سورة الأعراف
مكية وبعضها مدنية
ﰡ
﴿ المص ﴾ سبق الكلام في مثله في سورة البقرة
﴿ كتاب ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب أو خبر للحروف المقطعة إن كان المراد به السورة أو القرآن ﴿ أنزل إليك ﴾ صفة للكتاب ﴿ فلا يكن في صدرك حرج منه ﴾ الحرج في الأصل الضيق، قال : مجاهد المراد ها هنا الشك فإن ضيق الصدر سبب للشك وشرح الصدر سبب لليقين، وقد مر مسألة شرح الصدر وضيقه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى :﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ﴾ الآية، قال : أبو العالية : المراد منه مخالفة الناس في تبليغ القرآن من أن يكذبوه ويؤذوه فإن الخائف في أمر لا ينشط له ولا ينشرح صدره في الإتيان به، وقيل : المراد المخافة في القيام بحقه والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوجيه النهي إلى الحرج للمبالغة كقولهم لا أرينك، يعني لا تشك في أنه منزل من الله تعالى أو لا تخف أحد من الناس ولا تبال بهم فنحن الحافظون لك أو لا تخف ترك القيام بحقوقه فنحن نيسر لك ونوفقك، والفاء يحتمل العطف والجواب، كأنه قيل : إذا أنزل إليك فلا تحرج صدرك ﴿ لتنذر به ﴾ متعلق بأنزل أو لا يكن لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار وكذا إذا لم يخفهم أو علم أنه موفق للقيام به﴿ وذكرى للمؤمنين ﴾ أي عظة لهم مرفوع عطفا على كتاب أو خبر المحذوف أو منصوب بإضمار تذكر ذكرى أو مجرور عطفا على محل تنذر.
﴿ اتبعوا ما أنزل إليكم ﴾ بتوسط الرسول صلى الله عليه آله وسلمن يكذبوا ويؤذوه فإن الخائف في أمر لا ينشط له ولا ينشرحخ صدره في الإتيتااامننن ععععععتت ﴿ من ربكم ﴾ وحيا جليا أو خفيا فيعم السنة أيضا ﴿ ولا تتبعوا من دونه ﴾ أي دون الله تعالى حال من قوله ( أولياء ) من الجن والإنس تطيعونهم في معصية الله تعالى خرج بقوله تعالى من دونه من كان ولايته من جهة الله تعالى كالأنبياء والعلماء﴿ قليلا ما تذكرون ﴾ أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا وما مزيدة لتأكيد القلة وليست بمصدرية وإلا لم ينتصب قليلا يتذكرون، قرأ أبو عمرو يتذكرون بالياء التحتانية على صيغة الغيبة والخطاب مع النبي صلى الله عليه آله وسلم والباقون بغير ياء على صيغة الخطاب بحذف أحد التائين على أنه خطاب مع الناس، قلت : نسبة قلة التذكر إلى جميع الناس مبني على كثرة تذكر قليل منهم وهم المؤمنون.
﴿ وكم ﴾خبرية مبتدأ ﴿ من قرية ﴾ تميز لها﴿ أهلكناها ﴾ خبر للمبتدأ أي أردنا إهلاكها أو خذلناها ﴿ فجاءها ﴾ أي جاء أهلها﴿ بأسنا ﴾ عذابنا وجاز أن يكون الفاء للبيان والتفسير كما في قوله أحسنت إلي فأعطيني فيكون قوله فجاءها بأسنا بدلا من قوله أهلكناها ﴿ بياتا ﴾ أي بائتين ليلا كقوم لوط مصدر وقع موقع الحال﴿ أو هم قائلون ﴾ أي نائمون في الظهيرة كقوم شعيب والقيلولة استراحة نصف النهار وإن لم يكن معه نوم، والجملة معطوفة على بياتا عطف الجملة على المفرد حال من القرية بمعنى أهلها، وإنما حذفت واو الحال استثقالا لاجتماع حرفي العطف فإنها واو عطف استعيرت للوصل لا اكتفاء بالضمير فإنه غير فصيح، ومعنى الآية أنه جاءكم العذاب وهم غافلون غير متوقعين له ووجه تخصيص الوقتين بالذكر المبالغة في بيان غفلتهم وأمنهم من العذاب.
﴿ فما كان دعواهم ﴾ أي قولهم ودعائهم وتضرعهم، قال سيبويه : يقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ﴿ إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ﴾ يعني إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليهن قالوا إنا والمعنى أنهم لم يقدروا على رد العذاب بل اعترفوا بذنبهم حين لا ينفعهم الاعتراف
﴿ فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين ﴾ أخرج البيهقي من طريق أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : نسأل الناس جميعا عما أجابوا المرسلين ولنسألن المرسلين عما بلغوا أخرج ابن المبارك عن وهب قال : إذا كان يوم القيامة دعى إسرافيل ترعد فرائضه فيقال ما صنعت فيما أدى إليك اللوح ؟ فيقول : بلغت جبرائيل فيدعى جبرائيل ترعد فرائضه فيقال : ما صنعت فيما بلغك إسرافيل ؟ فيقول : بلغت الرسل فيؤتى بالرسل فيقال : ما صنعتم فيما أدى جبرئيل ؟ فيقولون : بلغنا الناس، وهو قوله تعالى﴿ فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين( ٦ ) ﴾وأخرج مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته في حجة الوداع :( أنتم تسألون عني فهل أنتم قائلون، قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال : اللهم أشهد ) وأخرج أحمد عن معاوية بن حيدة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن ربي داعي وإنه سائلي هل بلغت عبادي وإني قائل قد بلغتهم فليبلغ منكم الشاهد الغائب، ثم إنكم تدعون مقدمة أفواهكم بالغداة إن أول ما يبين عن أحدكم لفخده وكفه ) وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن أبي سنان قال : أول من يحاسب يوم القيامة اللوح يدعى به ترعد فرائصه فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول نعم، فيقول ربنا : من يشهدك ؟ فيقول : إسرافيل ترعد فرائصه فيقول : هل بلغك اللوح ؟ قال : نعم، قال اللوح : الحمد لله الذي نجاني من سوء الحساب. وأخرج ابن المبارك في الزهد عن أبي حبلة قال : أول من يدعى يوم القيامة إسرافيل فيقول الله هل بلغت عهدي ؟ فيقول : نعم قد بلغته جبرائيل فيدعى جبرائيل فيقال : هل بلغك إسرافيل عهدي ؟ فيقول : نعم فيخلي عن إسرفيل، فيقول لجبرائيل : ما صنعت في عهدي ؟ فيقول : يا رب بلغت الرسل فيدعى الرسل فيقول للرسل هل بلغكم جبرائيل عهدي ؟ فيقولون : نعم فيقال لهم : ما صنعتم في عهدي ؟ فيقولون : بلغناه الأمم، فيقال لهم : هل بلغكم الرسل ؟ فمكذب ومصدق فيقول الرسل : لنا عليهم شهداء فيقول من ؟ فيقولون : أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيقال : لهم تشهدون أن الرسل قد بلغت الأمم ؟ فيقولون : نعم فتقول الأمم : يا ربنا كيف يشهد علينا من لم يدركنا ؟ فيقول الله : كيف تشهدون عليهم ولم تدركوهم ؟ فيقولون : يا ربنا أرسلت إلينا رسولا وأنزلت علينا كتابا وقصصت علينا أن قد بلغوا فذلك قوله تعالى :﴿ كذلك جعلناكم أمة وسطا ﴾ الآية، وقد ذكرنا حديث أبي سعيد الخدري في الشهادة في سورة البقرة في تفسير تلك الآية، وجاز أن يكون المراد ولنسألن المرسلين عما أجابتهم الأمم نظيره قوله تعالى ﴿ *يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ( ١٠٩ ) ﴾ وقد مر تفسير الآية في سورة المائدة
﴿ فلنقصن عليهم ﴾ أي على الرسل والمرسل إليهم حين يقول الرسل لا علم لنا أو حين أنكر الأمم التبليغ وشهد عليهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ بعلم ﴾ أي بمعلومنا منهم أو المعنى عالمين بظواهرهم وبواطنهم﴿ وما كنا غائبين ﴾عن الرسل فيما بلغوا أو عن الأمم فيما أجابوا وفيما شهد عليهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما كان السؤال لتوبيخ الكفرة وتقريعهم إظهار شرف الأنبياء والمسلمين وتفضيل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادة،
﴿ والوزن ﴾ أي وزن الأعمال بالميزان مبتدأ خبره﴿ يومئذ ﴾ أي كائن يوم إذا تحقق السؤال من المرسلين والمرسل إليهم ﴿ الحق ﴾ صفة للمبتدأ ومعناه العدل السوي أو خبر لمحذوف أي هو الحق لا شبهة فيه يجب الإيمان به، أخرج البيهقي في البعث عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في حديث سؤال جبرائيل عن الإيمان قال : يا محمد ما الإيمان ؟ قال :( أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره قال : فإذا فعلت هذا فأنا مؤمن ؟ قال : نعم، قال : صدقت ) وأخرج ابن المبارك في الزهد وأجر في الشريعة عن سلمان وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس قال : الميزان له لسان وكفتان. واختلفوا في كيفية الوزن ؟ فقال بعضهم يوزن صحائف أعمالهم لما روى الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يجاء برجل من أمتي على رؤوس الأشهاد يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقول : أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب، فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا وأشهد أن محمد عبده ورسوله، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول : إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء ) وأخرج أحمد بسند حسن عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة ويوضع ما أحصى عليه فتمايل به الميزان فيبعث به إلى النار فإذا أدبر به إذا صائح ويصيح من عند الرحمان : على تعجلوا فإنه قد بقي له فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فيوضع مع الرجل حتى يميل به الميزان ) وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمرو قال : إن لآدم من الله موقفا عليه ثوبان أخضران كأنه نخلة سحوق ينظر إلى من ينطلق به من ولده إلى النار بينما آدم على ذلك إذ نظر إلى رجل من أمتي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينطلق به إلى النار، فينادي آدم يا أحمد فأقول لبيك يا أبا البشر فيقول : هذا رجل من أمتك ينطلق به إلى النار فأشد المئزر أسرع في إثر الملائكة وأقول يا رسل ربي قفوا فيقولون : نحن الغلاظ الشداد الذين لا نعصى الله ما أمرنا ونفعل ما نؤمر، فإذا أيس النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه، فيقول : رب قد وعدتني أن لا تخزيني في أمتي فيأتي النداء من عند العرش أطيعوا محمدا وردوا هذا العبد إلى المقام، فأخرج من حجرتي بطاقة بيضاء كالأنملة فألقيها في كفة الميزان اليمني، وأنا أقول بسم الله فترجح الحسنات على السيئات فينادى سعد وسعد جده وثقلت موازينه انطلقوا به إلى الجنة فيقول : يا رسل ربي قفوا حتى أسأل هذا العبد الكريم على ربه، فيقول : بأبي وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك من أنت فقد فأقول : أنا نبيك محمد وهذه صلواتك التي كنت تصليها علي وأفتك أحوج ما تكون إليها. وقال : بعضهم : يوزن الأشخاص لما روى الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ثم قرأ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ واخرج أبو نعيم الآجري في قوله تعالى قال : القوي الشديد الأكول الشرب يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة يدفع الملك عن أولئك سبعين ألفا دفعة واحدة في النار، وقال : بعضهم : يوزن الأعمال أنفسها يعني يجسد الأعمال وتوزن لما روى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان عند الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وبحمده ) وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( : الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان ) وروى الأصبهاني في الترغيب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( سبحان الله نصف الميزان والحمد لله تملأ الميزان ) وروى ابن عساكر من حديث أبي هريرة مثله وروى البزار والحاكم عن ابن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن نوحا لما حضرته الوفاة دعا ابنيه، فقال : آمركما بلا إله إلا الله فإن السماوات والأرض وما فيها لو وضعت في كفة الميزان ووضعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى كانت أرجح منها ) وروى أبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( قال الله تعالى :( يا موسى لو أن السماوات غيري والأرضيين السبع في كفة ولا إله لا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله ) وروى الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( والذي نفسي بيده لو جيء بالسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعت في كفة الميزان ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن ) وروى أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق ) وروى البزار والطبراني وأبو يعلى وابن أبي الدنيا والبيهقي بسند حسن أنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما ؟ قال : بلى يا رسول الله، قال : عليك بحسن الخلق وطول الصمت فو الذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما ) وأخرج أحمد في الزهد عن رجل يقال له حازم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل عليه جبرائيل وعنده رجل يبكي، فقال : من هذا ؟ قال : فلان قال جبرائيل إنما يوزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن الله يطفيء بالدمعة بحورا من نار ) وأخرج البيهقي عن معقل بن يسار قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما ذرفت عين إلا حرم الله سائر الجسد على النار ولا سالت قطرة على خدها فترهق ذلك الوجه قتر ولا ذلة ولو أن باكيا بكى من أمة من أمم وما من شيء إلا وله مقدار وميزان إلا الدمعة فإنها تطفيء بها بحار من نار ) قلت : هذه الأحاديث وإن كانت ظاهرة في أنه توزن الأعمال أنفسها لكنها يحتمل فيها وزن سجلات كتبت فيها الأعمال أو أشخاص صدرت منهم، وأخرج في أنها تجسد وتوزن ما رواه البيهقي في شعب الإيمان من طريق السدي الصغير عن الكلبي : عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الميزان له لسان وكفتان ويوزن فيه الحسنات والسيئات فيؤتى بالحسنات في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فيثقل على السيئات فيؤخذ فيوضع في الجنة عند منازله، ثم يقال للمؤمن إلحق بعمالك فينطلق إلى الجنة فيعرف منازله بعمله ويؤتى بالسيئات في أقبح صورة فتوضع في كفة الميزان فتخفف والباطل خفيف فتطرح في جهنم إلى منازله منها ويقال له إلحق بعملك النار فيأتي النار فيعرف منازله بعمله وما أعد الله فيها من ألوان العذاب ) قال : ابن عباس فلهم أعرف بمنازلهم في الجنة والنار بعملهم من القوم ينصرفون يوم الجمعة راجعين إلى منازلهم لكن الحديث ضعيف لأجل السدي الصغير وما ورواه ابن المبارك عن حماد بن أبي سليمان ( قال جاء رجل يوم القيامة فيرى عمله مختصرا فبينما هو كذلك إذ جاءه مثل السحاب حتى يقع في ميزانه فقال هذا ما كنت تعلم الناس من الخير فوريث بعدك فأجرت فيه ) وأخرج ابن عبد الرزاق عن إبراهيم النخعي نحوه، وما روى الطبراني عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( من تبع جنازة يوضع في ميزانه قيراطان مثل أحد ) وما روى الأصبهاني عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن للصلاة المكتوبة عند الله وزنا من انتقض منها شيئا حوسب فيها على ما ينقص ) وفي حديث أبي هريرة مرفوعا عند أبي داود قال : إن انتقص من فريضته شيء قال : الرب تبارك وتعالى انظر هل لعبدي من تطوع ؟ فيكمل بها من انتفض من الفريضة ) ومن الأحاديث ما يدل على الأجسام التي لها تعلق بالأعمال توضع في الميزان منها ما روى الطبراني في الأوسط عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( أول ما يوضع في الميزان العبد يوم القيامة النفقة على أهله ) وما في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا وتصديقا بوعده كان شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ) وما روى الطبراني عن على رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( من ارتبط فرسا في سبيل الله فعلفه وأثره في ميزانه يوم القيامة ) وما في حديث علي عند الأصفهاني بسند حسن أنه قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة :( قومي فاشهدي أضحيتك فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها مغفرة لكل ذنب إما إنه يجاء بدمها ولحمها فيوضع في ميزانك سبعين ضعفا ) قال : أبو سعيد يا رسول الله هذا لآل محمد خاصة ؟ فقال( لآل محمد وللمسلمين عامة ) وما أخرج البيهقي عن ابن مسعود وابن حبان في صحيحه عن أبي ذر موقوفا وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي هريرة أنه قال : عليه الصلاة والسلام ( من توضأ فمسح بثوب فلا بأس به ومن لم يفعل فهو أفضل لأن الوضوء يوزن يوم القيامة مع سائر الأعمال ). . . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن المسيب أنه كره المنديل بعد الوضوء وقال : هو يوزن، وأخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أعطيت ناقة في سبيل الله فأردت أن أشتري من نسبها فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال( دعها لتأتي يوم القيامة هي وأولادها جميعا في ميزانك ) وأخرج الذهبي عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء ) ﴿ فمن ثقلت موازينه ﴾ جمع موزون يعني أعماله التي توزن والمراد بها حسناته كذا قال : مجاهد فإنها هي المقصودة بوجودها أو هو جمع الميزان، وعلى هذا أيضا المراد كفة الحسنات من ميزانه، وعلى هذا التأوئل تدل الآية على أن لكل أحد ميزان على حدة﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ الفائزون بالنجاة والثواب
﴿ ومن خفت موازينه ﴾ أي أعماله الحسنة أو كفة حسناته، وهذا وإن كان يعم الكافر الذي لا حسنة له أًصلا والمؤمن الذي ترجحت سيئاته على حسناته، لكن المراد به ها هنا هم الكفار جريا على عادة القرآن غالبا حيث يذكر الكفار في مقابلة الأبرار، وقيل : ذكر الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا من المؤمنين فالكفار هم المحكوم عليهم بقوله تعالى﴿ فأولئك الذين خسروا أنفسهن ﴾ بتضيع الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها وارتكاب موجبات العذاب ﴿ بما كانوا بآيتنا يظلمون ﴾ فيكذبون بالآيات بدل التصديق وقد ذكرنا تفسير الآية وما يتعلق به في سورة القارعة في تفسير قوله تعالى :﴿ فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه ( ٨ ) فأمه هاوية ( ٩ ) ﴾ فليرجع إليه، قال : أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين حضره الموت في وصيته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان أن يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا. قلت لعل المعنى وحق لميزان أي كفة الحسنات أن يوضع فيه الباطل يعني العقائد والأعمال التي يراها العامل حسنات وهي عند الله كفريات وبدعات وقبائح أن يكون خفيفا فإنها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء إذا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده حسابه والله أعلم
﴿ ولقد مكناكم في الأرض ﴾ أي أقدرناكم على سكناها وزرعها التصرف فيها ﴿ وجعلنا لكم فيها معايش ﴾ جمع معيشة أي أسبابا تعيشون بها أيام حياتكم من الزرع والضرع والمأكل والمشارب والتجارات والمكاسب ﴿ قليلا ما ﴾ أي شكرا قليلا أو في زمان قليل ﴿ تشكرون ﴾ فيما صنعت لكم.
﴿ وَلقد خَلَقْنَاكُمْ ﴾ يعني قدرناكم في العلم في المرتبة الأعيان الثابتة ﴿ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾ يعني آبائكم آدم نزل تصويره منزلة تصوير الكل وابتدأنا خلكم ثم تصويركم بأن قدرنا آدم وصورناه وذلك ابتدأ تقديركم وتصويركم، وقال : ابن عباس خلقناكم أي أصولكم وآباءكم ثم صورناكم في أرحام أمهاتكم كذا قال : قتادة والضحاك والسدي، وقال : مجاهد : خلقناكم يعني آدم ذكره بلفظ الجمع لأنه أبو البشر فخلقه خلق من يخرج من صلبه ثم صورناكم في ظهر آدم، وقيل : صورناكم يوم الميثاق حين أخرجكم كالذر، وقال عكرمة : خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء، وقال يمان : خلق الإنسان في الرحم ثم صوره فشق سمعه وبصره وأصابعه، وقيل : كلمة ثم بمعنى الواو والمعنى خلكم وصوركم فإن بعض المخلوقات كالأرواح لا صورة لها﴿ ثُمَّ قُلْنَا ﴾ إن كان المراد بضمير الخطاب ثم آدم وحده كلام فيه وإن كان المراد الذرية فقيل كلمة ثم بمعنى الواو وقيل : معناه ثم أخبركم أنا قلنا﴿ للملائكة اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ قد ذكرنا شرح الآية في سورة البقرة﴿ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴾
﴿ قال : الله تعالى يا لإبليس ﴾﴿ ما منعك ﴾ يعني شيء منعك﴿ ألا تسجد ﴾ أي من أن تسجد ولا زائدة كما في ﴿ لئلا يعلم ﴾ مؤكدة لمعنى الفعل الذي دخلت عليه ومنبهة على الموبخ عليه ترك السجود، وقيل : الممنوع من الشيء مضطر إلى خلافه فكأنه قيل : ما اضطرك إلى أن تسجد، وجاز أن يكون تقدير الكلام ما منعك من الامتثال وبعتك على أن تسجد ﴿ إذا أمرتك ﴾ بالسجدة فيه دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والسؤال عن المانع من السجود مع العلم به للتوبيخ وإظهار معاندته وكفره واستكباره، ﴿ قال ﴾ إبليس﴿ أنا خير منه ﴾ جواب من حيث المعنى، استأنف به استعبادا لأن يكون مثله مأمورا بالسجود لمثله كأنه قال : المانع منه كوني خيرا منه ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول فلا يحسن أن يؤمر به، ففي الكلام اعتراض على الله سبحانه في الأمر بالسجود ﴿ خلقني من نار ﴾ جوهر نوراني مستعل ﴿ وخلقه من طين ﴾ جوهر ظلماني مستسفل، قال : ابن عباس أول من قاس إبليس فأخطأ في القياس فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس، وقال : ابن سيرين ما عبدت الشمس إلا بالمقايس، قلت : وليس في هذين القولين إبطال القياس بل تخطئته لقياسه فإنه قياس في مورد النص ولذلك قال : من قاس الدين بشيء من رأيه يعني على خلاف النصوص الواردة وأيضا تعليل الفضل والخيرية بالإضاءة والاستعلاء باطل إنما الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وقد فضل الله تعالى آدم على جميع خلقه حيث خلقه بيد ونفخ فيه من روحه وجعله مستعدا لتعلم أسمائه كلها ومهبطها لتجلياته ومتقربا من الله تعالى بالفرائض والنوافل بامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه ومتحملا لأمانته التي أشفقت عنها السماوات والأرض والجبال. فإن قيل : الخطأ في الاجتهاد معفو ؟ قلنا : إنما إن كان ذلك القائس طالبا للحق باذلا جهده في طلبه لا إذا كان متعنتا باغيا الاستعلاء نفسه وإلزام الخصم ألا ترى أن أقول الملائكة :﴿ أ تجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ﴾ أيضا قياس فيه خطأ، ولذا رد الله تعالى قولهم بقوله ﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ ولم يردهم أنفسهم حيث لم يصدر ذلك القول منهم استكبارا وتعنتا بل لطلب الحق واستعلام الحكمة، ولذلك قالوا عند ظهور الحكمة ﴿ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ﴾ قالت الحكماء للطين فضل على النار من وجوه فإن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثه الاحتباء والتوبة والهداية، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثه اللعنة والشقاوة، ولأن الطين سبب لجمع الأشياء والنار سبب لتفقريها ولأن الطين سبب لحياة النبات والنار سبب لهلاكها وإضافة خلق الإنسان إلى الطين والشيطان إلى النار باعتبار الجزء الغالب وتلك الإضافة تدل على أن العمدة في أجزاء الإنسان إنما هم عالم الخلق دون عالم الأمر تابع به ويتصف بالخبرية والشرية بتبعيته ويتلون بلونه، ألا ترى أن الروح تعلق بجسد الإنسان كما تعلق بجسد الشيطان فتلون في كل على هيئة ومثله كمثل الشمس تجلت في المرأة فتصورت بصورتها وتلونت بلونها قال : المجدد رضي الله عنه كمال الترقي بعالم في الأمر إلى ظلال الصفات إلا الأخفى منها فإنها ترتقي إلى بعض الصفات وكمال الترقي للنفس المنبعث من لطائف عالم الخلق إلى ظاهر الصفات وكمال الترقي للعناصر الثلاثة إلى باطن الصفات أي من حيث قيامها بالذات والترقي إلى مرتبة الذات مختصة بعنصر الطين كما أن نور الشمس لا يظهر إلا على أكثف الأشياء دون ألطفها والله أعلم
﴿ قال ﴾ الله تعالى لإبليس لما تستكبر ﴿ فاهبط منها ﴾ أي من الجنة وقيل : من السماء والفاء جواب لقوله أنا خير منه يعني إن كنت متكبرا فأهبط منها فإنه كان للمتواضعين المطيعين ﴿ فما يكون لك أن تتكبر فيها ﴾ أي لا يصح لك التكبر فيها ففيه تنبيه على أن التكبير لا يليق بأهل الجنة فإنه من خصائص الكبير المتعال، وإنه تعالى إنما طرده وأهبطه لتكبيره عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم :( لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال ذرة من خردل من كبر ) رواه مسلم، وفي رواية لمسلم فقال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال : عليه السلام : إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس ) وعن حارثة بن وهب قال : قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم : ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتل جواظ مستكبر ) متفق عليه، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم :( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما أدخلته في النار ) رواه مسلم وفي رواية له قدفته في النار فاخرج ( إنك من الصاغرين ) أي أهل الصغار والذل والهوان على الله وعلى أوليائه يذمك كل إنسان ويلعنك كل لسان، وفي القاموس الصاغر الراضي بالمنزلة الدنية وكذا في غيره من كتب اللغة، ومن هاهنا يعلم أن الصغار والذل لازم للاستكبار، قال : رسول الله صلى عليه وآله وسلم :( من توضع لله رفعه الله فهو في نفسه صغير وفي أعين الناس عظيم، ومن تكبر وضعه الله لهو في أعين الناس صغير وفي نفسه كبير حتى لهو أهوان عليهم من كلب وخنزير ) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عمر، وقال : رسول الله صلى عليه وآله وسلم :( بئس العبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال ) رواه الترمذي من حديث أسماء وقال : حديث غريب وليس إسناده بالقوى
﴿ قال ﴾ إبليس عند ذلك ﴿ أنظرنى ﴾ أي أمهلني ولا تمتني﴿ إلى يوم يبعثون ﴾ أي الناس من قبورهم يعني إلى النفخة الأخيرة، أراد أن لا يذوق الموت
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ إنك من المنظرين ﴾ وبين الله سبحانه مدة هذه النظرة والمهلة في موضع آخر فقال إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم أو وقت يعلمه الله انتهاء أجله فيه، وفيه دليل على أن إجابة الدعاء غير مختص بأهل الإسلام والطاعة وأنه لا يدل مطلقا على كون الداعي من المقبولين بل قد يكون استدراجا وفي إجابة دعائه ابتلاء لعباد وتعريضهم للثواب بمخالفته
﴿ قال ﴾ إبليس ﴿ فيما أغوتني ﴾ الفاء للتعقيب والباء للسببية متعلق بفعل قسم مقدار وما مصدرية يعني بعدما أمهلتني فبسبب إغوائك إياي بواسطتهم تسمية أو حملا على أو تكليفا بما غويت لأجله أقسم بك لأجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني، وليس الباء متعلقا بأقعدن فإن اللام يصد عنه، وقيل : الباء للقسم أي أقسم بإغوائك إياي يعني بقدرتك على نفاذ سلطانك في ﴿ لأقعدن لهم ﴾ جواب للقسم أي اجلس مترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة ﴿ صراطك ﴾ أي طريق الإسلام ونصبه على الظرف كقوله كما الطريق الثعلب، وقيل : بنزع الخافض تقديره على صراطك كقولهم ضرب زيد الظهر والبطن والقعود على الطريق كناية عن كمال اجتهاده في صدرهم عن السلوك عليه﴿ المستقيم ( ١٦ ) ﴾
﴿ ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن يمينهم وعن شمائلهم ﴾ من جميع الجهات مثل قصده إياهم التسول والإضلال من أي جهة يمكن بإتيان العدو من الجهات الأربع ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم قال : الله تعالى :﴿ في الأولين ﴾ من لابتداء الغاية وفي الأخريين عن لأن عن تدل على الانحراف، وقيل : لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان منه توحش، قال : البغوي : قال : علي بن طلحة عن ابن عباس : من بين أيديهم أي من قبل الآخرة فأشككهم فيها ومن خلفهم أي من قبل دنياهم فأرغبهم فيها وعن أيمانهم أي أشبه عليه أمر دينهم وعن شمائلهم أي أشهي لهم المعاصي، وروى عطية عنه من بين أيديهم أي من قبل دنياهم أي أزينها في قلوبهم ومن خلفهم أي من قبل الآخرة فأقول لا بعث ولا جنة ولا نار وعن أيمانهم من حسناتهم وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم، وقال : قتادة نحوه ثم قال : أتاك يا ابن آدم من كل جهة غير أنه يأتك من فوقك ولم يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة الله كذا ذكر السيوطي قول ابن عباس، وقال مجاهد : من بين أيديهم وعن أيمانهم أي من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم أي من حيث لا يبصرون قال ابن جريج معنى قوله حيث يبصرون حيث يعلمون أنه يخطئون وحيث لا يبصرون أي لا يعلمون أنهم يخطئون ﴿ ولا تجد أكثرهم شاكرين ﴾ أي مؤمنين قاله ظنا لقوله تعالى :﴿ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا ﴾
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ أخرج منها ﴾ أي من الجنة ﴿ مذءوما ﴾ محقرا في القاموس ذأمه كمنعه حقره وذمه وطرده وخزاه، وقال الجوهري : ذأمه ذأما يعني مهموز العين وذمته أذيمه يعني الأجوف اليائي وذممته أذمه يعني المضاعف معنى كل واحد قال البغوي : الذيم والذام يعني المهموز والأجوف أشد العيب ﴿ مدحورا ﴾ أي مبعدا مطرودا ﴿ لمن تبعك منهم ﴾ أي من بني آدم اللام توطئة للقسم﴿ لأملأن جهنم منكم ﴾ أي منك وممن تبعك فغلب المخاطب والجملة جواب للقسم وساد مسد جواب الشرط { أجمعين ( ١٨ )
﴿ ويآدم ﴾ تقديره قلنا يا آدم﴿ أسكن أنت وزوجك ﴾ حواء﴿ الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا ﴾ يحتمل الجزم على العطف والنصب على الجواب أي فتصيرا﴿ من الظالمين ﴾ مر شرح الآية في سورة البقرة
﴿ فوسوس ﴾ الوسوسة حديث النفس والشيطان بما لا نفع فيه كذا في القاموس، قال : البغوي : الوسوسة حديث يلقيه الشيطان في قلبه وأصله صوت الحلي والهمس والخفي يعني فعل الوسوسة ﴿ لهما ﴾ أي لأجلهما ﴿ الشيطان ليبدى لهم ﴾ أي ليظهر لهما واللام للعاقبة أو للغرض على أنه أراد أيضا بوسوسة أن يسوءهما بكشف ﴿ ما وري ﴾ ما غطى عنهما سوءتهما } من عورتهما وكانا لا يرناها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر، وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع لم يزل مستقبحا شرعا وعقلا ثم بين الوسوسة فقال ﴿ وقال ﴾ إبليس لآدم وحواء﴿ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا ﴾ أي إلا لئلا تكونا أو كراهة أن تكونا ﴿ ملكين أو تكونا من الخالدين ﴾ الباقين الذين لا يموتون كما قال : في موضع آخر :﴿ هل أدلك على شجرة الخلد ﴾ واستدل به على فضل الملائكة على الأنبياء، والجواب أنه إنما كانت رغبتما في أن يحصل لهما ما للملائكة من الكمالات والاستغناء عن الأطعمة والأشربة وذلك لا يدل على الفضل الكلي فإن الفضل الكلي عبارة عن كثرة الثواب والأقربية إلى الله سبحانه لا غير
﴿ وقاسمهما ﴾ أي فأقسم لهما بالله ﴿ إني لكما لمن الناصحين ﴾ جواب للقسم ذكر القسم على زنة المفاعلة للمبالغة وقد ذكرنا القصة في سورة البقرة، قال : قتادة حلف لهما بالله حتى خدعهما وقال وقد يخدع المؤمن بالله، وقال : إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فأتبعاني أرشدكم وإبليس أول من حلف بالله كذبا فلما حلف ظن آدم أن أحد لا يحلف بالله كاذبا فاغتر به
﴿ فدلاهما ﴾ الشيطان، قال : البغوي : يعني خدعهما يقال مازال فلان يدلي لفلان بغرور يعني مازال يخدعه ويكلمه بزخرف القول ﴿ بغرور ﴾ أي باطل، وقيل : معنى دلهما أنزلهما من درجة عالية إلى منزلة سافلة أي من مقام الطاعة إلى مقام المعصية﴿ فلما ذاقا الشجرة ﴾ أي فلما وجدا أطعمها آخذين في الأكل منها يعني لم يستوفا الأكل حتى أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية وتهافت عنهما لباسهما أخرج عبد بن حميد عن وهب بن منيه أنه كان لباسهما من النور، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي عن الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردودية والبيهقي في سننه وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس قال : كان لباس آدم وحواء كالظفر فلما أكلا من الشجرة لم يبق عليهما إلا مثلا الظفر فلما وقع منهما الذنب ﴿ بدت لهما سوءتهما ﴾ فاستحيا﴿ وطفقا ﴾ أي أخذا ﴿ يخصفان ﴾ يلزقان﴿ عليهما ﴾ أي على عوراتهما﴿ من ورق الجنة ﴾ وهو ورق التين حتى صار شبيه الثوب، كذا أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وابن عساكر في تاريخيه عن ابن عباس، قال : الزجاج يجعلان على ورقة ليسترا سوأتهما روى أبي بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله صلى عليه وآله وسلم :( كان آدم رجلا طوالا كأنه نخلة سحوق شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته وكان لا يراها أحد فانطلق هاربا في الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته لشعره فقال : أرسليني فقالت : لست بمرسلك فنادى به ربه تبارك وتعالى يا آدم أتفر مني قال : لا يا رب ولكني استحييتك ) ﴿ ونادهما ربهما ألم أنهكما عن تلك الشجرة ﴾ يعني عن الأكل منها ﴿ وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ﴾ أي بين العداوة حيث أقر على نفسه، وقال :﴿ لأقعدن لهم صراطك المستقيم ﴾ عتاب على مخالفة النهي وتوبيخ على الاغترار بقول العدو، وفيه دليل على أن مطلق النهي للتحريم. قال محمد بن قيس ناده ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك ؟ قال : يا رب أطعمتني حواء قال : لحواء لم أطعمته ؟ قالت : أمرتني الحية قال : للحية لم أمرتها قالت : أمرني إبليس، فقال الله تعالى أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهر وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك وأما أنت يا إبليس فملعون مدحور.
﴿ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ﴾ضررناها بالمعصية والتعريض للإخراج عن الجنة﴿ وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ أي الهالكين، فيه دليل على أن الصغائر معاقب عليها إن لم تغفر، وقالت المعتزلة لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر
﴿ قَالَ اهْبِطُوا ﴾ قيل : الخطاب لآدم وحواء لأن إبليس هبط قبلهما ولعل إيراد صيغة الجمع لأن هبوطهما سبب لهبوط ذريتهما، وقيل : الخطاب لهما ولإبليس كرر له الأمر تبعا ليعلم أنهم قرنا أبدا أو خبر عما قال : لهم متفرقا ﴿ بعضكم لبعض عدو ﴾ في موضع الحال أي متعادين﴿ ولكم في الأرض مستقر ﴾ أي استقرار أو موضع استقرار﴿ ومتاع ﴾ أي تمنع ﴿ إلى حين ﴾ انقضاء آجالكم
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ فيها ﴾ أي في الأرض ﴿ تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ﴾ للجزاء قرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان منها تخرجون وفي الزخرف كذلك تخرجون بفتح التاء وضم الراء فيهما على البناء للفاعل والباقون بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول،
قال البغوي : كانت العرب في الجاهلية تطوف بالبيت عراة يقولون لا نطوف في تياب عصينا الله فيها فكانت الرجال يطوفون بالنهار والنساء بالليل عراة فنزلت ﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا ﴾ وقال : قتادة كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول : اليوم يبدوا بعضه أو كله وما بدا لا أجله فأمر الله تعالى بالستر فقال :﴿ قد أنزلنا عليكم لباس ﴾ ﴿ يوارى سوءتكم ﴾ يعني عوراتكم سوءة سميت بها لأنها يسوء صاحبها انكشافها، ومعنى أنزلنا خلقنا لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة ونظيره قوله تعالى :﴿ وأنزل لكم من الأنعام ﴾ وقوله تعالى :﴿ وأنزلنا الحديد ﴾ قلت : ويمكن أن يقال معناه أنزل عليكم أن تلبسوا لباسا يواري سوءاتكم ولعله ذكر قصة آدم تمهيدا للنهي عن كشف العورة حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم ﴿ وريشا ﴾ أي لباسا فاخرا كذا في القاموس، يعني أنزلنا لباسا يواري سوءاتكم وأنزلنا لباسا فاخرا تتجملون فيها، قال : ؛ البيضاوي الريش الجمال وقيل : مالا ومنه تريش الرجل إذا تمول كذا قال : ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي ﴿ ولباس التقوى ﴾قرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب عطفا على ريشا يعني وأنزلنا لباس التقوى والباقون بالرفع على الابتداء وخبره ﴿ ذلك خير ﴾ أو صفة للمبتدأ وخير خبره. واختلفوا في لباس التقوى ؟ قال : قتادة والسدي لباس التقوى هو الإيمان، وقال : الحسن هو الحياء لأنه يبعث على التقوى، وقال : عطية عن ابن عباس وهو العمل الصالح وعن عثمان ابن عفان هو السمت الحسن، وقال : عروة بن الزبير لباس التقوى خشية الله، وقال : الكلبي : هو العفاف والمعنى لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق له من اللباس والتجمل، وقال : ابن الأنباري لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده إخبارا أن ستر العورة خير من التعري في الطواف وأن اللباس سبب للتقوى عن معصية التعري، وقال : زيد بن علي لباس التقوى اللباس التي يتقي بها في الحرب من الدرع والمغفر والساعدين والساقين، وقيل : لباس التقوى هو الصوف والثياب الخشنة التي يلبسها الزهاد﴿ ذلك ﴾ أي إنزال اللباس ﴿ من آيات الله ﴾ الدالة على فضله ورحمته ﴿ لعلكم يذكرون ﴾ فيعرفون نعمته ويتورعون عن القبائح
﴿ يا بني آدم لا يفتننكم ﴾ أي لا يخدعنكم ولا يضلنكم ﴿ الشيطان ﴾ بأن لا تدخلوا الجنة﴿ كما ﴾ فتن و﴿ أخرج أبويكم ﴾ آدم وحواء﴿ من الجنة ﴾ والنهي في الظاهر للشيطان وفي المعنى لنبي آدم لا تفتتنوا ولا تختدعوا ولا تضلوا بإتباع الشيطان ﴿ ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما ﴾ أي ليرى كل واحد منهما سوءة الآخر والجملة حال من فاعل أخرج أو مفعوله إسناد نزع إلى الشيطان للتسبب ﴿ إنه ﴾ يعني الشيطان﴿ يريكم ﴾ يا بني آدم﴿ هو وقبيله ﴾ جنوده قال : ابن عباس ولده وقال : قتادة قبيلة الجن﴿ من حيث لا ترونهم ﴾ والجملة فقيل للنهي وتاكيد للتحذير من فتنته وقبيله فإن عدوا يرانا ولا نراه لشديد المؤنة إلا من عصم الله فحينئذ كيده ضعيف، قال : ذو النون إن كان هو يراك من حيث لا تراه فاستعين بمن يراه من حيث لا يراه وهو الله القهار الستار﴿ إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ﴾ بما أوجدنا بينهم من التناسب في إتباع الباطل والتنافر من الحق أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم من خذلانهم وحملهم على ما سولوا لهم
﴿ وإذا فعلوا فاحشة ﴾ أي أمر بالغا إلى النهاية في القبح وذلك هو الشرك، وقال ابن عباس ومجاهد : هي طوافهم بالبيت عريانا والظاهر أنه يعم كل كبيرة ﴿ قالوا ﴾ إذا نهوا عن فعل الفاحشة﴿ وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ﴾ يعني احتجوا بأمرين تقليد الآباء والافتراء على الله فأعرض عن الأول لظهور فساده وقد رده في موضع آخر ﴿ أولوا كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾ ورد الثاني فقال :﴿ قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ﴾ فإن الأمر بالقبيح قبيح والله تعالى منزه عن القبائح، وفيه دليل على أن الحسن والقبح وإن كانا بخلق الله تعالى لكنه يدرك بالعقل أيضا والمراد بالقبيح ها هنا ما يتنفر عنه الطبع السليم ويستنقصه العقل المستقيم، وقيل : هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لم فعلتم فقالوا وجدنا عليه آباءنا فقيل : ومن أين أخذ آباؤكم، فقالوا : الله أمرنا بها، وعلى الوجهين يمنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه لا مطلقا﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ من غير دليل يوجب العلم اليقيني فيه إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله تعالى
﴿ قل أمرني ربي بالقسط ﴾ قال ابن عباس بلا إله إلا الله، وقال : الضحاك بالتوحيد، وقال : مجاهد والسدي بالعدل وهو الوسط من كل أمر المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط﴿ وأقيموا ﴾ تقديره قال : أقيموا هو مقولة المذكور يعني وقل أقيموا أو معطوف على مقدر تقديره فاقبلوا وأقيموا ﴿ وجوهكم ﴾ أي أخلصوا له تعالى سجودكم﴿ عند كل مسجد ﴾ أي عند وقت صلاة وسجود أو كل مكان سجود، وقال مجاهد والسدي وجهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة، وقال الضحاك : إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقلن أحدكم أصلي في مسجدي وبه قال : أبو حنيفة رحمه الله غير أنه قال من كان إماما لمسجد آخر أو رجل يختل بفقده جماعة مسجد آخر جاز له الخروج من المسجد بعد الأذان، وقيل : معناه توجهوا إلى عبادة الله مستقيمين غير عادلين إلى غيره ﴿ وادعوه ﴾ واعبدوه تعالى﴿ مخلصين له الدين ﴾ أي الطاعة والعبادة من الشرك براء من الرياء والسمعة فإنه خلقكم وإليه المصير ﴿ كما بدأكم ﴾ أي خلقكم أول مرة من تراب ثم من نطفة ﴿ تعودون ﴾ إحياء بإعادته بعد الموت فيجازيكم على أعمالكم، شبه الإعادة بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها وقيل : كما بدأكم حفاة عراة غرلا تعودون لحديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( تحشرون يوم القيامة حفاة عراة، فقلت : يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : يا عائشة الأمر يومئذ أشد من ذلك ) متفق عليه، وفي الصحيحين وسنن الترمذي عن ابن عباس قال : قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال :( يا أيها الناس تحشرون إلى الله حفاة مشاة عراة غرلا ثم قرأ﴿ كما بدأنا أول خلق نعيده ﴾ الآية، وأول من يكسى من الخلائق إبراهيم عليه السلام ) وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة وما رواه أبو داود والحاكم وصححه وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أنه لما احتضر دعا بثيات جدد فلبسها ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها ) وأخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن عن معاذ بن جبل أنه دفن أمه فأمر بها فكفنت في ثياب جدد وقال : أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يحشرون فيها، وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن عمر بن الخطاب قال : أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يبعثون فيها يوم القيامة فليس في القوة مثل ما ورد في الحشر عراة، قال : أكثر العلماء : هذه الأحاديث محمولة على الشهيد وأن با سعيد سمع الحديث في الشهيد فحمله على العموم، وقال البيهقي : يجمع الأحاديث بأن بعضهم يبعث عاريا وبعضهم بثيابه، وقال بعضهم : يخرجون من قبورهم بثيابه ثم تتناثر عنهم عند ابتداء المحشر فيحشرون عراة وقال بعضهم حديث أن الميت يبعث في ثيابه محمول على العمل الصالح كقوله تعالى :﴿ ولباس التقوى ذلك خير ﴾ وقال جابر : معنى الآية ( يبعثون على ما ماتوا عليه ) رواه مسلم في صحيحه وابن ماجة والبغوي عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يبعث كل عبد على ما مات عليه المؤمن على إيمانه والكافر على كفره ) وقال : ابن عباس في تفسير الآية : إن الله تعالى بد خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال :﴿ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ﴾ ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا، وقال : أبو العالية عادوا إلى علمه فيهم، وقال : سعيد بن جبير معناه كما كتب عليكم تكونون، قال : محمد بن كعب من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إليها وإن عمل بعمل أهل السعادة كما أن إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل الشقاوة كما أن السحرة كانوا يعملون بعمل أهل الشقاوة فصاروا إلى السعادة.
عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنما الأعمال بالخواتيم ) متفق عليه، ويناسب هذا التأويل آخر الآية حيث قال :﴿ فريقا ﴾ منكم ﴿ هدى ﴾ أي أراد بعمله القديم هدايتهم فوفقهم الإيمان والأعمال الصالحة حيث قال :﴿ وفريقا حق عليهم الضلالة ﴾ بمقتضى القضاء السابق وإنتصابه بفعل يفسره ما بعده أي أضل فريقا حق عليهم الضلالة﴿ إنهم ﴾ أي الفريق الثاني﴿ اتخذوا الشياطين ﴾ أي الكفار من الجن والإنس ﴿ الكافرين ﴾ أنصارا﴿ من دون الله ﴾ أي غير ﴿ يحسبون أنهم مهتدون ﴾ فيه دليل على أن الجهل ليس بعذر وأن الكافر المخطئ والمعاند سواء في استحقاق الذم والله أعلم.
روى مسلم عن ابن عباس قال : كانت امرأة تطوف بالبيت في الجاهلية وهي عريانة وعلى فرجها خرقة وهي تقول : اليوم يبدوا بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله فنزلت ﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾ ونزلت ( قل من حرم زينة الله )الآيتين، والمراد بالزينة ما يواري العورة من الثياب بإجماع أهل التفسير، قال : مجاهد ما يواري عورتك ولو عباءة وكذا قال : الكلبي، وروى البيهقي في هذه الآية عن ابن عباس أن المراد بها الثياب والمراد بالمسجد قيل : موضع السجود ولذا قيل : معناه خذوا ثوبكم عند كل مسجد لطواف أو صلاة، وعلى هذا قال : ابن همام الآية نزلت في الطواف تحريما لطواف العريان والعبرة وإن كان لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لكن لا بد أن يثبت الحكم في السبب أولا وبالذات لأنه المقصود به قطعا ثم غيره على ذلك الوجه، والثابت عندنا في الستر في الطواف الوجوب يعني لا على سبيل الاشتراط لصحة الطواف حتى لو طاف عريانا ثم وحكم بسقوطه وفي الصلاة الافتراض يعني الاشتراط حتى لا تصح بدونه، فالأوجه الاستدلال بالإجماع على الافتراض في الصلاة كما نقله غير واحد من أئمة النقل الإجماع النقل إلى أن حدث بعض المالكية فخالف كالقاضي إسماعيل وهو لا يجوز بعد تقرر الإجماع، والحديث عن عائشة يرفعه :( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) رواه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن خزيمة في صحيحه والظاهر عندي أن المسجد مصدر ميمي بمعنى السجدة أطلق على الصلاة تسمية الجزء على الكل كما في قوله تعالى :﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾ صلوا مع المصلين وقوله تعالى :﴿ فاقرءوا ما تيسر من القرءان ﴾ يعني صلوا ما تيسر من الصلاة فهذه الآية بعبارته يوجب ستر العورة عند كل صلاة خاصة، والبحث في سبيل النزول أن قوله تعالى :﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سواءتكم وريشا ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾ الآيات كلها نزلت حين كانت العرب في الجاهلية تطوف بالبيت عراة يقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها وطافت المرأة عريانة واضعة يدها على فرجها بل ذكر قصة آدم أيضا توطئة لذلك حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان، والآيات كلها ناطقة أن خلق اللباس للإنسان لأجل ستر عورته نعمة من الله تعالى وذلك هو التقوى، وكشف العورة وترك الستر فتنة وإضلال من الشيطان قد عمل أولا بأبيكم آدم وثانيا بكم وأنه فاحشة تفعله العرب تقليدا بآبائهم وافتراء على الله تعالى والله تعالى لا يأمر بالفحشاء لكن فريقا من الناس هداهم وفريقا حق عليهم الضلالة، فهذه الآيات تدل على أن كشف العورة فاحشة حرام مطلقا قبيح مستهجن طبعا وعقلا وشرعا فارتكابها في الطواف وغير ذلك من العبادات أقبح وأفحش وأشد حرمة بالطريق الأولى موجب للإثم، وما كانت العرب يدعون أن لبس الثياب في الطواف حرام وأكل اللحم والدسم في الحج حرام فهو باطل أنكر عليه سبحانه بقوله من حرم زينة الآية، وقوله إنما حرم ربي الفواحش ومنها كشف العورة لكن شيء من هذه الآيات لا تدل على اشتراط ستر العورة في الطواف ومن ثم قال : أبو حنيفة رحمه الله لو طاف عريانا ثم ويحكم بسقوطه، وقال : أكثر الأئمة لا يحكم بسقوطه لحديث أبي هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنهما بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل حجة الوداع بعام يوم النحر في رهط يؤذن في الناس أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ) متفق عليه، قالوا الطواف عريانا منهي عنه فلا يتأدى به الواجب كما لا يجوز قضاء الصوم في يوم النحر وقضاء الصلاة في وقت الطلوع والاستواء والغروب، وأما هذه الآية خذوا زينتكم عند كل مسجد يقتضي اشتراط ستر العورة في الصلاة وعدم جواز الصلاة بد منها لما ذكرنا أن كونه فرضا واجبا مطلقا وكون كشف العورة فاحشة حراما مطلقا ثبت قبل ذلك من الآيات، ولا مساس لهذه الآية بالطواف إلا إذا ضم معها قوله صلى الله عليه وآله وسلم :)( الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام ) رواه الترمذي والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ونزول هذه الآية في ضمن آيات نزلت في استقباح كشف العورة مطلقا وكون سبب نزولها طواف العرب عريانا لا يقتضي كون هذه الآية أيضا في الطواف فإن ما ورد في حادثة أو بعد سؤال يجب أن يفيد حكم تلك الحادثة وجواب ذلك السؤال ولا يجب أن لا يذكر حكما زائدا على ما ورد فيه ولا شك أن حكم الطواف عريانا ظهر بغير تلك الآية من الآيات فما أورده ابن همام من الإشكال غير وارد.
مسألة : ذكر في رحمة الأمة أن ستر العورة شرط الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، واختلف أصحاب مالك، فمنهم من قال : كما قال : الجمهور أنه من الشرائط مع القدرة على الستر فمن صلى مكشوف العورة مع القدرة على الستر فصلاته باطلة، ومنهم من قال : إنه واجب في نفسه ليس شرطا للصلاة فمن صلى مكشوفا العورة مع القدرة على الستر عامدا كان عاصيا لكن يسقط عنه الفرض، والمختار عند متأخره أصحابه أنه لا يصح الصلاة مع كشف العورة بحال وقد ذكر ابن الهمام إجماع الأمة على ذلك والخلاف المتأخر لا يرفع الإجماع المقدر.
فصل أفادت الآية على وجوب ستر العورة في الصلاة لكنه مجمل في مقدار العورة التي وجب سترها وجاء بيان ذلك من الأحاديث فنقول.
مسألة عورة الرجل بين السرة والركبة عند أبي حنيفة والشافعي، وعن مالك وأحمد رويتان، إحداهما ما قال : أبو حنيفة والثانية أنها القبل والدبر. احتجوا بحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزا خيبر وذكر الحديث بطوله وفيه ثم حسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإزار عن فخده حتى لأني أنظر إلى بياض فخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) رواه البخاري، وروى مسلم بلفظ انحسر الإزار على البناء للمفعول وكذا عند أحمد، وحديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسوى ثيابه ) الحديث رواه مسلم، وهذا الحديث ليس بحجة لمكان الترديد بقوله فخذيه أو ساقيه، لكنه عند أحمد بلفظ كاشفا عن فخذيه من غير ترديد، وكذا عند أحمد من حديث حفصة وأخرج الطحاوي والبيهقي عن حفصة بنت عمر قالت كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندي يوما وقد وضع ثوبه عن فخذيه فدخل أبو بكر فذكر الحديث نحوه، وحديث أبي موسى ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قاعدا في مكان فيه ماء قد انكشف عن ركبته أو ركبتيه فلما دخل عثمان غطاها ) رواه البخاري.
واحتج الجمهور بحديث علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( لا تبرز فخدك ولا تنظر إلى فخد حي ولا ميت ) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم والبزار، وصحح بعض العلماء هذا الحديث وهو حديث ابن جريج عن حبيب بن تابت عن عاصم بن ضمرة عنه، قال : الحافظ فيه انقطاع بين ابن جريج وحبيب، وقال : أبو حاتم في العلل أن الواسطة بينهما الحسن بن ذكوان وهو ضعيف وقال : لا يثبت لحبيب رواية عن عاصم فهذه علة أخرى، وقال : ابن معين : إن حبيبا لم يسمع من عاصم وأن بينهما رجلا ليس بثقة وبين البزار أن الواسطة هو عمرو بن خالد الوسطي، وحديث ابن عباس قال : مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رجل فخده خارجة فقال :( غط فخذك فإن الفخذ الرجل من عورته ) رواه الترمذي وأحمد والحاكم وصححه بعض العلماء وفي إسناده أبو يحيى القتات ضعيف، وحديث جرهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر على جرهد وفخذه مكشوفة في المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( يا جرهد غط فخذك فإن الفخذ عورة ) رواه أحمد وفيه زرعة مجهول، وحديث محمد بن جحش صلى الله عليه وآله وسلم( خمر فخذك يا معمر فإن الفخذ عورة ) رواه أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم في المستدرك، قال : الحافظ رجاله رجال الصحيح غير أبي كثير وقد روى عنه جماعة لكن لم أجد فيه تصريحا بتعديل أو جرح وحديث أبي أيوب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( ما فوق الركبتين من العورة وما أسفل السرة من العورة ) رواه الدارقطني وفي إسناده سعيد بن راشد وعباد بن كثير متروكان، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إذا زوج الرجل منكم عبده ) الحديث بطوله وفيه ( إنما تحت السرة إلى الركبة من العورة ) رواه الدارقطني وفيه سوار بن داود لينه العقيلي لكن وثقه ابن معين، ولا شك أن هذه الأحاديث لا يصادم شيئا منها ما تقدم من حديث كشف الفخذ لكن لما تعاضد بعضها ببعض وتلقته الأمة بالقبول أخذناه احتياطا، ومن هاهنا قال البخاري حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط، لأجل قوة حديث أنس وما في معناه قال أبو حنيفة العاري يصلي قاعدا واضعا يديه على قبله يوميء للركوع والسجود حيث قال : بترك القيام والركوع والسجود مع القدرة عليها إلى القعود.
والإيماء رعاية لستر العورة الذي فرض مطلقا وخارجها والله أعلم.
مسألة : الركبة عورة عند أبي حنيفة وقال : الشافعي وأحمد ليست بعورة لما تقدم من حديث أبي أيوب وعمرو بن شعيب، احتج أصحابنا بحديث علي رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( الركبة من العورة ) وفيه عقبة بن علقمة ضعفه أبو حاتم الرازي والنصر بن منصور، قال : أبو حاتم الرازي مجهول يروي أحاديث مناكير، وقال : ابن حبان لا يحتج به، قلنا : الركبة ملتقى عظم العورة وغيرها فاجتمع الحرام والحلال فقدمنا الحرمة احتياطا.
مسألة : المرأة الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها عند مالك والشافعي وأحمد وفي رواية عنهم إلا وجهها فقط كفاها فقط وكفاها من العورة، وأما القدمان فليستا من العورة عندهم وقال : أبو حنيفة إلا وجهها وكفيها وقدميها قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار ) وقد مر، وقال عليه السلام :( المرأة عورة ) رواه الترمذي من حديث ابن مسعود، وروى أبو داود مرسلا ( أن جارية إذا حاضت لم يصلح يرى منها إلا وجهها ويديها إلى المفصل ) وروى الدراقطني عن سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتصلي المرأة في درع وخمار وليس لها إزار ؟ قال( إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها ) وفيه عبد الرحمن بن عبد الله ضعفه يحيى، وقال : أبو حاتم لا يحتج به، والظاهر أنه غلط في رفع الحديث ورواه مالك وجماعة عن أم سلمة من قولها. مسألة قال في نزول النوازل نغمة المرأة عورة ولهذا قال : عليه السلام( التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ) قال ابن همام وعلى هذا لو قيل إن المرأة إذا جهرت بالقراءة في الصلاة فسدت كان متجها.
مسألة عورة الأمة كعورة الرجل مع بطنها وظهرها عند أبي حنيفة، وقال : مالك والشافعي هي كعورة الرجل وبه قال : أحمد، وقال : بعض أصحاب الشافعي كلها عورة إلا موضع التقليب منها هو الرأس والساعدان والساق، روى البيهقي عن نافع أن صفية بنت عبيد حدثته قالت : خرجت امرأة متخمرة بتحلية فقال عمر من هذه، فق
﴿ قل ﴾ يا محمد إنكار عليهم ﴿ من حرم زينة الله ﴾ أي الثياب وسائر ما يتجمل به ﴿ التي أخرج ﴾ أصولها كالقطن والكتاب من الأرض والصوف من ظهر الغنم والقز من الدود ﴿ لعباده ﴾ أي لأجل انتفاعهم وتزينهم وتجميلهم وأخرج ﴿ الطيبات ﴾أي المستلذات ﴿ من الرزق ﴾ من المآكل والمشارب يعني لم يحرمها الذي هو خالقها ومالكها ولا يقدر أحد غيره على التحريم والتحليل فما لهؤلاء الكفار يحرمون الثياب في الطواف واللحم والدسم في الحج والسوائب ونحو ذلك، وبهذه الآية يثبت أن الأصل في المطاعم والمشارب والملابس الحل ما لم يثبت تحريمها من الله تعالى﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ هي ﴾ أي الزينة والطيبات كائنة مخلوقة ﴿ للذين آمنوا في الحياة الدنيا ﴾ حتى يتمتعون بها ويشكرون الله تعالى عليها ويتقوون بها على عبادته وليست للكفار إلا تبعا للمؤمنين شاركهم الله تعالى فيها ابتلاء واستدراجا﴿ خالصة ﴾ قرأ نافع بالرفع على أنه خبر بعد خبر لهي والباقون بالنصب على أنه حال مقدرة يعني مقدرين الخلوص من التنغيص والغم ﴿ يوم القيامة ﴾ وأما في الدنيا فهي مشوبة بالغم والتنغيص أو المعنى مقدرين الخلوص لهم لا يشاركهم الكفار ﴿ كذلك نفصل الآيات ﴾ يعني ميزنا الحلال من الحرام ها هنا حيث أمرنا بإتيان الحلال وترك الحرام ونهينا عن الإسراف وإتيان الحرام كذلك نفصل سائر الأحكام ﴿ لقوم يعملون ﴾ أنه لا شريك لله تعالى أحد
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إنما حرم ربي ﴾ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها ﴿ الفواحش ﴾ أي ما تزيد قبحه﴿ ما ظهر منها ﴾ كطواف الرجل بالنهار عريانا﴿ وما بطن ﴾ كطواف النساء بالليل عريانا، وقيل : الزنا سرا وعلانية عن ابن مسعود يرفعه قال : لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدحة من الله فلذلك مدح نفسه ) ﴿ الإثم ﴾ أي ما يوجب الإثم يعني الذنب والمعصية تعميم بعد تخصيص، وقال الضحاك : الإثم الذنب الذي لا حد فيه وقال : الحسن : الإثم الخمر قال : الشاعر شربت الإثم حتى ضل عقلي كذلك الإثم يذهب بالعقول ﴿ والبغي ﴾ الظلم أو الكبر افراده بالذكر مبالغة أو المراد البغي على سلطان عادل﴿ بغير الحق ﴾ متعلق بالبغي موكد له معنى ﴿ وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به ﴾ أي بإشراكه ﴿ سلطانا ﴾ حجة فيه تهكم بالمشركين وتنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان﴿ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ في التحريم الحرث والأنعام والطواف عريانا وغير ذلك، وقال : مقاتل هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين
﴿ ولكل أمة أجل ﴾ عني لكل أمة من الكفار مدة ووقت معين في علم الله تعالى لنزول العذاب بهم وعيد لأهل مكة ﴿ فإذا جاء أجلهم ﴾ أي حان وقت عذابهم﴿ لا يستأخرون ﴾ ولا يتقدمون ذلك وإن سألوا العذاب لقومهم ﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو أتينا بعذاب أليم ﴾
﴿ يا بني آدم إما يأتينكم ﴾ ما زائدة زيدت لتأكيد الشرط ولذلك أكد فعلها بالنون ذكر الله سبحانه بحرف الشك للتنبيه على أن إتيان الرسل جائز غير واجب ولا يجب على الله شيء ﴿ رسل منكم ﴾ أي من بني آدم ﴿ بقصون ﴾ أي يقرؤون﴿ عليكم آياتي ﴾ من الكتب صفة لرسل وجواب الشرط ﴿ فمن اتقى ﴾ منكم يعني من الشرك وتكذيب الرسل ﴿ وأصلح ﴾ عمله أي أخلصه لله تعالى وأتى به كما أمر ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ حين يخاف الناس في القبر ويوم القيامة ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ إذا حزنوا في النار
﴿ والذين كذبوا بآيتنا ﴾ منكم ﴿ استكبروا عنها ﴾ أي عن الإيمان بها﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ أدخل الفاء في الجزاء الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد
﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ أي جعل له شريكا أو قال : اتخذ الله صاحبا وولدا أو قال : الله أمرنا بتحريم السوائب والطواف عريانا ونحو ذلك، واللفظ يشتمل الروافض الذين يفترون على الله وعلى رسوله يقولون أنزل الله في القرآن آيات كثيرة ألقاها الصحابة من القرآن ﴿ أو كذب بآيته ﴾ المنزلة والتردد لمنع الخلو ﴿ أولئك ينالهم ﴾ في الدنيا ﴿ نصيبهم من الكتاب ﴾ أي حقهم مما كتب لهم في الصحف الملائكة الموكل بهم من الأرزاق والتمتعات والأعمال والأكساب والمصائب والآجال، وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ ﴿ حتى إذا جاءتهم رسلنا ﴾ يعني ملك الموت وأعوانه ﴿ يتوفونهم ﴾ يقبضون أرواحهم ﴿ قالوا ﴾ جواب إذا يعني قالت الرسل للكفار﴿ أين ما كنتم تدعون من دون الله ﴾ ما موصولة وصلت بأين الاستفهامية في خط المصحف وكان حقها الفصل، والاستفهام للتوبيخ يعني أين الذين كنتم تعبدونها من دون الله من الأصنام وغيرها ﴿ قالوا ﴾ أي الكفار﴿ ضلوا ﴾ أي غابوا ﴿ عنا وشهدوا ﴾ يعني الكفار اعترفوا عند معاينة العذاب ﴿ على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾.
﴿ قال ﴾ الله تعالى يوم القيامة أو ملك الموت حين التوفي﴿ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ ﴾أي كائنين في جملة أمم ﴿ قد خلت ﴾ مضت ﴿ خلت قلبكم من الجن والإنس ﴾ يعني الكفار الأمم الماضية من الفريقين ﴿ في النار ﴾ متعلق بادخلوا ﴿ كلما دخلت ﴾ النار﴿ أمة ﴾ كافرة من الأمم ﴿ لعنت أختها ﴾ في الدين التي ضلت هذه الأمة بإقتدائها فيلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى ويلعن الأتباع القادة ﴿ حتى إذا اداركوا ﴾ أي تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا ﴿ فيها ﴾ أي في النار ﴿ جميعا قالت أخراهم ﴾ دخولا وهم الأتباع ﴿ لأولاهم ﴾ دخولا وهم القادة فإنهم يدخلون النار أولا، وقال ابن عباس آخر كل أمة لأولها زمانا الذين شرعوا ذلك الدين الباطل ﴿ ربنا هؤلاء ﴾ يعني القادة ﴿ أضلونا ﴾ عن الهدى ﴿ فأتهم عذابا ضعفا ﴾ أي مضاعفا يعني مثلي ما نحن فيه ﴿ من النار ﴾ لأنهم ضلوا وأضلوا ﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ لكل ﴾ منكم ومنهم ﴿ ضعف ﴾ ما يرى الآخر فإن للعذاب ظاهرا وباطنا وكل يدرك من الآخر الظاهر دون الباطن فيقدر أنه ليس له العذاب الباطن أو المعنى لكل ضعف ما يقتضيه ضلاله، أما القادة فبكفرهم وتضليلهم وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم أهل الباطل دون أهل الحق ﴿ ولكن لا تعلمون ﴾ أي لا يعلم أحد منكم ما لغيره من العذاب قرأ أبو بكر عن عاصم بالياء للغيبة على الانفصال والباقون بالتاء على الخطاب
﴿ وقالت أولاهم لأخراهم ﴾ عطفوا كلامهم على جواب الله تعالى لآخرهم ورتبوا عليه ﴿ فما كان لكم علينا من فضل ﴾ يعني فقد ثبت بقول الله تعالى أن لا فضل لكم علينا وكل متساوون في استحقاق العذاب ﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسون ﴾ يحتمل أن يكون من قول القادة أو من قول الله تعالى للفريقين
﴿ إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها ﴾ أي عن الإيمان بها ﴿ لا تفتح ﴾ قرأ أبو عمرو بالتاء لتأنيث الفاعل لكونه جمعا بالتخفيف من المجرد وحمزة والكسائي بالياء لأن الفاعل مؤنث غير حقيقي ومفعول من المجرد أيضا، والباقون بالتاء كأبي عمرو والتشديد من التفعيل لكثرة الأبواب ﴿ لهم أبواب السماء ﴾ لأدعيتهم ولا لأعمالهم ولا لأرواحهم، وقال : ابن عباس لأرواحهم لأنها خبيثة لا يصعد بها بل يهوي بها إلى سجين. عن البراء بن عازب في حديث طويل رواه مالك والنسائي والبيهقي في البعث والنشور قوله صلى الله عليه وآله وسلم في ذكر العبد الكافر ( أن الملائكة سود الوجوه إذا قبضت نفسه جعلوها في المسوح ويخرج منها كنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الخبيث فيقولون فلان بن فلان أقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ﴾ فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا ثم قرأ ﴿ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فنخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ﴾ الحديث ( ١ ) وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجه نحوه ﴿ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ﴾ أي حتى يدخل ما مثل في عظم الجثة وهو البعير فيما هو في مثل ضيق المنفذ وهو ثقبة الإبرة وذلك لا يكون فكذا ما علق به بدل ذلك على تأكيد المعنى يعني لا يدخلون أبدا ﴿ وكذلك ﴾ أي مثل ذلك الجزاء القطيع يعني اليأس من رحمة الله ﴿ نجزي المجرمين ﴾
﴿ لهم ﴾ أي للمجرمين ﴿ من جهنم مهاد ﴾ فراش ﴿ ومن فوقهم غواش ﴾ لحف منها والتنوين عوض من الياء المحذوفة عند سيبوبه وللصرف عند غيره، يعني النار محيط بهم من كل جانب نظيره قوله تعالى ﴿ من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ﴾ ( ٢ ) ﴿ وكذلك نجزي الظالمين ﴾ ذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على أنه أعظم من الإجرام
ثم أورد الله سبحانه وعد المؤمنين بعد وعيد الكفار كما هو عادته فقال ﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ مبتدأ ولما كان الجمع المحلى اللام من صيغ العموم موهما لاختصاص الوعد بمن عمل جميع الصالحات أورد معترضا بين المبتدأ والخبر لدفع ذلك التوهم قوله ﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ أي بقدر طاقتها بحيث لا تحرج ولا يشق عليها ﴿ أولئك أصحاب الجنة ﴾ خبر للمبتدأ ﴿ هم فيها خالدون ﴾
﴿ ونزعنا ﴾ أي أخرجنا صيغة ماض وضع موضع المستقبل تحقيقا لوقوعه ﴿ ما في صدورهم من غل ﴾ أي حسد وعداوة كانت بينهم في الدنيا حتى لا يكون بينهم إلا التواد لا بحسد بعضهم على بعض على شيء خص الله به بعضهم، أخرج سعيد بن منصور وأبو نعيم في الفتن وابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن علي رضي الله عنه أنه قال : إني أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، قلت : قال : ذلك علي رضي الله عنه لما وقع بينهم فساد ظن في فتنة شهادة عثمان رضي الله عنه. أخرج البخاري والإسماعيلي في مستخرجه واللفظ له عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى ﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ( ٤٧ ) ﴾ قال :( يخلص المؤمنون من النار فيجسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا وقفوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدي بمنزله في الجنة منه بمنزلة في الدنيا ) قال : قتادة راوي الحديث كان يقال ما يشبه إلا أهل الجمعة انصرفوا عن جمعتهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه آله وسلم قال :( يحبس أهل الجنة بعدما يجوزون الصراط يؤخذ لبعضهم من البعض ظلماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة ليس في قلوب بعضهم على بعض غل ) قال : القرطبي هذا في حق من لم يدخل النار أما من دخلها ثم أخرج منها فإنهم لا يحاسبون بل إذا خرجوا ذهبوا على أنهار الجنة، قال : ابن حجر قوله يخلص المؤمنون من النار أي ينجون من السقوط بمجاوزة الصراط. واختلف في القنطرة المذكورة ؟ فقيل إنه تتمة الصراط وهي طرفه الذي يلي الجنة، وقيل : الصراط آخر وبه جزم القرطبي، وقال : السيوطي والأول هو المختار، قلت : وذلك لأن القصاص إنما يكون بالحسنات والسيئات فإنه ليس ثمة دينار ولا درهم إن كان له يعني للظالم عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمة وإن لم يكن له حسنة أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه، كذا روى البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعا وعند مسلم والترمذي عنه مرفوعا ﴿ فإن فنيت حسناته قبل أن يقتص ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فتطرح عليه ثم طرح في النار ) قلت : والطرح في النار لا يتصور بعد مجاوزة الصراط بتمامه والله أعلم، قلت : وليس نزع الغل من الصدر منحصرا في صورة القصاص، ودفع الحسنات والسيئات من البعض إلى البعض بل قد يكون بغير ذلك، كما قال : البغوي، قال : السدي في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة إذا سبقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من أحدهما فينزع ما في صدروهم من غل وهو الشراب الطهور ومن الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم أن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا { تجري من تحتهم ﴾ من تحت منازلهم بعدما دخلوا الجنة ﴿ الأنهار ﴾ حال من هم في صدورهم فيها بمعنى الإضافة ﴿ وقالوا ﴾ أي أهل الجنة ﴿ الحمد لله الذي هدانا لهذا ﴾ أي إلى هذا يعني الجنة، وقال : سفيان الثوري معناه هدانا لعمل ثوابه هذا ﴿ وما كنا لنهتدي ﴾ اللام للجحود لتأكيد النفي كما في قوله تعالى﴿ وما كان الله ليعذبهم ﴾ بعدها أن المصدرية مقدرة والمصدر بمعنى الفاعل أو بتقدير المضاف خبر لكان تقديره ما كنا ذا اهتدء أو مهتدين﴿ لولا أن هدانا الله ﴾ وجواب لولا محذوف دل عليه ما قبله يعني لولا هداية الله ما كنا مهتدين، قرأ ابن عامر ما كنا بغير واو على أنها صبية للأولى والباقون بالواو على أنه حال من المفعول هدانا﴿ لقد جاءت رسل ربنا بالحق ﴾ فاهتدينا بإرشادهم يقولون ذلك تبجحا حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا ﴿ ونودوا ﴾ أي أهل الجنة قيل : هذا النداء إذا رأوا الجنة من بعيد، قيل : هذا النداء يكون في الجنة واختاره السيوطي في البدور السافرة﴿ أن تلكم الجنة ﴾ أن في المواضع الخمسة هي المفسرة لأن المناداة والتأذين بمعنى القول وجاز أن يكون مخففة ﴿ وأرثتموها ﴾ أعطيتموها ﴿ بما كنتم تعملون ﴾ أي بسبب أعمالكم الجملة حال من الجنة والعامل فيه معنى الإشارة أو خبر والجنة صفة تلكم، قال : صاحب المدارك سماها ميراثا لأنها لا تستحق بالعمل بل هي محض فضل الله تعالى وعده على الطاعات كالميراث من الميت ليس بعوض عن شيء بل هو وصلة خالصة، أخرج مسلم عن أبي سعيد الخداري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه آله وسلم قال :( ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ولكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنغموا فلا تبأسوا أبد فذلك قوله تعالى :﴿ ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ﴾ وأخرج ابن ماجة والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم :( ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أولئك الوارثون )
﴿ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا ﴾ من الثواب ﴿ حقا ﴾ متحققا في الواقع حال﴿ فهل وجدتم ما وعد ربكم ﴾ من العذاب﴿ حقا ﴾ قالوا ذلك تبجحا بحالهم وشماتة بأصحاب النار تقديره وعدكم حذف كم لدلالة وعدنا ربنا عليه أو يقال لم يقل وعدكم كما قال : وعدنا لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأمره وعده مخصوصا بهم كالبعث والحساب ونعيم والجنة ﴿ قالوا نعم ﴾ قرأ الكسائي بكسر العين حيث وقع والباقون بفتحها وهما لغتان ﴿ فأذن مؤذن ﴾ أي نادى مناد قيل : هو صاحب الصور ﴿ بينهم ﴾ أي بين الفريقين بحيث أسمع الفريقين﴿ أن لعنة الله ﴾ قرأ البزي عن ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي بتشديد أن ونصب اللعنة والباقون بتخفيفها والرفع ﴿ على الظالمين ﴾
﴿ الذين يصدون ﴾ أي يمتنعون أو يمنعون الناس﴿ عن سبيل الله ﴾ أي دينه صفة للظالمين مقررة أو ذم مرفوع أو منصوب ﴿ ويبغونها عوجا ﴾ زيفا وميلا عما هو عليه مفعول ثان ليبغون أي يطلبون لها الإعوجاج والتناقض، قال : ابن عباس يصلون لغير الله ويعظمون ما لم يعظمه الله، قلت : تقديره الذين كانوا يصدون عن سبيل الله لأن ذلك كان منهم في الدنيا لا حين يقال لهم ذلك والعوج بالكسر في المعاني والأعيان ما لم يكن منتصبة كالدين والأرض وبالفتح في الأعيان المنتصبة كالحائط والرمح ونحوهما، ﴿ وهم بالآخرة كافرون ﴾ بالله أو الآخرة.
﴿ وبينهما ﴾ أي بين الجنة والنار وقيل : بين أهل الجنة وأهل النار﴿ حجاب ﴾ وهو سور الذي ذكره الله تعالى في سورة الحديد :﴿ فضرب بينهم بسور له باب ﴾ وقد ذكر هناك تفسيره ﴿ وعلى الأعراف ﴾ أي على الأعراف الحجاب يعني على أعالي السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الفرس، أخرج هناد من طريق مجاهد عن ابن عباس قال : الأعراف سور كعرف الديك، وقيل : العرف ما ارتفع من الشيء فإنه يكون لظهوره أعرف من غيره ﴿ رجال ﴾ اختلف الأقوال في هؤلاء الرجال أوجها أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئات منعت حسناتهم من دخول النار وتقاصرت من دخول الجنة كذا أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله عنه صلى الله عليه آله وسلم، وأخرج ابن جرير والبيهقي من طريق أبي طلحة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم :( الأعراف سور بين الجنة والنار وأصحابه رجال كانت لهم ذنوب عظام حبسهم أمر الله يقومون على الأعراف يعرفون أهل النار لسواد الوجوه وأهل الجنة ببياض الوجوه فإذا نظروا إلى أهل الجنة طعموا أن يدخلوها وإذا نظروا إلى النار تعوذوا بالله تعالى منها فأدخلهم الله الجنة ) فذلك قوله تعالى ﴿ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ﴾ يعني أصحاب الأعراف ﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وأخرج هناد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في تفاسيرهم من طريق عبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال : الأعراف السور الذي بين الجنة والنار وأصحاب الأعراف المحبوسون بذلك حتى إذا بدأ الله تعالى أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له الحياة حافتاه الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فألقوا فيه حتى يصلح ألوانهم وتبدوا في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تعالى، فقال تمنوا ما شيئتم فيتمنون حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم : لكم الذي تمنيتم ومثله وسبعون ضعفا فيدخلون الجنة في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها يسمون مساكين أهل الجنة. وأخرج أبو الشيخ من طريق ابن المنكدر عن رجل من مزينة أن النبي صلى الله عليه آله وسلم : سئل عن الأعراف فقال :( هم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم فقتلوا في سبيل الله وهم لآبائهم عاصون فمنعوا الجنة بمعصية آبائهم ومنعوا النار لقتلهم في سبيل الله ) وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري قال : سئل رسول الله صلى الله عليه آله وسلم عن أصحاب الأعراف ؟ فقال :( هم رجال قتلوا في سبيل الله وهم عصاة لآبائهم فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار ومنعتهم المعصية أن يدخلوا الجنة وهم على سور بين الجنة والنار حتى تذبل لحومهم وشحومهم حتى يفرغ الله من حساب خلقه ولم يبق غيرهم تغمد الله برحمته فأدخلهم الجنة برحمته ) وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو الشيخ في تفاسيرهم والطبراني والحارث بن أسامة في مسنده والبيهقي من عبد الرحمن المزني قال : سئل رسول الله صلى الله عليه آله وسلم عن أصحاب الأعراف ؟ فقال :( هم أناس قتلوا في سبيل الله ) قلت : لعل المراد بهذا الذين قتلوا في سبيل الله الذين هم عصاة لآبائهم أفراد ممن استوت حسناتهم وسيئاتهم فذكرهم على وجه التمثيل لا على وجه الحصر لما مر من الأحاديث، ولما أخرج أبن أبي داود وابن جرير عن ابن عمر بن حزم بن جرير قال : سئل رسول الله صلى الله عليه آله وسلم، فقال :( هم أخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة وأنتم عتقاء فارعوا من الجنة حيث شئتم ) قال : السيوطي مرسل حسن وأخرج ابن مردويه وأبو الشيخ من طريقين عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله صلى الله عليه آله وسلم عمن استوت حسناتهم وسيآتهم ؟ فقال :( أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ) وأخرج البيهقي عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم :( يجمع الله الناس بينهم يوم القيامة فيؤمن بأهل الجنة الجنة وبأهل النار النار ثم قال : لأصحاب ما تنتظرون الجنة خطاياهم فادخلوا بمغفرتي ورحمتي ) وأخرج سعيد بن المنصور وابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي وهناد وحذيفة قال : أصحاب الأعراف قوم قصرت سيآتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى يقضي الله تعالى بين الناس فبينما هم كذلك إذا طلع عليهم ربهم فقال لهم قوموا فادخلوا الجنة فإني غفرت لكم، وأخرج عبد الرزاق عن حذيفة قال : أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم على سور الجنة والنار وهم على طمع من دخول الجنة وهم داخلون، وروى البغوي : بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود قال : يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرأ قال : الله عز وجل ﴿ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون( ٨ ) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ﴾ ثم قال : إن الميزان يخف حسناته وسيئاته بمثقال حبة ويرجح قال : ومن حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به أيديهم بإيمانهم ويعلى كل عبد يومئذ نورا فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة فلما رأى أهل الجنة ما بقي المنافقون قالوا ربنا أتمم لنا نورنا، فأما أصحاب الأعراف فإن النور لم ينزع من بين أيديهم ومنعهم سيئاتهم أن يمشوا فبقي في قلوبهم الطمع إذ لم ينزع من بين أيديهم، فهناك يقول الله عز وجل لم يدخلوها وهم يطمعون وكان الطمع للنور الذي بين أيديهم ثم أدخلوا الجنة وكانوا آخر أهل الجنة دخولا، وأما ما أخرج هناد عن مجاهد قال : أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء والأعراف سور بين الجنة والنار، فلعل المراد من القوم الصالحين المؤمنين الفقهاء العلماء ارتكبوا السيئات بحيث تساوت حسناتهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم، وأما ما أخرج البيهقي عن أبي مجلز أنه قال : الأعراف مكان مرتفع عليه رجال من الملائكة يعرفون أهل الجنة بسيماهم وأهل النار بسيماهم فليس بشيء إذ لا يقال للملائكة رجال وقد سماهم الله تعالى برجال وأيضا يرده ما روينا من الأحاديث، وأما ما قال : بعضهم إنهم رجال من الأنبياء أو الأولياء أو الشهداء فيطلعون على أهل الجنة وأهل النار جميعا ويطلعون أحوال الفريقين فيرده ما روينا من الأحاديث وما سيتلى عليك من الآيات، وأما ما قال : بعضهم إنهم أطفال المشركين يرده قوله تعالى رجال وما ذكرنا من الأحاديث ﴿ يعرفون ﴾ أي أصحاب الأعراف ﴿ كلا ﴾ أي كل فريق من المؤمنين والكافرين ﴿ بسيماهم ﴾ أي بعلامتهم يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم وأهل النار بسواد وجوههم مشتق من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة أو وسم على القلب كالجاه من الوجه ﴿ ونادوا ﴾ أصحاب الأعراف ﴿ أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾ يعني سلموا عليهم إذا نظروا إليهم ﴿ لم يدخلوها ﴾ يعني أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة ﴿ وهم يطمعون ﴾ دخلوها حيث خلصوا من النار، قال : الحسن لم يطعمهم إلا للكرامة يريدها بهم، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب كأن سائلا سأل عن أصحاب الأعراف فقال لم يدخلوها وهم يطمعون، وجاز أن يكون حالا من الضمير المرفوع في نادوا أو صفة لرجال، ومن قال : إن أصحاب الأعراف الأنبياء والملائكة قال : هذه الجملة حال من مفعول نادوا يعني أصحاب الجنة
﴿ وإذا صرفت أبصارهم ﴾ أي أبصار أصحاب الأعراف فيه إشارة إلى أن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيدوا ﴿ تلقاء ﴾ ظرف أي إلى جانب﴿ أصحاب النار ﴾ ورأوا ما هم فيه من العذاب تعوذوا بالله وفزعوا إلى رحمته﴿ قالوا ربنا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾ يعني لا تجعلنا في النار مع الكافرين، سياق الآية تدل على أن أصحاب الأعراف في خوف ورجاء وذلك مقتضى استواء حسناتهم ولا يتصور ذلك في الأنبياء والشهداء والصلحاء الذين لا خوف عليه ولا هم يحزنون
﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا ﴾ كانوا عظماء في الدنيا من الكفار ﴿ يعرفونهم بسيماهم قالوا ﴾ أي أصحاب الأعراف بيان لنادى، ﴿ ما أغنى عنكم جمعكم ﴾ أي كثرتكم وأعوانكم وأولادكم وجمعكم المال﴿ وما كنتم تستكبرون ﴾ عن الحق أو على الخلق
قال : الكلبي ينادون على السور يا وليد بن مغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزءون بهم مثل سلمان وصهيب وخباب وبلال وأشباههم فيقول أصحاب الأعراف لهؤلاء الكفار ﴿ أهؤلاء ﴾ يعني هؤلاء الضعفاء ﴿ الذين أقسمتم ﴾ وحلفتم ﴿ لا ينالهم الله برحمة ﴾أي حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة ثم يقال : لأهل الأعراف ﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ قلت : وجاز أن يكون هذا من تتمة كلام أصحاب الأعراف يعني هؤلاء الضعفاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة وقد قيل لهم ادخلوا الجنة الآية، قال : البغوي : وفيه قول آخر وهو أن أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النار قالوا قال لهم أهل النار إن دخل أولئك الجنة فأنتم لم تدخلوها فيعيرنهم ويقسمون أنهم يدخلون النار فيقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصراط لأهل النار هؤلاء يعني أصحاب الأعراف الذي أقسمتم يا أهل النار إنه لا ينالهم رحمة الله ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون فيدخلون الجنة، قال : البغوي : قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج وقالوا : يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فنظروا إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم ولم يعرفوا أهل الجنة أهل النار بسواد وجههم
﴿ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ﴾ بأسمائهم وأخبروهم بقراباتهم ﴿ أن أفيضوا ﴾ أي صبوا ﴿ علينا من الماء أو مما رزقكم الله ﴾ من سائر الأشربة ليلائم الإضافة أو من طعام الجنة فهو من قبيل علفتها تبنا وماء باردا ﴿ قالوا يعني أصحاب الجنة { إن الله حرمهما ﴾أي الماء والطعام﴿ على الكافرين ﴾ قال : البيضاوي معناه منعهما عنهم منع المحرم على المكلف، وقال : في المدارك هو تحريم منع كما في قوله :﴿ وحرمنا عليه المراضع ﴾ قلت ومنه قوله تعالى :﴿ وحرام على قرية أهلكنها أنهم لا يرجعون( ٩٥ ) ﴾ وأخرج ابن أبي الدنيا والضياء كلاهما في صفة النار عن زيد بن رفيع أن أهل النار إذا دخلوا النار عكوا الدموع زمانا ثم بكوا الفيح زمانا فيقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء في الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به فيعرفون به أصواتهم يا أهل الجنة يا معشر الآباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشا وكنا طول الموقف عطاشا ونحن اليوم عطاشا فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله فيدعون أربعين لا يجيبهم ثم أنتم ماكثون فيئسون من كل خير، وأخرج ابن جرير وابن أبي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال : ينادي الرجل أخاه فيقول يا أخي أغتني فإني قد أحرقت فيقول إن الله حرمها على الكافرين
﴿ الذين اتخذوا ﴾ مجرور وصفا للكافرين أو مرفوع أو منصوب على الذم ﴿ دينهم لهوا ولعبا ﴾ بتحريم البحيرة وأخواتها والمكاء والتصدية حول البيت والطواف عريانا وأكل الميتة والاستسقاء بالأزلام وغير ذلك من الأمور التي كانوا يفعلونها في الجاهلية وقيل : معناه اتخذوا عيدهم لهوا ولعبا، قال : البيضاوي اللهو صرف الهم بما لا يحسن أن يصرف به واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به ﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ ونسوا الآخرة وزعموا أن لا حياة إلا الحياة الدنيا ولا الخير ولا الشر إلا فيها ﴿ فاليوم ﴾ يوم القيامة﴿ ننساهم ﴾ نتركهم ترك الناسي في النار﴿ كما نسوا ﴾ أي نسيانا كنسيانهم ﴿ لقاء يومهم هذا ﴾حتى تركوا العمل بما ينفعهم يومهم هذا﴿ وما كانوا ﴾ كما كانوا ﴿ بآياتنا يجحدون ﴾ يعني ككونهم جاحدين بآياتنا منكرين أنها من عند الله.
﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ ﴾ يعني القرآن ﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾ بينا معانيه ميزنا حلاله وحرامه ومواعظه وقصصه وأوضحنا العقائد الحقة من الباطلة﴿ عَلَى عِلْمٍ ﴾عالمين بوجه تفضيله حتى جاء حكيما أو عالمين بمصالحهم فهو حال من فاعل فصلناه أو مشتملا على علم فهو حال من مفعوله﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ حال من مفعول فصلناه
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ ﴾ أي هل ينتظرون في الإيمان بالقرآن ﴿ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ﴾ يعني إلا ما يؤل إليه أمره من تبين صدفه وظهور ما ينطق به من الوعد والوعيد، قال : مجاهد جزاءه﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ أي جزاءه وما يؤل إليه أمرهم وذلك يوم موتهم أو يوم القيامة ﴿ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ ﴾ أي تركوه ترك الناسي ولم يؤمنوا به﴿ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ قد تبين لهم أنهم جاؤا بالحق فاعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف ﴿ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدّ ﴾ عطف على جملة قبلها داخلة معها في حكم الاستفهام كأنه قيل : فهل لنا من شفعاء أو نرد، ورافعه وقوعه موقعا يصلح للاسم كقولك ابتداء هل يضرب زيد أو عطف على تقديرها، يعني هل يشفع لنا شافع أو هل نرد إلى الدنيا ﴿ فَنَعْمَلَ ﴾جواب للاستفهام الثاني ﴿ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ نوحد الله ونترك الشرك والمعاصي﴿ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾ بصرف أعمارهم في الكفر ﴿ وَضَلَّ ﴾ وبطل واضمحل ﴿ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أن الله تعالى أمرهم به أو في ادعاء الشريك
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ أي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، وقيل : ستة أيام كأيام الآخرة كل يوم ألف سنة، قال سعيد بن جبير كان الله عز وجل قادرا على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة فخلقهن في ستة أيام تعليما لخلقه التثبيت والتأني في الأمور وقد جاء في الحديث ( التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان ) رواه البيهقي في شعب الإيمان مرفوعا عن أنس ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ قال : البغوي : أولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء وأما أهل السنة يقولون الاستواء عللا العرش صفة الله تعالى بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل، سأل رجل مالك بن أنس عن قوله تعالى :﴿ الرحمن على العرش استوى ( ٥ ) ﴾ كيف استوى فأطرق رأسه مليا ثم قال : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج. وروى عن سفيان الثوري والاوزاعي والليث بن سعيد وسفيان بن عيينة وعبد الله وغيرهم من علماء أهل السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة أمروها كما جاءت بلا كيف، والعرش في اللغة سرير الملك، وهو جسم عظيم من عظائم المخلوقات كريم على الله تعالى لاختصاصه بأنواع من التجليات ولذا سمي بعرش الرحمن وأضيف إليه تعالى تشريفا وتكريما كما أضيف إليه الكعبة وسمي بيت الله، وقد ذكرنا فيه من الأخبار في آية الكرسي في سورة البقرة﴿ يغشى الليل النهار ﴾ أي يغطيه به ولم يذكر عكسه للعم به أو لأن اللفظ يحتملهما، وقال : البغوي : فيه حذف ويغشى النهار الليل ولم يذكر لآلة الكلام عليه، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب يغشى بالتشديد ها هنا وفي سورة الرعد للدلالة على التكرير والباقون بالتخفيف ﴿ يَطْلُبُهُ ﴾ أي يعقبه فإن أحدهما إذا كان يعقب الآخر ويخلفه فكأنه يطلبه ﴿ حَثِيثًا ﴾ أي سريعا بلا مهلة وهو صفة مصدر محذوف أي طلبه حثيثا أو حال من الفاعل بمعنى حاثا أو المفعول بمعنى محثوثا﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ ﴾ أي مذللات﴿ بِأَمْرِهِ ﴾ بقضائه وتصريفه قرأ ابن عامر برفع الأربعة على الابتداء والخبرية والباقون بنصب الثلاثة بالعطف على السماوات ونصب مسخرات على الحال، وكذلك في سورة النحل ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ ﴾ جميعا لا خالق غيره ﴿ وَالأَمْرُ ﴾ كله بيده يحكم ما يريد لا يجوز لأحد الاعتراض عليه، قالت الصوفية : المراد بالخلق والأمر عالم الخلق يعني الجسمانية العرش وما تحته من السماوات والأرض وما بينهما وأصولها العناصر الأربعة النار والهواء والماء والتراب ويتولد منها النفوس الحيوانية والنباتية هي أجسام لطيفة سارية في أجسام كثيفة، وعالم الأمر يعني المجردات من القلب والروح والسر والخفي والأخفى التي هي فوق العرش سارية في النفوس الإنسانية والملكية والشيطانية سريان الشمس في المرأة سميت بعالم الأمر لأن الله تعالى خلقها بلا مادة بأمره كن، قال : البغوي : قال : سفيان بن عيينة فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر﴿ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي تعالى الله بالوحدانية في الألوهية وتعظم بالتفرد في الربوبية مشتق من البركة بمعنى النماء والزيادة ومن لوازمه العظمة، قيل : معناه أن البركة يكتسب ويناول بذكره، وعن ابن عباس رضي الله عنهما معناه قال : جاء بكل بركة، وقال الحسن : البركة من عنده، وقيل : تبارك أي تقدس والقدس الطهارة، قيل : تبارك الله تعالى أي باسمه تبرك في كل شيء، قال : المحققون معنى هذه الصفة ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال وأصل البركة الثبوت ومنه البركة ويقال تبارك الله ولا يقال على الله المبارك والمبارك توفيقا على السمع
﴿ ادعوا ربكم ﴾ يعني أذكروه واعبدوه واسألوا منه حوائجكم ﴿ تضرعا ﴾ حال من فاعل ادعوا أي ذوي تضرع أو متضرعين تفعل من الضرع من ضرع الرجل ضراعه ضعف وذل فهو ضارع وضرع وتضرع أظهر الضراعة، في القاموس ضرع إليه يثلث ضرعا محركة وضراعة خضع وذل واستكان، ﴿ وخفية ﴾ قرأ أبو بكر بكسر الخاء والباقون بالضم أي ذوي إخفاء أو مخفين فإن الإخفاء دليل الإخلاص وأبعد من الرياء أعلم أن الذكر مطلقا عبادة سواء كان جهرا إذا لم يخالطه الرياء أو سرا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم :( يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ) متفق عليه، فإن هذا الحديث يفيد ذكر الجهر والخفي كليهما، وزعم بعض الناس أن هذا الحديث يدل على أفضلية الجهر من الخفي وليس بشيء إذ لا مزية لذكر الله عبده في ملأ على ذكره إياه في نفسه بل نفسه بل الأمر على العكس ويدرك ذوق هذا الكلام من ذاق كأس العشق وقوله تعالى :﴿ فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ﴾ ليس في التشبيه في الجهر بل في إكثار الذكر، ثم أجمع العلماء على أن الذكر سرا هو الأفضل والجهر بالذكر بدعة إلا في مواضع مخصوصة مست الحاجة فيها إلى الجهر به كالأذان والإقامة وتكبيرات التشريق وتكبيرات الانتقال في الصلاة للإمام والتسبيح للمقتدي إذا ناب نائبة والتلبية في الحج ونحو ذلك، ذكر ابن الهمام في حواشي الهداية أن أبا حنيفة أخذ في تكبيرات التشريق بقول ابن مسعود( أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر ) الحديث رواه ابن أبي شيبة والصاحبان أخذا بقول علي رضي الله عنه أنه كان يكبر بعد الفجر يوم العرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق رواه ابن أبي شيبة، وكذا روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة بسنده عنه، فقال ابن الهمام من جعل الفتوى على قولهما فقد خالف مقتضى الترجيح فإن الخلاف فيه مع رفع الصوت لا في نفس الذكر، والأصل في الأذكار الإخفاء والجهر بدعة فإذا وقع التعارض في الجهر يرجح الأقل، ويدل على كونه ذاكر السر أفضل ومجمعا عليه من الصحابة من تبعهم قول الحسن أن بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوتا إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله سبحانه وتعالى قوله :﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ﴾ وأن الله ذكر عبدا صالحا ورضي فعله، فقال :﴿ إذ نادى ربه نداء خفيا( ٣ ) ﴾ وأيضا يدل على فضل الذكر الخفي حديث سعد بن أبي وقاص قال : رسول الله صلى الله عليه آله وسلم ( خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي ) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي في شعب الإيمان، وحديث أبي موسى قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه آله وسلم خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير فقال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم :( اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا ) رواه البغوي، قلت : هذا الحديث وإن كان دالا على أفضلية الذكر الخفي لكن قوله( اربعوا على أنفسكم ) يدل على النهي عن الجهر والأمر بالإخفاء إنما هو شفقته لا لعدم جواز الجهر أصلا وكذا حديث ( خير الذكر الخفي ).
فصل اعلم أن الذكر على ثلاثة مراتب : أحدها الجهر ورفع الصوت بها وذلك مكروه إجماعا إلا إذا دعت إليه داعية واقتضته حكمة فحينئذ قد يكون أفضل من الإخفاء كالأذن والتلبية ونحو ذلك، ولعل الصوفية الجشتية قدس الله تعالى أسرارهم اختاروا الجهر للمبتدئ لاقتضاء حكمة وهي طرد الشيطان ودفع الغفلة والنسيان وحرارة القلب واشتغال نائرة الحب بالرياضة ومع ذلك يشترط لذلك الاحتراز عن الرياء والسمعة، ثانيها الذكر باللسان سرا وهو المراد بقوله صلى الله عليه آله وسلم :( لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ) رواه الترمذي وابن ماجة، وروى أحمد والترمذي قيل :( أي الأعمال أفضل ؟ قال :( أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله ) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، قال : فيحفونهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، قال : فيسئلهم ربهم وهو أعلم بهم ما يقولون عبادي ؟ قال : يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال : فيقول هل رأوني ؟ قال : فيقولون لا والله ما رأوك، قال : فيقول كيف لو رأوني ؟ قال : فيقولون : لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا، قال : فيقول فما يسئلون ؟ قالوا : يسئلونك الجنة، قال : فيقول وهل رأوها ؟ قال : فيقولون لا والله يا رب ما رأوها، قال : يقول فكيف لو رأوها ؟ قال : يقولون : لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة، قال : فمم يتعوذون ؟ قال : يقولون من النار، قال : فيقول فهل رأوها ؟ قال : يقولون لا والله يا رب ما رأوها، قال : يقول فكيف لو رأوها ؟ قال : يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة، قال : فيقول : فاشهدوا أني قد غفرت لهم، قال : يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس بينهم إنما جاء لحاجة قال : هم الجلساء لا يشقى جليسهم ) رواه البخاري ومسلم نحوه. ثالثها الذكر بالقلب والروح والنفس وغيرها الذي لا مدخل فيه للسان وهو الذكر الخفي الذي لا يسمعه الحفظة، أخرج أبو يعلي عن عائشة قالت قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( الفضل الذكر الخفي الذي لا يسمعه الحفظة سبعون ضعفا إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق لحسابهم وجاءت الحفظة بما حفظوا وكتبوا قال : لهم انظروا هل بقي له من شيء ؟ فيقولون : ما تركنا شيئا مما علمناه وحفظناه إلا وقد أحصيناه وكتبناه فيقول الله تعالى إن له حسنا لا تعلمه وأخبرك به هو الذكر الخفي ) قلت : وهذا الذكر هو الذي لا انقطاع لها ولا فتور فيها ﴿ إنه ﴾ تعالى ﴿ لا يحب المعتدين ﴾ قيل : المعتدين في الدعاء كمن سأل منازل الأنبياء أو الصعود إلى السماء أو دخول الجنة قبل أن يموت ونحو ذلك مما يستحيل عقلا أو عادة أو يسأل أمورا لا فائدة فيها معتدا بها، روى البغوي : بسنده من طريق أبي داود السجستاني عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل يسمع ابنه يقول اللهم إني أسئلك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال : يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء ) كذا روى ابن ماجة وابن حبان في صحيحه. وروى أبو يعلى في مسنده من حديث سعد قوله صلى الله عليه وآله وسلم :( سيكون قوم يعتدون في الدعاء حسب المرئ أن يقول اللهم إني أسئلك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل )قال : أبو يعاى لا أدري قوله وحسب المرأ أن يقول اللهم إلى آخره هو من قول سعد أو من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال : عطية هم الذين يدعون على المؤمنين ما لا يحل فيقولون اللهم العنهم اللهم العنهم والبالغ في هذا الاعتداء الروافض الذين يلعنون الصحابة وبعض أهل البيت، وقال : ابن جريح الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح لما مر في حديث أبي موسى قوله صلى الله عليه وآله وسلم( اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ) قلت : الاعتداء التجاوز عن حدود الشرع فيعم جميع أقسام الاعتداء منها ما ذكر ومنها غير ذلك نحو أن يدعو ما فيه ثم أو قطيعة رحم أو يقول دعوت فلم يستجب لي أو يدعوا الله بأسماء لم يرد الشرع بها أو يدعو قائلا أنه يستجاب له
﴿ ولا تفسدوا في الأرض ﴾ بالكفر والمعاصي والبغي والدعاء إلى طاعة الله ﴿ بعد إصلاحها ﴾ أي إصلاح الله سبحانه إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله عز وجل وبالنهي عن الاعتداء في الدعاء، قال البغوي : هذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي، وقال عطية لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم، فعلى هذا معنى قوله تعالى بعد إصلاح الله تعالى إياها المطر والخصب ﴿ وادعوه خوفا ﴾ أي خائفين من رد الدعاء لقصور أعمالكم وعدم استحقاقكم﴿ وطمعا ﴾ أي طامعين في الإجابة تفضلا وإحسانا لفرط رحمة﴿ إن رحمت الله قريب من المحسنين ﴾ ترجيح للطمع وتنبيه على يتوسل به إلى الإجابة وإشارة إلى أن رد الدعاء من الكريم الجواد ليس إلا لشؤم أعمالكم وترك إحسانكم، ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ) رواه مسلم والترمذي من حديث أبي هريرة، وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لا يزال يستجاب العبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل : يا رسول الله وما الاستعجال ؟ قال : يقول فلم تستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع عند ذلك ) وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال :( القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض فإذا سألتم الله عز وجل أيها الناس فاسئلوه وأنتم موقنون بالإجابة فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل ) وعند الترمذي من حديث أبي هريرة نحوه، فإن قيل : قد ذكرت إنه لا يجوز لقائل أن يقول يستجاب دعائي البتة وقد ورد في الحديث فاسئلوه وأنتم موقنون بالإجابة فكيف التوفيق ؟ قلت :" معنى أنتم موقنون في الإجابة أن الله تعالى جواد كريم لا يتصور منه البخل وليس عدم الإجابة إلا لأجل غفلتكم ومعصيتكم، فالطمع في الإجابة واليقين بها نظر إلى رحمته وجوده تعالى وعدم التيقن بالإجابة وخوف الرد لأجل شؤم أنفسنا فلا منافاة. وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الرحم الثواب فيرجع النعت إلى المعنى أو لأنه صفة محذوف أي أمر قريب أو للإضافة إلى المذكر أو على التشبيه بالفعيل الذي هو المصدر كالنقيض أو للفرق بين القريب والنسب والقريب من غيره، قال : أبو عمر وبن العلا القريب يكون بمعنى القريب من حيث النسب ومن حيث المسافة فيقول العرب هذه امرأة قريبة منك إذ كانت بمعنى القرابة وقريب منك إذا كان بمعنى المسافة
﴿ وهو الذي يرسل الرياح ﴾ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح على الوحدة والباقون على الجمع ﴿ بشرا ﴾ قرأ عاصم بالباء التحتانية الموحدة المغمومة وإسكان الشين حيث وقع وهو تخفيف بشر بضم الشين جمع بشير يعني أنها تبشر بالمطر، قال : الله تعالى﴿ الرياح مبشرات ﴾ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالنون مضمومة وضم الشين جمع نشور حيث وقع بمعنى ناشر، قال : الله تعالى﴿ والنشرات نشرا( ٣ ) ﴾ وقرأ حمزة والكسائي بالنون مفتوحة وإسكان الشين حيث وقع على أنه مصدر في موضع الحال بمعنى ناشر أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان ﴿ بين يدي رحمته ﴾ أي قد أمر نعمته يعني المطر فإن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه، عن أبي هريرة قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( الريح من روح الله يأتي بالرحمة والعذاب فإن رأيتموه فلا تسبوها واسئلوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها ) رواه البخاري في الأدب وأبو داود والحاكم وصححه، ورواه البغوي : من طريق الشافعي وعبد الرزاق ﴿ حتى إذا أقلت ﴾ أي حملت الرياح واشتقاقه من القلة فإن المقل للشيء يستقله ﴿ سحابا ثقالا ﴾ بالماء جمعه لأن السحاب بمعنى السحائب ﴿ سقناه ﴾ أي السحاب أفرد الضمير نظرا إلى لفظه ﴿ لبلد ﴾ أي لأجله أو لإحيائه أو لسقيه وقيل : معناه إلى بلد ﴿ ميت ﴾ قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بالتشديد والباقون بالتخفيف والمراد بالميت ما لا نبات فيه ﴿ فأنزلنا به ﴾ أي بالبلد والباء للسببية أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح والباء للإلصاق ﴿ الماء فأخرجنا به ﴾ أي بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح أو بالماء فإذا كان الضمير للبلد فالباء للظرفية وإلا فللسببية﴿ من كل الثمرات كذلك ﴾ أي كإخراج الثمرات أو كإحياء البلد الميت ﴿ مخرج الموتى ﴾ من القبور ﴿ لعلكم تذكرون ﴾ فتستدلون بقدرته تعالى على خلق ما خلق في الدنيا على قدرته على إعادة ما يريد إعادته في الدنيا على إعادة ما يريد إعادته في الآخرة قال : البغوي، قال : أبو هريرة ابن عباس إذا مات الناس كلهم بالنفخة الأولى أرسل الله عليهم مطر كمني الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم نومة فينامون في قبورهم ثم يحشرون بالنفخة الثانية، وهم يجدون طعم النوم في رؤسهم وأعينهم فعند ذلك يقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( ما بين النفختين أربعون، قالوا : يا أبا هريرة أربعون يوما ؟ قال : أبيت قالوا أربعون شهرا ؟ قال : أبيت قالوا : أربعون عاما ؟ قال : أبيت، ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة ) وأخرج ابن أبي داود في البعث هذا الحديث وفيه بين النفختين أربعون عاما فيمطر الله في تلك الأربعين، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : يسيل واد من أصل العرش ومن ماء فيما بين الصيحتين ومقدار ما بينهما أربعون عاما فينبت منه كل خلق بلي من الإنسان أو طير أو دابة ولو مر عليهم مار قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم على وجه الأرض فينبتون ثم ترسل الأرواح فتزوج بالأجساد فذلك قول الله تعالى ﴿ وإذا النفوس زوجت ﴾ وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير نحوه قال : الحليمي اتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعون سنة، كذا أخرج ابن المبارك عن الحسن مرسلا
﴿ والبلد الطيب ﴾ يعني الأرض الكريمة التربة﴿ يخرج نباته بإذن ربه ﴾ بمشيته وتيسيره وهو في موضع الحال عبر به عن كثرة نباته وحسنه وجلالة نفعه كما يدل عليه ما يقابله فكأنه قال : يخرج نباته حسنا وافيا بإذن ربه، والبلد ﴿ والذي خبث ﴾ يعني الأرض الخبيثة السبخة والحرة أو نحو ذلك ﴿ لا يخرج ﴾ نباته فحذف المضاف وأقيم المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا مستترا ﴿ إلا نكدا ﴾ إلا قليلا لا منفعة فيه، في القاموس النكد بالضم قلة العطاء وبفتح وعطاء منكود قليل، يقال نكد كفرح اشتد وعسر والبئر قل ماءها ونكد زيد حاجة عمر ومنع إياه وفلانا منعه ما سأله أو لم يعطيه إلا أقله ورجل نكد شؤم عسر ﴿ كذلك ﴾ أي تصريفا مثل ذلك التصريف ﴿ نصرف الآيات ﴾ نرددها ونكررها﴿ لقوم يشكرون ﴾ نعمة الله وهم المؤمنون لما كانت الآيات السابقة لبيان كمال قدرته تعالى على ما أراد وعموم فيضه ورحمته عقبها بهذه الآية لبيان تفاوت الاستعداد في قبول الفيض من المبدأ الفياض ليظهر أن النقصان إنما هو من جهة المتأثر كما أن نبات الأرض يتفاوت بتفاوت استعداد الأرض مع اتحاد فيضان المطر، كذلك تصريف الآيات ونصب الدلائل وبعث الرسل وإن كان رحمة للعالمين عامة لكن الانتفاع بها مختص بالمؤمنين الشاكرين فإنهم لحسن استعدادهم المستفادة من ظلال اسم الله الهادي يهتدون بها ويتفكرون فيها ويعتبرون بها، روى الشيخان في الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم :( مثل ما بعثني الله به من الهدي والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبت الكلاء والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصحاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ).
﴿ لقد أرسلنا ﴾ جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا ولا تكاد تطلق هذا اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع فإن المخاطب إذا سمعت توقع وقوع ما صدر بها ﴿ نوحا إلى قومه ﴾ وهو نوح بن لامك وقيل : لمك بن متشولخ وأمه عونة وقيل : قينوس بنت براليك بن قشولخ، وعند بعضهم متوشخ بن خنوخ، وقيل أخنوخ وهو إدريس عليه السلام وهو أول نبي خط بالقلم ابن مهليل وقيل مهلائيل بن قينن، وقيل : قينان، وقيل : قانن بن أنوش وقيل : مانيش بن شيت عليه السلام بن آدم عليه السلام، وفي المستدرك عن ابن عباس قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كذا روى الطبراني عن أبي ذر مرفوعا، ومما ذكرنا من سلسلة النسب يظهر أن نوحا بعد إدريس عليهما السلام كذا ذكرى البغوي، واسم نوح سكن لأن الناس سكنوا إليه بعد آدم، وقيل : اسمه شاكر وقيل : يشكر، وذكر السيوطي في الإتقان نقلا عن المستدرك للحاكم أن اسمه عبد الغفار وأكثر الصحابة على أنه قيل : إدريس، وإنما سمى نوحا لكثرة نوحه على نفسه وقومه قيل : كان نوحه لهول القيامة، وقيل : إنه رأى كلبا سيء المنظر فقال له زنم إقليما أي كلب السوء فأنطقه الله تعالى وقال : العيب مني أو من خالقي فلما سمعه من الكلب أغمي عليه فلما أفاق كثر النوح على نفسه وذكر البغوي : أنه مر بكلب مجذوم فقال : اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى أعبتني أم عبت الكلب، وقيل : ناح لدعوته على قومه بالهلاك، وقيل لمراجعة ربه في شأن ابنه كنعان والله أعلم. بعث الله تعالى نوحا وهو ابن أربعين سنة كذا قال : ابن عباس في المستدرك عنه مرفوعا ( بعث الله نوحا وهو ابن أربعين سنة فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا ) وقيل : بعث وهو ابن خمسين سنة وعاش بعد الطوفان أربعمائة وخمسين فجميع عمره ألفا وأربعمائة وخمسين وقيل : بعث وهو ابن أربعمائة وخمسين أو ستين، كذا في شرح خلاصة السير، وقيل : بعث وهو ابن مائتي وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتي وخمسين سنة وكان عمره ألفا وأربع مائة وخمسين سنة، وقال : مقاتل بعث وهو ابن مائة سنة، وذكر ابن جرير أن تولد نوح كان بعد وفاة آدم بثمانمائة وستة وعشرين سنة، قلت : فعلى هذا وفاة نوح من بدء خلق آدم بعد ألفين وثمانمائة وست وخمسين سنة لما في الحديث أن آدم عمره ألف سنة إلا أربعين عاما التي وهبها لبنه داود عليهم السلام كما سيذكر في حديث في قصة إخراج ذرية آدم من صلبه، وفي تهذيب النووي أنه أطول الأنبياء عمرا ﴿ فقال ﴾ نوح لقومه ﴿ يا قوم اعبدوا الله ﴾ وحده ﴿ ما لكم من إله غيره ﴾ قرأ أبو جعفر والكسائي بخفض غيره حملا على لفظ الإله إذا كان قبله جارة حيث وقع ووفقها حمزة في سورة فاطر﴿ هل من إله غيره الله ﴾ والباقون بالرفع حملا على المحل كأنه قيل : ما لكم إله غيره فلا تعبدوا معه غيره ﴿ إني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أخاف عليكم ﴾ إن لم تعبدوا الله وحده ﴿ عذاب يوم عظيم ﴾ أي يوم القيامة أو يوم الطوفان
﴿ قال الملأ ﴾ أي الأشراف فإنهم يجتمعون على رأي فيملأون العيون رواء والنفوس جلاله ﴿ من قومه إنا لنريك في ضلال ﴾ أي زوال عن الحق﴿ مبين ﴾ بين.
﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ﴾ لم يقل ضلال حتى يكون أبلغ في نفي الضلال عن نفسه أي ليس في شيء من الضلال، وبالغ في النفي لما بالغوا في الإثبات وعرض لهم به بل أنتم في ضلال عن الحق﴿ ولكني رسول من رب العالمين ﴾ استدراك لتأكيد نفي الضلال لأن كونه رسولا من الله مبلغا لرسالاته في معنى كونه على أقصى الغايات من الهدى والصراط المستقيم
﴿ أبلغكم ﴾ قرأ أبو عمر بالتخفيف من الإبلاغ والباقون بالتشديد من التبليغ حيث كان ﴿ رسالات ربي ﴾ جمع الرسالات لاختلاف أوقاتها أو لتنوع معانيها كالعقائد والمواعظ والأحكام أو لأن المراد بها ما أوحي إليه وإلى الأنبياء كصحف شيت وإدريس عليهم السلام، قوله أبلغكم كلام مستأنف لبيان كونه رسولا من الله ﴿ وانصح لكم ﴾ النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح وخير لصاحبه، قال : البغوي : أن يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه وهو متعدي بنفسه باللام لكن في زيادة اللام دلالة على أمحاض النصح لهم﴿ وأعلم من الله ﴾ أي ذاته وقدرته على الثواب والعذاب وهذه بطشة بحيث لا يطاق من أحد رده أو من جهته بالوحي ﴿ وما لا تعلمون ﴾ أي أشياء لا علم لكم بها
﴿ أو عجبتم ﴾ الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف يعني أكذبتموني وعجبتم من ﴿ أن جاءكم ذكر من ربكم ﴾ قال : ابن عباس موعظة، وقيل : بيان وقيل : رسالة ﴿ على رجل ﴾ أي منزلا على رجل ﴿ منكم ﴾ أي من جملتكم أو جنسكم فإنهم كانوا يتعجبون من إرسال الله تعالى البشر ويقولون ﴿ ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آباءنا الأولين ﴾ ﴿ لينذركم ﴾ أي ليخوفكم عاقبة الكفر والمعاصي ﴿ ولتتقوا ﴾ من عذاب الله الموعود على الكفر والمعاصي بسبب الإنذار ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ بالتقوى أو رد حرف الترجي للدلالة على أن التقوى غير موجب للترحم بل الترحم من الله فضل وان المتقي لا ينبغي أن يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله، أخرج أبو نعيم عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم :( إن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لأهل طاعتي من أمتك أن لا يتكلوا على أعمالهم فإني لا أناصب عند الحساب يوم القيامة أشاء أن أعذبه إلا عذبته قل لأهل معصيتي من أمتك لا تلقوا بأيديكم فإني أغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي )
﴿ فكذبوه فأنجيناه ﴾ يعني نوحا من الطوفان﴿ والذين معه ﴾ وهم أربعون امرأة، وقيل : ثمانية وقيل : عشرة وقيل : اثنان وسبعون وقيل : ثلاثة بنيه سام وحام ويافث وثلاث أزواجهم وقيل : ثلاثة أبنائه وستة من آمن به ﴿ في الفلك ﴾ متعلق بمعه أو بأنجينا أو حال من الموصول أو الضمير في معه ﴿ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ﴾ بالطوفان﴿ إنهم كانوا قوما عمين ﴾ أي كفارا عميت قلوبهم عن معرفة الله وعن إدراك الحق حقا والباطل باطلا أصله عميين فخفف
﴿ وإلى عاد ﴾ قبيلة وهم عاد بن عوص بن آدم بن سام بن نوح وهو عاد الأولى ﴿ أخاهم ﴾ في النسب لا في الدين عطف على نوح إلى قومه ﴿ هودا ﴾ عطف بيان لأخاهم وهو هود بن عبد الله بن رياح بن الخلود بن عاد بن عوص المذكور، وقال : ابن اسحاق : هو ابن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قال : الشيخ أبو بكر في شرح خلاصة السير إن هودا عليه السلام اسمه عابر بفتح الباء الموحدة وقيل : بكسرها على وزن ناصر وقيل : عيبر بالعين المفتوحة والياء التحتانية المثناة الساكنة والباء الموحدة المفتوحة، وقيل : بالغين المعجمة بدل المهملة ابن شالخ بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام وكذا في جميع التواريخ والأنساب إلا ما شذ عن بعض أن هودا بن خالد بن الخلود بن العيص بن العمليق بن عاد بن أرم بن سام والله أعلم وأم هود مكعبة بنت عويلم بن سام بن نوح، وكان نور النبي صلى الله عليه وآله سلم ساطعا في جبين هودا فلما رأوا ذلك النور في جبينه قالوا إن هذا رجل تعبد الله تعالى وحده وتكسر الأصنام وعظموه ولم يكن بعده نبي مائة سنة إلى زمان صالح عليه السلام وكان ذلك الزمان ملوك وأقوام يعبدون الأصنام وبعضهم يعبدون الشمس وآخرون يعبدون النار إلى أن بعث الله صالحا عليه السلام إلى ثمود. وكان هود على شريعة نوح عليهما السلام وبلغ من العمر أربعمائة سنة وقيل : أربعمائة وستين سنة، وفي التاريخ الشامي أنه قال : ابن حبيب : إنه عاش مائة وأربعا وثلاثين سنة، وقال الكلبي : أربعمائة وثلاثا وستين وأمه مرجانة وكانت من الطاهرات وقبره بحضرموت وقيل : بمكة انتهى كلام الشيخ أبي بكر. قال البغوي : روي عن علي أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر، وقال : عبد الرحمن بن سابط بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا وأن قبر هود وصالح وشعيب في تلك البقعة، ويروي أن نبيا من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله فيها حتى يموتوا والمراد بالأخ على ما ذكر ابن إسحاق في نسب هود، وذكر الشيخ أبو بكر واحدا من جنسهم وإنما جعل منهم لأنهم أفهم لقوله وأعرف بحاله وأرغب في اقتفائه ﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ﴾ وحده﴿ ما لكم من إله غيره ﴾ استأنف به ولم يعطف كما في قصة نوح حيث قال : فقال كأنه جواب سائل قال : فما قال : لهم حين أرسل وكذلك جوابهم﴿ أفلا تتقون ﴾ عذاب الله وكان قومه أقرب من قوم نوح.
﴿ قال الملأ الذين كفروا من قومه ﴾ وصف الملأ بالذين كفروا للتقليد فإن من أشراف قوم هود من آمن به منهم مرتدين سعد ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن ﴿ إنا لنريك في سفاهة ﴾ أي خفه عقل حيث تهجر دين قومك وتدعي أمرا مستحيلا يعني رسالة الله تعالى جعلت السفاهة ظرفا مجازا يعني أنك متمكن فيها غير منفك عنها ﴿ وإنا لنظنك من الكاذبين ﴾ في إدعائك الرسالة
﴿ قال ﴾ هود ﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين ( ٦٧ ) أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح ﴾فيما أدعوكم إليه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٧:﴿ قال ﴾ هود ﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين ( ٦٧ ) أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح ﴾فيما أدعوكم إليه.
﴿ أمين ﴾ على الرسالة ذكر ها هنا صيغة اسم فاعل لقولهم إنا لنظنك من الكاذبين ليقابل الاسمية الاسمية، قال الكلبي : معناه كنت فيكم قبل اليوم أمينا فلا وجه لكم لسوء الظن في بالكذب، وفي إجابة الأنبياء الكفرة عن كلماتهم المسبة بالحام وحسن الأدب والإعراض عن مقابلتهم بمثل ما قالوا مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفهم كمال والنصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة وجدب القلوب إلى الهداية وأخبار الله تعالى ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء أكذبتموني
﴿ أو عجبتم ﴾ من ﴿ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ ﴾ إهلاك ﴿ قوم نوح ﴾ في الأرض﴿ وزادكم في الخلق بسطة ﴾ أي طولا وقوة، قال الكلبي والسدي : كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير منهم سبعون ذراعا، وقال : أبو حمزة اليماني سبعون ذرعا وعن ابن عباس ثمانون ذرعا، وقال مقاتل كان طول كل رجل اثنا عشر ذراعا، قال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل ليفرخ فيه الضباع وكذلك مناخرهم ﴿ فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ ﴾ أي نعمه واحدها إلى ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي لكي يفضي بكم ذكر النعمة شكرها المؤدى إلى الفلاح
﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾ من الأصنام معنى المجيء أما المجيء من مكان اعتزال من قومه أو من السماء على التهكم أو القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبني ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ من العذاب المدلول عليه في قوله أفلا تتقون أو يكون مذكورا صريحا في كلامه عليه السلام ﴿ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ فيه
قال هود :﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم ﴾ أي قد وجب أو حق عليكم أو نزل عليكم على أن المتوقع المعلوم كالواقع ﴿ من ربكم رجس ﴾ أي عذاب مشتق من الارتجاس وهو الاضطراب، وقيل : السين مبدلة من الزاي، وفي الصحاح رجس ورجز الصوت الشديد، ﴿ وغضب ﴾ أي إرادة انتقام ﴿ أتجدولونني في أسماء ﴾ أي أشياء مسميات ﴿ سميتموها ﴾ آلهة يعني الأصنام أو يقال في أسماء سميتموها لا حقيقة لها، وليس تحتها مسميات، كما تقول الفلاسفة بالعقول العشرة وأهل الهند ديبي وبواني ونحو ذلك يزعمون الأصنام حاكية عنها أو يزعمونها حالة الأصنام ﴿ أنتم وآباؤكم ﴾ بدل من الضمير المرفوع في سميتموها ﴿ ما نزل الله بها من سلطان ﴾ من حجة وبرهان تدل على أنها آلهة أو مستحقة للعبادة، ومبني هذا القول إنهم كانوا يعتقدون لوجود الله سبحانه وكونه خالقا للسماوات والأرض، وكانوا يزعمون الأصنام شركاء الله في الألوهية والخالقية أو في استحقاق العبادة لكونها شفعاء عند الله، فقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الذي تزعمون أمره دليل عليه إنما هو من مخترعاتكم ومخترعات آبائكم الجهال ﴿ فانتظروا ﴾ نزول العذاب الذي وعدتكم وتطلبونه ﴿ إني معكم من المنتظرين ﴾ كذلك
﴿ فأنجيناه ﴾ يعني هودا من العذاب الذي نزل بقومه ﴿ والذين معه ﴾ في الدين يعني المؤمنين به ﴿ برحمة منا ﴾ عليهم ﴿ وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ﴾ الدابر الأصل أو الكائن خلف الشيء وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال وإهلاك كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد ﴿ وما كانوا مؤمنين ﴾ تعريض بمن آمن منهم وتنبيه على أن الفارق بين من نجا ومن هلك هو الإيمان وقصة عاد على ما ذكر محمد ابن إسحاق وغيرهم وأنهم كانوا ينزلون اليمن وكانت مساكنهم بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضرموت وكانوا قد أفسدوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عز وجل وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها يقال لها صدا وسمود والهبا، فبعث الله تعالى إليهم هودا عليه السلام نبيا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فأمرهم أن يوحدوا الله ويكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك فكذبوه وقالوا من أشد منا قوة بنوا المصانع وبطشوا بطشة الجبارين، فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء وطلبوا منه الفرج أنابوا إلى الله عز وجل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم فيجتمع بمكة ناس كثير مختلفة الأديان كلهم معظمين لمكة وأهل مكة يومئذ العماليق أبناء عمليق بن لاود بن سام بن نوح وكان سيدهم معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخير رجل من عاد، فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا جهزوا وفد أمتكم إلى مكة فليستقر لكم، فبعثوا له قيل : بن عنز ويقيم بن هزال بن هزيل وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عفير كان مسلما يكتم إسلامه وجثيمة بن الجيثر خال معاوية بن بكر ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر بن هاد الأكبر، فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلا، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر ويغنيهم الجرادتان قينتا لمعاوية بن بكر فكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه وقال : هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي والله ما أدري كيف أصنع بهم أستحيى أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه فيظنون أني ضيق من مقامهم وقد هلك من ورائهم من قومهم جهد وعطشا، فشكا ذلك من أمرهم إلى قينته الجرادتين فقلتا قل شعرا نغنيهم لا يدرون من قاله لعل ذلك يحركهم، فقال معاوية بن بكر شعر
ألا يا قيل : ويحك قم فهينم *** لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا *** قد أمسوا ما يبيتون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجوا *** به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نسائهم بخير *** فقد أمست نسائهم غياما
وإن الوحش يأتيهم جهارا *** ولا يخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم *** نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم *** ولا لقوا التحية والسلام
فلما غنتهم الجردتان بهذا، قال : بعضهم لبعض يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطاتم عليهم فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم، فقال مرثد بن مسعود بن عفير وكان قد آمن بهود عليه السلام سرا أنكم والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم فأظهر إسلامه عند ذلك فقال شعر
عصت عاد رسولهم فأمسوا *** عطاشا ما يبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود *** يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد *** فأبصرنا الهدى وجلى العماء
وإن إله هود هو إلهي *** على الله التوكل والرجاء
فقالوا لمعاوية بن بكر احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن مكة، وخرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل عاد أن يدعوا الله فيجابوا بشر مما خرجوا له، فلما انتهى إليهم قام يدعوا الله ووفد عاد يدعون، فقال اللهم أعطيني سؤالي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل : بن عنز رأس وفد عاد فقال وفد عاد اللهم أعط قيلا ما سألك واجعل سؤالنا مع سؤاله، وقد كان تخلف عن وفد عاد حين دعوا لقمان بن عاد وكان سيد عاد حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطيني سؤالي وسأل الله طول العمر فعمر عمر سبعة أشر، وقال : قيل : بن عنز حين دعا يا إلهنا إن كان هود صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا فأنشأ الله سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناده مناد من السحاب يا قيل : اختر لنفسك وقومك من هذا السحائب، فقال قيل : اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد اخترت رمادا رمدا لا يبقى من آل عاد أحد، وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل : بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا، و﴿ قالوا هذا عارض ممطرنا ﴾ يقول الله عز وجل ﴿ بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ( ٢٤ ) تدمر كل شيء بأمر ربها ﴾ أي كل شيء مرت به، وكان من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدر فلما تبينت ما فيها صاحت ثم ضعفت فلما أفاقت قالوا لها ماذا رأيت قالت رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها، فسخر الله عليهم سبع ليال وثمانية حسوما فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك، واعتزال هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما يلين عليه الجلود وتلتذ الأنفس وإنها لتمر من عاد بالظعن فتحملهم بين السماء والأرض فتدمغهم بالحجارة، وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذا أقبل رجل على ناقته في ليلة مقمرة هي ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر، فقالوا : له فأين فارقت هود وأصحابه فقال فارقتهم بساحل البحر فكأنهم شكوا فيما حدثهم به، فقالت هرملة بنت بكر صدق ورب مكة وذكروا أن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد وقيل : بن عنز حين دعوا بمكة قيل : لهم قد أعطيتم مناكم فاختاروا لأنفسهم إلا أنه لا سبيل إلى الخلود ولا بد من الموت، فقال مرثد اللهم أعطيني صدقا وبرا فأعطى ذلك، وقال : لقمان أعطيني يا رب عمرا فقيل له اختر فاختار عمر سبعة أنسر وكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضة فيأخذ الذكر منها لقوته حتى إذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة وكان أخرها لبد فلما مات لُبدُ مات لقمان معه، وأما قيل : فإنه قال : أختار إن لقني ما أصاب قومي فقيل له إنه الهلاك فقال لا أبالي لا حاجة في البقاء بعدهم فأصابه الذي أصاب عادا من البلاء والعذاب فهلك، قال السدي : فبعث الله على عاد الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فأهلكهم فيها ثم أخرجتهم عن البيوت فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سوداء فحملتهم إلى البحر فألقتهم فيه وروى أن الله تعالى أمر الريح فأمالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين تحت الرمل ثم أمر الريح فكشف عنهم الرمال فاحتملتهم ورمت بهم في البحر ولم يخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيال.
﴿ وإلى ثمود ﴾ قبيلة أخرى من العرب أبناء ثمود بن عاثر بن أرم بن سام، قال أبو عمرو بن العلا سميت ثمود لقلة مائها وثمد الماء القليل وكان مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ﴿ أخاهم ﴾ في النسب لا في الدين ﴿ صالحا ﴾ عليه السلام عطف بيان وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح وقيل : بن رباح بن عبيد بن حاذر بن ثمود ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ ﴾ حجة ظاهرة الدلالة على صدقي لكونها معجزة ﴿ من ربكم ﴾ كأنه قيل : ما تلك البينة ؟ فقال استئنافا ﴿ هذه ناقة الله ﴾ أضافها إليه تعالى لتعظيمها ولأنها جاءت في الوجود من الله تعالى بلا وسائط الأسباب المعهودة، ولذلك كانت آية مبتدأ أو خبر وجاز أن يكون ناقة الله بدلا أو عطف بيان والخبر ﴿ لكم آية ﴾ نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة على تقدير كون ناقة الله خبرا وعلى التقدير الثاني لكم عامل فيه ﴿ فذروها ﴾ يعني الناقة ﴿ تأكل في أرض الله ﴾ العشب ﴿ ولا تسموها بسوء ﴾ نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغة في النهي وإزاحة للعذر ﴿ فيأخذكم عذاب أليم ﴾ جواب للنهي
﴿ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ ﴾ أسكنكم الله تعالى ﴿ في الأرض ﴾ أرض حجر ﴿ تتخذون من سهولها ﴾ أي تبنون في سهول الأرض أو سهولة الأرض بما تعملون منها كاللبن والآجر ﴿ قصورا تنحتون الجبال ﴾ أي تثقبون في الجبال وتجعلونها ﴿ بيوتا ﴾ كانوا يسكنون في الصيف في بيوت الطين وفي الشتاء في بيوت الجبال المنقورة، فانتصاب بيوتا على المفعولية لتضمين تنحتون معنى تجعلون، وجاز أن يكون منصوبا على الحال المقدرة كما في قوله خطت هذا الثوب قميصا، فإن الجبل لا يكون بيتا حال النحت ولا ثوب قميصا حال الخياطة ).
﴿ فاذكروا ألاء الله ولا تعثوا ﴾ العثو أشد الفساد ﴿ في الأرض مفسدين ﴾
﴿ قال الملأ ﴾ قرأ ابن عامر وقال : الملأ بالواو والباقون بلا واو ﴿ الذين استكبروا من قومه ﴾ يعني الأشراف والقادة الذين يتعظمون عن الإيمان بصالح عليه السلام ﴿ للذين استضعفوا ﴾ يعني الأتباع الذين استضعفوهم ﴿ لمن أمن منهم ﴾ بدل من الذين استضعفوا بدل الكل إن كان الضمير لقومه وبدل البعض إن كان للذين ﴿ أتعلمون أن صالحا مرسلا من ربه ﴾ قالوا استهزاء ﴿ قالوا ﴾ يعني المؤمنين المستضعفين ﴿ إنا بما أرسل به مؤمنون ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ثلث كيف تكلم أجسادا لا روح فيها ؟ فقال :( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم إنهم الآن يسمعون ما أقول لهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علينا شيئا وقيل : خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم، وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها فتولى عنهم فقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي الآية فأخذتهم الرجفة وكانت قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق : ووهب وغيرهما كذا أخرج ابن جرير والحاكم من طريق حجاج عن أبي بكر بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادهم وخلفوهم وكثروا وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وموضعا فبعثه الله إليهم غلاما شابا فدعاهم إلى الله عز وجل حتى شمط لا يتبعه منهم إلا قليلون مستضعفون، فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لما تقول فقال لهم أي آية تريدون ؟ قالوا تخرج معنا غدا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا تتبعنا فقال لهم صالح نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به قال : جندع بن عمرو بن جواس وهو يومئذ سيد ثمود يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء – والمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل – فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقنني ولتؤمنن بي قالوا نعم فصلى صالح ركعتين دعا ربه، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة فإنصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا ويصدقوه فنهاهم دؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن ميمر وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود، فلما خرجت الناقة قال : لهم صالح هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها في أرض ثمود ترعى الشجرة وتشرب الماء وكانت ترد الماء غبا، فإذا كان يومها وضعت لناقة رأسها في بئر في حجر يقال لها بير الناقة فلا ترفع رأسها حتى تشرب كل ماء فيها فلا تدع قطرة ثم تتفجج فيحلبون ما شاءوا من لبن فيشربون ويدخرون حتى تملأ أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر أن تصدر من حيث ترد تضيق عنها، حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاءوا من الماء ويدخرون ما شاءوا اليوم الناقة فهم من ذلك، وكانت الناقة تصيف إذا كانت الحر بظهر الوادي فتهرب منها المواشي أغنامهم وبقورهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلذ تكني أم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزة مسنة وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم، وامرأة أخرى يقال لها صدوق بنت المختار وكانت جميلة ذات مواش كثيرة وكانتا أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرتهما من مواشيهما فحملتا في عقر الناقة، فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب قالت له إعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهجر بن المختار وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وأكثرهم مالا، فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة بنت غنم قذار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون انه كان لزنية وأنه لم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه، فقالت أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان قذار عزيزا منيعا في قومه قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسر قوله تعالى :﴿ إذ انبعث أشقاها ﴾ انبعث رجل عزيز عازم منيع في قومه مثل أبي زمعة ( ٢ ) رواه البخاري من حديث عبد الله بن زمعة فانطلق قذار بن سالف ومصدع ابن مهرج فاستتبعوا بأعوان ثمود فأتبعهم سبعة نفر وكانوا تسعة رهط فانطلق قذار ومصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قذار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في طريق خر فمرت على مصدع فرمى بسهم فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس فأسفرت لقذار ثم زمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت واحدة تحذر ولدها ثم طعن في لبتها فنحرها، وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلما رأى ولدها ذلك انطلق حتى أتى جبلا منيعا يقال له صور وقيل : اسمه فأزه فأتى صالح، وقيل : له أدرك الناقة عقرت فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا، فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه فلما رأوا على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى الله تعالى الجبل فتطاول في السماء حتى ما يناله الطير، وجاء صالح فلما بكى حتى سالت دعومه ثم رغى ثلاثا وانفجرت الصخرة فدخلتها، فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. قال : ابن إسحاق : اتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع بن مهرج وأخوه ذأب بن مهرج فرماه مصدع بسهم فانتقم قلبه ثم جره رجله فأنزلوه فألقوا لحمه مع لحم أمه، فقال لهم صالح انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته، قالوا : وهم يستهزءون به ومتى ذلك يا صالح ؟ وما آية ذلك ؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم الأحد الأول والإثنين العون والثلاثاء دبار والأربعاء حبار والخميس مؤنس والجمعة العروبة والسبت شيار، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء، فقال لهم صالح حين قالوا ذلك تصبحون غداة يوم المؤنس ووجوهكم مصفرة ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة ثم تصبحون يوم شيار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال : لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة هلم فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قتلا وإن كان كاذبا قد كنا ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدفعتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطؤا على أصحابهم أتو منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم لا تقتلونه أبدا فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلث فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون فانفرقوا عنهم ليلتهم، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوف صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم وأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن قد صدقهم فطلبوا ليقتلوه وخرج صالح هاربا منهم حتى جاء إلى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل ويكنى بأبي هدب وهو مشرك فغيبه ولم يقدروا عليه فغدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له ميدع بن هرم يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلهم عليك أفندلهم قال : نعم قل عندي صالح وليس لكم عليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغله عنه ما أنزل الله بهم من عذابه فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم، فلما أمسوا صاموا بأجمعهم ألا وقد مضى من الأجل يوم فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خصبت بالدماء فصاحوا وبكوا إنه العذاب فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا وقد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طيلت بالقار فصاحوا جميعا ألا وقد حضركم العذاب، فلما كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وأتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك إلا جارية مقعدة يقال لها ذريقة بنت سلف، وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فأطلق الله رجليها بعدما عاينت العذاب فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط حتى أتت فرخ وهو وادي القرى فأخبرتهم بما عاينته من العذاب وما أصابت ثم استسقت من الماء فسقيت فلما أشربت ماتت وذكر السدي في عقر الناقة قال : فأوحى الله تعالى إلى صالح أن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك فقالوا : ما كنا لنفعل فقال صالح إنه يولد في شهركم هذا غلام فسيعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا : لا يولد لنا ولد في هذا الشهر إلا قتلناه، فولد عشرة قتلوا منها تسعة وبقي واحد أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا، فكان إذا مر بآباء التسعة وأروه قالوا لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله، قالوا نخرج فيرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثم رجعنا إلى الغار وكنا فيه ثم انصرفنا إلى رحالنا فقلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقوننا ويظنون أنا قد خرجنا إلى سفر، وكان صالح لا ينام معهم في القرية كان يبيت في مسجد يقال له مسجد صالح فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم فإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار فسقط عليهم فقتلهم قال : الله تعالى ﴿ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون( ٥٠ ) ﴾ فانطلق ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ فرجعوا يصيحون في القرية أي عباد الله أما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة. قال : ابن إسحاق إنما تقاسم التسعة على تبيت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا، قال : السدي وغيره فلما ولد ابن العاشر يعني قذار شب في اليوم شباب غيره في الجمعة وشب في الشهر شباب غيره في السنة فلما كبر جلس مع الناس يصيبون من الشراب فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم وقالوا ما نفعل وقالوا ما نفعل باللبن لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا فقال ابن العاشر هل لكم في أن أعقرها لكم قالوا نعم فعقرها. روى البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يسقوا منها فقالوا : قد عجنا واستقينا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء ) قال : البغوي : وقال : نافع عن ابن عمر فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهريقوا ما
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ثلث كيف تكلم أجسادا لا روح فيها ؟ فقال :( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم إنهم الآن يسمعون ما أقول لهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علينا شيئا وقيل : خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم، وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها فتولى عنهم فقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي الآية فأخذتهم الرجفة وكانت قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق : ووهب وغيرهما كذا أخرج ابن جرير والحاكم من طريق حجاج عن أبي بكر بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادهم وخلفوهم وكثروا وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وموضعا فبعثه الله إليهم غلاما شابا فدعاهم إلى الله عز وجل حتى شمط لا يتبعه منهم إلا قليلون مستضعفون، فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لما تقول فقال لهم أي آية تريدون ؟ قالوا تخرج معنا غدا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا تتبعنا فقال لهم صالح نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به قال : جندع بن عمرو بن جواس وهو يومئذ سيد ثمود يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء – والمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل – فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقنني ولتؤمنن بي قالوا نعم فصلى صالح ركعتين دعا ربه، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة فإنصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا ويصدقوه فنهاهم دؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن ميمر وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود، فلما خرجت الناقة قال : لهم صالح هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها في أرض ثمود ترعى الشجرة وتشرب الماء وكانت ترد الماء غبا، فإذا كان يومها وضعت لناقة رأسها في بئر في حجر يقال لها بير الناقة فلا ترفع رأسها حتى تشرب كل ماء فيها فلا تدع قطرة ثم تتفجج فيحلبون ما شاءوا من لبن فيشربون ويدخرون حتى تملأ أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر أن تصدر من حيث ترد تضيق عنها، حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاءوا من الماء ويدخرون ما شاءوا اليوم الناقة فهم من ذلك، وكانت الناقة تصيف إذا كانت الحر بظهر الوادي فتهرب منها المواشي أغنامهم وبقورهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلذ تكني أم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزة مسنة وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم، وامرأة أخرى يقال لها صدوق بنت المختار وكانت جميلة ذات مواش كثيرة وكانتا أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرتهما من مواشيهما فحملتا في عقر الناقة، فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب قالت له إعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهجر بن المختار وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وأكثرهم مالا، فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة بنت غنم قذار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون انه كان لزنية وأنه لم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه، فقالت أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان قذار عزيزا منيعا في قومه قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسر قوله تعالى :﴿ إذ انبعث أشقاها ﴾ انبعث رجل عزيز عازم منيع في قومه مثل أبي زمعة ( ٢ ) رواه البخاري من حديث عبد الله بن زمعة فانطلق قذار بن سالف ومصدع ابن مهرج فاستتبعوا بأعوان ثمود فأتبعهم سبعة نفر وكانوا تسعة رهط فانطلق قذار ومصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قذار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في طريق خر فمرت على مصدع فرمى بسهم فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس فأسفرت لقذار ثم زمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت واحدة تحذر ولدها ثم طعن في لبتها فنحرها، وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلما رأى ولدها ذلك انطلق حتى أتى جبلا منيعا يقال له صور وقيل : اسمه فأزه فأتى صالح، وقيل : له أدرك الناقة عقرت فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا، فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه فلما رأوا على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى الله تعالى الجبل فتطاول في السماء حتى ما يناله الطير، وجاء صالح فلما بكى حتى سالت دعومه ثم رغى ثلاثا وانفجرت الصخرة فدخلتها، فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. قال : ابن إسحاق : اتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع بن مهرج وأخوه ذأب بن مهرج فرماه مصدع بسهم فانتقم قلبه ثم جره رجله فأنزلوه فألقوا لحمه مع لحم أمه، فقال لهم صالح انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته، قالوا : وهم يستهزءون به ومتى ذلك يا صالح ؟ وما آية ذلك ؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم الأحد الأول والإثنين العون والثلاثاء دبار والأربعاء حبار والخميس مؤنس والجمعة العروبة والسبت شيار، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء، فقال لهم صالح حين قالوا ذلك تصبحون غداة يوم المؤنس ووجوهكم مصفرة ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة ثم تصبحون يوم شيار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال : لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة هلم فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قتلا وإن كان كاذبا قد كنا ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدفعتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطؤا على أصحابهم أتو منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم لا تقتلونه أبدا فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلث فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون فانفرقوا عنهم ليلتهم، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوف صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم وأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن قد صدقهم فطلبوا ليقتلوه وخرج صالح هاربا منهم حتى جاء إلى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل ويكنى بأبي هدب وهو مشرك فغيبه ولم يقدروا عليه فغدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له ميدع بن هرم يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلهم عليك أفندلهم قال : نعم قل عندي صالح وليس لكم عليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغله عنه ما أنزل الله بهم من عذابه فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم، فلما أمسوا صاموا بأجمعهم ألا وقد مضى من الأجل يوم فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خصبت بالدماء فصاحوا وبكوا إنه العذاب فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا وقد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طيلت بالقار فصاحوا جميعا ألا وقد حضركم العذاب، فلما كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وأتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك إلا جارية مقعدة يقال لها ذريقة بنت سلف، وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فأطلق الله رجليها بعدما عاينت العذاب فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط حتى أتت فرخ وهو وادي القرى فأخبرتهم بما عاينته من العذاب وما أصابت ثم استسقت من الماء فسقيت فلما أشربت ماتت وذكر السدي في عقر الناقة قال : فأوحى الله تعالى إلى صالح أن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك فقالوا : ما كنا لنفعل فقال صالح إنه يولد في شهركم هذا غلام فسيعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا : لا يولد لنا ولد في هذا الشهر إلا قتلناه، فولد عشرة قتلوا منها تسعة وبقي واحد أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا، فكان إذا مر بآباء التسعة وأروه قالوا لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله، قالوا نخرج فيرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثم رجعنا إلى الغار وكنا فيه ثم انصرفنا إلى رحالنا فقلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقوننا ويظنون أنا قد خرجنا إلى سفر، وكان صالح لا ينام معهم في القرية كان يبيت في مسجد يقال له مسجد صالح فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم فإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار فسقط عليهم فقتلهم قال : الله تعالى ﴿ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون( ٥٠ ) ﴾ فانطلق ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ فرجعوا يصيحون في القرية أي عباد الله أما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة. قال : ابن إسحاق إنما تقاسم التسعة على تبيت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا، قال : السدي وغيره فلما ولد ابن العاشر يعني قذار شب في اليوم شباب غيره في الجمعة وشب في الشهر شباب غيره في السنة فلما كبر جلس مع الناس يصيبون من الشراب فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم وقالوا ما نفعل وقالوا ما نفعل باللبن لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا فقال ابن العاشر هل لكم في أن أعقرها لكم قالوا نعم فعقرها. روى البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يسقوا منها فقالوا : قد عجنا واستقينا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء ) قال : البغوي : وقال : نافع عن ابن عمر فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهريقوا ما
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ثلث كيف تكلم أجسادا لا روح فيها ؟ فقال :( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم إنهم الآن يسمعون ما أقول لهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علينا شيئا وقيل : خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم، وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها فتولى عنهم فقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي الآية فأخذتهم الرجفة وكانت قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق : ووهب وغيرهما كذا أخرج ابن جرير والحاكم من طريق حجاج عن أبي بكر بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادهم وخلفوهم وكثروا وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وموضعا فبعثه الله إليهم غلاما شابا فدعاهم إلى الله عز وجل حتى شمط لا يتبعه منهم إلا قليلون مستضعفون، فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لما تقول فقال لهم أي آية تريدون ؟ قالوا تخرج معنا غدا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا تتبعنا فقال لهم صالح نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به قال : جندع بن عمرو بن جواس وهو يومئذ سيد ثمود يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء – والمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل – فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقنني ولتؤمنن بي قالوا نعم فصلى صالح ركعتين دعا ربه، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة فإنصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا ويصدقوه فنهاهم دؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن ميمر وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود، فلما خرجت الناقة قال : لهم صالح هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها في أرض ثمود ترعى الشجرة وتشرب الماء وكانت ترد الماء غبا، فإذا كان يومها وضعت لناقة رأسها في بئر في حجر يقال لها بير الناقة فلا ترفع رأسها حتى تشرب كل ماء فيها فلا تدع قطرة ثم تتفجج فيحلبون ما شاءوا من لبن فيشربون ويدخرون حتى تملأ أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر أن تصدر من حيث ترد تضيق عنها، حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاءوا من الماء ويدخرون ما شاءوا اليوم الناقة فهم من ذلك، وكانت الناقة تصيف إذا كانت الحر بظهر الوادي فتهرب منها المواشي أغنامهم وبقورهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلذ تكني أم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزة مسنة وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم، وامرأة أخرى يقال لها صدوق بنت المختار وكانت جميلة ذات مواش كثيرة وكانتا أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرتهما من مواشيهما فحملتا في عقر الناقة، فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب قالت له إعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهجر بن المختار وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وأكثرهم مالا، فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة بنت غنم قذار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون انه كان لزنية وأنه لم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه، فقالت أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان قذار عزيزا منيعا في قومه قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسر قوله تعالى :﴿ إذ انبعث أشقاها ﴾ انبعث رجل عزيز عازم منيع في قومه مثل أبي زمعة ( ٢ ) رواه البخاري من حديث عبد الله بن زمعة فانطلق قذار بن سالف ومصدع ابن مهرج فاستتبعوا بأعوان ثمود فأتبعهم سبعة نفر وكانوا تسعة رهط فانطلق قذار ومصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قذار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في طريق خر فمرت على مصدع فرمى بسهم فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس فأسفرت لقذار ثم زمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت واحدة تحذر ولدها ثم طعن في لبتها فنحرها، وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلما رأى ولدها ذلك انطلق حتى أتى جبلا منيعا يقال له صور وقيل : اسمه فأزه فأتى صالح، وقيل : له أدرك الناقة عقرت فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا، فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه فلما رأوا على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى الله تعالى الجبل فتطاول في السماء حتى ما يناله الطير، وجاء صالح فلما بكى حتى سالت دعومه ثم رغى ثلاثا وانفجرت الصخرة فدخلتها، فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. قال : ابن إسحاق : اتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع بن مهرج وأخوه ذأب بن مهرج فرماه مصدع بسهم فانتقم قلبه ثم جره رجله فأنزلوه فألقوا لحمه مع لحم أمه، فقال لهم صالح انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته، قالوا : وهم يستهزءون به ومتى ذلك يا صالح ؟ وما آية ذلك ؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم الأحد الأول والإثنين العون والثلاثاء دبار والأربعاء حبار والخميس مؤنس والجمعة العروبة والسبت شيار، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء، فقال لهم صالح حين قالوا ذلك تصبحون غداة يوم المؤنس ووجوهكم مصفرة ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة ثم تصبحون يوم شيار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال : لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة هلم فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قتلا وإن كان كاذبا قد كنا ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدفعتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطؤا على أصحابهم أتو منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم لا تقتلونه أبدا فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلث فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون فانفرقوا عنهم ليلتهم، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوف صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم وأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن قد صدقهم فطلبوا ليقتلوه وخرج صالح هاربا منهم حتى جاء إلى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل ويكنى بأبي هدب وهو مشرك فغيبه ولم يقدروا عليه فغدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له ميدع بن هرم يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلهم عليك أفندلهم قال : نعم قل عندي صالح وليس لكم عليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغله عنه ما أنزل الله بهم من عذابه فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم، فلما أمسوا صاموا بأجمعهم ألا وقد مضى من الأجل يوم فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خصبت بالدماء فصاحوا وبكوا إنه العذاب فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا وقد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طيلت بالقار فصاحوا جميعا ألا وقد حضركم العذاب، فلما كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وأتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك إلا جارية مقعدة يقال لها ذريقة بنت سلف، وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فأطلق الله رجليها بعدما عاينت العذاب فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط حتى أتت فرخ وهو وادي القرى فأخبرتهم بما عاينته من العذاب وما أصابت ثم استسقت من الماء فسقيت فلما أشربت ماتت وذكر السدي في عقر الناقة قال : فأوحى الله تعالى إلى صالح أن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك فقالوا : ما كنا لنفعل فقال صالح إنه يولد في شهركم هذا غلام فسيعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا : لا يولد لنا ولد في هذا الشهر إلا قتلناه، فولد عشرة قتلوا منها تسعة وبقي واحد أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا، فكان إذا مر بآباء التسعة وأروه قالوا لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله، قالوا نخرج فيرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثم رجعنا إلى الغار وكنا فيه ثم انصرفنا إلى رحالنا فقلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقوننا ويظنون أنا قد خرجنا إلى سفر، وكان صالح لا ينام معهم في القرية كان يبيت في مسجد يقال له مسجد صالح فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم فإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار فسقط عليهم فقتلهم قال : الله تعالى ﴿ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون( ٥٠ ) ﴾ فانطلق ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ فرجعوا يصيحون في القرية أي عباد الله أما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة. قال : ابن إسحاق إنما تقاسم التسعة على تبيت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا، قال : السدي وغيره فلما ولد ابن العاشر يعني قذار شب في اليوم شباب غيره في الجمعة وشب في الشهر شباب غيره في السنة فلما كبر جلس مع الناس يصيبون من الشراب فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم وقالوا ما نفعل وقالوا ما نفعل باللبن لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا فقال ابن العاشر هل لكم في أن أعقرها لكم قالوا نعم فعقرها. روى البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يسقوا منها فقالوا : قد عجنا واستقينا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء ) قال : البغوي : وقال : نافع عن ابن عمر فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهريقوا ما
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ثلث كيف تكلم أجسادا لا روح فيها ؟ فقال :( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم إنهم الآن يسمعون ما أقول لهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علينا شيئا وقيل : خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم، وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها فتولى عنهم فقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي الآية فأخذتهم الرجفة وكانت قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق : ووهب وغيرهما كذا أخرج ابن جرير والحاكم من طريق حجاج عن أبي بكر بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادهم وخلفوهم وكثروا وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وموضعا فبعثه الله إليهم غلاما شابا فدعاهم إلى الله عز وجل حتى شمط لا يتبعه منهم إلا قليلون مستضعفون، فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لما تقول فقال لهم أي آية تريدون ؟ قالوا تخرج معنا غدا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا تتبعنا فقال لهم صالح نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به قال : جندع بن عمرو بن جواس وهو يومئذ سيد ثمود يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء – والمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل – فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقنني ولتؤمنن بي قالوا نعم فصلى صالح ركعتين دعا ربه، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة فإنصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا ويصدقوه فنهاهم دؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن ميمر وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود، فلما خرجت الناقة قال : لهم صالح هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها في أرض ثمود ترعى الشجرة وتشرب الماء وكانت ترد الماء غبا، فإذا كان يومها وضعت لناقة رأسها في بئر في حجر يقال لها بير الناقة فلا ترفع رأسها حتى تشرب كل ماء فيها فلا تدع قطرة ثم تتفجج فيحلبون ما شاءوا من لبن فيشربون ويدخرون حتى تملأ أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر أن تصدر من حيث ترد تضيق عنها، حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاءوا من الماء ويدخرون ما شاءوا اليوم الناقة فهم من ذلك، وكانت الناقة تصيف إذا كانت الحر بظهر الوادي فتهرب منها المواشي أغنامهم وبقورهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلذ تكني أم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزة مسنة وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم، وامرأة أخرى يقال لها صدوق بنت المختار وكانت جميلة ذات مواش كثيرة وكانتا أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرتهما من مواشيهما فحملتا في عقر الناقة، فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب قالت له إعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهجر بن المختار وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وأكثرهم مالا، فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة بنت غنم قذار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون انه كان لزنية وأنه لم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه، فقالت أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان قذار عزيزا منيعا في قومه قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسر قوله تعالى :﴿ إذ انبعث أشقاها ﴾ انبعث رجل عزيز عازم منيع في قومه مثل أبي زمعة ( ٢ ) رواه البخاري من حديث عبد الله بن زمعة فانطلق قذار بن سالف ومصدع ابن مهرج فاستتبعوا بأعوان ثمود فأتبعهم سبعة نفر وكانوا تسعة رهط فانطلق قذار ومصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قذار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في طريق خر فمرت على مصدع فرمى بسهم فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس فأسفرت لقذار ثم زمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت واحدة تحذر ولدها ثم طعن في لبتها فنحرها، وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلما رأى ولدها ذلك انطلق حتى أتى جبلا منيعا يقال له صور وقيل : اسمه فأزه فأتى صالح، وقيل : له أدرك الناقة عقرت فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا، فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه فلما رأوا على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى الله تعالى الجبل فتطاول في السماء حتى ما يناله الطير، وجاء صالح فلما بكى حتى سالت دعومه ثم رغى ثلاثا وانفجرت الصخرة فدخلتها، فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. قال : ابن إسحاق : اتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع بن مهرج وأخوه ذأب بن مهرج فرماه مصدع بسهم فانتقم قلبه ثم جره رجله فأنزلوه فألقوا لحمه مع لحم أمه، فقال لهم صالح انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته، قالوا : وهم يستهزءون به ومتى ذلك يا صالح ؟ وما آية ذلك ؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم الأحد الأول والإثنين العون والثلاثاء دبار والأربعاء حبار والخميس مؤنس والجمعة العروبة والسبت شيار، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء، فقال لهم صالح حين قالوا ذلك تصبحون غداة يوم المؤنس ووجوهكم مصفرة ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة ثم تصبحون يوم شيار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال : لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة هلم فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قتلا وإن كان كاذبا قد كنا ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدفعتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطؤا على أصحابهم أتو منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم لا تقتلونه أبدا فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلث فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون فانفرقوا عنهم ليلتهم، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوف صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم وأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن قد صدقهم فطلبوا ليقتلوه وخرج صالح هاربا منهم حتى جاء إلى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل ويكنى بأبي هدب وهو مشرك فغيبه ولم يقدروا عليه فغدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له ميدع بن هرم يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلهم عليك أفندلهم قال : نعم قل عندي صالح وليس لكم عليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغله عنه ما أنزل الله بهم من عذابه فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم، فلما أمسوا صاموا بأجمعهم ألا وقد مضى من الأجل يوم فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خصبت بالدماء فصاحوا وبكوا إنه العذاب فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا وقد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طيلت بالقار فصاحوا جميعا ألا وقد حضركم العذاب، فلما كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وأتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك إلا جارية مقعدة يقال لها ذريقة بنت سلف، وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فأطلق الله رجليها بعدما عاينت العذاب فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط حتى أتت فرخ وهو وادي القرى فأخبرتهم بما عاينته من العذاب وما أصابت ثم استسقت من الماء فسقيت فلما أشربت ماتت وذكر السدي في عقر الناقة قال : فأوحى الله تعالى إلى صالح أن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك فقالوا : ما كنا لنفعل فقال صالح إنه يولد في شهركم هذا غلام فسيعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا : لا يولد لنا ولد في هذا الشهر إلا قتلناه، فولد عشرة قتلوا منها تسعة وبقي واحد أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا، فكان إذا مر بآباء التسعة وأروه قالوا لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله، قالوا نخرج فيرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثم رجعنا إلى الغار وكنا فيه ثم انصرفنا إلى رحالنا فقلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقوننا ويظنون أنا قد خرجنا إلى سفر، وكان صالح لا ينام معهم في القرية كان يبيت في مسجد يقال له مسجد صالح فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم فإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار فسقط عليهم فقتلهم قال : الله تعالى ﴿ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون( ٥٠ ) ﴾ فانطلق ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ فرجعوا يصيحون في القرية أي عباد الله أما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة. قال : ابن إسحاق إنما تقاسم التسعة على تبيت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا، قال : السدي وغيره فلما ولد ابن العاشر يعني قذار شب في اليوم شباب غيره في الجمعة وشب في الشهر شباب غيره في السنة فلما كبر جلس مع الناس يصيبون من الشراب فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم وقالوا ما نفعل وقالوا ما نفعل باللبن لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا فقال ابن العاشر هل لكم في أن أعقرها لكم قالوا نعم فعقرها. روى البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يسقوا منها فقالوا : قد عجنا واستقينا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء ) قال : البغوي : وقال : نافع عن ابن عمر فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهريقوا ما
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ثلث كيف تكلم أجسادا لا روح فيها ؟ فقال :( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم إنهم الآن يسمعون ما أقول لهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علينا شيئا وقيل : خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم، وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها فتولى عنهم فقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي الآية فأخذتهم الرجفة وكانت قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق : ووهب وغيرهما كذا أخرج ابن جرير والحاكم من طريق حجاج عن أبي بكر بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادهم وخلفوهم وكثروا وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وموضعا فبعثه الله إليهم غلاما شابا فدعاهم إلى الله عز وجل حتى شمط لا يتبعه منهم إلا قليلون مستضعفون، فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لما تقول فقال لهم أي آية تريدون ؟ قالوا تخرج معنا غدا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا تتبعنا فقال لهم صالح نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به قال : جندع بن عمرو بن جواس وهو يومئذ سيد ثمود يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء – والمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل – فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقنني ولتؤمنن بي قالوا نعم فصلى صالح ركعتين دعا ربه، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة فإنصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا ويصدقوه فنهاهم دؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن ميمر وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود، فلما خرجت الناقة قال : لهم صالح هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها في أرض ثمود ترعى الشجرة وتشرب الماء وكانت ترد الماء غبا، فإذا كان يومها وضعت لناقة رأسها في بئر في حجر يقال لها بير الناقة فلا ترفع رأسها حتى تشرب كل ماء فيها فلا تدع قطرة ثم تتفجج فيحلبون ما شاءوا من لبن فيشربون ويدخرون حتى تملأ أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر أن تصدر من حيث ترد تضيق عنها، حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاءوا من الماء ويدخرون ما شاءوا اليوم الناقة فهم من ذلك، وكانت الناقة تصيف إذا كانت الحر بظهر الوادي فتهرب منها المواشي أغنامهم وبقورهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلذ تكني أم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزة مسنة وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم، وامرأة أخرى يقال لها صدوق بنت المختار وكانت جميلة ذات مواش كثيرة وكانتا أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرتهما من مواشيهما فحملتا في عقر الناقة، فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب قالت له إعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهجر بن المختار وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وأكثرهم مالا، فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة بنت غنم قذار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون انه كان لزنية وأنه لم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه، فقالت أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان قذار عزيزا منيعا في قومه قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسر قوله تعالى :﴿ إذ انبعث أشقاها ﴾ انبعث رجل عزيز عازم منيع في قومه مثل أبي زمعة ( ٢ ) رواه البخاري من حديث عبد الله بن زمعة فانطلق قذار بن سالف ومصدع ابن مهرج فاستتبعوا بأعوان ثمود فأتبعهم سبعة نفر وكانوا تسعة رهط فانطلق قذار ومصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قذار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في طريق خر فمرت على مصدع فرمى بسهم فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس فأسفرت لقذار ثم زمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت واحدة تحذر ولدها ثم طعن في لبتها فنحرها، وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلما رأى ولدها ذلك انطلق حتى أتى جبلا منيعا يقال له صور وقيل : اسمه فأزه فأتى صالح، وقيل : له أدرك الناقة عقرت فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا، فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه فلما رأوا على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى الله تعالى الجبل فتطاول في السماء حتى ما يناله الطير، وجاء صالح فلما بكى حتى سالت دعومه ثم رغى ثلاثا وانفجرت الصخرة فدخلتها، فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. قال : ابن إسحاق : اتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع بن مهرج وأخوه ذأب بن مهرج فرماه مصدع بسهم فانتقم قلبه ثم جره رجله فأنزلوه فألقوا لحمه مع لحم أمه، فقال لهم صالح انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته، قالوا : وهم يستهزءون به ومتى ذلك يا صالح ؟ وما آية ذلك ؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم الأحد الأول والإثنين العون والثلاثاء دبار والأربعاء حبار والخميس مؤنس والجمعة العروبة والسبت شيار، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء، فقال لهم صالح حين قالوا ذلك تصبحون غداة يوم المؤنس ووجوهكم مصفرة ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة ثم تصبحون يوم شيار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال : لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة هلم فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قتلا وإن كان كاذبا قد كنا ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدفعتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطؤا على أصحابهم أتو منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم لا تقتلونه أبدا فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلث فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون فانفرقوا عنهم ليلتهم، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوف صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم وأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن قد صدقهم فطلبوا ليقتلوه وخرج صالح هاربا منهم حتى جاء إلى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل ويكنى بأبي هدب وهو مشرك فغيبه ولم يقدروا عليه فغدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له ميدع بن هرم يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلهم عليك أفندلهم قال : نعم قل عندي صالح وليس لكم عليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغله عنه ما أنزل الله بهم من عذابه فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم، فلما أمسوا صاموا بأجمعهم ألا وقد مضى من الأجل يوم فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خصبت بالدماء فصاحوا وبكوا إنه العذاب فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا وقد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طيلت بالقار فصاحوا جميعا ألا وقد حضركم العذاب، فلما كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وأتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك إلا جارية مقعدة يقال لها ذريقة بنت سلف، وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فأطلق الله رجليها بعدما عاينت العذاب فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط حتى أتت فرخ وهو وادي القرى فأخبرتهم بما عاينته من العذاب وما أصابت ثم استسقت من الماء فسقيت فلما أشربت ماتت وذكر السدي في عقر الناقة قال : فأوحى الله تعالى إلى صالح أن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك فقالوا : ما كنا لنفعل فقال صالح إنه يولد في شهركم هذا غلام فسيعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا : لا يولد لنا ولد في هذا الشهر إلا قتلناه، فولد عشرة قتلوا منها تسعة وبقي واحد أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا، فكان إذا مر بآباء التسعة وأروه قالوا لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله، قالوا نخرج فيرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثم رجعنا إلى الغار وكنا فيه ثم انصرفنا إلى رحالنا فقلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقوننا ويظنون أنا قد خرجنا إلى سفر، وكان صالح لا ينام معهم في القرية كان يبيت في مسجد يقال له مسجد صالح فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم فإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار فسقط عليهم فقتلهم قال : الله تعالى ﴿ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون( ٥٠ ) ﴾ فانطلق ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ فرجعوا يصيحون في القرية أي عباد الله أما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة. قال : ابن إسحاق إنما تقاسم التسعة على تبيت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا، قال : السدي وغيره فلما ولد ابن العاشر يعني قذار شب في اليوم شباب غيره في الجمعة وشب في الشهر شباب غيره في السنة فلما كبر جلس مع الناس يصيبون من الشراب فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم وقالوا ما نفعل وقالوا ما نفعل باللبن لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا فقال ابن العاشر هل لكم في أن أعقرها لكم قالوا نعم فعقرها. روى البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يسقوا منها فقالوا : قد عجنا واستقينا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء ) قال : البغوي : وقال : نافع عن ابن عمر فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهريقوا ما
﴿ ولوطا ﴾ يعني وأرسلنا لوطا وهو لوط بن تارخ ابن أخي إبراهيم عليه السلام ﴿ إذ قال ﴾ أي وقت قوله ﴿ لقومه ﴾ وهم أهل سدوم، وقيل : معناه واذكر لوطا وعلى هذا إذا بدل منه ﴿ أتأتون ﴾ إنكار وتوبيخ وتقريع ﴿ الفاحشة ﴾ يعني إتيان الرجال في أدبارهم ﴿ ما سبقكم ﴾ بتلك الفعلة الباء للتعدية ﴿ من أحد ﴾ من زائدة لتأكيد النفي والاستغراق ﴿ من العالمين ﴾ من للتبعيض والجملة استئناف مقرر للإنكار أو حال من الفاحشة كأنه وبخهم أولا بإتيان الفاحشة ثم ما اختراعها فإنه أسوء، قال : عمرو بن دينار ما يرى ذكر عل ذكر في الدنيا حتى كان من قوم لوط عليه السلام
﴿ إنكم ﴾ قرأ نافع وحفص بهمزة واحدة مكسورة على الخبر على الاستئناف، والباقون بهمزتين على الاستفهام بيان لقوله أتأتون الفاحشة وهو أبلغ في الإنكار والتوبيخ ﴿ لتأتون الرجال ﴾ أتجامعونهم في أدبارهم يقال أتى المرأة إذا غشيها ﴿ شهوة ﴾ منصوب على العلية أي للشهرة لا حامل لكم على ذلك إلا لمجرد الشهوة من غير حكمة، أو مصدر في موقع الحال يعني لشهوتهم شهوة ردية غير مفيدة ﴿ من دون النساء ﴾ أي من غير النساء يعني لا تأتونهن مع ما فيه من الحكمة من انتفاء الولد وبقاء النوع ولا ذم أعظم منه لأنه وصف لهم بالبهيمة الصرفة، قلت : ومن هذه الآية ثبت حرمة إتيان النساء في أدبارهن بدلالة النص لأنه مثل إتيان الرجال خبيثة غير مفيد أصلا وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في التفسير قوله تعالى :﴿ ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى ﴾ الآية وهو قوله تعالى :﴿ فأتوا حرثكم إن شئتم ﴾ ﴿ بل أنتم قوم مسرفون ﴾ إضراب عن الإنكار إلى الأخبار عن حالهم الذي يوجب ارتكاب أمثال ذلك القبائح يعني عادتكم الإسراف والتجاوز عن الحدود المعقولة والمشروعة في الشيء حتى تجاوزتم في النكاح عن المعتاد المفيد إلى غير المعتاد الذي لا خير فيه أصلا، أو إضراب عن الإنكار في ما ذكر إلى الذم على جميع أوصافهم أو عن محذوف تقديره لا عذر لكم بل أنتم قوم عادتكم الإسراف
﴿ وما كان جواب قومه ﴾ أي ما جاءوا بما يصلح جوابا عن كلام ﴿ إلا أن قالوا ﴾ استئناف منقطع يعني لكنهم قابلوا النصيحة بقول بعضهم لبعض ﴿ أخرجوهم ﴾ يعني لوطا ومن معه من المؤمنين ﴿ من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ﴾ من الفواحش قالوا ذلك استهزاء
﴿ فأنجيناه وأهله ﴾ يعني أتباعه من المؤمنين وقيل : ابنتاه ﴿ إلا امرأته ﴾ وأهله استئناف من الأهل فإنها كانت منافقة تستر الكفر ﴿ كانت من الغابرين ﴾ أي من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا، وقيل : معناه كانت من الباقين في العذاب، وقيل : معناه كانت الباقين المعمرين قد أتى عليها دهر طويل قبل ذلك فهلكت مع من هلك من قوم لوط والتذكير ولتغليب الذكور
﴿ وأمطرنا عليهم ﴾ أي على قوم لوط ﴿ مطرا ﴾ أي نوعا من المطر عجيبا يعني حجارة من سجيل مسومه، قال : وهب الكبريت والنار، قال : أبو عبيدة يقال في العذاب أمطر وفي الرحمة مطر﴿ فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ﴾ الكافرين روي أن لوط لما هاجر مع عمه إبراهيم عليهما السلام من الأرض بابل إلى الشام نزل بالأردن فأرسله الله إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى الله وينهاهم عما اخترعوا من الفاحشة فلم ينتهوا عنها فأمطر الله عليهم الحجارة فهلكوا أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس نحوه، وقيل : خسف بالمقيمين مهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم، قال : محمد بن إسحاق كانت لهم ثمار وقرى لو يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فأذوهم الناس فعرض لهم إبليس في صورة فقال إن فعلتم بهم كذا نجوتم فأبوا فلما ألح أي لزم الناس إياهم الخ الناس عليهم قصدوهم فأصابوا غلمانا صبيانا فأخبثوا فاستحكم ذلك فيهم، وقال الحسن كانوا لا يناكحون إلا الغرباء، قال الكلبي إن أول من عمل عمل قوم لوط إبليس لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس في صورة شاب ثم دعا إلى ديره فنكح في دبره فأمر الله السماء أن تحصبهم وأمر الأرض تخسف بهم
﴿ وإلى مدين ﴾ يعني وأرسلنا إلى أولاد مدين بن إبراهيم خليل الرحمن، قال : البغوي : هم أصحاب الأيكة ﴿ أخاهم ﴾ في النسب ﴿ شعيبا ﴾ قال : عطاء هو شعيب بن توبة بن إبراهيم خليل الرحمن وقال : ابن إسحاق هو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام وله ميكيل بنت لوط عليه السلام، قيل : هو شعيب ابن يثرون بن نوس بن مدين، كان شعيب عليه السلام أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان، أخرج عساكر عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكر شعيبا يقول( ذلك خطيب الأنبياء ) لحسن مراجعته قومه ﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ﴾ وحده﴿ ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم ﴾ يعني معجزة كانت لشعيب عليه السلام ولم يذكر في طالقرآن ما هي، وقيل : أراد بالبينة مجيء شعيب عليه السلام بالحكمة والموعظة وفصل الخطاب ﴿ فأوفوا ﴾ يعني أتموا ﴿ الكيل والميزان ﴾ مصدر بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد أو المضاف محذوف يعني وزن الميزان أو المراد بالكيل آلة الكيل على الإضمار أو أطلق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ أي لا تنقصوهم حقوقهم البخس يتعدى إلى مفعولين وهما الناس وأشياءهم يقال بخست زيدا حقه أي نقصته إياه، وإنما قال : أشياءهم للتعميم تنبيها على أنهم كان يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير، وقيل : كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه ﴿ ولا تفسدوا في الأرض ﴾ بالكفر والظلم ﴿ بعد إصلاحها ﴾ يعني بعدما بعث الله نبيا يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، والإضافة إلى مكر الليل والنهار ﴿ ذالكم ﴾ الذي ذكرت لكم وأمرتكم ﴿ خير لكم ﴾ مما كنتم عليه من الظلم والبخس فإن ذلك وإن كان فيه نوع منفعة في الدنيا لكنه يجلب مضرة عظيمة في الدارين وما أمرتكم فيه صلاح الدنيا والآخرة جميعا ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ مصدقين لي فافعلوا ما أمرتكم وكانوا يعلمون أن شعيبا عليه السلام يكذب قط قبل كانوا يجلسون على الطريق فمن جاء إلى شعيب عليه السلام ليؤمن به منعوه وقالوا إن شعيبا كذاب فلا يفتنك عن دينك كانوا يتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوفونهم، كذا أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه، فقال الله تعالى ﴿ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ﴾
﴿ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ﴾ مع ما عطف عليه في موضع الحال من فاعل تقعدوا ﴿ وتصدون عن سبيل الله ﴾ عن الإيمان بالله ﴿ من آمن به ﴾ أي الله تعالى تنازع فيه الفعلان في المفعولية توعدون وتصدون فأعمل الثاني ولذا لم يقل وتصدونهم ﴿ وتبغونها ﴾ أي تطلبون سبيل الله ﴿ عوجا ﴾ بإلقاء الشبه أو وصفها للناس بأنها معوجة، وقيل : معنى قوله تعالى ﴿ ولا تقعدوا بكل صراط ﴾ أي بكل طريق من طرق الدين كالشيطان وسبيل الحق وإن كان واحدا لكنه تنشعب إلى معارف وحدود وأحكام وكانوا إذا رأوا واحدا يسعى في شيء منها نعدوه بالقتل والتعذيب وعلى هذا ففي قوله تعالى ﴿ ويصدون عن سبيل الله ﴾ وضع الظاهر موضع الضمير بيانا لكل صراط ودلالة على عظيم ما يصدون عنه وتقبيحا لما كانوا عليه، ﴿ واذكروا إذ كنتم قليلا ﴾ عددكم أو عددكم ﴿ فكثركم ﴾ الله بالبركة في النسل والمال﴿ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ من الأمم قبلكم قوم لوط وغيرهم فاعتبروا بهم
﴿ وإن كان طائفة منكم أمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا ﴾ به ﴿ فاصبروا ﴾ أي فتربصوا ﴿ حتى يحكم الله بيننا ﴾ بنصر المحقين على المبطلين فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ﴿ وهو خير الحاكمين ﴾ لا معقب لحكمه
﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب و الذين أمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ﴾ أي والله ليكونن أحد الأمرين : إما إخراجكم من القرية، أو عودكم في الكفر. وشعيب لم يكن في ملتهم قط ؛ لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر، لكن غلَّبوا الجماعة الذين آمنوا معه عليه مخاطبة مع قومه بخطابهم وعلى ذلك أجرى الجواب. وقيل : معناه أو لتدخلن في ملتنا وعاد بمعنى صار.
﴿ قال أولو كنا كارهين ﴾ الهمزة للإنكار، والواو للحال بل للعطف على محذوف، والجملة في موضع الحال تقديره أتعيدوننا في ملتكم لو كنا طائعين ولو كنا كارهين، فحذف أحد المعطوفين اللذين هما حالان من فاعل كنا، وعلق الحكم بأبعد النقيضين ليدل على عدم الحكم.
ثم قال : شعيب ﴿ قد افترينا ﴾ أي اختلقنا ﴿ على الله كذبا ﴾ بإثبات الشريك له تعالى ﴿ إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ﴾ شرط حذف جوابه بدليل ما سبق، وكلمة افترينا ماض بمعنى المستقبل، جُعل كأنه الواقع للمبالغة، وأدخل عليه " قد " لتقربه من الحال، أي افترينا الحال إن أرنا العود بعدما أنقذنا الله وبين لنا أن ما كنا عليه كان باطلا وما صرنا عليه حق، وقيل : إنه جواب قسم بحذف اللام تقديره والله لقد افترينا﴿ وما يكون لنا ﴾ أي ما يثبت لنا أبدا ﴿ أن نعود فيها ﴾ بيان عزم على الاستقامة على الإسلام والاجتناب عن الكفر، ولما كان في الكلام شائبة تزكية النفس وعدم خوف ما يؤل إليه الأمر، قال :﴿ إلا أن يشاء الله ربنا ﴾ خذلاننا وارتدادنا ويكون سبق في مشيئة ذلك وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة الله وقيل : أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق بما لا يكون ﴿ وسع ربنا كل شيء علما ﴾ فهو يعلم ما يؤل إليه أمر عباده من الإيمان إلى الكفر أو من الكفر إلى الإيمان، قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( والذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) متفق عليه من حديث ابن مسعود ﴿ على الله توكلنا ﴾ في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد اليقين، قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء )ثم قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ) رواه مسلم، ثم دعا عليهم شعيب عليه السلام بعدما أيس من فلاحهم فقال :﴿ ربنا افتح ﴾ أي احكم، من الفتاحة بمعنى الحكم، والفتاح القاضي يفتح الأمر المتعلق، أو المعنى أظهر الأمر حتى ينكشف من المبطل، من فتح المشكل إذا بينه ﴿ بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ﴾
﴿ وقال الملأ الذين كفروا من قومه ﴾ للسفلة ﴿ لئن اتبعتم شعيبا ﴾ في دينه وتركتم دينكم ﴿ إنكم إذا لخاسرون ﴾ لاستبدال ضلالته بهديكم أو لفوت ما يحصل لكم المنفعة بالبخس والتطفيف، وهو ساد مسد جواب الشرط والقسم الذي وطأته اللام في لئن اتبعتم
﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ قال : الكلبي : الزلزلة ﴿ فأصبحوا في دارهم ﴾ أي مدينتهم ﴿ جاثمين ﴾ ميتين، قال : ابن عباس وغيره فتح الله عليهم بابا من جهنم فأرسل عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء وكانوا يدخلون الأسراب ليتبردوا فيها فإن دخلوها وجدوها أشد حرا من الظاهر، فخرجوا هربا إلى البرية فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم وهي الظلة فوجدوا لها بردا ونسيما فنادى بعضهم بعضا، حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونسائهم وصبيانهم، فألهب الله تعالى عليهم نارا وجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجرد المقلي، وقال يزيد الجريري سلط الله عليهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحر ورفع عليهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون، فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم فذلك يوم الظلة، قال قتادة بعث الله شعيبا إلى أصحاب الأيكة وأهل مدين فأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة وأما أصحاب مدين فأخذتهم الرجفة صاح بهم جبرئيل صيحة فهلكوا جميعا
﴿ الذين كذبوا شعيبا ﴾ مبتدأ خبره ﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾ أي استوصلوا كأن لم يقيموا ولم ينزلوا فيها من قولهم غنيت بالمكان إذا أقمت به والمغاني المنازل واحدها مغنى ﴿ الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرون ﴾ دنيا ودينا إلا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا فإنهم الرابحون في الدارين، وللتنبيه على وجه الاختصاص والمبالغة فيه كرر الموصول ولم يكتف بالعطف واستأنف بالجملتين وآتى بهما اسميتين
﴿ فتولى ﴾ أي أعرض ﴿ عنهم ﴾ شعيب شاخصا بين أظهرهم حين أتاهم العذاب ﴿ قال يا قوم لقد أبلغكم رسالات ربي ونصحت لكم ﴾ قال : ذلك تأسفا بهم بشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفسه فقال﴿ فكيف أسى ﴾ أحزن ﴿ على قوم كافرين ﴾ فإنهم ليسوا أهلا لأن يحزن عليهم لاستحقاقهم ما نزل بهم، أو قاله اعتذارا عن شدة حزنه عليهم يعني بعدما بلغت في الإبلاغ والنصيحة لما لم يتبعوني وآثروا لأنفسهم العذاب فكيف أسى عليهم
﴿ وما أرسلنا في قرية من نبي ﴾ فيه إضمار يعني فكذبوه ﴿ إلا أخذنا أهلها بالبأساء ﴾ أي الفقر ﴿ الضراء ﴾ أي المرض كذا قال : البغوي : عن ابن مسعود، وقيل : البأساء الحرب والضراء الجدب ﴿ لعلهم يضرعون ﴾ لكي يتوبوا إلى الله يتضرعوا، من ها هنا يظهر بطلان قول من، قال : إن عيسى وكان من الله واجبة الوقوع
﴿ ثم بدلنا مكان السيئة ﴾ أي البأساء والضراء ﴿ الحسنة ﴾ السعة والأمن والخصب استدراجا وابتلاء لهم بالأمرين ﴿ حتى عفوا ﴾ أي كثروا عددا ومالا يقال عفت النبات إذا كثرت ومنه إعفاء اللحية ﴿ قالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء ﴾ أي هكذا كانت عادة الدهر قديما يعاقب في الناس بين الضراء والسراء ونسوا خالق الأرض والسماء ومنشئ النعمة والبلاء ﴿ فأخذناهم بغتة ﴾ فجأة ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ بنزول العذاب.
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ﴾اللام للعهد الخارجي يعني أهل القرى التي أرسلنا فيها الأنبياء ﴿ آمَنُواْ ﴾ بالأنبياء ﴿ وَاتَّقَوا ﴾ عذاب الله بالطاعة وترك المعاصيْ ﴿ لَفَتَحْنَا ﴾ قرأ ابن عامر بالتشديد للتكثير والباقون بالتخفيف، ﴿ عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ﴾ أي لوسعنا عليهم الخير من كل جانب وداومناه لهم وقيل : بركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والزرع وأصل البركة الزيادة والمواظبة على شيء ﴿ والأرض كَذَّبُواْ ﴾ الرسل ﴿ فَأَخَذْنَاهُم ﴾ بالعقوبة ﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ من الكفر والمعاصي
﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى ﴾ عطف على قوله فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ما بينهما اعتراض، والمعنى أبعد ما أخذنا أهل القرى من الكافرين السابقين أمن أهل القرى من الكافرين بنبوة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعني أهل مكة وما حولها ﴿ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ﴾عذابنا ﴿ بَيَاتا ﴾، أي تبييتا أو وقت بيات يعني ليلا أو مبيتا أم مبيتين، وهو في الأصل بمعنى البيتوتة ويجيء بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليمً ﴿ وَهُمْ نائمون ﴾ غافلون عنه حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا
﴿ أَوَ أَمِنَ ﴾ قرأ نافع وابن عامر أو بسكون الواو على الترديد، والباقون بفتح الواو على أن الهمزة للاستفهام للتوبيخ والواو للعطف والجمع ﴿ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى ﴾ أي نهارا وقت الضحى وقت انبساط الشمس ﴿ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ أي غافلون مشتغلون بما لا ينفعهم
﴿ أَفَأَمِنُوا ﴾ تقرير لقوله أفأمن أهل القرى ﴿ مَكْرَ اللّهِ ﴾ أي استدراجه إياهم بما أنعم عليهم في الدنيا إلى حين ثم أخذهم من حيث لا يحتسبون بالعذاب بغتة كما فعل بأشياعهم من قبل﴿ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ الذين خسروا أنفسهم بالكفر والمعاصي، وتركوا النظر والاعتبار
﴿ أَوَلَمْ يَهْد ﴾ قرأ قتادة ويعقوب نهد بالنون على التكلم والتعظيم والباقون بالياء على الغيبة، والهمزة في المواضع الأربعة للتوبيخ ِ﴿ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ ﴾ بالكسنى﴿ مِن بَعْدِ ﴾هلاك أهلها الذين قبلهم عدي الهداية باللام لأنه بمعنى البيان﴿ أَن ﴾ مخففة من المثقلة اسمه ضمير الشأن فاعل ليهد على تقدير الغيبة ومفعوله على تقدير التكلم، يعني أو لم يبين للذين ورثوا السابقين أنه ﴿ لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم ﴾ أي أخذناهم بالعذاب والعقوبة ﴿ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ أي بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم ﴿ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ عطف على ما دل عليه أو لم يهد أي يغفلون عن الهداية ونختم على قلوبهم، وقال : الزجاج هو منقطع مما قبله يعني ونحن نطبع ولا يجوز عطفه على أصبناهم على أنه بمعنى وطبعناهم لأنه لو كان في سياق جواب لو لزم نفي الطبع عنهم ﴿ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾الإنذار ولا يقبلون الموعظة
﴿ تِلْكَ الْقُرَى ﴾ قرى الأمم الماضية قوم نوح وعاد وثمود لوط وشعيب الموصوف مع الصفة مبتدأ خبره﴿ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا ﴾ يعني نقص عليك بعض إخبار أهلك لكي تعتبروا لأكلها، وجاز أن يكون القرى خبرا ونقص خبرا ثانيا أو حال من القرى، والعالم فيه معنى الإشارة ﴿ وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ أي بالآيات والمعجزات الشاهدة على رسالتهم ﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ﴾ منصوب بأن مقدرة بعد لام الجحود لتأكيد النفي والمصدر إما بمعنى الفاعل أو محمول بتقدير ذي أي ما كانوا مؤمنين أو ذا إيمان عند مجيئهم بها﴿ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ ﴾ أي بما كذبوه من قبل الرسل يعني التوحيد بل كانوا مستمرين على التكذيب والإشراك أو فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولا يعني بالرسالة والشرائع كلها حين جاءتهم الرسل بها ولم يؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة، وقال : البغوي : قال : ابن عباس والسدي يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذهم ميثاقهم حين أخرجوا من ظهر آدم فاقرءوا باللسان وأضمروا بالتكذيب، وقال : مجاهد معناه فما كانوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا به قبل هلاكهم كقوله تعالى﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾ وقال : يمان بن ذباب هذا على معنى أن كل نبي أنذر قومه بالعذاب فكذبوه فأهلكناهم فلما جاء بعدهم من رسول بالبينات ما كانت الأمم اللاحقة ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الخالية بل كذبوا بما كذب به أوائلهم نظيره قوله تعالى :﴿ ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ﴾ ﴿ كَذَلِكَ ﴾ أي مثل ذلك الطبع الشديد الذي أهلكناهم من قبل ﴿ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ﴾ الذين كتبنا عليهم من قومك أن لا يؤمنوا فلا يلين قلوبهم بالآيات والنذر
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم ﴾ أي لأكثر الناس والآية اعتراض أو لأكثر الأمم المذكورين ﴿ مِّنْ عَهْدٍ ﴾ أي من وفاء بالعهد الذي عاهدناهم يوم الميثاق أخرجوا من صلب آدم عليه السلام أو ما عهدوا إليه حين كانوا في ضر ومخافة لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴿ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾ قال : الكوفيون أن نافية واللام بمعنى ألا يعني ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين ناقضين للعهد، وقال : البصريون أن مخففة من المثقلة واللام فارقة وعلى هذا وجدنا بمعنى علمنا لأن أن المخففة من المثقلة لا تدخل إلا على الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم ﴾ الضمير للرسل في قوله ولقد جاءتهم رسلهم والمراد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام أو للأمم والمراد أقوامهم ﴿ مُّوسَى ﴾ بن عمران عليه السلام ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾ يعني المعجزات التي تذكر بعد ذلك ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ ﴾ هو لقب لملك مصر ككسرى لملك فارس وكان اسمه قابوس وقيل : الوليد بن مصعب بن الريان ﴿ فرعون ﴾ أي شرفاء قومهم ﴿ فَظَلَمُواْ بِهَا ﴾ أي الآيات والظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولما كانت الآيات لوضوحها من حقها الإيمان بها وهم كفروا بها مكان الإيمان، قال : الله تعالى﴿ فَظَلَمُواْ بِهَا ﴾ مكان كفرا بها ﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ حيث أغرقوا في اليم
﴿ وَقَالَ مُوسَى ﴾ لما دخل على فرعون ﴿ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
حَقِيقٌ عَلَى } قرأ نافع عليَّ بفتح الياء مشددة يعني واجب علي فهو مستأنفة في جواب تكذيبه إياه في دعوى الرسالة وإنما لم يذكر تكذيبه لدلالة قوله ظلموا بها عليه، وقرأ الباقون على مقصورة كأن أصله حقيق عليَّ كما قرأه نافع فقلب لا من اللبس، أو يقال على ههنا جارة وضع مكان الباء لإفادة التمكن كقولهم رميت على القوس مكان رميت بالقوس يدل عليه قراءة أبي والأعمش حقيق بأن لا أقول، أو يقال عدي حقيق بعلى لتضمين معنى حريص وعلى هذا حقيق إما خبر مبتدأ محذوف يعني أنا حقيق أي جدير والجملة مستأنفة أو صفة لرسول ﴿ أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ شاهد على رسالتي ﴿ فَأَرْسِلْ مَعِيَ ﴾ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ أي أطلق عنهم وخلّهم يرجعون إلى الأرض المقدسة هي وطن آبائهم وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة من ضرب اللبن ونقل التراب وغيرها.
﴿ قَالَ ﴾ فرعون مجيبا لموسى عليه السلام ﴿ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ ﴾ من عند الله ﴿ فَأْتِ بِهَا ﴾ بتلك الآية ﴿ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ في دعواك شرط استغنى من الجزاء بما مضى
﴿ فَأَلْقَى موسى عَصَاهُ ﴾ من يده ﴿ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ﴾، الثعبان الذكر العظيم من الحية وكان يتحرك كأنها جان أي حيّة صغيرة ولهذا قال : في موضع آخر ﴿ كأنّها جان ﴾ قال : ابن عباس والسدي أنه لما ألقى العصا صارت حيّة عظيمة صفراء شعراء عرفاء فاغرافاه بين لحييها ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض قدر ميل وأقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه، وروي أنها أخذت قبة فرعون بين نابيها فوثب فرعون هاربا وأخذت أخذة البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرة وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا ومات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذها وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت كذا أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق معمر عن قتادة،
ثم قال : فرعون هل معك أخرى قال : نعم ﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ ﴾ من تحت جيبه بعدما أدخلها فيه ﴿ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ﴾ بياضا عجيبا خارجا عن العادة لها شعاع غلب نور الشمس يعجب الناظرين لحسن منظره ثم أدخلها في جيبه فصارت أدما كما كانت
﴿ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ١٠٩ ) ﴾ ماهر في السحر يأخذ أعين الناس حتى يخيل إليهم العصا حية والأدم أبيض ويرى الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع، أسند القول المذكور ههنا إلى الملأ وفي سورة الشعراء إلى فرعون فالظاهر أن القول صدر منه ومنهم جميعا على سبيل التشاور فحكى قوله ثمة وقولهم هاهنا، وقاله فرعون ابتداء فتلقته منه الملأ فقالوا فيما بينهم ولأتباعهم
﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم ﴾ يا معشر القبط ﴿ مِّنْ أَرْضِكُمْ ﴾ يعني مصر﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ يحتمل أن يكون هذه بقية الكلام السابق الذي قال : الملأ لفرعون وخاصته فيكون الأمر على حقيقته أو قالوه فيما بينهم أو لأتباعهم فيكون تأمرون بمعنى تشيرون والمستشار من حيث أنه معلم ومرشد أمير على المسترشد، ويحتمل أن يكون قوله فماذا تأمرون كلام المخاطبين في جواب قولهم هذا ساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فعلى هذا إما أن يكون كلام لفرعون أو لغيره.
ثم بعد ما قال : فرعون وملائه ما ذكر اجتمع رأي الملأ على أن ﴿ قَالُوا ﴾ لفرعونْ ﴿ أَرْجِهْ ﴾ قرأ ابن كثير وهشام هذا وفي الشعراء أرجئه بالهمز وضم الهاء بعدها ووصلها بواو الإشباع وأبو عمرو كذلك لكن من غير صلة، وابن ذكوان بالهمز وكسر الهاء ولا يصلها بياء وهذه قراءة على خلاف القياس لأن الهاء لا تكسر إلا إذا كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة لكن الهمزة كانت تقلب ياء أجريت مجراها، وقرأ قالون بغير همز باختلاس الكسرة وورش والكسائي نحوه لكن يشبعان الكسرة ياء وعاصم وحمزة بغير همز وإسكان الهاء، والهاء في الوقف ساكنة بلا خلاف إلا في مذهب من ضمها سواء وصلها أو لم يصلها فإن الروم والإشمام جائزان فيها التشبيه المنفصل بالمتصل، ومعناه أخر أمره يعني لا تعجل في الإيمان به ولا في قتله وعقوبته حتى يظهر أمره، وفي القاموس أرجأ الأمر أخره ﴿ وَأَخَاهُ ﴾ هارون عليه السلام ﴿ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ ﴾ مدائن الصعيد من نواحي مصر كان هناك رؤساء السحرة ﴿ حَاشِرِينَ ﴾ أي : شرطا ورجالا جامعين السحرة
﴿ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ( ١١٢ ) ﴾ جواب لقوله أرسل يعني أن ترسل إليهم حاشرين يجمعون إليك من فيها من السحرة فإن غلبهم موسى صدقناه وإن غلبوا عليه علمنا أن ساحر.
قرأ حمزة والكسائي هنا وفي سورة يونس ﴿ بكل سحّار ﴾ بالألف بعد الحاء على المبالغة كما اتفق عليه القراء في الشعراء والباقون في هاتين ساحر على وزن فاعل.
قال البغوي : قال : السدي وابن عباس وابن إسحاق : لما رأى فرعون سلطان الله في العصا ما رأى قال : إنا لا نغالب موسى إلا بمن هو منه فاتخذ غلمانا من بني إسرائيل فبعث بها إلى قرية يقال لها الغرماء يعلمونهم السحر فعلموهم سحرا كثيرا، وواعد موسى موعدا فبعث إلى السحرة فجاؤوا ومعهم معلمهم فقال لهم ماذا صنعتم ؟ قالوا قد علمنا سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فإنه لا طاقة لهم به ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك في سلطانه ساحرا إلا أتى به. قال : مقاتل : كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط هما رأس القوم أحدهما شمعون وسبعون من بني إسرائيل، وقال : الكلبي : كان الذين يعلمونهم رجلين محبوسين من أهل نينوى وكانوا سبعين غير رئيسهم، وقال : كعب كانوا اثنى عشر ألفا، وقال : السدي كانوا بضعة وثلاثين ألفا، وقال : عكرمة سبعين ألفا وقال : محمد بن المنكدر كانوا ثمانين ألفا
﴿ وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ ﴾ مع الحاشرين بعدما أرسلهم في طلبهم ﴿ قَالْواْ ﴾ يعني السحرة، استئناف كأنه في جواب سائل قال : ما قالوا إذ جاؤوا ﴿ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴾ قرأ نافع وابن كثير وحفص إن لنا وقرأ الباقون أإن بهمزتين على الاستفهام وهم على مذاهبهم المذكورة في الهمزتين المفتوحتين ولم يختلفوا في الشعراء أنه بالاستفهام.
﴿ قال نعم وإنكم لمن المقربين ﴾ عطف على جملة سد مسدها نعم يعني إن لكم أجرا وإنكم لمن المقربين في المنزلة الرفيعة عندي زاد على الجواب لتحريضهم، قال : مقاتل : قال : موسى لكبير السحرة تؤمن بي إن غلبتك قال : لآتين بسحر لا يغلبه ساحر ولئن غلبتني لأومنن بك وفرعون ينظر.
﴿ قالوا ﴾ أي السحرة ﴿ يا موسى إما أن تلقى ﴾ عصاك ﴿ وإما أن نكون نحن الملقين ﴾ عصينا وحبالنا، خيروا موسى إظهار للجلادة ولكن كان رغبتهم في أن يلقوا قبل موسى يدل عليه تغير النظم إلى ما هو أبلغ وتعريف الخبر وتوسيط الفصل أو تأكيدهم الضمير المتصل بالمنفصل فلذلك ﴿ قال ﴾ موسى ﴿ بل ألقوا ﴾
﴿ قال ﴾ موسى ﴿ بل ألقوا ﴾ ازدراء بهم وثوقا على شؤنه ﴿ فلما ألقوا ﴾ السحرة حبالهم وعصيهم ﴿ سحروا أعين الناس ﴾ أي صرفوها عن إدراك حقيقة ما ألقوه وتخيل للناس حبالهم وعصيهم حيات وأفاعي أمثال الجبال قد ملأ الوادي في ميل يركب بعضها في بعض ﴿ واسترهبوهم ﴾ أي خوفوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا رهبتهم ﴿ وجاءو بسحر عظيم ﴾ في فنه.
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى ﴾ حين أوجس في نفسه خيفة ﴿ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ ولا تخف إنك أنت الأعلى إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقاها﴿ فَإِذَا هِيَ ﴾ حية عظيمة قد سدت الأفق تسعى، قال : ابن زيد كان اجتماعهم بالإسكندرية ويقال بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة ثم فتحت فاها ثمانين ذرعا﴿ تَلْقَفُ ﴾ قرأ حفص ها هنا وفي طه والشعراء بإسكان اللام وتخفيف القاف من المجرد والباقون بفتح اللام وتشديد القاف من التفعل بحذف إحدى التاءين أصله تتلقف أي تبتلع ﴿ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ أي ما يزورونه من الإفك بمعنى قلب الشيء من وجهه، ويجوز أن يكون ما مصدرية والمصدر بمعنى المفعول، روي أنها تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعها بأسرها ثم أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت فقالت السحرة لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فلما نفدت علموا أن ذلك من الله تعالى
قوله تعالى ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ ﴾ أي ثبت وظهر أمره ﴿ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ السحرة
﴿ فَغُلِبُواْ ﴾ يعني فرعون وقومه ﴿ هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا ﴾ أي رجعوا إلى المدينة ﴿ صَاغِرِينَ ﴾ أذلاء مقهورين
﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ﴾ ألقاهم الله تعالى﴿ سَاجِدِينَ ﴾ لله تعالى، لم يقل سجدوا لله تنبيها على أن ظهور الحق اضطرهم إلى السجود حيث لم يبق لهم تمالك، وقيل : ألهمهم الله أن يسجدوا فسجدوا، وقال : الأخفش من سرعة فاسجدوا كأنهم ألقوا
﴿ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ( ١٢١ ) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ( ١٢٢ ) ﴾ أبدلوا الثاني بالأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون، قال : ابن عباس لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢١:﴿ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ( ١٢١ ) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ( ١٢٢ ) ﴾ أبدلوا الثاني بالأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون، قال : ابن عباس لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل.
﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ ﴾ أي بالله أو بموسى، قرأ قنبل وأمنتم به في حال الوصل يبدل من همزة الاستفهام واواً مفتوحة ومد بعدها مدة في تقدير ألفين، وقرأ في طه على الخبر بهمزة واحدة وألف، وقرأ في الشعراء على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة في تقدير ألفين، وحفص في الثلاثة بهمزة وألف على الخبر وأبو بكر وحمزة والكسائي فيهن على الاستفهام بهمزتين مخففتين بعدهما ألف والباقون على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة بعدها في تقدير ألفين، ولم يدخل أحد منهم ألفا بين الهمزة المخففة والملينة في هذه المواضع الثلاثة كما أدخلها في أأنذرتهم وبابه لكراهة اجتماع ثلاث ألفات بعد الهمزة، فالاستفهام للإنكار والاستبعاد والخبر على التوبيخ.
﴿ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ ﴾ أي هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموس ﴿ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ أي في مصر قبل أن يخرجوا للميعاد ﴿ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا ﴾ يعني القبط ويخلص مصر لكم ولبني إسرائيل ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ عاقبة ما فعلتم تهديد مجمل تفصيله
﴿ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ﴾ من كل شق طرفا و﴿ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ في جذوع النخل على شاطئ نهر مصر تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم، قيل : إنه أول من سن ذلك أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس
﴿ قَالُواْ ﴾ يعني السحرة لفرعون ﴿ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴾ بالموت لا محالة نرجو ثوابه فلا نبالي بوعيدك أو المعنى مصيرنا ومصيركم إلى ربنا فيحكم بيننا
﴿ وَمَا تَنقِمُ ﴾ أي ما تنكر ﴿ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا ﴾ وهو خير الأعمال وأصل المناقب لا يجوز علينا الإنكار ولا يجوز لنا العدول عنها لابتغاء مرضاتك أو خوف وعيدك، ثم فزعوا إلى الله فقالوا :﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ﴾ أي اصبب علينا صبرا كما يصب الماء كيلا يمنعنا وعيد فرعون عن الإيمان ويطهرنا من الآثام ﴿ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ ثابتين على الإسلام، وذكر الكلبي : أن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، وذكر غيره أنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى :﴿ فلا يصلون إليكما بآيتنا أنتما ومن أتبعكما الغالبون ﴾.
﴿ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ بتغير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك ﴿ وَيَذَرَكَ ﴾ عطف على يفسدوا أو جواب للاستفهام بالواو كقولهم هل عندكم ماء وأشربه والمعنى أيكون منك ترك موسى ويكون تركه إياك ﴿ وَآلِهَتَكَ ﴾ أي معبوداتك فلا يعبدون لك ولها، قال : ابن عباس كان لفرعون بقرة يعبدها وكانوا إذ رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها ولذلك أخرج لهم السامري عجلا، وقال : الحسن كان قد علق على عنقه صليبا يعبده، وقال : السدي كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناما وأمرهم بعبادتها وقال : لقومه هذه آلهتكم وأنا ربكم وربها ولذلك قال : أنا ربكم الأعلى، وقيل : كانوا يعبدون الكواكب. وقرأ ابن مسعود وابن عباس والشعبي والضحاك ويذرك آلهتك بكسر الألف على وزن عبادتك ومعناه، وقيل : أراد بآلهتك الشمس وكانوا يعبدونها ﴿ قَالَ ﴾ فرعون ﴿ سَنُقَتِّلُ ﴾ قرأ نافع وابن كثير بفتح النون وضم التاء مخففا من المجرد والباقون بضم النون وكسر التاء مشددا من التفعيل على التكثير.
﴿ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ ﴾ أي نتركهن أحياء كما نفعل من قبل ﴿ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا، قال : ابن عباس كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل في العام الذي قيل : له يولد مولود يذهب به ملكك فقال فرعون أعيد عليهم القتل ليعلموا أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم أحد أن موسى هو المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يديه
فلما أعاد عليهم القتل شكت ذلك بنو إسرائيل إلى موسى فحينئذ ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ ﴾ بالتضرع إليه والدعاء والتوكل عليه ﴿ وَاصْبِرُواْ ﴾ على ما يصيبكم من فرعون وقومه فإن ذلك بإرادة الله ومشيئته وابتلائه ﴿ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ﴾ كافرا كان أو مسلما لا يجوز الاعتراض عليه تعالى ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ يعني جزاء الحسنات والسعادة الأبدية التي لا تنقطع والجنة للمتقين فابتغوا الدار الآخرة الباقية واصبروا على ما أصابكم في الدنيا الفانية، سمى جزاء الفعل العقبى والعاقبة لأنه يعقب العمل لكنهما مختصان بالثواب وخير الجزاء على الحسنات كذلك العقب مختص بالثواب كما أن العقوبة والمعاقبة والعقاب مختصة بالعذاب وسوء الجزاء قال : الله تعالى :﴿ أولئك لهم عقبى الدار ﴾ ﴿ فنعم عقبى الدار ﴾، ﴿ وخير عقبا ﴾، وقال :﴿ فحق عقاب ﴾ ﴿ شديد العقاب ﴾ ﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾ وجاز أن يكون قوله إن الأرض لله إلى آخره وعدا لنبي إسرائيل بأن يرثوا أرض مصر بعد فرعون ويكون لهم النصر والظفر عاقبة الأمر كالآية الثانية
﴿ قَالُواْ ﴾ يعني قوم موسى ﴿ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا ﴾ بالرسالة بقتل الأبناء ﴿ وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾ بإعادة القتل علينا، وقيل : إن المراد منه أن فرعون كان يسخرهم قبل مجيء موسى إلى نصف النهار فلما جاء موسى استسخرهم جميع النهار بلا أجر، وذكر الكلبي : أنهم كانوا يضربون اللبن بطين فرعون فلما جاء موسى عليه السلام أجبرهم أن يضربوه من طين من عندهم ﴿ قَالَ ﴾ لهم موسى ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ﴾ فرعون ﴿ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ ﴾ أي يسكنكم بعد هلاكه ﴿ فِي الأَرْضِ ﴾ أرض مصر ﴿ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ من شكر وطاعة أو كفران معصية وعدهم الله تعالى بالنصر والظفر وأشار إلى إيجاب الشكر عند ابتلائه بالخير وإيجاب الصبر على الابتلاء بالشر فأنجز الله وعده حتى أغرق فرعون واستخلفهم في ديارهم وأموالهم فعبدوا العجل، وروى أن مصر فتح لهم في زمن داود عليه السلام.
﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ ﴾ أي أتباعه ﴿ بِالسِّنِينَ ﴾ بالجدوب والقحوط والسنة غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه ويؤرخ به ثم اشتق منه فيقال سنت القوم إذا قحطوا ويقال مستهم السنة أي جدب السنة، وقيل : أراد بالسنين القحط سنة بعد سنة ﴿ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ ﴾ بكثرة الآفات والعاهات، قال : قتادة أما سنين فلأهل البوادي وأما نقص الثمرات فلأهل الأمصار ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ لكي ينتبهوا على أن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم فيتعطفوا أو يرق قلوبهم بالشدائد فيفزعوا إلى الله ويرغبوا فيما عنده
﴿ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ ﴾ يعني الخصب والسعة والعافية ﴿ قَالُواْ ﴾ أي آل فرعون ﴿ لَنَا هَذِهِ ﴾ أي لأجلنا ونحن مستحقوها على العادة التي جرت لنا في سعة أرزاقنا ولم يروها تفضلا من الله تبارك وتعالى ليشكروا عليها.
﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ﴾ جدب وبلاء يكرهونه ﴿ يَطَّيَّرُواْ ﴾ أي يتشاءموا﴿ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ﴾ قالوا يصيبنا بلاء رأيناهم فهذا من شؤم موسى وقومه، وقال : سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر وكان ملك فرعون أربعمائة سنة وعاش ستمائة وعشرين لا يرى مكروها ولو كان له في تلك المدة جوع أو حمى يوم أو وجع ساعة لما ادعى الربوبية قط، ولم يكن هذا القول منهم إلا لكمال إغراقهم في الغباوة والقساوة فإنهم بعد مشاهدة الآيات لم ينتبهوا على أنه ما كانت الحسنة إلا تفضيلا من الله تعالى وابتلاء فلما لم يشكروها ودعاهم الرسول المؤيد بالمعجزات الباهرة إلى الشكر والطاعة فلم يطيعوه وتمادوا في العصيان أخذتهم السنة لشؤم أعمالهم عقوبة من عند الله تعالى كما قال :﴿ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ ﴾ أي شؤمهم ﴿ عِندَ اللّهُ ﴾ أي من عنده بكفرهم ومعاصيهم كذا قال : ابن عباس ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ لفرط غباوتهم أن الذي أصابهم عقوبة من الله تعالى، وقيل : معنى الآية أن طائرهم أي أنصبائهم من الخير والشر كله من عند الله، وفي القاموس الطائر ما تيمنت به أو تشاءمت والخط وعمل الإنسان ورزقه أو سبب خيرهم وشرهم عنده وهو حكمه ومسببه أو سبب شؤمهم عند الله وهو أعمالهم المكتوبة عنده فإنها التي ساقت إليهم ما يسوءهم، وقيل : معناه الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله من عذاب النار، قال : البيضاوي إنما عرف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق يعني إذا لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بها بالذات لسعة رحمة الله تعالى ونكر السيئة وأتى بها مع حرف الشك يعني أن لندرتها وعدم تعلق القصد بها إلا بالتبع.
﴿ وَقَالُواْ ﴾ يعني فرعون وآله لموسى عليه السلام ﴿ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ ﴾ أي معجزة وعلامة على صدقك في دعوى النبوة إنما سموها آية على زعم موسى عليه السلام أو استهزاء به على اعتقادهم ولذلك قالوا :﴿ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا ﴾ أعيننا وتشبه علينا وتلفتنا عما نحن عليه من الذين والضمير في به وبها لما ذكره قبل التبيين أي الكلمة مهما ذكره باعتبار اللفظ وأنثه باعتبار المعنى ﴿ فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ بمصدقين فدعا موسى عليهم ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ ﴾.
﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ ﴾ نصب على الحال من الأسماء المذكورة ﴿ مُّفَصَّلاَتٍ ﴾ مبينات لا يخفى على العاقل أنها من الله تعالى ونقمته أو منفصلات لامتحان أحوالهم وكان بين كل آيتين منها ثلاثون يوما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وكان امتداد كل منها أسبوعا أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس بلفظ يمكث فيهم سبتا إلى سبت ثم يرفع عنهم شهرا، وقيل : إن موسى لبث فيهم بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل، قال : البغوي : قال : ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق : دخل كلام بعضهم في بعض لما آمنت السحرة ورجع فرعون وقومه مغلوبا إلى مصر وقومه إلا لإقامة على الكفر والتمادي في الشر فتابع الله عليهم الآيات وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات فلما عالج منهم بالآيات الأربع العصا واليد والسنين ونقص من الثمرات فأبوا أن يؤمنوا، فدعا عليهم موسى عليه السلام فقال يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وطغى وعتى وإن قومه قد نقضوا عهدك فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة ولقومي غطة ولمن بعدهم آية وعبرة، فبعث عليهم الطوفان وهو الماء أرسل الله عليهم المطر وبيوت بني إسرائيل وبيوتهم مشتبكة مختلطة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء وركد الماء على أراضيهم لا يقدرون على أن يحرثوا ولا يزرعوا شيئا ودام ذلك عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، وقال : مجاهد وعطاء الطوفان الموت كذا أخرج ابن جرير عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال : وهب الطوفان الطاعون بلغة اليمن، وقال : أبو قلابة الطوفان الجدري وهم أول من عذبوا به فبقي في الأرض، وقال : مقاتل الطوفان الماء طفا فوق حروثهم، وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : الطوفان أمر من الله عز وجل طاف بهم ثم قرأ ﴿ فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ( ١٩ ) ﴾.
قال نحاة الكوفة الطوفان مصدر لا يجمع كالرجحان والنقصان وقال : أهل البصرة هو جمع واحدها طوفانة، فقالوا : لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف الطوفان فأنبت الله لهم في تلك السنة شيئا لم ينبت قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمار فأخصبت بلادهم فقالوا : ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصبا فلم يؤمنوا وقاموا شهرا في عافية، فبعث الله عليهم الجراد وأكل عامة زروعهم وثمارهم وأوراق الشجر حتى كانت تأكل وسقف البيت والخشب والنبات والأمتعة ومسامير الأبواب من الحديد حتى يقع دونهم وابتلى الجراد بالجوع فكانت لا تشبع ولا يصيب بني إسرائيل شيء من ذلك فعجوا وضجوا وقالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك وأعطوا عهد الله وميثاقه، فدعا موسى فكشف الله عنهم الجراد بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، وفي الخبر مكتوب على صدر كل جراد جند الله الأعظم ويقال إن موسى برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت وكانت قد بقيت من زروعهم وغلاتهم فقالوا : قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا فلم يفوا بما عاهدوا وعادوا إلى أعمالهم السوء فأقاموا شهرا في عافية ثم بعث الله عليهم القمل، واختلفوا في القمل، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : القمل السوس الذي يخرج من الحنطة، وقال : مجاهد والسدي وقتادة والكلبي الدباء قالوا الجراد الطيارة التي لها أجنحة والدباء صغارها التي لا أجنحة لها، وقال : عكرمة هي بنات الجراد، قال : أبو عبيدة هو الحمنان وهو ضرب من القراد، وقال : عطاء الخراساني هو القمل وبه قرأ الحسن والقمل بفتح القاف وسكون الميم، قالوا : أمر الله تعالى موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى الشمس فمشى موسى إلى ذلك الكثيب وكان أهيل فضربه بعصاه فانهال عليهم بالقمل فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم ونباتهم فأكله وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضه وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلئ قملا، قال : سعيد بن المسيب القمل السوس الذي يخرج من الحبوب وكان الرجل يخرج عشرة أقفزة إلى الرحى فلم يرد منها إلا ثلاثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل وأغزت أشعارهم وأبصارهم وأشعار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كالجدري عليهم ومنعهم النوم والقرار فصرخوا وصاحوا إلى موسى إنا نتوب فادع الله لنا ربك يكشف عنا البلاء فدعى موسى فرفع الله القمل عنهم بعدما ما أقام سبعة أيا من السبت إلى السبت، فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم وقالوا ما كنا قط أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم يجعل الوصل دوابا فدعا موسى عليهم بعدما أقاموا شهرا في عافية. فأرسل الله عليهم الضفادع فامتلأت منها بيوتهم وأفنيتهم وأطعمتهم وآنيتهم فلا يكشف أحد إناء ولا طعاما إلا وجد فيه الضفادع وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى ذقنه ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه وكانت تثب في قدورهم فيفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم، وكان أحدهم يضطجع فتركبه الضفادع فتكون عليه ركاما حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر ويفتح فاه لأكله فيسبق الضفادع أكلته إلى فيه ولا يعجن عجينا إلا تشدخت فيه ولا يفتح قدرا إلا امتلأت ضفادع فلقوا منها أذى شديدا، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : كانت الضفادع برية فلما أرسلها الله على أهل فرعون سمعت وأطاعت تقذف نفسها في القدر وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور فأثابها لحسن طاعتها ترد الماء، فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى وقالوا هذه المرة نتوب ولا نعود فأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعدما أقاموا سبعا من السبت إلى السبت فأقاموا شهرا في عافية. ثم نقضوا العهود وعادوا إلى كفرهم فدعا عليهم موسى فأرسل الله عليهم الدم فسال النيل عليهم دما وصارت مياههم دما من يستسقون من الآبار والأنهار إلا وجدوا دما عبيطا أحمر، فشكوا إلى فرعون فقال إنه قد سحركم فقال القوم من أين سحرنا ونحن لا نجد في أعيننا من الماء إلا دما، كان يجمع بين القبطي والإسرائيلي على الإناء الواحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما ويقومان إلى جب فيه الماء فيخرج الإسرائيلي ماء والقطبي دم حتى تكون المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول أسقيني من مائك فتصب لها من قربتها فيعود في الإناء دما حتى كانت تقول إجعليه في فيك ثم مجيه في فيّ فإذا مجته في فيها صار دما، وإن فرعون اعتراه العطش حتى أنه كان يضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغ يصير ماؤها في فيه ملحا أجاجا فمكثوا في ذلك سبعة أيام ولم يشربوا إلا الدم، قال : زيد بن أسلم الذي كان سلط الله عليهم كان رعافاً فأتوا موسى وقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم ﴿ فَاسْتَكْبَرُواْ ﴾ عن الإيمان بموسى.
﴿ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ ﴾ أي نزل بهم جنس العذاب الذي ذكر من الطوفان وغيره، وقال : سعيد بن جبير الرجز هو الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس مات منهم سبعون ألفا في يوم واحد فأمسوا وهم يتدافنون. روى الشيخان في الصحيحين والترمذي والبغوي عن أسامة بن زيد قال : قال : رسول الله صل الله عليه وسلم :( الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به من أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ).
وروى أحمد والبخاري عن عائشة قالت : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الطاعون كان عذابا يبعثه الله على من يشاء وإن الله جعله رحمة للمؤمنين فليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد ) قلت : لكن الحديثين المذكورين لا يدلان على أن الطاعون أرسل على القبط بل يدلان على أنه أرسل على بني إسرائيل ولعل ذلك بعد فرعون، قلت : ولو صح قول سعيد بن جبير فحينئذ يعد السنين ونقص من الثمرات آية واحدة ثالثة بعد العصا واليد بعضها على أهل القرى هو السنين وبعضها على أهل الأمصار وهو نقص من الثمران وبعدها ست آيات من الطوفان إلى الرجز فهي الآيات التسع المرادة بقوله تعالى :﴿ لقد أتينا موسى تسع أيات ﴾
﴿ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ ﴾ أي نزل بهم جنس العذاب الذي ذكر من الطوفان وغيره، وقال : سعيد بن جبير الرجز هو الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس مات منهم سبعون ألفا في يوم واحد فأمسوا وهم يتدافنون. روى الشيخان في الصحيحين والترمذي والبغوي عن أسامة بن زيد قال : قال : رسول الله صل الله عليه وسلم :( الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به من أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ).
وروى أحمد والبخاري عن عائشة قالت : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الطاعون كان عذابا يبعثه الله على من يشاء وإن الله جعله رحمة للمؤمنين فليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد ) قلت : لكن الحديثين المذكورين لا يدلان على أن الطاعون أرسل على القبط بل يدلان على أنه أرسل على بني إسرائيل ولعل ذلك بعد فرعون، قلت : ولو صح قول سعيد بن جبير فحينئذ يعد السنين ونقص من الثمرات آية واحدة ثالثة بعد العصا واليد بعضها على أهل القرى هو السنين وبعضها على أهل الأمصار وهو نقص من الثمران وبعدها ست آيات من الطوفان إلى الرجز فهي الآيات التسع المرادة بقوله تعالى :﴿ لقد أتينا موسى تسع أيات ﴾
﴿ قَالُوا ﴾ يعني فرعون وأتباعه ﴿ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ﴾ كشف العذاب عنا آن آمنا أو بعهده عندك وهو النبوة كذا قال : عطاء، أو بالذي عهده إليك من إجابة دعوتك، وهو صلة لادع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع الله متوسلا إليه بما عهد عندك أو متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل اسعفنا إلى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك أو قسم جوابه ﴿ لَئِن كَشَفْتَ ﴾ يعني أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت ﴿ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ﴾ إلى أرض الشام وكان استعبدهم.
﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا ﴾ بدعاء موسى ﴿ عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ ﴾ أي حد من الزمان ﴿ هُم بَالِغُوهُ ﴾ يعذبون فيه أو يهلكون وهو وقت الغرق أو الموت وقيل : إلى أجل عينوه لإيمانهم ﴿ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴾ جواب للمّا أي فلما كشفنا عنهم الرجز فأتوا النكث ونقض العهد والإصرار على الكفر من غير توقف وتأمل فيه.
﴿ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ يعني أخذناهم بالنقمة والعذاب بيانه ﴿ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمّ ﴾ أي البحر الذي لا يدرك قعره وهو لجة البحر المالح ومعظم مائه، واشتقاقه من التيمم لأن المشفعين به يقصدونه ﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ أي بسبب أنهم ﴿ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا ﴾ أي عن الآيات ﴿ غَافِلِينَ ﴾ يعني أنهم لم يتفكروا فيها حتى صاروا كالغافلين عنها، وقيل : الضمير للنقمة المدلول عليها بقوله فانتقمنا
﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ ﴾ يعني بني إسرائيل بالاستعباد وذبح الأبناء واستخدام النساء ﴿ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ بالأنهار والأشجار والثمار والخصب وسعة العيش يعني أرض مصر والشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا في نواحيها.
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى ﴾ تأنيث للأحسن صفة للكلمة أي مضت عليهم يقال تم الأمر إذا مضى عليه واتصلت بالإنجاز واستمرت عدته إياهم بالنصرة والتمكين وهو قوله :﴿ ونريد أن نمن ﴾ إلى قوله :﴿ ما كانوا يحذرون ﴾ المذكور في القصص، وقوله ﴿ عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفونكم في الأرض ﴾.
﴿ عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ أي بسبب صبرهم على دينهم والشدائد من فرعون وقومه ﴿ وَدَمَّرْنَا ﴾ خربنا﴿ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ﴾ من القصور والعمارات ﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ﴾ من الثمار والأعناب في الجنات كذا قال : الحسن، أو كانوا يرفعون من البناء كصرح هامان وغير ذلك من القصور والبيوت كذا قال مجاهد. قرأ أبو بكر وابن عامر يعرشون بضم الراء هنا وفي النحل والباقون بكسرها. وهذا آخر قصة فرعون وقومه ويتلوه ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعدما منّ الله عليهم بالنعم الجسام وأراهم من الآيات العظام تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرى منهم وإيقاظا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم، وفي قوله تعالى :﴿ بما صبروا ﴾ حث على الصبر ودلالة على أن من قابل البلاء بالصبر فرجه الله عنه ودمر عدوه ومن قابله بالجزع وكله الله إليه والله تعالى أعلم.
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْر ﴾ قال : الكلبي : عبر بهم موسى البحر يوم عاشوراء بعدما هلك فرعون وقومه شكرا فصام شكرا لله عز وجل ﴿ فَأَتَوْاْ ﴾ فمروا ﴿ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ ﴾ أي يقيمون قرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف والباقون بضمهما وهما لغتان ﴿ عَلَى ﴾ عبادة ﴿ أَصْنَامٍ ﴾ أوثان﴿ آلهة ﴾ قال : ابن جريج وكانت تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل وكذا أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير وزاد من النحاس، والقوم قيل : كانوا من العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر إنهم لخم وجذام، وقال : البغوي : قال : قتادة لأن أولئك القوم من لخم وكانوا نزولا بالرقة فقالت بنو إسرائيل لما رأوا ذلك ﴿ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا ﴾ أي مثالا نعبده ﴿ كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ ما كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها، قال : البغوي : ولم يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى وإنما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه ونتقرب إلى الله بتعظيمه وظنوا أن ذلك لا يضر الديانية، وكان ذلك لخفة عقلهم وشدة جهلهم ولذلك ﴿ قَالَ ﴾ لهم موسى تعجبا من قولهم على إثر ما رأوا من الآيات ﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ وصفهم بالجهل. وأكده بقوله ﴿ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُون ﴾
﴿ إِنَّ هَؤُلاء ﴾ القوم ﴿ مُتَبَّرٌ ﴾ أي مهلك ﴿ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ يعني الله يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضا ﴿ وَبَاطِلٌ ﴾ مضمحل ﴿ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُون ﴾ من عبادتها يعني ليس ذلك مقربا إلى الله تعالى، بالغ في هذا الكلام بإيقاع هؤلاء اسم إن الإخبار عما هم فيه بالتبار وعما فعلوا بالبطلان، وتقديم المخبرين في الجملتين الواقعتين خبرا لأن للتنبيه على أن الدمار لاحق لما هم فيه لا محالة لا يعدوهم وأن الإحباط الكلي لازم لما مضى عنهم تنفيرا وتحذيرا عما طلبوا
ثم ﴿ قَالَ ﴾ موسى توبيخا وتعجبا ﴿ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا ﴾ أطلب لكم معبودا ﴿ وَهُوَ ﴾ أي الله سبحانه ﴿ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ أي عالمي زمانكم يعني والحال أنه خصكم بنعم لم يعطها غيركم، وفيه تنبيه على سوء مقابلتهم حيث قابلوا تخصيص الله إياهم من بين أمثالهم بما لم يستحقوه تفضيلا بما قصدوا أن يشركوا به أحسن شيء من مخلوقاته وهو ليس كمثله شيء.
عن واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطنون سلاحهم بسدرة يعكفون عليها فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن من قبلكم )
﴿ و ﴾ اذكروا صنيعه معكم الآن ﴿ وإِذْ أَنجَيْنَاكُم ﴾ قرأ ابن عامر من الأفعال على الغيبة وهكذا في مصاحف أهل الشام والباقون على التكلم والتعظيم ﴿ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ ﴾ استئناف لبيان ما أنجاهم منه أو حال من المخاطبين أو من آل فرعون ومنها ﴿ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ ﴾ قرأ نافع بفتح الياء وإسكان القاف وضم التاء الفوقانية من المجرد والباقون بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء مشددا من التفعيل للتكثير ﴿ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ﴾ جملة يقتلون مع ما عطف عليه بدل من يسومونكم مبين له ﴿ وَفِي ذَلِكُم ﴾ العذاب أو الإنجاء ﴿ بَلاء ﴾ محنة أو نعمة ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾.
﴿ ووعدنا موسى ﴾ قرأ أبو عمرو ووعدنا من المجرد والباقون من المفاعلة ﴿ ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر ﴾ أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية يعني ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة، قال : السيوطي وعد الله موسى أن يكلمه عند انتهاء ثلاثين ليلة، وقال : البغوي : وعد موسى بني إسرائيل وهو بمصر أن الله إذا أهلك عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما فعل الله ذلك سأل موسى ربه الكتاب فأمر الله عز وجل أن يصوم ثلاثين يوما فلما تمت ثلاثون وجد خلوفا فتسوك بعود خروب، وقال : أبو العالية أكل من لحاء شجرة فقالت له الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمر الله أن يصوم عشرة أيام من ذي الحجة وقال : أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك وكانت فتنتهم في العشر الذي زاده وكذا أخرج الديلمي عن ابن عباس معناه ﴿ فتمّ ميقات ربه ﴾ أي وقت وعده بكلامه وإيتاء الكتاب ﴿ أربعين ﴾ حال ﴿ ليلة ﴾ تمييز ﴿ وقال موسى ﴾ عند انطلاقه إلى الجبل للمناجاة ﴿ لأخيه هارون اخلفني ﴾ أي كن خليفتي ﴿ في قومي وأصلح ﴾ ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحا بحملك إياهم على طاعة الله، وقال ابن عباس يريد الرفق بهم والإحسان إليهم ﴿ ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾ يعني لا تتبع من عصى الله ولا تطع من دعاك إلى المعصية والإفساد
﴿ ولما جاء موسى ﴾ إلى طور سيناء ﴿ لميقاتنا ﴾ اللام للاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا أي وقتنا الذي وقّتنا له أن أكلمه فيه، قال : أهل التفسير إن موسى عليه السلام تطهر وطهر ثيابه لميعاد ربه ﴿ وكلمه ربه ﴾ في القصة أن الله أنزل ظلمة على سبعة فراسخ وطرد عنه الشياطين وطوّر هوام الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء فرأى الملائكة قياما في الهواء ورأى العرش بارزا فكلمه الله ونجاه حتى أسمعه وكان جبرئيل معه فلم يسمع ما كلمه ربه حتى سمع صرير القلم، قال البيضاوي : روي أن موسى كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة، قلت : معناه أنه لا يسمع من جهة وكان كلما يتوجه إلى جهة من الجهات يسمع ذلك الكلام بلا جهة من غير تفاوت فاستحلى موسى كلام ربه واشتاق إلى رؤيته و﴿ قال ربي أرني ﴾ نفسك ﴿ أنظر إليك ﴾ قال : الحسن هاج به الشوق قال : الرؤية ظنا منه أنه يجوز أن يرى في الدنيا يعني قياسا على الرؤية في الآخرة.
﴿ قال ﴾ الله تعالى :﴿ لن ترني ﴾ ليس لبشر أن يطيق النظر إلي في الدنيا من نظر إلي في الدنيا مات فقال : إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولأن أنظر إليك ثم أموت أحب إلي من أن أعيش، ولا أراك، قال : السيوطي التعبير بلن تراني دون لا أرى يفيد إمكان الرؤية فقال الله تعالى :﴿ ولكن انظر إلى الجبل ﴾ الآية وهو أعظم جبل بمدين يقال له زبير، قال السدي : لما كلم الله تعالى موسى غاص الخبيث إبليس في الأرض حتى خرج بين قدمي موسى فوسوس إليه وقال : إن من كلمك شيطان فعند ذلك سأل الرؤية، وفي هذه الآية دليل على إمكان الرؤية في الدنيا لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال خصوصا ما يقتضي الجهل بالله تعالى وقوله لن تراني فيه دليل على عدم الوقوع له ما دامت الدنيا لا على عدم الوقوع له ولغيره فضلا من عدم الإمكان، والظاهر أن موسى من قبل نزول قوله لن تراني كان لا يعرف عدم الوقوع في الدنيا وليس هذا جهلا بالله تعالى بل ببعض أحكامه كما أن نوحا عليه السلام سأل ربه نجاة ابنه وإبراهيم عليه السلام مغفرة لأبيه ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم سأل مغفرة أبي طالب حتى نزل قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ﴾ الآية، وسأل مغفرة بعض المنافقين حتى نزل :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر إن تستغفر لهم سبعين مرة ﴾ وحتى نزل :﴿ ولا تصلي على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ﴾ كل ذلك لعدم اطلاعهم على عدم وقوع الاستجابة مع كفر المدعو لهم. واستدل نفاة الرؤية بقوله تعالى ﴿ لن ترني ﴾ قالوا لن للتأكيد، قلنا ليس كذلك بل هي لتأكيد نفي الرؤية المسؤولة في الدنيا ألا ترى أن قوله تعالى ﴿ ولن يتمنوه أبدا ﴾ إخبار عن اليهود وقد أخبر عن الكفرة بتمنيهم الموت في الآخرة حيث قال :﴿ ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ﴾ وقال :﴿ يا ليتها كانت القاضية ( ٢٧ ) ﴾ ﴿ ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ﴾ والقول بأن سؤال موسى عليه السلام الرؤية كان لتبكيت قومه حين قالوا :﴿ أرنا الله جهة ﴾خطأ فاحش فإن ذلك وقعة أخرى وقد عذبهم الله تعالى على ذلك القول فأخذتهم الصاعقة بظلمهم حيث لم يكونوا مستحقين لها ولم يكن أحد من قوم موسى معه حين كلمه الله تعالى وأعطاه التوراة وسأل ربه الرؤية ولم يعاتب على موسى على ذلك السؤال لاستحقاقه وإنما نفى الرؤية لعدم احتمالها للنية الدنيوية وقال :﴿ ولكن انظر إلى الجبل ﴾ الآية، وأيضا لو كانت الرؤية ممتنعة وكان هذا السؤال لتبكيت قومه لوجب على موسى أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا اجعل لنا إلها وكيف يتبع موسى سبيلهم لو كان ممتنعا وقد قال : لأخيه ولا تتبع سبيل المفسدين وقوله تعالى :﴿ ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ﴾ استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه كما لا يطيق الجبل، وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضا دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن، قال : وهب وابن إسحاق : لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الضباب والصواعق والظلمة والرعد والبرق وأحاطت بالجبل الذي عليه موسى إلى أربعة فراسخ من كل جانب وأمر الله تعالى ملائكة السماوات أن يعترضوا على موسى فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد، ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه أمثال الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضيف ابن عمران مما رأى وسمع واقشعرت كل شعره في رأسه وجسده، ثم قال : لق د ندمت على مسألتي فهل يجنبني من مكاني الذي أنا فيه شيء، فقال خير الملائكة ورأسهم يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت، ثم أمر الله الملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى اعترضوا عليه فهبطوا أمثال الأسود ولهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تتبع بالتسبيح والتقديس كجلب الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار ففزع موسى واشتد نفسه وأيس من الحياة، فقال له خير الملائكة يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه، ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا واعترضوا على موسى ابن عمران وكان لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به قبلهم فاصطكت ركبتاه وأرعد قلبه واشتد بكاؤه، فقال له خير الملائكة ورأسهم يا ابن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيته، ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا واعترضوا على موسى فهبطوا عليه سبعة ألوان فلم يستطيع موسى أن يتبعهم بصره لما لم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه واشتد حزنه وكثر بكاؤه، فقال له الملائكة يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه، ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدي الذي طلب ليراني فاعترضوا عليه، وفي يد كل ملك مثل النخلة الطويلة نار أشد ضوءا من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاؤا بهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم يقولون لشدة أصواتهم سبوح قدوس رب الملائكة والروح رب العزة أبدا لا يموت في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح حين سبحوا وهو يبكي ويقول رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدري أنفلت مما أنا فيه أم لا إن خرجت احترقت وإن مكثت مت، فقال له كبير الملائكة ورأسهم قد أوشكت يا ابن عمران أن يشتد خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت، ثم أمر الله أن يحمل عرشه في ملائكة السماء السابعة فلما بدأ نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب جل جلاله فرفعت ملائكة السماء أصواتهم جميعا يقولون سبحان الملك القدوس رب العزة أبدا لا يموت فارتج الجبل بشدة أصواتهم واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقا على وجهه ليس معه روحه فأرسل الله برحمته الروح فتعشاه وقلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى وجعل كهيئة القبة لئلا يحترق موسى فأقامه الروح مثل الأم فقال موسى آمنت بك ربي وصدقت أنه لا يراك أحد فيحي من نظر إلىّ لا يعد لك شيء ولا يقوم لك شيء رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك وما أجلك رب العالمين ﴿ فلما تجلى ربه ﴾ أي ظهر وانكشف بعض أنواره، قال : السيوطي أظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر كذا في حديث صححه الحاكم ﴿ للجبل ﴾ قالت الصوفية التجلي ظهور الشيء في المرتبة الثانية كظهور زيد في المرآة وليس هو رؤية الذات فإن الله سبحانه لما نفى الرؤية لموسى بالتأكيد مع كونه أقوى استعدادا من الجبل لا يتصور حصوله للجبل، قال : الله تعالى :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنس ﴾ قال : ابن عباس ظهر نوره للجبل، وقال : الضحاك أظهر الله من نوره الحجب مثل منخر ثور، وقال : عبد الله ابن سلام وكعب الأحبار ما تجلى من عظمة الله للجبل الأمثل سم الخياط حتى صار دكا، وقال : السدي ما تجلى إلا قدر الخنصر يدل عليه ما روى أحمد والترمذي والحاكم وصححاه عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية وقال هكذا ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل وخر موسى صعقا ) وأخرج أبو الشيخ بلفظ وأشار بالخنصر فمن نورها جعله دكا، وحكي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله أظهر من سبعين ألف حجاب من نور قدر الدرهم فجعل الدرهم للجبل دكا ﴿ جعله دكا ﴾ قرأ حمزة والكسائي دكاء بالمد والهمز بغير تنوين أي أيضا مستوية ومنه ناقة دكاء التي لا سنام لها، وقرأ الباقون دكّا بالتنوين بغير همز أي مدكوكا مفتتا والدك والدق أخوان، قال : في القاموس الدك والدق والهدم ما استوى من الرمل، قال : ابن عباس جعله ترابا قال : ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه، وقال عطية العوفي صار رملا هائلا، وقال : الكلبي : جعله دكا أي كسرا جبالا صغارا، قال : البغوي : وقع في التفاسير صارت لعظمته ستة أجبل وقعت ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء، قال : السعاف في تخريج البيضاوي أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى :﴿ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ﴾ قال : أسمع موسى قال : له إنني أنا الله قال : وذاك عشية عرفة وكان الجبل بالموقف فانقطع على سبع قطع قطعة أسقطت بين يديه وهو الذي يقوم الإمام عنده في الموقف وبالمدينة ثلاثة طيبة وأحد ورضوى وطور سيناء بالشام وإنما سمي الطور لأنه طار في الهواء إلى الشام، قلت : الرواية غريبة جدا فإن تكلم الله تعالى بموسى عليه السلام وإعطائه التوراة كان بالشام على طور سيناء دون مكة والله أعلم ﴿ وخر موسى صعقا ﴾ قال : ابن عباس والحسن مغشيا عليه وقال : قتادة ميتا، قال : الكلبي : خر موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة فأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر، قال : الواقدي لما خر موسى صعقا قال : ملائكة السماوات ما لابن عمران وسؤال الرؤية ﴿ فلما أفاق ﴾ موسى من صعقته ﴿ قال ﴾ تعظيما لما رأى ﴿ سبحانك تبت إليك ﴾ من الجرأة والإقدام على السؤال بغير إذن ﴿ وأنا أول المؤمنين ﴾ لأن إيمان كل نبي مقدم إيمان أمته
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ يا موسى إني ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان ﴿ اصطفيتك ﴾ أي إخترتك ﴿ على الناس ﴾ الموجودين في زمانك ﴿ برسالتي ﴾ قرأ نافع وابن كثير برسالتي على التوحيد والباقون على الجمع ﴿ وبكلمى ﴾ أي بتكليمي إياك ﴿ فخذ ما أتيتك ﴾ أعطيتك من الرسالة ﴿ وكن من الشاكرين ﴾ وفي القصة أن موسى بعدما كلمه ربه لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات، وقالت له امرأته أنا أيم منك منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فأخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرت لله ساجدة وقالت ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة، قال : ذلك لك إن لم تتزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزوجها. وروى البغوي : بسنده عن كعب الأحبار أن موسى نظر في التوراة فقال رب إني أجد أمة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وبالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلون الأعور الدجال رب اجعلهم أمتي، قال : يا موسى هي أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال : رب إني أجد أمة هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذ أرادوا أمرا قالوا نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي، قال : هي أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال : رب إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون المشفع لهم فاجعلهم أمتي، قال : هي أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله وإذا هبط واديا حمد الله الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيث ما كانوا يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء غر محجلون من آثار الوضوء فاجعلهم أمتي، قال : هي أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رب إني أجد أمة إذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة مثلها وإن عملها ضعف عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وإذا همّ بسيئة ولم يعملها لم يكتب عليه وإن عمل كتبت له سيئة مثلها فاجعلهم أمتي، قال : هي أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب من الذين اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد منهم إلا مرحوما فاجعلهم أمتي، قال : هي أمة أحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة يصفون في صلاتهم صفوف الملائكة أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل لا يدخل النار أحد منهم أبدا إلا من بَرِي من الحسنات مثل ما برى الحجر من ورق الشجر فاجعلهم أمتي، قال : هي أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأمته قال : يا ليتني من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأوحى الله عز وجل بثلاث يرضيه بهن ﴿ يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلمى ﴾ إلى قوله ﴿ سأوريكم دار الفاسقين ﴾ ﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ( ١٥٩ ) ﴾ قال : فرضي موسى عليه السلام كل الرضاء
﴿ وكتبنا له ﴾ أي لموسى ﴿ في الألواح ﴾ كانت سبعة أو عشرة، قال : ابن عباس يعني ألواح التوراة وفي الحديث كانت من سدر الجنة طول اللوح اثني عشر ذرعا أخرجه أبو الشيخ من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده، وجاء في الحديث ( خلق الله عز وجل آدم عليه السلام بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبي بيده ) وقال : الحسن كانت الألواح من خشب، وقال : الكلبي : كانت من زبرجدة خضراء، وقال : سعيد بن جبير كانت من ياقوت أحمر وكذا أخرج الطبراني وأبو الشيخ عن كعب، وقال : الربيع بن أنس كانت الألواح من زبرجد، وقال : ابن جريج كانت زمردا أمر الله تعالى جبرئيل عليه السلام حتى جاء بها من عدن فكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج أنها كانت من زمرد أو زبرجد، قال : وهب أمر الله بقلع الألواح من صخرة صماء لينها الله تعالى فقطعها بيده ثم شققها بيده وسمع موسى عليه السلام صرير القلم بالكلمات العشرة وكان ذلك في أول يوم من ذي القعدة وكانت الألواح عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام، وقال : مقاتل ووهب وكتبنا في الألواح كنقش الخاتم، وقال : الربيع بن أنس نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرء الجزء منه في سنة لم يقرأه إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزيز وعيسى، وقال : الحسن هذه الآية في التوراة ألف آية يعني قوله تعالى :﴿ وكتبنا له في الألواح ﴾ ﴿ من كل شيء ﴾ مما يحتاجون إليه من أمر الدين ﴿ موعظة ﴾ التذكير والتحذير مما يخاف عاقبته، قال : في القاموس وعظه موعظة ذكره ما يلين قلبه من الثواب والعقاب ﴿ وتفصيلا لكل شيء ﴾ أي تبيانا لك شيء من الأمر والنهي والحلال والحرام والحدود والأحكام، بدل من الجار والمجرور أي كتبنا كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام ﴿ فخذها ﴾ عطف على كتبنا بإضمار القول، أو بدل من قوله فخذ ما آتيتك، والضمير راجع إلى الألواح أو إلى كل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو للرسالات ﴿ بقوة ﴾ أي بجد واجتهاد وقيل : بقوة القلب وصحة العزيمة لأنه إذا أخذه بضعف النية رده إلى الفتور ﴿ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾ أي بما هو بالغ في الحسن مطلقا، وليس أفعل للتفضيل بالإضافة فإن كل ما هو في كتاب الله حسن بالغ في الحسن لا يحتمل النقيض ولا يجوز أن يكون شيء أحسن منه فهو كقولهم الصيف أحر من الشتاء كذا قال : قطرب، وقال : عطاء عن ابن عباس يحلوا حلالها ويحرموا حرامها ويتدبروا ويتعظوا بأمثالها ويعملوا بحكمها ويقفوا عند متشابهها، وقيل : المراد بأحسنها الفرائض والنوافل يعني ما يستحق عليه الثواب، وقيل بالعزيمة دون الرخصة وبأحسن الأمرين في كل شيء كالعفو أحسن من القصاص والصبر وأحسن من الانتصار﴿ سأوريكم دار الفاسقين ﴾ تحذيرا من أن لا تأخذ بكتاب الله تعالى فتكونون مثلهم والمراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها كذا قال : عطية العوفي، وقال : السدي مصارع الكفار، وقال : الكبي وقتادة ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا، وقال : مجاهد والحسن وعطاء دار الفاسقين مصيرهم في الآخرة يعني جهنم
﴿ سأصرف عن آياتي ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها والمعنى سأصرف عن التفكير في آياتي التي في الآفاق والأنفس وعن الاعتبار بها، وقيل : معناه سأصرفهم عن إبطال آياتي والمنزلة والمعجزات وأن يطفئوا نور الله بأفواههم كما فعل فرعون فعاد عليه بإعلائها أو بإهلاكهم والله متم نوره ولو كره الكافرون أو المعنى سأصرف عن قبول آياتي المنزلة في الكتاب والتصديق بها بالحرمان عن الهداية لعنادهم الحق نظيره قوله تعالى ﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ كذا قال : ابن عباس، وقال : سفيان سأمنع عن فهم القرآن ودرك عجائبه ﴿ الذين يتكبرون في الأرض ﴾ ويتجبرون على عبادي ويحاربون أوليائي ﴿ بغير الحق ﴾ صلة يتكبرون أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل أو حال من فاعله فحكم الآية عام بجميع الكفار وقيل : حكم الآية خاص وأراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها الله تعالى موسى عليه السلام ﴿ وإن يروا ﴾ هؤلاء المتكبرون ﴿ كل آية ﴾ منزلة أو معجزة أو منصوبة لدرك الحق ﴿ لا يؤمنوا بها ﴾ لعنادهم أو اختلال عقلهم بسبب إنهماكهم في الهوى والتقليد وبما طبع الله على قلوبهم ﴿ وإن يروا سبيل الرشد ﴾ أي الهدى والسداد بإراءة الأنبياء والعلماء ﴿ لا يتخذوه ﴾ لأنفسهم ﴿ سبيلا ﴾ لاستيلاء الشيطان عليهم قرأ حمزة والكسائي الرشد بفتح الراء والشين، والآخرون بضم الراء وسكون الشين وهما لغتان، وثالثهما الرشاد كالسَّقم والسُّقم والسِّقام، وكان أبو عمرو يفرق بينهما فيقول الرشد بالضم الصلاح في الأمر وبالفتح الاستقامة في الدين ﴿ وإن يروا سبيل الغي ﴾ أي طريق الضلالة بإراءة النفس والشيطان ﴿ يتخذوه ﴾ لأنفسهم ﴿ سبيلا ذلك ﴾ محله الرفع بالابتداء والظرف المستقر بعده خبره أو محله النصب على المفعولية مفعولا مطلقا من قوله تعالى سأصرف والظرف متعلق به ﴿ بأنهم ﴾ أي بسبب أنهم ﴿ كذبوا بآياتنا ﴾ المنزلة والمعجزات وعدم تدبرهم في خلق الأرض والسماوات ﴿ وكانوا عنها ﴾ أي عن الآيات ﴿ غافلين ﴾ لاهين ساهين أو غافلين غفلة عناد
﴿ والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ﴾ أي لقائهم الدار الآخرة أو ما وعد الله في الآخرة من الثواب والعقاب ﴿ حبطت أعمالهم ﴾ الحسنة من إنفاق المال وصلة الرحم وغير ذلك، فهم لا ينتفعون بها كسراب بقيعة يحسبه الظمأن ماء ﴿ هل يجزون ﴾ الاستفهام للإنكار أي ما يجزون في الآخرة ﴿ إلا ﴾ جزاء ﴿ ما كانوا يعملون ﴾ في الدنيا عملا معتدا به عند الله تعالى وهو ما كان لله تعالى مخلصا له الدين وهم لم يعملوا كذلك أو المعنى ما يجزون الأجزاء ما كانوا يعملون من السيئات فإن أعمالهم كلها سيئات ليس شيء منها حسنة، فإن العبادة إذا كان لغير الله تعالى فهو أسوء السيئات والإنفاق وصلة الرحم إذا لم يكن لله تعالى كان إعانة للكفار على الكفر ومعاداة الله تعالى أو خطأ لنفسه
﴿ واتخذ قوم موسى ﴾ بنو إسرائيل ﴿ من بعده ﴾ أي بعد ذهابه لميقات ربه بعد ثلاثين ليلة إذا زيدت في الميقات عشرا ﴿ من حُليّهم ﴾ التي استعاروها من قوم فرعون بعلة عرس حين هموا بالخروج من مصر فبقي عندهم وإضافتها إليهم لأنها كانت في أيديهم وملكوها بعد هلاكهم، قرأ حمزة والكسائي بكسر الحاء بالإتباع كدلى، والباقون غير يعقوب بالضم وهو جمع حلى كثدي وثُدى بالفتح والضم، وقرأ يعقوب بفتح الحاء وسكون اللام وكسر الياء مخففا على الأفراد بإرادة الجنس ﴿ عجلا ﴾ مفعول أول لاتخذ والمفعول الثاني محذوف يعني إلها يعبدونه ﴿ جسدا ﴾ أي بدنا بدل من عجلا، قال : ابن عباس والحسن وقتادة وجماعة من المفسرين صوغه السامي فألقى في فمه من تراب أثر فرس جبرائيل عليه السلام فصار ذا لحم ودم كما قال : الله تعالى حكاية عن السامري :﴿ بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها ﴾ الآية وسنذكر قصة السامري وسبب معرفته جبرائيل في سورة طه إن شاء الله تعالى ﴿ له خُوار ﴾ أي صوت البقر قيل : ما خار الإمرة واحدة، وقيل : كان يخور كثيرا فكلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤسهم، وقال : وهب كان يسمع منه الخوار ولا يتحرك، وقال : السدي كان يخور ويمشي، وقيل : كان جسدا من الذهب لا روح فيه صاغه بنوع من الحيل، فيدخل الريح في جوفه فيسمع منه صوت كخوار البقر وهذا القول يرده ما تلونا ﴿ ألم يروا ﴾ هؤلاء الحمقاء حين اتخذوه إلها وعبدوه ﴿ أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ﴾ يعني لا يقدر على ما يقدر عليه آحاد البشر فكيف حسبوه خالق السماوات والأرض وما فيهما من الأجسام والقوى ﴿ اتخذوه ﴾ تكريم للذم أي اتخذوه إلها ﴿ وكانوا ظالمين ﴾ أي واضعين الأشياء في غير مواضعها
ومن ثم وضعوا العبادة للعجل في موضع ندمهم فإن النادم المتحسر يعض يده غما فيصير يده مسقوطا فيه يقول العرب لكل نادم قد سقط في يده، وقال : الزجاج معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم كما يقال حصل في يده مكروه وإن استحال أن يكون في اليد تشبيها لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين، والحاصل أنهم ندموا على عبادة العجل حين جاءهم وعاتبهم موسى عليه السلام ﴿ ورأوا ﴾ علموا ﴿ أنهم قد ضلوا ﴾ باتخاذ العجل تابوا﴿ قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ﴾ بقبول التوبة ﴿ ويغفر لنا ﴾ بالتجاوز عن الخطيئة، قرأ حمزة والكسائي ترحمنا وتغفر لنا بالتاء الفوقانية على الخطاب ونصب ربنا على النداء، والباقون بالتحتانية على الغيبة والرفع على الفاعلية { لنكونن من الخاسرين( ١٤٩ )
﴿ ولما رجع موسى إلى قومه ﴾ بعد إنقطاع أربعين ليلة الميقات ﴿ غضبان ﴾ من جهتهم ﴿ أسفا ﴾، قال : أبو الدرداء يعني شديد الغضب وقال : ابن عباس والسدي شديد الحزن، وفي القاموس الأسف أشد الحزن وأسف عليه غضب ﴿ قال بئسما خلفتموني ﴾ أي فعلتم فعلا مذموما حيث عبدتم العجل والخطاب لعبدة العجل أو قمتم مقامي قياما مذموما حيث لم تكفوا العبدة من بني إسرائيل، والخطاب لهارون عليه السلام والمؤمنين معه وما نكرة موصوفة تفسير للمستكن في بئس والمخصوص بالذم محذوف أي بئس خلافة خلفتموني خلافتكم ﴿ من بعدي ﴾ أي بعد ذهابي لميقات ربي أو بعدما رأيتم مني من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها، ﴿ أعجلتم أمر ربكم ﴾ يعني تركتموه غير تام ولما تضمن عجل معنى سبق عدي تعديته أو المعنى أعجلتم وعد ربكم الذي وعد نيه من الأربعين وقدرتم موتى وغيرتم كما غيرت الأمم بعد الأنبياء وأصل العجلة طلب الشيء قبل حينه ﴿ وألقى الألواح ﴾ التي جاء بها فيها التوراة ألقاها على الأرض من شدة الغضب لربه، أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال : أعطي موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد فيها تبيان كل شيء وموعظة فلما جاء بها ورأي بني إسرائيل عكوفا على عبادة العجل رمي بالتوراة من يده فتخطت يعني تكسرت فرفع الله تعالى منها ستة أسباع وبقي سبع، قال : البغوي : فرفع ما كان من أخبار الغيب وبقي ما فيه الموعظة والأحكام والحلال والحرام عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( ليس الخبر كالمعاينة إن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت ) رواه أحمد والطبراني في الأوسط والحاكم بسند صحيح ﴿ وأخذ برأس أخيه ﴾ هارون أي بشعر رأسه، قال : البغوي : بذوائبه ولحيته ﴿ يجرّه إليه ﴾ توهما بأنه قصر في كفهم وهارون كان أكبر من موسى عليهما السلام بثلاث سنين وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان لين الغضب ﴿ قال ﴾ هارونُ ﴿ ابنَ أُم ﴾ ذكر الأم لرفقه وَكان من أب وأم، قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم بكسر الميم وأصله يا ابن أمي، حذف حرف النداء ثم حذف الياب اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى ياء المتكلم والباقون بفتحها زيادة في التخفيف لطوله وتشبيها بخمسة عشر ﴿ إن القوم ﴾ يعني عبدة العجل ﴿ استضعفوني وكادوا ﴾ وهموا وقاربوا أن ﴿ يقتلونني ﴾ يعني بذلت سعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا أن يقتلونني فلا تتوهم التقصير في كفهم مني ﴿ فلا تشمت بي الأعداء ﴾ أي لا تفعل بي ما يفرحوا به والشماتة الفرح ببلية العبد وكذا في القاموس ﴿ ولا تجعلني ﴾ في موجدتك علي والانتقام ﴿ مع القوم الظالمين ﴾ إن فرط في كفهم
﴿ قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ﴾ والظاهر أن المقصود الاستغفار لأخيه ضم إليه نفسه ترضية له ودفعا للشماتة عنه، ولأن سنة الاستغفار لغيره يبدأ بالاستغفار لنفسه دفعا لتزكية النفس ولأن الدعاء بعد الاستغفار قرب إلى الإجابة فإن الذنوب مانعة من الإجابة، ومن ثم ورد في دعاء الجنازة ( اللهم اغفر لحينا وميتنا ) قدم الاستغفار للأحياء لكونه منهم وفي الدعاء لأهل القبور يغفر الله لنا ولكم، وقال الله تعالى لنبيه مع كونه معصوما ﴿ واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ﴾ حتى يبقى منه سنة في أمته ﴿ وأدخلنا في رحمتك ﴾ أي عصمتك في الدنيا ورحمتك في الآخرة وبمزيد الإنعام علينا في الدارين ﴿ وأنت أرحم الراحمين ﴾ فأنت أرحم إلينا من أنفسنا علينا
﴿ إن الذين اتخذوا العجل ﴾ إلها ﴿ سينالهم غضب من ربهم ﴾ أي عذاب وهو ما أمرهم به من قتل أنفسهم ﴿ وذلة في الحياة الدنيا ﴾ وهي خروجهم من ديارهم فعلى هذا السين في قوله سينالهم للاستقبال بالنسبة إلى زمان غضب موسى عليه السلام عليهم على سبيل الحكاية، وقال : عطية العوفي إن الذين اتخذوا العجل أراد به اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيرهم بصنيع آبائهم، وقال : بالنسبة إليهم سينالهم في الآخرة غضب من ربهم وينالهم ذلة في الدنيا يعني ما أصاب بني قريظة والنضير وغيرهم من القتل والإجلاء قال : ابن عباس هو الجزية ﴿ وكذلك نجزي المفترين ﴾، قال : أبو قلابة هو والله جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله تعالى، قال : سفيان بن عيينة في كل مبتدع إلى يوم القيامة
﴿ والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وأمنوا ﴾ يعني الذين عبدوا العجل من قوم موسى ثم تابوا وآمنوا وقتلوا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله ﴿ إن ربك من بعدها ﴾ أي بعد التوبة ﴿ لغفور رحيم ﴾ وإن كان الذنوب عظيمة متكثرة أن مع إسمها وخبرها خبر للموصول
﴿ ولما سكت ﴾ أي سكن ﴿ عن موسى الغضب ﴾ باعتذار هارون وندامة قومه وتوبتهم، وفي الكلام مبالغة من حيث أنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالأمر به والمغزي عليه حتى عبر عن سكونه بالسكوت ﴿ أخد الألواح ﴾ التي ألقاها وقد ذهب ستة أسباعها ﴿ وفي نسختها ﴾ قيل : أراد بها اللوح لأنها نسخت من اللوح المحفوظ، وقيل : إن موسى لما ألقى الألواح تكسرت فنسخ منها نسخة أخرى وقيل : معناه فيما نسخ فيها أي كتب فهو فعلة بمعنى المفعول كالخطبة، وقال : عطاء فيما بقي منها، قال : ابن عباس وعمرو بن دينار ولما ألقى موسى الألواح فتكسرت صام أربعين يوما فردت إليه في لوحين ﴿ هدى ﴾ من الضلالة وبيان للحق ﴿ ورحمة ﴾ من العذاب ﴿ للذين هم لربهم يرهبون ﴾ أي يخافون ربهم اللام في لربهم زيدت للتأكيد كقوله تعالى ﴿ ردف لكم ﴾ وقال : الكسائي دخلت اللام لضعف الفعل بالتأخير كقوله للرؤيا تعبرون وقال : قطرب اللام بمعنى من يعني من ربهم يرهبون وقيل : أراد راهبون لربهم وقيل : اللام للتعليل والتقدير يرهبون من معاصي لربهم.
﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ﴾ أي من قومه حذف الجار وأوصل الفعل إليه فانتصب بنزع الخافض ﴿ سَبْعِينَ رَجُلاً ﴾ ممن لم يعبدوا العجل ﴿ لِّمِيقَاتِنَا ﴾ أي للوقت الذي وعدنا بإتيانهم روي أنه تعالى أمر موسى أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان، فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال إن لمن قعد أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين فلما دنوا من الجبل غشيهم غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجدا فسمعوا يكلم موسى يأمره وينهاه ثم انكشف الغمام فأقبلوا عليه فقالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفة الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها أي ماتوا كذا قال : السدي، وقال : ابن عباس أن السبعين الذين قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة وإنما أمر الله سبحانه موسى عليه السلام أن يختار من قومه سبعين رجلا، فاختارهم وبرزهم ليدعوا ربهم وكان فيما دعوا أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فأنكر الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة، قال : وهب لم تكن الرجفة موتا ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة أخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا حتى كادت أن تبين منهم مفاصلهم ﴿ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾ قال : السيوطي قال : ابن عباس أخذتهم الرجفة أي الزلزلة الشديدة لأنهم لم يزالوا قومهم حين عبدوا العجل، فلما رأى موسى عليه السلام ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت واشتد عليه فقدهم وكانوا له وزراء على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا وبكى وناشد ربه تبارك وتعالى ﴿ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ﴾ تمني هلاكهم وهلاكه قبل أن يرى ما رأي بسبب آخر أو عني به أنك قد قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم أو بإغراقهم في البحر وغيرها فترحمت عليهم بالإنقاد منها فإن ترحمت عليه مرة فارحم عليهم مرة أخرى فإنه لا مبعد من عميم إحسانك، قيل : معناه لو شئت أهلكتهم قبل خروجهم ليعاين بنوا إسرائيل ذلك ولا يتهموني ﴿ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا ﴾ من التجاسر على طلب الرؤية الذي فعله بعضهم أو عبادة العجل، قال : المبرد قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا استفهام استعطاف أي لا تهلكنا وقد علم موسى أن الله أعدل من أن يأخذ بجريمة أحد غيره ﴿ إِنْ هِيَ ﴾ يعني طلبا لرؤية أو عبادة العجل ﴿ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ﴾ أي ابتلاءك واختبارك حين أسمعتهم كلامك فطمعوا رؤيتك أو إذا أوجدت في العجل خوارا فزاغوا وخذلت أنفسهم وفيه إشارة إلى قوله تعالى :﴿ قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك ﴾ فقال موسى تلك الفتنة التي أخبرتني بها أضللت بها قوما فافتتنوا وهديت قوما عصمتهم حتى ثبتوا على دينك ﴿ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء ﴾ إضلاله بخذلانه حتى يتجاوز عن حده ﴿ وَتَهْدِي مَن تَشَاء ﴾ هدايته فتقوي بها إيمانه ﴿ أَنتَ وَلِيُّنَا ﴾ ناصرنا وحافظنا ﴿ فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ﴾ تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة
﴿ وَاكْتُبْ لَنَا ﴾ أي أوجب لنا ﴿ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ أي توفيق الطاعة والنعمة والعافية ﴿ وَفِي الآخِرَةِ ﴾ المغفرة والرحمة والجنة ﴿ إِنَّا هُدْنَا ﴾ من هاد يهود إذا رجع يعني تبنا ﴿ إِلَيْكَ ﴾ قال : قتادة وابن جريج ومحمد بن كعب إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل ولم يأمروهم بالمعروف ولم ينهوهم عن المنكر والله أعلم ﴿ قَالَ ﴾ الله تعالى في جواب دعاء موسى ﴿ عَذَابِي ﴾ قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء ﴾ من خلقي تعذبيه ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ ﴾ عمت ﴿ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ في الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره وإنما انتفت في الآخرة عن الكفار لأنهم أبوا أن يرحمهم الله تعالى وجعلوا له شركاء، قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل : له ومن أبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) رواه البخاري، قال : عطية العوفي وسعت كل شيء ولكن لا يحب إلا للذين يتقون وذلك لأن الكافرين يرزقون ويدفع عنهم بالمؤمنين لسعة رحمة الله بالمؤمنين فيعيشون فيها فإذا صاروا إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه ﴿ فَسَأَكْتُبُهَا ﴾ أي سأجعلها واجبا في الآخرة منكم يا بني إسرائيل ﴿ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ الكفر والمعاصي ﴿ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ خصها بالذكر لكونها أشق على النفوس ﴿ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا ﴾ أي بجميع كتبنا ﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ لا يكفرون بشيء منها.
ولما كان شريعة موسى عليه السلام في علم الله تعالى منسوخة نبه الله تعالى على ذلك وحثهم على إتباع خاتم النبيين وقال :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ ﴾ مبتدأ خبره يأمرهم أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين أو بدل من الذين يتقون بدل البعض أو الكل، سماه رسولا بالإضافة إلى الله تعالى ونبيا بالإضافة إلى العباد ﴿ الأُمِّيَّ ﴾ يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم منسوب إلى الأمر يعني هو على ما ولدته أمه لم يكتب ولم يقرأ، قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) حديث متفق عليه عن ابن عمر، وصفه الله به تنبيها على أن كمال علمه مع حاله أحد معجزاته، وقيل : منسوب إلى الأمة لكثرة أمته، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة وأنا أول من يقرع باب الجنة ) رواه مسلم، أصله أمتي فسقطت التاء في النسبة كما في المكي والمدني وقيل : هو منسوب إلى أم القرى يعني مكة وبهذا الكلام خرج من هذا الحكم من بني إسرائيل الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يؤمنوا وبقي في الحكم من لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءتهم البينة، أخرج ابن حبان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إن لكل نبي يوم القيامة منبرا من نور وإني على أطولها وأنورها فيجيء مناد ينادي أين النبي الأمي، فيقول الأنبياء كلنا نبي أمي فإلى أينا أرسل ؟ فيرجع الثانية فيقول من ؟ فيقول محمد وأحمد، فيقول أو قد أرسل إليه فيقول نعم، فيفتح له فيتجلى له الرب ولا يتجلى بشيء قبله فيخر لله ساجدا ويحمده بمحامده لم يحمده بها أحد بعد، فيقال ارفع رأسك وتكلم واشفع تشفع ) هذا الحديث يدل على أن الأمي مشتق من الأمة حتى يصح قولهم كلنا نبي أمي أي ذي أمة وخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الاسم لكثرة أمته ﴿ الَّذِي يَجِدُونَهُ ﴾ أي بنو إسرائيل ﴿ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ﴾ اسما وصفة. عن أنس أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يا يهودي أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة نعتي وصفتي ومخرجي ؟ قال : لا، قال : الفتى بلى والله يا رسول الله إنا نجد لك في التوراة نعتك وصفتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( أقيموا هذا من عند رأسه وولوا أخاكم ) وعن علي رضي الله عنه أن يهوديا كان له على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دنانير فتقاضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له يا يهودي ما عندي ما أعطيك، فقال إني لا أفارقك يا محمد حتى تعطيني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذاً أجلس معك، فجلس معه فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والآخرة والغداة وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتهددونه ويتواعدونه ففطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يصنعون به، فقالوا : يا رسول الله يهودي يحبسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منعني ربي أن أظلم معاهدا وغيره، فلما ترجل النهار قال : اليهودي : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وشطر مالي في سبيل الله أما والله ما فعلت بك الذي فعلت بك إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا متزي بالفحش ولا قوال للخنا أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله وهذا مالي فاحكم فيه بما أراك وكان اليهودي كثير المال روى الحديثين البيهقي في دلائل النبوة. وعن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة قال :( أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن نقبضه حتى نقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ونفتح بها أعينا عمياء وآذنا صماء وقلوبا غلفا ) رواه البخاري، وعن عطاء بن يسار عن ابن سلام نحوه رواه الدارمي، وعن كعب الأحبار يحكي عن التوراة قال : نجد مكتوبا محمد رسول الله عبدي المختار لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون يحمدون الله في السراء والضراء يحمدون الله في كل منزله ويكبرونه على كل شرف رعاة للشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها يتبارزون على اتصافهم ويتوضؤن على أطرافهم مناديهم ينادي في جو السماء صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء لهم بالليل دوي كدوي النحل رواه البغوي : بسنده في معالم التنزيل وذكره في المصابيح ورواه الدارمي مع تغيير يسير، وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال :( مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى بن مريم يدفن معه ) رواه الترمذي، قال : أبو مودود وقد بقي في البيت موضع قبر ﴿ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ﴾ يعني ما يعرف حسنه شرعا ﴿ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾ يعني ما ينكره الشرع والعقل السليم والطبع المستقيم من الشرك وكفر النعم وعصيانه وقطع الأرحام ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ ﴾ أي لبني إسرائيل ﴿ الطَّيِّبَاتِ ﴾ التي حرم الله عليهم في التوراة جزاء لبغيهم كالشحوم ولحوم الإبل التي حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ﴿ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ ﴾ كالدم والخمر والخنزير والميتة والربو والرشوة ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ﴾ قرأ ابن عامر إصارهم على الجمع والباقون على الأفراد وأصل الأصر الثقل الذي ياصر أي يحبس صاحبه عن الحركة لثقله، قال : ابن عباس والحسن والضحاك والسدي ومجاهد يعني العهد الثقيل الذي أخذ على بني إسرائيل للعمل بما في التوراة قال : قتادة يعني التشديد الذي كان عليهم في الدين ﴿ وَالأَغْلاَلَ ﴾ يعني الأثقال ﴿ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ في شريعة موسى عليه السلام مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة عن الثوب بالمقراض وتعيين القصاص في القتل العمد والخطأ وتحريم أخذ الدية وترك العمل في السبت وعدم جواز الصلاة في غير الكنائس، وغير ذلك من الشدائد التي تشبه بالأغلال التي تجمع الأيدي إلى الأعناق ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ ﴾ أي بالنبي الأمي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ وَعَزَّرُوهُ ﴾ أي عظموه بالتقوية ﴿ وَنَصَرُوهُ ﴾ لي على الأعداء ﴿ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ ﴾ أي مع نبوته يعني القرآن سماه نورا لأنه بإعجازه ظاهرا مرة مظهر غيره أو لأنه كاشف الحقايق مظهر لها، ويجوز أن يكون معه متعلقا باتبعوا النور المنزل مع إتباع النبي فيكون إشارة إلى إتباع الكتاب والسنة ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ الفائزون بالرحمة الأبدية إلى ها هنا جواب لدعاء موسى عليه السلام قال : البغوي، قال : نوف البكائي الحميري اختار موسى قومه سبعين رجلا قال : الله تعالى لموسى أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو قبر وأجعل السكينة في قلوبكم وأجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم يقرأها الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير، فقال ذلك موسى لقومه فقالوا : لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهور قلوبنا ولا نريد أن نقرأها إلا نظرا فقال الله تعالى ﴿ فسأكتبها للذين يتقون ﴾ إلى قوله ﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ فجعلنا الله لهذه الأمة فقال موسى عليه السلام يا رب اجعلني نبيهم، فقال نبيهم منهم قال : رب اجعلني منهم فقال إنك لن تدركهم، فقال موسى يا رب أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فأنزل الله تعالى ﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون( ١٥٩ ) ﴾ فرضي موسى. وقول نوف هذا يأبي عنه سياق الآية ومنطوقه فإن قوله تعالى ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ﴾ صريح في أن الآية في حق مؤمني أهل الكتاب لا غير، وكذا ما ذكر البغوي : أنه قال : ابن عباس وقتادة وابن جريح أنه لما نزلت ﴿ ورحمتني وسعت كل شيء ﴾ قال : إبليس أنا من ذلك الشيء فقال الله تعالى ﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾ فتمناها اليهود والنصارى، وقالوا نحن نتقي ونؤتى الزكاة ونؤمن فجعلها الله لهذه الأمة حيث قال : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الآية، فإن مقتضى هذا القول أن الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وسياق الآية يقتضي أنها خطاب لموسى عليه في جواب دعائه وإنما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكاية والله أعلم
﴿ قُلْ ﴾ يا محمد ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ ﴾ الإضافة للعهد الخارجي يعني الرسول النبي الأمي الذي مر ذكره وأخذ العهد على إتباعه ﴿ إِلَيْكُمْ ﴾ خطاب للناس كافة ولذلك أردفه بقوله ﴿ جَمِيعًا ﴾ حال من إليكم فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مبعوثا إلى الناس كافة بل إلى الجن والإنس عامة وسائر الأنبياء إلى أقوامهم خاصة، قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبوة ) رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة، وروى الطبراني في الكبير بسند صحيح عن السائب بن يزيد بلفظ ( فضلت على الأنبياء بخمس بعثت إلى الناس كافة وذخرت شفاعتي لأمتي ونصرت بالرعب شهرا أمامي وشهرا خلفي وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنايم ولم تحل لأحد قبلي ) وروى البيهقي بسند صحيح عن أبي أمامة فضلت بأربع ولم يذكر ذخرت شفاعتي، قلت الخطاب وإن كان للناس عموما لكن سياق القصة تقتضي أن المقصود بهذا الخطاب العام يهود المدينة وبعض النصارى فإنهم داخلون في عموم الخطاب ومحجوجون عليهم بقوله تعالى﴿ مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ﴾ وإنكارهم ذلك عنادا لا يفيدهم عند الله تعالى ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ صفة الله جعل بينهما ما هو متعلق بالمضاف لأنه كالمتقدم عليه أو مدح منصوب أو مرفوع أو مبتدأ خبره ﴿ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ وهو على الوجوه الأول بدل من الصلة بيان لما قبله فإن من ملك العالم كان هو الإله لا غيره وفي ﴿ يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ مزيد تقدير لاختصاصه بالألوهية، وإعرابه كإعراب سبق وعلى تقدير كون الموصول مبتدأ وما بعده خبر الجملة الاسمية بيان لما أرسل به ﴿ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ ﴾ الذي أخذ منكم العهد في الكتب السابقة على إتباعه ﴿ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ ﴾ التي أنزلت عليه وعلى سائر المرسلين من كتب الله ووحيه وقرئ وكلمته على إرادة الجنس، وقال : مجاهد والسدي يعني عيسى بن مريم عليه السلام كلمته ألقاها إلى مريم وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الإيمان والاتباع له ﴿ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين تنبيها على أن من صدقة ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو بعد في حيز الضلالة.
﴿ وَمِن قَوْمِ مُوسَى ﴾ يعني بني إسرائيل ﴿ أُمَّةٌ ﴾ جماعة ﴿ يَهْدُونَ ﴾ الناس ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ أي محقين أو بكلمة الحق أي يرشدون ويدعون إلى الحق أو بسبب الحق الذي هم عليه ﴿ وَبِهِ ﴾ أي بالحق ﴿ يَعْدِلُونَ ﴾ بينهم في الحكم، قال : الضحاك والكلبي والربيع هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر يجري الرمل يسمى نهر أوراق ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويضحكون بالنهار ويزرعون لا يصل إليهم منا أحد وهم على دين الحق. وذكر أن جبرائيل عليه السلام ذهب بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أسري به إليهم فكلمهم جبرئيل هل تعرفون من تتكلمون ؟ قالوا لا قال : هذا محمد النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم فآمنوا به فقالوا : يا رسول الله إن موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد صلى الله عليه وآله وسلم فليقرأ عليه مني السلام فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على موسى عليه السلام ثم قرأ عشر سور من القرآن نزلت بمكة وأمرهم بالصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت، وقيل : هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : البغوي : والأول أصح، قال : والظاهر أن الأول قول غريب ولم يكن بمكة ليلة الإسراء الجمعة وليس في عشر سور مما نزلت بمكة أحكام الإسلام كلها والله أعلم، والأظهر عندي أن المراد المؤمنين الذين آمنوا بموسى من أهل زمانه والذين أدركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليهود فآمنوا به كعبد الله بن سلام ونظرائه.
﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ ﴾ أي فرقنا بني إسرائيل ﴿ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ﴾ تميزه محذوف يدل عليه قطعنا يعني اثنتي عشرة قطعة وهو مفعول ثان لقطع فإنه متضمن لمعنى صير أو حال ﴿ أَسْبَاطًا ﴾ بدل لا تمييز فإن تمييز ما فوق العشرة لا يكون جمعا والسبط ولد الولد وكانوا إثنتي عشرة قبيلة أولاد إثني عشر ابن لإسرائيل يعني يعقوب عليه السلام ﴿ أُمَمًا ﴾ صفة لأسباط أو بدل بعد بدل، قال : الزجاج المعنى وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أمما وإنما قال : أسباط أمما بالجمع وما فوق العشرة لا يفسر بالجمع فلا يقال اثنا عشر رجالا لأن الأسباط في الحقيقة نعت للمفسر المحذوف وهو الفرقة أي قطعناهم اثنتا عشرة فرقة أسباطا أمما يعني كل فرقة أسباط، وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديرها وقطعناهم أسباطا أمما اثنتى عشرة، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ ﴾ في التيه ﴿ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ ﴾ أي فضرب فانبجست حذفه للإيماء على أن موسى لم يتوقف في الامتنثال، وعلى أن ضربه لم يكن مؤثرا يتوقف عليه الإنبجاس في ذاته ومعناه انفجرت، وقال : أبو عمرو ابن العلا عرقت وهو الانبجاس ثم انفجرت ﴿ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ﴾ لكل سبط عين ﴿ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ ﴾ أي كل سبط أبناء ابن ليعقوب عليه السلام ﴿ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ ﴾ في التيه ليقيهم حر الشمس، ﴿ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ ﴾ أي وقلنا لهم كلوا ﴿ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
}وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ } قرأ نافع وابن عامر ويعقوب بضم التاء المثناة الفوقانية وفتح الفاء على التأنيث والبناء للمفعول مسندا إلى ما بعده وهو مرفوع، والباقون بفتح النون وكسر الفاء على التكلم والبناء للفاعل وما بعده منصوب على المفعولية ﴿ خَطِيئَاتِكُمْ ﴾ قرأ ابن عامر على وزن الفعلية بالهمزة على التوحيد وأبو عمرو خطاياكم على وزن قضاياكم على الجمع، والباقون خطيئاتكم على الجمع على وزن فعيلاتكم بالهمز ﴿ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ وعد بالمغفرة والزيادة عليه بالإثابة وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف للدلالة على أنها تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به
﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ ﴾ مضى تفسير هذه الآيات في سورة البقرة، غير أن قوله تعالى ﴿ فكلوا ﴾ في البقرة بالفاء أفاد تسبيب سكناهم للأكل منها ولم يتعرض له ههنا اكتفاء بذكره ثمة أو بدلالة الحال عليه كذا قال : البيضاوي، قلت : ذكر في البقرة أدخلوا هذه القرية فكلوا ولا شك أن الأكل بعد الدخول ولذلك أورد هنا فاء التعقيب وذكر ههنا اسكنوا هذه القرية والسكنى الأكل ولا يستعقبه فلذلك أورد الواو للجمع، ولا أثر لتقديم قولوا على وادخلوا في المعنى
﴿ واسْأَلْهُمْ ﴾ أي سل يا محمد اليهود للتقدير والتوبيخ على تقديم كفرهم وعصيانهم، والإعلام بما هو من علومهم التي لم يكن أهل مكة يعلمها حتى يكون لك معجزة وحجة عليهم ﴿ عَنِ الْقَرْيَةِ ﴾ أي عن خبر أهلها وما وقع بهم ﴿ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ﴾ أي قريبة ﴿ الْبَحْرِ ﴾ قال : ابن عباس فهي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور على شاطئ البحر وقال : الأزهري طبرية الشام ﴿ إِذْ يَعْدُونَ ﴾ الضمير راجع إلى المضاف المحذوف يعني أهل القرية كانوا يتجاوزون حد الإباحة بصيد السمك ﴿ فِي السَّبْتِ ﴾ وقد نهوا عنه، إذا ظرف متعلق بكانت أو حاضرة أو للمضاف المحذوف أي خبر أهل القرية وقت عدوانهم أو بدل اشتمال من أهل القرية ﴿ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ ﴾ ظرف ليعدون أو بدل بعديد بدل ﴿ يَوْمَ سَبْتِهِمْ ﴾ أي يوم تعظيمهم أمر السبت مصدر من سبت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة، وقيل : اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيها ويؤيد الأول قوله تعالى﴿ وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ ﴾ ﴿ شُرَّعا ﴾ حال من الحيتان أي ظاهرة على الماء متكثرة جمع شارع علينا إذا أشرف ودنا، وقال : الضحاك متتابعا وفي القصة أنها كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش السمان البيض ﴿ وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ ﴾ أي لا يعظمون السبت متعلق بقوله ﴿ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ ﴾ أي مثل إتيانهم يوم السبت ﴿ نَبْلُوهُم ﴾ حال من الضمير المنصوب في لا تأتينهم ﴿ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ متعلق بيعدوا والمعنى مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم، قيل، وسوس إليهم الشيطان أن الله لم ينهاكم عن الاصطياد وإنما نهاكم عن الأكل فاصطادوا، وقيل : وسوس إليهم أنكم إنما نهيتم عن الأخذ فاتخذوا حياضا على شط البحر يسوقون الحيتان إليها يوم السبت ثم يأخذونها يوم الأحد ففعلوا ذلك زمانا ثم جرؤا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلا قد أحل لنا فأخذوا وأكلوا وباعوا، فصار أهل القرية أثلاثا وكانوا نحوا من سبعين ألفا ثلث كانوا يعدون في السبت وثلث كانوا ينهونهم عن الاعتداء وثلث لم يفعلوا ولم ينهوا وهم الذين حكى عنهم الله سبحانه بقوله. ﴿ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ ﴾
﴿ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ ﴾ أي الفرقة الساكتة للفرقة الواعظة الناهية عن المنكر ﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ ﴾ في الدنيا ﴿ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ في الآخرة ﴿ قَالُواْ ﴾ الناهون في جوابهم ﴿ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ﴾ قرأ الجمهور معذرة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي موعظتنا معذرة أي إبداء لعذرنا إلى الله تعالى حتى لا نكون مفرطين في النهي عن المنكر، وقرأ حفص بالنصب على المصدرية أو العلية أي اعتذرنا معذرة أوعظناهم معذرة ﴿ ولعلهم يتقون ﴾ فإن اليأس لا يحصل إلا بعد الهلاك.
﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ أي ترك الفرقة العاصية ما ذكّرهم الصلحاء الواعظون ﴿ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ﴾ يعني الفرقة الواعظة الصالحة ﴿ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ يعني الفرقة العاصية ﴿ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ﴾ أي شديد قرأ الجمهور بفتح الباء وكسر الهمزة بعدها ياء ساكنة على وزن فعيل من بؤس يبُس بأسا إذا اشتد وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر بئس على وزن فِعْل، وكأن في الأصل بئِس مفتوح الفاء مكسورة العين وزن حذِر فخفف عينه بنقل حركتها إلى ما قبلها فصار بئس بسكون الهمزة أو هو فعل ذم وصف به فجعل اسما، إلا أن ابن عامر يهمز ونافع وأبو جعفر لا يهمزان بل يقلبان الهمزة ياء ويقرآن بِيس وقرأ أبو بكر عن عاصم بخلاف عنه بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيْفل ﴿ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ قال : ابن عباس رضي الله عنه : أسمع الله يقول أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس فلا أدري ما فعل الفرقة الساكنة، قال : عكرمة قلت له جعلني الله فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه وقالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم فأعجبه قولي فرضي وأمر لي ببردين فكسانيها وقال : نجت الفرقة الساكتة، كذا روى الحاكم وقال : يمان بن رباب نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم والذين قالوا معذرة إلى ربكم وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان وهذا قول الحسن ومجاهد، وقال : ابن زيد نجت الناهية وهلكت الفرقتان وهذه أشد آية في ترك النهي عن المنكر
﴿ فلما عتوا ﴾ أي تكبر الفرقة الخاطئة ﴿ عَن مَّا نُهُواْ ﴾ أي عن ترك ما نهوا ﴿ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ أي مبعدين أمر تكوين وتسخير، والظاهر يتقضي أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم ويجوز أن يكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا للأولى، وقيل : المراد بقوله تعالى ﴿ وإذ قالت أمة منهم لم تعظمون ﴾ أن الفرقة الصالحة الواعظة قالت بعضهم لبعضهم لم تعظون مبالغة في أن الوعظ لا ينفع فيهم تحسرا فأجابوا فيما بينهم وقالوا معذرة إلى ربكم أو قال : من ارعوى عن الوعظ منهم لمن لم يرعوا منهم، وقيل معنى الآية قالت أمة منهم يعني الهالكة للفرقة الصالحة الواعظة لم تعظون قوما الله مهلكهم على زعمكم قالوا ذلك تهكما واستهزاء بهم فقالوا أي الصالحون معذرة إلى ربكم، لكن هذا المعنى يأبي عنه ضمير الغائب في قولهم لعلهم يتقون بل كان المناسب على هذا أن يقولوا لعلكم تتقون، وري أن الناهية لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ولعنهم داود عليه السلام وأصبح الناهوت ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا : إن لهم لشأنا فدخلوا عليهم فإذا هم قردة فلم يعرفوا أنسبائهم ولكن القرود تعرفهم فجعلت القرود تأتي أنسبائهم وتشمهم فتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم، فيقولون ألم ننهاكم فتقول القردة برأسها نعم فمكثوا ثلاثة أيام ينظر بعضهم إلى بعض وينظر إليهم الناس ثم ماتوا
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ﴾ تفعل من الإذن، ومعناه العزم المصمم الذي لا يتخلف لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله ولذلك أجري مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بجوابه، وقال : ابن عباس معنى تأذن ربك قال : ربك وقال : مجاهد أمر ربك، وقال : عطاء حكم ربك، وعلى الأقوال غير الأول ﴿ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ ﴾ جواب قسم محذوف أي والله ليسلطن الله تعالى على اليهود ﴿ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ بالقتل والضرب والسبي وأخذ الجزية فبعث الله عليهم سليمان وبعده بخت نصر فخرب ديارهم وقتل مقاتلتهم وسبى نسائهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم فكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، فقتل بني قريظة وسبى نسائهم وذراريهم وأجلا بني نضير وبني قينقاع وأجلا عمر عن خبير وفدك وأمر الله سبحانه بقتالهم إلى يوم القيامة حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ﴾ لمن عصاه ولذا عاقبهم في الدنيا ﴿ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ لمن تاب وآمن
﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ ﴾ فرقناهم ﴿ فِي الأَرْضِ أُمَمًا ﴾ فرقا فشتت أمرهم حتى لا يكون لهم شوكة قط ولا يجتمع كلمتهم ﴿ مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ ﴾ الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم كذا قال : ابن عباس ومجاهد، قلت : والظاهر أن المراد الذين على دين موسى صالحين قبل نسخه بقرينة قوله فخلف من بعدهم خلف ﴿ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ﴾ تقديره ومنهم ناس دون ذلك أي منحطون عن الصلاح وهم الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أو كانوا فساقا قبل نسخ دين موسى وكفارا لعيسى وداود وسليمان ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ ﴾ أي اختبرناهم ﴿ بِالْحَسَنَاتِ ﴾ أي النعم ﴿ وَالسَّيِّئَاتِ ﴾ أي النقم ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ أي لكي ينتبهوا فيرجعوا عما كانوا عليه من الكفر والفسق بشكر المنعم عند النعمة وبالتوبة عند حلول النقمة،
﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ أي جاء بعد المذكورين الذين وصفناهم
﴿ فَخَلَفَ ﴾ القرن الذي يجيء بعد قرن كذا في القاموس وقال : أبو حاتم الخلف بسكون اللام الأولاد الواحد والجمع سواء والخلف بفتح اللام البدل سواء كان ولدا وغريبا، وقال : ابن الأعرابي الخلف بالفتح الصالح وبالسكون الطالح وقال : النضر بن شميل الخلف بتحريك اللام وإسكانها في القرن السوء وأمال في القرن الصالح فتحريك اللام لا غير، وقال : محمد بن جرير أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد يحرك في الذم ويسكن في المدح، قال : البيضاوي هو مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع، وقيل : جمع والمراد به الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما فيها ﴿ يأخذون عرض هذا الأدنى ﴾ يعني حطام هذا العالم الأدنى يعني الدنيا وهو من الدنو والدناءة والعرض المتاع، وكل شيء سوى النقدين أو ما كان من مال قل أو كثر وهو المراد هاهنا، وقيل : العرض ما لا يكون له ثبات ومنه استعار المتكلمون العرض لما لم يكن له ثبات إلا بالجوهر كاللون والطعم ولذا قيل : الدنيا عرض حاضر يعني لا ثبات لها، والمراد به ما كان علماء اليهود يأخذون من جهالهم فيأكلون ولذلك كتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرفوا كلام الله تعالى خوفا من زوال مأكلتهم وما كانوا يأخذون من الرشى في الحكم والجملة حال من الضمير المرفوع في ورثوا ﴿ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ﴾ يحتمل العطف والحال، والفعل مسند إلى الجار والمجرور وإلى الضمير العائد إلى مصدر يأخذون يعني يتمنون على الله المغفرة بلا توبة مع الإصرار على الذنب وهذا أمر شنيع قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم والبغوي بسند صحيح عن شداد بن أوس ﴿ وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ﴾ حال من الضمير في يقولون يعني يرجون المغفرة مصرين على الذنب عامدين إلى مثله غير تائبين، قال : السدي كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم فيقال له مالك ترتشي فيقول سيغفر لي فيطعن فيه الآخرون فإذا مات أو نزع وجعل مكانة رجل ممن يطعن عليه يرتشي أيضا فيقول الله تعالى وإن يأتهم يعني الآخرين منهم عرض مثله يأخذوه ﴿ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ ﴾ أي أخذ عليهم العهد في التوراة ﴿ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ﴾ وهذا غير الحق لأنه ليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار ﴿ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ ﴾ عطف على ألم يؤخذ من حيث المعنى فإنه تقرير أو على ورثوا ودرس الكتاب قراءته وتدبره مرة بعد أخر يعني يعلمون ما يعملون وهم ذاكرون معصية ﴿ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ الله تعالى ويؤمنون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يأخذون من حطام الدنيا ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ عطف على محذوف تقديره أيختارون الشر ويتركون الخير فلا يعقلون يعني فليس لهم عقل فإن مقتضى العقل اختيار الخير على الشر بل اختيارا خير الخيرين وهم يستبدلون الأدنى المؤدي إلى العذاب بالنعيم المخلد، قرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة
﴿ وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ ﴾ قرأ أبو بكر مخففا من الأفعال والباقون بالتشديد يدمن التفعيل وقرأ أبي بن كعب والذين تمسكوا ﴿ بِالْكِتَابِ ﴾ على صيغة الماضي لما عطف عليه ﴿ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾، قال : مجاهد هم المؤمنون من أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة بل عملوا بما فيه حتى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقال : عطاء هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين يمسكون عطف على الذين يتقون قوله ﴿ أفلا يعقلون ﴾ اعتراض أو مبتدأ خبره ﴿ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ على تقدير منهم أو وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع
﴿ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ ﴾ متعلق باذكر وأصل النتق الجدب والمعنى قلعناه ورفعناه ﴿ فَوْقَهُمْ ﴾ أي فوق بني إسرائيل حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لثقلها فرفع الله عليهم الجبل ﴿ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ﴾ سقيفة وهي كل ما أظلك ﴿ وَظَنُّواْ ﴾ أي أيقنوا ﴿ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ﴾ وإنما أطلق الظن لأنه لم يقع متعلقه وقيل : لهم إن قبلتم ما فيها وإلا ليقعن عليكم ﴿ خُذُواْ ﴾ بإضمار القول أي وقلنا ﴿ خذوا ما أتيناكم بقوة ﴾ بجد وعزم على تحمل مشاقة حال من فاعل خذوا ﴿ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ ﴾ بالعمل ولا تتركوه كالمنسي﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ أخذ ربّك من بني آدم ﴾ فيه اختصار تقديره من آدم وبني آدم ﴿ من ظهورهم ﴾ بدل من بني آدم بدل البعض والمعنى إذ أخرج ربك من ظهور آدم بنيه ﴿ وذريتهم ﴾ قرأ نافع وأبو عمروا وابن عامر ويعقوب ذرياتهم على صيغة الجمع والباقون على الإفراد ﴿ وأشهدهم على أنفسهم ﴾ أي أشهد على بعض وقال : لهم ﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لما خلق الله آدم مسخ ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء ؟ قال : ذريتك، فرأى منهم رجلا فأعجبه عينيه فقال أي رب من هذا ؟ قال : داود، قال : رب كم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة، قال : رب زده من عمري أربعين سنة، قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت، فقال آدم : ألم يبق من عمري أربعين سنة ؟ قال : أو لم تعطها ابنك داود ؟ فجحد آدم فجحدت ذريته ونسى آدم فأكل من الشجرة ونسيت ذريته وخطأ آدم فخطأت ذريته )ورواه الترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذريته بيضاء كأنهم الذر وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذريته سوداء كأنهم الحمم قال : للذي في يمينه إلى الجنة ولا أبالي وقال : للذي في كتفه اليسرى إلى النار ولا أبالي ) رواه أحمد كذا ذكر مقاتل وغيره من أهل التفسير فذكروا نحوه، وفي آخره ( ثم أعادهم جميعا في صلبه فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء ) قال : الله تعالى فيمن نقض العهد الأول ﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ﴾ وعن مسلم بن يسار قال :( سأل عمر بن الخطاب عن هذه الآية ﴿ وإذا أخذ ربك من بني آدم ﴾ الآية قال : عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عنها فقال :( إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فأخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل ففيم العمل يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار ) رواه مالك وأبو داود والترمذي وأحمد في سنده والبخاري في التاريخ وان حبان والحاكم والبيهقي، وقال : الترمذي وأحمد في مسنده والبخاري في التاريخ وابن حبان والحاكم والبيهقي، وقال : الترمذي حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، قال : البغوي : قد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلا. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان_ يعني عرفة_ فأخرج من صلبه كل ذرية ذراها فنشرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا، قال : ألست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه، وأخرج ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية :( أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا، قال : البغوي : روى عن ابن عباس أيضا أن الله أخرجهم وأخذ الميثاق بد هناء من أرض الهند وهو الموضع الذي هبط آدم عليه السلام، وقال : الكلبي : بين مكة والطائف، وقال : السدي خلق الله آدم ولم يهبط من السماء ثم مسح ظهره فأخرج ذريته، وعن أبي بن كعب جمعهم فجعلهم أزواجا يعني أصنافا ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا ثم أخذهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قال الله تعالى : فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم آباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وانزل عليكم كتبي، قالوا شهدنا أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك فأقروا بذلك ورفع عليهم آدم عليه السلام ينظر إليهم فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال رب لولا سويت بين عبادك قال : إني أحببت أن أشكر، ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور خصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة وهو قوله تعالى :﴿ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ﴾ إلى قوله ﴿ وعيسى ابن مريم ﴾ ( ١ ) وعيسى بن مريم كان في تلك الأرواح فأرسله إلى مريم فحدث عن أبي أنه دخل من فيها رواه أحمد زاد في بعض الروايات بعد قوله ( لا تشركوا بي شيئا ) قوله ( فإني سأنتقم عمن أشرك بي ولم يؤمن بي ) وزاد بعد قوله ( فأقروا بذلك ) قوله ( ثم كتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم ) وبعد قوله ( إني أحببت أن أشكر ) أنه لما قررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض أعاد إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ ميثاقه، قال : البغوي : ما معنى قوله ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ﴾ وإنما أخرجهم من ظهر آدم ؟ قلت : وبه نطق الأحاديث، قيل : في جوابه إن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالدون فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنوه فأخرجوا من ظهره ولذلك لم يذكر ظهر آدم في الآية، قلت : وإخراج كلهم إلى ظهر آدم إنما أسند في الحديث بناء على أنه لما كان بعضهم في ظهر بعض والأصول في ظهر آدم فكان كلهم في ظهره فصح إسناد إخراج كلهم إلى ظهره، أو لأن المراد بآدم في الحديث آدم وبنيه اقتصر على ذكر آدم اكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع، قلت : ومعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( ضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء ) أنه ضرب كتفه أو كتف أحد من أبناءه فأخرج منها ذرية بيضاء وكتفه أو كتف أحد منهم اليسرى فأخرج منها ذرية سوداء، ثم قال :( خلفت هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار ) قال : البغوي : قال : أهل التفسير إن أهل السعادة أقروا طوعا وأهل الشقاوة قالوا تقية وكرها وذلك معنى قوله تعالى :﴿ وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ﴾ ( ٢ ) ﴿ شهدنا ﴾ قال : السدي هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم، وقال : بعضهم هو خبر من قول بني آدم حين أشهد الله بعضهم فقالوا : بلى شهدنا وقال : الكلبي : ذلك من قول الملائكة وفيه حذف تقديره لما قالت الذرية بلى قال : الله تعالى للملائكة :﴿ اشهدوا قالوا شهدنا ﴾ ﴿ أن تقولوا يوم القيامة ﴾ منصوب على العلية قرأ أبو عمرو يقولوا في الموضعين بالياء التحتانية على الغيبة تقديره أشهدهم كراهية أن يقولوا أو لئلا يقولوا والباقون بالفوقانية على الخطاب تقديره أخاطبكم بألست بربكم كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا، قلت والأولى أن يقال تقديره على قراءة أبي عمر وذكرهم يا محمد بالميثاق كراهة أن يقولوا إنا كنا عن هذا غافلين وعلى قراءة الجمهور أخبرتكم أيها الناس بالميثاق كراهة أن تقولوا ﴿ إنا كنا عن هذا ﴾ الميثاق أو الإقرار ﴿ غافلين ﴾ فإن قيل : كيف يلزم الحجة واحد لا يذكر الميثاق ؟ قيل : لما أخبر بذلك المخبر الصادق المؤيد بالمعجزة لزمهم الحجة ولا يسقط الاحتجاج بعدم حفظهم
﴿ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ﴾ إتباعا لهم فاقتدينا بهم ﴿ أفتهلكنا ﴾ أي تعذبنا ﴿ بما فعل المبطلون ﴾ أي الأسلاف المشركون، يعني كراهة أن تعتذروا بالغفلة أو بالتقليد للآباء وليس شيء من ذلك مسقطا للاحتجاج
﴿ وكذلك نفصل الآيات ﴾ أي نبيّنها ليتدبر فيها العباد ويتذكروا ما نسوا ﴿ ولعلهم يرجعون ﴾ معطوف على مقدر تقديره لعلهم يتدبرون فيها العباد ويتذكرون ما نسوا ولعلهم يرجعون من الكفر إلى التوحيد، كذا قال : السلف الصالح وجمهور المفسرين على ما يشهد به الأحاديث، وقال : البيضاوي ومن تبعه معنى الآية وإذا أخذ ربك أي أخرج من صلب آدم وأصلاب بنيه نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن وأشهدهم على أنفسهم أي نصب لهم دلائل على ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بالتوحيد حتى صاروا كأنهم، قيل : لهم ألست بربكم قالوا بلى فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم فيه منزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل، قال : البيضاوي ويدل عليه قوله قالوا بلى شهدنا أن تقولوا أي كراهة أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا هذا غافلين أي لم ننبّه بالدليل أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم لا يصلح عذرا، وقال : والمقصود من إيراد هذا الكلام إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام بعدما ألزمهم الميثاق المخصوص بهم في التوراة والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وحملهم على النظر والاستدلال كما قال الله تعالى :﴿ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ( ١٧٤ ) ﴾ عن التقليد واتباع الباطل، والقائل بهذا التفسير يؤول الأحاديث المذكورة أيضا والله أعلم
﴿ واتل عليهم ﴾ أي اليهود
﴿ نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ أي من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها قال : ابن عباس هو بلعم بن باعور، وقال : مجاهد بلعام بن باعور قال : عطية عن ابن عباس كان من بني إسرائيل، وروى أبو طلحة عنه أنه كان من الكنعانيين من مدينة الجبارين، وقال : مقاتل من مدينة بلقاء : وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم أن موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم إلى بلعم وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا : إن موسى عليه السلام رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه قد جاءنا يخرجنا من ديارنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنت رجل مجاب الدعوة، فأخرج فادع الله أن يردهم عنا، قال : ويلكم نبي ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ؟ فراجعوه وألحقوا عليه، فقال حتى أوامر ربي تبارك وتعالى وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر في المنام فأمَّر في الدعاء فقيل له في المنام لا تدع عليهم فقال لقومه وأمرت ربي وإني قد نهيت فأهدوا له هدية فقبلها ثم راجعوه فقال حتى أوامر، فأمر فلم يجيء له شيء فقال قد وامرت فلم يجيء إليّ شيء فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له حسان فلما سار عليها غير كثير ربصت به فنزل عنها فضربها حتى قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربصت فضربها حتى أذن الله لها الكلام وكلمته حجة عليه، فقالت ويحك يا بلعم أين تذهب ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا تذهب إلى نبي الله والمؤمنون تدعو عليهم فلم ينزع فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا شرفت على جبل حسان جعل لا يدعو عليهم بشيء إلا صرف لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل فقال قومه يا بلعم أتدري ما تصنع إنما تدعوهم وعلينا، قال : هذا ما لا أملك هذا شيء قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه ومروهن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنهم إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم ففعلوا، فلما دخلت النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى بنت صور برجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمرى بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب عليه السلام، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى عليه السلام فقال إني أظنك ستقول هذه حرام عليك، قال : أجل هي حرام عليك لا تقربها قال : فوالله لا أطيعك في هذه ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت، وكان الفخاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون في بني إسرائيل فأخبر الخبر فأخذ بحربته وكانت من حديد كلها ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعا إياهما إلى السماء والحربة قد أخذا بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته، وكان بكر العيزار وجعل يقول اللهم هكذا يفعل بمن يعصيك فرفع الطاعون فهلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين إن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فخاص سبعون ألفا في ساعة من النهار فمن هناك يعطى بنو إسرائيل فخاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذارع واللحي لاعتماده بالحربة على خاصره، وأخذه إياهما بذراعه وإسناده إياهما إلى لحيته والبكر من كل أموالهم لأنه كان بكر العيزار وفي بلعم أنزل الله عز وجل
﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ﴾ الآية. قال : مقاتل : إن ملك البلقاء قال : لبلعام أدع الله على موسى فقال إنه من أهل ديني لا أدعوا عليه فتخشب خشبة ليصلبه فلما رأى ذلك خرج على أتان له وليدعو عليه فلما عاين العسكر قامت به الأتان ووقفت فضربها فقالت لم تضربني إني مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع فأخبر الملك، فقال لتدعون عليه أو لأصلبنك فدعى على موسى بالاسم الأعظم أن لا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع بنو إسرائيل في التيه بدعائه، فقال موسى عليه السلام يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه فقال بدعاء بلعام قال : فكما سمعت دعائه علي فاسمع دعائي عليه فدعا موسى عليه السلام أن ينزع منه الاسم الأعظم والإيمان فنزع منه المعرفة وسلخه منها فخرجت منصورة كحمامة بيضاء فذلك قوله تعالى
﴿ فانسلخ منها ﴾ وقال : عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وليث بن سعد : نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي وكانت قصته أنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا فرجى أن يكون ذلك الرسول فلما أرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسده وكفر به كان صاحب حكمه وموعظة حسنة، وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل قتلهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فسألها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لو كان نبيا ما قتل أقربائه، فلما مات أمية أتت أخته فارعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن وفاة أخيها فقالت بينما هو راقد قد آتاه آتيان وكشفا سقف البيت فنزلا فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه أوعى قال : وعي قال : أزكي قال : أبى قالت فسألته عن ذلك فقال خير أريد بي فصرف عني فغشي عليه فلما أفاق قال :
كل عيش وإن تطاول دهرا | صائر مرة إلى أن يزولا |
ليتني كنت قبل ما بدا لي | في قلال الجبال أرعى الوعولا |
إن يوم الحساب يوم عظيم *** *** شاب فيه الصغير يوم ثقيلا
ثم قال : لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنشديني من شعر أخيك فأنشدته بعض قصائده فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( آمن شعره وكفر قلبه ) فأنزل الله تعالى وتقدس فيه
﴿ واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ الآية، وفي رواية عن ابن عباس أنها نزلت في البسولس رجل من بني إسرائيل وكان أعطي له ثلاث دعوات مستجابات وكانت له امرأة له منها ولد فقالت اجعلني منها دعوة واحدة فقال لك منها واحدة فما تريدين ؟ قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها فجعلت أجمل النساء في بني إسرائيل، فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الزوج ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان فجاء بنوها وقالوا ليس لنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة نباحة والناس يعيروننا بها أدع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها فعادت كما كانت فذهبت فيها الدعوات كلها، قال : البغوي : والقولان الأولان أظهر، قلت : بل القول الثاني يرده قوله تعالى
﴿ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ( ٢٤ ) قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ( ٢٥ ) قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ﴾ الآية، فإن ذلك الآية تدل على أن وقوعهم في التيه لذلك القول لا لدعوة بلعام والله أعلم، وقال : الحسن وابن كيسان نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وقال : قتادة هذا مثل ضربه الله عز وجل لمن عرض عليه الهدى فأبى أن يقبله فذلك قوله تعالى
﴿ واتل نبأ الذي أتيناه آياتنا ﴾ قال : ابن عباس والسدي يعني الاسم الأعظم، قال : ابن زيد كان لا يسأل شيئا إلا أعطاه، وقال : ابن عباس في رواية أخرى أوتي كتابا من كتب الله فانسلخ أي خرج منها كما تنسلخ الحية وجلدها
﴿ فأتبعه الشيطان ﴾ يعني لحقه وقيل : استتبعه
﴿ فكان من الغاوين ﴾ فصار من الضالين
﴿ ولو شئنا لرفعناه ﴾ إلى منازل الأبرار من العلماء ﴿ بها ﴾ أي بسبب تلك الآيات، وقال : مجاهد لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات ﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض ﴾ أي مال إلى الدنيا وإلى السفالة كنى من الدنيا بالأرض لمناسبة الأسفلية أو لأن ما فيها من البلاد والعقار كلها أرض وسائر متاعها مستخرج من الأرض، قال : الزجاج خلد وأخلد حد وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام يقال أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ﴿ واتبع هونه ﴾ في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضيات الآيات أسند الله سبحانه الرفع إلى مشيئته والخلود إلى الأرض بمعنى الإقامة على الميل إلى الدنيا إلى العبد إشارة إلى أن هذا أمر طبيعي يقتضيه ذاته لأجل إمكانه وعدمه الذاتي والرفع إلى الدرجات العلى أمر وهبي، إنما يستفاد من سبحانه بفضله، قال : البيضاوي : علق رفعه بمشيئة الله ثم استدراك عنه بفعل العبد تنبيها على أن المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وأن عدمه دليل على عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه وأن السبب الحقيقي هو المشيئة وإن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك، وكان من حقه أن يقول ولكنه أعرض عنها فأوقع موقعه أخلد إلى الأرض واتبع هواه مبالغة وتنبيها على ما حمله عليه وعلى أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وهذا حديث مرفوع رواه البيهقي عن الحسن مرسلا ﴿ فمثله ﴾ أي صفته التي هي مثل في الخسة ﴿ كمثل ﴾ كصفة ﴿ الكلب ﴾ في أخس أحواله وهو﴿ إن ﴾ تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث أي يخرج لسانه من العطش أو من التعب والإعياء يعني يلهث دائما سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له لضعف فؤاده بخلاف سائر الحيوانات فإنه لا يلهث شيء منها إلا إذا حرك وأعيا أو عطش، والشرطية في موضع الحال والمعنى لاهثا في الحالين ذليلا دائم الذلة، قال : مجاهد هو مثل الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به والمعنى أن الكافر إن زجرته ووعظته لم ينزجر وإن تركته لم يهتد فهو ضال أبدا ذليل مل ذلة الكلب لاهثا أبدا نظير هذه الآية في المعنى قوله تعالى ﴿ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ﴾ ثم عم لهذا التمثيل جميع من كذب بآيات الله تعالى فقال ﴿ ذلك مثل الذين كذبوا بآيتنا ﴾ من اليهود حيث قرأوا نعت الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة وبشروا الناس باقتراب مبعثه فلما جاءتهم وأظهر المعجزات وقرأ القرآن المعجز وعرفوه كما يعرفون أبنائهم انسلخوا من آيات التوراة وكفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وصاروا أذلاء كالكلب لاهثا لم ينفعهم الزواجر والمواعظ التي في التوراة ﴿ فاقصص القصص ﴾ المذكورة على اليهود فإنها نحو قصصهم، ﴿ لعلهم يتفكرون ﴾ تفكرا يؤدي بهم إلى الإتغاظ فيحذرون مثل عاقبته إذا ساروا نحو سيرته وقيل : هذا مثال الكفار مكة وذلك أنهم كانوا يتمونون هاديا يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله عز وجل فلما جاء بهم نبي لا يشكون في صدقه كذبوه فلم يهتدوا وادعوا أو تركوا
﴿ ساء ﴾ فاعله مضمر تميزه ﴿ مثلا القوم ﴾ أي مثل القوم حذف المضاف وإعراب المضاف إليه إعرابه ﴿ الذين كذبوا بآيتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ﴾ معطوف على كذبوا داخل في الصلة يعني الذين كذبوا وظلموا أنفسهم أو منقطع عما سبق، والمعنى وما يظلمون إلا أنفسهم فإن وباله لا يتخطاها ولذلك قدم المفعول
﴿ من يهد الله فهو المهتدي ﴾ أفرد حملا على لفظه من ﴿ ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ﴾ أورد الفظ الجمع حملا على المعنى، فيه تصريح بأن الهدى والضلال من الله تعالى وأن هداية الله تعالى يختص ببعض دون بعض وأنها مستلزمة للاهتداء وليس معنى الهدى من الله البيان كما قالت المعتزلة، وفي إفراد لفظ المهتدي وجمع الخاسرين تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين، والاقتصار في الإخبار عمن هداه الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها. عن عمر بن الخطاب أنه خطب بالجابية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له، فقال له قس بين يديه كلمته بالفارسية فقال عمر لمترجم له ما يقول ؟ قال : يزعم أن الله لا يضل أحدا، فقال عمر كذبت يا عدو الله بل الله خلقك وهو أضلك وهو يدخلك النار إن شاء الله تعالى ولولا أن بيننا عقد لضربت عنقك فتفرق الناس وما يختلفون في القدر.
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ﴾ أي خلقنا ﴿ لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ ﴾ يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى عن عائشة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ( إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ) رواه مسلم، ونحو ذلك فيما مر من حديث إخراج الذرية من صلب آدم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال :( خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي يديه كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان ؟ قلنا : لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال : للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أحمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه ؟ قال :( سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ) ثم قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيديه فنبذهما ثم قال :( فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير ) رواه الترمذي. فإن قيل : كيف التوفيق بين هذه الآية وبين قوله تعالى ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ قلنا : خلق الجن والإنس كلهم للعبادة من حيث نفس الخلق وأصل الحكمة في خلق العالم من غير ملاحظة علم الله فيهم اختيار الكفر وخلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم نظرا إلى أنه تعالى علم منهم اختيار الكفر وحق القول منه لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ولا منافاة بين الحيثيتين، وما قيل : إن قوله تعالى ﴿ وما خلقنا الجن والإنس إلا ليعبدون ( ٥٦ ) ﴾ وإن كان عاما صيغة لكن أريد به الخصوص يعني من علم منهم الإيمان والطاعة فليس بشيء، وقول المعتزلة بأن هذا الأمر العاقبة أي ليكون عاقبتهم جهنم، فلما كان عاقبتهم جهنم جعل كأنهم خلقوا لها قرارا عن إرادة الله المعاصي عدول عن الظاهر ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ أي ليس فيها استعداد معرفة الحق والنظر في دلائله ﴿ وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ﴾ ونظرا لاعتبار في دلائله، ﴿ وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ الآيات والموعظ سماع تأمل وتذكر﴿ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ ﴾ في عدم الفقه والأبصار للاعتبار والاستماع للتدبر وأن مشاعرهم وقواهم مقصورة على الأكل والشرب والجماع وأسباب التعايش ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ من الأنعام لأن للأنعام تميزا بين الضار والنافع من وجه فتجتهد في جذب المنافع ودفع المضار غاية جهدها والكفار منهم من يقدمون على النار المؤبدة معاندة مع العلم بالهلاك قال : الله تعالى ﴿ يعرفون كما يعرفون أبناءهم ﴾ ﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ﴾ ومنهم من كابر العقول وارتكب الفضول وضيّع ما أودع الله فيه من العقل والشعور فكيف يستوي المكلف المأمور والمخلى المعذور ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ كمال الغفلة لا غيرهم بمثل تلك الغفلة هذه الجملة تدل على أن للأنعام والجمادات شعور أما بخالقهم ليسوا بغافلين كمال الغفلة ويشهد هذا قوله تعالى ﴿ وإن من شيء إلا يسبّح بحمده ﴾
وقوله تعالى ﴿ الم ترى أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ﴾ قال : مقاتل إن رجلا دعا الله في صلاة ودعا الرحمن، فقال بعض المشركين من أهل مكة أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعوا اثنين فأنزل الله عز وجل ﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ﴾ دالة على معان هي أحسن المعاني، والمراد بها الألفاظ الدالة على الذات المتصفة بالصفات دون الصفات فحسب وبينهما بون بعيد ﴿ فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ أي فسموه تلك الأسماء، في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إن الله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة ) وفي رواية ( هو وتر يحب الوتر ) ولم يذكر الشيخان تعيين الأسماء التسعة والتسعين المذكورة في هذا الحديث لعدم ثبوته على شرطهما، وذكر الترمذي والبيهقي في الدعوات الكبير تعيينها عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرازق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير العظيم الحليم العظيم الغفور الشكور العلى الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواحد الماجد الواحد الصمد القار المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال الإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور ) واعلم أن أسماء الله تعالى، غير منحصرة في العدد المذكور ولعل الأسماء المذكورة في الحديث من خواصها أنه من أحصاها دخل الجنة ولذلك ضبطها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سلك واحد، واعلم أن من الأسماء التي وقعت في رواية الترمذي لم يقع سبعة وعشرون اسما منها في القرآن بصيغة الاسم الصريح وهو القابض والباسط والخافض والرافع والمعز والمذل والعدل والجليل والباعث والمحصي والمبديء والمعيد والمميت والواجد والماجد والمقدم والمؤخر والوالي وذو الجلال والإكرام والمقسط والمغني والمانع والضار والنافع والباقي والرشيد والصبور، وقد وقع في القرآن بصيغة الاسم ما لم يقع في رواية الترمذي وهو خير وأبقى وإله وشاكر ورب العالمين وأحد ومالك يوم الدين والأهلي والأكرام وخفي وأعلم بمن ضل عن سبيله وأعلم بالمهتدي والقريب والنصير والقدير والمبين والخلاق والمبتلي والموسع والمليك والكافي وفاطر السموات والأرض والقائم بالقسط وغافر الذنب وقابل التوب وشديد العقاب ونعم المولى والغالب على أمره وسريع الحساب وفالق الحب والنوى وفالق الإصباح وجاعل الليل سكنا وعلام الغيوب وعالم الغيب والشهادة وذو الطول وذو انتقام ورفيع الدرجات وذو العرش وذو المعارج وذو الفضل العظيم وذو القوة وذو المغفرة وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ومتم نعمته ومتم نوره وعدو الكافرين وولي المؤمنين والقاهر فوق عباده وأسرع الحاسبين ومخرج الميت من الحي ومحيي الموتى وأرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وخير الرازقين وخير الماكرين وخير الفاتحين ومخزي الكافرين وموهن كيد الكافرين وفعال لما يريد والمستعان ونور السماوات والأرض وأهل التقوى وأهل المغفرة ونعم الماهدون ورب الناس وملك الناس وإله الناس وأقرب من حبل الوريد والقائم على كل نفس بما كسبت وأحق أن تخشاه الذي هو أغنى وأقنى والذي هو أمات وأحيى والذي هو أضحك وأبكى، والذي خلق الزوجين الذكر والأنثى والذي أهلك عادفا الأولى والذي لم يكن له ولد ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل والذي أنزل على عبده الكتاب والذي بيده ملكوت كل شيء والذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر والذي يبدأ الخلق ثم يعيده، والذي بيده الملك والذي بعث في الأميين رسولا ونحو ذلك. وقوله تعالى ﴿ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾ في الحديث أنه الاسم الأعظم، وقد ذكرنا تحقيق الاسم الأعظم في أوائل سورة آل عمران ومنها ما وقع في الأحاديث سوى الحديث المذكور وليس في القرآن كالحنان والمنان والجود والأجود والفرد والوتر والصادق والجميل والقديم والبار والوافي والعادل والمعطي والمغيث والطيب والطاهر والمبارك وخالق والشمس والقمر المنير ورازق الطفل الصغير وجابر العظم الكسير وكبير كل كبير والذي نفسي بيده وغير ذلك ثم اعلم أن أسماء الله تعالى غير منحصرة فيما ورد في القرآن، والأحاديث فقد روي أنه تعالى أنزل في التوراة ألفا من أسمائه، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم ( اللهم إني أسئلك بكل اسم هو لك سميت به نفسك وأنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ) فلا بد من الإيمان مجملا بجميع أسماء الله تعالى التي سمي الله تعالى بها نفسه ﴿ وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ ﴾ قرأ حمزة هنا وفي فصلت بفتح الياء والحاء والباقون بضم الياء وكسر الحاء، ومعنى الإلحاد اللحد الميل عن القصد قال، يعقوب بن السكيت الإلحاد هو العدول عن الحق وإدخال ما ليس منه فيه يقال ألحد في الدين ولحد والذين يلحدون في أسمائه هم المشركون عدلوا بأسماء الله عما هي عليه فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا فاشتقوا اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان، هذا قول ابن عباس ومجاهد وقيل : هو تسميتهم الأصنام آلهة، روي عن ابن عباس معنى يلحدون في أسمائه يكذبون، وقال : أهل المعاني الإلحاد في أسماء الله تعالى تسميته تعالى بما لم يتسم ولم ينطق به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والحاصل أن أسماء الله تعالى توقيفية فإنه يسمى جوادا ولا يسمى سخيا ويسمى عالما ولا يسمى عاقلا ويسمى رحميا ولا يسمى رقيقا، وقال : الله عز وجل :﴿ يخدعون الله وهو خادعهم ﴾ وقال : عز وجل ﴿ ومكروا ومكر الله ﴾ ولا يقال يا خادع يا مكار ويقال يا قائم بالقسط ولا يقال يا قائم ولا يقال يا خالق القردة والخنازير ويا كبير من زيد وإن كان زيد أكبر من ملوك الدنيا بل يدعى بأسمائه التي ورد بها التوقيف على أوجه التعظيم، ولا يجوز لنا أخد اسم من أسماء الله تعالى التي ورد في التوراة من اليهود لعدم الاعتماد على قولهم لكفرهم لكن من أسلم من أحبارهم وحسن إسلامه فلا بأس بالأخذ منه، فإن عمر رضي الله عنه وابن عباس وأبا هريرة وغيرهم من الصحابة كانوا يسألون أبناء التوراة من كتب الأحبار وعبد الله بن سلام من غير نكير فمعنى الآية على هذا وذروا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لم يرد به الشرع، أو المعنى ذروا الملحدين يعني لا تبالوا بإنكارهم فيما سمى به نفسه كقولهم ما نعرف إلا رحمن اليمامة، أو المعنى ذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات ولا توافقوهم عليه أو أعرضوا عنهم فإن الله مجازيهم كما قال { سيجزون ما كانوا يَعْمَلُونَ {
}وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال : البغوي : قال : عطاء عن ابن عباس يريد أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، قال : قتادة بلغنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، وقال : الكلبي : هم من جميع الخلق، وعلى كلا التقديرين ذكر الله تعالى في هذه الآية بعد ما بيّن أنه خلق للنار طائفة ظالمين ملحدين عن الحق أنه خلق للجنة أمة هاذين عادلين في الأمر، والاستدلال بهذه الآية على صحة إجماع كل عصر ضعيف إذ لا دلالة فيها على أن في كل فرقة طائفة بهذه الصفة فلا مساس لهذه الآية بقول صلى الله عليه وآله وسلم :( لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) متفق عليه من حديث معاوية بن سفيان والمغيرة بن شعبة
﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ يعني كفار مكة ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم ﴾ يعني سنقربهم إلى الهلاك قليلا قليلا وأصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة ﴿ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ قال : عطاء سنمكر بهم من حيث لا يعلمون، قال : سفيان الثوري نسبغ عليهم النعمة وننسيهم الشكر
﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ ﴾ عطف على سنستدرجهم يعني أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم وأزين أعمالهم السوء وأمهلها ليتمادوا في المعاصي المفضية إلى الهلاك ﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ أي أخذي شديد وإنما سماه كيدا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان قال : ابن عباس إن مكري شديد، قيل نزلت في المستهزئين فقتلهم الله في ليلة واحدة والله أعلم
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام على الصفا ليلا فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا يا بني فلان يا بني فلان بحذرهم بأس الله ووقائعه فقال قائلهم إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت إلى الصباح فأنزل الله تعالى ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ ﴾ سكته ﴿ مَا بِصَاحِبِهِم ﴾ محمد صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ بصاحبهم جنة ﴾ أي جنون ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ موضح إنذاره بصورة جلى بحيث لا يخفى على أحد
﴿ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ ﴾ نظر استدلال دفي ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من ﴿ شيء ﴾ يعني ما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يحصى الدلالة على كمال قدرة صانعها ووحدته ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه ﴿ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ﴾ عطف على ملكوت وأن مصدرية أو خفيفة عن الثقيلة واسمه ضمير الشأن وكذا اسم يكون، والمعنى أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها حتى يسارعون إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل حلول آجالهم، والاستفهام في أو لم يتفكروا ولم ينظروا للإنكار والتعجب والواو للعطف على محذوف تقديره ألم يؤمنوا بالقرآن والنبي ورموه بالجنون ولم يتفكروا ولم ينظروا ﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ ﴾ أي بعد القرآن العربي المعجز المشحون من العلم والحكمة على لسان رجل منهم أمي غير متهم قط بالكذب ﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ إذا لم يؤمنوا بالقرآن يعني لعل آجالهم قريبة فما بالهم لا يتبادرون الإيمان بالقرآن وما يطلبون أوضح دليل منه فإذا لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به ثم ذكر علة إعراضهم فقال، ﴿ مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ﴾
﴿ مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ﴾ قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة والضمير راجع إلى الله والباقون بالنون على التكلم، وقرأ حمزة والكسائي يذرهم بالجزم عطفا على محل فلا هادي له كأنه قال : فلا يهده أحد غيره ويذرهم، والباقون بالرفع على الاستئناف، ﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ يترددون متحيرين يعمهون حال من الضمير المنصوب في يذرهم.
أخرج ابن جرير عن قتادة وغيره أنه قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن بيننا وبينك قرابة فأشر إلينا متى الساعة، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال : قال حمل بن أبي قشير وسمول بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول فإنا نعلم ما هي فأنزل الله تعالى ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ﴾ أي القيامة وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها إما لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو لأنها على طولها عند الله كساعة، ﴿ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴾ مصدر ميمي يعني إرسائها أي إثباتها وإستقرارها ورسو الشيء ثباته وإستقراره ومنه رسا الجبل وأرسى السفينة، قال : ابن عباس معناه منتهاها، وقال : قتادة قيامها.
﴿ قُلْ ﴾ يا محمد ﴿ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ﴾ استأثر بعلمها لا يعلمها إلا هو لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ﴿ لاَ يُجَلِّيهَا ﴾ أي لا يظهر أمرها ولا يكشف خفائها ﴿ لِوَقْتِهَا ﴾ أي في وقتها ﴿ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ أي ثقل علمها وخفي أمرها بأعلى أهل السماوات والأرض وكل خفي ثقيل أو يقال كل من أهل السماوات والأرض من الملائكة وغيرهم أهمه شأن الساعة ويتمنى أن يتجل له علمها وشق عليه خفائها أو ثقلت فيها لأنهم يخافون شدائدها وأهوالها، وقال : الحسن معناه إذا جاءت ثقلت على أهلها من الملائكة والثقلين وعظمت كأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها ﴿ لاَتَأْتِيكُمْ ﴾ الساعة ﴿ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ فجاءت على غفلة، في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسفى فيه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمها، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها ) وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : لينفخن في الصور والنار في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم حتى ليكون بين الرجليبن يتساومان فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور فيصعق به قال : وهي التي قال : الله تعالى ﴿ ما ينظرون إلا صيحة واحدة ﴾ قال : تقوم الساعة والناس في أسواقهم يتبايعون ويذرعون الثياب ويحلبون اللقاح وفي حوائجهم فلا يستطيع توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، وأخرج عبد الله بن أحمد في رواية الزهد عن زيد بن العوام قال : إن الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب والرجل يحلب الناقة ثم قرأ ﴿ فلا يستطيعون توصية ﴾ الآية، وأخرج الطبراني بسند جيد عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس فلا تزال ترتفع في السماء تنتشر حتى تملأ السماء ثم ينادي مناد يا أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي نفسي بيده إن الرجلان ينشران الثوب فلا يطويانه وإن الرجل ليمدد حوضه فلا يسقى منه شيئا والرجل يحلب ناقته فلا يشربه ) ﴿ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ﴾ فعيل من حفى الشيء إذا سأل عنه وبالغ في السؤال، والمعنى كأنك عالم بها فإنه من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه ولذلك عدي بعن، وقيل : عنها متعلق يسئلونك تقديره يسألونك عنها كأنك حفى أي عالم، وقيل : هو الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشا قالوا أن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة والمعنى يسألونك عنها كأنك شفيق بقريش تخصهم بالإطلاع عليها لأجل قرابتك بهم ﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ ﴾ كرره لتكرير يسألونك لما نيط به قوله كأنك حفى وللمبالغة ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أن علمها مما استأثره الله ولم يؤته أحدا من خلقه.
﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ﴾ أي جلب منفعة ولا دفع مضرة دينية ولا دنيوية وهو إظهار للعبودية والتبري عن دعوى العلم بالغيب ﴿ إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ ﴾ من ذلك فيعلمني به وحيا جليا أو خفيا ويعطيني قدرة على جلب النفع أو دفع الضرر ﴿ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾ يعني لاستكثرت من جلب المنافع ودفع المضار حتى لا يمسني السوء يعني أجتنب عما يكون من الشر والفتنة، وقيل : معناه لو كنت أعلم الغيب أي متى الساعة لأخبرتكم حتى تؤمنوا وما مسني السوء بتكذيبكم، وقيل : ما مسني السوء كلام مبتدأ لقولهم أنك مجنون يعني ما مسني جنون ﴿ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ ﴾ للكافرين ﴿ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ يصدقون، وجاز أن يكون لقوم يؤمنون متعلقا لبشير ونذير كليهما على سبيل تنازع الفعلين فإن النذارة والبشارة إنما ينفعان فيهم.
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ يعني آدم عليه السلام ﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا ﴾ أي من جسدها من ضلع من أضلاعها ﴿ زَوْجَهَا ﴾ حواء ﴿ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ أي ليأنس بها ويطمئن إليها ذكر للضمير ذهابا إلى المعنى ليناسب قوله ﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ﴾ أي جامعها ﴿ حَمَلَتْ ﴾ حواء ﴿ حَمْلاً خَفِيفًا ﴾ خف عليها ولم تلق منه ما تلقى الحوامل غالبا من الأذى أو محمولا خفيفا وهو النطفة ﴿ فَمَرَّتْ بِهِ ﴾ أي فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق أو فاستمرت به وقامت وقعدت ولم يثقلها ﴿ فَلَمَّا أَثْقَلَت ﴾ أي صارت ذات ثقل إذا كبر الولد في بطنها ﴿ دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا ﴾ أي دعا آدم وحواء ﴿ لَئِنْ آتَيْتَنَا ﴾ يا رب ﴿ صَالِحاً ﴾ سويا قد صلح بدنه مثلها ﴿ لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ لك على هذه النعمة المجددة، قال : البغوي : قال : المفسرون لما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل وقال : لها ما الذي في بطنك ؟ قالت : ما أدري، قال : أخاف أن يكون بهيمة أو كلبا أو خنزيرا وما يدريك من أين يخرج من دبرك فيقتلك أو من فيك أو ينشق بطنك فخافت حواء من ذلك وذكرت ذلك لآدم عليه السلام فلم يزالا في هم من ذلك ثم عاد إليها فقال إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقا سويا مثلك ويسهل عليك خرجوه أتسميه عبد الحارث ؟ وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث فذكرت لآدم عليه السلام فقال لعله صاحبها الذي قد علمت، فعاودها إبليس فلم يزل بهما إبليس حتى غرهما فلما ولدت سمياه عبد الحارث قال : الكلبي : قال : لها إن دعوت الله فولدت إنسانا أتسميه بي قالت نعم فلما ولدت قال : سميه بي قالت : وما اسمك ؟ قال : الحارث ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث، وروى عن ابن عباس قال : كانت حواء تلد وآدم يسميه عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمان فيصيبهم الموت فسمياه عبد الحارث فعاش. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وقال : غريب والحاكم وصححه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ) قال البغوي : جاء في الحديث أنه خدمهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض وقال ابن زيد ولد لآدم فسماه عبد الله فأتاه إبليس فقال ما سميتما ابنكما ؟ قالا : عبد الله وكان قد ولد لهما قبل ذلك ولد فسمياه عبد الله فآتاها فمات، فقال إبليس أتظنان أن الله تارك عبده عندكما ؟ والله ليذهبن به كما ذهب بالآخر ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما فسمياه عبد الشمس، قال : البغوي والأول أصح
﴿ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً ﴾ بشرا سويا ﴿ جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ﴾ قرأ أبو بكر شركا الشين والتنوين أي شركة، قال : أبو عبيدة يعني حظا نصيبا، وقرأ الآخرون بضم الشين وفتح الراء والمد والهمز جمع شريك، قال : البغوي : خبر عن الواحد بلفظ الجمع أي جعلا له شريكا إذ سمياه عبد الحارث، وقال : لم يكن هذا إشراكا في العبادة ولا في اعتقاد أن الحارث ربهما فإن آدم كان نبيا معصوما من الشرك ولكن قصد أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به أنه معبود وهذا كالرجل إذا نزل به ضيف يسمى نفسه عبد الضيف على وجه الخضوع لا على أن الضيف ربه ويقول للغير أنا عبدك، وقال : يوسف لعزيز مصر ﴿ إنه ربي أحسن مثواي ﴾ ولم يرد به أنه معبوده كذلك هذا، وقال : الحسن وعكرمة معنى قوله تعالى ﴿ جعلا له شركاء ﴾ أنه جعل أولادهما يعني كفار مكة وغيرهم له تعالى شركاء فيما آتى أولادهما على حذف المضاف في الموضعين وإقامة المضاف إليه مقامه نظيره قوله تعالى ﴿ ثم اتخذتم العجل ﴾ ﴿ وإذ قتلتم نفسا ﴾ خطابا للذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليهود وكان ذلك من فعل آبائهم والمعنى ثم اتخذ آباؤهم العجل وإذا قتل أسلافهم نفسا، ويؤيد هذا القول إيراد شركاء بصيغة الجمع وقوله تعالى ﴿ فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، يعني الأصنام وكذا ما بعدها من الآيات، وقال البغوي : قيل : هذا ابتلاء كلام وأراد به إشراك أهل مكة ولئن أراد ما سبق فمستقيم من حيث أنه كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما فعلا من الإشراك في الاسم، وقال : السيوطي هذا معطوف على خلقكم وما بينهما اعتراض، وقال : البغوي : وقيل : هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهوّدوهم، وقال ابن كيسان هم الكفار سموا أولادهم عبد العزى وعبد اللات وعبد المناف وعبد الشمس وقال : عكرمة خاطب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم من نفس واحدة أي من أبيه وجعل منها أي من جنسها زوجها، قال : البغوي : وهذا قول الحسن والأول قول السلف ابن عباس ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة من المفسرين أنه آدم وحواء، قلت : ذكر الله سبحانه من آدم قصة أكل الشجرة بعد ما نهى عنه وأشنع عليه في القرآن في عدة مواضع حيث قال :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ وذكر أنه ندم على ذلك كثيرا حيث قال :﴿ ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخسرين ﴾ فتاب الله سبحانه عليه وقال :﴿ ثم أجتباه ربه فتاب عليه وهدى ( ١٢٢ ) ﴾ ومع ذلك ندم آدم على تلك الزلة أبدا حتى أنه ورد في الصحيحين في حديث طويل عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو الناس خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك فيريحنا من مكاننا هذا فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهى عنها ) ولم يذكر هذا الخطيئة من آدم عليه السلام ولو كانت تلك الخطيئة من آدم عليه السلام لكانت أغلط من الأولى في هذا المقام تأويل النصوص على ما قال : الحسن وعكرمة.
﴿ أيشركون ﴾ به تعالى ﴿ ما لا يخلق شيئا ﴾ يعني إبليس والأصنام ﴿ وهو يخلقون ﴾ هم ضمير على الأصنام جيء بهم بناء على تسميتهم آلهة
﴿ ولا يستطيعون ﴾ أي الأصنام ﴿ لهم ﴾ لعبدتهم ﴿ نصر ولا أنفسهم ينصرون ﴾ فيدفعون عن أنفسهم مكروه من أرادهم بكسر أو نحو ذلك
﴿ وإن تدعوهم ﴾ أي المشركين ﴿ إلى الهدى ﴾ أي الإسلام ﴿ لا يتّبعوكم ﴾ قرأ نافع ههنا وفي الشعراء يتبعهم الغاوون بسكون التاء المثناة من فوق وفتح الموحدة من المجرد والباقون بتشديد المثناة وكسر الموحدة من الافتعال، وهما بمعنى يقال تبعه واتبعه اتباعا، وقيل : الخطاب للمشركين والضمير المنصوب في تدعوهم للأصنام أي أن تدعوا أيها الكفار الأصنام إلى أن يهدوكم لا يتبعوكم أي لا يجيبوكم إلى مرادكم كما يجيب الله ﴿ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ﴾ لم يقل أم صمتم لرعاية رؤس الآي وللمبالغة في عدم إفادة الدعاء من حيث أن الدعاء مستو بالثبات على الصمام أو لأنهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم فكأنه قيل : سواء عليكم إحداثكم دعائهم واستمراركم على الصمات عن دعائهم
﴿ إن الذين تدعون ﴾ أيها المشركون ﴿ من دون الله ﴾ أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة ﴿ عباد أمثالكم ﴾ أي مخلوقة مملوكة مذللة مسخرة لما أريد منهم قال مقاتل : أراد بها الملائكة والخطاب مع قوم يعبدون الملائكة والأول أصح، ﴿ فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ﴾ أنها آلهة ويحتمل أنهم لما نحتوا الأصنام بصور الأناسي قال : لهم إن منتهى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالهم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحقها بعضكم من بعض ثم بين أنها دونكم منزلة فقال ﴿ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها ﴾
﴿ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها ﴾ قرأ أبو جعفر ههنا وفي القصص والدخان بضم الطاء والباقون بكسرها ﴿ أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم أذان يسمعون بها ﴾ كما هي لكم فكيف تعبدون ما هي أدون منكم منزلة ﴿ قل ﴾ يا محمد ( ادعوا شركاءكم } أيها المشركون ﴿ ثم كيدون ﴾ قرأ هشام بحلاف عنه بإثبات الياء في الحالين وأبو عمرو وبإثباتها في الوصل خاصة، والباقون بحذفها في الحالين يعني بالغوا فيما تقدرون أنتم وشركاؤكم في المكر وإصابة المكروه ﴿ فلا تنظرون ﴾ فلا تمهلوني فإني لا أبالي بكم لوثوقي على ولاية الله تعالى وحفظه.
﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ ﴾ أي حفيظي ﴿ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ﴾ القرآن ﴿ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ من عباده فضلا من أنبيائه قال : ابن عباس الذي لا يعدلون بالله شيئا فالله يتولاهم بنصره ولا يضرهم عداوة من عاداهم
﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ﴾ من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم
﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ ﴾ يعني الأصنام ﴿ وَتَرَاهُمْ ﴾ أيها المخاطب ﴿ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ يعني أنهم الناظر إليك لأنهم صورا الصورة الإنسان، وقال : الحسن معنى الآية إن تدعوهم يعني المشركين على الإسلام لا يسمعون أي لا يعقلون ذلك بقلوبهم وتراهم ينظرون إليك بأعينهم وهم لا يبصرون بقلوبهم والله أعلم
﴿ خُذِ الْعَفْوَ ﴾ قال : عبد الله بن الزبير ومجاهد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم وما يسهل عليهم وذلك مثل قبول اعتذار والعفو والمساهلة وترك البحث عن الأشياء والتجسس ونحو ذلك ولا تطلب ما يشق عليهم فالعفو هو ضد الجهد وقيل : معناه خذ العفو عن المذنبين، أخرج البخاري عن ابن عباس قال :( قدم عيينة بن حصين بن حذيفة فدخل على ابن أخيه الحر بن يقيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبابا، فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا فاستأذن لي عليه، قال " سأستأذن لك عليه، قال : ابن عباس فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل قال : يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننل بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقل الحسن يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال : لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ خذ العفو وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ( ١٩٩ ) ﴾ وإن هذا من الجاهلين والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل . عن أنس بن مالك أ ن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا وقف العباد للحساب جاء قوم ) فذكر الحديث وفيه ( ثم نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة قيل : ومن ذا الذي أجره الله ؟ قال ( العافون عن الناس فقام كذا وكذا ألفا فدخلوها بغير حساب ) رواه الطبراني بإسناد حسن، وروي أنه نزلت هذه الآية قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجبرئيل ( ما هذا ؟ قال : لا أدري حتى أسأل ربي، ثم رجع فقال : إن ربك أمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ) رواه ابن مردويه عن جابر وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي مرسلا، وعن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من سره أن يشرف له البنيان ويرفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه ) رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد كذا قال : لكنه منقطع، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) رواه البخاري، وعن أبي هريرة أن رجل قال : يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئوا إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي ؟ فقال : لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهم المل ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك ) رواه مسلم، قال : ابن عباس والضحاك والكلبي معنى الآية خذ ما عفا لك من الأموال وهو الفضل من العيال وذلك معنى العفو في قوله تعالى ﴿ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ﴾ ثم نسخت هذه بالصدقات المفروضات ﴿ وأمر بالعرف ﴾ أي بما هو معروف حسنة من الأفعال شرعا وعقلا، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطيع فبلسانه فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم، وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتدعنه ولا يستجاب لكم ) رواه الترمذي ﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ يعني إذا سفه عليك الجاهلون فلا تقابلهم بالسفه ولا تكافيهم بمثل أفعالهم نظيره قوله تعالى ﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ﴾ قال : جعفر الصادق رضي الله عنه أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله سلم بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم :( إن الله عز وجل بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال ) رواه البغوي، وعن عائشة أنها قالت : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق ولا يجري السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح رواه الترمذي والبغوي
﴿ وإما يَنزَغَنَّكَ ﴾ ما زائدة بعد أن الشرطية والنزع النخس وهو الضرب برؤس الأصابع والمراد ههنا التحريك إلى الشر والإغراء والوسوسة والمعنى أن يصيبك ويعتريك ﴿ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ﴾ قال : عبد الرحمان بن زيد لما نزل قوله تعالى خذ العفو قال : النبي صلى الله عليه واله وسلم كيف يا رب والغضب فنزل ﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ﴾ ﴿ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ﴾ أي استجربه جواب الأمر محذوف أي يدفعه عنك ﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ ﴾ لقولك ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بالتجائك وبما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه أو سميع لأقوال من آذاك عليم بأفعاله فيجازيه عليها مغنيا إياك عن الانتقام واتباع الشيطان.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ ﴾ قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة على وزن فاعل من طاف يطوف والمراد به لمة كأنها طافت بهم ودارت حولهم فلم يقدر أن يؤثر فيهم أو من طاف به الخيال يطيف يطيف طيفا، وقرأ بن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب طيف بغير همز على أنه مصدر على وزن ضرب أو مخفف طيّف على وزن ليّن وهيّن ﴿ مِّنَ الشَّيْطَانِ ﴾ المراد به الجنس ولذلك جمع ضميره ﴿ تَذَكَّرُواْ ﴾ ما أمر الله به ونهى عنه وثوابه وعتابه وأن هذه لمة من الشيطان ﴿ فَإِذَا هُم ﴾ أي الذين اتقوا ﴿ مُّبْصِرُونَ ﴾ مواقع الخطاء مكائد الشيطان بسبب التذكر فيتحرّزون عنها ولا يتبعونه فيها، قال : السدي المتقي إذا زل تاب، وقال : مقاتل إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر ونزع عن مخالفة الله تعالى والآية تأكيد وتقرير لما قبلها وكذا قوله ﴿ وَإِخْوَانُهُمْ ﴾
﴿ وَإِخْوَانُهُمْ ﴾ أي إخوان الشياطين يعني الفساق وجاوز أن يكون المراد بالإخوان الشياطين ويعود الضمير إلى الجاهلين قال الكلبي : لكل كأفراخ من الشياطين ﴿ يَمُدُّونَهُمْ ﴾ قرأ نافع بضم الياء وكسر الميم من الإمداد والباقون بفتح الياء وضم الميم من المجرد يعني يمدهم الشياطين أي يعينونهم بالتسهيل والإغراء، أو هم يمدون الشياطين بالاتباع والامتثال ﴿ فِي الْغَيِّ ﴾ أي الضلال ﴿ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ﴾ أي لا يكفوا الفساق عن الضلالة ولا يبصرون بخلاف المؤمنين تذكروا فإذا هم مبصرون كذا قال : الضحاك ومقاتل، أو المعنى ثم لا يكفون الشياطين عن إغوائهم حتى يرونهم، قال : ابن عباس لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين يمسكون عنهم
﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم ﴾ يا محمد ﴿ بِآيَةٍ ﴾ من القرآن أو معجزة مما إقترحوه ﴿ قَالُواْ ﴾ يعني الكفار ﴿ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا ﴾ أي هلا جمعتها تقولا من نفسك يقول العرب اجتبيت الكلام إذا اختلقته أو هلا أخذتها من الله، قال : الكلبي كان أهل مكة يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآيات تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا لولا اجتبيتها أي هلا أنشأتها من عندك ﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد ﴿ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي ﴾ أي لست بمختلق للآيات أو لست بمقترح لها ﴿ هَذَا ﴾ القرآن ﴿ بَصَآئِرُ ﴾ وللقلوب بها تبصر الحق من الباطل والصواب من الخطأ أو حجج وبرهان يظهر بها صدق دعواي ﴿ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾
﴿ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه من طريق أبي عياض عن أبي هريرة قال : كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت هذه الآية، وفي رواية عنه أنها نزلت في رفع الأصوات خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود أنه سلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي فلم يرد وكان الرجل قبل ذلك يتكلم في صلاته ويأمر لحاجته فلما فرغ رد عليه وقال : إن الله يفعل ما يشاء وإنها نزلت ﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا إليه وأنصتوا لعلكم ترحمون ﴾، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : كنا نسلم بعضنا على بعض في الصلاة فنزلت فاستمعوا له وأنصتوا، وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن مغفل قال : كان الناس يتكلمون في الصلاة فأنزل الله هذه الآية فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلام في الصلاة، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو الشيخ وابن جرير والبيهقي عن قتادة قال : كانوا يتكلمون في الصلاة أول ما أمروا بها كأن الرجل يجيء وهم في الصلاة فيقول لصاحبه كم صليتم فيقول كذا وكذا فأنزل الله هذه الآية فأمروا بالإستماع والإنصات، وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك فال : كانوا يتكلمون في الصلاة فأنزل الله هذه الآية. فهذه الروايات تدل على أن الآية نزلت للنهي عن الكلام في الصلاة فقال أبو حنيفة رحمه الله وهو رواية عن أحمد أن الكلام في الصلاة عامداً كان أو ناسيا أو ساهيا أو مكرها أو جاهلا بالتحريم قل أو أكثر ينقض الصلاة، غير أن السلام ناسيا غير مبطل للصلاة، وعند الأئمة الثلاثة إذا تكلم في صلاته أو سلم ناسيا أو جاهلا بالتحريم أو سبق لها لسانه لا يبطل صلاته وإن طال، والأصح عند الشافعي أن الكلام ناسيا ونحو ذلك إن طال يبطل، وعن مالك أن كلام العامد فيما فيه مصلحة وإن لم يكن عائدة إلى الصلاة كإرشاد الضال وتحذير الضرير لا يبطل الصلاة. احتج الأئمة الثلاثة بحديث ابن سيرين عن أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحدى صلاة العشاء فصلى ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا : قصرت الصلاة وفي القوم أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين فقال يا رسول الله نسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال : لم أنس ولم تقصر الصلاة، فقال أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر فربما سألوه ثم سلم، فيقول يعني ابن سيرين نبئت أن عمران بن حصين قال : ثم سلم ) متفق عليه وبحديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سَلَّمَ في ثلاث ركعات من العصر ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول، فقال يا رسول الله فذكر به فخرج كأنه غضبان يجر ردائه حتى انتهى إلى الناس فقال أصدق هذا ؟ قالوا نعم فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم رواه مسلم، وجه الإحتجاج أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلم معتقدا أن صلاته قد تمت وأنه ليس في صلاة وكذلك ذو اليدين لإمكان النسخ. واعترض على هذا الحديث بوجوه : أحدها أن أبا هريرة أسلم في سنة سبع وذو اليدين قتل يوم بدر فكيف يصح قوله صلى بنا، وثانيها أن ألفاظه يختلف فتارة يروى فسلم من ركعتين وتارة من ثلاث، وثالثها أن هذا كان حين كان الكلام مباحا في الصلاة ولهذا تكلم أبو بكر وعمر والناس عامدين، وأجيب بأنه اتفق الأئمة على صحة الحديث وسام ذي اليدين الخرباق كما ذكر في حديث عمران بن حصين وهو عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين اسمه عمير، وإنما وقع اعتراضهم على رواية الزهري لهذا الحديث فإنه قال : في رواية فقام ذو الشمالين، قال : أبو داود السجستاني وهم الزهري في الحديث فرواه عن ذي الشمالين ظنا منه أن ذا الشمالين وذا اليدين واحد، وأما اختلاف ألفاظه فجوابه أن حديث أبي هريرة لم يختلف وإنما يروى الثلاث من عمران وهو من أفراد مسلم وحديث أبي هريرة وأصح وأن الشك في العدد لا يضر مع حفظ أهل الحديث وثبوت الكلام ناسيا، وأما تحريم الكلام فقال أبو حاتم بن حبان إنما كان الكلام بمكة فلما بلغ المسلمون بالمدينة سكتوا، وقال : زيد بن أرقم وهو من أهل المدينة كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت ﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ فأمرنا بالسكوت وقال : أبو سليمان الخطابي نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة على القولين كأن تحريم الكلام قبل إسلام أبي هريرة بيقين. وأما كلام أبي بكر وعمر الناس فأجيب عنه بوجهين أحدهما أن في رواية حماد بن زيد عن أيوب أنهم أومؤا أي نعم فدل ذلك أن رواية من روى أنهم قالوا نعم فيه تجوز والمراد أنهم أومؤا ثانيهما أنه لم ينسخ من الكلام ما كان جوابا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحديث أبي سعيد بن المعلى قال :( كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم أجبه حتى أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال ( ألم يقل الله ﴿ استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ﴾ ) رواه البخاري، واحتج أبو حنيفة بحديث معاوية بن الحكم قال : بينا نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت له يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أماه ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلا رأيتهم يصمتوني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعاني فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه والله ما لهزني ولا شتمني ولا ضربني ثم قال :( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ) رواه مسلم، وبحديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( الكلام ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء ) رواه الدارقطني، وأجيب بأن حديث معاوية حجة على أبي حنيفة لا له حيث لم يأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإعادة الصلاة وإنما علمه أحكام الصلاة، وقال : له لا يصلح لأنه محظور في الصلاة، وأما حديث جابر فهو من رواية أبي شيبة عن يزيد بن خالد عن أبي سفيان وأبو شيبة اسمه عبد الرحمان بن إسحاق ضعيف، كذلك قال : يحيى بن معين وقال : أحمد ليس بشيء منكر الحديث ويزيد لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد كذا قال : ابن حبان والله أعلم وقال : سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد أن الآية في الخطبة أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة واختار السيوطي هذا القول وقد ذكرنا مسئلة الإنصات في الخطبة في سورة الجمعة، وقال : عمر بن عبد العزيز الإنصات لقول كل واعظ وقال : الكلبي كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار يعني بالدعاء والتعوذ وقال : قوم نزلت الآية في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام، قال : البغوي : روى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في رفع الأصوت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكر البغوي : عن المقداد أنه سمع ناسا يقرءون مع الإمام فلما انصرف قال : أما آن لكم أن تفقهوا إذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله، قال : البغوي : وهذا قول الحسن والزهري والنخعي أن الآية في القراءة في الصلاة خلف الإمام، قال : البغوي وهذا أول ممن قال : أنها نزلت للإنصات في الخطبة لأن الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة وقال ابن همام أخرج البيهقي عن الإمام أحمد قال : أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة وأخرج عن مجاهد أن عليه السلام يقرأ في الصلاة فسمع قراءة فتى من الأنصار فنزل ﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ﴾ وقد ذكرنا مسئلة قراءة خلف الإمام في سورة المزمل في تفسير قوله تعالى ﴿ فاقرءوا ما تيسر من القرآن ﴾ وأخرج ابن جرير عن الأزهري قال : نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما قرأ شيئا قرأه، قلت : يعني خارج الصلاة، وقال : سعيد بن المنصور في سننه حدثني أبو معشر عن محمد بن كعب قال : كانوا يتلقون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ شيئا قرأوا معه حتى نزلت هذه الآية في الأعراف قال : صاحب لباب النقول في أسباب النزول ظاهر ذلك الرواية أن الآية مدنية.
فصل : اختلف العلماء في وجوب الاستماع والإنصات على من هو خارج الصلاة يبلغه صوت من يقرأ القرآن في الصلاة أو خارجها ؟ قال : البيضاوي : عامة العلماء على استحبابها خارج الصلاة، وقال : ابن همام وفي كلام أصحابنا ما يدل على وجوب الاستماع في الجهر بالقراءة مطلقا، قال : في الخلاصة رجل يكتب الفقه وبجنبه يقرأ القرآن فلا يمكنه استماع القرآن فالإثم على القارئ وعلى هذا لو قرأ على السطح في الليل جهرا والناس نيام يأثم، وهذا صريح في إطلاق الوجوب ولأن العبرة لعموم اللفظ دون خصوص السبب، قلت : وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقرأ القرآن بالليل جهرا بحيث يسمع من وراء حجرته وربما يسمعه الجيران، روى الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أم هاني قالت كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالليل وأنا على عريشي قال : البغوي : في شرح السنة العريش السقف سميت بيوت مكة عروشا لأنها عيدان ينصب ويظلل، وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس، قال : كان قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قدر ما يسمعه من في الحجرة وهو في البيت ، وروي الطحاوي بلفظ كان يصلي بالليل فيسمع قراءته من وراء الحجرة وهو في البيت وقد كانت في بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم نساؤه وربما كانت إحداهن نائمة وهو يصلي، ، روى البخاري في الصحيح عن عائشة قال :( كنت أنام بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتها قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح )، وكان أصحاب رسول صلى الله عليه وآله وسلم يقرءون القرآن بالليل والنهار ورافعي أصواتهم من غير نكير، روي مسلم عن أبي موسى الأشعري أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : له لقد رأيتني وأنا أسمع لقراءتك البارحة ، وفي الصحيحين عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين حين يرحلون وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار ) ولا شك أن بعض الناس في العسكر كانوا نياما وقت قراءة الأشعريين وروى بن أبي داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سمع ضجة ناس في المسجد يقرءون القرآن فقال طوبى لهؤلاء كانوا أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه الأحاديث تدل على فساد ما أفتى به صاحب الخلاصة وأخرج ابن مروديه في تفسيره قال : ثنا أبو أسامة عن سفيان عن أبي المقدام هشام بن زيد عن معاوية ابن قرة قال : سألت بعض مشايخنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
﴿ واذكر ربك في نفسك ﴾، قال : ابن عباس يعني بالذكر القراءة في الصلاة يريد يقرأ سرا في نفسه في صلاة السر ﴿ تضرعا وخيفة ﴾ أي متضرعا وخائفا مني ﴿ ودون الجهر من القول ﴾ أي متكلما كلاما فوق السر ودون الجهر أراد في صلاة الجهر ولا تجهر جهرا شديدا بل في خفض وسكون يسمع من خلفك كذا قال : ابن عباس في تفسير الآية، فقوله ودون الجهر عطف على قوله في نفسك، قلت : وجاز أن يكون المراد اقرأ القرآن فوق السر دون الجهر جهرا متوسطا نظيره قوله تعالى ﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ﴾ ويؤيده حديث أبي قتادة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر يصلي يخفض صوته ومر بعمر وهو يصلي رافعا صوته قال : فلما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك ) قال : قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله، وقال : لعمر ( مررت بك وأنت تصلي رافعا صوتك ) قال : يا رسول الله أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( يا أبا بكر ارفع صوتك شيئا وقال : لعمر اخفض من صوتك شيئا ) رواه أبو داود، وروى الترمذي نحوه من حديث عبد الله ابن رباح الأنصاري، وجاز أن يكون المعنى اقرأ القرآن سرا وجهرا دون الجهر الشديد يعني على كلا الوجهين تارة كذا وتارة وكذا، روي أبو داود عن أبي هريرة قال : كانت قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالليل يرفع طورا ويخفض طورا ، وروى الترمذي عن عبد الله بن أبي قيس قال : سألت عائشة عن قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسر بالقراءة أو يجهر ؟ قالت كل ذلك قد كان يفعل ربما أسر وربما جهر، قلت : الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة قال : الترمذي حديث حسن صحيح غريب.
فصل : اختلف العلماء في كيفية القراءة في الصلاة ليلا وخارج الصلاة ؟ فقال قوم لا بد من الجهر وكرهوا المخافة اتباعا لحديث أم هانئ وابن عباس المذكورين أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمع قراءة من وراء الحجرة وهو في البيت وسمعته أم هانئ على عريشها، والجمهور على أن القارئ مخير إن شاء جهر وإن شاء أخفت لما ذكرنا من حديث أبي هريرة، وعائشة أنه صلى الله عليه وآله وسلم يرفع طورا ويخفض طورا، قال : الطحاوي في حديث أم هانيء وابن عباس ذكر رفعه صلى الله عليه وآله وسلم صوته وهو لا ينفي الخفض أحيانا وحديث أبي هريرة يبين أن للمصلي أن يخفض إن أحب ويرفع إن أحب فهو أولى وبه يقول أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى، ثم القائلون بالتخيير منهم من قال : الإخفات أفضل بحديث عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي قال : الترمذي حديث حسن، ولا شك أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية قال : الله تعالى ﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ﴾ وبه أخذ جماعة من السلف، روي عن الأعمش قد دخلت على إبراهيم رضي الله عنه وهو يقرأ في المصحف فاستأذن عليه رجل فنظاه وقال : لا يرى هذا إني أقرأ كل ساعة، وعن أبي العالية رضي الله عنه قال : كنت جالسا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رجل قرأت الليل كذا وقالوا هذا حظك منه، وقال : كثير من العلماء الجهر أفضل لما ذكرنا في ما سبق من الأحاديث في الجهر ولما في الصحيحين عن أبي هريرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به ) ومعنى أذن استمع وهو إشارة عن الرضا والقبول، وفيهما عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : له :( أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ) وروى ابن ماجة من حديث فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله :( أشد
إذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر بها من صاحب القينة إلى قينته ) روى أبو داود والنسائي وغيرهما عن البراء ابن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( زينوا القرآن بأصواتكم ) قال : أبو حامد الغزالي وغيره من العلماء طريق الجمع بين الأخبار أن الإسرار يعد من الرياء فهو أفضل فيحق من يخاف ذلك فإن لم يخف الرياء فالجهر أفضل لأن العمل فه أكثر ولأن فائدته متعد إلى غيره فهو أفضل ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همته إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم ويزيد في النشاط ويوقظ غيره من نائم أوغافل وينشط فمهما حضر شيء من هذه النيات، فالجهر أفضل وإن اجتمعت النيات تضاعف الأجر ولهذا قلنا القراءة في المصحف أفضل، قلت : لا شك أن في الجهر بالقرآن أحاديث كثيرة والآثار من الصحابة والتابعين أكثر من أن تحصى لكن فيمن لا يخاف رياء ولا إعجابا ولا غيرهما من القبائح ولا يؤذي جماعة يلبس عليهم صلواتهم ويخلطها عليهم فمن خاف شيئا من ذلك فلا يجوز له الجهر وإن لم يخف استحب الجهر، فإن كانت القراءة في جماعة مجتمعين مستمعين تأكد استحباب الجهر لكن لا يجوز كمال الجهر وأن يجهد الرجل نفسه في الجهر لقوله تعالى ﴿ ودون الجهر من القول ﴾ روى محمد في موطأه عن مالك عن عمه أبي سهيل عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يجهر بالقراءة في الصلاة وأنه كان يسمع قراءة عمر بن الخطاب عند دار أبي جهيم فقال محمد الجهر بالقرآن في الصلاة فيما يجهر بالقراءة حسن ما لم يجهد الرجل نفسه والله أعلم.
فإن قيل : الجهر بالذكر والدعاء بدعة والسنة فيهما الإخفاء كما مر المسئلة في تفسير قوله تعالى ﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ﴾ فما وجه الفرق بين الذكر وقراءة القرآن مع أن القراءة أيضا ذكر ؟ قلنا القرآن مشتمل على الوعظ والقصص الموجبة للعبرة والأحكام ونظمه معجز جاذب للقلوب السقيمة إلى الإسلام، ولذا قال : الله تعالى ﴿ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ﴾ وقراءته باللسان عبادة زائدة على الذكر الذي هو عبادة عن طرد الغفلة عن الجنان وإسماعه غيره عبادة أخرى مرغوبة عند الرحمن بخلاف الذكر والدعاء فإن المقصود من الدعاء الإجابة ومن الذكر النسيان عما يشغله من العزيز المنان حتى يسقط عن بصيرته نفس الذكر بل الذاكر أيضا ولا يبقى في بصيرته إلا الواحد القهار.
فائدة : قال شعبة نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث ( زينوا القرآن بأصواتكم ) قال : أبو عبيدة وإنما كره فيما نرى أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الألحان المبتدعة، ثم ذكر أبو عبيدة أحاديث كثيرة في تحسين الصوت بالقرآن ثم قال : ومجمل هذه الأحاديث طريق الحزن والتخويف والتشويق لا الألحان المطربة الملهية وقد روي في ذلك أحاديث مفسرة مرفوعة وغير مرفوعة، منها عن طاووس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الناس أحسن صوتا بالقرآن أو أحسن قراءة ؟ ( الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله ) وعن طاووس أحسن الناس صوتا بالقرآن أخشاها الله تعالى رواه الدارمي عن طاووس مرسلا، وعن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( اقرؤا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يتجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم ) رواه البيهقي في شعب الإيمان ورزين في كتابه والله أعلم. وقال : مجاهد معنى الآية أنه تعالى أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع إليه في الدعاء والاستكانة دن رفع الصوت والصياح بالدعاء فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص، قلت : وعلى هذا قوله ودون الجهر عطف تفسيري لقوله في نفسك وقد ذكرنا مسئلة الذكر الخفي والجهر في تفسير قوله تعالى ﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ﴾ وما قال : البيضاوي أو هو أمر للمأمور بالقراءة سرا بعد فراغ الإمام عن قراءته كما هو مذهب الشافعي رحمه الله فليس بشيء فإنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان إماما ولم يكن مأموما ولو كان الخطاب للمأمومين لكان بصيغة الجمع دون المفرد على نسق قوله تعالى ﴿ فاستمعوا له وأنصيتوا لعلكم ترحمون ﴾ وأيضا القراءة سرا ينافي الاستماع والإنصات كالقراءة جهرا، وقوله بعد فراغ الإمام عن قراءته غير مستفاد من الآية فليزم حينئذ التعارض ين الآيتين، وأيضا القراءة بعد فراغ الإمام لا يتصور فإن الإمام بعد الفراغ من القراءة يركع ولا قراءة للمأموم بعدما ركع الإمام إجماعا ولو قام الإمام ساكتا حتى يفرغ المأموم عن قراءته لزم قلب موضوع الإمامة والله أعلم، ﴿ بالغدو ﴾ أي بأوقات الغدو وهو مصدر غدا يغدو وغدوا إذا دخل في قوت البكرة يعني أول النهار، في القاموس الغدوة بالضم البكرة أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس ﴿ والأوصال ﴾ جمع أصيل وهو العشي يعني آخر النهار، وقال : البغوي : هو ما بين العصر والمغرب خص هذين الوقتين بالذكر لفضلهما والمراد أمة الذكر كما يدل عليه قوله تعالى ﴿ ولا تكن من الغافلين ﴾ يعني لا تغفل من الله أصلا في وقت من الأوقات، قلت : وتذييل قوله تعالى ﴿ واذكر ربك في نفسك ﴾ بقوله ﴿ بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ﴾ يدل على أن المراد بالذكر أعم من القراءة وغيره والمقصود طرد الغفلة بأي وجه كان والله أعلم
﴿ إن الذين عند ربك ﴾ عندية غير وقربا غير متكيف بأفضل والكرامة لامتناع العندية الجسمانية في جنابه تعالى والمراد بالموصول الأنبياء والملائكة وصالحوا المؤمنين، ﴿ لا يستكبرون ﴾ أي لا يتكبرون بأنفسهم ﴿ عن عبادته ﴾ قلت بل يستكبرون أنفسهم بعبادته ﴿ ويسبحونه ﴾ وينزهونه عما لا يليق ويذكرونه يقولون سبحان ربي الأعلى ﴿ وله يسجدون ﴾ أي يخصونه بالسجود والعبادة ولا يشركون به غيره، عن معدان بن طلحة قال : لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت :( أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة ؟ فسكت ثم سألته الثانية فسكت ثم سألته الثالثة، فقال : سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :( عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ) قال : معدان : ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال : ثوبان ) رواه مسلم، وفي رواية عن ثوبان بلفظ ( ما من عبد يسجد سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة ) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والبغوي، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء ) رواه مسلم، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ) رواه مسلم، وعن ربيعة بن كعب قال :( كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي سل، فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة، قال : أو غير ذلك ؟ قلت : هو ذلك قال : فأعني على نفسك بكثرة السجود ) رواه مسلم، وقد ذكرنا مسائل سجود التلاوة في سورة انشقت والله أعلم.
تمت سورة الأعراف وتتلوها سورة الأنفال إن شاء الله تعالى سادس عشر من المحرم من السنة الأولى من المائدة الثانية عشر ١٣٠١ ه فقط تمت.