بأس من ذلك، فإنْ حَمَلْتَ معناه أنهم لم يدخلوا بعدُ ولكنهم يطمعون في الدخولِ برحمة الله كان ابتداءً وخبراً مستأنفاً».
وقال بعضُهم: «جملةُ قوله» لم يدخلوها «من كلام أصحاب الجنة، وجملةُ قوله وهم يطمعون» من كلام الملائكة «قال عطاء عن ابن عباس:» إن أصحابَ الأعراف ينادُون أصحابَ الجنة بالسلام، فيردُّون عليهم السلام، فيقول أصحاب الجنة للخزنة: ما لأصحابنا على أعراف الجنة لم يدخلوها؟ فيقول لهم الملائكة جواباً لهم وهم يطمعون «، وهذا يَبْعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن.
والطمع هنا يحتمل أن يكونَ على بابه، وأن يكونَ بمعنى اليقين. قالوا: لقوله تعالى حكايةً عن إبراهيم على نبيِّنا وعليه أفضلُ الصلاة والسلام: ﴿والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ﴾ [الشعراء: ٨٢] وقال:
وفي قوله: ﴿صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ﴾ فائدةٌ جليلة وهو أنهم لم يَلْتفتوا إلى جهة النار إلا مجبورين على ذلك لا باختيارهم لأنَّ مكان الشر محذور. وقد تقدَّم خلافُ القراء في نحو «تلقاء أصحاب» بالنسبة إلى إسقاط إحدى الهمزتين أو إثباتها أو تسهيلها في أوائل البقرة. وقرأ الأعمش: «وإذا قُلِبَتْ» وهي مخالفةٌ للسواد، كقراءة ﴿لم يدخلوها وهم ساخطون﴾ أو ﴿وهم طامِعُون﴾ على أنَّ هذه أقرب. و «قالوا» هو جوابُ «إذا» والعامل فيها.
وأمَّا على القول الثاني وهو الاستئناف: فاختُلف في المشار إليه. فقيل: هم أهل الأعراف، والقائلُ ذلك مَلَكٌ يأمره الله بهذا القول، والمقول له هم أهلُ النار. وقيل: المشار إليه هم أهل الجنة، والقائلُ هم الملائكة، والمقولُ له هم أهل النار. وقيل: المشار إليهم هم أهل الأعراف وهم/ القائلون ذلك أيضاً، والمقول لهم الكفارُ، وقوله «ادخلوا الجنة» من قولةِ أهل الأعراف أيضاً أي: يرجعون فيخاطب بعضُهم بعضاً فيقولون: ادخلوا الجنة. وقال ابن الأنباري: «إن قوله: أهؤلاء الذين أَقْسَمْتم لا ينالهم الله برحمة» من كلام أصحاب الأعراف. وقوله «ادخلوا» من كلام الله تعالى، وذلك على إضمار قول أي: فقال لهم الله: ادخلوه، ونظيره قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ﴾ [الشعراء: ٣٥] فهذا من كلام الملأ، فماذا تأمرون؟ فهذا من كلام فرعون أي: فقال: فماذا تأمرون؟.
والجملة من قوله «لا خوف» على هذا في محلِّ نصبٍ على الحال أي: أَدْخِلوا أنفسكم غير خائفين. وقرأ عكرمة «دَخَلوا» ماضياً مبنياً للفاعل. وطلحة وابن وثاب والنخعي «أُدْخِلوا» مِنْ أُدْخِل ماضياً مبنياً للمفعول على الإِخبار، وعلى هاتين فالجملة المنفية في محل نصبٍ بقول مقدر، ذلك القولُ منصوبٌ على الحال أي: مقولاً لهم لا خوف.
و «ممّا» :«ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، وهو الظاهر، والعائد محذوف أي: أو من الذي رزقكموه الله، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، وفيه مجازان: أحدهما: أنهم طَلَبوا منهم إفاضةَ نفس الرزق مبالغةً في ذلك. والثاني: أن يَرادَ بالمصدر اسمُ المفعول كقوله: ﴿كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله﴾ [البقرة: ٦٠] في أحد وجهيه. وقال الزمخشري: «أو ممَّا رزقكم الله من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإِفاضة. ويجوز أن يُراد: أو أَلْقُوا علينا مِنْ ما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله:
٢٢٠٤ - وإني لأطمعُ أنَّ الإِله | قديرٌ بحسْنِ يَقيني يَقيني |
٢٢٠٥ - عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً | ............... |
٢٢٠٦ -............... | وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا |
٢٢٠٧ - يا ليت زوجَك قد غدا | متقلِّدا سيفاً ورُمْحا |
والتحريم هنا المَنْعُ كقوله:
وقوله: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً﴾ الجمهورُ على النصب، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول من أجله أي: فصَّلناه لأجل الهداية والرحمة. والثاني: أنه حال: إمَّا من كتاب، وجاز ذلك لتخصصه بالوصف، وإمَّا من مفعول «فصَّلناه». وقرأ زيد بن علي «هدىً ورحمةٍ» بالجر، وخرَّجه الكسائي والفراء على
قوله: ﴿مِن شُفَعَآءَ﴾ » مِنْ «مزيدة في المبتدأ و» لنا «خبرٌ مقدم. ويجوز أن يكونَ» من شفعاء «فاعلاً و» مِنْ «مزيدة أيضاً، وهذا جائزٌ عند كل أحد لاعتماد الجارِّ على الاستفهام. وقوله:» فيشفعوا «منصوب بإضمار» أَنْ «في جواب الاستفهام، فيكون قد عَطَفْتَ اسماً مؤولاً على اسمٍ صريح أي: فهل لنا شفعاء فشفاعة منهم لنا.
قوله: ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾ الجمهور عَلَى رفع» نُرَدُّ «ونصب» فنعملَ «، فَرَفْعُ» نردُّ «
وقوله:» ما كانوا «فاعل» ضَلَّ «، و» ما «موصولةٌ عائدها محذوف.
٢٢٠٨ - حرامٌ على عينيَّ أن تُطْعَما الكَرى | ................ |
٢٢٠٩ - إذا اسْوَدَّ جنحُ الليلِ فلتأتِ ولتكنْ | خُطاك خِفافاً إنَّ حُرَّاسنا أُسْدا |
٢٢١٠ - إنَّ العجوزَ خَبَّةً جَرُوزا | تأكلُ كلَّ ليلةٍ قَفيزا |
وقوله: ﴿فِي سِتَّةِ﴾ أصل ستة: سِدْس فقُلِبَتْ السينُ تاءً فلاقَتْها الدال وهي مقاربةٌ لها ساكنة فوجب الإِدغام، وهذا الإِبدالُ لازمٌ، ويدلُّ على أن هذا هو الأصل رجوعُه في التصغير إلى سُدَيْسَةٍ وفي الجمع [أَسْداس، وقولهم: جاء فلان سادساً وساتَّاً وسادِياً بالياء مثناة] مِنْ أسفل قال الشاعر:
٢٢١١ -............... | وتَعْتَدُّني إن لم يَقِ اللهُ ساديا |
والعرش: يُطْلق بإزاءِ معانٍ كثيرة فمنه سرير المَلِك، وعليه ﴿نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا﴾ [النمل: ٤١] ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش﴾ [يوسف: ١٠٠]. ومنه السلطان والعزُّ، وعليه قول زهير:
٢٢١٢ - تدارَكْتُما عبساً وقد ثُلَّ عرشُها | وذبيانَ إذ زلَّتْ بأقدامها النَّعْلُ |
٢٢١٣ - إنْ يَقْتُلوك فقد ثَلَلْتُ عروشَهُمْ | بربيعةَ بن الحارث بن شهاب |
قوله: ﴿يُغْشِي الليل النهار﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص هنا وفي سورة الرعد «يُغْشي» مخففاً مِنْ أغشى على أفْعَل، والباقون على التشديد مِنْ غشَّى على فَعَّل، فالهمزةُ والتضعيفُ كلاهما للتعدية أكسبا الفعلَ مفعولاً ثانياً، لأنه في الأصل متعدٍ لواحدٍ فصار الفاعل مفعولاً. وقرأ حميد بن قيس «يَغْشى» بفتح الياءِ والشين، «الليلُ» رفعاً، «النهار» نصباً هذه رواية الداني عنه. وروى ابن جني عنه نصب «الليل» ورفع «النهار». قال ابن عطية: «ونَقْلُ ابن جني أَثْبَتُ» وفيه نظرٌ من حيث إن الداني أعنى من أبي الفتح بهذه الصناعة وإن كان دونه في العلم بطبقات، ويؤيد روايةَ الداني أيضاً أنها موافقةٌ لقراءة العامة من حيث المعنى، وذلك أنه جعل الليل فاعلاً لفظاً ومعنى، والنهار مفعولاً لفظاً ومعنى، وفي قراءة الجماعة: الليل فاعل معنى، والنهار مفعول لفظاً ومعنى، وذلك أن المفعولَيْن في هذا الباب متى صَلُح أن يكونَ كلٌّ منهما فاعلاً ومفعولاً في المعنى وَجَبَ تقديمُ الفاعل معنى لئلا يُلْبِسَ نحو: «أعطيت زيداً عمراً» فإن لم يُلْبس نحو: «أعطيت زيداً درهماً، وكَسَوْتُ عمراً جبةً» جاز، وهذا كما في الفاعل والمفعول الصريحين
قوله» يَطْلبه «حال من الليل لأنه هو المحدَّث عنه أي: يغشى النهار طالباً له، ويجوز أن يكونَ من النهار أي مطلوباً وفي الجملة ذِكْرُ كلٍّ منهما. و» حثيثا «يُحتمل أن يكون نعتَ مصدرٍ محذوف أي: طَلَباً حثيثا، وأن يكون حالاً من فاعل» يطلبه «أي حاثَّاً، أو من مفعوله أي: محثوثاً. والحَثُّ: الإِعجال والسرعة والحَمْل على فعلِ شيءٍ كالحَضِّ عليه، فالحثُّ والحضُّ أخَوان.
يقال: حَثَثْتُ فلاناً فاحتثَّ فهو حثيث ومحثوث. قال:
قوله: ﴿والشمس﴾ قرأ ابن عامر هنا وفي النحل برفع «الشمس» وما عُطف عليها ورفع «مُسَخَّرات»، وافقه حفص عن عاصم في النحل خاصة على رفع ﴿والنجوم مُسَخَّرَاتٍ﴾، والباقون بالنصب في الموضعين. وقرأ أبان ابن تغلب هنا برفع «النجوم» وما بعدها فقط، كحفص في النحل.
فأما قراءةُ ابن عامر فعلى الابتداء والخبر، جعلها جملةً مستقلة بالإِخبار بأنها مسخرات لنا من الله تعالى لمنافعنا. وأما قراءة الجماعة فالنصبُ في هذه السورة على عطفها على «السماوات» أي: وخلق الشمس، وتكون «مسخرات» على هذا حالاً من هذه المفاعيل. ويجوز أن تكون هذه منصوبة ب «جَعَل» مقدراً، فتكون هذه المنصوباتُ مفعولاً أول، ومسخرات مفعولاً ثانياً.
وأما قراءةُ حفص في النحل فإنه إنما رفع هناك لأن الناصبَ هناك «سخَّر» وهو قولُه تعالى ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر﴾، فلو نصب النجوم ومسخرات لصار اللفظ: سَخَّرها مسخرات، فيلزم التأكيد فلذلك قطعهما على الأول ورفعهما جملةً مستقلة. والجمهورُ يخرِّجونها على الحال المؤكدة وهو مستفيضٌ في كلامهم، أو على إضمار فعل قبل «والنجوم» أي: وجعل النجوم مسخرات، أو يكون «مسخرات» جمع مُسَخَّر المراد به المصدر، وجُمِع باعتبار أنواعه كأنه قيل: وسخَّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم تسخيرات أي أنواعاً من التسخير.
قوله: ﴿قَرِيبٌ﴾ إنما لم يؤنِّثها وإن كانت خبراً عن مؤنث لوجوه منها: أنها في معنى الغفران فحُمِلت عليه، قاله النضر بن شميل واختاره أبو إسحاق.
٢٢١٤ - تَدَلَّى حثيثاً كأنَّ الصُّوا | رَ يَتْبَعُهُ أُزْرَقِيٌّ لَحِمْ |
٢٢١٥ -.............. | ولا أرضَ أبقلَ إبقالها |
٢٢١٦ - عشيَّةَ لا عفراءُ منك قربيةٌ | فَتَدْنو ولا عفراءُ منك بعيدُ |
٢٢١٧ - له الويلُ إن أمسى ولا أمُّ سالمٍ | قريبٌ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ يشكرا |
٢٢١٨ - حتى يقولَ الناسُ ممَّا رَأَوا | يا عجباً للميتِ الناشِرِ |
الوجه الثاني: أن «نُشُراً» جمع نَشُور. هذا فيه احتمالان، أحدهما: وهو الأرجح أنه بمعنى فاعِل، وفَعول بمعنى فاعِل ينقاس جمعُه على فُعُل كصَبُور وصُبُر وشكور وشُكُر. والثاني: أنه بمعنى مفعول كرَكوب وحَلوب بمعنى مَرْكوب ومحلوب قالوا: لأنَّ الريح تُوْصَفُ بالموتِ وتوصفُ بالإِحياء، فمن الأولِ قولُه:
٢٢١٩ - إني لأرجو أن تموتَ الريحُ | فأقعدُ اليومَ وأستريحُ |
وبيان ستة الأوجه في هذه القراءةِ: أنها جمع لناشِر بمعنى ذا نشر ضد الطيّ. الثاني: جمع ناشِر بمعنى ذي نشور. الثالث: جمع ناشر مطاوع أنشر. الرابع: جمعُ ناشِر بمعنى مُنْشِر. الخامس: جمع نُشور بمعنى فاعل. السادس: جمع نُشور بمعنى مَفْعول.
وقرأ ابنُ عامر بضمِّ النون وسكون الشين وهي قراءةُ ابن عباس وزر ابن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي وابن مصرف والأعمش ومسروق. وقد كُفِينا مؤونةَ تخريج هذه القراءة بما ذُكِر في القراءة قبلَها فإنَّها مخففةٌ منها كما قالوا: رُسْل في رُسُل وكُتْب في كُتُب، فَسَلَبُوا الضمةَ تخفيفاً، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في المفرد الذي هو أخفُّ من الجمع كقولهم في عُنُق: عُنْق، وفي طُنُب، طُنْب فما بالُهم في الجمع الذي أثقل من المفرد؟
وقرأ الأخَوان: «نَشْراً» بفتح النون وسكون الشين.
ووجهُها: أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال بمعنى ناشرة أو منشورة أو ذات نشر كلُّ ذلك على ما تقدَّم في نظيره. وقيل: نَشْراً مصدر مؤكِّد؛ لأنَّ أرسل وأنشر متقاربان. وقيل: نَشْراً مصدر على حذف الزوائد أي: إنشاراً، وهو واقعٌ موقعَ الحال أي: مُنْشِراً أو مُنْشَراً حسبَ ما تقدَّم في ذلك.
والخامسة ما ذكرْتُه الساعة عن ابن عباس ومَنْ معه. وقرأ مسروق: «نَشَراً» بفتح النون والشين، وفيها تخريجان أحدهما: نقله أبو الفتح أنه اسمُ جمعٍ ك «غَيَب» و «نَشَأ» لغائبة وناشئة. والثاني: أن فَعَلاً بمعنى مفعول كقبَض بمعنى مقبوض. وقرأ أبو عبد الرحمن «بَشْراً» بفتح الباء وسكون الشين. ورُوِيَتْ عن عاصم أيضاً على أنه مصدرُ «بَشَر» ثلاثياً. وقرأ ابن السَّمَيْفَع «بُشْرى» بزنة رُجعى وهو مصدرٌ أيضاً. فهذه ثمان قراءات: أربع مع النون وأربع مع الباء، هذا ما يتعلَّق بالقراءات وما هي بالنسبة إلى كونها مفردة أو جمعاً.
وأمَّا نصبها فإنها في قراءة نافع ومن معه وابنِ عامر منصوبةٌ على الحال من «الرياح» أو «الريح» حسبما تقدَّم في الخلاف. وكذلك هي في قراءة عاصم وما يُشْبهها. وأمَّا في قراءة الأخوين ومسروق فتحتمل المصدرية أو الحاليةَ، وكلُّ هذا واضح وكذلك قراءة بُشْرى بزنة رُجْعى. ولا بد من
وأمَّا مَنْ أفرد «الريح» وجمع «نشراً» كابن كثير فإنه يجعلُ الريحَ اسم جنس فهي جمع في المعنى فوَصَفَها بالجمع. كقول عنترة:
٢٢٢٠ - فيها اثنتانِ وأربعونَ حَلُوبةً | سُوداً كخافيةِ الغُرابِ الأسْحَمِ |
وقوله: ﴿حتى إِذَآ أَقَلَّتْ﴾ غايةٌ لقوله «يرسل». وأقلَّتْ: أي حَمَلَتْ، مِنْ أَقْلَلْتُ كذا أي حملتُه بسهولة، وكأنه مأخوذ من القِلَّة لأنه يقال: أَقَلَّه أي: حَمَله بسهولة فهو مستقلٌّ لما يحمله.
والقُلَّة بضم القاف هذا الظرفُ المعروف، وقِلال هَجَر كذلك لأنَّ البعير يُقِلُّها أي يَحْملها. والسَّحاب تقدم تفسيره، وأنه يُذَكَّر ويُؤَنَّثُ، ولذلك عاد الضمير عليه مذكَّراً في قوله «سُقْناه». ولو حُمِل على المعنى كما حُمِل قوله «ثقالاً» فجُمِع لقال «سقناها». و «لبلدٍ» جعل الزمخشري اللامَ للعلة أي: لأجلِ بلده. قال الشيخ: «فرقٌ بين قولك: / سُقْت له مالاً، وسُقْتُ لأجله مالاً، فإنَّ» سُقْت له «أَوْصَلْتَه إليه وأَبْلَغْته إياه، بخلاف» سُقْته لأجله «فإنه لا يلزم منه إيصاله له، فقد يسوق المال
وقوله: ﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ﴾ الضميرُ في «به» يعودُ على أقربِ مذكورٍ وهو «بلد ميت» وعلى هذا فلا بد من أن تكون الباءُ ظرفيةً بمعنى: أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء. وجعل الشيخُ هذا هو الظاهر. وقيل: الضمير يعود على السحاب. ثم في الباء وجهان، أحدُهما: هي بمعنى «مِنْ» أي: فأنزلنا من السحاب الماء. والثاني: أنها سببيةٌ أي: فأنزلْنا الماءَ بسبب السحاب. وقيل: يعودُ على السَوْق المفهومِ من الفعل. والباءُ سببيةٌ أيضاً أي: فأنزلْنا بسبب سَوْقِ السحاب. وهو ضعيف لعَوْد الضمير على غيرِ مذكور مع إمكان عَوْدِه على مذكور.
وقوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ الخلافُ في هذه الهاء كالذي في قبلها، ونزيد عليه وجهاً أحسنَ منها وهو العَوْدُ على الماء، ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه و «مِنْ» تبعيضيةٌ أو ابتدائية وقد تقدَّم نظيرُه. و «كذلك» نعتُ مصدر محذوف أي: يُخْرج الموتى إخراجاً كإخراجنا هذه الثمراتِ.
٢٢٢١ - وبلدةٍ مثلِ ظَهْر التُّرْسِ مُوْحشةٍ | للجنِّ بالليل في حافاتِها زَجَلُ |
٢٢٢٢ - وأَعْطِ ما أَعْطَيْتَه طَيِّباً | لا خيرَ في المَنْكودِ والناكد |
٢٢٢٣ - لا تُنْجزِ الوعدَ إنْ وَعَدْتَ وإنْ | أَعْطَيْتَ أَعْطَيْتَ تافِهاً نَكِدا؟ |
٢٢٢٤ - حَلَفْتُ لها بالله حَلْفَةَ فاجرٍ | لَناموا..................... |
قوله» غيره «قرأه الكسائي بخفض الراء في جميع القرآن، والباقون برفعها. وقرأ عيسى بن عمر» غيرَه «بالنصب. فالجرُّ على النعت أو البدل من» إله «لفظاً. والرفعُ على النعتِ أو البدل من موضع» إله «لأنَّ» مِن «مزيدةٌ فيه، وموضعهُ رفع: إمَّا بالابتداء وإمَّا بالفاعلية. ومنع مكي في وجهِ الجر أن يكونَ بدلاً من» إله «على اللفظ قال:» كما لا يجوزُ دخولُ «مِنْ» لو حَذَفْتَ المبدل منه لأنها لا تدخل في الإِيجاب «وهذا كلامٌ متهافت. والنصبُ على الاستثناء، والقراءتان الأُوْلَيان أرجحُ؛ لأن الكلامَ متى كان غيرَ إيجاب رَجَحَ الإِتباع على النصب على الاستثناء، وحكمُ» غير «حكمُ الاسمِ الواقعِ بعد» إلا «. و» من إله «إذا جَعَلْته مبتدأ فلك في الخبر وجهان أظهرهما: أنه» لكم «، والثاني: أنه محذوفٌ أي: ما لكم مِنْ إلهٍ في الوجود أو في العالم غير الله، و» لكم «على هذا تخصيصٌ وتبيين.
وجيء هنا بفاء العطف حيث قيل» فقال «وكذا في المؤمنين، وفي قصة هود وصالح وشعيب هنا بغير فاء، والأصل الفاء، وإنما حُذِفَتْ تخفيفاً
قوله ﴿لَنَرَاكَ﴾ يجوز أن تكون القلبيةَ فتتعدَّى لاثنين ثانيهما «في ضلال»، وأن تكون البصريةَ وليس بظاهر فالجارُّ حال، وجعل الضلالَ ظرفاً مبالغةً في وَصْفهم له بذلك، وزادوا في المبالغة بأن أكَّدوا ذلك بأنْ صَدَّروا الجملة ب «إنَّ» وفي خبرها اللام.
٢٢٢٥ - نحن الذين بايَعُوا محمَّداً | على الجهاد ما بقينا أبدا |
وقرأ أبو عمرو: «أُبْلِغُكم» بالتخفيف والباقون بالتشديد، وهذا الخلافُ جارٍ هنا في الموضعَيْن وفي الأحقاف. والتضعيف والهمزةُ للتعدية كأنزل ونَزَّل. وجمع «رسالة» باعتبار أنواعها من أمرٍ ونهيٍ ووَعْظٍ وزجر وإنذار وإعذار. وقد جاء الماضي على أفْعَل في قوله ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ﴾ [هود: ٥٧] فهذا شاهدٌ لقراءة أبي عمرو، وجاء على فَعَّل في قوله: {
٢٢٢٦ - وأَعْلَمُ عِلْمَ اليومِ والأمسِ قبله | ولكنني عن عِلْمِ ما في غدٍ عَمِ |
و «عاد» اسم للحَيِّ ولذلك صَرَفَه، ومنهم مَنْ جعله اسماً للقبيلة، ولذلك منعه. قال:
٢٢٢٧ - لو شَهْدَ عادَ في زمانِ عادِ | لابْتَزَّها مَبارِكَ الجِلادِ |
وهنا «قال» بغير فاء وقد تقدَّم أنها مُرادةٌ. وقال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ يُحْذَفُ العاطفُ من قوله» قال يا قوم «ولم يقل: فقال، كما في قصة نوح؟ قلت: هو على تقدير سؤال سائل قال: فما قال لهم هود؟ فقيل له:» قال يا قوم «. انتهى. وعلى هذا فلا تُقَدَّر هذه الفاءُ البتة.
وقوله ﴿فِي الخلق﴾ : يُحتمل أن يُراد به المصدر، بمعنى في امتداد قاماتكم، في حُسْن صُوَركم وعِظَم أجسامكم، ويحتمل أن يُرادَ به معنى المفعول به أي: في المخلوقين بمعنى زادكم في الناس مثلكم بسطة عليهم، فإنه لم يكن في زمانِهم مثلُهم في عِظَم الأَجْرام. وَرَدَ في التفسير أنَّ أقصرَهم ستون ذراعاً. وتقدَّم الخلاف في» بَسْطة «في البقرة.
قوله: ﴿آلآءَ الله﴾ أي نِعَمه، وهو جمعٌ مفردُه» إلْيٌ «بكسر الهمزة وسكونِ اللام كحِمْل وأحمال، أو» أُلْي «بضم الهمزة وسكون اللام كقُفل وأقفال، أو» إلَى «بكسرِ الهمزة وفتح اللام كضِلَع وأضلاع وعِنب وأعناب، أو» أَلَى «بفتحها كقفا وأقفاء، قال الأعشى:
٢٢٢٨ -... أبيضُ لا يَرْهَبُ الهُزال ولا
يقطعُ رَحْمي ولا يَخُونُ إلى... يُنشد بكسر الهمزة وهو المشهور وبفتحها ومثله» الآناء «جمع إنْي أو أُنْي أو إنَى أو أَنَى. وقال الأخفش:» إنْوٌ «. والآناء: الأوقات كقوله: ﴿وَمِنْ آنَآءِ الليل﴾ [طه: ١٣٠] وسيأتي.
٢٢٢٩ - واحْكُمْ كحكم فتاة الحي إذ نظرَتْ | إلى حَمامٍ شِراعٍ واردِ الثَّمَدِ |
وقوله ﴿لِكُمْ﴾ أي: أعني لكم، وخُصُّوا بذلك لأنهم هم السائلوها أو المتفعون بها من بين سائر الناس لو أطاعوا. ويحتمل أن تكون «هذه ناقة الله» مفسرةً لقوله «بيِّنة» لأنَّ البينة تستدعي شيئاً يتبيَّن به المُدَّعَى، فتكون الجملةُ في محل رفع على البدل، وجاز إبدال جملةٍ من مفرد لأنها في قوته.
قوله: ﴿في أَرْضِ الله﴾ الظاهرُ تعلُّقه ب «تأكل» وقيل: يجوز تعلُّقه بقوله «فَذَرُوها»، وعلى هذا فتكونُ المسألة من التنازع وإعمال الثاني، ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني فقال: تأكل فيها في أرض الله. / وانجزم «تأكل» جواباً للأمر. وقد تقدم الخلافُ في جازمه: هل هو نفسُ الجملة الطلبية أو أداة مقدرة؟ وقرأ أبو جعفر «تأكلُ» برفع الفعل على أنه حالٌ «، وهو نظير ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي﴾ [مريم: ٦] رفعاً وجزماً.
قوله: ﴿وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً﴾ : يجوز أن تكون «الجبال» على إسقاط الخافض أي: من الجبال، كقوله: ﴿واختار موسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] فيكون «بيوتاً» مفعولَه. ويجوز أن يُضَمَّن «تَنْحِتون» معنى ما يتعدَّى لاثنين أي: وتتخذون الجبال بيوتاً بالنحت أو تُصَيِّرونها بيوتاً بالنحت. ويجوز أن يكون «الجبال»
وقرأ الحسن: «تَنْحَتون» بفتح الفاء. وزاد الزمخشري أنه قرأ: «تنحاتون» بإشباع الفتحة ألفاً، وأنشد:
٢٢٣٠ - يَنْباع من ذِفْرى غضوبٍ جَسْرَةٍ | ................. |
٢٢٣١ - أمَّا النهارُ ففي قَيْدٍ وسلسلةٍ | والليلُ في بَطْنِ منحوت من الساج |
قوله: ﴿لِلَّذِينَ استضعفوا﴾ اللام للتبليغ. ويَضْعُف أن تكون للعلة. والسين في «استكبروا» و «استضعفوا» يجوز أن تكونَ على بابِها من الطلب أي: طلبوا أولئك الكِبْرَ من أنفسهم ومن المؤمنين الضعف. ويجوز أن يكون استفعل بمعنى فَعَل كعجب واستعجب.
قوله: ﴿لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ بدلٌ من «الذين اسْتُضْعِفُوا» بإعادة العامل، وفيه وجهان أحدهما: أنه بدلُ كل مِنْ كل إن عاد الضمير في «منهم» على قومه، ويكون المستضعفون مؤمنين فقط. كأنه قيل: قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح. والثاني: أنه بدلُ بعضٍ من كل إن عادَ الضمير على المستضعفين، ويكون المستضعفون ضربَيْن: مؤمنين وكافرين، كأنه قيل: / قال المستكبرون للمؤمنين من الضعفاء دون الكافرين من الضعفاء.
وقوله: ﴿أَتَعْلَمُونَ﴾ في محلِّ نصب بالقول. و «من ربه» متعلق بمُرْسَل. و «مِنْ» للابتداء مجازاً، ويجوز أن تكونَ صفةً فتتعلَّق بمحذوف.
قوله: ﴿بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ﴾ متعلِّقٌ ب «مؤمنون» قُدِّم للاختصاص والاهتمام وللفاصلة. و «ما» موصولةٌ. ولا يجوز هنا حَذْفُ العائد وإن اتحد الجارُّ للموصول وعائدِه؛ لاختلاف العامل في الجارَّيْن. وكذلك قوله: {
٢٢٣٢ - ويومَ عَقَرْتُ للعَذارى مطيَّتي | فيا عَجَباً مِنْ رَحْلِها المُتَحَمَّلِ |
٢٢٣٣ - تقول وقد مال الغَبيط بنا معاً | عَقَرْتَ بعيري يا امرأَ القيسِ فانزِلِ |
وقوله: ﴿وَعَتَوْاْ﴾ العُتُوّ والعُتِيُّ: النُّبُوُّ أي: الارتفاع عن الطاعة يقال منه: عَتَا يَعْتُو عُتُوًّاً وعُتِيَّاً، بقلب الواوين ياءين، والأحسنُ فيه إذا كان مصدراً
٢٢٣٤ -................. | ومن العَناءِ رياضَةُ الهَرِمِ |
وقوله: ﴿يَا صَالِحُ ائتنا﴾ يجوز لك على رواية مَنْ يُسَهِّل الهمزة وهو ورش والسوسي أن تُبْدِلَ الهمزة واواً، فتلفظ بصورة يا صالحُ وْتِنا في الوصل خاصة، تُبْدِل الهمزة بحركة ما قبلها وإن كانت منفصلة من كلمة أخرى. وقرأ عاصم وعيسى بن عمر: أُوْتنا بهمزٍ وإشباعِ ضم، ولعله عاصم الحجدري لا ابن النجود، وهذه القراءة لا تبعد عن الغلط لأن همزة الوصل في هذا النحوِ مكسورةٌ فمن أين جاءت ضمةُ الهمزة إلا على التوهُّم؟
٢٢٣٥ - ولَمَّا رَأَيْتُ الحجَّ قد حان وقتُه | وظَلَّتْ جِمال القومِ بالحيِّ تَرْجُفُ |
٢٢٣٦ - تُحْيي العظام َالراجفاتِ من البِلى | وليس لداءِ الرُّكبتين طبيبُ |
٢٢٣٧ - عَرَفْتُ المُنْتَأَى وعَرَفْتُ منها | مَطايا القِدْر كالحِدَأ الجُثُومِ |
ولا يُلتفت إلى ما ذكره بعضُ الملاحدةِ في قوله ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ وفي موضعٍ آخرَ: ﴿الصيحة﴾ [هود: ٦٧]، وفي موضع آخر ﴿بالطاغية﴾ [الحاقة: ٥] واعتقد ما لا يجوز، إذ لا منافاةَ بين ذلك، فإن الرَّجْفَةَ مترتبةٌ على الصيحة، لأنه لمَّا صِيح بهم رَجَفَتْ قلوبُهم فماتوا، فجاز أن يُسْنَدَ الإِهلاكُ إلى كلٍ منهما. وأمَّا «بالطاغية» فالباء للسببية. والطاغية: الطُّغيان مصدر كالعاقبة، ويقال للمَلِكِ الجبار طاغية، فمعنى «أُهْلِكوا بالطاغية» أي بطغيانهم كقوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ﴾ [الشمس: ١١] أي: بسبب طُغْيانهم.
قوله: ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ﴾ في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب. وعلى الاستئنافِ يُحتمل أن تكونَ جواباً لسؤال وأَنْ لا تكونَ. قال الزمخشري: «فإن قلت: ما موضعُ هذه الجملة؟ قلت: لا مَحَلَّ لها لأنها مستأنفة، أنكر عليهم أولاً بقوله: ﴿أَتَأْتُونَ الفاحشة﴾ ثم
والباء في «بها» فيها وجهان، أظهرهُما: أنها حاليةٌ أي: ما سَبَقكمْ أحدٌ مصاحِباً لها أي: ملتبساً بها. والثاني: أنها للتعديةِ. قال الزمخشري: «الباءُ للتعدية مِنْ قولك:» سَبَقْته بالكُرة «إذا ضربْتَها قبله. ومنه قوله عليه السلام:» سبقك بها عُكاشة «قال الشيخ:» والتعديةُ هنا قلقةٌ جداً؛ لأنَّ الباءَ المعدِّية في الفعل المتعدي لواحد [هي] بجَعْل المفعولِ الأولِ يَفْعل ذلك الفعلَ بما دَخَلَتْ عليه الباءُ فهي كالهمزة، وبيان ذلك أنك إذا قلت: «صَكَكْتُ الحجرَ بالحجر» كان معناه: أَصْكَكْت الحجرَ أي: جَعَلْت الحجر يَصُكُّ الحجر، فكذلك: دَفَعْتُ زيداً بعمرو عن خالد، معناه: أدفعت زيداً عمراً عن خالد أي: جَعَلْتُ زيداً يدفع عمراً عن خالد، فللمفعول الأول تأثيرٌ في الثاني، ولا يصحُّ هذا المعنى هنا إذ لا يَصِحُّ أن يقدَّر: أَسْبَقْتُ زيداً الكرة أي: جَعَلْتُ زيداً يَسْبِق الكرة إلا بمجازٍ متكلِّف، وهو أن تجعلَ ضربَك للكرة أولَ جَعْلٍ ضربةً قد سبقها أي تقدَّمها في الزمان فلم يجتمعا «. و» مِنْ «الأولى لتأكيد الاستغراق والثانية للتبعيض.
الوجه الثاني من وجهَيْ الجملة: أنها حال، وفي صاحبها وجهان أحدهما: هو الفاعل أي: أتأتون مبتدئين بها. والثاني: هو المفعول أي: / أتأتونها مُبْتَدَأً بها غيرَ مسبوقةٍ من غيركم.
قوله: ﴿شَهْوَةً﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجله أي: لأجلِ الاشتهاء، لا حاملَ لكم عليه إلا مجردُ الشهوة لا غير. والثاني: أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال أي: مشتهين أو باقٍ على مصدريته، ناصبه «أتَأْتُون» لأنه بمعنى أتشتهون. ويقال: شَهِيَ يَشْهى شَهْوة، وشَها يَشْهو شهوة قال:
٢٢٣٨ - وأَشْعَثَ يَشْهى النومَ قلت له ارتحِلْ | إذا ما النجومُ أعرضَتْ واسْبَكَرَّتِ |
قوله: ﴿مِّن دُونِ النسآء﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «الرجال» أي: أتأتونهم منفردين عن النساء. والثاني: أنه متعلِّقٌ بشهوة قاله الحوفي. وليس بظاهرٍ أن تقولَ: «اشتهيت من كذا»، إلا بمعنىً غيرِ لائق هنا. والثالث: أن يكونَ صفةً لشهوة أي: شهوةً كائنة من دونهن.
قوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ﴾ «بل» للإِضرابِ، والمشهور أنه إضراب انتقالٍ من قصة إلى قصة إلى قصة، فقيل: عن مذكور، وهو الإِخبارُ بتجاوزهم عن الحدِّ في هذه الفاحشةِ أو عن توبيخهم وتقريرِهم والإِنكارِ عليهم. وقيل: بل للإِضراب عن شيء، محذوف. واختُلِفَ فيه: فقال أبو البقاء: «تقديره ما عَدَلْتُم بل أنتم». وقال الكرماني: «بل» رَدٌّ لجوابٍ زعموا أن يكونَ لهم عُذْراً أي: لا عذرَ لكم بل «.
والغابر: المُقيم. هذا هو مشهورُ اللغة، وأنشدوا قول أبي ذؤيب الهذلي:
٢٢٣٩ - فَغَبَرْتُ بعدهمُ بعيشٍ ناصِبٍ | وإخالُ أني لاحقٌ مُسْتَتْبَعُ |
٢٢٤٠ - ومُبَرَّأً من كل غُبَّرِ حَيْضَةٍ | وفَسادِ مُرْضِعَةً وداءٍ مُعْضِلِ |
٢٢٤١ - عَضَّ بما أَبْقى المَواسِيْ له | مِنْ أُمِّه في الزمن الغابر |
٢٢٤٢ - رأيتُ بني غَبْراءَ لا يُنْكِرونني | ولا أهلَ هذاكَ الطرافِ المُمَدَّدِ |
٢٢٤٣ - حَمامةَ بطنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّمِي | سقاكِ مِن الغُرِّ الغَوادي مطيرها |
٢٢٤٤ - رهبانُ مَدْيَنَ والذين عَهِدْتُهُمْ | يبكون مِنْ حَذَرِ العذابِ قُعودا |
لو يَسْمعون كما سمعتُ كلامَها | خَرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجودا |
شُعَيْب: يجوز أن يكون تَصْغير شِعْب أو شَعب هكذا قالوا، والأدب ألاَّ يُقالَ ذلك، بل هذا موضوعٌ على هذه الزِّنَة وأمَّا أسماءُ الأنبياء فلا يَدْخل فيها تصغيرٌ البتةَ إلا ما نَطَق به القرآن على صيغةٍ تشبهه كشعيب عليه السلام وهو عربيٌّ لا أعجمي.
قوله: ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ﴾ قد تقدَّم معنى هذه اللفظة في قوله: ﴿وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وهو يتعدَّى لاثنين وهما: الناسَ وأشياءَهم أي: لا تُنْقصوهم أشياءهم.
وظاهرُ كلام ِالزمخشري أنها من التنازع، وأنه من إعمال الأول، فإنه قال: «فإن قلت: إلام يَرْجِعُ الضمير في» مَنْ آمن به «؟ قلت: إلى كل صراط، تقديره: تُوْعِدون مَنْ آمن به وتَصُدُّون عنه، فوضعَ الظاهر الذي هو» سبيل الله «موضعَ المضمر زيادةً في تقبيح أمرهم».
قال الشيخ: «وهذا تعسُّف وتكلُّف مع عدم الاحتياج إلى تقديمٍ وتأخيرٍ ووضْعِ ظاهرٍ موضعَ مضمر، إذ الأصلُ خلافُ ذلك كلِّه، ولا ضرورةَ تدعو إليه، وأيضاً فإنَّه من إعمال الأول وهو مذهبٌ مرجوح، ولو كان من إعمالِ الأول لأضمر في الثاني وجوباً، ولا يجوز حذفهُ إلا في ضرورةِ شعرٍ عند بعضِهم كقوله:
٢٢٤٥ - بعكاظَ يُعْشي الناظِرِيْ | نَ إذا هُمُ لَمَحُوا شعاعُه |
قوله: ﴿واذكروا﴾ : إمَّا أن يكون مفعولُه محذوفاً، فيكونَ هذا الظرفُ معمولاً لذلك المفعولِ أي: اذكروا نعمتَه عليكم في ذلك الوقت، وإمَّا أن تجعلَ نفسَ الظرفِ مفعولاً به. قاله الزمخشري. وقال ابنُ عطية:» إن الهاء في «به» يجوز أن تعود على/ شعيب عند مَنْ رأى أن القعودَ على الطرقِ للردِّ عن شعيب «وهو بعيدٌ لأنَّ القائل» ولا تَقْعدوا «هو شعيب، وحينئذ كان التركيب» مَنْ آمن بي «والادِّعاءُ بأنه من بابِ الالتفات بعيدٌ جداً؛ إذ لا يَحْسُن أن يُقال:» يا هذا أنا أقول لك: لا تُهِنْ مَنْ أَكْرَمَه «أي: مَنْ أكرمني.
قوله:» كيف «وما في َحيِّزها معلِّقَةٌ للنظر عن العمل، فهي وما بعدها في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ. والنظرُ هنا التفكُّرُ، و» كيف «خبر كان، واجبُ التقديم.
قوله: ﴿فاصبروا﴾ يجوز أن يكونَ الضميرُ للمؤمنين من قومه، وأن يكونَ للكافرين منهم، وأن يكونَ للفريقين، وهذا هو الظاهرُ، أُمِر المؤمنون بالصبر ليحصُل لهم الظفرُ والغَلَبَةُ، والكافرون مأمورون به ليَنْصُرَ الله عليهم المؤمنين لقولِه تعالى: ﴿قُلْ تَرَبَّصُواْ﴾ [الطور: ٣١] أو على سبيلِ التنازع معهم أي: اصبروا فستعلمون مَنْ ينتصر ومن يَغْلب، مع علمه بأن الغلبةَ له. و «حتى» بمعنى «إلى» فقط، وقوله: «بيننا» غَلَّب ضميرَ المتكلمِ على المخاطب، إذ المرادُ: بيننا جميعاً مِنْ مؤمنٍ وكافرٍ، ولا حاجةَ إلى ادِّعاءِ حَذْفِ معطوفٍ تقديره: بيننا وبينكم.
قوله: «أو لَتَعُودُنَّ» عَطَفَ على جواب القسم الأول، إذ التقدير: واللهِ لنخرجنَّكَ والمؤمنين أو لتعودُنَّ. فالعَوْدُ مسندٌ إلى ضمير النبي ومَنْ آمن معه. و «عاد» لها في لسانهم استعمالان: أحدهما وهو الأصلُ أنه الرجوعُ إلى ما كان عليه من الحال الأول. والثاني استعمالُها بمعنى صار، وحينئذ ترفعُ الاسمَ وتنصِبُ الخبر، فلا تكتفي بمرفوعٍ وتفتقر إلى منصوب، وهذا عند
٢٢٤٦ - وَرَبَّيْتُه حتى إذا ما تركتُه | أخا القوم واستغنى عن المسح شاربُهْ |
وبالمَحْضِ حتى عاد جَعْداً عَنَطْنَطا | إذا قام ساوى غاربَ الفحل غاربُهْ |
قوله: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾ الاستفهامُ للإِنكار تقديره: أيوجدُ منكم أحدُ هذين الشيئين: أعني الإِخراج من القرية والعَوْد في الملَّة على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلك؟ وقال الزمخشري: «الهمزةُ للاستفهام، والواوُ واو
وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها استئنافُ إخبارٍ فيه معنى التعجب، قاله الزمخشري كأنه قيل: ما أَكْذَبَنا على الله إن عُدْنا في الكفر. والثاني: أنها جوابُ قسمٍ محذوف حُذِفَت اللامُ منه، والتقديرُ: واللهِ لقد
٢٢٤٧ - بَقَّيْتُ ما لي وانحرَفْتُ عن العُلَى | ولَقِيْتُ أضيافي بوجهِ عبوس |
إنْ لم أَشُنَّ على ابنِ هندٍ غارةً | لم تَخْلُ يوماً من نهابِ نفوسِ |
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ﴾ في هذا الاستثناء وجهان، أحدهما: أنه متصل. والثاني: أنه منقطعٌ. ثم القائلون بالاتصال مختلفون فمنهم مَنْ قال: هو مستثنى من الأوقات العامة والتقدير: وما يكونُ لنا أن نعود فيها في وقتٍ من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك، وهذا متصورٌ في حَقِّ مَنْ عدا شعيباً، فإن الأنبياءَ لا يشاء الله ذلك لهم لأنه عَصَمهم. ومنهم مَنْ قال: هو مستثنى من الأحوال العامة. والتقدير: ما يكونُ لنا أن نعودَ فيها في كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى. وقال ابن عطية:» ويُحتمل أن يريدَ استثناءَ ما يمكن أن يَتَعَبَّد الله به المؤمنين ممَّا تفعلُه الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم: إنَّا لا نعودُ في مِلَّتكم، ثم خشي أن يُتَعَبَّد الله بشيءٍ من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول: هذه عودةٌ إلى مِلَّتِنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يُتَعَبَّدَ به «.
قال ابن عطية: «ويقلق هذا التأويلُ من جهةِ استقبالِ الاستثناء، ولو كان الكلام» إلا إنْ شاء «قوي هذا التأويل». وهذا الذي قاله سهوٌ لأنَّ الماضيَ يتخلَّص للاستقبال بعد «إنْ» الشرطية، كما يتخلَّص المضارع له بأَنْ المصدرية.
وقيل: الضمير في قوله «فيها» ليس عائداً على المِلَّة بل عائدٌ على الفِرْية، والتقدير: وما يكون أن نعودَ في الفِرْية إلا أن يشاءَ ربنا. وهو حَسَنٌ لولا بُعْدُه. وكرَّر هنا قوله «بيننا وبين قومنا» بخلاف/ قوله ﴿حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا﴾ [الأعراف: ٨٧] زيادةً في تأكيد تمييزه ومَنْ تبعه مِنْ قومه. وقد تقدَّم أن الفتح الحُكْم بلغة حِمْير، وقيل بلغة مُراد وأنشد:
٢٢٤٨ - ألا أبلغْ بني عُصْمٍ رَسُولاً | بأنِّي عن فَتَاحَتِكُمْ غنيُّ |
وقد رأيت كلام الشيخ شهاب الدين القرافي في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سألوه عن بيع الرُّطَب بالتمر فقال: أينقص الرُّطَبُ إذا جَفَّ؟ فقالوا: نعم. فقال: فلا إذن: أن «إذن» هذه هي «إذا» الظرفية، قال: كالتي في قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض﴾ [الزلزلة: ١] فحُذِفَتِ الجملةُ، وذكره إلى آخره. وكنت لمَّا رأيته تعجَّبْتُ غاية العجب كيف يَصْدُر هذا منه حتى رأيته في كتاب
وقوله: «إنكم» هو جواب والقسم الموطَّأ له باللام. قال الزمخشري: «فإن قلت: ما جواب القسم الذي وَطَّأَتْه اللامُ في قوله» لئن اتبعتم شعيباً «وجوابُ الشرط؟ قلت: قوله: ﴿إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾ سادُّ مسدَّ الجوابين» قال الشيخ: «والذي قاله النحويون إنَّ جواب الشرط محذوفٌ لدلالةِ جواب القسم عليه، ولذلك وَجَبَ مُضِيُّ فعلِ الشرط. فإن عَنَى بأنه سادٌّ مَسَدَّهما أنه اجْتُزِئ بذكره عن ذِكْرِ جواب الشرط فهو قريبٌ. وإن عَنَى من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم؛ لأن الجملة يمتنع أن لا يكون لها محل من الإِعراب وأن يكون لها محلٌّ من الإِعراب». قلت: قد تقدَّمَتْ هذه المسألة مِراراً واعتراضُ الشيخ عليه، وتقدَّم الجوابُ عنه فلا أُعيده اكتفاءً بما تقدم. ويعني الشيخُ بقوله «لأنَّ الجملة يمتنع أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب إلى آخره أنها من حيث كونُها جواباً للشرط يَسْتدعي أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب وهو الجزم، ومن حيث كونُها جواباً للقسم يستدعي أن لا يكونَ لها محلٌّ؛ إذ الجملةُ التي هي جوابُ القسم لا محلَّ [لها] لأنها من الجمل المستأنفة المبتدَأ بها، وقد تقرَّر أن الجملةَ الابتدائية لا محلَّ [لها].
الثاني: أن الخبرَ هو نفسُ الموصول الثاني وخبره، / فإن الموصول الثاني مبتدأ، والجملةُ من قوله ﴿كَانُواْ هُمُ الخاسرين﴾ في محل رفع خبراً له، وهو وخبرهُ خبر الأول، و ﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ﴾ : إمَّا اعتراضٌ وإمَّا حالٌ من فاعل «كذَّبوا». الثالث: أن يكونَ الموصولُ الثاني خبراً بعد خبرٍ عن الموصول الأول، والخبرُ الأولُ الجملةُ التشبيهية كما تقدَّم. الرابع: أن يكونَ الموصولُ بدلاً مِنْ قولِه قبلُ ﴿الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾ [الأعراف: ٩٠] كأنه قال: «وقال الملأُ الذين كفروا منهم الذين كذَّبوا شُعَيْباً» وقوله: ﴿لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً﴾ معمولٌ للقول فليس بأجنبي. الخامس: أنه صفةٌ له أي: للذين كفروا مِنْ قومه. هذه عبارةُ أبي البقاء، وتابعه الشيخ عليها. والأحسنُ أن يُقال: بدلٌ من الملأ أو نعتٌ له، لأنه هو المحدِّثُ عنه والموصولُ صفةٌ له، والجملةُ التشبيهيةُ على هذين الوجهين حالٌ من فاعل «كذَّبوا».
وأما الموصولُ الثاني فقد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ خبراً باعتبارين: أعني كونَه أولَ أو ثانياً، ويجوز أن يكونَ بدلاً من فاعل «يَغْنَوا» أو منصوباً بإضمار «أعني» أو مبتدأ وما بعده الخبر. وهذا هو الظاهر لتكونَ كلُّ جملة مستقلةً
وقوله: ﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ﴾ يَغْنَوْن: بمعنى يُقيمون يقال: غَنِي بالمكان يَغْنى فيه أي: أقام دهراً طويلاً، وقيَّده بعضُهم بالإِقامة في عيشٍ رغد فهو أخصُّ من مُطْلق الإِقامة. قال الأسود بن يعفر:
٢٢٤٩ - ولقد غَنَوا فيها بأنعمِ عيشةٍ | في ظلِّ مَلْكٍ ثابتِ الأوتادِ |
قوله: ﴿حتى عَفَوْاْ﴾ «حتى» هنا غاية، وتقدير مَنْ قَدَّرها ب إلى فإنما يريد تفسير المعنى لا الإِعراب، لأن «حتى» الجارة لا تباشرُ إلا المضارعَ المنصوبَ بإضمار «أن» لأنها في التقدير داخلةٌ على المصدرِ المنسبكِ منها ومن الفعل، وأمَّا الماضي فلا يطَّرد حَذْفُ «أنْ» معه، فلا يُقَدَّر معه أنها حرفُ جر داخلةٌ على «أن» المصدرية أي: حتى أَنْ عَفَوا، وهذا الذي يَنْبغي أن يُحْمَلَ عليه قولُ/ أبي البقاء: «حتى عَفَوا: إلى أنْ عفوا».
٢٢٥٠ - أذلك أم أَقَبُّ البطنِ جَأْبٌ | عليه مِنْ عَقِيقته عِفاءُ |
٢٢٥١ - بمستأسِدِ القُرْيان عافٍ نباتُه | ...................... |
٢٢٥٢ - ولكنَّا نُعِضُّ السيفَ منها | بأسْوُقِ عافياتِ الشحم كُومِ |
قوله: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ قال أبو البقاء: «هو عطفٌ على» عَفَوا «. يريد:
وقوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ حال أيضاً، وهي في قوة المؤكدة لأن» بغتة «تفيدُ إفادتَها، سواءً أَعْرَبْنا» بغتة «حالاً أم مصدراً.
قوله: ﴿وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾ جملةٌ حالية، والظاهرُ أنها حال من الضمير المستتر في» بَيَاتاً «لأنه يتحمَّلُ ضميراً لوقوعه حالاً فتكون الحالان متداخلتين.
ويقال: ضُحى وضَحاء، إذا ضَمَمْتَ قَصَرْتَ وإذا فتحت مَدَدْتَ. وقال بعضهم: الضُّحى بالضم والقصرِ لأولِ ارتفاع الشمس، والضَّحاء بالفتح والمدّ لقوة ارتفاعها قبل الزوال. والضُّحى مؤنث، وشذُّوا في تصغيره على ضُحَيٌّ بدون تاء كعُرَيْب وأخواتها، والضَّحاء أيضاً طعامُ الضحى كالغَداء طعام وقت الغُدْوَة يقال منهما: يُضَحِّي ضَحاءً وتَغَدَّى غَداءً. وضَحِيَ يَضْحَى إذا برز للشمسِ وقت الضحى، ثم عُبِّر به عن إصابة الشمس مطلقاً ومنه قولُه {
وقوله: ﴿وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ حالٌ، وهذا يقوِّي أن» بياتاً «ظرف لا حال، لتتطابق الجملتان، فيصير في كل منهما وقتٌ وحال، وأتى بالحال الأولى متضمنةً لاسم فاعل لأنه يدلُّ على ثبات واستقرار وهو مناسب للنوم، وبالثانية متضمنةً لفعل؛ لأنه يدل على التجدد والحدوث وهو مناسب لِلَّعب والهزل.
وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير» أو «بسكون الواو والباقون بفتحها. ففي القراءة الأولى تكون» أو «بجملتها حرفَ عطف ومعناها حينئذ التقسيم. وزعم بعضهم أنها للإِباحة والتخيير. وليس بظاهر، وفي الثانية هي واو العطف دخلَتْ عليها همزةُ الاستفهام مقدمةً عليها لفظاً، وإن كانت بعدها تقديراً عند الجمهور. وقد عُرِف مذهب الزمخشري في ذلك، ومعنى الاستفهام هنا التوبيخ والتقريع. وقال بعضهم:» إنه بمعنى النفي «كأبي شامة وغيره.
وقال الفراء: «وجاز أن تَرُدَّ» يَفْعل «على فَعَلَ في جواب» لو «كقوله: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ﴾ [يونس: ١١] قوله:» فَنَذَرُ «مردودٌ على» لقُضِي «. قلت: وهذا هو قول الجمهور، ومفعولُ» يشاء «محذوفٌ لدلالة جواب» لو «عليه، والتقدير: لو يشاء تعذيبَهم أو الانتقامَ منهم. وأتى/ جوابُها بغير لام وإن كان مبنيَّاً على أحد الجائزين، وإن كان الأكثرُ خلافَه، كقوله تعالى: ﴿لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً﴾ [الواقعة: ٧٠].
٢٢٥٣ - لا يُلْفِكَ الرَّاجيك إلا مُظْهِرا | خُلُقَ الكرامِ ولو تكون عَدِيما |
قال الزمخشري: «فإن قلت: هل يجوز أن يكون» ونطبع «بمعنى طبَعْنا، كما كان» لو نشاء «بمعنى لو شِئْنا، ويعطف على» أَصَبْناهم «؟ قلت: لا يساعد على المعنى، لأنَّ القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم، مَوْصوفين بصفة مَنْ قبلهم مِن اقتراف الذنوب والإِصابة بها، وهذا التفسير يؤدِّي إلى خلوِّهم من هذه الصفةِ، وأن الله لو شاء لاتَّصفوا بها». قال الشيخ: «وهذا الردُّ
الوجه الثاني: أنْ يكون «نطبع» مستأنفاً ومنقطعاً عَمَّا قبلَه فهو في نية خبرِ مبتدأ محذوف أي: ونحن نطبع. وهذا اختيارُ أبي إسحاق والزمخشري وجماعة.
الوجه الثالث: أن يكونَ معطوفاً على «يرثون الأرض» قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وهو خطأٌ لأنَّ المعطوف على الصلة صلة و» يرثون «صلةٌ للذين، فيلزم الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبي، فإن قوله» أنْ لو نشاء «: إمَّا فاعلٌ ليَهْد أو مفعولُه كما تقدَّم، وعلى كلا التقديرين فلا تَعَلُّقَ له بشيء من الصلة، وهو أجنبيٌّ منها فلا يُفْصل به بين أبعاضها، وهذا الوجهُ مُؤَدٍّ على ذلك فهو خطأ».
الرابع: أن يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه معنى «أو لم يهد لهم» كأنه قيل: يغفُلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم. قاله الزمخشري أيضاً. قال
قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ أتى بالفاء هنا إيذاناً بتعقيب عدم سماعهم على أثر الطبع على قلوبهم.
٢٢٥٤ - تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لبنٍ | شِيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا |
قوله: ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ﴾ الظاهر أن الضمائرَ كلَّها عائدةٌ على أهل القرى، وقال يمان بن رئاب: «إن الضميرين الأوَّلَيْن لأهل القرى، والضمير في» كذَّبوا «لأسلافهم». وكذا حَرَّر ابن عطية أيضاً أي: فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذَّب به الآباء وقد تقدَّم الكلامُ على لام الجحود وأنَّ نَفْيَ الفعل معها أبلغ. و «ما» موصولةٌ اسميةٌ، وعائدُها محذوفٌ لأنه منصوب متصل أي: بما كذَّبوه. ولا يجوز أن يُقَدَّر «به» وإن كان الموصولُ مجروراً بالباء أيضاً لاختلاف المتعلَّق.
وقال هنا ﴿بِمَا كَذَّبُواْ﴾ فلم يذكر متعلق التكذيب، وفي يونس ذكره فقال: ﴿بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ﴾ [يونس: ٧٤]، والفرق أنه لمَّا حذفه في قوله ﴿ولكن كَذَّبُواْ﴾ [الأعراف: ٩٦] استمرَّ
قوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله﴾ أي: مثلَ ذلك الطبعِ على قلوب أهل القرى المنتفي عنهم الإِيمانُ يطبعُ الله على قلوب الكفرة الجائين بعدهم.
قوله: ﴿وَإِن وَجَدْنَآ﴾ «إنْ» هذه هي المخففة، وليست هنا عاملةٌ لمباشرتها الفعلَ فزال اختصاصُها المقتضي لإِعمالها. وقال الزمخشري: «وإنَّ الشأنَ والحديثَ وَجَدْنا» فظاهرُ هذه العبارة أنها مُعْمَلة، وأنَّ اسمَها ضميرُ الأمر
ووجد هنا متعديةٌ لاثنين أولهما «أكثرهم»، والثاني «لَفاسقين». قال الزمخشري: «والوجودُ بمعنى العلم من قولك:» وَجَدْتُ زيداً ذا الحفاظ «بدليل دخول» إنْ «المخففة، واللامُ الفارقة، ولا يَسُوغ ذلك إلا في المبتدأ والخبر والأفعالِ الداخلةِ عليهما» يعني أنها مختصةٌ بالابتداء أو بالأفعالِ الناسخة له، وهذا مذهب الجمهور، وقد تقدَّم لك خلافٌ عن الأخفش: أنه يُجَوِّز على غيرها وقَدَّمْتُ دليله على ذلك. واللام فارقةٌ. وقيل: هي عوضٌ من التشديد. قال مكي: «ولَزِمَتِ اللامُ في خبرها عوضاً من التشديد». والمحذوفُ الأول. وتقدَّم/ الكلامُ أيضاً أن بعض الكوفيين يجعلون «إنْ» نافيةً، واللامَ بمعنى «إلا» في قوله تعالى: ﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ [البقرة: ١٤٣].
قوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾ «كيف» خبرٌ لكان مقدَّمٌ عليها واجبُ التقديمِ، لأنَّ له صدرَ الكلامِ، و «عاقبة» اسمها، وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ حرف الجر إذ التقديرُ: فانظر إلى كذا.
٢٢٥٥ -.......................
معناه: وتشقى الضياطرةُ بالرماح. قال الشيخ:» وأصحابُنا يَخُصُّون القلبَ بالضرورةِ، فينبغي أَنْ يُنَزَّهَ القرآنُ عنه «. قلت: وللناس فيه ثلاثةُ مذاهبَ: الجوازُ مطلقاً، المنعُ مطلقاً، التفصيلُ: بين أن يفيد معنًى بديعاً فيجوزَ، أو لا فيمتنعَ، وقد تقدَّم إيضاحهُ، وسيأتي منه أمثلةٌ أُخَرُ في القرآن العزيز. وعلى هذا الوجهِ تصيرُ هذه القراءةُ كقراءةِ نافعٍ في المعنى إذ الأصل: قولُ الحق حقيقٌ عليَّ، فقلبَ اللفظَ فصار: أنا حقيقٌ على قَوْل الحق». قال: «والثاني: أنَّ ما لَزِمك فقد لزمته، فلمَّا كان قولُ الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قولِ الحق أي لازماً له، والثالث: أن يُضَمَّن حقيق معنى حريص كما ضمن» هَيَّجني «معنى ذكَّرني في بيت الكتاب، الرابع: أن تكون» على «بمعنى الباء». قلت: وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء والفارسي. قالوا: إنَّ «على» بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى على في قوله: ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ [الأعراف: ٨٦] أي: على كل. وقال الفراء: «العربُ تقول: رَمَيْتُ على القوس وبالقوس، وجِئْتُ على حالٍ حسنة وبحال حسنة. إلا أن الأخفشَ قال:» وليس ذلك بالمطَّرِدِ لو قلت: ذهبت
٢٢٥٦ - إذا تَغَنَّى الحَمامُ الوَرْقُ هَيَّجني | ولو تَسَلَّيْتُ عنها أمَّ عمار |
السادس: أن تكون «على» متعلقةً ب «رسول». قال ابن مقسم: / «حقيقٌ من نعت» رسول «أي رسول حقيق من رب العالمين أُرْسِلْتُ على أنْ لا أقول على الله إلا الحق، وهذا معنى صحيح واضح، وقد غَفَل أكثرُ المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق» على «برسول، ولم يخطر لهم تعليقُه إلا ب» حقيق «.
قال الشيخ:» وكلامُه فيه تناقضٌ في الظاهر؛ لأنه قَدَّر أولاً العاملَ في «
وقراءةُ نافعٍ واضحةٌ وفيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكونَ الكلامُ قد تمَّ عند قولِه» حقيق «، و» عليَّ «خبر مقدم، و» أنْ لا أقول «مبتدأ مؤخَّر كأنه قيل: عليَّ عدمُ قول غير الحق أي: فلا أقول إلا الحق. الثاني: أن يكون» حقيق «خبراً مقدَّماً، و» أن لا أقول «مبتدأٌ على ما تقدَّم بيانه. الثالث:» أَنْ لا أقول «فاعِلٌ ب» حقيق «كأنه قيل: يحقُّ ويجب أن لا أقول، وهذا أَعْرَبُ الوجوهِ لوضوحه لفظاً ومعنى، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلَّق» عليَّ «ب» حقيق «لأنك تقول:» حَقَّ عليه كذا «. قال تعالى: ﴿أولئك الذين حَقَّ عليهم القولُ﴾. وعلى الوجهِ الأولِ يتعلَّقُ بمحذوفٍ على ما عُرِفَ غيرَ مرة.
وأمَّا رفع» حقيق «فقد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون خبراً مقدماً، ويجوزُ أن يكونَ صفةً ل» رسول «، وعلى هذا فيضعف أن يكون» مِنْ رب «صفةً لئلا يلزمَ تقديمُ الصفةِ غيرِ الصريحة على الصريحة، فينبغي أن يكونَ متعلَّقاً بنفس» رسول «، وتكون» مِنْ «لابتداء الغاية مجازاً.
ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً.
فقد تحصَّل في رفعه أربعة أوجه، وهل هو بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول؟ الظاهرُ أنه يحتمل الأمرين مطلقاً، أعني على قراءة نافع وعلى قراءة غيره. وقال الواحدي ناقلاً عن غيره: «إنه مع قراءة نافعٍ مُحتمل للأمرين، ومع قراءة العامة بمعنى مفعول فإنه قال:» وحقيق على هذا القراءة يعني قراءة نافع يجوز أن يكونَ بمعنى فاعِل، قال شمر: تقولُ العرب: «حَقَّ عليّ أن أفعل كذا». وقال الليث: حقَّ الشيء معناه وَجَبَ، ويحق عليك أن تفعلَه، وحقيقٌ عليَّ أن أفعله، فهذا بمعنى فاعل «ثم قال:» وقال الليث: وحقيقٌ بمعنى مفعول، وعلى هذا تقول: فلان مَحقوقٌ عليه أن يفعل. قال الأعشى:
٢٢٥٧ - لمَحْقوقَةٌ أن تستجيبي لِصَوْتِه | وأن تعلمي أنَّ المُعَانَ مَوَفَّقٌ |
٢٢٥٨ -..................... | قَصِّرْ فإنك بالتقصيرِ محقوقُ |
وقرأ أُبَيٌّ «بَأَنْ لا أقول» وهذه تُقَوِّي أنَّ «على» بمعنى الباء. وقرأ عبد الله والأعمش «أنْ لا أقول» دون حرف جر، فاحتمل أن يكونَ ذلك الجارُّ «على» كما هو قراءة العامة، وأن يكون الجارُّ الباءَ كما هو قراءة أبيّ.
والثُّعْبان هو ذَكَر الحَيَّاتِ العظيم. واشتقاقهُ مِنْ ثَعَبْتُ المكان أي: فجَّرتُه بالماء، شُبِّه في انسيابه بانسياب الماء، يقال: ثَعَبْتُ الماء فجَّرْتُه فانثعب. ومنه مَثْعَبُ المطر. وفي الحديث: «جاء يومَ القيامة وجرحُه يَثْعَبُ دماً» وهنا سؤالٌ وجوابُه، وَصَفَها تارة بكونها ثعباناً وهو العظيم الهائل الخَلْق، وفي موضع آخر بقوله ﴿كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾ [النمل: ١٠] والجانُّ من الحيَّات الخفيفُ الضئيلُ الخَلْقِ «فكيف يُجْمَعُ بين هاتين الصفتين؟ وقد أجاب الزمخشري في غيرِ هذا المكان بجوابين، أحدهُما: أنه جَمْعٌ لها بين الشيئين: أي كِبَرِ الجثة كالثعبان وبين خفةِ الحركة وسرعةِ المشي كالجانّ. والثاني: أنها في
﴿قَالَ الملأ﴾
وقرأ الأخوان هنا وفي يونس: «بكل سَحَّارٍ» والباقون: «بكل
قوله: ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ قد تقدَّم الكلامُ على «ماذا» مُسْبَقاً في أول هذا التصنيف. والجمهور على «تأمرون» بفتح النون. وروى كردم عن نافع كسرَها. وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكونَ «ماذا» كلُّه اسماً واحداً في محل نصب على أنه مفعول ثان ل «تأمرون» بعد حَذْفِ الياء، ويكون المفعول الأول ل «تأمرون» محذوفاً وهو ياءُ المتكلم، والتقديرُ: بأيِّ شيء تأمرونني؟ وعلى قراءة نافع لا تقول: إن المفعولَ الأولَ محذوفٌ بل هو في قوة المنطوق به؛ لأن الكسرةَ دالةٌ عليه، فهذا الحذفُ غيرُ الحذفِ في قراءة الجماعة. ويجوز أن تكونَ «ما» استفهاماً في محلِّ رفعٍ بالابتداء و «ذا» موصول، وصلتُه «تأمرون»، والعائدُ محذوفٌ، والمفعولُ الأولُ أيضاً محذوف على قراءة الجماعة، وتقدير العائد منصوبُ المحل غيرُ مُعَدَّى إليه بالباء فتقديره: فما الذي تأمرونيه؟
وهل «تأمرون» من الأمر المعهود أو من الأمر الذي بمعنى المشاورة؟ والثاني منقولٌ عن ابن عباس. وقال الزمخشري: «هو مِنْ أمَرْتُه فأمرني بكذا أي: شاورته فأشار عليَّ برأي».
فأمَّا ضمُّ الهاء وكسرُها فقد عُرِف مما تقدَّم. وأمَّا الهمزُ وعدمُه فلغتان مشهورتان يقال: أَرْجَأْته وأَرْجَيْتُه أي: أخَّرته، وقد قُرِئ قوله تعالى: ﴿تُرْجِي مَن تَشَآءُ﴾ [الأحزاب: ٥١] بالهمز وعدمِه. وهذا كقولهم: توضَّأْتُ وتوضَّيْتُ. وهل هما مادتان أصليتان أم المبدلُ فرع الهمز؟ احتمالان.
وقد طَعَنَ قومٌ على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسيُّ: «ضمُّ الهاءِ مع الهمز لا يجوزُ غيرُه، وروايةُ ابن ذكوان عن ابن عامر غلطٌ». وقال ابن مجاهد: «وهذا لا يجوز، لأن الهاءَ لا تُكسَرُ إلا بعد كسرةٍ أو ياءٍ ساكنة». وقال الحوفي: «ومن القرَّاء مَنْ يكسر مع الهمز وليس بجيد». وقال أبو البقاء: «ويُقْرأ بكسر الهاء مع الهمزِ وهو ضعيفٌ، لأنَّ الهمزةَ حرفٌ صحيحٌ ساكنٌ فليس قبلَ الهاءِ ما يقتضي الكسر».
قلت: وقد اعتذر الناسُ عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين: أحدُهما: أن الهمزةَ ساكنةٌ والساكنُ حاجزٌ غيرُ حصينٍ، وله شواهدُ مذكورةٌ في موضعها، فكأنَّ الهاءَ وَلِيَت الجيمَ المكسورةَ فلذلك كُسِرت. الثاني: أن الهمزةَ كثيراً ما يَطْرأ عليها التغييرُ، وهي هنا في مَعْرِض أن تُبْدلَ ياءً ساكنة لسكونِها بعد كسرةٍ فكأنها وَلِيَتْ ياءً ساكنة فلذلك كُسِرَتْ.
واستضعف أبو البقاء قراءةَ ابن كثير وهشام فإنه قال: «وأَرْجِئْه» يُقرأ بالهمز وضم الهاء من غير إشباع وهو الجيد، وبالإِشباع وهو ضعيف؛ لأن الهاء خفيَّة، فكأن الواوَ التي بعدها تتلو الهمزةَ، وَهو قريبٌ من الجمع بين الساكنين، ومن ههنا ضَعُف قولُهم: «عليهي مال» بالإِشباع «. قلت: وهذا التضعيفُ ليس بشيء لأنها لغةٌ ثابتةٌ عن العرب أعني إشباعَ حركةِ الهاء بعد ساكن مطلقاً، وقد تقدَّم أن هذا أصلٌ لابن كثير ليس مختصاً بهذه اللفظة، بل قاعدتُه: كلُّ هاءِ كنايةٍ بعد ساكن أن يُشْبع حركتَها حتى يتولَّد منها حرفُ مَدٍّ نحو:» مِنْهو وعَنْهو وأرجِئْهو «إلا قبلَ ساكن فإن المدَّ يُحْذَفُ لالتقاءِ الساكنين إلا في موضع واحد رواه عنه البزي وهو ﴿عَنْهُ تلهى﴾ [عبس: ١٠] بتشديد التاء، وكذلك
٢٢٥٩ - لمَّا رأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ | مالَ إلى أَرْطاةِ حِقْفٍ فالْطَجَعْ |
وقوله» وأخاه «الأحسنُ أن يَكون نسقاً على الهاء في» أَرْجِهْ «، ويَضْعُفُ نصبُه على المعيَّة لإِمكان النسق من غير ضعف لفظي ولا معنوي.
قوله: ﴿فِي المدآئن﴾ متعلقٌ بأَرْسِلْ، و» حاشرين «مفعول به، ومفعولُ» حاشرين «محذوفٌ أي: حاشرين السحرة بدليل ما بعده. والمدائن جمع مدينة وفيها ثلاثة أقوال: أحدها وهو الصحيح أن وزنها فَعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة، مشتقة مِنْ مدَن يمدُن مُدوناً أي: أقام. واستُدِلَّ لهذا القول بإطباق القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف وسفينة وسفائن، ولو كانت مَفْعِلة لم تُهْمَزْ نحو: معيشة ومعايش، ولأنهم جمعوها أيضاً على مُدُن كقولهم: سفينة وسُفُن وصحيفة وصُحُف. قال الشيخ:» ويَقْطع بأنها فَعيلة جَمْعُهم لها على فُعُل قالوا: مُدُن، كما قالوا: صحف في صحيفة «.
القول الثاني: أن وزنها مَفْعِلة مِنْ دانه يَدينه أي: ساسه يَسُوسه فمعنى مدينة أي: مملوكة ومَسُوسة أي: مسوسٌ أهلُها، مِنْ دانهم مَلِكُهم إذا ساسهم، وكان ينبغي أن يُجمع على مداين بصريح الياء كمعايش في مشهور لغة العرب.
الثالث: أن وزنها مَفْعولة وهو مذهب أبي العباس. قال: «هي مِنْ دانه يَدينه إذا ملكه وقَهَره، وإذا كان أصلُها مَدْيونة فأُعِلَّت كما يُعَلُّ مَبِيع اسمَ مفعول من البيع، ثم يجري الخلافُ في المحذوف: هل هو الياءُ الأصلية أو الواو الزائدة؟ الأول قول الأخفش، والثاني قولُ المازني وهو مذهب جماهير النحاة. والمدينة معروفةٌ وهي البقعة المُسَوَّرة المستولي عليها مَلِكٌ.
وقرأ الحَرَمِيَّان وحفص عن عاصم «إنَّ» بهمزة واحدة، والباقون بهمزتين على الاستفهام. وهم على أصولهم في التحقيق والتسهيل وإدخال ألفٍ بينهما وعدمِه. فقراءةُ الحَرَمِيَّيْن على الإِخبار، وجوَّز الفارسي أن تكونَ على نية الاستفهام يدل عليه قراءة الباقين، وجَعَلوا ذلك مثلَ قولِه تعالى: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ [الشعراء: ٢٢] وقولِ الشاعر:
٢٢٦٠ - أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرام وأنْ | ......................... |
٢٢٦١ -.................... | ............ وذو الشيب يلعبُ |
قوله: ﴿إِن كُنَّا﴾ شرطٌ جوابُه محذوفٌ للدلالة عليه عند الجمهور، أو ما تقدَّم عند/ مَنْ يُجيز تقديمَ جوابِ الشرط عليه. و «نحن» يجوز فيه أن
٢٢٦٢ - قالوا الركوبَ فقلنا تلك عادتنا | ............... |
وحُذِف مفعولُ الإِلقاء للعلم بهِ والتقدير: إمَّا أَن تُلْقيَ حبالَكَ وعِصِيَّك، لأنهم كانوا يعتقدون أن يفعل كفِعْلهم أو نلقي حبالَنا وعِصِيَّنا.
قوله: ﴿تَلْقَفُ﴾ قرأ العامة «تَلَقَّفُ» بتشديدٍ، مِنْ تلقَّفَ يتلقَّفُ، والأصل: «تَتَلَقَّفُ» بتاءين فحذفت إحداهما: إمَّا الأولى وإما الثانية، وقد تقدَّم ذلك في نحو ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ٨٠]. والبزِّي على أصلِه في إدغامها فيما بعدها، فيقرأ ﴿فإذا هي تَّلقَّفُ﴾ بتشديد التاء أيضاً، وقد تقدَّم تحقيقُه عند قوله: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ [البقرة: ٢٦٧]. وقرأ حفص «تَلْقَف» بتخفيف القاف مِنْ لَقِفَ ك عَلِم يعلم ورَكِب يركب، يقال: لَقِفْتُ الشيء أَلْقَفُه لَقْفاً ولَقَفاناً، وتَلَقَّفْتُه أَتَلَقَّفُه تَلَقُّفاً إذا
٢٢٦٣ - أنت عصا موسى التي لم تَزَلْ | تَلْقَفُ ما يَصْنَعُه السَّاحر |
والفاء في «فإذا هي» يجوزُ أَنْ تكونَ العاطفةَ، ولا بد من حذف جملةٍ قبلها ليترتَّب ما بعد الفاء عليها، والتقدير: فألقاها فإذا هي، ومَنْ جَوَّز أن تكون الفاءُ زائدةً في نحو «خرجت فإذا الأسدُ حاضر» جَوَّز زيادتَها هنا، وعلى هذا فتكونُ هذه الجملةُ قد أُوْحِيَتْ إلى موسى كالتي قبلها، وأمَّا على الأول أعني كون الفاءِ عاطفةً - فالجملةُ غير موحى بها إليه.
و «ما يأفِكون» يجوزُ في «ما» أن تكونَ بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ أي: الذي يأْفِكونه، ويجوز أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً، والمصدرُ حينئذٍ واقعٌ موقعَ المفعولِ به، وهذا لا حاجةَ إليه.
٢٢٦٤ -.................. | فهناك يَعْترفون أين المَفْزَعُ |
قوله: ﴿صَاغِرِينَ﴾ حالٌ من فاعل» انْقَلبوا «، والضمير في» انقلبوا «يجوز أن يعودَ على قومِ فرعون، وعلى السَّحَرة إذا جعلنا الانقلابَ قبل إيمان السحرة، أو جعلنا انقلبوا بمعنى صاروا، كما فسَّره الزمخشري، أي:» صاروا أَذِلاَّء مَبْهوتين متحيِّرين «ويجوز أَنْ يعودَ عليهم دون السَّحَرة إذا كان ذلك بعد إيمانهم، ولم يُجعل» انقلبوا «بمعنى صاروا، لأنَّ الله لا يَصِفُهم بالصَّغار بعد إيمانهم.
﴿قالوا﴾
الأولى: قراءةُ الأخوين وأبي بكر عن عاصم وهي: بتحقيق الهمزتين في السور الثلاثِ من غيرِ إدخالِ ألفٍ بينهما وهو استفهامُ إنكار، وأمَّا الألفُ الثالثةُ فالكلُّ يَقْرؤونها كذلك؛ لأنها هي فاء الكلمة أُبْدِلَتْ لسكونها بعد همزة مفتوحة، وذلك أن أصل هذه الكلمة أَأَأْمَنْتم بثلاث همزات، الأولى للاستفهام والثانية همزة أفعل والثالثة فاء الكلمة، فالثالثة يجب قَلْبُها ألفاً لِما عرفته أول هذا الموضوع، وأمَّا الأولى فمُحَقَّقة ليس إلا، وأمَّا الثانية فهي التي فيها الخلاف بالنسبة إلى التحقيق والتسهيل.
الثانية: قراءة حفص وهي «آمنتم» بهمزة واحدة بعدها الألف المشارُ إليها في جميع القرآن. وهذه القراءةُ تحتمل الخبرَ المَحْضَ المتضمنَ للتوبيخ، وتحتمل الاستفهامَ المشارَ إليه، ولكنه حُذِف لفهم المعنى ولقراءة الباقين.
الثالثة: قراءةُ نافع وأبي عمرو وابن عامر والبزي عن ابن كثير، وهي تحقيقُ الأولى، وتسهيلُ الثانية بين بين، والألف المذكورة. وهو استفهامُ إنكارٍ كما تقدَّم.
الرابعة: قراءةُ قنبل عن ابن كثير وهي التفرقةُ بين السور الثلاث: وذلك أنه قرأ في هذه/ السورة حالَ الابتداء بآمنتم بهمزتين، أولاهما مخفَّفة، والثانية مُسَهَّلة بين بين وألف بعدها كقراءة رفيقه البزي، وحالَ الوصل يقرأ: «قال فرعون وامنتم» بإبدال الأولى واواً وتسهيل الثانية بين بين وألف بعدها: وذلك أن الهمزة إذا كانت مفتوحةَ بعد ضمة جاز إبدالُها واواً سواء كانت
وقرأ في سورة طه كقراءة حفص: أعني بهمزةٍ واحدةٍ بعدها ألفٌ، وفي سورة الشعراء كقراءة رفيقِه البزي فإنه ليس قبلها ضمةٌ فيبدلها واواً في حال الوصل. وقد قرأتُ لقنبل أيضاً بثلاثة أوجه في هذه السورةِ وصلاً: وهي تسكينُ الهمزةِ بعد الواو المبدلةِ أو تحريكها أو إبدالُها ألفاً، وحينئذ ينطق بقَدْر ألفَيْن ولم يُدخل أحدٌ من القراء مدّاً بين الهمزتين هنا سواءً في ذلك مَنْ حقق أو سَهَّل؛ لئلا تجتمع أربعةُ متشابهات.
والضمير في «به» عائدٌ على الله تعالى لقوله: ﴿قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين﴾ ويجوزُ أن يعودَ على موسى وأمَّا الذي في سورة طه والشعراء في قوله: ﴿آمنتم له﴾ فالضمير لموسى لقوله: ﴿إنَّه لكبيرُكم﴾.
قوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ حُذِفَ مفعولُ العلم للعلم به، أي: تعلمون ما يحلُّ بكم، ثم فَسَّر هذا الإِبهامَ بقوله:
﴿لأُقَطِّعَنَّ﴾
قوله: ﴿لَمَّا جَآءَتْنَا﴾ يجوز أن تكونَ ظرفيةً كما هو رأي الفارسي وأحد قولي سيبويه. والعاملُ فيها على هذا «آمنَّا» أي: آمنَّا حين مجيء الآيات،
٢٢٦٥ - ألم أكُ جارَكُم ويكونَ بيني | وبينكمُ المودةُ والإِخاءُ |
وقرأ الحسن في روايةٍ عنه ونعيم بن ميسرة «ويذرُك» برفع الراء. وفيها ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أنه نسقٌ على «أتذر» أي: أتطلق له ذلك. الثاني: أنه استئنافُ إخبار بذلك. الثالث: أنه حالٌ. ولا بدَّ من/ إضمارِ مبتدأ، أي: وهو يَذَرُك.
وقرأ الحسن أيضاً والأشهب العقيلي: «ويذرْك» بالجزم وفيها وجهان، أحدهما: أنه جزم ذلك عطفاً على التوهم، كأنه توهَّم جَزْمَ «يُفْسدوا» في جواب الاستفهام فعطف عليه بالجزم كقوله: ﴿فأصَّدَّق وأكنْ﴾ [المنافقين: ١٠] بجزم «وأكن». الثاني: أنها تخفيفٌ كقراءةِ أبي عمرو «يَنْصُرْكم» وبابه.
وقرأ العامَّة: «وآلهتكَ» بالجمع. وفي التفسير: أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبقر والحجارة والكواكب، أو آلهته التي شَرَع عبادتَها لهم وجَعَل نفسَه الإِلَه الأعلى في قوله ﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾. وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وأنس وجماعة كثيرة: «وإلاهتك». وفيها وجهان، أحدهما: أن «إلاهة» اسم للمعبود، ويكون المرادُ بها معبودَ فرعونِ وهي الشمس، وفي التفسير أنه كان يعبد الشمس، والشمس تسمَّى «إلاهةً» علَماً عليها، ولذلك مُنِعت الصرف للعلمية والتأنيث. والثاني: أن «إلاهة» مصدر بمعنى العبادة، أي: ويذر عبادَتك لأنَّ قومه كانوا يعبدونه. ونقل ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يُنْكر قراءة العامة، ويقرأ «وإلاهتك» وكان يقول: إن فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ.
قوله: ﴿سَنُقَتِّلُ﴾ قرأ نافع وابن كثير: «سَنَقْتل» بالتخفيف، والباقون بالتضعيف للتكثير، لتعدُّد المجال. وسيأتي أن الجماعة قَرَؤوا «يُقَتِّلُون أبناءكم» بالتضعيف إلا نافعاً، فيخفف. فتلخص من ذلك أنَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف. وابن كثير يخفف «سنقتل» ويثقِّل «يقتلون»، والباقون يثقلونها.
وقرأ الحسن ورُويت عن حفص «يُوَرِّثُها» بالتشديد على المبالغة. وقرئ «يُوْرَثُها» بفتح الراء مبنياً للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعل هو «مَنْ يشاء». والألفُ واللام في «الأرض» يجوز أن تكونَ للعهدِ وهي أرضُ مِصْر أو للجنس.
وقرأ ابن مسعود بنصب «العاقبة» نسقاً على «الأرض» و «للمتقين» خبرُها، فيكون قد عطف الاسم على الاسم والخبر على الخبر فهو مِنْ عطفِ الجمل. قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ أُخْلِيَتْ هذه الجملةُ من الواو وأُدْخِلَتْ على التي قبلها؟ قلت: هي جملةٌ مبتدَأةٌ مستأنفةٌ، وأمَّا ﴿وَقَالَ الملأ﴾ [الأعراف: ١٢٧] فهي معطوفةٌ على ما سبقها مِنْ قوله: ﴿وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ﴾.
٢٢٦٦ - دَعَانيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سنينَه | لَعِبْنَ بنا شِيْباً وشَيَّبْنَنَا مُرْدا |
وفي لام «سَنَة» لغتان، أحدهما: أنها واو لقولهم: سنوات وسانَيْتُ وسُنَيَّة. والثانية: أنه هاءٌ لقولهم: سانَهْتُ وسَنَهات وسُنَيْهَة. وليس هذا الحكمُ المذكور أعني جَرَيَانَه مَجْرى جمعِ المذكر أو إعرابَه بالحركات مقتصراً على لفظ سنين بل هو جارٍ في كل اسمٍ ثلاثي مؤنث حُذِفتْ لامُه وعُوِّضَ منها تاء التأنيث ولم يُجْمع جمع تكسير، نحو ثُبة وثبين، وقُلة وقُلين. وتَحَرَّزْتُ بقولي «حُذِفَتْ لامُه» ممَّا حُذِفَتْ فاؤه نحو: لِدة وعِدَة. وبقولي «ولم يُجْمع جمع تكسير» مِنْ «ظُبَة وظُبَى». وقد شذَّ قولهم «لِدُون» في المحذوف الفاء، وظِبون في المكسَّر قال/
وقد غَلَبت السَّنَة على زمانِ الجَدْب، والعام على زمان الخصب حتى صارا كالعلَم بالغلبة، ولذلك اشتقوا من لفظ السنة فقالوا: أَسْنَتَ القومُ. قال:
٢٢٦٧ - يرى الراؤون بالشَّفَراتِ منها | وُقودَ أبي حُباحبَ والظُّبينا |
٢٢٦٨ - عمروُ الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه | ورجالُ مكةَ مُسْنِتونَ عجافُ |
٢٢٦٩ - وإنَّا نُهيْنُ المالَ في غيرِ ظِنَّةٍ | وما يَشْتكينا في السنين ضريرُها |
قوله: ﴿يَطَّيَّرُواْ﴾ الأصلُ: يتطيَّروا فَأُدْغمت التاء في الطاء لمقاربتها لها. وقرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف: «تطيَّروا» بتاءٍ من فوق على أنه فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورة، إذ لا يقع فعل الشرط مضارعاً والجزاء ماضياً إلا ضرورةً كقوله:
٢٢٧٠ - مَنْ يَكِدْني بِسَيِّءٍ كنتُ منه | كالشَّجا بين حَلْقِه والوريد |
٢٢٧١ - وإن يَرَوا سُبَّة طاروا بها فَرَحاً | مني وما سمعوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا |
والتطيُّر: التشاؤم وأصله أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم، فيطير لكل
٢٢٧٢ - تطير عَدائِدُ الأشراكِ شَفْعاً | ووِتْراً والزَّعامةُ للغلام |
٢٢٧٣ - مهما لي الليلةَ مهما لِيَهْ... أَوْدَى بنعلَيَّ وسِرْباليَهْ
يريد: ما لي الليلة ما لي؟ والهاء للسكت.
وزعم بعض النحويين أنَّ الجازمة تأتي ظرف زمان، وأنشد:
٢٢٧٤ - وإنك مهما تُعْطِ بطنك سُؤْلَه... وفَرْجَكَ نالا منتهى الذمِّ أجمعا
وقول الآخر:
٢٢٧٥ -... عوَّدْتَ قومَك أن كلَّ مُبَرَّرٍ
مهما يُعَوَّدْ شيمةً يَتَعوَّدِ...
٢٢٧٦ - نُبِّئْتُ أن أبا شُتَيْمٍ يَدَّعي | مهما يَعِشْ يُسْمِعْ بما لم يُسْمَعِ |
وقد شنع الزمخشري على القائل بذلك فقال: «وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يُحَرِّفها مَنْ لا يدَ له في علم العربية فيضعها غيرَ موضعها، ويحسب» مهما «بمعنى» متى «ويقول: مهما جئتني أعطيتك، وهذا من كلامه وليس من واضع العربية، ثم يذهب فيفسر ﴿مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ﴾ بمعنى الوقت فيُلْحد في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مِمَّا يوجب الجثوَّ بين يدي الناظر في كتاب سيبويه». قلت: هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت، فإن ذلك قولٌ ضعيف لم يَقُلْ به إلا الطائفةُ الشاذَّةُ، وقد قال جمال الدين ابن مالك: «جميع النحويين يقولون إن» مهما «و» ما «مثل» مَنْ «في لزوم التجرُّد عن الظرف، مع أن استعمالهما ظرفين ثابتٌ في أشعار الفصحاء من العرب»، وأنشد بعض الأبيات المتقدمة. قلت: وكفى بقوله «جميع النحويين» دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما.
وهي اسمٌ لا حرفٌ بدليل عَوْد الضمير عليها، ولا يعود الضمير على حرف كقوله ﴿مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ﴾ فالهاء في «به» تعود على «مهما»، وشَذَّ السهيليُّ فزعم أنها قد تأتي حرفاً.
وقال قوم: إنها مركبة من مَهْ بمعنى اكفف ومَنْ الشرطية، بدليل قول الشاعر:
٢٢٧٧ - أماوِيَّ مَهْ مَنْ يَسْتمعْ في صديقه | أقاويلَ هذا الناسِ ماوِيَّ يندمِ |
ومحلُّها نصبٌ أو رفع، فالرفعُ على الابتداء وما بعده الخبر، وفيه الخلافُ المشهورُ: هل الخبر فعلُ الشرط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً. والنصب من وجهين: أظهرهُهما على الاشتغال، ويُقَدَّر الفعلُ متأخراً عن اسم الشرط والتقدير: مهما تُحْضِر تأتِنا به، ف «تَأْتِنا» مفسِّر ل «تُحضر» لأنه من معناه. والثاني: النصبُ على الظرفية عند مَنْ يرى ذلك، وقد تقدم الردُّ على هذا القول. والضميران من قوله «به» و «بها» عائدان على «مهما» عاد الأول على اللفظ والثاني على المعنى، فإن معناها الآية المذكورة. ومثله قول زهير:
٢٢٧٨ - ومهما تكنْ عند امرئٍ من خَليقةٍ | وإن خالها تَخْفَى على الناسِ تُعْلَمِ |
وقوله: ﴿فَمَا نَحْنُ﴾ يجوز أَنْ تكونَ «ما» حجازيةً أو تميمية، والراءُ زائدةٌ على كلا القولين، والجملةُ جوابُ الشرط فمحلها جزم.
٢٢٧٩ - غَيَّرَ الجِدَّةَ من آياتها | خُرُقُ الريحِ وطوفانُ المَطَرْ |
٢٢٨٠ - وعَمَّ طُوفانُ الظلامِ الأَثْأَبا... شبَّه ظلامَ الليل بالماء الذي يغشى الأمكنة. وقال أبو النجم:
٢٢٨١ - ومَدَّ طوفانٌ مبيدٌ مَدَدا | شهراً شآبيبَ وشهراً بَرَدا |
قوله: ﴿والقمل﴾ قيل هي: القِرْدان وقيل: دوابُّ تشبهها أصغرَ منها. وقيل: هي السُّوس الذي يخرج من الحنطة. وقيل: نوع من الجراد أصغر منه. وقيل: الحِمْنان الواحدة حِمْنانة نوع من القِرْدان. وقيل: هو القُمَّل المعروف الذي يكون في بدن الإِنسان وثيابه. ويؤيد هذا قراءة الحسن» والقَمْل «بفتح القاف وسكون الميم فيكون فيه لغتان: القُمَّل كقراءة العامة، والقَمْل كقراءة الحسن البصري. وقيل: القمل: البراغيث. وقيل: الجِعلان.
قوله: ﴿والضفادع﴾ : جمع ضِفْدَع بزنة دِرْهم، ويجوز كسر دالِه فيصير بزنة زِبْرِج وقد تُبْدَلُ عينُ جمعه ياء/ كقوله:
٢٢٨٢ - ومَنْهَلٍ ليس له حَوازِق | ولِضفادي جَمِّه نقانِقُ |
قوله: ﴿آيَاتٍ﴾ منصوب على الحال من تلك الأشياء المتقدمة أي: أَرْسَلْنا عليهم هذه الأشياءَ حالَ كونِها علاماتٍ مميَّزاً بعضها من بعض.
قوله: ﴿هُم بَالِغُوهُ﴾ في محل جرٍ صفةً لأَجَل. والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ مِنْ وَصْفه بالمفرد لتكررِ الضمير المؤذن بالتفخيم.
وقوله: ﴿إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾ هذه «إذا» الفجائية وقد تقدَّم الكلامُ عليها قريباً، و «هم» مبتدأ و «ينكثون» خبره، و «إذا» جوابُ «لَمَّا» كما تقدَّم بالتأويل المذكور. قال الزمخشري: «إذا هم ينكُثون جواب» لَمَّا «، يعني فلمَّا كشَفْنا عنهم العذاب فاجؤوا النكث وبادروه، ولم يؤخِّروه، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نكثوا». قال الشيخ: لا ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير «. انتهى. يعني فلا بد من تأويلِ الكشف بالاستمرار كما تقدَّم حتى يَصِحَّ ذلك. وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يدَّعي في» لَمَّا «أنها ظرفٌ، إذ لا بدَّ لها حينئذٍ من عامل. وما بعد» إذا «لا يعمل فيما قبلها. وقد تقدَّم ذلك محرَّراً في موضعه.
وقرأ أبو حيوة وأبو هاشم» تنكِثون «بكسر الكاف، والجمهورُ على الضم، وهما لغتان في المضارع. والنَّكْثُ: النَّقْضُ، وأصلُه مِنْ نَكْثِ الصوف
قوله: ﴿فِي اليم﴾ متعلِّقٌ ب «أَغْرَقْناهم». واليَمُّ: البحر. والمشهور أنه عربيٌّ. قال ذو الرمة:
٢٢٨٣ - داوِيَّةٌ ودُجَى ليلٍ كأنهما | يَمٌّ تراطَنَ في حافاتِه الرومُ |
قوله:» بأنهم «الباءُ للسببية أي: أغْرَقْناهم بسبب تكذيبهم بآياتنا، وكونِهم غافلين عن آياتنا. فالضمير في» عنها «يعودُ على الآيات. وهذا هو الظاهر. وبه قال الزجاج وغيره. وقيل: يجوز أن يكونَ على النقمة المدلولِ عليها بانتقمنا. ويُعْزى هذا لابن عباس، وكأن القائل بذلك تَخيَّل أن الغفلةَ عن الآيات عُذْرٌ لهم من حيث إن الغفلةَ ليست مِنْ كسب الإِنسان.
الثاني من الأوجه الثلاثة: أن المفعول الثاني هو ﴿التي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ أي: أَوْرَثناهم الأرض التي بارَكْنا فيها. وفي قوله تعالى ﴿مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا﴾ وجهان، أحدهما: هو منصوب على الظرف ب «يُسْتَضْعفون». والثاني: أن تقديره: يُستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، فلمَّا حُذِفَ الحرف وصلَ الفعلُ بنفسه فنصب. هكذا قال أبو البقاء. ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن فإن القولَ بالظرفية هو عينُ القول بكونه على تقدير «في» ؛ لأن كل ظرف مقدَّرٌ ب «في» فكيف يَجعل شيئاً واحداً شيئين؟
الوجه الثالث: أن المفعولَ الثاني محذوفٌ تقديره: أورثناهم الأرضَ أو الملكَ أو نحوه. و «يُستضعفون» يجوز أن يكون على بابه من الطلب أي:
وقرأ الحسن ورويت عن أبي عمرو وعاصم «كلمات» بالجمع. قال الزمخشري: «ونظيره ﴿لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى﴾ [النجم: ١٨] يعني في كونِ الجمع وُصِفَ بمفرد. قال الشيخ:» ولا يتعيَّن في «الكبرى» ما ذَكَر لجواز أن يكون التقدير: لقد رأى الآيةَ الكبرى، فهي وصفُ مفردٍ لا جمعٍ وهو أبلغُ «. قلت: في بعض الأماكن يتعيَّن ما ذكره الزمخشري نحو ﴿مَآرِبُ أخرى﴾ [طه: ١٨] وهذه الآية، فلذلك اختارَ منها ما يتعيَّنَ في غيرها.
قوله: ﴿بِمَا صَبَرُواْ﴾ متعلِّق ب» تَمَّت «، والباءُ للسببية، و» ما «مصدريةٌ أي بسبب صبرهم. ومتعلَّقُ الصبرِ محذوفٌ أي: على أذى فرعون وقومه.
قوله: ﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ﴾ يجوز في هذا الآيةِ أوجهٌ، أحدها: أن يكونَ» فرعون «اسمَ كان، و» يصنع «خبرٌ مقدم، والجملةُ الكونية صلةُ» ما «، والعائدُ محذوف، والتقدير: ودمَّرْنا الذي كان فرعون يَصْنَعُه.
واستضعف أبو البقاء هذا الوجه فقال: «لأنَّ» يصنع «يَصْلُح أن يعملَ في فرعون فلا يُقَدَّر تأخيره، كما لا يُقَدَّر تأخيرُ الفعل في قولك قام زيد». قلت: يعني أن قولك «قام زيد» يجب أن يكونَ من باب الفعل والفاعل، ولا يجوزُ أن يُدَّعى فيه أنَّ «قام» فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌّ، و «زيد» مبتدأ مؤخر، لأجل
القثاني: أن اسم «كان» ضميرٌ عائد على «ما» الموصولة و «يصنع» مسندٌ لفرعونَ، والجملةُ خبرٌ عن كان، والعائدُ محذوف أيضاً، والتقدير: ودمَّرْنا الذي كان هو يصنعه فرعون.
الثالث: أن تكون «كان» زائدةً و «ما» مصدرية، والتقدير: ودمَّرْنا ما يصنع فرعون أي: صُنْعَه. ذكره أبو البقاء. قلت: وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً وإن كانت «ما» موصولة اسمية على أن العائد محذوف تقديرُه: ودمَّرْنا الذي يصنعه فرعون.
الرابع: أنَّ «ما» مصدرية أيضاً، و «كان» ليست زائدةً بل ناقصةٌ، واسمُها ضمير الأمر والشأن، والجملةُ من قوله «يصنع فرعون» خبرُ كان فهي مفسِّرة للضمير. وقال أبو البقاء هنا: «وقيل: ليست» كان «زائدةً، ولكن» كان «الناقصة لا يُفصل بها بين» ما «وبين صلتها، وقد ذكرْنا ذلك في قوله ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: ١٠] وعلى هذا القول تحتاج» كان «إلى اسم. ويَضْعف أن يكونَ
والتدميرُ: الإِهلاك وهو مُتَعدٍّ بنفسه. فأما قوله ﴿دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ﴾ فمفعولُه محذوفٌ أي: خرَّب عليهم منازلهم وبيوتَهم.
قوله: ﴿يَعْرِشُونَ﴾ قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النحل «يَعرُشون» بضم الراء، والباقون بالكسر فيهما. وهما لغتان: عَرَش الكرمَ يعرِشُه ويعرُشُه، والكسرُ لغة الحجاز. قال اليزيدي: «وهي أفصحُ». وقُرئ شاذاً بالغين المعجمة والسين المهملة مِن غَرْس الأشجار، وما أظنه إلا تصحيفاً. وقرأ ابن أبي عبلة «يُعَرِّشون» بضم الياء وفتحِ العين وكسرِ الراء مشددةً على المبالغة والتكثير.
٢٢٨٤ -....................
وقد تقدَّم ذلك. وجاوز بمعنى جاز. ففاعَل بمعنى فَعَل. وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو رجاء ويعقوب: جَوَّزنا بالتشديد، وهو أيضاً بمعنى فَعَل المجردِ كقَدَر وقدَّر.
قوله: ﴿يَعْكُفُونَ﴾ صفة ل «قوم». وقرأ الأخَوَان «يعكفون» بكسر العين، ويُروى عن أبي عمرو أيضاً. والباقون بالضم، وهما لغتان في المضارع كيَعْرشون. وقد تقدَّم معنى العكوف واشتقاقُه في البقرة.
قوله: ﴿كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ الكافُ في محلِّ نصب صفة لإِلهاً، أي: إلهاً مماثلاً لإِلههم. وفي «ما» ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها موصولةٌ حرفية أي: تَتَأوَّل بمصدرٍ، وعلى هذا فصلتُها محذوفة، وإذا حُذِفت صلة «ما» المصدرية فلا بد من إبقاء معمولِ صلتها كقولهم: «لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِراءَ مكانَه» أي: ما ثبت أن حراء مكانه. وكذا هنا تقديره: كما ثبت لهم آلهة، فآلهة فاعل ب «ثبت» المقدر. وقال أبو البقاء في هذا الوجه: «والجملة بعدها صلةٌ لها، وحسَّن ذلك أن الظرفَ مقدرٌ بالفعل». قلت: كلامُه على ظاهره ليس بجيد؛ لأن «ما» المصدريةَ لا تُوْصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك فيشترط فيها غالباً أن تُفْهِم الوقت كقوله:
الثاني: أن تكونَ «ما» كافَّةً لكاف التشبيه/ عن العمل فإنها حرف جر. وهذا كما تُكَفُّ «رُبَّ»، فيليها الجملُ الاسمية والفعلية، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب، بل يجوزُ في الكاف وفي «رب» مع ما الزائدة بعدهما وجهان: العملُ والإِهمالُ، وعلى ذلك قول الشاعر:
٢٢٨٥ - واصِلْ خليلَكَ ما التواصلُ ممكنٌ | فلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قريبٍ ذاهبُ |
٢٢٨٦ - ونَنْصُرُ مولانا ونعلمُ أنَّه | كما الناسُ مجرومٌ عليه وجارِمٌ |
٢٢٨٧ - رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ فيهمُ | وعناجيجُ بينهنَّ المَهارى |
الثالث: أن تكون «ما» بمعنى الذي، و «لهم» صلتها وفيه حينئذ ضميرٌ مرفوعٌ مستتر، و «آلهة» بدل من ذلك الضمير. والتقدير: كالذي استقر هو لهم آلهة. وقال أبو البقاء في هذا الوجه: «والعائد محذوف و» آلهة «بدلٌ منه تقديره: كالذي هو لهم» وتسميتُه هذا حَذْفاً تسامحٌ؛ لأن ضمائر الرفع إذا كانت فاعلةً لا تُوصف بالحذف بل بالاستتار.
ثم ذكر الوجه الثاني وهو أن يكون» مُتَبَّر «خبراً مقدماً من الجملة، وجعله مرجوحاً وهو كما قال، لأنَّ الأصل في الأخبار أن تكون مفردةً فما أمكن فيها ذلك لا يُعْدل عنه. إلا أن الزمخشريَّ لم يَذْكر ذلك على سبيل التعيين بل على أحد الوجهين. وقد يكون هذا عنده أرجحَ مِنْ جهة ما ذكره من المعنى، وإذا دار الأمر بين مُرَجِّح لفظي ومُرَجِّح معنوي، فاعتبارُ المعنويِّ أولى، ولا أظنُّ حَمَل الزمخشري على ذلك إلا ما ذكرت.
والتَتْبير: الإِهلاكُ، ومنه» التِّبْر «وهو كِسارة الذهب لتهالك الناس عليه. وقيل: التتبير: التكسير والتحطيم ومنه التِّبْر لأنه كِسارة الذهب.
قوله: ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ﴾ يجوز أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال: إمَّا من «الله» وإمَّا من المخاطبين، لأن الجملةَ مشتملةٌ على كلٍ من ضميرَيْهما، ويجوز أن لا يكونَ لها محلٌّ لاستئنافها.
قوله: ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه يعودُ على المُواعدة المفهومةِ مِنْ «واعَدْنا»، أي: وأَتْمَمْنا مواعدته بعشر. والثاني: أنها تعودُ على ثلاثين قاله الحوفي. قال الشيخ: «ولا يَظْهر لأنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً فتمَّ بعشر». وحُذِف تمييز «عشر» لدلالة الكلام عليه، أي: وأَتْمَمْناها بعشرِ ليال. وفي مُصْحف أُبَيّ «تَمَّمناها» بالتضعيف، عَدَّاه بالتضعيف.
قوله: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ﴾ الفرق بين الميقات والوقت: أن المِيقات
الثاني: أن ينتصب «أربعين» على المفعول به، قال أبو البقاء: «لأنَّ معناه بلغ، فهو كقولهم: بَلَغَتْ أرضك جَرِيبَيْن»، أي يُضَمِّن «تَمَّ» معنى «بلغ». الثالث: أنه منصوبٌ على الظرف. قال ابن عطية: «ويصحُّ أن تكون» أربعين «ظرفاً من حيث هي عددُ أزمنة». وفي هذا نظر كيف يكون ظرفاً للتمام، والتمام إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة؟ إلا بتجوز بعيد: وهو أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء الوقت سواء كان أولاً أم آخراً إذا نقص ذهب التمامُ. الرابع: أن ينتصب على التمييز. قال الشيخ: «والأصل:» فتمَّ أربعون
وقوله: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ﴾ في هذه الجملة قولان، أظهرهُما: أنها للتأكيد لأنَّ قولَه قبل ذلك «وأَتْمَمْناها بعشر» فُهِم أنها أربعون ليلةً. وقيل: بل هي للتأسيس لاحتمالِ أن يَتَوَّهم متوهِّم بعشر ساعات أو غير ذلك، وهو بعيدٌ جداً.
قوله: «ربِّه» ولم يقل: ميقاتنا جَرْياً على «واعَدْنا» لِما في إظهار هذا الاسم الشريف من الاعترافِ بربوبية الله له وإصلاحه له.
قوله «هارونَ» الجمهورُ على فتح نونه وفيه ثلاثة أوجه. الأول: أنه مجرورٌ بدلاً من «أخيه» الثاني: أنه عطفُ بيان له. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار أعني. وقرئ شاذاً «هارونُ» بالضم وفيه وجهان أحدهما: أنه منادى حُذف منه حرفُ النداء، أي: يا هرون كقوله: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ﴾ [يوسف: ٢٩]. والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو هارون، وهذا في المعنى كالوجه الذي تقدَّم من أنه منصوبٌ بإضمار أعني فإنَّ كليهما قطع. وقال أبو البقاء: «ولو قرئ بالرفع» فذكرهما، كأنَّه لم يطَّلِعْ على أنها قراءة.
قوله: ﴿أرني﴾ مفعولُه الثاني محذوفٌ، والتقدير: أرني نفسَك أو ذاتك المقدسةَ وإنما حَذْفُه مبالغةٌ في الأدب، حيث لم يواجهْه بالتصريح بالمفعول. وأصل أَرِني: أَرْ إني فنُقِلَتْ حركةُ الهمزة. وقد تقدَّم تحريرُه.
قوله: ﴿لَن تَرَانِي﴾ :«لن» قد تقدَّم أنه لا يلزم مِنْ نفيِها التأبيدُ وإن كان بعضُهم فَهِم ذلك، حتى إن ابن عطية قال: «فلو بَقينا على هذا النفي بمجرده لتضمَّن أن موسى لا يَراه أبداً ولا في الآخرة، لكن وَرَدَ من جهة أخرى الحديثُ المتواتر: أنَّ أهلَ الجنةِ يَرَوْنه». قلت: وعلى تقدير أنَّ «لن» ليست مقتضيةً للتأبيد فكلامُ ابنِ عطية وغيرِه ممن يقول: إن نفي المستقبل بعدها يَعُمُّ جميعَ الأزمنة المستقبلة صحيح لكن لِمَدْرك آخرَ: وهو أن الفعلَ نكرةٌ، والنكرةُ في سياق النفي تعمُّ، وللبحث فيه مجال.
والاستدراكُ في قوله «ولكن انظر» واضحٌ. وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف اتصلَ الاستدراكُ في قوله» ولكن انظر « [بما قبله] ؟ قلت: اتصلَ به على معنى أن النظر إليَّ مُحالٌ فلا تطلبه، ولكن اطلب نظراً آخر وهو أن تنظر إلى الجبل» وهذا على رأيه مِنْ أن الرؤية محالٌ مطلقاً في الدنيا والآخرة.
وأمَّا على القراءة الأولى فهو مفعولٌ فقط، أي: صَيَّره مثلَ ناقةٍ دكاء أو أرضٍ دكاء. والدكُّ والدقُّ بمعنى وهو تفتيت الشيء وسَحْقُه. وقيل: تسويتُه بالأرض. وقرأ ابن وثاب: «دُكَّا» بضم الدال والقصر، وهو جمع دَكَّاء بالمد كحُمر في حمراء وغُرّ في غَرَّاء، أي جعله قِطَعاً.
قوله: «صَعِقاً» حالٌ مقارنةٌ، والخُرورُ السُّقوط، كذا أطلقه الشيخ، وقيَّده الراغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ، والخريرُ يقال لصوتِ الماءِ والريح وغيرِ ذلك ممَّا يَسْقُط من علوٍّ. والإِفاقة: رجوعُ الفهمِ والعقل إلى الإِنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ، ومنه إفاقة المريض وهي رجوعُ قوته، وإفاقةُ الحَلْب: وهي
٢٢٨٨ -.................. | فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بيا |
وفي مفعول» كَتَبْنَا «ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه» موعظة «، أي: كتبنا له موعظة/ وتفصيلاً. و» من كل شيء «على هذا فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ ب» كتبنا «، والثاني: أنه متعلق بمحذوف لأنه في الأصلِ صفةٌ ل» موعظة «، فلما قُدِّم عليها نُصب حالاً، و» لكلِّ شيء «صفةٌ ل» تفصيلاً «. والثاني: أنه» من كل شيء «. قال الزمخشري:» من كل شيء «في محل النصب مفعول» كتبنا «، و» موعظة وتفصيلاً «بدل منه، والمعنى: كَتَبْنا له كلَّ شيء كان بنو إسرائيل يَحْتاجون إليه في دينهم من المواعظ وتفصيلِ الأحكام». الثالث: أن المفعولَ محلُّ المجرور. قال الشيخ بعدما حكى الوجهَ الأول عن الحوفي والثاني عن الزمخشري: «ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ ثالثٌ وهو أن يكونَ مفعولُ» كَتَبْنا «موضع المجرور كما تقول:» أكلت من الرغيف «
قوله: «بقوة» حالٌ: إمَّا من الفاعل، أي: ملتبساً بقوة، وإمَّا من المفعول، أي: ملتبسةً بقوة، أي: بقوة دلائلها وبراهينها، والأولُ أوضحُ. والجملةُ مِنْ قوله «فَخُذْها» يُحتمل أن تكونَ بدلاً من قوله «فخُذْ ما آتيتك» وعاد الضميرُ على معنى «ما» لا على لفظِها. ويحتمل أن تكونَ منصوبةً بقول مضمر، ذلك القولُ منسوقٌ على جملة «كتبنا» والتقدير: وكتبنا فقلنا: خُذْ ما. والضميرُ على هذا عائدٌ على الألواح، أو على التوراة، أو على الرسالات، أو على كل شيء لأنه في معنى الأشياء.
قوله: ﴿يَأْخُذُواْ﴾ الظاهرُ أنه مجزومٌ جواباً للأمر في قوله «وَأْمُرْ». ولا بدَّ مِنْ تأويله لأنه لا يلزمُ مِنْ أمره إياهم بذلك أن يأخذوا، بدليلِ عصيانِ بعضِهم له في ذلك، فإنَّ شَرْط ذلك انحلال الجملتين إلى شَرْطٍ وجزاء. وقيل: انجزم على إضمار اللام تقديره: ليأخذوا، كقوله:
٢٢٨٩ - محمدٌ تَفْدِ نفسَك كلُّ نفسٍ | إذا ما خِفْتَ مِنْ أمرٍ تَبالا |
٢٢٩٠ -................. | سودُ المحاجر لا يَقْرأن بالسُّوَرِ |
٢٢٩١ - إنَّ الذي سَمَك السماء بنى لنا | بيتاً دعائِمُهُ أعزُّ وأطولُ |
قوله: ﴿سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين﴾ جَوَّزوا في الرؤية هنا أن تكون بصَريةً وهو الظاهر فتتعدَّى لاثنين، أحدهما: ضمير المخاطبين، والثاني «دار». والثاني: أنها قلبيةٌ وهو منقولٌ عن ابن زيد وغيره، والمعنى: سأُعْلِمُكُمْ سيرَ الأولين وما حلَّ بهم من النَّكال. وقيل: دار الفاسقين: ما دارَ إليه أمرُهم، وذلك لا يُعْلم إلا بالإِخبار والإِعلام. قال ابن عطية: معترضاً على هذا الوجه «ولو كان من رؤية القلب لتعدَّى بالهمزة إلى ثلاثةِ مفعولين. ولو قال قائل: المفعولُ الثالثُ يتضمنه المعنى فهو مُقَدَّر، أي: مَذْمومة أو خربة أو مُسَعَّرة على قول من قال إنها جهنم قيل له: لا يجوزُ حَذْفُ هذا المفعولِ
قال الشيخ: «وحَذْفُ المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائزٌ فيجوز في جواب: هل أعلمتَ زيداً عمراً منطلقاً؟ أعلمتُ زيداً عمراً، وتحذف» منطلقاً «لدلالة الكلام السابق عليه». قلت: هذا مُسَلَّم لكن أين الدليل عليه في الكلام كما في المثال الذي أبرزه الشيخ؟ ثم قال: «وأمَّا تعليلُه بأنَّها داخلةٌ على المبتدأ والخبر لا يدل على المنع، لأن خبرَ المبتدأ يجوزُ حَذْفُه اختصاراً، والثاني والثالث/ في باب» أَعْلَمَ «يجوز حَذْفُ كلٍ منهما اختصاراً». قلت: حَذْفُ الاختصار لدليل، ولا دليلَ هنا. ثم قال: «وفي قوله لأنها أي» سأريكم «داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوُّزٌ» ويعني أنها قبل النقل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر.
وقرأ الحسن البصري: «سأُوْريكم» بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان، أحدهما قاله الزمخشري: «وهي لغةٌ فاشية بالحجاز يُقال: أَوْرَني كذا وأَوْرَيْتُه، فوجهه أن يكون مِنْ أَوْرَيْتُ الزندَ فإن المعنى: بَيِّنْه لي وأَنِرْه لأستبينَه. والثاني: ذكره ابن جني وهو أنه على الإِشباع فيتولَّد منها الواو قال:» وناسب هذا كونَه موضعَ تهديدٍ ووعيد فاحتمل الإِتيان بالواو «قلت: وهذا كقول الآخر:
٢٢٩٢ - اللهُ يعلمُ أنَّا في تَلَفُّتِنا | يومَ اللقاء إلى أحبابنا صورُ |
وأنني حيثما يثني الهوى بَصَري | من حيث ما سلكوا أَدْنُو فانظورُ |
قوله: ﴿وَإِن يَرَوْاْ﴾ الظاهرُ أنها بَصَريَّة، ويجوز أن تكون قلبية، والثاني محذوفٌ لفَهْم المعنى كقول عنترة:
٢٢٩٣ - ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي غيرَه | مني بمنزلة المُحَبِّ المُكْرَمِ |
قوله: ﴿ذلك﴾ فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأ خبره الجارُّ بعده، أي: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم. والثاني: أنه في محلِّ نصب. ثم اختُلِف في ذلك: فقال الزمخشري: «صَرَفَهم الله ذلك الصَّرْفَ بعينه فجعله مصدراً. وقال ابن عطية:»
قوله: ﴿وَكَانُواْ﴾ في هذه الجملةِ احتمالان، أحدهما: أنها نسقٌ على خبر» أنَّ «، أي: ذلك بأنهم كذبوا، وبأنهم كانوا غافلين عن آياتنا. والثاني: أنها مستأنفةٌ أخبر الله تعالى عنهم بأنَّ مِنْ شأنهم الغفلةَ عن الآيات وتدبُّرِها.
قوله: ﴿وَلِقَآءِ الآخرة﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه من باب إضافة المصدر لمفعوله، والفاعل محذوف والتقدير: ولقائهم الآخرة. والثاني: أنه من باب إضافة المصدر للظرف، بمعنى «ولقاء ما وعد الله في الآخرة»، ذكرهما الزمخشري. قال الشيخ: «ولا يجيز جُلَّةُ النحويين الإِضافةَ إلى الظرف لأن الظرفَ على تقديرِ» في «، والإِضافةُ عندهم على تقدير اللام أو» مِنْ «، فإن اتُّسِع في العامل جازَ أن يُنْصَب الظرفُ/ نَصْبَ المفعول، ويجوز إذ ذاك أن يُضافَ مصدرُه إلى ذلك الظرف المتَّسَع في عاملِه، وأجازَ بعض النحويين أن تكون الإِضافةُ على تقدير» في «كما يُفهِمُ ظاهرُ كلامِ الزمخشري».
قوله: ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ﴾ هذا الاستفهامُ معناه النفي، ولذلك دخلت «إلا»، ولو كان معناه التقريرَ لكان موجِباً فيَبْعُد دخول «إلا» أو يمتنع. وقال الواحدي هنا: «
وقرأ الأخَوان: «حِليِّهم» بكسر الحاء، ووجهُها الإِتباع لكسرة اللام، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش، والباقون بضمَّ اللام، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وشَيْبة بن نصاح، وهو في القراءتين جمع حَلْي كطيّ، فُجمع على فُعول كفَلْس وفُلوس، فأصلُه حُلُوي كثُدِيّ في ثُدُوْي فاجتمعت الياءُ والواو وَسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فقُلبت الواو ياء، وأَدْغمت، وكُسِرت عين الكلمة، وإن كانت في الأصل مضمومةً لتصِحّ الياء، ثم لك فيه بعد ذلك وجهان: تَرْكُ الفاءِ على ضمِّها أو إتباعُها للعين في الكسرة، وهذا مُطَّرد في كل جَمْعٍ على فُعُول من المعتلِّ اللام، سواء كان الاعتلال بالياء كحُلِيّ وثُدِيّ أم بالواو نحو عُصِيّ ودُلِيّ جمعَ عصا ودَلْو. وقرأ يعقوب «حَلْيَهم» بفتح الحاء وسكون اللام، وهي محتملةٌ لأن يكون الحَلْي مفرداً أريد به الجمعُ أو اسمُ جنسٍ مفردة حَلْيَة على حَدِّ قمح وقمحة.
و «عِجْلاً» مفعولُ «اتَّخذ» و «مِنْ حُليِّهم» تقدَّمَ حكمه. ويجوز أن يكونَ «اتَّخذ» متعديةً لاثنين بمعنى صَيَّر، فيكون «مِنْ حليِّهم» هو المفعولَ الثاني.
و «جَسَداً» فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه نعت. الثاني: أنه عطفُ بيان. الثالث: أنه بدلٌ قاله الزمخشري، وهو أحسنُ، لأن الجسدَ ليس مشتقاً فلا ينعت به إلا بتأويل، وعطفُ البيان في النكرات قليلٌ أو ممتنع عند الجمهور. وإنما قال «جسداً» لئلا يُتَوَهَّمَ أنه كان مخطوطاً أو مَرْقوماً. والجسد: الجثة. وقيل: ذات لحم ودم، والوجهان منقولان في التفسير.
قوله: ﴿لَّهُ خُوَارٌ﴾ في محل النصب نعتاً ل «عِجْلاً»، وهذا يقوِّي كونَ «جسداً» نعتاً لأنه إذا اجتمع نعت وبدل قُدَّمَ النعتُ على البدل. والجمهور على «خُوار» بخاء معجمة وواو صريحة وهو صوتُ البقر خاصةً، وقد يُستعار للبعير. والخَوَر الضَّعْفُ، ومنه: أرضٌ خَوَّارة ورُمْحٌ خَوَّار، والخَوْران مجرى الرَّوْث وصوت البهائم أيضاً. وقرأ علي رضي الله عنه وأبو السَّمَّال «جُُؤَار» بالجيم والهمز وهو الصوت الشديد.
قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ﴾ إنْ قلنا: إنَّ «اتخذ» متعدية لاثنين، وإن الثاني محذوف تقديره: واتخذ قوم موسى من بعده عجلاً جسداً إلهاً فلا حاجة حينئذ إلى ادِّعاء حذف جملة يتوجَّه عليها هذا الإِنكارُ، وإن قلنا إنها متعدية لواحد بمعنى صنع وعمل، أو متعدية لاثنين، والثاني هو «من حليِّهم» فلا بدَّ مِنْ حَذْفِ جملة قبل ذلك ليتوجَّه عليها الإِنكار، والتقدير: فعبدوه.
و «يَرَوا» يجوز أن تكون العِلْمية وهو الظاهر، وأن تكون البصَريةَ، وهو بعيد.
٢٢٩٤ - دَعْ عنك نَهْباً صِيح في حُجُراتِه | ولكنْ حديثاً ما حديث الرواحلِ |
٢٢٩٥ - ونشوةٌ سُقِطْتُ منها في يدي... وأبو نواس هو العالِمُ النِّحْرِيْر فأخطأ في استعمال هذا اللفظ لأن فُعِلْتُ لا يُبْنى إلا من فعلٍ متعدٍ و» سَقَط «لازم لا يتعدى إلا بحرف الصفة، لا يقال:» سُقطت «كما لا يُقال: رُغبت وغُضِبت إنما يقال: رُغِب في، وغُضِب على. وذكر أبو حاتم [أن] » سُقِط فلان في يده «بمعنى ندم وهذا خطأ مثلُ قول أبي نواس، ولو كان الأمر كذلك لكان النظم» ولما سُقطوا في أيديهم «و» سُقِط القومُ في أيديهم «. وقال أبو عبيدة:» يُقال لمن ندم على أمر وعجز عنه: سُقِط في يده «.
وقال الواحدي: «وذِكْرُ اليد ههنا لوجهين أحدهما: أنه يُقال للذي
وقال الزمخشري: «ولمَّا سُقِط في أيديهم» : ولما اشتدَّ ندمهم، لأنَّ مِنْ شأن مَنْ اشتدَّ ندمُه وحسرته أن يَعَضَّ يده غَمَّاً فتصيرَ يدهُ مسقوطاً فيها لأنَّ فاه قد وقع فيها «. وقيل: مِنْ عادة النادم أن يُطَأطِئ رأسه ويضع ذَقَنه على يده معتمداً عليها ويصير على هيئة لو نُزعت يده لسقط على وجهه، فكأن اليدَ مسقوط فيها. ومعنى» في «:» على «، فمعنى» في أيديهم «: على/ أيديهم كقوله: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ [طه: ٧١]. وقيل: هو مأخوذ من السِّقاط
٢٢٩٦ - كيف يَرْجُون سِقاطي بعدما | لَفَّع الراسَ بياضٌ وصَلَعْ |
واعلم أن» سُقِطَ في يده «عَدَّه بعضُهم في الأفعال التي لا تتصرَّف كنِعْمَ وبئس. وقرأ ابن السَّمَيْفع» سَقَط في أيديهم «مبنيَّاً للفاعِل، وفاعلُه مضمر، أي: سقط الندمُ، هذا قولُ الزجاج. وقال الزمخشري:» سقط العَضُّ «. وقال ابن عطية:» سَقَط الخسران والخيبة «وكل هذه أمثلةٌ. وقرأ ابن أبي عبلة» أُسْقِط «رباعياً مبنياً للمفعول. وقد تقدَّم أنها لغةٌ نقلها الفراء والزجاج.
قوله: ﴿وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ﴾ هذه قلبيَّة، ولا حاجةَ في هذه إلى تقديمٍ وتأخير كما زعمَه بعضُهم قال:» تقديره: ولما رأوا أنهم قد ضلُّوا وسُقِط في أيديهم «.
قال: «لأنَّ الندمَ والتحسُّر إنما يقعان بعد المعرفة».
٢٢٩٧ - غيرُ مأسوفٍ على زمنٍ | ينقضي بالهمِّ والحزن |
٢٢٩٨ -..................
وقال الأعشى:
٢٢٩٩ - أرى رجلاً منكمْ أسِيفاً كأنما | يَضُمُّ إلى كَشْحَيْه كَفَّاً مُخَضَّبا |
قوله: ﴿قَالَ: بِئْسَمَا﴾ هذا جوابُ «لمَّا» وتقدَّم الكلامُ على «بئسما»، ولكنَّ المخصوصَ بالذم محذوفٌ، والفاعلُ مستتر يفسِّره «ما خَلَفْتموني» والتقدير: بئس خلافةً خَلَفْتمونيها خلافتُكم.
قوله: ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ في «أَمْرَ» وجهان أحدهما: أنه منصوب على المفعول بعد إسقاط الخافض وتضمين الفعل معنى ما يتعدى بنفسه، والأصل: أَعَجِلْتُمْ عن أمر ربكم. قال الزمخشري: «يقال: عَجِل عن الأمر: إذا تركه غير تامَّ، ونقيضه تَمَّ، وأعجله عنه غيره، ويُضَمَّن معنى سبق فيتعدَّى تعديتَه فيقال: عَجِلْتُ الأمر، والمعنى: أعجلتم عن أمر ربكم». والثاني: أنه متعدٍّ بنفسه غيرَ مضمَّنٍ معنى فعل آخر. حكى يعقوب «عَجِلْتُ الشيء سبقته» وأعجلت الرجل استعجلته، أي: حملتُه على العَجَلة «.
قوله: ﴿يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أن الجملةَ حالٌ من ضمير موسى المستتر في» أخذ «، أي: أخذ جارَّاً إليه. الثاني: أنها حال من» رأس «
قوله: ﴿قَالَ ابن أُمَّ﴾ قرأ الأخَوان وأبو بكر وابن عامر هنا وفي طه بكسر الميم والباقون بفتحها. فأمَّا قراءة الفتح ففيها مذهبان: مذهبُ البصريين أنهما بُنيا على الفتح لتركُّبهما تركيب خمسة عشر، فعلى هذا فليس «ابن» مضافاً ل «أم» بل مركَّب معها فحركتُهما حركةُ بناء.
والثاني: مذهب الكوفيين وهو أن «ابن» مضاف ل «أُمّ» و «أم» مضافة لياء المتكلم، وياء المتكلم قد قلبت ألفاً كما تقلب في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم نحو: يا غلاماً، ثم حُذِفَتْ الألفُ واجْتُزِئ عنها بالفتحة كما يُجْتَزَأُ عن الياء بالكسرة، فحينئذ حركة «ابن» حركةُ إعراب وهو مضاف ل «أُمَّ» فهي في محلِّ خفضٍ بالإِضافة.
وأما قراءةُ الكسر فعلى رأي البصريين هو كسرُ بناءٍ لأجل ياء المتكلم، بمعنى أنَّا أَضَفْنا هذا الاسمَ المركب كلَّه لياء المتكلم فكُسِر آخرُه، ثم اجتُزِئ عن الياء بالكسرة فهو نظير: يا أحَدَ عشري ثم: يا أحد عَشرِ بالحذف، ولا جائز أن يكونا باقيين على الإِضافة إذ لم يَجُزْ حَذْفُ الياء لأن الاسمَ ليس منادى، ولكنه مضافٌ إليه المُنادى فلم يَجُزْ حَذْفُ الياء منه. وعلى رأي الكوفيين يكون الكسرُ كسرَ إعراب وحُذِفت الياءُ مجتَزَأً عنها بالكسرة كما اجتزِئَ عن ألفها بالفتحة. وهذان الوجهان يَجْريان في «ابن أم» و «ابن عم»
وقُرئ «يابن أمي» بإثباتِ الياء ساكنةً، ومثلُه قوله:
٢٣٠٠ - يابنَ أُمِّي ويا شُقَيِّق نفسي | أنت خَلَّفْتَني لدهرٍ شديدِ |
٢٣٠١ - يا بنَ أمي فَدَتْكَ نفسي ومالي | ............... |
٢٣٠٢ - يا بنة عَمَّا لا تَلُومي واهْجَعي...
٢٣٠٣ - كُنْ لي لا عَليَّ يا بن عَمَّا | نَدُمْ عَزِيزَيْنِ ونُكْفَ الذَّمَّا |
والثاني: أنَّ «تَشْمت» مسندٌ لضمير الباري تعالى، أي: فلا تَشْمت يا رب، وجاز هذا كما جاز ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ ثم أضمر ناصباً للأعداء كقراءة الجماعة قاله ابن جني، ولا حاجةَ إلى هذا التكلف لأنَّ «شمت» الثلاثي يكون متعدِّياً بنفسه، والإِضمارُ على خلاف الأصل. وقال أبو البقاء في هذا التخريج: «فلا تشمت أنت» فجعل الفاعلَ ضميرَ موسى، وهو أولى من إسناده إلى ضمير الله تعالى. وأمَّا تنظيرُه بقوله ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ فإنما جاز ذلك للمقابلة في قوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤] وكقوله: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ [آل عمران: ٥٤] ولا يجوز ذلك في غير المقابلة.
وقرأ حميد بن قيس: «فلا تَشْمِت» كقراءة ابن محيصن، ومجاهد
والإِشمات والشَّماتة: الفَرَح ببلِيَّة تنال عدوَّك قال:
٢٣٠٤ -.................. | والموتُ دون شماتَةِ الأعداء |
قوله: ﴿مِن بَعْدِهَا﴾ يجوز أن يعود الضمير على «السيئات» وهو الظاهر، ويجوز أن يكونَ عائداً على التوبة المدلول عليها بقوله: «ثم تابوا»، أي: من بعد التوبة. قال الشيخ: «وهذا أَوْلَى، لأن الأولَ يلزمُ منه حَذْفُ مضافٍ ومعطوفِه، إذ التقدير: من بعد عَمَلِ السيئات والتوبة منها».
قوله: ﴿وآمنوا﴾ يجوز أن تكونَ الواوُ للعطفِ فيقال: التوبة بعد الإِيمان فكيف جاءَتْ قبلَه؟ فيقال: الواو لا تُرَتِّبُ، ويجوز أن تكونَ الواوُ للحال، أي: تابوا وقد آمنوا.
وقيل: شَبَّه جمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم. قال يونس: «سال
قوله: ﴿وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى﴾، هذه الجملة في محل نصب على الحال من الألواح أو من ضمير موسى، والأول أحسن.
قوله: ﴿لِّلَّذِينَ﴾ متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ ل «رحمة» أي: رحمة كائنة للذين. ويجوز أن تكونَ اللامُ لامَ المفعول من أجله كأنه قيل: هدى ورحمة لأجل هؤلاء، و «هم» مبتدأ، و «يرهبون» خبره، والجملةُ صلة الموصول.
قوله: ﴿لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ في هذه اللامِ أربعةُ أوجه، أحدها: أن اللامَ مقويةٌ للفعل، لأنه لمَّا تقدَّم معمولُه ضَعُفَ فقوي باللام كقوله: ﴿إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ وقد تقدم أن اللامَ تكونُ مقويةً حيث كان العامل مؤخراً أو فرعاً نحو: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧]، ولا تُزاد في غير هذين إلا ضرورةً عند بعضهم كقوله:
٢٣٠٥ - ولمَّا أن تواقَفْنا قليلاً | أَنَخْنا للكلاكل فارْتَمَيْنا |
٢٣٠٦ - اخْتَرْتُكَ الناسَ إذ رثَّتْ خلائِقُهُمْ | واعتلَّ مَنْ كان يُرجى عنده السُّؤلُ |
٢٣٠٧ - فقلْتُ له اخترها قَلوصاً سمينة | ونابٌ علينا مثل نابِكَ في الحيا |
٢٣٠٨ - منا الذي اختير الرجالَ سماحةً | وجوداً إذا هَبَّ الرياح الزعازعُ |
٢٣٠٩ - أمرتك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْتَ به | فقد تَرَكْتُك ذا مالٍ وذا نَشَبِ |
٢٣١٠ - أستغفرُ اللهَ ذنباً لستُ محصيَه | ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعملُ |
٢٣١١ - دَعَتْني أمُّ عمرو أخاها ولم أكن | أخاها ولم أَرْضَعْ لها بلَبانِ |
وأصل اختار: اختَيَرَ افتعل من لفظ الخير كاصطفى من الصفوة. و «لميقاتنا» متعلقٌ به أي: لأجل ميقاتنا. ويجوز أن يكونَ معناها الاختصاصَ، أي: اختارهم مخصصاً بهم الميقات كقولك: اختير لك هذا.
قوله: ﴿لَوْ شِئْتَ﴾ مفعولُ المشيئة محذوف أي: لو شِئْتَ إهلاكنا، و «أهلكتهم» جواب لو، والأكثر الإِتيانُ باللام في هذا النحو، ولذلك لم يَأْتِ مجرداً منها إلا هنا، وفي قوله
﴿أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ﴾ [الأعراف: ١٠٠] وفي قوله: ﴿لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً﴾ [الواقعة: ٧٠]. ومعنى «من قبل» أي: قبل الاختيار وأَخْذ الرجفة.
قوله: ﴿وَإِيَّايَ﴾ قد يتعلَّق به مَنْ يرى جواز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله، إذ كان يمكنُ أن يُقال: أهلكتنا، وهو تعلُّقٌ واهٍ جداً لأن مقصودَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التنصيص على هلاك كلٍ على حِدَتِه تعظيماً للأمر، وأيضاً فإن موسى لم يتعاطَ ما يقتضي إهلاكَه بخلاف قومه، وإنما قال ذلك تسليماً منه لربِّه، فعطَف ضميرَه تنبيهاً على ذلك، وقد تقدم لك
قوله: ﴿أَتُهْلِكُنَا﴾ يجوز فيه أن يكون على بابه، أي: أتَعُمُّنا بالإِهلاك أم تخصُّ به السفهاءَ منا؟ / ويجوز أن يكونَ بمعنى النفي، أي: ما تُهْلِك مَنْ لم يُذنب بذنب غيره، قاله أبو بكر بن الأنباري، قال: «وهو كقولك: أتُهين مَنْ يكرمك؟ وعن المبرد: هو سؤالُ استعطاف. و» منا «في محل نصب على الحال من» السفهاء «ويجوز أن تكون للبيان.
قوله: ﴿تُضِلُّ بِهَا﴾ يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكون مستأنفةً فلا محلَّ لها. والثاني: أن تكون حالاً من» فتنتك «أي: حالَ كونها مُضِلاً بها. ويجوز أن تكون حالاً من الكاف لأنها مرفوعةٌ تقديراً بالفاعلية، ومنعه أبو البقاء قال:» لعدم العامل فيها «وقد تقدَّم البحث معه فيه غير مرة.
٢٣١٢ - لَئِنْ كان ما حُدِّثْتُه اليومَ صادقاً | أَصُمْ في نهارِ القيظِ للشمس باديا |
٢٣١٣ - قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها | أني مِنَ الله لها هائدُ |
و «هي» ضميرٌ يفسِّره سياقُ الكلام إذ التقدير: إنْ فتنتُهم إلا فتنتُك. وقيل: يعود على مسألة الإِراءة من قوله: ﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ أي: إنْ مسألة الرؤية.
قوله: ﴿عذابي أُصِيبُ﴾ مبتدأ وخبره. والعامَّةُ على «مَنْ أشاء» بالشين المعجمة. وقرأ زيد بن علي وطاوس وعمرو بن فائد: «أساء» بالمهملة من الإِساءة. قال الداني: «لا تَصِحُّ هذه القراءة عن الحسن ولا عن طاوس،
قوله: ﴿الأمي﴾ العامَّةُ على ضم الهمزة نسبةً: إمَّا إلى الأُمة وهي أمة العرب، وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب، ومنه الحديثُ: «إنَّا أمةٌ أمِّيَّةٌ لا نكتب ولا نحسب»، وإمَّا نسبةً إلى الأَمّ وهو مصدر أَمَّ يَؤُمُّ، أي: قصد
وقرأ يعقوب «الأَمِّيّ» بفتح الهمزة، وخرَّجها بعضهم على أنه من تغيير النسب، كما قالوا في النسب إلى أُمَيَّة: أَمَوي/. وخرَّجها بعضهم على أنها نسبةٌ إلى الأَمّ وهو القصد، أي: الذي هو على القصد والسَّداد، وقد تقدَّم ذكرُ ذلك أيضاً في القراءة الشهيرة. فقد تحصَّل أن كلاً من القراءتين يحتمل أن تكون مُغَيَّرَةً من الأخرى.
قوله: «تجدونه» الظاهر أن هذه متعديةٌ لواحد لأنها اللُّقْبَة، والتقدير: تَلْقَوْنه، أي تَلْقَوْن اسمَه ونعته مكتوباً، لأنه بمعنى وُجْدان الضالَّة فيكون «مكتوباً» حالاً من الهاء في «تجدونه». وقال أبو علي: «إنها متعدية لاثنين أولهما الهاء، والثاني» مكتوباً «. قال:» ولا بد من حذف هذا المضاف، أعني قوله «ذكره أو اسمه». قال سيبويه: «تقول إذا نظرت في هذا الكتاب: هذا عمرو، وإنما المعنى: هذا اسم عمرو وهذا ذِكْر عمرو قال:» وهذا يجوزُ على سَعة الكلام «.
قوله: ﴿عِندَهُمْ فِي التوراة﴾ هذا الظرف وعديلُه كلاهما متعلِّقٌ ب» تَجدون «، ويجوز وهو الأظهر أن يتعلَّقا ب» مكتوباً «، أي: كُتِبَ اسمُه ونعته عندهم في تَوْراتهم وإنجيلهم.
قوله: ﴿يَأْمُرُهُم﴾ فيه ستةُ أوجه، أحدها: أنه مستأنف، فلا محلَّ له حينئذ
وقال الزجَّاج هنا:» ويجوز أن يكون المعنى: يجدونه مكتوباً عندهم أنه يأمرُهم بالمعروف، وعلى هذا يكون الأمرُ بالمعروف وما ذُكِر معه مِنْ صفته التي ذُكِرت في الكتابين «. واستدرك أبو علي عليه هذه المقالةَ فقال:» لا وجهَ لقوله «يجدونه مكتوباً عندهم أنه يأمرهم بالمعروف» إن كان يعني أن ذلك مرادٌ، لأنه لا شيءَ يَدُلُّ على حَذْفِه، ولأنَّا لا نَعْلَمهم أنهم صَدَقُوا في شيء، وتفسير الآية أنَّ ﴿وجدت﴾ فيها تتعدى لمفعولين «فَذَكر نحو ما قدَّمته عنه.
قوله: ﴿إصرهم﴾ قرأ ابن عامر:» آصارهم «بالجمع على صيغة أفْعال، فانقلبت الهمزة التي هي فاء الكلمة ألفاً لسَبْقِها بمثلها، والباقون بالإِفراد فهي جمع باعتبار متعلَّقاته وأنواعه، وهي كثيرة. ومَنْ أفرد فلأنه اسمُ جنسٍ. وقرأ بعضهم:» أَصرهم «بفتح الهمزة، وبعضُهم» أُصْرهم «بضمها. وقد تقدم تفسير هذه المادة في أواخر البقرة.
والأغلال جمع غُلّ، وهو هنا مَثَل لِما كُلِّفوه. وقد تقدَّم تفسير المادة أيضاً في آل عمران: ﴿وما كان لنبي أن يَغُلَّ﴾، وكذا تقدم تفسير التعزير في المائدة.
والعامَّة على تشديد» وعزَّروه «. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وسليمان التيمي بتخفيفها، وجعفر بن محمد:» وعَزَّزوه «بزايين معجمتين.
قوله: ﴿أُنزِلَ مَعَهُ﴾ قال الزمخشري:» فإن قلت: ما معنى «أُنْزِلَ معه»، وإنما أُنْزِل مع جبريل؟ قلت: معناه أُنزل مع نبوته؛ لأن
ويجوز أن يتعلَّق ب «اتَّبعوا»، أي: واتَّبعوا القرآن المنزَّل مع اتِّباع النبيّ وبالعمل بسنته وبما أَمَرَ به ونَهَى عنه، أو واتَّبعوا القرآنَ كما اتَّبعه مصاحبين له في اتَّباعه «يعني بهذا الوجهِ الأخير أنه حالٌ من فاعل» اتبعوا «. / وقيل:» مع «بمعنى» على «، أي: أُنْزِلَ عليه. وجوَّز الشيخ أن يكون» معه «ظَرْفاً في موضعِ الحال. قال:» والعاملُ فيها محذوف تقديره: أُنْزِلَ كائناً معه، وهي حال مقدَّرة كقولهم: «مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً» فحالةُ الإِنزال لم يكن معه، لكنه صار معه بعدُ، كما أن الصيدَ لم يكن وقتَ المرور «.
قوله: ﴿الذي لَهُ مُلْكُ﴾ يجوز فيه الرفع والنصب والجر، فالرفعُ والنصبُ على القطع وقد مرَّ غيرَ مرة. والجرُّ من وجهين: إمَّا النعتِ للجلالة، وإمَّا البدلِ منها. قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون جَرّاً على الوصفِ وإن حِيل بين الصفة والموصوف بقوله» إليكم جميعاً «. وقد استضعف أبو البقاء هذا ووجهَ البدل فقال:» ويَبْعُدُ أن يكونَ صفة لله أو بدلاً منه لِما فيه من الفصل بينهما ب «إليكم» وبحالٍ، وهو متعلِّق ب «رسول».
قوله: ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ لا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب، إذ هي بدلٌ من الصلةِ قبلها، وفيها بيانٌ لها، لأنَّ مَنْ مَلَكَ العالَم كان هو الإِلهَ على
وقرأ مجاهد وعيسى» وكلمة «بالتوحيد، والمراد بها الجنس كقوله:» أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد «، ويسمُّون القصيدة كلها كلمةً، وقد تقدَّم لك شرح هذا.
قوله: ﴿فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ قال الزمخشري:» فإن قلت: هَلاَّ قيل:
وتمييز «اثنتي عشرة» محذوف لفهم المعنى تقديره: اثنتي عشرة فرقة و «أسباطاً» بدل من ذلك التمييز. وإنما قلت إن التمييز محذوف، ولم أجعل «أسباطاً» هو المميِّز لوجهين، أحدهما: أن المعدودَ مذكرٌ لأن أسباطاً جمع سِبْط، فكان يكون التركيبُ اثني عشر. والثاني: أن تمييز العدد المركب وهو من أحد عشر إلى تسعة عشر مفرد منصوب، وهذا كما رأيت جمعٌ. وقد جعله الزمخشري تمييزاً له معتذراً عنه فقال: «فإن قلتَ: مميِّز ما عدا العشرةَ مفردٌ فما وجهُ مجيئه جمعاً؟ وهلا قيل: اثني عشر سِبْطاً. قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأن المرادَ: وقطَّعْناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكلُّ قبيلة أَسْباط لا سِبْط، فوضع أسباطاً موضع قبيلة. ونظيرُه:
٢٣١٥ -...
قال الشيخ:» وما ذهب إليه من أن كل/ قبيلة أسباط خلافُ ما ذكره الناس: ذكروا أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وقالوا: الأسباط جمع [سبط]، وهم الفرق والأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل ويكون على زعمه قولُه تعالى: ﴿وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط﴾ معناه: والقبيلة. وقوله وهو نظير قوله «بين رماحَيْ مالك ونهشل» ليس بنظيره، لأن هذا من باب تثنية الجمع وهو لا يجوز إلا في ضرورة، وكأنه يشير إلى أنه لو لم يُلْحَظْ في الجمع كونُه أريد به نوعٌ من الرماح لم تَصِحَّ التثنية، كذلك هنا لُحِظ في الأسباط وإن كان جمعاً معنى القبيلة فَمُيِّزَ به كما يُمَيَّزُ بالمفرد «.
وقال الحوفي:» يجوز أن يكونَ على الحَذْف، والتقدير: اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً، ويكون «أسباطاً» نعتاً لفرقة، ثم حُذف الموصوفُ وأقيمت الصفة مُقامه. وأمم نعتٌ لأسباط، وأنَّث العددَ وهو واقعٌ على الأسباط وهو مذكر وهو بمعنى فرقة أو أمة كما قال:
٢٣١٤ - إني امرؤٌ مما جَنَيْتُ هائِدُ | ............... |
٢٣١٦ - ثلاثة أنفس......... | .................. |
٢٣١٧ -................ عشرُ أَبْطُنْ | ................ |
٢٣١٨ - فيها اثنتان وأربعون حَلوبةً | سُوداً كخافيةِ الغراب الأَسْحَمِ |
وقال الفراء:» إنما قال «اثنتي عشرة» والسِّبط مذكر لأنَّ ما بعده أممٌ فذهب التأنيث إلى الأمم، ولو كان اثني عشر لتذكير السبط لكان جائزاً «واحتجَّ النحويون على هذا بقول الشاعر:
٢٣١٩ - وإنَّ قريشاً هذه عشرُ أبطنٍ | وأنت بريءٌ من قبائلها العشرِ |
وقال الزجاج: «المعنى:» وقَطَّعناهم اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً، من نعتِ فرقة كأنه قال: جَعَلناهم أسباطاً وفَرَّقْناهم أسباطاً «، وجوَّز أيضاً أن يكون» أسباطاً «بدلاً من» اثنتي عشرة «وتبعه الفارسيُّ في ذلك.
وقال بعضهم:» تقدير الكلام: وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة، فلا يُحتاج حينئذٍ إلى غيره. وقال آخرون: جَعَل كلَّ واحد من الاثنتي عشرة أسباطاً، كما تقول: لزيد دراهم ولفلان دراهم ولفلان دراهم، فهذه عشرون دراهم، يعني أن المعنى على عشرينات من الدراهم. ولو قلت: لفلان ولفلان ولفلان عشرون درهماً بإفراد «درهم» لأدَّى إلى اشتراك الكل في عشرين واحدة
وقوله ﴿أُمَماً﴾ : إمَّا نعتٌ لأسباطاً، وإمَّا بدل منها بعد بدل على قولنا: إن أسباطاً بدلٌ من ذلك التمييزِ المقدر. وجَعَلَه الزمخشري أنه بدل من اثنتي عشرة قال: «بمعنى: وقَطَّعناهم أمماً لأن كل أسباط كانَتْ أمةً عظيمة وجماعة كثيفة العدد» وكلُّ واحدة تَؤُمُّ خلافَ ما تَؤُمُّه الأخرى لا تكاد تأتلف «انتهى. وقد تقدَّم القول في الأسباط.
وقرأ أبان بن تغلب» وَقَطَعْناهم «بتخفيف العين، والشهيرةُ أحسنُ لأنَّ المقامَ للتكثير، وهذه تحتمله أيضاً. وقرأ الأعمش وابن وثاب وطلحة ابن سليمان» عَشِرة «بكسر الشين، وقد رُوي عنهم فتحُها أيضاً، ووافقهم على الكسر فقط أبو حيوة وطلحة بن مصرف. وقد تقدَّم تحقيق ذلك في البقرة، وأن الكسرَ لغةُ تميم والسكونَ لغةُ الحجاز.
قوله: ﴿أَنِ اضرب﴾ يجوز في» أَنْ «أن تكون المفسِّرة للإِيحاء، وأن تكونَ المصدرية. وقوله:» فانبجسَتْ «كقوله: ﴿فانفجرت﴾ [البقرة: ٨٠] إعراباً وتقديراً ومعنىً، وقد تقدم جميعُ ذلك في البقرة. وقيل: الانبِجاسُ: العَرَق. قال
وقال الهروي: «يقال: انبجسَ وتَبَجَّس وتَفَجَّر وتفتَّق بمعنى واحدٍ»، وفي حديث حذيفة: «ما منا إلا رجلٌ له آمَّةٌ يَبْجُسُها الظُّفُر غيرَ رَجُلَيْن» يعني عمر وعلياً رضي الله عنهم. الآمَّة: الشجَّة تبلغ أمَّ الرأس، وهذا مَثَل يعني أن الآمَّة منا قد امتلأت صديداً بحيث إنه يُقْدر على استخراج ما فيها بالظفر من غير احتياج إلى آلة حديد كالمِبْضَع فعبَّر عن زَلَلِ الإِنسان بذلك، وأنه تفاقم إلى أن صار يشبه شَجَّةً هذه صفتها.
قوله: ﴿كُلُّ أُنَاسٍ﴾ قد تقدَّم الوعدُ في البقرة بالكلام على لفظة «أناس» هنا. قال الزمخشري: «الأناس: اسم جمع غير تكسير نحو: رُخال وتُناء وتُؤام وأخواتٍ لها. ويجوز أن يقال: إن الأصل الكسر والتكسير،
قال سيبويه في حَدِّ تكسيرِ الصفات:» وقد يُكَسِّرون بعضَ هذا على فُعالى وذلك قول بعضِهم «عُجالى وسُكارى». وقال سيبويه في الأبنية أيضاً: «ويكونُ فُعالى في الاسم نحو: حُبارَى وسُمانى ولُبادى ولا يكون وصفاً إلا أن يُكَسَّر عليه الواحدُ للجمع نحو: سُكارى وعجالى» فهذان نَصَّان من سيبويه على أنه جمعُ تكسير، وإذا كان جمعَ تكسيرٍ أصلاً لم يَسْغُ أن يُدَّعى أن أصلَه فَعالَى وأنه أُبْدلت الحركة فيه. وذهب المبرد إلى أنه اسمُ جمع أعني فُعالى بضم الفاء وليس بجمع تكسير، فالزمخشري لم يذهبْ إلى ما ذهب إليه سيبويه، ولا إلى ما ذهب إليه المبرد، لأنه عند المبرد اسمُ جمعٍ، فالضمة في فائه أصلٌ ليست بدلاً من الفتحة بل أحدث قولاً ثالثاً «انتهى.
قوله: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ﴾ قد تقدَّم الكلامُ على هذه الجملةِ وما قبلها، وما بعدها في البقرة، وكأن هذه القصةَ مختصرةٌ مِنْ تِيْكَ، فإن تِيْكَ أشبعُ
﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا﴾ [إبراهيم: ٢١] قلت: يعني كونه أتى لفظُ «سواء» بأو دون أم، ولم يأت بهمزة التسوية بعد سواء، وقد تقدم أن ذلك جائزٌ وإن كان الكثيرُ ما ذكره، وأنه قد قرئ ﴿سواء عليهم أأنذرتهم أو لم تُنْذِرْهم﴾ والردُّ بمثل هذا غيرُ طائلٍ.
وقرأ عيسى الهمذاني «ما رَزَقْتُكم» بالإِفراد، وسيأتي خلافٌ بين السبعة في مثل هذا في سورة طه.
قوله: ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ قد تقدَّم الخلاف في «يغفر» وأما «خطاياكم» فقرأها ابنُ عامر «خطيئتكم» بالتوحيد والرفع على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، والفرض أنه يقرأ «تُغْفَر» بالتاء من فوق. ونافع قرأ «خطيئاتكم» بجمعِ السَّلامة رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنه يقرأ «تُغْفَر» كقراءةِ ابن عامر، وأبو عمرو قرأ: «خطاياكم» جمعَ تكسير، ويَقرأ «نغفر» بنونِ العظمة،
قال الشيخ: «وهذا لا يجوزُ، لأنَّ» إذ «من الظروف التي لا تتصرَّف، ولا يَدْخل عليها حرفُ جر، وجَعْلُها بدلاً يُجَوِّز دخول» عن «عليها لأنَّ البدلَ هو على نية تكرار العامل، ولو أَدْخَلْت» عن «عليها لم يَجُزْ، وإنما يُتَصَرَّفُ فيها بأنْ تُضِيْفَ إليها بعضَ الظروفِ الزمانية نحو» يوم إذ كان كذا «، وأمَّا قولُ
وقال الحوفي: «إذ متعلقةٌ ب» سَلْهم «. قال الشيخ:» وهذا لا يُتَصور، لأن «إذ» لِما مضى، و «سَلْهم» مستقبلٌ، ولو كان ظرفاً مستقبلاً لم يَصِحَّ المعنى، لأنَّ العادِين وهم أهل القرية مفقودون، فلا يمكن سؤالُهم فالمسؤول غير أهل القرية العادين «.
وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك:» يَعَدُّون «بفتح العين وتشديد الدال، وهذه تشبه قراءةَ نافع في قوله» لا تَعَدُّوا في السبت «والأصل» تَعْتَدُّوا «فأدغم التاءَ في الدال لمقاربتها لها. وقُرئ» تُعِدُّون «بضمِ التاء وكسرِ العين وتشديد الدال من أعدَّ يُعِدُّ إعداداً: إذا هَيَّأ آلاتِه. وفي التفسير: أنهم كانوا مأمورين في السبت فيتركونها ويُهَيِّئون آلاتِ الصيد.
قوله: ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ﴾ العاملُ فيه» يَعْدُون «، أي: إذ عَدَوا إذ أَتَتْهم، لأنَّ الظرفَ الماضي يَصْرِفُ المضارع إلى المضيّ. وقال الزمخشري:» وإذ تأتيهم بدلٌ من إذْ يَعْدُون بدلاً بعد بدل «يعني أنه بدلٌ ثانٍ من القرية على ما تقرَّر عنه. وقد تقدَّم ردُّ الشيخ عليه هناك وهو عائدٌ هنا.
و» حِيْتان «جمع حُوت، وإنما أُبدلت الواو ياء لسكونها وانكسارِ ما قبلَها. ومثلُه: نون ونينان. والنونُ: الحوت.
وقرأ عاصم بخلافٍ عنه وعيسى بن عمر: لا يَسْبُتون بضم الباء. وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف عنه «يُسْبِتون» بضم الياء وكسرِ الباء مِنْ أَسْبت، أي: دَخَل في السبت. وقرئ: «يُسْبَتُون» بضمِّ الياء وفتح الباء مبنياً للمفعول، نقلها الزمخشري عن الحسن قال: «أي: لا يُدار عليهم السَّبْت ولا يُؤْمرون بأن يَسْبِتُوا».
والعاملُ في «يوم لا يَسْبتون» قوله «لا تَأْتيهم» أي: لا تأتيهم يوم لا يَسْبتون، وهذا يدلُّ على جواز تقديم معمول المنفي ب «لا» عليها. وقد قدَّمْتُ فيه ثلاثةَ مذاهب: الجوازَ مطلقاً كهذه الآية، المنعَ مطلقاً، التفصيلَ: بين أن يكون جوابَ قسم فيمتنعَ أو لا فيجوز.
قوله: ﴿كَذَلِكَ نَبْلُوهُم﴾ ذكر الزجاج وابن الأنباري في هذه الكاف ومجرورِها وجهين، أحدهما: قال الزجاج: «أي: مثلَ هذا الاختبار الشديد نختبرهم، فموضعُ الكاف نصب ب» نَبْلوهم «. قال ابن الأنباري:» ذلك «إشارةٌ إلى ما بعدَه، يريد: نَبْلوهم بما كانوا يفسُقون كذلك البلاءَ الذي وقع بهم في أَمْرِ الحِيتان، وينقطع الكلام عند قوله» لا تأتيهم «.
الوجه الثاني: قال الزجاج:» ويحتمل أن يكون على بُعْدٍ أن
وقوله: ﴿بِمَا كَانُوا﴾ الباء سببيةٌ، و» ما «مصدريةٌ أي: نَبْلُوهم بسببِ فِسْقِهم، ويَضْعُفُ أن تكونَ بمعنى الذي لتكلُّفِ حَذْفِ العائد على التدريج. وقد ذكر مكي هنا مسألةً مختلفاً فيها بين النحاة لا تعلُّق لها بهذا الموضع فقال:» وأفصحُ اللغات أن ينتصبَ الظرف مع السبت والجمعة فتقول: اليومَ السبتُ، واليومَ الجمعة، فَتُنْصَبَ «اليوم» على الظرف وتُرْفَعَ مع سائر الأيام فتقول: اليومَ الأحد، واليومَ الأربعاء، لأنه لا معنى للفعل فيهما، فالمبتدأ هو الخبر فترفع «. قلت: هذه المسألة فيها خلافٌ بين النحويين، فالجمهور كما ذكر يوجبون الرفعَ لأنه بمنزلة قولك: اليومُ الأولُ، اليوم الثاني. وأجاز الفراء وهشام النصب قالا:» لأن اليوم بمنزلة الآن، فالآن أعم من الأحد والثلاثاء، فكأنه قيل: الآن الأحد، الآن الاثنان «، أي: إنهما واقعان في الآن، وليست هذه المسألةُ مختصةً بالجمعة والسبت، بل الضابطُ فيها أنه إذا ذُكر» اليوم «مع ما يتضمن عملاً وحدثاً جاز النصب والرفع نحو قولهم: اليوم العيد، اليوم الفطر، اليوم الأضحى، كأنك قلت: اليوم يَحْدُث اجتماع وفطر وأُضْحية.
قوله: ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ قرأ نافع وأبو جعفر وشيبة: «بِيْسٍ» بياء ساكنة. وابن عامر بهمزة ساكنة، وفيهما أربعة أوجه، أحدها: أن هذا في الأصل فعلٌ ماضٍ سُمِّي به فأُعْرِب كقوله عليه السلام: «أنهاكم عن قيلٍ وقال» بالإِعراب والحكاية، وكذا قولهم: «مُذْ شَبَّ إلى دَبَّ» و «مُذْ شَبٍّ إلى دَبٍّ» فلمَّا نُقِل إلى الاسمية صار وَصْفاً ك نِضْو ونِقْض. والثاني: أنه وصف وُضِع على فِعْل كحِلْف. الثالث: أن أصلَه بَئيس كالقراءة المشهورة، فخفَّف الهمزة، فالتقت ياءان ثم كَسَر الباء إتباعاً كرِغيف وشِهيد، فاستثقل توالي ياءين بعد كسرة، فحذفت الياء المكسورة فصار اللفظ بِئْسٍ، وهو تخريج الكسائي. الرابع: أن أصله «بَئِس» بزنة كَتِف ثم أُتْبعت الباءُ للهمزة في الكسر، ثم سُكِّنت الهمزة ثم أُبدلت ياء. وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً، وأن تكون وصفاً كحِلْف.
وقرأ أبو بكر عن عاصم «بَيْئَسٍ» بياء ساكنة بين باء وهمزة مفتوحتين وهو صفةٌ على فَيْعَل كضيغَم وصَيْرَف وهي كثيرة في الأوصاف/. وقال امرؤ القيس بن عابس الكندي:
٢٣٢٠ - كلاهما كان رئيساً بَيْئَساً | يَضْرِبُ في يومِ الهياجِ القَوْنَسا |
٢٣٢١ - حَنَقَاً عَلَيَّ ولا أَرَى | ليَ منهما شَرَّاً بئيساً |
وقرأ يعقوبٌ القارئ: بَئِسَ بوزن شَهِدَ، وقرأها أيضاً عيسى بن عمر وزيد بن علي. وقرأ نصر بن عاصم: بَأَس بوزن ضَرَب فعلاً ماضياً.
وقرأ الأعمش ومالك بن دينار: بَأْس فعلاً ماضياً، وأصله بئِس بكسرِ الهمزة فسَكَّنها تخفيفاً كشَهْد في قوله:
٢٣٢٢ - لو شَهْدَ عادَ في زمانِ تُبَّعِ... وقرأ ابن كثير وأهل مكة: بِئِسٍ بكسر الباء والهمز همزاً خفيفاً، ولم يُبَيَّن: هل الهمزةُ مكسورةٌ أو ساكنة؟
وقرأ طلحة وخارجة عن نافع بَيْسٍ بفتح الباء وسكون الياء مثل كَيْل وأصله بَيْئَس مثل: ضَيْغَم فخفَّف الهمزةَ بقلبها ياءً وإدغامِ الياء فيها، ثم خَفَّفه بالحذف كمَيْت في مَيّت.
وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه «بَأَسٍ» بفتح الباء والهمزة وجَرِّ السين بزنة جَبَل.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف «بِئَسٍ» مثل كَبِد وحَذِر قال عبيد الله بن قيس:
٢٣٢٣ - ليتني أَلْقَى رُقَيَّةَ في | خَلْوةٍ من غير ما بَئِسِ |
وقرأ أيضاً في روايةٍ «بَأَّس» بهمزةٍ مشددة، قالوا: قَلَبَ الياءَ همزةً وأدغمها في مثلها ماضياً كشَمَّر.
وطائفة أخرى: بَأَسَ «كالتي قبلها إلا أن الهمزةَ خفيفةٌ.
وطائفة:» باسٍ «بألف صريحة بين الباء والسين المجرورة.
وقرأ أهلُ المدينة:» بِئيس «كرئيس، إلا أنهم كسروا الباءَ، وهذه لغةُ
وقرأ الحسن والأعمش:» بِئْيَسٍ «بياءٍ مكسورة ثم همزةٍ ساكنة ثم ياءٍ مفتوحةٍ بزنة حِذْيَم وعِثْيَر.
وقرأ الحسن: بِئْسَ بكسرِ الباء وسكون الهمزة وفتح السين، جَعَلَها التي للذَّمِّ في نحو: بئس الرجل زيد، ورُوِيت عن أبي بكر.
وقرأ الحسن أيضاً كذلك إلا أنه بياءٍ صريحة، وتخريجُها كالتي قبلها وهي مرويَّةٌ عن نافع. وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنه لا يُقال:» مررت برجلٍ بئس «حتى يقال: بئس الرجل، أو بئس رجلاً. قال النحاس:» وهذا مردودٌ يعني قولَ أبي حاتم حكى النحويون: «إن فعلتَ كذا وكذا فبها ونعمَتْ»، أي: ونِعمَتِ الخَصْلة، والتقدير: بئس العذاب «. قلت: أبو حاتم معذورٌ في [ردّ] القراءة فإن الفاعلَ ظاهراً غيرُ مذكور والفاعلُ عمدةٌ لا يجوز حذفه، ولكن قد ورد في الحديث:» من توضَّأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل «ففاعل» نعمت «هنا مضمرٌ يفسَِّره/ سياقُ الكلام. قال الشيخ:» فهذه اثنتان وعشرون قراءةً، وضبطُها بالتلخيص أنها قُرِئَتْ ثلاثيةَ اللفظِ ورباعيَّتَه: فالثلاثي اسماً: بِيْسٍ،
وفعلاً: بِئْسَ، بِيْسَ، بَئِسَ، بَأَسَ، بَأْسَ، بَيَسَ. والرباعية اسماً: بَيْئَسٍ، بِيْئِسٍ، بَيْئِسٍ، بَيِّسٍ، بَئِيْسٍ. بِئَيْسٍ، بِئْيَسٍ. وفعلاً: بَأَّسَ.
قلت: وقد زاد أبو البقاء أربع قراءات أخر: بَيِسٍ بباء مفتوحة وياءٍ مكسورةٍ. قال: «وأصلُها همزة مكسورة فأبدلَتْ ياء، وبَيَس بفتحهما، قال» وأصلها ياءٌ ساكنةٌ وهمزةٌ مفتوحة، إلا أن حركةَ الهمزةِ أُلْقِيَتْ على الياء وحُذِفَتْ، ولم تُقْلَبِ الياءُ ألفاً لأن حركتَها عارضةٌ «. وبَأْيَسٍ بفتح الباءِ وسكونِ الهمزة وفتح الياء، قال:» وهو بعيد إذ ليس في الكلام فَعْيَل «. وقرئ بَيْآس على فَيْعال وهو غريب. فهذه ستٌّ وعشرون قراءة في هذه اللفظة، وقد حرَّرْتُ ألفاظها وتوجيهاتها بحمد الله تعالى.
قوله: ﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ فيه وجهان أحدُهما: أنه متعلقٌ ب «يَبْعَثَنَّ» وهذا هو الصحيحُ. والثاني: أنه متعلقٌ ب «تأذَّن» نقله أبو البقاء. ولا جائزٌ أن يتعلق بيُسومهم لأن مَنْ: إمَّا: موصولةٌ وإمَّا موصوفةٌ، والصلةُ والصفة لا يعملان فيما قبل الموصول والموصوف.
قوله: ﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك﴾.» منهم «خبرٌ مقدم، و» دونَ ذلك «نعتٌ لمنعوتٍ محذوف هو المبتدأ، والتقدير: ومنهم ناسٌ أو قومٌ دون ذلك. قال الزمخشري:» معناه: ومنهم ناسٌ منحطُّون عَنِ الصلاح، ونحوه: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الصافات: ٦٤] بمعنى: ما منا أحدٌ إلا له مقامٌ معلومٌ «يعني في كونه حُذِف الموصوفُ وأقيم الجملةُ الوصفية مُقامَه، كما قام مَقامَه الظرفُ الوصفي. والتفصيل ب» مِنْ «يجوز فيه حَذْفُ الموصوف وإقامةُ الصفة مُقامه
و» ذلك «إمَّا أن يُشارَ به إلى الصَّلاح، وإما أَنْ يُشار به إلى الجماعة، فإن أُشير به إلى الصلاح فلا بد من حذف مضاف ليصِحَّ المعنى تقديرُه: ومنهم دونَ أهلِ ذلك الصلاح ليعتدل التقسيم، وإن أُشير به إلى الجماعة أي: ومنهم دونَ أولئك الصالحين فلا حاجة إلى تقدير/ مضاف لاعتدال التقسيم بدونه. وقال أبو البقاء:» ودون ذلك ظرفٌ أو خبر على ما ذكرنا في قوله ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤]. وفيه نظرٌ من حيث إن «دون» ليس بخبر.
٢٣٢٤ - ذهب الذين يُعاشُ في أكنافِهم | وبَقِيتُ في خَلْف كجِلْدِ الأجرب |
٢٣٢٥ - خَلَّفْتَ خَلْفاً ولم تَدَعْ خَلفَا | ليت بهم كان لا بك التَّلَفَا |
٢٣٢٦ -...................... | إلى ذلك الخَلَفِ الأعور |
٢٣٢٧ - لنا القَدَمُ الأُوْلى عليهم وخَلْفُنا | لأولِنا في طاعة الله تابعُ |
٢٣٢٨ - إنَّا وَجَدْنا خَلْفَنا بِئْسَ الخَلَفْ | عبداً إذا ما ناء بالحِمْل وَقَفْ |
إنَّا وَجَدْنا خَلْفَنَا بئس الخَلَفْ... وإمَّا اسم جمع خالِف كرَكْب لراكب وتَجْر لتاجر، قاله ابن الأنباري. وردُّوه عليه بأنه لو كان اسم جمع لم يَجْرِ على المفرد وقد جرى عليه. واشتقاقُه: إمَّا من الخلافة، أي: كلُّ خَلَفٍ يَخْلُفُ مَنْ قبله، وإمَّا مِنْ خَلَفَ النبيذ يخلُف، أي: فسد، يقال: خَلَفَ النبيذُ يَخْلُف خَلْفاً إذا فسد، خَلْفاً وخُلُوفاً، وكذا الفم إذا تغيَّرت رائحتُه. ومن ذلك الحديث:» لَخَلُوف فم الصائم «. وقرأ الحسن البصري:» وُرِّثوا «بضم الواو وتشديد الراء مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه. ويجوز أن يكون» يأخذون «مستأنفاً، أخبر عنهم بذلك. وتقدَّم الكلامُ على لفظ» الأدنى «واشتقاقه.
قوله: ﴿وَيَقُولُونَ﴾ نسق على» يأخذون «بوجهيه و» سيُغْفَر «معموله. وفي القائم مَقام فاعلِه وجهان، أحدهما: الجارُّ بعده وهو» لنا «.
والثاني: أنه ضمير الأخذ المدلول عليه بقوله: «يأخذون»، أي: سيفغر لنا أَخْذُ العَرض الأدنى.
قوله: ﴿وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ﴾ هذه الجملةُ الشرطية فيها وجهان، أحدهما: وهو الظاهر أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب، والثاني: أن الواوَ للحال، وما بعدها منصوبٌ عليها. قال الزمخشري: «الواو للحال، أي: يرجون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين، وغفرانُ
قوله: ﴿عَرَضَ﴾ العرض بفتح الراء ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون العَرَض المقابل للجوهر. وقال أبو عبيدة: «العَرَض بالفتح جميعُ مَتَاع الدنيا غيرَ النَّقْدَيْن». والعَرْض بالسكون هو الدراهم والدنانير التي هي قيم المُتْلَفات ورؤوسُ الأموال. وعلى الأول قيل: الدنيا عرضٌ حاضر يأكل منها البَرُّ والفاجر.
قوله: ﴿أَن لاَّ يِقُولُواْ﴾ فيه [أوجه] / أحدها: أنَّ محله رفع على البدل من «ميثاق» لأن قول الحق هو ميثاق الكتاب. والثاني: أنه عطفُ بيان له، وهو قريب من الأول. والثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله. قال الزمخشري: «وإن فُسِّر ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكرُه كان» أن لا يقولوا «مفعولاً من أجله، ومعناه: لئلا يقولوا» وكان قد فَسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة: مَنْ ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يُغفر له إلا بالتوبة. و «أنْ» مفسرةٌ لميثاق الكتاب لأنه بمعنى القول. و «لا» ناهية وما بعدها مجزوم بها، وعلى الأقوال [الأُول] «لا» نافية والفعل منصوبٌ ب «أنْ» المصدرية. و «الحق» يجوز أن يكون مفعولاً به وأن يكونَ مصدراً، وأُضيف الميثاقُ للكتاب لأنه مذكورٌ فيه.
قوله: «دَرَسُواْ» فيه ثلاثة أوجه، أظهرها ما قال الزمخشري وهو كونُه
الثالث: أنه على إضمار قد، والتقدير: وقد درسوا. قلت: وهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية أي: يقولون: سيُغْفر لنا في هذه الحال، ويجوز أن يكونَ حالاً من فاعل» يأخذوه «، أي: يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشا.
وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض.
وقرأ الجحدري: «أن لا تقولوا» بتاء الخطاب وهو التفات حسن. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه وأبو عبد الرحمن السلمي «وادَّارسوا» بتشديد الدال والأصل: تدارسوا، وتصريفُه كتصريف ﴿فادارأتم فِيهَا﴾ [البقرة: ٧٢] وقد تقدَّم تحريرُه.
قوله: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غيرَ مرة. وقرأ ابن عامر ونافع وحفص «تعملون» بالخطاب والباقون بالغيبة، فالخطاب يحتمل وجهين، أحدهما: أنه التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمراد
٢٣٢٩ - ألا ليت شعري هَلْ إلى أمِّ سالمٍ | سبيلٌ فأمَّا الصبر عنها فلا صبرا |
والوجه الثاني من وجهَيْ الخبر أنه محذوف تقديره: والذين يمسكون مأجورون أو مُثابون ونحوه، وقوله: «إنَّا لا نضيع» جملةٌ اعتراضية، قاله الحوفي، ولا ضرورة إلى ادِّعاء مثلِه.
الثاني من وجهي «والذين يُمْسكون» : أنه في محل جر نسقاً على «للذين يتقون»، أي: ولَدار الآخرة خيرٌ للمتقين وللمتمسكين، قاله الزمخشري، إلا أنه قال: «ويكون قوله» إنَّا لا نُضيع اعتراضاً «. وفيه نظرٌ لأنه لم يقعْ بين شيئين متلازمَيْن ولا بين/ شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويٌّ فكان ينبغي أن يقولَ: ويكون على هذا مستأنفاً.
وقرأ العامَّة:» يُمَسِّكون «بالتشديد مِنْ مَسَّك بمعنى تمسَّك، حكاه أهلُ التصريف، أي: إنَّ فَعَّل بمعنى تَفَعَّل، وعلى هذا فالباء للآلة كهي في: تمسَّكْتُ بالحبل. وقرأ أبو بكر عن عاصم ورُوِيت عن أبي عمرو وأبي العالية:» يُمْسِكون «بسكون الميم وتخفيف السين مِنْ أَمْسَك، وهما لغتان يقال: مَسَكْت وأَمْسكت، وقد جمع كعب بن زهير بينهما في قوله:
والنَّتْق: اختلفَتْ فيه عبارات أهل اللغة. فقال أبو عبيدة:» هو قَلْعُ الشيءِ من موضعه والرَّمْيُ به، ومنه «نَتَق ما في الجِراب» إذا نقضه ورمى ما فيه. وامرأة ناتق ومِنْتاق: إذا كانت كثيرةَ الولادة. وفي الحديث: «عليكم بزواج الأبكار فإنهن أَنْتَقُ أَرْحاماً وأطيبُ أفواهاً وأرضى باليسير» وقيل: النتق: الجَذْب بشدة. ومنه «نَتَقْتُ السِّقاء» إذا جَذَبْتَه لتقتلعَ الزُّبْدة من
٢٣٣٠ - ولا تُمَسِّكُ بالعَهْدِ الذي زَعَمَتْ | إلا كما يُمْسِكُ الماءَ الغرابيلُ |
٢٣٣١ - لم يُحْرَموا حُسْنَ الغِذاءِ وأمُّهُمْ | طَفَحَتْ عليك بناتقٍ مِذْكار |
قوله:» كأنه ظُلَّة «في محلِّ نصبٍ على الحال من» الجبل «أيضاً فتتعدَّد الحال. وقال مكي:» هي خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هو كأنه ظُلَّة «وفيه بُعْدٌ.
قوله: ﴿وظنوا﴾ فيه أوجهٌ، أحدها: أنه في محل جَرٍّ نسقاً على» نَتَقْنا «المخفوض بالظرف تقديراً. والثاني: أنه حال، و» قد «مقدرةٌ عند بعضهم، وصاحب الحال: إمَّا الجبل، أي: كأنه ظُلَّةٌ في حال كونه مظنوناً وقوعُه بهم. ويضعف أن يكون صاحبه» هم «في» فوقهم «. والثالث: أنه مستأنف فلا محل له. والظنُّ هنا على بابه، ويجوز أن يكون بمعنى اليقين، والباء على بابها أيضاً. قيل: ويجوز أن تكون بمعنى» على «.
قوله: ﴿واذكروا﴾ العامَّة على التخفيف أمراً مِنْ ذكر يَذْكُر. والأعمش:» واذَّكِروا «بتشديد الذال من الاذّكار والأصل: اذْتَكِرُوا والاذتكار، وتقدم تصريفه. وقرأ ابن مسعود: تذكَّروا مِن تذكَّر بتشديد الكاف. وقرئ: وتَذَّكَّروا
و ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ مفعول به. وقرأ الكوفيون وابن كثير «ذريتهم» بالإِفراد، والباقون «ذُرِّيَّاتهم» بالجمع. قال الشيخ: «ويحتمل في قراءة الجمع أن يكونَ مفعولُ» أخذ «محذوفاً لفهمِ المعنى، و» ذريَّاتهم «بدلٌ من ضميرِ» ظهورهم «، كما أنَّ» من ظهورهم «بدلٌ من» بني آدم «، والمفعولُ المحذوفُ هو الميثاق كقوله ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً﴾ [النساء: ١٥٤] قال:» وتقديرُ الكلام: وإذ أَخَذَ ربُّك من ظهور ذريات بني آدم ميثاق التوحيد، واستعارَ أن يكون أخذ الميثاق من الظهر، كأن الميثاق لصعوبته، والارتباطَ به شيءٌ ثقيل يُحمل على الظهر «.
قال الشيخ في قراءة الإِفراد في هذه السورة:» ويتعيَّن أن يكونَ مفعولاً ب «أخذ» وهو على حَذْف مضاف، أي: ميثاق ذريتهم «يعني أنه لم يَجُزْ فيه ما جازَ في» ذرياتهم «من أنه بدل والمفعول محذوف، وذلك واضحٌ لأنَّ مَنْ قرأ» ذريتهم «بالإِفراد لم يَقْرأه إلا منصوباً، ولو كان بدلاً مِنْ» هم «في» ظهورهم «لكان مجروراً بخلافِ» ذرياتهم «بالجمع، فإن الكسرةَ تَصْلُح أن تكون عَلَماً للجر وللنصب في جمع المؤنث السالم.
قوله: ﴿بلى﴾ جوابٌ لقوله» أَلَسْتُ «قال ابن عباس:» لو قالوا: نعم لكفروا «يريد أن النفيَ إذا أُجيب ب نعم كانت تصديقاً له، فكأنهم أقرُّوا بأنه ليس بربِّهم. هكذا ينقلونه عن ابن عباس رضي الله عنه، وفيه نظرٌ إنْ صَحَّ عنه، وذلك أن هذا النفيَ صار مقرَّراً، فكيف يكفرون بتصديق التقرير؟ وإنما المانع من جهة اللغة: وهو أن النفيَ مطلقاً إذا قُصِد إيجابه أُجيب ب بلى، وإن كان مقرَّراً بسبب دخول الاستفهام عليه، وإنما كان ذلك تغليباً لجانب اللفظ، ولا يجوز مراعاةُ جانب ِالمعنى إلا في شعر كقوله:
٢٣٣٢ - محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُّ نفسٍ | ........... |
٢٣٣٣ - أليس الليلُ يجمعُ أمَّ عمروٍ | وإيانا فذاك بنا تَدانى |
نعم وترى الهلالَ كما أراه | ويعلوها النهار كما علاني |
قوله: ﴿شَهِدْنَآ﴾ هذا من كلام الله تعالى. وقيل: من كلام الملائكة. وقيل: من كلام الله تعالى والملائكة. وقيل: من كلام الذرية. قال الواحدي: «وعلى هذا لا يَحْسُن الوقفُ على قوله» بلى «ولا يتعلَّقُ» أَنْ تقولوا «ب» شَهِدْنا «ولكن بقوله» وأَشْهَدَهُمْ «.
قوله: ﴿أَن تَقُولُواْ﴾ مفعولٌ مِنْ أجله، والعامل فيه: إمَّا شهدْنا، أي: شهِدْنا كراهةَ أن تقولوا، هذا تأويل البصريين، وأمَّا الكوفيون فقاعدتهم تقدير لا النافية، تقديره: لئلا تَقولوا، كقولِه ﴿أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥]، وقول الآخر:
٢٣٣٤ - رَأَيْنا ما رأى البُصَراء فيها | فآلَيْنا عليها أَنْ تُباعا |
٢٣٣٥ - شَهِدَ الحطيئةُ حين يلقى ربَّه | ................... |
وقرأ أبو عمرو «يقولوا» في الموضعين بالغَيْبة جرياً على الأسماء المتقدمة، والباقون بالخطاب، وهذا واضحٌ على قولنا إنَّ «شَهِدْنا» مُسْندٌ لضمير الله تعالى. وقيل: على قراءة الغيبة يتعلَّق «أَنْ يقولوا» بأشهدهم، ويكون «قالوا شهدنا» معترضاً بين الفعلِ وعلَّته، والخطابُ على الالتفات فيكون الضميران لشيء واحد. وهل هذا من باب الحقيقة وأن الله أخرج الذرية من ظهره بأَنْ مَسَح عليه فخرجوا كالذَّرِّ وأَنْطَقهم فشهدوا الكلُّ بأنه ربهم، فالمؤمنون قالوه حقيقةً في الأَزَل والمشركون قالوه تقيَّةً، وعلى هذا جماعةٌ كثيرة، أو من باب التمثيل، قاله جماعة منهم الزمخشري، وجعله كقوله تعالى: ﴿ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]، وقولِ الشاعر:
٢٣٣٦ - إذ قالت الأَنْساع للبطن الحَقِي...
٢٣٣٧ - قالت له ريحُ الصَّبا قَرْقارِ... إلى غير ذلك.
والانسلاخ: التعرِّي من الشيء، ومنه: انسلاخ جلد الحية. وليس في
٢٣٣٨ - بأبناء حَيٍّ مِنْ قبائل مالك | وعمرو بن يربوعٍ أقاموا فأخلدوا |
والكلب: يجمع في القلة على أكْلُب، وفي الكثرة على كِلاب، وشذُّوا فجمعوا أكلباً على أكالب، وكِلاباً على كِلابات، وأمَّا كَلِيب فاسم جمع كفريق لا جمع قال طرفة:
٢٣٣٩ - تَعَفَّق بالأَرْطَى لها وأرادَها | رجالٌ فبذَّت نبلَهم وكليبُ |
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بن عمر: «ساء مثلُ القوم» برفع «مثل» مضافاً للقوم. والجحدري رُوِي عنه كذلك، وروي عنه كسرُ الميم وسكونُ الثاء ورفعُ اللام وجَرُّ القوم. وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون «ساء» للتعجب مبنية تقديراً على فَعُل بضم العين كقولهم: «لقَضُو الرجل»، و «مثل القوم» فاعل بها، والتقدير: ما أسوأ مثلَ
٢٣٤٠ - تَزوَّدْ مثلَ زادِ أبيك فينا | فنعمَ الزَّادُ زادُ أبيك زادا |
٢٣٤١ - تخيَّرَهُ فلم يَعْدِلْ سواه | فنِعْمَ المرءُ مِنْ رجلٍ تَهامي |
وهذه الجملة الكونيةُ تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكونَ نسقاً على الصلة وهي «كَذَّبوا بآياتنا». والثاني: أن تكون مستأنفة، وعلى كلا القولين
٢٣٤٢ - فَطِرْتُ بمُنْصُلي في يَعْمَلات | دوامي الأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّريحا |
٢٣٤٣ - كنَواحِ ريشِ حَمامةٍ نَجْديةِ | ومَسَحْتَ باللِّثتين عَصْفَ الإِثْمِدِ |
٢٣٤٤ - لِدُوا للموت وابْنُوا للخراب | .............. |
٢٣٤٥ - ألا كلُّ مولودٍ فللموتِ يُوْلَدُ | ولستُ أرى حَيّاً لحيٍّ يُخَلَّدُ |
٢٣٤٦ - فللموتِ تَغْذُو الوالداتُ سِخالَها | كما لخرابِ الدور تُبْنَى المساكنُ |
وقد ردَّ ابن عطية على مَنْ جعلها لامَ العاقبة فقال: «وليس هذا بصحيح، ولامُ العاقبة إنما تُتَصَوَّر إذا كان فعل الفاعل لم يُقْصد مصيرُ الأمر إليه، وأما هنا فالفعل قُصِد به ما يصير الأمر [إليه] مِنْ سُكْناهم لجهنم»، واللام على هذا متعلقة ب «ذَرَأْنا». ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من «كثيراً» لأنه في الأصل صفة لها لو تأخر. ولا حاجة إلى ادعاء قلب وأن الأصل: ذَرَأْنا جهنم لكثير لأنه ضرورةٌ أو قليلٌ.
و ﴿مِّنَ الجن﴾ صفة ل «كثيراً». «لهم قلوب» جملة في محل نصب: إمَّا صفة لكثير أيضاً، وإمَّا حالاً من «كثيراً» وإن كان نكرة لتخصُّصِه بالوصف، أو من الضمير المستكن في «من الجن» لأنه يَحْمل/ ضميراً لوقوعِه صفةً. ويجوز أن يكون «لهم» على حِدَته هو الوصف أو الحال، و «قلوب» فاعل به فيكون من باب الوصفِ بالمفرد وهو أولى. وقوله: ﴿لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ وكذلك
٢٣٤٧ - ولا يَجْزون مِنْ حُسْنى بسوءٍ | ................ |
قوله: ﴿يُلْحِدُونَ﴾ قرأ حمزة هنا وفي النحل وحم السجدة: يَلْحدون بفتح الياء والحاء مِنْ لحد ثلاثياً. والباقون بضم الياء وكسرِ الحاء مِنْ أَلْحد. فقيل: هما بمعنى واحد، وهو المَيْل والانحراف. ومنه لَحْد القبر لأنه يُمال، بحفره إلى جانبه، بخلاف الضريح فإنه يُحْفر في وسطه، ومن كلامهم»
٢٣٤٨ - ليس الإِمام بالشحيح المُلْحِدِ... وقال غيره:» لَحَدَ بمعنى رَكَنَ وانضوى، وألحد: مال وانحرف «قاله الكسائي. ونُقل عنه أيضاً: أَلْحَدَ: أعرض، ولحد: مال. قالوا: ولهذا وافق حمزة في النحل إذ معناه: يميلون إليه.
وروى أبو عبيدة عن الأصمعي:» ألحد: مارى وجادل، ولحد: حاد ومال. ورُجِّحت قراءةُ العامة بالإِجماع على قوله «بإلحاد». وقال الواحدي: «ولا يكاد يُسْمع من العرب لاحد». قلت: فامتناعُهم من مجيء اسم فاعل الثلاثي يدل على قلَّته وقد قَدَّمْتُ من كلامهم «لحده اللاحِد». ومعنى الإِلحاد فيها أن اشتقوا منها أسماءً لآلهتهم فيقولون: اللات من لفظ الله، والعزَّى من لفظ العزيز، ومناة مِنْ لفظ المَنَّان، ويجوز أن يُراد سَمَّوه بما لا يليق بجلاله.
وقرأ النخعي وابن وثاب: «سَيَسْتَدْرِجُهم» بالياء، فيحتمل أن يكون الفاعلُ الباريَ تعالى، وهو التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة، وأن يكون الفاعلُ ضميرَ التكذيب المفهوم مِنْ قوله «كذَّبوا». وقال الأعشى في الاستدراج:
٢٣٤٩ - فلو كنتَ في جُبٍّ ثمانين قامةً | ورُقِّيْتَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ |
لَيَسْتَدْرِجَنْكَ القولُ حتى تَهِرَّهُ | وتَعْلَمَ أنِّي عنكمُ غيرُ مُلْجَمِ |
والثاني: أن «ما» نافية، أي: ليس بصاحبهم جنون ولا مسُّ جِنّ. وفي هاتين الجملتين: أعني الاستفهاميةَ أو المنفية فيهما وجهان، أظهرهما: أنها في محل نصب بعد إسقاطِ الخافض لأنهما عَلَّقا التفكُّر لأنه من أفعال القلوب. والثاني: أن الكلامَ تمَّ عند قوله: «أو لم يتفكروا» ثم ابتدأ كلاماً آخر: إمَّا استفهامَ إنكار وإمَّا نفياً. وقال الحوفي: «إنَّ» ما بصاحبهم «معلقةٌ لفعلٍ محذوف دلَّ عليه الكلامُ، والتقدير: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم». قال: «وتفكَّر» لا يُعَلَّقُ لأنه لم يدخل على جملة «. وهذا ضعيفٌ، لأنهم نَصُّوا
الثالث: أن تكون» ما «موصولة بمعنى الذي تقديره: أو لم يتفكروا في الذي بصاحبهم، وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم. وعلى قولنا إنها نافية يكون» من جنة «مبتدأ و» مِنْ «مزيدةٌ فيه و» بصاحبهم «خبره أي: ما جِنَّةٌ بصاحبهم.
والثاني: أنها المصدرية، قاله أبو البقاء يعني التي تنصب المضارع الثنائية الوضع، وهذا ليس بجيد؛ لأن النحاةَ نَصُّوا على أنَّ «أَنْ» المصدرية لا تُوصل إلا بالفعل المتصرِف مطلقاً أي ماضٍ ومضارع وأمر و «عسى» لا يتصرف فكيف يقع صلة لها؟ و «أنْ» على كلا الوجهين في محل جرٍّ نَسَقاً على «ملكوت»، أي: وألم ينظروا في أن الأمر والشأن عسى أن يكون. و «أن يكون» فاعل عسى، وهي حينئذٍ تامَّةٌ لأنها متى رفعت أَنْ وما في حيزها كانت تامةً، ومثلها في ذلك أوشك واخلولق. وفي اسم «
قوله: ﴿فَبِأَيِّ﴾ متعلِّقٌ ب «يُؤْمنون» وهي جملةٌ استفهامية سِيقَتْ للتعجب، أي: إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فكيف يُؤْمنون بغيره؟ والهاء في «بعده» تحتمل العَوْدَ على القرآن وأن تعودَ على الرسول، ويكون الكلامُ على حَذْف مضافٍ، أي: بعد خبره وقصته، وأن تعود على «أجلهم»، أي: إنهم إذا ماتوا وانقضى أجلُهم فكيف يؤمنون بعد انقضاء أجلهم؟ قال الزمخشري: «فإن قلت: بم تُعَلِّق قوله:» فبأي حديث بعده يؤمنون «؟ قلت: بقوله» عسى أن يكونَ قد اقترب أجلهم «. كأنه قيل: لعل أجلَهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون [إلى] الإِيمان بالقرآن قبل الموت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق، وبأي حديثٍ أحقَّ منه يريدون أن يؤمنوا» ؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح.
قوله: «ويَذَرهم» قرأ الأخَوان بالياء وجزم الفعل، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضاً ورفع الفعل، ونافع وابن كثير وابن عامر بالنون ورفع الفعل أيضاً.
وقد رُوي الجزمُ أيضاً عن نافع وأبي عمرو في الشواذ. فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ
٢٣٥٠ - أنَّى سلكتَ فإنني لك كاشحٌ | وعلى انتقاصِك في الحياة وأزْدَدِ |
٢٣٥١ - فَأَبْلوني بَلِيَّتَكمْ لعلِّي | أُصالِحُكم وأسْتدرِجْ نَوَيَّا |
وقد رُوي الجزمُ أيضاً عن نافع وأبي عمرو في الشواذ. فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ وهو الاستئناف أي : وهو يَذَرُهم، أو : ونحن نذرهم على حسب القراءتين. / وأمَّا السُّكون فيحتمل وجهين أحدهما : أنه جزم نسَقاً على محلِّ قوله " فلا هادي له " لأن الجملَة المنفيَّة جوابٌ للشرط فهي في محلِّ جزمٍ فَعَطَف على مَحَلِّها وهو كقوله تعالى :﴿ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ ﴾ [ البقرة : ٢٧١ ] بجزم " يكفر "، وكقول الشاعر :
أنَّى سلكتَ فإنني لك كاشحٌ | وعلى انتقاصِك في الحياة وأزْدَدِ |
فَأَبْلوني بَلِيَّتَكمْ لعلِّي | أُصالِحُكم وأسْتدرِجْ نَوَيَّا |
و «أيان» ظرف زمان مبني لتضمُّنه معنى الاستفهام ولا يتصرف، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي، بخلاف «متى» فإنها يليها النوعان. وأكثرُ ما تكون «أيَّان» استفهاماً كقول الشاعر:
٢٣٥٢ - أيَّان تَقْضي حاجتي أيَّانا | أما تَرى لفِعْلها إبَّانا |
٢٣٥٣ - أيَّان نُؤْمِنْكَ تُؤْمَنْ غيرَنا وإذا | لم تُدْرِكِ الأمنَ منَّا لم تزلْ حَذِرا |
ومُرْساها يجوز أن يكون اسمَ مصدر وأن يكون اسم زمان، قال الزمخشري: «مُرْساها» إرساؤُها أو وقت إرسائها، أي: إثباتها وإقرارها «. قال الشيخ» وتقديره: وقت إرسائها ليس بجيدٍ، لأن «أيَّان» استفهام عن الزمان فلا يَصِحُّ أن يكونَ خبراً عن الوقت إلا بمجاز لأنه يكون التقدير: في أي وقتٍ وقتُ إرسائها «وهو كلام حسن، ويقال: رسا يرسو: ثَبَتَ، ولا يقال إلا في الشيء الثقيل نحو: رَسَت السفينةُ تَرْسُو، وأَرْسَيْتها.
قوله: ﴿عِلْمُهَا﴾ مصدرٌ مضاف للمفعول والظرف خبره. وقوله: «في السماوات» يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكون «في» بمعنى على، أي: على أهل السماوات أو هي ثقيلة على نفس السماوات والأرض لانشقاق هذه وزلزال ذي. والثاني: أنها على بابها من الظرفية، والمعنى: حَصَل ثِقَلُها وهو شِدَّتها أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين.
وقال أبو البقاء: «في الكلام تقديمٌ وتأخير، ولا حاجةَ إلى ذلك لأن هذه كلَّها متعلقاتٌ للفعل فإنَّ قولَه: /» كأنك حفيٌّ «حال كما تقدم. والثاني أنَّ» عن «بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى عن كقوله: ﴿فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان: ٥٩] ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام﴾ [الفرقان: ٢٥] لأن حَفِي لا يتعدَّى ب» عن «بل بالباءِ كقوله: ﴿كَانَ بِي حَفِيّاً﴾ [مريم: ٤٧] ويُضَمَّن معنى شيء يتعدَّى ب» عن «، أي: كأنك كاشف بحفاوتك عنها.
والحَفِيُّ: المستقصي عن الشيء، المهتبل به، المعتني بأمره قال:
٢٣٥٤ - إذا النَّعْجَةُ العَجْفاءُ باتت بقَفْرةٍ | فأيَّان ما تَعْدِلْ بها الريحُ تَنْزِلِ |
٢٣٥٥ - سؤال حفيٍّ عن أخيه كأنه | بذُكْرَتِهِ وَسْنانُ أو مُتَواسِنُ |
٢٣٥٦ - فلمَّا التقينا بَيَّن السيفُ بيننا | لسائلةٍ عنا حَفِيٍّ سؤالُها |
٢٣٥٧ - فإنْ تَسْأَلي عني فيا رُبُّ سائلٍ | حَفِيٍّ عن الأعشى به حيث أَصْعَدا |
وقرأ عبد الله» حَفِيٌّ بها «وهي تَدُلُّ لمن ادَّعى أن» عَنْ «بمعنى الباء. وحَفِيٌّ فعيل بمعنى مفعول أي: محفوٌّ. وقيل: بمعنى فاعل أي: كأنك مبالِغٌ في السؤال عنها ومتطلع إلى عِلْمِ مجيئها.
قوله: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ في هذا الاستثناء وجهان، أظهرهما: أنه متصل، أي: إلا ما شاء الله تمكيني منه فإني أملكه. والثاني وبه قال ابن عطية، وسبقه إليه مكيّ: أنه منقطعٌ، ولا حاجةَ تدعو إليه أنه منقطع.
قوله: ﴿وَمَا مَسَّنِيَ السواء﴾ عطف على جواب «لو» وجاء هنا على أحسنِ الاستعمال من حيث أثبت اللام في جواب «لو» المثبت وإن كان يجوزُ
قوله: ﴿لِّقَوْمٍ﴾ هذه من باب التنازع فيُختار عند البصريين تعلُّقُه ب» بشير «لأنه الثاني، وعند الكوفيين بالأول لسبقه، ويجوز أن يكونَ المتعلَّق بالنذارة محذوفاً، أي: نذير للكافرين، ودَلَّ عليه ذِكْرُ مقابله، وهو قريب من حذف المعطوف كقوله: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١].
قوله: ﴿فَمَرَّتْ﴾ الجمهورُ على تشديد الراء ومعناه: استمرت به، أي: قامَتْ وقعدت. وقيل: هو على القلب، أي: فمرَّ بها، أي استمر ودام.
وقرأ ابن عباس وأبو العالية ويحيى بن يعمر وأيوب «فَمَرَتْ» خفيفةَ
وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاص والجحدري: «فمارَتْ» بألف وتخفيف الراء. وفيها أيضاً وجهان، أحدهما: أنها مِنْ مار يمور، أي جاء وذهب، ومارَتِ الريح، أي: جاءت وذهبَتْ وتصرَّفَتْ في كل وجه، ووزنه حينئذ فَعَلَتْ والأصل مَوَرَتْ، ثم قُلبت الواو ألفاً فهو كطافَتْ تطوف. والثاني: أنها من المِرْية أيضاً قاله الزمخشري وعلى هذا فوزنه فاعَلَت والأصل: مارَيَتْ كضارَبَتْ، فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فَقُلِبَ ألفاً، ثم حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين فهو كبارَتْ ورامت.
وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس أيضاً والضحاك «فاسْتَمَرَّتْ به» وهي واضحة. وقرأ أُبَيّ «فاستمارَتْ» وفيها الوجهان المتقدمان في «فمارَتْ»، أي: أنه يجوز/ أن يكون من المِرْية، والأصل «اسْتَمْرَيَتْ»، وأن يكون من المَوْر والأصل: استَمْوَرَتْ.
قوله: ﴿أَثْقَلَتْ﴾، أي: صارت ذا ثِقل كقولهم: أَلْبَنَ الرجل وأَتْمَرَ، أي:
قوله: ﴿دَّعَوَا الله﴾ متعلَّقٌ الدعاء محذوفٌ لدلالة الجملة القسمية عليه، أي: دَعَواه في أن يُؤتيَهما ولداً صالحاً.
وقوله: ﴿لَئِنْ آتَيْتَنَا﴾ هذا القسمُ وجوابُه فيه وجهان، أظهرهما: أنه مفسِّرٌ لجملة الدعاء كأنه قيل: فما كان دعاؤهما؟ كان دعاؤهما كيت وكيت، ولذلك قلت: إن هذه الجملةَ دالَّةٌ على متعلق الدعاء. والثاني: أنه معمول لقول مضمر تقديره: فقالا: لئن آتيتنا. و «لنكونَنَّ» جوابُ القسم، وجواب الشرط محذوفٌ على ما تقرَّر. و «صالحاً» فيه قولان أظهرهما: أنه مفعولٌ ثان، أي: ولداً صالحاً. والثاني وبه قال مكي: أنه نعتُ مصدرٍ محذوف، أي: إيتاءً صالحاً. وهذا لا حاجةَ إليه لأنه لا بد مِنْ تقدير الموتى لهما.
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم «شِرْكاً» بكسر الشين وتسكين الراء وتنوين الكاف. والباقون بضمَّ الشين وفتح الراء ومدِّ الكافِ مهموزةً من غير تنوين، جمع شريك، فالشِرْك مصدرٌ ولا بد من حَذْف مضاف، أي: ذوي شِرْك بمعنى إشراك، فهو في الحقيقة اسمُ مصدر. وقيل: المرادُ بالشرك
قوله: ﴿فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ قيل: هذه جملةٌ استئنافية، والضميرُ في «يشركون» يعود على الكفار، والكلامُ قد تَمَّ قبله. وقيل: يعودُ على آدم وحواء وإبليس، والمرادُ بالإِشراك تسميتهُما لولدٍ ثالث بعبد الحرث، وكان أشار بذلك إبليس، فالإِشراك في التسمية فقط. وقيل: لم يكن آدمُ عَلِم، ويؤيد الوجهَ الأولَ قراءةُ السلمي «عَمَّا تشركون» بتاء الخطاب، وكذلك «أَتُشرِكون» بالخطاب أيضاً وهو التفات.
٢٣٥٨ - هَجَوْت زَبَّان ثم جِئْتَ مُعْتذراً | مِنْ هَجْو زبَّانَ لم تهجو ولم تَدَعِ |
قوله: «لا يَتَّبِعكم» قرأ نافع بالتخفيف وكذا في الشعراء «يَتْبَعُهم»، والباقون بالتشديد، فقيل: هما لغتان، ولهذا جاء في قصة آدم: ﴿فَمَن تَبِعَ﴾ [البقرة: ٣٨]، في موضع آخر ﴿اتبع﴾ [طه: ١٢٣]. وقيل: تبع: اقتفى أثره، واتَّبعه بالتشديد اقتدَى به. والأول أظهر.
٢٣٥٩ - سواءٌ عليك الفقرُ أم بِتَّ ليلةً | بأهل القباب مِنْ نميرِ بن عامرِ |
والصَّمْتُ: السكون، يقال منه: صمَت يصمُت: بالفتح في الماضي والضم في المضارع. ويقال: صَمِت بالكسر يصمَت بالفتح، والمصدر: الصَّمْت والصُّمات. و» إصْمِت «بكسر الهمزة والميم اسمُ فلاة معروفة، وهو منقولٌ من فعل الأمر من هذه المادة. وقد رَدَّ بعضهم هذا بأنه لو كان منقولاً من الأمر لكان ينبغي أن تكون همزتُه همزةَ وصل، ولكان ينبغي أن تكون ميمُه مضمومةً إن كان مِنْ يَصْمُت، أو مفتوحةً إن كان من يَصْمَت، ولأنه كان ينبغي ألاَّ يؤنث بالتاء وقد قالوا إصْمِتة. والجواب أن فعلَ الأمر يجبُ قَطْعُ همزتِهِ إذا
٢٣٦٠ - إنْ هو مستولياً على أحد | إلا على أَضْعف المجانين |
وقد ردَّ أبو جعفر هذه القراءة بثلاثة أوجه، أحدها: مخالفتُها لسواد المصحف. الثاني: أن سيبويه يختار الرفع في خبر «إنْ» المخففة فيقول: «إنْ زيد منطلق» لأن عَمَلَ «ما» ضعيف و «إنْ» بمعناها فهي أضعف منها. الثالث: أن الكسائي لا يرى أنها تكون بمعنى «ما» إلا أن يكون بعدها إيجاب. وما ردَّ به النحاس ليس بشيء لأنها مخالَفَةٌ يسيرة. قال الشيخ: «ويجوز أن يكون كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا تكون فيه مخالِفَةً للسواد». وأما سيبويه فاختلف الناس في الفهم عنه في ذلك. وأما الكسائي فهذا القيد غير معروف له. وخرَّج الشيخ القراءة على أنها «إنْ» المخففة قال: «وإنْ المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة» وإنْ كلاً «، ثم إنها قد ثبت لها نصب الجُزْأَين، وأنشد:
٢٣٦٢ - يا ليت أيامَ الصِّبا رواجعا... أي: تُرى رواجعا/ فكذلك هذه يكون تأويلها: إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عباداً أمثالكم «. قلت: فيكون هذا التخريج مبنياً على مذهبين أحدهما: إعمال المخففة وقد نصَّ جماعة من النحويين على أنه أقل من الإِهمال، وعبارة بعضهم» إنه قليل «ولا أرتضيه لوروده في المتواتر. والثاني: أن» إنَّ «وإخواتها تنصب الجزأين وهو مذهب مرجوح. وقد تحصَّل في تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه: كون» إنْ «نافيةً عاملةً، أو المخففة الناصبة للجزأين، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى.
وقرأ بعضهم «إنْ» مخففة، «عباداً» نصباً، «أمثالُكم» رفعاً، وتخريجها على أن تكونَ المخففة وقد أُهملت، و «الذين» مبتدأ، و «تدعون» صلتها، والعائد محذوف، و «عبادٌ» حال من ذلك العائد المحذوف، و «أمثالكم» خبره. والتقدير: إن الذين تدعونهم حال كونهم عباداً أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين فكيف يُعبدون؟ ويَضْعُف أن يكون الموصول اسماً منصوبَ المحل لأن إعمالَ المخففة كما تقدَّم قليلٌ.
وحكى أبو البقاء أيضاً قراءةً رابعةً وهي بتشديد «إنَّ»، ونصب «عباد»، ورفع «أمثالكم»، وتخريجها على ما تقدم قبلها.
قوله: ﴿ثم كيدوني﴾ قرأ أبو عمرو: «كيدوني» بإثبات الياء وصلاً وحَذْفِها وقفاً. وهشام بإثباتها في الحالين. والباقون بحذفها في الحالين، وعن هشام خلافٌ مشهور. وقال الشيخ: «وقرأ أبو عمرو وهشام بخلاف عنه» فكيدوني «بإثبات الياء وصلاً ووقفاً» قلت: أبو عمرو لا يثبتها وقفاً البتة، فإن قاعدَته [في] الياءات الزائدة ما ذكرته لك. وفي القراءة «فكيدوني» ثلاثةُ ألفاظٍ: هذه وقد عُرف حكمُها، وفي هود [الآية: ٥٥] ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً﴾ أثبتها القُرَّاء كلهم في الحالين، وفي المرسلات [الآية: ٣٩] :﴿فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ﴾ حَذَفَها الجميعُ في الحالين، وهذا نظير ما مرَّ بك من لفظة ﴿واخشوني﴾ [البقرة: ١٥٠] فإنها في البقرة ثابتةٌ للكل وصلاً ووقفاً، ومحذوفةٌ في أول المائدة، ومختلف فيها في ثانيتها.
٢٣٦١ -................ | ............... إنَّ حُرَّاسنا أُسْدا |
٢٣٦٣ - فالفيته غيرَ مُسْتَعْتِبٍ | ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا |
٢٣٦٤ - وإنَّ حراماً أن أَسُبَّ مجاشعاً | بآبائي الشمِّ الكرام الخضارم |
٢٣٦٥ - وإن لساني شُهْدةٌ يُشْتفى بها | وهُوَّ على مَنْ صَبَّه الله عَلْقَمُ |
٢٣٦٦ - فأصبح من أسماء قيسٍ كقابضٍ | على الماء لا يدري بما هو قابضُ |
٢٣٦٧ - لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أن يَرُدَّني | إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قادرُهْ |
٢٣٦٨ - ومِنْ حَسَدٍ يجورُ عليَّ قومي | وأيُّ الدهر ذو لم يحسُدوني |
٢٣٦٩ - فقلت لها لا والذي حَجَّ حاتمٌ | أخونُكِ عهداً إنني غيرُ خَوَّانِ |
٢٣٧٠ - فَأَبْلِغَنَّ خالدَ بنَ عَضْلَةٍ | والمَرْءُ مَعْنِيٌّ بلومِ مَنْ يثقْ |
٢٣٧١ - أنَّى ألمَّ بك الخيالُ يَطيفُ | ومَطافُه لك ذُكْرَةٌ وشُعُوفُ |
وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل، يُحْتمل أن يكون مِنْ طاف يطوف فيكون كقائم وقائل، وأن يكونَ مِنْ طاف يطيف فيكون كبائع ومائل. وقد زعم بعضُهم أنَّ طَيْفاً وطائفاً بمعنى واحد ويُعزى للفراء، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفاً لطَيْف فيجعلهما مصدرين. وقد جاء فاعِل مصدراً كقولهم: «أقائماً وقد قعد الناس» وأن يَرُدَّ طيفاً لطائف، أي: فيجعله وَصْفاً على فَعْل.
٢٣٧٢ - وتُصْبح مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنما | ألمَّ بها من طائفِ الجنِّ أولقُ |
وزعم السُّهَيْلي أنه لا يُسْتعمل مِنْ» طاف الخيال «اسم فاعل قال:» لأنه تخيُّلٌ لا حقيقة له «. قال:» فأمَّا قوله تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ [القلم: ١٩] فلا يقال فيه طَيْف لأنه اسمُ فاعل حقيقةً. وقال حسان:
٢٣٧٣ - جِنِّيَّةٌ أرَّقَني طيفُها | تَذْهَبُ صُبْحاً وتُرى في المنامْ |
٢٣٧٤ - قوم إذا الخيلُ جالُوا في كواثبها | .............. |
الثاني: أن المرادَ بالإِخوان الشياطين، وبالضمير المضافِ إليه الجاهلون أو غيرُ المتَّقين؛ لأن الشيء يَدُلُّ على مقابله. والواو تعود على الإِخوان، والضميرُ المنصوب يعود على الجاهلين أو غير المتقين، والمعنى: والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المتقين في الغَيِّ، والخبرُ في هذا الوجه جارٍ على مَنْ هوله لفظاً ومعنى وهذا تفسير قتادة.
قال الشيخ: «ويمكن أن يتعلَّق» في الغيّ «على هذا التأويل ب» يمدُّونهم «على جهة السببيّة، أي: يمدُّونهم بسبب غوايتهم نحو:» دخلت امرأة النار في هرة «، أي: بسبب هرةٍ»، ويُحتمل أن يكون «في الغيّ» حالاً فيتعلَّق بمحذوف، أي: كائنين في الغيّ، فيكون «في الغيّ» في موضعه، ولا يتعلَّق بإخوانهم، وقد جَوَّز ذلك ابن عطية. وعندي في ذلك نظرٌ، فلو قلت: «مُطْعِمُك زيدٌ لحماً» تريد: مطعمك لحماً زيدٌ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر لكان في جوازه نظر؛ لأنك فَصَلْتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاً، وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما وهو المبتدأ «.
قلت: ولا يظهر منعُ هذا البتةَ لعدم أجنبيَّته.
وقرأ نافع: «يُمِدونهم» بضم الياء وكسر الميم مِنْ أمدَّ، والباقون بفتح
وقرأ العامة «يُقْصِرُون» مِنْ أَقْصَرَ، قال الشاعر:
٢٣٧٥ - لعَمْرك ما قلبي إلى أهله بحُرّْ | ولا مُقْصِرٍ يوماً فيأتيني بقُرّْ |
٢٣٧٦ - سما لك شوقٌ بعدما كان أَقْصَرا | وحَلَّتْ سُلَيْمى بَطْنَ قَوٍّ فعَرْعرا |
وقوله ﴿فِي الغي﴾ : قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل، أو بإخوانهم، أو بمحذوف على أنه حال: إمَّا من إخوانهم، وإمَّا مِنْ واو «يمدُّونهم»، وإمَّا مِنْ مفعوله.
٢٣٧٧ - أبوك الذي أجْدَى عليك بنصره | فأنصت عني بعده كلَّ قائل |
والاجتباء: افتعال مِنْ جَبَاه يَجْبيه، أي: جمعه مختاراً له، ولهذا غلب: اجتبيتُ الشيء، أي: اخترته. وقال الزمخشري: «اجتبى الشيء: بمعنى جَبَاه لنفسه، أي: جمعه/ كقولك: اجتمعه أو جُبِيَ إليه فاجتباه، أي: أخذه كقوله: جَلَيْتُ إليه العروس فاجتلاها، والمعنى: هلا اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون: ﴿إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه﴾ [الفرقان: ٤].
قوله: ﴿وَدُونَ الجهر﴾ قال أبو البقاء: «معطوف على» تضرُّع «والتقدير: ومقتصدين». وهذا ضعيف لأن «دون» ظرف لا يتصرَّف على المشهور، فالذي ينبغي أن يُجْعَل صفةٌ لشيء محذوف، ذلك المحذوف هو الحال كما قدَّره الزمخشري فقال: «ودونَ الجهر: ومتكلماً كلاماً دون الجهر؛ لأن الإِخفاءَ أَدْخَلُ في الإِخلاص وأقربُ إلى حسن التفكر».
قوله: ﴿بالغدو والآصال﴾ متعلق باذكر، أي: اذكره في هذين الوقتين وهما عبارةٌ عن الليل والنهار. قال أبو البقاء: «بالغُدُوِّ» متعلق ب «ادعوا» وهو سَبْقُ لسانٍ وقلم، إذ ليس نظمُ القرآن كذا.
والغُدُوّ: إمَّا جمع غُدْوة كقمح وقمحة، وعلى هذا فيكون قد قابل الجمع بالجمع المعنوي. وقيل: هو مصدرٌ فيقدَّرُ زمانٌ مضاف إليه حتى يتقابل زمان مجموع بمثله، تقديره: بأوقات الغدو. والآصال: جمع أُصُل، وأُصُل جمع أصيل فهو جمع الجمع. ولا جائزٌ أن يكونَ جماً لأصيل؛ لأن فعيلاً لا يُجْمع على أفعال. وقيل: بل هو جمعٌ لأصيل، وفعيل يُجمع على أفعال نحو:
٢٣٧٨ - وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلُها | عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحدِ |
وقرأ أبو مجلز واسمُه لاحق بن حميد السدوسي البصري «والإِيصال» مصدرُ آصَل، أي: دخل في الأصيل.