هي مكية إلا ثماني آيات، من قوله تعالى :﴿ وسئلهم ﴾ [ الأعراف : ١٦٣ ] إلى قوله تعالى :﴿ وإذ نتقنا ﴾ [ الأعراف : ١٧١ ]، وقيل : إلى قوله :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ [ الأعراف : ١٩٩ ]. وآياتها : مائتان وخمس. قاله البيضاوي. ومضمنها : الحث على اتباع ما أنزله على نبيه من التوحيد والأحكام، والتحذير من مخالفته ومتابعة الشيطان، وذكر وبال من تبعه من القرون الماضية، وما لحقهم من الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، تتميما لقوله :﴿ إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ [ الأنعام : ١٦٥ ].
ﰡ
﴿ المص ﴾
إما أن تكون مختصرة من المصطفى، على عادة العشاق ؛ يرمزون إلى ذكر بعض حروف المحبوب، اتقاء الرقباء، أي : يا أيها المصطفى المختار لرسالتنا ؛ هذا كتاب أنزل إليك، وإما أن تشير إلى العوالم الثلاثة : الجبروت والملكوت والملك. وزاد هنا الصاد، إشارة إلى صدقه فيما يُخبر به من علم الغيوب، ولذلك ذكر هنا جملة من القصص والأخبار.
وقال الورتجبي : كان الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يتكلم مع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء، وما جرى عليهم في الدهور والأعصار، وشأنه معهم في الأسرار والحقائق والشرائع، وأراد أن يخصه صلى الله عليه وسلم بشريعته، وما يكون من طريقته الخاصة إلى حضرته، ويخبره بما كان وما يكون، أشار إلى هذه الأشياء بحروف التهجي، واعلمه سر ذلك بخفي الإشارة ولطيف الخطاب، وعلم تعالى أنه عليه الصلاة والسلام يعرف بتلك الإشارة مراده من علم سابق، ونبأٍ صادق، وعلم تعالى أن عموم أمته لا تعرف تلك الإشارة، فعبَّر عنها بسورة طويلة من القرآن ؛ ليعرفوا مراده سبحانه من خطابه، وخواص أمته ربما تطلع على سر بعضها، كالصحابة والتابعين والمتقدمين من العلماء والأولياء، كأنَّ حروف المقطعات رموز ومعاني سور القرآن، لا يعرف تلك الرموز إلا الربانيون والأحبار من الصديقين. ه.
﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
قلت :﴿ كتاب ﴾ : خبر، أي : هذا كتاب، و﴿ أُنزل ﴾ : صفته، والحرج : الضيق، و﴿ لتنذر ﴾ : متعلق بأُنزل، أو بلا يكن، لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار، وكذا إذا لم يخفهم، و﴿ ذكرى ﴾ : يحتمل النصب بإضمار فعل، أي : لتُنذر ولتذكر ذكرى، والجر عطف على ﴿ لتنذر ﴾، أي : للإنذار والتذكير، والرفع عطف على ﴿ كتاب ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله : هذا ﴿ كتابٌ أُنزل إليك ﴾ من ربك، ﴿ فلا يكن في صدرك حرجٌ منه ﴾ أي : ضيق وثقل من أجل تبليغه لمن يُكذب به، مخافة أن تكذّب فيه، أو مخافة أن تقصر على القيام بتبليغه، أو بحقوقه، وتوجيه النهي إلى الحرج للمبالغة، كقولك : لا أرينك ها هنا، كأنه قال : فلا يحرج صدرك منه، وإنما أنزلناه إليك لتُنذر به من بلغه، ﴿ وذكرى للمؤمنين ﴾ أي : وتذكيرًا وموعظة للمؤمنين ؛ لأنهم هم المنتفعون بمواعظه.
الإشارة : تذكير أهل الإنكار ووعظهم يحتاج إلى سياسة كبيرة وحلم كبير وصبر عظيم، لا يطيقه إلا الأكابر من أهل العلم بالله ؛ كالأنبياء والصديقين، لسعة معرفتهم، واتساع صدورهم لحمل الجفاء وتحمل الأذى، ونهيه تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام عن ضيق صدره : تشريع لورثته من بعده ؛ الداعون إلى الله عز وجل وإلاَّ فهو صلى الله عليه وسلم بحر واسع، لا تكدره الدِّلاءُ، كما قال البوصيري.
فَهو البَحرُ والأَنَامُ إِضاء ١ ***. . .
والله تعالى أعلم.
﴿ اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾
قلت :﴿ قليلاً ﴾ : صفة لمصدرٍ، أو زمانٍ محذوف، أي : تتذكرون تذكرًا قليلاً، أو زمانًا قليلاً، والعامل فيه : تذكرون، و﴿ ما ﴾ : زائدة لتأكيد القلة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ اتَّبِعُوا ﴾ أيها الناس ﴿ ما أُنزل إليكم من ربكم ﴾ من أحكام القرآن والسنة ؛ إذ كله وحي يوحى، ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ ﴾ [ النّجْم : ٣ ]، ﴿ ولا تتبعوا من دونه ﴾ أي : الله، ﴿ أولياءَ ﴾ من الجن والإنس يضلونكم عن دينه، أو : ولا تتبعوا من دون ما أنزل إليكم أولياء، تتبعونهم فيما يأمرونكم به وينهونكم، وتتركون ما أنزل إليكم من ربكم، ﴿ قليلاً ما تذكَّرون ﴾ : تتعظون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره، بعد كما إنذاره ووضوح تذكاره، وذلك لانطماس البصيرة وعمي القلوب، والعياذ بالله.
الإشارة : اتباع الحبيب في أمره ونهيه يدل على صحة دعوى المحبة، ومخالفته يدل على بطلانها.
تَعصِي الإله وأنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ | هذَا محَالٌ في القِيَاسِ بَدِيعُ |
لَو كانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأطَعتَهُ | إنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطِيعُ |
كَانَت لَقلبِي أهواءٌ مُفرَّقةٌ | فَاستَجمَعَتْ مُذ رَأتكَ العَيْنُ أهوائي |
﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ﴾
قلت :﴿ كم ﴾ : خبرية، مفعول ﴿ أهلكنا ﴾، وهو على حذف الإرادة، أي : في الحال أردنا إهلاكها، و﴿ بياتًا أو هم قائلون ﴾ : حالان، أي : بائتين أو قائلين، وأغني الضمير في ﴿ هم ﴾ عن واو الحال.
يقول الحقّ جلّ جلاله : كثيرًا من القرى ﴿ أهلكناها ﴾ لما عصت أمرنا، وخالفت ما جاءت به رسلنا، ﴿ فجاءها بأسُنَا ﴾ أي : عذابنا ﴿ بياتًا ﴾ أي : ليلاً، كقوم لوط ؛ قلبت مدينتهم، عاليها سافلها، وأرسلت عليهم الحجارة بالسَّحَر، ﴿ أو هم قائلون ﴾ نصف النهار، كقوم شعيب، نزلت عليهم نار فأحرقتهم، وهو عذاب يوم الظلمة، وإنما خص الوقتين ؛ لأنهما وقت دعة واستراحة، فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع.
وكما أن الحق تعالى يسأل الرسل عما أُجيبوا به، يسأل خلفاءهم ـ وهم الأولياء والعارفون ـ عما إذا قُوبلوا من تعظيم أو إنكار، فيرفع من عظمهم في أعلى عليين، ويحط من أنكرهم في محل أهل اليمين. وبالله التوفيق.
﴿ يَا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىَ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ﴾
[ الأنبياء : ١٤، ١٥ ] : ميتين، فإذا أحييناهم وبعثناهم من قبورهم.
وكما أن الحق تعالى يسأل الرسل عما أُجيبوا به، يسأل خلفاءهم ـ وهم الأولياء والعارفون ـ عما إذا قُوبلوا من تعظيم أو إنكار، فيرفع من عظمهم في أعلى عليين، ويحط من أنكرهم في محل أهل اليمين. وبالله التوفيق.
وكما أن الحق تعالى يسأل الرسل عما أُجيبوا به، يسأل خلفاءهم ـ وهم الأولياء والعارفون ـ عما إذا قُوبلوا من تعظيم أو إنكار، فيرفع من عظمهم في أعلى عليين، ويحط من أنكرهم في محل أهل اليمين. وبالله التوفيق.
[ المَائدة : ١٠٩ ]. نقص ذلك عليهم ﴿ بعلْمٍ ﴾ وتحقيق ؛ لاطلاعنا على أحوالهم، وإحاطة علمنا بسرهم وعلانيتهم. ﴿ وما كنا غائبين ﴾ عنهم، فيخفى علينا شيء من أحوالهم، بل كنا حاضرين لديهم، محيطين بسرهم وعلانيتهم.
وكما أن الحق تعالى يسأل الرسل عما أُجيبوا به، يسأل خلفاءهم ـ وهم الأولياء والعارفون ـ عما إذا قُوبلوا من تعظيم أو إنكار، فيرفع من عظمهم في أعلى عليين، ويحط من أنكرهم في محل أهل اليمين. وبالله التوفيق.
﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ﴾
قلت :﴿ الوزن ﴾ : مبتدأ، و﴿ يومئذٍ ﴾ : خبره، و﴿ الحق ﴾ : صفته، أي : الوزن العدل حاصل يومئذٍ.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والوزن ﴾ أي : وزن الأعمال، على نعت الحق والعدل، حاصل يوم القيامة، حين يسأل الرسل والمُرسل إليهم. والجمهور على أن صحائف الأعمال تُوزن بميزان له لسان وكفتان، ينظر إليه الخلائق ؛ إظهارًا للمعدلة وقطعًا للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم، فتعترف بها ألسنتهم، وتشهد بها جوارحهم، ويؤيده ما رُوِي :" أن الرجل يُؤتى به إلى الميزان، فيُنشَر عليه تسعَةٌ وتِسعُونَ سِجلاًّ، كُلُّ سِجِلًّ مَد البَصَرِ، فَتُخرَحُ لَهُ بطَاقة فِيهَا كَلِمةُ الشهَادِة، فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفةٍ، والبطاقة في كفّة، فَتثقُل البطاقةُ، وتَطِيشُ السِّجلاَّتُ. ١
وقيل : توزن الأشخاص ؛ لما رُوِي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إنّهُ ليأتِي العَظِيمُ السَّمِينُ يَومَ القِيَامَة لا يَزنُ عندَ اللهِ تَعالى جَنَاحَ بَعُوضَةٍ " ٢ والتحقيق : أن المراد به الإهانة والتصغير، وأنه لا يساوي عند الله شيئًا ؛ لاتباعه الهوى.
ثم فصل في الأعمال فقال :﴿ فمن ثَقُلَتْ موازينه ﴾ أي : حسناته، أو الميزان الذي يوزن به حسناته، وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن، فعلى الأول هو جمع موزون، وعلى الثاني جمع ميزان، فمن رجحت حسناته ﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ الفائزون بالنجاة والثواب الدائم.
٢ أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٨، باب ٦ ومسلم في المنافقين حديث ١٨، وأحمد في المسند ٥/١٥٤، ١٧٧..
﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولقد مكناكم في الأرض ﴾ ؛ تتصرفون فيها بالبناء والسكن، وبالغرس والحرس والزرع، وغير ذلك من أنواع التصرفات، ﴿ وجعلنا لكم فيها معايش ﴾ : أسبابًا تعيشون بها ؛ كالتجارة وسائر الحرف، ﴿ قليلاً ما تشكرون ﴾ على هذه النعم، فتقابلون المنعم بالكفر والعصيان، فأنتم جديرون بسلبها عنكم، وإبدالها بالنقم، لولا فضله ورحمته.
الإشارة : نعمة التمكين في الأرض متحققة في أهل التجريد، والمنقطعين إلى الله تعالى، فهم يذهبون في الأرض حيث شاؤوا، ومائدتهم ممدودة يأكلون منها حيث شاؤوا، فهم متمكّنون من أمر دينهم ؛ لقلة عوائدهم، ومن أمر دنياهم ؛ لأنها قائمة بالله، تجري عليهم أرزاقهم من حيث لا يحتسبون، تخدمهم ولا يخدمونها ؛ " يا دنياي اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك ". فمن قصّر منهم في الشكر توجه إليه العتاب بقوله :﴿ ولقد مكناكم في الأرض ﴾ إلى قوله :﴿ قليلاً ما تشكرون ﴾، ومن تحقق شكره قيل له :
﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ﴾
[ القصص : ٥، ٦ ]. والله تعالى أعلم.
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوااْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولقد خلقناكم ﴾ أي : خلقنا أباكم آدم طينًا غير مصور، ﴿ ثم صوّرناكم ﴾ أي : صوّرنا خلقة أبيكم آدم. نزَّل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره ؛ لأنه المادة الأصلية، أي : ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا أباكم آدم، ثم صورناه، ﴿ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ تعظيمًا له، حيث وجد فيه ما لم يوجد فيهم، واختبارًا له ليظهر من يخضع ممن لم يخضع، ﴿ فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ﴾ لآدم.
وفيه دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور، فأجاب بقوله :﴿ قال أنا خيرٌ منه ﴾، أي : المانع لي من السجود هو كوني أنا خير منه، ولا يحسُنُ للفاضل أن يسجد للمفضول، فكيف يحسُن أن يؤمر به، فإبليس هو الذي سنَّ التكبر، وقال بالتحسين والتقبيح العقليين أولاً، وبهذا الاعتراض كفر إبليس ؛ إذ ليس كفره كفر جحود.
ثم بيَّن وجه الأفضلية، فقال :﴿ خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾، فاعتقد أن النار خيرٌ من الطين، وقد غلط في ذلك، فإن الأفضلية إنما تظهر باعتبار النتائج والثمرات، لا باعتبار العنصر والمادة فقط، ولا شك أن الطين ينشأ منه ما لا يحصى من الخيرات ؛ كالثمار والحبوب وأنواع الفواكه.
قال البيضاوي : رأى الفضل كله باعتبار العنصر، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل، كما أشار إليه بقوله تعالى :﴿ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ﴾
[ صَ : ٧٥ ] أي : بغير واسطة، وباعتبار الصورة، كما نبه عليه بقوله تعالى :﴿ ونفخت فيه من روحي ﴾ وباعتبار الغاية، وهو ملاكه، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له ؛ لما تبين لهم أنه أعلم منهم، وأنه له خواصًا ليست لغيره. ه.
قال ابن عباس :﴿ من بين أيديهم ﴾ : الدنيا يُزيّنها لهم، ﴿ ومن خلفهم ﴾ : الآخرة يُنسيها لهم، ﴿ وعن أيمانهم ﴾ : الحسنات يُثبطهم عنها، ﴿ وعن شمائلهم ﴾ : السيئات يُزينها في أعينهم. ه. ولم يجعل له سبيلاً من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم ؛ لأن الرحمة تنزل من أعلى، فلم يحل بينهم وبينها، والإتيان من تحت موحش، وأيضًا : السفليات محل للتواضع والخشوع، فتكثر فيه الأنوار فيحترق بها. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه :( لأنَّ فوق : التوحيد، وتحت : الإسلام، ولا يمكن أن يأتي من توحيد ولا إسلام ).
ثم قال تعالى :﴿ ولا تجدُ أكثرَهم شاكرين ﴾ ؛ مطيعين، قال بعض الصوفية :( لو كان ثم مقام أعظم من الشكر لذكره إبليس ) ؛ فالشكر أعظم المقامات، وهو الطريق المستقيم الذي قعد عليه إبليس، والشكر : هو إلا يُعصى الله بنعمه، أو : صرف الجوارح كلها في طاعة الله، أو رؤية المنعم في النعمة، وإنما قال إبليس ذلك ؛ ظنًا لقوله :
﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ [ سَبَأ : ٢٠ ]، وسيأتي في الإشارة حقيقته.
تنبيه : ذكر الفخر الرازي، في تفسيره، عن الشهرستاني أن إبليس جرت بينه وبين الملائكة مناظرة بعد الأمر بالسجود لآدم، فقال لهم : إني أسلم أن الله خالقي وموجدي، وهو موجد الخلق، ولكن لي على حكمته أسئلة : الأول : ما الحكمة في إيجاد خلقه، لا سيما وكان عالمًا بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام ؟ الثاني : ما الفائدة في التكليف، مع أنه لا يعود عليه نفع ولا ضرر، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غيره واسطة التكليف ؟ الثالث : هب أنه كلفني بطاعته ومعرفته، فلماذا كلفني بالسجود لآدم ؟ الرابع : لما عصيته فلمَ لعنني وأوجب عقابي، مع أنه لا فائدة له ولا لغيره منه، وفيه أعظم الضرر ؟ الخامس : لما فعل ذلك فلِمَ مكنني من الدخول إلى الجنة ووسوسة آدم ؟ السادس : ثم لما فعل ذلك، فلم سلطني على أولاده. ومكنني من إغوائهم وإظلالهم ؟ السابع : ثم لما استمهلته بالمدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني، ومعلوم أن العالم لو كان خاليًا من الشر لكان ذلك خيرًا. ه. قال شارح الأناجيل : فأوحى الله إليه من سرادقات الكبرياء : إنك ما عوفتني، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض عليَّ في شيء من أفعالي، فأنا الله لا إله إلا أنا لا أُسألُ عما أفعل.
قال الشهرستاني : اعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون، وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات تخلصًا، أما إذا أجبنا بما أجاب به الحق سبحانه زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات. ه. قلت : من تشمرت فكرته بنور المعرفة، وعرف أسرار الحكمة والقدرة، لم يصعب عليه مثل هذه الشبهات، وسأذكر الجواب عنها على سبيل الاختصار :
أما الحكمة في أيجاد خلقه ؛ فخلقهم ليعرف بهم. وفي الحديث القدسي :" كنت كنزًا لم أعرف، فأحببت أن أعرف، فخلقت خلقًا لأعرف بهم "، وليظهر بهم آثار قدرته وأسرار حكمته. وأما تعذيب الكافر بالآلام فليظهر فيه مقتضى اسمه المنتقم.
أما فائدة التكليف ؛ فلتقوم الحجة على العبيد، وليتميز من يستحق الإحسان ممن يستحق العذاب، فإذا عذبه لم يكن ظالمًا له ؛ ﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، ولتظهر صورة العدل في الجملة. وأما تكليفه بالسجود لآدم ؛ فلأنه ادعى المحبة، ومقتضاها الطاعة للحبيب في كل ما يشير إليه، ولا تصعب إلا في الخضوع للجنس، أو مَن دونه، فأمره بالسجود لمن دُونه في زعمه ؛ ليظهر كذبه في دعوى محبته، وأما لعنه وطرده ؛ فهو جزاء من كذب وعصى. وهذا الطرد كان في علمه تعالى، ولكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأسباب وارتباطها بالمسببات، فكان امتناعه واعتراضه سببًا لإظهار ما سبق له في علم الله، كما كانت وسوسته لآدم سببًا في إظهار خروجه من الجنة السابق في علم الله. وأما تمكينه من دخول الجنة ؛ فليتسبب عنه هبوط آدم الذي سبق في علمه ؛ لأن الحكمة اقتضت أن لكل شيء سببًا. أما تسلطه على أولاده، فليكون منديلاً تمسح به أوساخ الأقدار ؛ إذا إن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان إنما هو بمشيئة الواحد القهار، ولا فعل لغيره، لكن الحق تعالى علمنا الأدب، فخلق الشيطان والنفس والهوى مناديل، فما كان فيه كما نسبه لله، وما كان فيه نقص نسبه للشيطان والنفس ؛ أدبًا مع الحضرة.
وأما إمهاله ؛ فليدوم هذا المنديل عندهم، يمسحون فيه أوساخ المقادير التي تجري عليهم إلى انقضاء وجودهم. وقوله :( معلوم أن العالم لو كان خاليًا من الشر لكان ذلك خيرًا )، مغالطة ؛ لأن حكمته تعالى اقتضت وجود الضدين : الخير الشر، وبهما وقع التجلي والظهور ؛ ليظهر آثار أسمائه تعالى ؛ فإن اسمه المنتقم والقهار يقتضي وجود الشر، فيما نفهم، وليظهر انتقامه وبطشه للعيان، ومعلوم أن الملك إذا وصف بوصف جلالي أو جمالي لا يظهر شرف ذلك الاسم إلا بظهور آثاره في مملكته. وقوله :( إنك ما عرفتني. . . ) الخ. . يقتضي أنه لو عرف الله حق معرفته لفهم أسرار هذه الأشياء التي اعترض بها على ما بيناها. والله تعالى أعلم.
﴿ ويَآ ءَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ويا آدمُ اسكُن أنت وزوجُك ﴾ حواء ﴿ الجنة فكُلاَ من حيث شئتما ﴾ من ثمارها، ﴿ ولا تقربَا هذه الشجرة ﴾ ؛ التين أو العنب أو الحنطة، ﴿ فتكونا من الظالمين ﴾ لأنفسكما بمخالفتكما.
﴿ وقال ﴾ لهما :﴿ ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشجرة إلا ﴾ كراهية ﴿ أن تكونا مَلَكين ﴾. واستدل به من قال بفضل الملائكة على الأنبياء، وجوابه : أنه كان من المعلوم عندهما أن الحقائق لا تَنقَلب، وإنما كانت رغبتهما فيما يحصل لهما من الغنى عن لطعام والشراب، فيمكن لهما الخلود في الجنة، ولذلك قال :﴿ أو تكونا من الخالدين ﴾ الذين يخلدون في الجنة.
ويؤخذ من قوله تعالى :﴿ ما نهاكما ربكما ﴾، أن آدم عليه السلام لم يكن ناسيًا للنهي، وإلا لما ذكره بقوله :﴿ ما نهاكما ربكما ﴾، وقوله في سورة طه :﴿ فنسي ﴾، أي : نسي أنه عدو له، ولذلك ركن إلى نصيحته، وقبل منه حتى تأول أن النهي عن عين الشجرة لا عن جنسها، فأكل من جنسها ؛ رغبة في الخلود، ولكنه غره من حيث الأخذ بالظواهر وترك الاحتياط.
ولم يقصد إبليسُ إخراجهما من الجنة، وإنما قصد إسقاطهما من مرتبتهما، وإبعادهما كما بعُد هو، فلم يبلغ قصده ولا أدرك مراده، بل ازداد سخينة عين، وغيط نفس، وخيبة ظن. قال الله تعالى :﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [ طه : ١٢٢ ]، فصار عليه السلام خليفة لله في أرضه، بعد أن كان جارًا له في داره، فكم بين الخليفة والجار ؟
﴿ يَا بَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾
قلت : من قرأ :﴿ لباس ﴾ ؛ بالرفع، فهو مبتدأ، والجملة : خبر، والرابط : الإشارة، والريش : لباس الزينة، مستعار من ريش الطير.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا ﴾ أي : خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة، ونظيره : قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ [ الزُّمر : ٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ ﴾ [ الحَديد : ٢٥ ]. من صفة ذلك اللباس :﴿ يُواري ﴾ أي : يستر ﴿ سوآتكم ﴾ التي قصد إبليس إبداءها، ويغنيكم عن خصف الورق. رُوِي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، ويقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله تعالى فيها، فنزلت. ولعل ذكر قصة آدم تقدمه لذلك ؛ حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم. قاله البيضاوي.
﴿ وريشًا ﴾ أي : ولباسًا فاخرًا تتجملون به ﴿ ولباسُ ﴾ أي : وأنزلنا عليكم لباس ﴿ التقوى ﴾، وهي خشية الله تعالى، أو الإيمان، أو السمت الحسن، واستعار لها اللباس ؛ كقولهم : ألبسك الله لباس تقواه، وقيل : لباس الحرب. ومن قرأ بالرفع ؛ فخبره :﴿ ذلك خير ﴾ أي : لباس التقوى خير من لباس الدنيا ؛ لبقائه في دار البقاء دون لباس الدنيا ؛ فإنه فانٍ في دار الفناء، ﴿ ذلك ﴾ أي : إنزال اللباس من حيث هو خير ﴿ من آيات الله ﴾ الدالة على فضله ورحمته، ﴿ لعلهم يذَّكَّرون ﴾ فيعرفون نعمه، فيشكرون عليها، أو يتعظون فينزجرون عن القبائح.
الإشارة : اللباس الذي يواري سوءات العبودية أي : نقائصها هي أوصاف الربوبية ونعوت الألوهية ؛ من عز وغنى، وعظمة وإجلال، وأنوار وأسرار، التي أشار إليها في الحكم بقوله :" لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبدًا، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونعتك بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليه ". والريش هو بهجة أسرار المعاني التي تغيب ظلمة الأواني، أو بهجة الأنوار التي تُفني الأغيار، ولباس التقوى هي حفظه ورعايته لأوليائه في الظاهر والباطن مما يكدر صفاءهم أو يطمس أنوارهم. والله تعالى أعلم.
﴿ يَا بَنِي ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا بني آدم لا يَفتِنَنَّكُمُ الشيطانُ ﴾ ؛ بأن يشغلكم عما يقربكم إلى الله، ويحملكم على ما يمنعكم من دخول جنته، ﴿ كما أخرج أبويكُم من الجنة ﴾ بسبب غروره، والنهي، في اللفظ، للشيطان، والمراد : نهيهم عن اتباعه. حال كون أبويكم ﴿ ينزعُ ﴾ الشيطان ﴿ عنهما لباسَهما ﴾ بسبب غروره لهما، وإسناد النزع إليه : مجاز ؛ للسببية ؛ ﴿ ليُريهما سوءاتِهما إنه يراكم هو وقبيلُه من حيث لا تَرونهم ﴾، وهو تعليل للنهي. وتحذير من فتنته، و﴿ قبيله ﴾ : جنوده. ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة لا يقتصي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا، وقد جاءت في رؤيتهم أحاديث صحيحة ؛ فتحمل الآية على الأكثر والغالب. قال تعالى :﴿ إنا جعلنا الشياطينَ أولياءَ للذين لا يؤمنون ﴾ ؛ بما أوجدنا بينهم من التناسب، أو بإرسالهم عليهم، وتمكينهم من خذلانهم، وحملهم على ما سولوا لهم، والآية هي مقصود القصة وفذلكة الحكاية. قاله البيضاوي.
الإشارة : الحكمة في خلق الشيطان هي كونه منديلاً تمسح فيه أوساخ الأقدار، وكونه يحوش أولياء الله إلى الله، كلما نخسهم بنزعه فزعوا إلى مولاهم، فلا يزال بهم كذلك حتى يوصلهم إلى حضرته، فحينئذٍ ينقاد إليهم، ويخدمهم بأولادهم. وفي الحِكَم :" إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ".
قال محمد بن واسع : تمثل إلى الشيطان في طريق المسجد، فقال لي : يا ابن واسع، كلما أردتك وجدت بيني وبينك حجابًا، فما ذلك ؟ قال : أقرأُ، كلما أصبحتُ : اللهم إنك سلطت علينا عدوًا من أعدائنا، بصيرًا بعيوبنا، مطلعًا على عوراتنا، يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، اللهم آيسه منا كما آيسته من رحمتك، وقنطه منا كما قنطته من عفوك، وباعد بيننا وبينه كما باعدت بين المشرق والمغرب وفي رواية : كما باعدت بينه وبين جنتك إنك على كل شيء قدير. ه.
﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : في وصف المشركين :﴿ وإذا فعلوا فاحشة ﴾ أي : فعلة متناهية في القبح ؛ كعبادة الصنم، وكشف العورة في الطواف، احتجوا بفعل آبائهم فقالوا :﴿ وجَدنَا عليها آباءنا واللهُ أمرنَا بها ﴾ فاعتذروا بعذرين باطلين : أحدهما : تقليد آبائهم، والآخر : افتراؤهم على الله، فأعرض عن الأول ؛ لظهور فساده، ورد الثاني بقوله :﴿ قل إنَّ الله لا يأمرُ بالفحشاء ﴾ ؛ لأن الله تعالى جرت عادته على الأمر بمحاسن الأفعال ومكارم الخلال. ولا حجة فيه للمعتزلة. انظر البيضاوي.
والآية كأنها جواب سؤالين مترتبين ؛ كأنه قيل لهم : لِمَ فعلتم هذه الفواحش ؟ قالوا : وجدنا آباءنا، فقيل : ومن أين أخذها آباؤكم ؟ قالوا : الله أمرنا بها، فكذبهم الله بقوله :﴿ إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾، أي : أتتقولون على الله ما لا علم لكم به ؛ إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله.
﴿ يَا بَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا بني آدم خُذوا زينتكم ﴾ أي : ثيابكم التي تستر عورتكم، ﴿ عند كل مسجدٍ ﴾ لطواف أو صلاة، واحتج به من أوجب ستر العورة في الصلاة، ومن السًّنة أن يأخذ الرجل أحسن ثيابه للصلاة، وقيل : المراد بالزينة : زيادة على الستر، كالتجمل للجمعة بأحسن الثياب وبالسواك والطيب، ﴿ وكُلوا واشربوا ﴾ ؛ أمر إباحة ؛ لِمَا رُوِي أن بني عامر، في أيام الحج، كانوا لا يأكلون من الطعام إلا قوتًا، ولا يأكلون دسمًا ؛ يعظمون بذلك حجهم، وهَمَّ المسلمون بذلك، فنزلت.
﴿ ولا تُسرفوا ﴾ ؛ بتحريم الحلال، أو بالتقدم إلى الحرام، أو بإفراط الطعام والشره إليه، وقد عَدَّ في الإحياء من المهلكات : شره الطعام، وشره الوقاع، أي : الجماع ؟ ﴿ إنه لا يحب المسرفين ﴾ ؛ لا يرتضي فعلهم. وعن ابن عباس رضي الله عنه :( كُل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان : سَرفٌ ومخيلة ) أي : تكبر. وقال علي بن الحسين بن واقد : جمع الله الطب في نصف آية ؛ فقال :﴿ كلوا واشربوا ولا تسرفوا ﴾.
الإشارة : إنما أمر الحقّ جلّ جلاله بالتزين للصلاة والطواف ؛ لأن فيهما الوقوف بين يدي ملك الملوك، وقد جرت عادة الناس في ملاقاة الملوك : التهيئ لذلك بما يقدرون عليه من حسن الهيئة ؛ لأن ذلك زيادة تعظيم للملك، وتزيين البواطن بالمحبة والوداد أحسن من تزيين الظواهر وخراب البواطن ؛ " إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلَى صُوَرِكُم ولاَ إلى أموَالِكُم، وإنَّمَا يَنظُرُ إلَى قُلوبِكُم وأعمَالِكُم " ١. وملاقاة الملك بالذل والانكسار أحسن من ملاقاته بالتكبر والاستظهار. والله تعالى أعلم.
﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾
قلت : من قرأ :﴿ خالصة ﴾ ؛ بالرفع، فخبر بعد خبر، أو خبر عن مضمر، ومن قرأ بالنصب، فحال.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ لهم :﴿ مَن حرَّم زينةَ اللهِ ﴾ ؛ وهي ما يتجمل به من الثياب وغيرها، ﴿ التي أخرج لعباده ﴾ من النبات ؛ كالقطن والكتان، أو الحيوان ؛ كالحرير والصوف والوبر، والمعادن ؛ كالدروع والحلي، ﴿ و ﴾ قل أيضًا : من حرم ﴿ الطيبات مِنَ الرزقِ ﴾ أي : المستلذات من المآكل والمشارب، ويدخل فيها المناكح ؛ إذ هي من أعظم الطيبات. وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات : الإباحة ؛ لان الاستفهام للإنكار، وبه رد مالك رحمه الله على من أنكر عليه من الصوفية، وقال له : اتق الله يا مالك ؛ بلغني أنك تلبس الرقيق، وتأكل الرقاق، فكتب إليه بالآية.
قال تعالى :﴿ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ﴾، ويشاركهم فيها الكفار، ويوم القيامة تكون ﴿ خالصة ﴾ لهم دون غيرهم، ﴿ كذلك نُفصّل الآياتِ ﴾ أي : كتفصيلنا هذا الحكم نُفصل سائر الأحكام ﴿ لقوم يعلمون ﴾ فينزلونها في محلها بخلاف الجهال.
والله تعالى أعلم.
ثم إن العباد والزهاد وأهل البداية من المريدين السائرين ـ ينبغي لهم أن يزهدوا في زينة الدنيا وطيباتها ؛ لئلا تركن إليها نفوسهم، فيثبط سيرهم، وأما الواصلون فهم مع الله، لا مع شيء سواه، يأخذون من الله بالله، ويدفعون بالله، وقد اتسعت دائرة علمهم، فليسوا مع لباس ولا أكل ولا شرب ولا جوع ولا شبع، هم مع ما يبرز في الوقت من المقدورات. والله تعالى أعلم.
والله تعالى أعلم.
ثم إن العباد والزهاد وأهل البداية من المريدين السائرين ـ ينبغي لهم أن يزهدوا في زينة الدنيا وطيباتها ؛ لئلا تركن إليها نفوسهم، فيثبط سيرهم، وأما الواصلون فهم مع الله، لا مع شيء سواه، يأخذون من الله بالله، ويدفعون بالله، وقد اتسعت دائرة علمهم، فليسوا مع لباس ولا أكل ولا شرب ولا جوع ولا شبع، هم مع ما يبرز في الوقت من المقدورات. والله تعالى أعلم.
والله تعالى أعلم.
ثم إن العباد والزهاد وأهل البداية من المريدين السائرين ـ ينبغي لهم أن يزهدوا في زينة الدنيا وطيباتها ؛ لئلا تركن إليها نفوسهم، فيثبط سيرهم، وأما الواصلون فهم مع الله، لا مع شيء سواه، يأخذون من الله بالله، ويدفعون بالله، وقد اتسعت دائرة علمهم، فليسوا مع لباس ولا أكل ولا شرب ولا جوع ولا شبع، هم مع ما يبرز في الوقت من المقدورات. والله تعالى أعلم.
﴿ يَا بَنِي ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
قلت :﴿ إما ﴾ : شرط مؤكد بما ذكره بحرف الشك ؛ للتنبيه على أن إتيان الرسل جائز، غير واجب، كما ظنه المعتزلة، وجوابه :﴿ فمن اتقى. . . ﴾ الخ، وإدخال الفاء في الجواب الأول دون الثاني ؛ للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد. قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا بني آدم ﴾ مهما ﴿ يأتينكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي ﴾ الدالة على توحيدي ومعرفتي، ﴿ فمن اتَّقَى ﴾ الشرك والتكذيب، و﴿ أصلح ﴾ فيما بيني وبينه، منكم، بالعمل الصالح، ﴿ فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَائِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فمن أظلمُ ممن افترى على الله كذبًا ﴾ ؛ بأن نسب إليه الولد والشريك، ﴿ أو كذَّب بآياته ﴾ التي جاءت بها الرسل من عنده، أي : لا أحد أظلم منه، أو تَقوَّل على الله ما لم يقله، وكذّب بما قاله، ﴿ أولئك ينالُهم نصيبُهم من الكتاب ﴾ أي : يلحقهم نصيبهم مما كتب في اللوح المحفوظ ؛ من الأرزاق والآجال، ﴿ حتى إذا ﴾ انقضت أعمارهم و﴿ جاءتُهم رسلُنا يَتوفَّونهم ﴾ أي : يتوفون أرواحهم، ﴿ قالوا ﴾ لهم توبيخًا :﴿ أين ما كنتم تدّعون من دون الله ﴾ أي : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله ؛ لتدفع عنكم العذاب ؟ ﴿ قالوا ضلُّوا عنا ﴾ ؛ غابوا عنا ﴿ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾، اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه، وندموا حيث لم ينفع الندم، وقد زلت بهم القدم.
الإشارة : كل من أعرض عن خصوص أهل زمانه واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه، ينال نصيبه من الدنيا الفانية وما قُسِم له فيها ؛ فإذا جاءت منيته ندم وتحسر، وقيل له : أين ما تمتعت به وشغلك عن مولاك ؟ فيقول : قد غاب ذلك وفنى وانقضى، وكأنما كان برقًا سَرَى، أو طَيفَ كَرَى، والدهر كله هكذا ؛ لمن سدد نظرًا، وعند الصباح يحمد القوم السُّرَى، وستعلم، إذا انجلى الغبار، أفرس تحتك أم حمار.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه :" لا تَخدَعَنَّكُم زخارفُ دُنيا دَنِيَّة، عن مَراتب جَنَّاتٍ عَالِية ؛ فكان قد كِشفَ القِناع، وارتفع الارتياب، ولاقى كل امرئ مستقَرِّه، وعرف مثواه ومُنَقَلَبه ". وفي حديث آخر :" مَن بدأ بَنَصِيبه من الدنيا فَاتَه نصيبُه من الآخرة، ولم يُدرك منها ما يريد، ومن بدأ بنصيبه من الآخرة، وصل إليه نصيبه من الدنيا، وأدرك من الآخرة ما يريد.
﴿ قَالَ ادْخُلُواْ فِيا أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قال ﴾ الله تعالى أي : يوم القيامة للكفارٍ، بواسطة ملك، أو بغيرها :﴿ ادخلوا في ﴾ جملة ﴿ أممٍ ﴾ كانوا من قبلكم ؛ ﴿ من الجن والإنس ﴾ متفقين معكم في الكفر والضلال، فادخلوا مصاحبين معهم ﴿ في النار ﴾. قال تعالى، مخبرًا عن حالهم :﴿ كلما دخلت أمةٌ ﴾ منهم في النار ﴿ لعنت أختها ﴾ التي ضلت بالاقتداء بها، ﴿ حتى إذا ادَّاركوا ﴾ أي : تداركوا وتلاحقوا، ﴿ فيها جميعًا قالت أُخراهم ﴾ ؛ دخولاً أو منزلة، وهم الأتباع السفلة، ﴿ لأُولاهم ﴾ وهم المتبوعون الرؤساء أي : قالت لأجلهم ؛ لأن الخطاب مع الله لا معهم، قالوا :﴿ ربنا هؤلاء ﴾ الرؤساء ﴿ أضلونا ﴾ ؛ حيث سنُّوا لنا الضلال فاقتدينا بهم، ﴿ فآتِهم عذابًا ضِعفًا ﴾ أي : مضاعفًا ﴿ من النار ﴾ ؛ لأنهم ضلوا وأضلوا. ﴿ قال ﴾ تعالى :﴿ لكلٍّ ﴾ واحد منكم ﴿ ضِعفٌ ﴾ أي : عذابًا مضعفًا، أما القادة ؛ فلكفرهم وتضليلهم، وأما الأتباع ؛ فلكفرهم وتقليدهم، ﴿ ولكن لا تعلمون ﴾ ما لكم، أو ما لكل فريق منكم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذالِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾
قلت :﴿ سَمّ الخياط ﴾ : عين الإبره، وفي السين : الفتح والكسر والضم، والخياط : ما يخاط به، على وزن حِزام.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إنَّ الذين كذَّبوا بآياتنا واستكبروا ﴾ عن : الإيمان بها، ﴿ لا تُفتَّح لهم أبوابُ السماء ﴾ ؛ لأدعيتهم وأعمالهم ؛ فلا تقبل، أو لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا، بل تغلق دونها إذا وصلت بها الملائكة إليها، فيطرحونها فتسقط من السماء، بخلاف أرواح المؤمنين ؛ تُفتح لهم أبواب السماء حتى يفضوا إلى سدرَة المنتهى. ﴿ ولا يدخلون الجنة حتى يَلجَ ﴾ أي : يدخل، ﴿ الجمَلُ ﴾ وهو البعير ﴿ وفي سَمِّ الخِياط ﴾ أي : في ثقب الإبرة، والمعنى : لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدًا، فلا يدخلون الجنة أبدًا، وقرأ ابن عباس ﴿ الجُمل ﴾، بضم الجيم وسكون الميم، وهو حبل السفينة، الذي جُمِعَ بعضُه إلى بعض حتى صار أغلظ ما يكون.
ثم قال تعالى :﴿ وكذلك نَجزي المجرمين ﴾ أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين.
وفي الحِكَم :" الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته ". وقال أيضًا :" وسعك الكون من حيث جثمانيتك، ولم يَسعَك من حيث ثبوتُ روحانيِتك "، فكل من لم تثبت له الروحانية : فهو محصور في الكون، وكل من ثبتت له الروحانية ؛ بأن استولى معناه على حسه، لم يسعه الكون، ولم يحصره عرش ولا فرش، وكذلك الصوفي ؛ لا تظله السماء ولا تقله الأرض، أي : لا يحصره الكون من حيث فكرتُهُ. والله تعالى أعلم.
﴿ لهم من جهنم مهادٌ ﴾ أي : فراش، ﴿ ومِن فوقهم غَوَاشٍ ﴾ أي : أغطية من النار. ﴿ وكذلك نجزي الظالمين ﴾ عبَّر عنهم بالمجرمين تارة، وبالظالمين أخرى ؛ إشعارًا بأنهم بتكذيبهم الآيات، اتصفوا بالجرم والظلم، وذكر مع الحرمان من الجنة : الجرم، ومع التعذيب بالنار : الظلم ؛ تنبيهًا على أن الظلم أعظم الإجرام.
وفي الحِكَم :" الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته ". وقال أيضًا :" وسعك الكون من حيث جثمانيتك، ولم يَسعَك من حيث ثبوتُ روحانيِتك "، فكل من لم تثبت له الروحانية : فهو محصور في الكون، وكل من ثبتت له الروحانية ؛ بأن استولى معناه على حسه، لم يسعه الكون، ولم يحصره عرش ولا فرش، وكذلك الصوفي ؛ لا تظله السماء ولا تقله الأرض، أي : لا يحصره الكون من حيث فكرتُهُ. والله تعالى أعلم.
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
قلت : جملة ﴿ لا نُكلف ﴾ : معترضة بين المبتدأ والخبر ؛ للترغيب في اكتساب النعيم المقيم، بما تسعه طاقتهم، ويسهل عليهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والذين آمنوا ﴾ بالرسل، ﴿ وعملوا ﴾ الأعمال ﴿ الصالحات ﴾ على قدر طاقتهم، ﴿ لا نكلِّف نفسًا إلا وُسعَها ﴾ أي : ما تسعه طاقتها، فمن فعل ذلك ف﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ ﴾.
﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ ﴾ أي : نُخرج مِن قلوبهم كل غل وعداوة، ونطهرها منه، حتى لا يكون بينهم إلا التودد، فيصيرون أحبابًا وإخوانًا، وإما عبّر بالماضي ؛ لتحقق وقوعه، كأنه وقع ومضى، وكذلك ما يجيء بعدها، ثم وصف الجنة فقال :﴿ تجري من تحتهم ﴾ أي : من تحت قصورهم، ﴿ الأنهارُ ﴾ ؛ من عسل وخمر وماء ولبن ؛ زيادة في لذتهم وسرورهم، فالقصور مرتفعة في الهواء، والأنهار تجري تحتها.
﴿ وقالوا ﴾ حينئذٍ :﴿ الحمد لله الذي هدانا لهذا ﴾ أي : لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان في الدنيا والعمل الصالح، ﴿ وما كنا لنهتدي ﴾ بأنفسنا ﴿ لولا أن هدانا الله ﴾ بتوفيقه وإرادته، ﴿ لقد جاءت رُسلُ ربنا بالحق ﴾ فاهتدينا بإرشادهم، يقولون ذلك اغتباطًا وتبجحًا بأن ما عملوه في الدنيا يقينًا، صار لهم عين اليقين في الآخرة، ﴿ ونُودوا ﴾ أي : نادتهم الملائكة، أو الحق تعالى :﴿ أن تلكُم الجنةُ ﴾ أي : هذه الجنة ﴿ أُورِثتُموها ﴾ أي : أُعطِيتموها ﴿ بما كنتم تعملون ﴾ أي : بسبب أعمالكم، وهذا باعتبار الشريعة، وأما باعتبار الحقيقة فكل شيء منه وإليه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :" لَن يُدخِلَ الجنَّةَ أحدَكم عَمُلهُ، قالوا : ولا أنت، قال : ولا أنا، إلاَّ أن يَتَغَمَّدَنِيَ الله برحمَتِه " ١. فالشريعة تنسب العمل للعبد، والحقيقة تعزله عنه، وقد آذنت بها الآية قبله بقوله :﴿ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾، فقد نطقوا بما تحققوا به يوم القيامة.
وقال القشيري : إنما قال :﴿ أورثتموها بما كنتم تعملون ﴾ ؛ تسكينًا لقلوبهم، وتطييبًا لهم، وَإلاَّ، فإذا رأوا تلك الدرجات، علموا أن أعمالهم المشوبة لم تبلغ تلك الدرجات. ه. وعن ابن مسعود أنه قال :( يجوزون الصراط بعفو الله، ويدخلون الجنة برحمة الله، ويقتسمون المنازل بأعمالهم ). ه.
﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
قلت :﴿ أن ﴾ : في هذه المواضع ؛ مخففة من الثقيلة، أو : تفسيرية، وحذف مفعول :﴿ وعد ﴾ الثاني ؛ استغناء بمفعول وعد الأول، أو لإطلاق الوعد، فيتناول الثواب والعقاب.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ونادى أصحابُ الجنةِ أصحاب النار أن قد وجَدَنا ما وعدنا ربُّنا ﴾ من النعيم ﴿ حقًا فهل وجدتم ﴾ أنتم ﴿ ما وَعَدَ ربُّكم ﴾ من البعث والحساب ﴿ حقًا ﴾، إنما قال أهل الجنة ذلك ؛ تبجحًا بحالهم، وشماتة بأصحاب النار، وتحسيرًا لهم، فأجابهم أهل النار بقولهم :﴿ نعم ﴾، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، ﴿ فأذن مؤذن بينهم ﴾ بين الفريقين :﴿ أن لعنةُ الله على الظالمين ﴾ ؛ الكافرين.
تَرَكنَا البُحور الزَّخراتِ ورَاءنا | فَمِن أين يَدري النَّاسُ أينَ توجَّهنَا |
تَرَكنَا البُحور الزَّخراتِ ورَاءنا | فَمِن أين يَدري النَّاسُ أينَ توجَّهنَا |
قلت : لكن سيأتي أنهم يدخلون الجنة.
ثم وصفهم بقوله :﴿ يعرفون كُلاًّ ﴾ من أهل الجنة والنار، ﴿ بسيماهم ﴾ : بعلامتهم التي أعلمهم الله بها ؛ كبياض الوجوه من أهل الجنة، وسوادها في أهل النار، أو غير ذلك من العلامات. ﴿ ونادوا أصحابَ الجنة ﴾، إذا نظروا إليهم، فقالوا لهم :﴿ أن سلامٌ عليكم ﴾، أي : نادوهم بالسلام عليهم، ﴿ لم يدخلوها ﴾ أي : الجنة، ﴿ وهم يطمعون ﴾ في دخولها.
تَرَكنَا البُحور الزَّخراتِ ورَاءنا | فَمِن أين يَدري النَّاسُ أينَ توجَّهنَا |
تَرَكنَا البُحور الزَّخراتِ ورَاءنا | فَمِن أين يَدري النَّاسُ أينَ توجَّهنَا |
﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾
قلت :﴿ ما أغنى ﴾ استفهامية أو نافية، و﴿ ما كنتم ﴾ : مصدرية، و﴿ ادخلوا ﴾ : محكى بقول محذوف، أي : قيل لهم ادخلوا. . . الخ.
يقول الحقٌ جلّ جلاله :﴿ ونادى أصحابُ الأعراف رجالاً ﴾ من رؤساء الكفرة، ﴿ يعرفونهم بسيماهم ﴾ ؛ بعلامة فيهم من سوء حالهم، ﴿ قالوا ﴾ لهم :﴿ ما أغنى عنكم جمعكم ﴾ أي : كثرتكم، أو جمعكم للمال، شيئًا أو أيّ شيء أغنى عنكم جمعكم، ﴿ وما كنتم تستكبرون ﴾ ؟ أي : واستكباركم ؟ ﴿ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالُهم اللهُ برحمةٍ ﴾ وهم ضعفاء المسلمين الذين كانت الكفرة تستحقرهم في الدنيا، ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة، قد قيل لهم :﴿ ادخلوا الجنة لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾. أو تقول الملائكة لأهل الأعراف :﴿ ادخلوا الجنة لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾، بعد أن حُبسوا على الأعراف حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم، وقالوا لهم ما قالوا، تفضل الله عليهم، فقيل لهم : ادخلوا الجنة.
﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾
قلت :﴿ هدى ورحمة ﴾ : حال من مفعول ﴿ فصَّلناه ﴾، ﴿ فيشفعوا ﴾ : جواب الاستفهام، ﴿ أو نُرد ﴾ ؛ بالنصب : عطف عليه، وبالرفع : استئناف، فعلى الأول : المسؤول أحد الأمرين ؛ إما الشفاعة أو الرد، وعلى الثاني : المسؤول الشفاعة فقط.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ونادى ﴾، يوم القيامة، ﴿ أصحابُ النار أصحابَ الجنةِ أن أفيضُوا ﴾ أي : صبوا ﴿ علينا من الماء ﴾، وفيه دليل على أن الجنة فوق النار، أو : صبوا علينا مما رزقكم الله ؛ من سائر الأشربة، ليلائم قوله ﴿ أفيضوا ﴾، أو : من الطعام ؛ على حذف الفعل، أي : أو أعطونا مما رزقكم الله، ﴿ قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ﴾، أي : منعهما عنهم.
قالوا : إن الله حرمهما على البطالين ؛ الذين اتخذوا طريق القوم لهوًا ولعبًا، وغرتهم الحياة الدنيا فقبضتهم في شبكتها، فيقول تعالى : فاليوم ننساهم من لذيذ مشاهدتي، وحلاوة معرفتي، كما نسوا لقائي بشهود ذاتي، وأنكروا على أوليائي وأهل معرفتي، وجحدوا وجود التربية وحجروا على قدرتي، ولقد جئناهم بكتاب فصّلنا فيه كل شيء ؛ فقلنا فيه :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ ﴾ [ البَقَرَة : ١٠٦ ] إلى يوم القيامة، هل ينظرون إلا تأويله ؟ يوم يأتي تأويله بظهور درجات المقربين، في أعلى عليين، حينئذٍ يحصل لهم اليقين بوجود المقربين، أو بالتربية النبوية في كل زمان وحين، فيطلب الشفاعة في اللحوق بهم، أو يرد إلى العمل بعملهم.. هيهات ! قد بُعثر ما في القبور، وحُصّل ما في الصدور، فخسر المبطلون، وفاز المجتهدون السابقون. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
قالوا : إن الله حرمهما على البطالين ؛ الذين اتخذوا طريق القوم لهوًا ولعبًا، وغرتهم الحياة الدنيا فقبضتهم في شبكتها، فيقول تعالى : فاليوم ننساهم من لذيذ مشاهدتي، وحلاوة معرفتي، كما نسوا لقائي بشهود ذاتي، وأنكروا على أوليائي وأهل معرفتي، وجحدوا وجود التربية وحجروا على قدرتي، ولقد جئناهم بكتاب فصّلنا فيه كل شيء ؛ فقلنا فيه :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ ﴾ [ البَقَرَة : ١٠٦ ] إلى يوم القيامة، هل ينظرون إلا تأويله ؟ يوم يأتي تأويله بظهور درجات المقربين، في أعلى عليين، حينئذٍ يحصل لهم اليقين بوجود المقربين، أو بالتربية النبوية في كل زمان وحين، فيطلب الشفاعة في اللحوق بهم، أو يرد إلى العمل بعملهم.. هيهات ! قد بُعثر ما في القبور، وحُصّل ما في الصدور، فخسر المبطلون، وفاز المجتهدون السابقون. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
قالوا : إن الله حرمهما على البطالين ؛ الذين اتخذوا طريق القوم لهوًا ولعبًا، وغرتهم الحياة الدنيا فقبضتهم في شبكتها، فيقول تعالى : فاليوم ننساهم من لذيذ مشاهدتي، وحلاوة معرفتي، كما نسوا لقائي بشهود ذاتي، وأنكروا على أوليائي وأهل معرفتي، وجحدوا وجود التربية وحجروا على قدرتي، ولقد جئناهم بكتاب فصّلنا فيه كل شيء ؛ فقلنا فيه :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ ﴾ [ البَقَرَة : ١٠٦ ] إلى يوم القيامة، هل ينظرون إلا تأويله ؟ يوم يأتي تأويله بظهور درجات المقربين، في أعلى عليين، حينئذٍ يحصل لهم اليقين بوجود المقربين، أو بالتربية النبوية في كل زمان وحين، فيطلب الشفاعة في اللحوق بهم، أو يرد إلى العمل بعملهم.. هيهات ! قد بُعثر ما في القبور، وحُصّل ما في الصدور، فخسر المبطلون، وفاز المجتهدون السابقون. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
قالوا : إن الله حرمهما على البطالين ؛ الذين اتخذوا طريق القوم لهوًا ولعبًا، وغرتهم الحياة الدنيا فقبضتهم في شبكتها، فيقول تعالى : فاليوم ننساهم من لذيذ مشاهدتي، وحلاوة معرفتي، كما نسوا لقائي بشهود ذاتي، وأنكروا على أوليائي وأهل معرفتي، وجحدوا وجود التربية وحجروا على قدرتي، ولقد جئناهم بكتاب فصّلنا فيه كل شيء ؛ فقلنا فيه :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ ﴾ [ البَقَرَة : ١٠٦ ] إلى يوم القيامة، هل ينظرون إلا تأويله ؟ يوم يأتي تأويله بظهور درجات المقربين، في أعلى عليين، حينئذٍ يحصل لهم اليقين بوجود المقربين، أو بالتربية النبوية في كل زمان وحين، فيطلب الشفاعة في اللحوق بهم، أو يرد إلى العمل بعملهم.. هيهات ! قد بُعثر ما في القبور، وحُصّل ما في الصدور، فخسر المبطلون، وفاز المجتهدون السابقون. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
قلت :﴿ حثيثًا ﴾ أي : سريعًا ؛ صفة لمصدر محذوف، أي : طلبًا حثيثًا، أو حال من الفاعل، أي : حاثًا، و﴿ مسخراتٍ ﴾ حال فيمن نصب، وخبر فيمن رفع.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إنَّ ربكم ﴾ الذي يستحق أن تعبدوه، وهو ﴿ اللهُ ﴾ وحده ﴿ الذي خلق السماوات والأرض ﴾ أي : أظهرهما ﴿ في ستة أيامٍ ﴾ أي : مقدار ستة أيام من أيام الدنيا ؛ إذ لم يكن ثَمَّ شمس، ولو شاء خلقهن في لمحة، والعدول إليه ؛ لتعليم خلقه التأني والتثبت.
﴿ ثم استوى على العرش ﴾ استواء يليق به، والعرش : جسم عظيم محيط بالأكوان. سمي به ؛ لارتفاعه، وللتشبيه بسرير الملك، فالأكوان في جوفه ممحوقة ؛ فقد استولى عليها ومحقها، كذلك أسرار معاني الربوبية الأزلية قد استولت عليه وحقته، فيمكن أن يكون الحق تعالى عبَّر بالاستواء عن هذا الاستيلاء، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.
وقال القشيري : ثم استوى على العرش، أي : تَوَحَّدَ بجلال الكبرياء بوصف الملكوت، وملوكنا إذا أرادوا التجلِّي والظهور للحَشَم والرعية ؛ برزوا لهم على سرير مُلكِهم في إيوان مشاهدتهم. فأخبر الحقُّ سبحانه وتعالى بما يَقرُب من فَهم الخلقِ، بما ألقى إليهم من هذه الكلمات، بأنه استوى على العرش، ومعناه : اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية، وانفراده بنعت الجبروت وجلاء الربوبية، وتقدَّس الجبَّارُ عن الأقطار، والمعبودُ عن الحدود. ه.
﴿ يُغشي الليلَ النهارَ ﴾ أي : يُغطي نور النهار بظلمةِ الليل، ﴿ يطلبه حثيثًا ﴾ أي : يعقبه سريعًا ؛ كالطالب له، لا يفصل بينهما شيء، ﴿ و ﴾ خلق ﴿ الشمسَ والقمرَ والنجومَ مُسخرات بأمره ﴾ أي : بقضائه وتصريفه، ومن عجائب تسخيرها أن جعلها مقرونة بأمور غيبية، دالة على ظهور شيء منها.
والنهي عن النظر في النجوم أو تصديق المنجمين ؛ إنما هو لمن اعتقد التأثير لها مستقلة بنفسها، أو تصديقهم في تفصيل ما يخبرون به ؛ لأنهم إنما يقولون ذلك عن ظن وتخمين وجهل، فإنَّ عِلم النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء، ثم اندرس ذلك العلم، فلم يبق إلا ما هو مختلط، لا يتميز فيه الصواب من الخطأ، فاعتقاد كون الكواكب أسبابًا لآثار يخلق الله تعالى بها في الأرض، وفي النبات والحيوان شيئًا، يعني في الجملة ليس قادحًا في الدين، بل هو الحق، ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل : قادر في الدين، فالكواكب ما خلقت عبثًا، ولهذا نظر عليه الصلاة والسلام إلى السماء وقرأ قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً ﴾ [ آل عِمرَان : ١٩١ ] الآية. انظر الإحياء للغزالي.
ثم قال تعالى :﴿ إلا له الخلقُ والأمرُ ﴾ أي : الإيجاد والتصرف بالأمر والنهي، ﴿ تبارك الله رب العالمين ﴾ أي : تعاظم في ألوهيته، وتعالى في ربوبيته، وتفرد في وحدانيته.
قال البيضاوي :( وتحقيق الآية والله أعلم أن الكفرة كانوا متخذين أربابًا، فبيَّن لهم أن المستحق للربوبية واحد وهو الله تعالى ؛ لأنه الذي له الخلق والأمر، فإنه تعالى خلق العالَم على ترتيب قويم، وتدبير حكيم ؛ فأبدع الأفلاك العلوية، والأجرام السفلية، ثم بعد تمام خلق عالَم الملك أخذ في تدبيره ؛ كالملِكِ الجالس على عرشه وسريره لتدبير مملكته، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض، بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب، وتكوير الليالي والأيام، فله الخلق والأمر. وكذلك قال في آية السجدة بعد ذكر الخلق :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِرُ الأَمْرَ ﴾ [ يُونس : ٣، السجدة : ٤ ]، فربُّ الخلائق : مَن هذا صفته، لا غيره، انتهى المعنى.
ثم قال : وفي أدق الإشارة : السماوات : الأرواح، والأرض : الأشباح، والعرش : القلوب، بدأ بكشف الصفات للأرواح، وبدأ بكشف الأفعال للأشباح، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب ؛ لأن مناظر القلوب للغيوب، والغيوب من القلوب محل تجلّي استواء القدم، استوى قهر القدم، بنعت الظهور للعدم، أي : فتلاشى العدم، ثم استوى تجلّي الصفات على الأفعال، واستوى تجلّي الذات على الصفات، فاستوى بنفسه لنفسه، المنزه عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان.
قلت : أي : إذ لا حدثان ولا أكوان ؛ لأنها لما قرنت بالقدم تلاشت، وما بقي إلا نعت القدم.
ثم قال : خصَّ السماوات والأرض بتجلي الصفات، وخص العرش بتجلي الذات. قلت : لأن المعاني المستولية على العرش باقية على أصلها، وهي أسرار الذات لم تتَرَدَّ برداء الكبرياء، وهو حجاب الحس الظاهر، بخلاف المعاني القائمة بالأواني، وهي أنوار الصفات، تجلت مرتدية بحجاب القهرية، فقيل لها : تجلي الصفات.
ثم قال : السماوات والأرض جسد العالم، والعرش قلب العالم، والكرسي دماغ العالم، خص الجميع بالأفعال والصفات، وخص العرش بظهور الذات ؛ لأنه قلب الكل، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته، رأيته في المكاشفة أنوارًا شعشعانيًا، بلا جسم ولا مكان ولا صورة، يتلألأ، فسألت عن ذلك، فقيل لي : هذا عالم يسمى عرشًا. انتهى.
قلت : وأقرب من هذا كله : أن العرش قد استولى على ما في جوفه من العوالم، حتى صارت في وسطه كلا شيء، ومعاني أسرار الربوبية، وهي العظمة الأصلية ـ قد استولت عليه، وأحاطت به، ومحت وجوده، فعبَّر الحق ـ جل جلاله ـ عن استيلاء هذه العظمة ـ التي هي أسرار الربوبية ـ على العرش بالاستواء. وإلى هذا أشار في الحكم العطائية بقوله :" يا من استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيبًا في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، محقت الآثار بالآثار، ومحوت الآثارـ وهي العرش وما احتوى عليه ـ بمحيطات أفلاك الأنوار " وهي أسرار الذات المحيطات بالآثار ـ من العرش إلى الفرش، فعبّر عن المعاني المستولية على العرش بالرحمانية ؛ لأن الرحمانية صفة الذات، والصفة لا تفارق الموصوف، فافهم.
قلت : ومن كحل عينه بإثمد توحيد الذات لا يستعبد أن يكون الحق ـ جل جلاله ـ يتجلى بتجل خاص من أسرار ذاته وأنوار صفاته، يستوي بتلك العظمة على العرش، كما يتجلى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، إذ تجلياته لا تنحصر، بل كل ما ظهر في عالم الشهادة فإنما هو نور من تجلّي ذاته وصفاته. وهذا القدر كاف لمن شم شيئًا من أسرار التوحيد، وقد تكلم ابن جزي هنا على الخوف والرجاء، وأطال فيهما، ولكنه يجنح لتصوف أهل الظاهر، وقد تقرر في محله.
وقوله تعالى :﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ : هو تقييد لقوله :﴿ يختص برحمته من يشاء ﴾ ؛ فالمختص بالرحمة هم المحسنون. انظر لفظ الحكم. والله تعالى أعلم.
ثم أمرهم بأن يدعوه، متذللين مخلصين، فقال :﴿ ادعوا ربكم تضرعًا وخُفيةً ﴾ أي : ذوي تضرع وخفاء ؛ فإن الإخفاء دليل الإخلاص، ﴿ إنه لا يحب المعتدين ﴾ المتجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره، ونبه على أن الداعي ينبغي ألاَّ يطلب ما لا يليق به ؛ كرتبة الأنبياء، وقيل : الاعتداء في الدعاء، هو الصياح به، والتشدق، أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :" سَيَكُونُ قَومٌ يَعتَدُونَ في الدّعَاءِ، وحَسبُ المَرء أن يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنَّي أسألُكَ الجَنَّةَ ومَا يُقرِّبُ إليهَا من قَولٍ وعَمَلٍ. ثم قرأ { إنَّه لا يُحبُّ المُعتَدِين١ ".
ثم قال : وفي أدق الإشارة : السماوات : الأرواح، والأرض : الأشباح، والعرش : القلوب، بدأ بكشف الصفات للأرواح، وبدأ بكشف الأفعال للأشباح، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب ؛ لأن مناظر القلوب للغيوب، والغيوب من القلوب محل تجلّي استواء القدم، استوى قهر القدم، بنعت الظهور للعدم، أي : فتلاشى العدم، ثم استوى تجلّي الصفات على الأفعال، واستوى تجلّي الذات على الصفات، فاستوى بنفسه لنفسه، المنزه عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان.
قلت : أي : إذ لا حدثان ولا أكوان ؛ لأنها لما قرنت بالقدم تلاشت، وما بقي إلا نعت القدم.
ثم قال : خصَّ السماوات والأرض بتجلي الصفات، وخص العرش بتجلي الذات. قلت : لأن المعاني المستولية على العرش باقية على أصلها، وهي أسرار الذات لم تتَرَدَّ برداء الكبرياء، وهو حجاب الحس الظاهر، بخلاف المعاني القائمة بالأواني، وهي أنوار الصفات، تجلت مرتدية بحجاب القهرية، فقيل لها : تجلي الصفات.
ثم قال : السماوات والأرض جسد العالم، والعرش قلب العالم، والكرسي دماغ العالم، خص الجميع بالأفعال والصفات، وخص العرش بظهور الذات ؛ لأنه قلب الكل، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته، رأيته في المكاشفة أنوارًا شعشعانيًا، بلا جسم ولا مكان ولا صورة، يتلألأ، فسألت عن ذلك، فقيل لي : هذا عالم يسمى عرشًا. انتهى.
قلت : وأقرب من هذا كله : أن العرش قد استولى على ما في جوفه من العوالم، حتى صارت في وسطه كلا شيء، ومعاني أسرار الربوبية، وهي العظمة الأصلية ـ قد استولت عليه، وأحاطت به، ومحت وجوده، فعبَّر الحق ـ جل جلاله ـ عن استيلاء هذه العظمة ـ التي هي أسرار الربوبية ـ على العرش بالاستواء. وإلى هذا أشار في الحكم العطائية بقوله :" يا من استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيبًا في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، محقت الآثار بالآثار، ومحوت الآثارـ وهي العرش وما احتوى عليه ـ بمحيطات أفلاك الأنوار " وهي أسرار الذات المحيطات بالآثار ـ من العرش إلى الفرش، فعبّر عن المعاني المستولية على العرش بالرحمانية ؛ لأن الرحمانية صفة الذات، والصفة لا تفارق الموصوف، فافهم.
قلت : ومن كحل عينه بإثمد توحيد الذات لا يستعبد أن يكون الحق ـ جل جلاله ـ يتجلى بتجل خاص من أسرار ذاته وأنوار صفاته، يستوي بتلك العظمة على العرش، كما يتجلى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، إذ تجلياته لا تنحصر، بل كل ما ظهر في عالم الشهادة فإنما هو نور من تجلّي ذاته وصفاته. وهذا القدر كاف لمن شم شيئًا من أسرار التوحيد، وقد تكلم ابن جزي هنا على الخوف والرجاء، وأطال فيهما، ولكنه يجنح لتصوف أهل الظاهر، وقد تقرر في محله.
وقوله تعالى :﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ : هو تقييد لقوله :﴿ يختص برحمته من يشاء ﴾ ؛ فالمختص بالرحمة هم المحسنون. انظر لفظ الحكم. والله تعالى أعلم.
قال البيضاوي : هو ترجيح للطمع، وتنبيه على ما يتوصل به إلى الإجابة، وتذكير قريب ؛ لأن الرحمة بمعنى الترحم، أو لأنه صفة محذوف ؛ أي : أمر قريب، أو على تشبيه فعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو للفرق بين القريب من النسب، والقريب من غيره. ه. قلت : والأحسن أنه إنما ذكره ؛ لأن المراد بالرحمة هنا : سر الخصوصية، وهو مذكر، فراعى معنى اللفظ، كأنه قال : إن سر الولاية وهي الخصوصية قريب من المحسنين. والله تعالى أعلم.
ثم قال : وفي أدق الإشارة : السماوات : الأرواح، والأرض : الأشباح، والعرش : القلوب، بدأ بكشف الصفات للأرواح، وبدأ بكشف الأفعال للأشباح، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب ؛ لأن مناظر القلوب للغيوب، والغيوب من القلوب محل تجلّي استواء القدم، استوى قهر القدم، بنعت الظهور للعدم، أي : فتلاشى العدم، ثم استوى تجلّي الصفات على الأفعال، واستوى تجلّي الذات على الصفات، فاستوى بنفسه لنفسه، المنزه عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان.
قلت : أي : إذ لا حدثان ولا أكوان ؛ لأنها لما قرنت بالقدم تلاشت، وما بقي إلا نعت القدم.
ثم قال : خصَّ السماوات والأرض بتجلي الصفات، وخص العرش بتجلي الذات. قلت : لأن المعاني المستولية على العرش باقية على أصلها، وهي أسرار الذات لم تتَرَدَّ برداء الكبرياء، وهو حجاب الحس الظاهر، بخلاف المعاني القائمة بالأواني، وهي أنوار الصفات، تجلت مرتدية بحجاب القهرية، فقيل لها : تجلي الصفات.
ثم قال : السماوات والأرض جسد العالم، والعرش قلب العالم، والكرسي دماغ العالم، خص الجميع بالأفعال والصفات، وخص العرش بظهور الذات ؛ لأنه قلب الكل، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته، رأيته في المكاشفة أنوارًا شعشعانيًا، بلا جسم ولا مكان ولا صورة، يتلألأ، فسألت عن ذلك، فقيل لي : هذا عالم يسمى عرشًا. انتهى.
قلت : وأقرب من هذا كله : أن العرش قد استولى على ما في جوفه من العوالم، حتى صارت في وسطه كلا شيء، ومعاني أسرار الربوبية، وهي العظمة الأصلية ـ قد استولت عليه، وأحاطت به، ومحت وجوده، فعبَّر الحق ـ جل جلاله ـ عن استيلاء هذه العظمة ـ التي هي أسرار الربوبية ـ على العرش بالاستواء. وإلى هذا أشار في الحكم العطائية بقوله :" يا من استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيبًا في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، محقت الآثار بالآثار، ومحوت الآثارـ وهي العرش وما احتوى عليه ـ بمحيطات أفلاك الأنوار " وهي أسرار الذات المحيطات بالآثار ـ من العرش إلى الفرش، فعبّر عن المعاني المستولية على العرش بالرحمانية ؛ لأن الرحمانية صفة الذات، والصفة لا تفارق الموصوف، فافهم.
قلت : ومن كحل عينه بإثمد توحيد الذات لا يستعبد أن يكون الحق ـ جل جلاله ـ يتجلى بتجل خاص من أسرار ذاته وأنوار صفاته، يستوي بتلك العظمة على العرش، كما يتجلى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، إذ تجلياته لا تنحصر، بل كل ما ظهر في عالم الشهادة فإنما هو نور من تجلّي ذاته وصفاته. وهذا القدر كاف لمن شم شيئًا من أسرار التوحيد، وقد تكلم ابن جزي هنا على الخوف والرجاء، وأطال فيهما، ولكنه يجنح لتصوف أهل الظاهر، وقد تقرر في محله.
وقوله تعالى :﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ : هو تقييد لقوله :﴿ يختص برحمته من يشاء ﴾ ؛ فالمختص بالرحمة هم المحسنون. انظر لفظ الحكم. والله تعالى أعلم.
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾
قلت :( نُشُرًا ) : حال من الرياح، وهو جمع نشور، بمعنى ناشر، ومن قرأ بسكون الشين، فهو تخفيف منه، ومن قرأ بفتح النون، فمصدر في موضع الحال، بمعنى : ناشرات، أو مفعول مطلق ؛ فإن الإرسال والنشر متقاربان، ومن قرأه بالباء وسكون الشين فهو جمع بشير، مخفف، و( أقَلَّت ) : مشتق من القلة ؛ لأن الحامل للشيء يستقله، و( ثقالاً ) : جمع ؛ لأن السحاب جمع بمعنى السحائب.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وهو الذي يرسل الرياح ﴾ أو الريح ( نُشْرًا ) أي : تنشر السحاب، وتفرقه إلى الأرض التي أراد الله أن تمطر، أو بشارة بالمطر، ﴿ بين يدي رحمته ﴾ أي : قبل نزول المطر، فهي قدامَه ؛ فإن الصبا تثير السحاب، والشمال تجمعه، والجنوب تذره، والدبور تُفرقه. قاله البيضاوي.
﴿ حتى إذا أقلَّت ﴾ أي : حملت ﴿ سحابًا ثِقالاً ﴾ بالماء ؛ لأنها تحمل الماء فتثقل به، ﴿ سُقناه ﴾ أي : السحاب بما اشتمل عليه من الماء، ﴿ لبلدٍ ميِّتٍ ﴾ أي : لإحيائه أو لسَقيه بعد يبسه، كأنه ميت، ﴿ فأنزلنا به ﴾ أي : بالبلد، أو بالسحاب، أو بالسوق، أو بالريح، ﴿ الماء ﴾ الذي في السحاب، ﴿ فأخرجنا به ﴾ أي : الماء، ﴿ من كل الثمرات ﴾ من كل أنواعها وأصنافها، ﴿ كذلك نُخرج الموتى ﴾ من القبور، أي : كما نُحيي البلد بإحداث القوة النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات ﴿ كذلك نُخرج الموتى ﴾ من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقُوى الحسية. قاله البيضاوي.
وقال ابن جزي : هو تمثيل لإخراج الموتى من القبور بإخراج الزرع من الأرض، وقد وقع ذلك في القرآن في مواضع منها :﴿ كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾ [ فَاطِر : ٩ ]، و﴿ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ قَ : ١١ ]. ه. ﴿ لعلكم تذكَّرون ﴾ ؛ فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على إحياء الموتى، إذ لا فرق.
وقال الورتجبي : ذكر ـ سبحانه ـ القلب الذي هو بلد الله الذي مُطر عليه من بحر امتنانه، ويخرج نبات ألوان الحالات والمقامات. ثم قال : وكل قلب بذره الهوى فنباته الشهوات. هـ.
قال البيضاوي : والآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها، ولمن لم يرفع إليها رأسًا ولم يتأثر بها، ومثلُه في البخاري في حديث طويل. وقال ابن عباس وغيره : هو ضرب مثل للمؤمن والكافر. وقال ابن جزي : يحتمل أن يكون المراد ما يقتضيه ظاهر اللفظ، فتكون متممة للمعنى الذي قبلها في المطر، وأن تكون تمثيلاً للقلوب ؛ فالطيب : قلب المؤمن، والخبيث : قلب الكافر، وقيل : هما للفِهم والبليد. ه.
وقال الورتجبي : ذكر ـ سبحانه ـ القلب الذي هو بلد الله الذي مُطر عليه من بحر امتنانه، ويخرج نبات ألوان الحالات والمقامات. ثم قال : وكل قلب بذره الهوى فنباته الشهوات. هـ.
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه ﴾، وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أدريس، نبىء بعده، بعث ابن خمسين سنة أو أربعين، وعاش ألفًا وثلاثمائة سنة، ﴿ فقال يا قوم اعبدوا الله ﴾ وحده ﴿ ما لكم من إله غيرُه ﴾ يستحق أن يُعبد، ﴿ إني أخاف عليكم ﴾، إن لم تُؤمنوا وتُوحدوا الله ﴿ عذابَ يوم عظيم ﴾ وهو يوم القيامة، أو يوم نزول الطوفان.
ثم قال لهم :﴿ أو عَجبتُم ﴾ أي : أكذبتم وعجبتم من ﴿ أن جاءكم ذِكرٌ ﴾ أي : تذكير ووعظ ﴿ من ربكم ﴾ ﴿ على ﴾ لسان ﴿ رجل منكم ﴾ أي : من جملتكم، أو من جنسكم ؛ كانوا يتعجبون من إرسال البشر ويقولون :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللهُ لأَنزَلَ مَلآئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءَابآئِنَا الأَوَّلِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٢٤ ]، قال القشيري : عجبوا مِن كونِ شخص رسولاً، ولم يَعجبوا من كون الصنم شريكًا لله، هذا فَرطُ الجهالة وغاية الغواية. ه. وحكمة إرساله ؛ كونه جاءكم ﴿ لينذركم ﴾ عاقبة الكفر والمعاصي، ﴿ ولتتقوا ﴾ الله بسبب تلك الإنذار، ﴿ ولعلكم ترحمون ﴾ بتلك التقوى، وفائدة حرف الترجي ؛ التنبهُ على أن التقوى غير مُوجب للترحم بذاته، وإنما هو أي : الترحم فضل من الله، وأن المتقي ينبغي ألا يعتمد على تقواه، ولا يأمَن من عذاب الله.
﴿ فكذبوه فأنجيناه والذين معه ﴾ هو ومن آمن به، وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة، وقيل : عشرة، وقيل : ثمانية، حَملناهم ﴿ في الفلك ﴾ أي : السفينة، ﴿ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ﴾ بالطوفان ؛ ﴿ إنهم كانوا قومًا عَمِينَ ﴾ أي : عُمي القلوب، غير مستبصرين، وأصله : عَميين، مخفف. قاله البيضاوي.
﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِيا أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾
قلت :﴿ أخاهم ﴾ : عطف على نوح، و﴿ هودًا ﴾ : عطف بيان أو بدل، وكذلك ﴿ أخاهم صالحًا ﴾ وما بعده ؛ حيث وقع.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ أرسلنا ﴿ إلى ﴾ قبيلة ﴿ عادٍ أخاهم ﴾ أي : واحد من قبيلتهم، كقولهم : يا أخا العرب، فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وقيل : هو هود بن شاح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فهو ابن عم أبي عاد، وإنما أرسل إليهم منهم لأنهم أفهم لقوله، وأعرف بحاله، وأرغب في أتباعه، ثم وعظهم فقال :﴿ يا قوم اعبدوا الله ﴾ وحده ؛ ﴿ ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ﴾ عذاب الله.
قال البيضاوي : وفي ذكر إجابة الأنبياء الكفرةَ عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا به والإعراض عن مقالتهم : كمال النصح والشفقة، وهضم النفس، وحسن المجادلة، وهكذا ينبغي لكل ناصح، وفي قوله :﴿ وأنا لكم ناصح أمين ﴾ : تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين. ه.
ثم قال لهم :﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ﴾ في مساكنهم، أو خلفاء في الأرض من بعدهم بأن جعلكم ملوكًا، فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض، من رمل عالج إلى بحر عمان، خوفهم أولاً من عقاب الله، ثم ذكرهم بإنعامه ؛ ﴿ وزادكم في الخلق بسطة ﴾ أي : قامة وقوة، فكانوا عظام الأجساد، فكان أصغرهم : ستين ذراعًا، وأطولهم : مائة ذراع. ﴿ فاذكروا آلاء الله ﴾ أي : نعمه، تعميم بعد تخصيص، ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي : لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي إلى الفلاح، ومن شكرها : الإيمان برسولهم.
﴿ وقطعنا دابر الذين كذَّبوا بآياتنا ﴾ أي : استأصلناهم، ﴿ وما كانوا مؤمنين ﴾، تعريض بمن آمن منهم، وتنبيه على أن الفارق بين من نَجَا وبين من هلك : هو الإيمان.
رُوِي أنهم كانوا يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم هودًا فكذبوه، وزادوا عتوا، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم، وكان الناس حينئذٍ، مسلمهم ومشركهم، إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرج، فجهزوا إليه " قيل بن عنز "، ومرثد بن سعد، في سبعين من أعيانهم، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة ؛ أولاد عمليق بن لاود بن سام، وسيدهم : معاوية بن بكر، فلما قدموا عليه، وهو بظاهر مكة، أنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فلبثوا عنده شهرًا يشربون الخمر، وتغنى عليهم الجرادتان قَينَتَانِ له فلما رأى ذهولهم عما بعثوا له أهمه ذلك، واستحيا أن يكلمهم فيه ؛ مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم، فعلم المغنيتين بيتين من الشعر، وأمرهما أن تغنيا به وهما :
ألاَ يا قَيلُ ويَحكَ، قُم، فَهَينِم | لَعلَّ الله يسقِينَا الغَمَامَا |
فيسقيِ أرضَ عَادٍ، إنَّ عَادًا | قَدَ امسَوا لاَ يُبِينُونَ الكَلامَا |
قاله البيضاوي وغيره.
وهاهنا بحث ؛ وهو أن البيت إنما بناه إبراهيم عليه السلام حسبما في الصحيح، ولم تعمر مكة إلا بعد إنزال إسماعيل فيها، وهود كان قبل إبراهيم، والبيت حينئذٍ خرب، كان خربه الطوفان، فكيف يتوجهون إليه وهو لم يكن ؟.
ويمكن الجواب : بأنهم كانوا يلتجؤون إلى رسومه وخربته التي بقيت بعد الطوفان ؛ لأن أول من بناه آدم عليه السلام فلما خربه الطوفان بقي أثره، فكانوا يتبركون به، وفي بعض التواريخ : أن العماليق بنوه قبل إبراهيم، فكانوا يطوفون به ويتبركون، ثم هُدم، وبناه بعدهم خليل الله إبراهيم. وبهذا إن صح - يزول الإشكال. والله تعالى أعلم. وأما من قال : إن هودًا تعدد، فغير سديد.
﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيا أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾
قلت :﴿ آية ﴾ : حال، والعامل فيها : الإشارة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ أرسلنا ﴿ إلى ثمود ﴾ ؛ قبيلة أخرى من العرب، سُموا باسم أبيهم الأكبر : ثمود بن غابر بن إرم بن سام، وقيل : سُموا به ؛ لقلة ما بهم من التثميد، وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجرَ، بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم :" لاَ تدخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أن تَكُونُوا بَاكِينَ ؛ مخافة أن يُصيبَكم مِثلُ مَا
أصَابَهُم " ١.
أرسلنا إليهم ﴿ أخاهم صالحًا ﴾، وهو صالح بن عُبَيد بن أسف بن ماسَح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. وقال وهب بن منبه : بعث الله صالحًا حين راهق الحلم. وقال الكواشي : إنه مات ابن ثمان وخمسين سنة، وأقام في قومه ينذرهم عشرين. ه.
﴿ قال يا قوم اعبدوا ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم ﴾ ؛ معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي، وهي :﴿ هذه ناقة الله لكم آية ﴾ ؛ لأنها جاءت من عند الله بلا وسائط وأسباب، على ما سيأتي، ﴿ فذروها ﴾ أي : اتركوها، ﴿ تأكل في أرض الله ﴾ العشب، ﴿ ولا تمسوها بسوء ﴾، نهى عن المس، الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى ؛ مبالغةً في الأمر وإزاحة للعذر. قاله البيضاوي. ﴿ فيأخذكم ﴾ إن مستموها بسوء ﴿ عذاب أليم ﴾، وهو الهلاك بالصيحة.
﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم ﴾ أي : هيأ لكم القرار ﴿ في الأرض ﴾ أي : أرض الحجاز، ﴿ تتخذون من سهولها قصورًا ﴾ أي : تبنون مما انبسط منها قصورًا، فالسهل ضد الجبل، ﴿ وتنحتون الجبال بيوتًا ﴾ أي : تنجُرون بيوتًا من الجبال، وكانوا يسكنون القصور في الصيف والجبال في الشتاء. ﴿ فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ بالمعاصي والكفر.
رُوِي : أنهم بعد عادٍ عمروا بلادهم وخلفوهم، وكثروا، وعُمروا أعمارًا طِوالاً لا تفي بها الأبنية، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في خِصب وسعة، فتعوا وأفسدوا في الأرض، وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحًا من أشرافهم فأنذرهم، فسألوه آية، فقال لهم : أيّ آية تريدون ؟ فقالوا : اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا، فمن استجيب له اتبع، فخرج معهم، فدعوا أصنامهم فلم تجبهم، ثم أشار سيدهم " جندع بن عمرو " إلى صخرة منفردة يقال لها :" الكاثبة "، قال له : أخرج من هذه الصخرة ناقةً مخترجة جوفاء وبراء، فإن فعلت صدقناك، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم : لئن فعلتُ ذلك لتؤمنن ؟ قالوا : نعم، فصلى، ودعا ربه، فتمخضت الصخرة تَمَخَّضَ النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عُشَرَاءَ، جوفاء وبراء كما وَصَفُوا، وهم ينظرون، ثم أنتجت ولدًا مثلها في العظم، فآمن به جندع في جماعة، ومنع الناس من الإيمان : ذُؤاب بن عمرو، والحباب صاحب أصنامهم، ورباب كاهنهم.
فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر، وترد الماء غِبًّا، فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها، ثم تنفحج١، فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون ويدخرون، وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره ؛ فشق ذلك عليهم، فزينت عقرها لهم " عنيزة أم غنم " وصدقة بنت المختار، فعقروها واقتسموا لحمها، وعاقرها : الأحمر، واسمه قدار " استعان برجل آخر، فلما شربت اختبأ لها في جانب تل، فضربها صاحبه بالسهم، وعقرها قدار بسيفه، واقتسموا لحمها، فرقى ولدها جبلاً اسمه : قارة، فرغى ثلاثًا، ودخل صخرة أمه، فقال لهم صالح عليه السلام : أدركوا الفصيل، عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه حيث دخل الصخرة بعد رغائه، فقال لهم صالح عليه السلام : تصبح وجوهكم غدًا مصفرة، وبعد غد محمرة، واليوم الثالث مسودة، ويصبحكم العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولما كان ضحوة اليوم الرابع : تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.
﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ أرسلنا ﴿ لوطًا إذ قال لقومه ﴾ ؛ واعظًا لهم :﴿ أتأتون الفاحشةَ ﴾ أي : اللواط ؛ توبيخًا وتقريعًا على تلك الفعلة المتناهية في القبح، ﴿ ما سبقكُم بها من أحدٍ من العالمين ﴾ أي : ما فعلها أحد قبلكم، وبخهم على أمرين : إتيان الفاحشة، واختراعها أولاً.
ثم قال لهم :﴿ إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء ﴾، وصفهم بالشهوة البهيمية، وفيه تنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة : طلب الولد وإبقاء النوع لا قضاء الوطر، ﴿ بل أنتم قومٌ مسرفون ﴾ أي : عادتكم السرف في كل شيء، حتى تجاوزتم ما أحل الله لكم من النساء إلى ما حرم عليكم من إتيان الذكور، وهو إضراب عن الإنكار إلى الإخبار بحالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها ؛ وهي اعتياد الإسراف في كل شيء، أو عن الإنكار عليها إلى الذم لم على جميع معايبهم، أو عن محذوف، مثل : لا عذر لكم فيه، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف. قاله البيضاوي.
رُوِي أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر عمه إبراهيم إلى الشام، ونزل بالأردن، وكان هاجر هو معه، أرسله الله تعالى إلى أهل سدوم، ليدعوهم إلى الله، وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة، فلم ينتهوا عنها، فقلع جبريل مدينتهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر الحجارة على ما قربهم من القرى، وسيأتي في سورة هود بقية قصتهم، إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ أرسلنا ﴿ إلى مدين أخاهم شعيبًا ﴾، ومدين : قبيلة من أولاد مدين بن إبراهيم، شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم الخليل، على ما قيل. وقد تقدم في البقرة أن مدين ومدان من ولد إبراهيم عليه السلام، وشعيب هذا يسمى خطيب الأنبياء ؛ لحسن مراجعته قومه.
﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهِ غيره قد جاءتكم بينةٌ من ربكم ﴾ يريد المعجزة التي كانت له، وليس في القرآن بيان ما هي معجزته. وحمل الواحدي البينة على الموعظة. وقال في الكشاف : ومن معجزات شعيب : ما رُوِي من محاربة عصا موسى التنين، حين دفع إليه غنمه، وولادة الغنم الدرع خاصة، حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصا آدم في يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات. ه. وفيه نظر ؛ لأن هذه وقعت بعد مقالته لقومه، وإنما كانت إرهاصات لموسى عليه السلام، وفي حديث البخاري :" مَا بَعَثَ الله نَبِيًّا إلاَّ وآتاهُ مَا مِثلُه آمَنِ عليه البشرُ، وإنما كَان الذي أُوتِيتُه وحيًا، وأرجوُ أن أكون أكَثَرهُم تابعًا يومَ القيامَةِ " ١. وهو صريح في أنه لا بد من الآية لكل رسول، ولعل الله تعالى لم يذكر معجزة شعيب وهود في القرآن مع وجودها ؛ لظاهر الحديث.
ثم قال لهم :﴿ فأوفوا الكيلَ والميزانَ ﴾، وكانوا مطففين، أي : فأوفوا المكيال الذي هو آلة الكيل، أي : كبروها ؛ بدليل قوله :﴿ والميزان ﴾ الذي هو الآلة، ويحتمل أن يريد بهما المصدر، أي الكيل والوزن.
﴿ ولا تَبخسوا الناس أشياءهم ﴾ أي : لا تنقصوهم حقوقهم، وإنما قال :﴿ أشياءَهم ﴾، للتعميم تنبيهًا على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير، والقليل والكثير، وقيل : كانوا مكَّاسين لا يدعون شيئًا إلا مكسوه. ﴿ ولا تُفسدوا في الأرض ﴾ بالكفر والظلم، ﴿ بعد إصلاحها ﴾ بإقامة الشرائع وظهور العدل، ﴿ ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ أي : ذلك الذي أمرتكم به ونهيتكم عنه هو خير لكم من إبقائكم على ما أنتم عليه، ومعنى الخيرية : الزيادة مطلقًا ؛ إذ لا خير فيما هم فيه، أو : في الإنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال. قاله البيضاوي.
ويؤخذ من قوله :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ﴾ أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره. وفي بعض الآثار القدسية :" يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط " والله تعالى أعلم.
﴿ وتَصُدُّون عن سبيل الله ﴾ أي : تصدون الناس عن طريق الله، وهو الإيمان به وبرسوله، وهو الذي قعدوا لأجله في كل طريق، وقوله :﴿ من آمن به ﴾ ؛ من أراد الإيمان به، أو من آمن حقيقة ؛ كانوا يصدونه عن العمل، ﴿ وتبغونها عِوَجًا ﴾ أي : وتطلبون لطريق الله عوجًا بإلقاء الشُّبَه فيها، أو بوصفها للناس بأنها مُعوَجَّة.
﴿ واذكروا إذ كنتم قليلاً ﴾ عَددهم وعُددكم ﴿ فكثَّرَكُم ﴾ بالبركة في النسل والمال، ﴿ وانظروا كيف كان عاقبةِ المفسدين ﴾ من الأمم قبلكم، فاعتبروا بهم.
ويؤخذ من قوله :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ﴾ أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره. وفي بعض الآثار القدسية :" يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط " والله تعالى أعلم.
ويؤخذ من قوله :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ﴾ أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره. وفي بعض الآثار القدسية :" يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط " والله تعالى أعلم.
ويؤخذ من قوله :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ﴾ أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره. وفي بعض الآثار القدسية :" يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط " والله تعالى أعلم.
ويؤخذ من قوله :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ﴾ أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره. وفي بعض الآثار القدسية :" يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط " والله تعالى أعلم.
ويؤخذ من قوله :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ﴾ أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره. وفي بعض الآثار القدسية :" يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط " والله تعالى أعلم.
﴿ الصيحة ﴾، ولعلها كانت من مبادئها، ﴿ فأصبحوا في دارهم ﴾ أي : في مدينتهم ﴿ جاثمين ﴾ باركين ميتين.
ويؤخذ من قوله :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ﴾ أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره. وفي بعض الآثار القدسية :" يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط " والله تعالى أعلم.
ويؤخذ من قوله :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ﴾ أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره. وفي بعض الآثار القدسية :" يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط " والله تعالى أعلم.
ويؤخذ من قوله :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ﴾ أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره. وفي بعض الآثار القدسية :" يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط " والله تعالى أعلم.
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وما أرسلنا في قرية من نبي ﴾ أي : رسول ﴿ إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ﴾ أي : بالبؤس والضر، كالقحط والأمراض، ﴿ لعلهم يضَّرَّعون ﴾ أي : يتضرعون ويتذللون.
وقال القشيري في قوله تعالى :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا... ﴾ الآية : أي : لو آمنوا بالله واتَّقُوا الشرك ﴿ لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾ بأسباب العطاء، فإن سَبَقَ بخلافه القضاء فأبواب الرضا، والرضا أتم من العطاء. ويقال : ليس العبرة بالنعمة ؛ العِبرة بالبركة في النعمة. هـ.
قوله تعالى :﴿ ولكن كذَّبوا ﴾ أي : شكُّوا في هذا الوعد فلم يتقوا بالإيمان والتقوى حتى يتركوا الأسباب، والشاك في الصادق المصدوق مكذب. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : للناس أسباب، وسببنا الإيمان والتقوى، ثم تلا هذه الآية :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا... ﴾ الآية، وقد تقدم عند قوله :﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ﴾ [ الأنعَام : ٨٢ ]. ما يتعلق بالأمن من مكر الله.
وقال القشيري في قوله تعالى :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا... ﴾ الآية : أي : لو آمنوا بالله واتَّقُوا الشرك ﴿ لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾ بأسباب العطاء، فإن سَبَقَ بخلافه القضاء فأبواب الرضا، والرضا أتم من العطاء. ويقال : ليس العبرة بالنعمة ؛ العِبرة بالبركة في النعمة. هـ.
قوله تعالى :﴿ ولكن كذَّبوا ﴾ أي : شكُّوا في هذا الوعد فلم يتقوا بالإيمان والتقوى حتى يتركوا الأسباب، والشاك في الصادق المصدوق مكذب. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : للناس أسباب، وسببنا الإيمان والتقوى، ثم تلا هذه الآية :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا... ﴾ الآية، وقد تقدم عند قوله :﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ﴾ [ الأنعَام : ٨٢ ]. ما يتعلق بالأمن من مكر الله.
وقال القشيري في قوله تعالى :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا... ﴾ الآية : أي : لو آمنوا بالله واتَّقُوا الشرك ﴿ لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾ بأسباب العطاء، فإن سَبَقَ بخلافه القضاء فأبواب الرضا، والرضا أتم من العطاء. ويقال : ليس العبرة بالنعمة ؛ العِبرة بالبركة في النعمة. هـ.
قوله تعالى :﴿ ولكن كذَّبوا ﴾ أي : شكُّوا في هذا الوعد فلم يتقوا بالإيمان والتقوى حتى يتركوا الأسباب، والشاك في الصادق المصدوق مكذب. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : للناس أسباب، وسببنا الإيمان والتقوى، ثم تلا هذه الآية :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا... ﴾ الآية، وقد تقدم عند قوله :﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ﴾ [ الأنعَام : ٨٢ ]. ما يتعلق بالأمن من مكر الله.
وقال القشيري في قوله تعالى :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا... ﴾ الآية : أي : لو آمنوا بالله واتَّقُوا الشرك ﴿ لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾ بأسباب العطاء، فإن سَبَقَ بخلافه القضاء فأبواب الرضا، والرضا أتم من العطاء. ويقال : ليس العبرة بالنعمة ؛ العِبرة بالبركة في النعمة. هـ.
قوله تعالى :﴿ ولكن كذَّبوا ﴾ أي : شكُّوا في هذا الوعد فلم يتقوا بالإيمان والتقوى حتى يتركوا الأسباب، والشاك في الصادق المصدوق مكذب. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : للناس أسباب، وسببنا الإيمان والتقوى، ثم تلا هذه الآية :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا... ﴾ الآية، وقد تقدم عند قوله :﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ﴾ [ الأنعَام : ٨٢ ]. ما يتعلق بالأمن من مكر الله.
وقال القشيري في قوله تعالى :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا... ﴾ الآية : أي : لو آمنوا بالله واتَّقُوا الشرك ﴿ لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾ بأسباب العطاء، فإن سَبَقَ بخلافه القضاء فأبواب الرضا، والرضا أتم من العطاء. ويقال : ليس العبرة بالنعمة ؛ العِبرة بالبركة في النعمة. هـ.
قوله تعالى :﴿ ولكن كذَّبوا ﴾ أي : شكُّوا في هذا الوعد فلم يتقوا بالإيمان والتقوى حتى يتركوا الأسباب، والشاك في الصادق المصدوق مكذب. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : للناس أسباب، وسببنا الإيمان والتقوى، ثم تلا هذه الآية :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا... ﴾ الآية، وقد تقدم عند قوله :﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ﴾ [ الأنعَام : ٨٢ ]. ما يتعلق بالأمن من مكر الله.
وقال القشيري في قوله تعالى :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا... ﴾ الآية : أي : لو آمنوا بالله واتَّقُوا الشرك ﴿ لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾ بأسباب العطاء، فإن سَبَقَ بخلافه القضاء فأبواب الرضا، والرضا أتم من العطاء. ويقال : ليس العبرة بالنعمة ؛ العِبرة بالبركة في النعمة. هـ.
قوله تعالى :﴿ ولكن كذَّبوا ﴾ أي : شكُّوا في هذا الوعد فلم يتقوا بالإيمان والتقوى حتى يتركوا الأسباب، والشاك في الصادق المصدوق مكذب. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : للناس أسباب، وسببنا الإيمان والتقوى، ثم تلا هذه الآية :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا... ﴾ الآية، وقد تقدم عند قوله :﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ﴾ [ الأنعَام : ٨٢ ]. ما يتعلق بالأمن من مكر الله.
﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾
قلت :﴿ أن لو نشاء ﴾ :" أن " مخففة، وهي وما بعدها : فاعل ﴿ يَهدِ ﴾ أي : أو لم يتبين لهم قدرتنا على إهلاكهم لو نشاء ذلك ؟ وإنما عدى " يهدي " باللام ؛ لأنه بمعنى يتبين، و﴿ نطبع ﴾ : استئناف، أي : ونحن نطبع على قلوبهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أوَ لم يهدِ ﴾ أي : يتبين ﴿ للذين يرثون الأرضَ من بعد أهلها ﴾ أي : يخلفون من قبلهم ويرثون ديارهم وأموالهم، ﴿ أن لو نشاء أصبناهم ﴾ أي : أهلكناهم ﴿ بذنوبهم ﴾ بسبب ذنوبهم، كم أهلكنا من قبلهم، لكن أمهلناهم ولم نهملهم، ﴿ و ﴾ نحن ﴿ نَطبَعُ على قلوبهم ﴾ بالغفلة والانهماك في العصيان، ﴿ فهم لا يسمعون ﴾ سماع تدبر واعتبار.
أو :﴿ فما كانوا ليؤمنوا ﴾ مدة عمرهم بما كذبوا به أولاً، حيث جاءتهم الرسل، فلم تؤثر فيهم دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة. ﴿ كذلك يطبعُ الله على قلوب الكافرين ﴾ فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ثم بعثنا ﴾ من بعد الرسل المتقدمين ﴿ موسى ﴾ بن عمران ﴿ بآياتنا ﴾ : بمعجزاتنا الدالة على صدقه، ﴿ إلى فرعون ومَلَئِهِ فظلموا بها ﴾ أي : طغوا بسببها، وزادوا عتوًا على عتوهم، ﴿ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ كيف غرقوا عن آخرهم، وأكلهم البحر.
الإشارة : إذا أراد الله تعالى أن يُهلك قومًا بعث إليهم من يُذكرهم، فإذا زادوا في العتو والطغيان عاجلهم بالعقوبة. ذكر الشعراني : أن مدينة بالمشرق صنعوا وليمة يتنزهون فيها، فخرجوا إلى بستان، فلما صنعوا الطعام دخل عليهم فقير، فقال : أعطوني، فأعطوه، ثم قال : أعطوني فزادوه، ثم قال أعطوني، فجروه حتى أخرجوه، فأرسل عليهم مَن أخرجهم من تلك المدينة وخربها، فهي خربة إلى اليوم. سبحان المدبر الحكيم الواحد القهار !.
﴿ وَقَالَ مُوسَى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيا إِسْرَائِيلَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقال موسى يا فرعونُ إني رسولٌ من ربِّ العالمين حقَيقٌ ﴾ واجب ﴿ على أن لا أقول على الله إلا الحقَّ ﴾ ؛ لأنني معصوم من النطق بغيره، فإن كذَّبتني فقد ﴿ جئتكم ببيّنة من ربكم ﴾ أي : بمعجزة واضحة، تدل على صدقي، وهي العصا :﴿ فأرْسِلْ معي بني إسرائيل ﴾ أي : فخل سبيلهم، حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة : التي هي وطنُ آبائهم، وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة ؛ وذلك أنه لما تُوفِّي يوسف عليه السلام غلب عليهم فرعونُ واستعبدهم حتى أنقذهم الله على يد موسى، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى رسولاً إلى فرعون : أربعمائة عام.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٤:ثم ذكر دعوة موسى إلى فرعون، وما كان من أمره معه، فقال :
﴿ وَقَالَ مُوسَى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيا إِسْرَائِيلَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقال موسى يا فرعونُ إني رسولٌ من ربِّ العالمين حقَيقٌ ﴾ واجب ﴿ على أن لا أقول على الله إلا الحقَّ ﴾ ؛ لأنني معصوم من النطق بغيره، فإن كذَّبتني فقد ﴿ جئتكم ببيّنة من ربكم ﴾ أي : بمعجزة واضحة، تدل على صدقي، وهي العصا :﴿ فأرْسِلْ معي بني إسرائيل ﴾ أي : فخل سبيلهم، حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة : التي هي وطنُ آبائهم، وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة ؛ وذلك أنه لما تُوفِّي يوسف عليه السلام غلب عليهم فرعونُ واستعبدهم حتى أنقذهم الله على يد موسى، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى رسولاً إلى فرعون : أربعمائة عام.
﴿ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قال ﴾ فرعون لموسى عليه السلام :﴿ إن كنتَ جئتَ بآيةٍ ﴾ مَن عند مَن أرسلك، كما ذكرتَ، ﴿ فأتِ بها ﴾ وأحضرها ليَثبت بها صدقك ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ في دعواك.
رُوِي أنه لما ألقاها صار ثعبانًا أشعر، فاغرًا فاه، بين لحييه ثمانون ذراعًا، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون، فهرب منه وأحدَثَ، وانهزم الناسُ مُزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا، وصاح فرعون : يا موسى، أنشدك الذي أرسلك خذه، وأنا أُومن بك، وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه فعاد عصًا. قاله البيضاوي.
﴿ قالوا أرجِه ﴾ أي : أخّره ﴿ وأخاه ﴾ أي : أخرّهما حتى تنظر في أمرهما، وقيل : أمروه بسجنهما، ﴿ وأرسل في المدائن ﴾ أي : مدائن عمالتك ﴿ حَاشرين ﴾ يحشرون لك السحرة،
﴿ يأتوك بكلِّ ساحرٍ عليم ﴾
﴿ وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُواْ يا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ﴾
قلت : من قرأ :( أإن ) بهمزتين، فهو اسم استفهام، ومن قرأ بهمزة واحدة، فيحتمل أن يكون خبرًا، كأنهم قالوا : لا بد لنا من أجر، أو استفهامًا حُذفت منه الهمزة، والتنكير للتعظيم، واستأنف الجملة، كأنها جواب عن سائل قال : فماذا قالوا إذ جاؤوا ؟ قالوا : إن لنا لأجرًا. . . الخ، و( إنكم ) : عطف على ما سدّ مسده نعم، من تمام الجواب، كأنه قال : نعم نعطيكم الأجر ونقربكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وجاء السحرةُ فرعونَ ﴾ بعد ما أرسل الشرطة في طلبهم، ﴿ قالوا ﴾ لما وصلوا إليه :﴿ إن ﴾ أئن ﴿ لنا لأجرًا إن كنا نحن الغالبين ﴾ لموسى ؟ ﴿ قال نعم ﴾
﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وأُلقى السحرةُ ﴾ على وجوهم ﴿ ساجدين ﴾ لما عرفوا الحق وتحققوا به، فآمنوا ؛ لأن الحق بهرهم، واضطرهم إلى السجود بحيث لم يتمالكوا، أو ألهمهم الله ذلك وحملهم عليه، حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسف موسى، وينقلب الأمر عليه.
﴿ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقال الملأُ من قوم فرعون أَتذَرُ موسى وقومَه ﴾ أي : تتركهم يخالفون دينك ﴿ ليُفسدوا في الأرض ﴾ أي : يخربوا ملكك بتغيير دينك ودعوتهم إلى مخالفتك، ﴿ ويَذَرك وآلهتك ﴾ أي : يترك موسى دينك ومعبوداتك التي تعبد، قيل : كان يعبد الكواكب، وقيل : صنع لقومه أصنامًا وأمرهم أن يعبدوها تقربًا إليه. ولذلك قال :
﴿ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى ﴾ [ النَّازعَات : ٢٤ ]. قال فرعون في جوابهم :﴿ سَنُقتِّل أبناءَهم ﴾ أي : ذكورهم ﴿ ونستحي نساءهم ﴾ أي : بناتهم، كما كنا نفعل من قبل، ليُعلم أَنَّا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يديه. ﴿ وإنا فوقهم قاهرون ﴾ غالبون، وهم مقهورون تحت أيدينا.
﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾
قلت : عبَّر في جانب الحسنة بإذاء المفيدة للتحقيق، وعرَّف الحسنة ؛ لكثرة وقوعها، وعبَّر في جانب السيئة بإن المفيدة للشك، ونكّر السيئة لنُدورها.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولقد أخذنا آلَ فرعوَن بالسنين ﴾ أي : بالجدب والقحط لقلة الأمطار والمياه، ﴿ ونقصٍ من الثمرات ﴾ بكثرة العاهات، ﴿ لعلهم يذّكَّرون ﴾ أي : لكي ينتبهوا أن ذلك من شؤم كفرهم ومعاصيهم، ويتعظوا، وترق قلوبهم بالشدائد، فيفزعوا إلى الله، ويرغبوا فيما عنده.
قال تعالى :﴿ ألا إنما طائرُهم عند الله ﴾ أي : سبب طائرهم وشرهم عنده، وهو حكمه ومشيئه، أو سبب شؤمهم عند الله، وهو أعمالهم المكتوبة عنده، فإنها التي ساقت إليهم ما يسؤوهم. قال ابن جزي : أي : حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله، وهو مأخوذ من زجر الطير، ثم سمى به مَا يُصيب الإنسان، ومقصود الآية : الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم. ه، ﴿ ولكنّ أكثرهم لا يعلمون ﴾ أن ما يصيبهم من الله تعالى بلا واسطة، أو من شؤم أعمالهم.
﴿ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيا إِسْرَآئِيلَ فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِيا إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ﴾
قلت :﴿ مهما ﴾ : اسم شرط جازم، و﴿ تأتنا ﴾ : شرطها، وجملة ﴿ فما نحن ﴾ : جوابها، قيل : مركبة، وأصلها :" ما " الشرطية، ضُمت إليها " ما " الزائدة، نحو : أينما، ثم قُلبت الألف هاء، والمشهور : أنها بسيطة، ومحلها : رفع بالابتداء، أو نصب بفعل يفسره :" تأتنا " والضمير في :" به " عائد على " مهما ".
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقالوا ﴾ أي : فرعون وقومه :﴿ مهما تأتنا به من آيةٍ ﴾، وإنما سموها آية على زعم موسى، لا لاعتقادهم، ولذلك قالوا :﴿ لتسحرنا بها ﴾ أي : لتسحر بها أعيينا وتشبه علينا، ﴿ فما نحن لك بمؤمنين ﴾. وهذا من عظيم عتوهم وانهماكهم في الكفر.
قال البيضاوي : رُوِي أنهم مُطِروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة، لا يقدر أحد أن يخرج من بيته، ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم، وكانت بيوت بني إسرائيل متصلة ببيوتهم، فلم يدخل فيها قطرة، وركب على أرضهم فمنعتهم من الحرث والتصرف فيها، ودام ذلك عليهم أسبوعًا، فقالوا لموسى عليه السلام : أدع لنا ربك بما عهد عندك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا الله فكشف عنهم، ونبت لهم من الكلأ والزرع والثمار ما لم يعهد مثله، ولم يؤمنوا، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زرعهم وثمارهم، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب، ففزعوا إليه ثانيًا، فدعا، وخرج إلى الصحراء، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها، فلم يؤمنوا، فسلط عليهم القمل وأكل ما أبقاه الجراد، فكان يقع في أطعمتهم ويدخل في ثيابهم وجلودهم فيمصها، ففزعوا إليه فرفع عنهم، فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر، ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا ينكشف ثوب ولا طعام إلا وُجدت فيه، وكانت تملأ مضاجعهم، وتثب إلى قدورهم وهي تغلي وأفواههم عند التكلم، ففزعوا وتضرعوا، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياههم دمًا، حتى يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على الماء، فيكون ما يلي القبطي دمًا، وما يلي الإسرائيلي ماء، ويمص الماء من فم الإسرائيلي فيصير دمًا في فيه، وقيل : سلط عليهم الرعاف.
﴿ آياتٍ ﴾ أي : حال كون ما تقدم آيات ﴿ مُفصَّلاتٍ ﴾، مبينات، لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته. قيل : كان بين كل واحدة منها شهر، وامتداد كل واحدة منها شهر، وامتداد كل واحدة أسبوعًا، وقيل : إن موسى ثبت فيهم، بعد ما غلب السحرة، عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل، ﴿ فاستكبروا ﴾ عن الإيمان ﴿ وكانوا قومًا مجرمين ﴾ أي : عادتهم الإجرام.
﴿ وتمّتْ كلمةُ ربك الحسنى على بني إسرائيل ﴾ أي : نفذت ومضت واستقرت، والكلمة هنا : ما قضى في الأزل من إنقاذهم من عدوهم، وقيل : قوله :
﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعفُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ [ القَصَص : ٥ ] وكانت حسنى ؛ لما فيها من النصر والعز، ﴿ بما صبروا ﴾ أي : بسبب صبرهم على الشدائد ﴿ ودمَّرنا ﴾ أي : خربنا ﴿ ما كان يصنعُ فرعونُ وقومهُ ﴾ من القصور والعمارات، ﴿ وما كانوا يعْرِشُون ﴾ من البنيان المرتفع كصرح هامان، أو ما كانوا يرفعون من الكروم في البساتين على العرشان، فالأول من العرش والثاني من العَريش.
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَاهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَاهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُواءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وجاوزنا بِبني إسرائيل ﴾ أي : قطعنا بهم ﴿ البحرَ ﴾، رُوِي أنهم عبروه يوم عاشوراء، بعد مهلك فرعون، فصاموه شكرًا، ﴿ فأَتَوا على قوم ﴾ أي : مروا على قوم من العمالقة، وقيل : من لخم، ﴿ يعكُفُون على أصنام لهم ﴾ أي : يقيمون على عبادتها، قيل : كانت تماثيل البقر، وذلك أول شأن عبادة العجل، وهؤلاء القوم، قيل : هم الجبارُون الذين أمر موسى بقتالهم بعد وصوله إلى الشام، ولما رآهم بنو إسرائيل ﴿ قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا ﴾ أي : مثالاً نعبده ﴿ كما لهم آلهة ﴾ يعبدونها، ﴿ قال ﴾ لهم موسى عليه السلام :﴿ إنكم قوم تجهلون ﴾، وَصَفَهُم بالجهل المطلق، وأكده بإن ؛ لبُعد ما صدر منهم، بعد ما رأوا من الآيات الكبرى.
قال البيضاوي : ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن مَنَّ الله تعالى عليهم بالنعم الجسام، وآراهم من الآيات العظام، تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرى منهم ويلقى من التشغيب، وإيقاظًا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم. ه. وذكر في " القوت " أن يهوديًّا قال لعلي رضي الله عنه : كيف اختلفتم وضربتم وجوه بعضكم بالسيف، ونبيكم قريب عهد بكم ؟ فقال : أنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم :﴿ اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة ﴾. ه.
﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وواعدنا موسى ﴾ ؛ لإنزال الكتاب ﴿ ثلاثين ليلة ﴾ من ذي القعدة، ﴿ وأتممناها بعشر ﴾ من ذي الحجة، ﴿ فتمَّ ميقاتُ ربه ﴾ بالغًا ﴿ أربعين ليلة ﴾، رُوِي أنه عليه السلام وعد بني إسرائيل، بمصر، أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب الله تعالى، فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره بصوم ثلاثين، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة : كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدتَه بالسواك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليه عشرًا، ثم أنزل عليه التوراة.
﴿ وقال موسى لأخيه هارون ﴾، عند ذهابه إلى الطور للمناجاة :﴿ أخلُفني في قومي ﴾ أي : كن خليفتي فيهم ﴿ وأصلح ﴾ ما يجب أن يصلح من أمورهم، أو كن مصلحًا، ﴿ ولا تتبع سبيلَ المفسدين ﴾ أي : لا تتبع سبيل من يسلك الإفساد، ولا تطع من دعاك إليه.
الإشارة : كل من انقطع إلى الله تعالى بكليته واعتزل عن الخلق، وأخلى قلبه عما سوى الحق، حصلت له المناجاة والمكالمة، كما وقعت للكليم عليه السلام، وكل ما منحه الله للأنبياء يكون منه نصيب للأولياء من هذه الأمة، والله تعالى أعلم. وفي الحديث :" مَن أخلَصَ أربَعِينَ صبَاحًا ظَهَرَت يَنابِيعُ الحِكمَةِ مِن قَلبِهِ عَلَى لِسَانِه١ "
قال بعض الحكماء : والسر في ذلك أن الله تعالى أمر بطينة آدم فخمرت في الماء أربعين يومًا، فتربى فيها أربعون حجابًا، فلولا تلك الحجب ما استطاع المقام في الأرض، فمن أيده الله على زوالها تشبه بالملأ الأعلى، وخرقت له العوائد، وأشرق النور من قلبه. ولهذا المعنى بقي داود عليه السلام ساجدًا أربعين يومًا، فقبلت توبته، ومكث إبراهيم عليه السلام في نار النمرود أربعين يومًا، فاتخذه الله خليلاً، وكان بعد ذلك يقول : ما رأيت أحلى من تلك الأيام، فمن أخلص في عبادته وأزال تلك الحجب عن قلبه كان ربانيًا. قال تعالى :﴿ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّنَ ﴾ [ آل عِمرَان : ٧٩ ]. انظر الشطيبي.
ويؤخذ من الآية أن الشيخ إذ أراد أن يسافر من زاويته ينبغي له أن يخلف خليفة عنه ليقوم له بنظام الزاوية، إذ لا خير في قوم ليس فيهم من يعظهم في الله. وبالله التوفيق.
﴿ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا ﴾ الذي وقتنا له ﴿ وكلَّمه ربه ﴾ من غير واسطة كما يكلم الملائكة. وفيما رُوِي : أنه كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة، وفيه تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين. قاله البيضاوي. وقال الورتجبي : أي أسمع عجائب كلامه كليمه ليعرفه بكلامه ؛ لأن كلامه مفاتيح كنوز الصفات والذات. ه. وقال ابن جزي : لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته، فسألها، كما قال الشاعر :
وأبرحُ ما يَكُونُ الشَّوقُ يَومًا | إذا دَنَت الديارُ من الدَّيَارِ |
وهو تعريض بالزمخشري وردُّ عليه، فإنه أطلق لسانه في أهل السنة عفا الله عنه. والتحقيق : أن رؤيته تعالى برداء الكبرياء وهي أنوار الصفات جائرة واقعة، وأما رؤية أسرار الذات وهي المعاني الأزلية، التي هي كنه الربوبية فغير جائزة ؛ إذ لو ظهرت تلك الأسرار لتلاشت الأكوان واضمحلت، ولعل هذا المعنى هو الذي طلب سيدنا موسى عليه السلام، فلذلك قال له :﴿ لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه ﴾ عند تجلي هذه الأسرار له، ﴿ فسوف تراني فلما تجلى ربُّه للجبل ﴾ أي : أظهر له شيئًا من أنوار الربوبية التي هي أسرار المعاني الأزلية، ﴿ جعله دكًا ﴾ أي : مدكوكًا مفتتًا، والدك والدق واحد، وقرأ حمزة :" دكاء " بالمد، أي : أرضًا مستوية، ومنه : ناقة دكاء لا سنم لها. ﴿ وخرَّ موسى صَعِقًا ﴾ مغشيًا عليه من هول ما رأى، ﴿ فلما أفاق قال ﴾ تعظيمًا لما رأى :﴿ سبحانك تُبت إليك ﴾ من الجرأة والإقدام على السؤال بغير إذن، وقال بعضهم : تُبتُ إليك من عدم الاكتفاء بقوله :﴿ لن تراني ﴾ حتى نظر إلى الجبل، ﴿ وأنا أولُ المؤمنين ﴾ أنك لا تُرى بلا واسطة نور الصفات، أو أول أهل زماني إيمانًا.
الإشارة : رؤية الحق جائزة واقعة عند الصوفية في الدارين، ولكن لا ينالها في هذه الدار إلا خواص الخواص، ويُعبّرون عنها بالشهود والعيان، ولا يكون ذلك إلا بعد الفناء، وفناء الفناء بعد موت النفس وقتلها، ثم الغيبة عن حسها ورسمها، تكون بعد التهذيب والتدريب والتربية على يد شيخ كامل، لا يزال يسير به ويقطع به في المقامات، ويغيبه عن نفسه ورؤية وجوده، حتى يقول له : ها أنت وربك، وذلك أن الحق جل جلاله تجلى لعباده بأسرار المعاني خلف رداء الأواني، وهو حس الأكوان، فأسرار المعاني لا يمكن ظهورها إلا بواسطة الأواني، أو تقول : أسرار الذات لا تظهر إلا في أنوار الصفات، فلو ظهرت أسرار الذات بلا واسطة لاضمحلت الأشياء واحترقت، كما في الحديث :" حِجَابُهُ النُّورُ، لَو كشَفَهُ لأحرقَت سُبُحَاتُ وَجههِ ما انتَهَى إلَيه بَصَرُهُ من خلَقِهِ١.
فالمراد بالنور نور الصفات، وهو الأواني الحاملة للمعاني، لو كشف ذلك النور حتى تظهر أسرار الذات لأحرقت كل شيء أدركه بصره. والواسطة عند المحققين هي عين عين الموسوط، فلا يزال المريد يفنى عن عين الواسطة في شهود الموسوط حتى يغيب عن الواسطة بالكلية، أو تقول : لا يزال يغيب عن الأواني بشهود المعاني حتى تشرق شمس العرفان، فتغيب الأواني في ظهور المعاني، فيقع العيان على فقد الأعيان، " كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان "، " ما حجبك عن الحق وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، وإنما حجبك توهم موجود معه ".
والحاصل : أن الحق تعالى تكون رؤيته أولاً بالبصيرة دون البصر، لأن البصيرة تدرك المعاني، والبصر يدرك الحسيات، فإذا انفتحت البصيرة استولى نورها على نور البصر، فلا يرى البصر حينئذٍ إلا ما تراه البصيرة. قال بعض العارفين : هذه المزية العظمى وهي رؤية الحق تعالى في الدنيا على هذا الوجه : خاص بخواص الأمة المحمدية دون سائر الأمم وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، فإنه خص بالرؤية دون غيره من الأنبياء. وإلى ذلك أشار ابن الفارص في تائيته، مترجمًا بلسان الحقيقة المحمدية، حيث قال :
ودونَكَ بحرًا خُضتُهُ، وقَف الألي | بساحِلِه، صَونًا لمَوضِع حُرمتي |
ولا تقرَبُوا مالَ اليتيمِ إشارةٌ | لكَفَّ يدٍ صُدَّت له، إذ تَصَّدِت |
وما نالَ شيئًا منُه غيري سوى فتىً | على قَدَمي في القبض والبسطِ ما فتى |
وقيل في قوله :﴿ فلما تجلى ربُّه للجبل ﴾ أي : جبل العقل، بحيث طمس نوره بنور شمس العرفان، وخر موسى صعقًا، أي : ذهب وجوده في وجود محبوبه، وحصل له الزوال في مكان الفناء والسكر، فلما أفاق ورجع إلى البقاء تمسك بمقام العبودية والأدب مع الربوبية فقال :﴿ سبحانك تبتُ إليك ﴾ من رؤية جبل الحس قبل شهود نور المعنى، وأنا أول المؤمنين بأن نور المعاني خلف رداء الأواني، لا يدرك إلا بعد الصعقة، والله تعالى أعلم.
﴿ قَالَ يا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآُخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قال يا موسى إني اصطفيتُك ﴾ اخترتك ﴿ على الناس ﴾ الموجودين في زمانك، وهارون، وإن كان نبيًا، كان مأمورًا باتباعه، ولم يكن كليما ولا صاحب شرع. فقد اصطفيتك على أهل زمانك ﴿ برسالتي ﴾ لك إليهم، ومن قرأ بالجمع فالمراد : أوقات التبليغ بأنواع الأحكام أو أسفار التوراة، ﴿ و ﴾ خصصتك ﴿ بكلامي ﴾، وقد شاركه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع زيادة الرؤية، ﴿ فخُذ ما آتيتك ﴾ أي : أعطيتك من الرسالة والتكليم، وأقنع بهما ولا تطلب غير ذلك، ﴿ وكن من الشاكرين ﴾ على هذه النعمة، وفيه نوع تأديب له. رُوِي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة، وأعطاه التوراة يوم النحر.
وقوله تعالى :﴿ يأخذوا بأحسنها ﴾ قال الورتجبي : يأخذون بأبينها لهم، وهي المحكمات التي توجب العبودية، ويأخذون بمتشابهها التي هي وصف الصفات بحسن الاعتقاد والتسليم فيها، لأن علومها وحقائقها لا تكشف إلا للربانيين. قال تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالْرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [ آل عِمرَان : ٧ ] الآية. هـ. وقوله تعالى :﴿ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض ﴾. قال القشيري : سأحرِمُ المتكبرين بركة الاتباع، حتى لا يتلقوا الآيات التي يُكاشَفَون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يُخَاطَبُون به بسمع الإيمان. هـ.
قال تعالى لموسى عليه السلام :﴿ فخُذهَا ﴾ أي : الألواح أو الرسالة ﴿ بقوة ﴾ أي : بجد واجتهاد، ﴿ وأْمُرْ قومكَ يأخذوا بأحسنها ﴾ بأحسن ما فيها، فإن فيها ما هو حسن وأحسن منه ؛ كالقصاص مع العفو، أو بواجباتها، فإن الواجب أفضل من المندوب، وهذا كقوله في كتابنا :﴿ وَاتَّبِعُوَاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِكُم ﴾ [ الزُّمَر : ٥٥ ]، ويجوز أن يراد بالأحسن : البالغ في الحسن مطلقًا، لا بالإضافة إلى غيره، كقولهم : الصيف أحر من الشتاء، فيكون الأمر بأخذ كل ما فيها لأنه بالغ الحسن، ثم بشرهم بخراب ملك عدوهم، فقال :﴿ سأُريكُم دارَ الفاسقين ﴾ أي : دار فرعون وقومه خاوية على عروشها، أي : أريكم كيف أقفَرَت منهم لمّا هلكوا، وقيل : منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم، لتعتبروا بها، وقيل : جهنم.
وقرأ ابن عباس :" سأورثكم " بالثاء المثلثة، كقوله :﴿ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَآءِيلَ ﴾
[ الشُّعَرَاء : ٥٩ ].
وقوله تعالى :﴿ يأخذوا بأحسنها ﴾ قال الورتجبي : يأخذون بأبينها لهم، وهي المحكمات التي توجب العبودية، ويأخذون بمتشابهها التي هي وصف الصفات بحسن الاعتقاد والتسليم فيها، لأن علومها وحقائقها لا تكشف إلا للربانيين. قال تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالْرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [ آل عِمرَان : ٧ ] الآية. هـ. وقوله تعالى :﴿ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض ﴾. قال القشيري : سأحرِمُ المتكبرين بركة الاتباع، حتى لا يتلقوا الآيات التي يُكاشَفَون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يُخَاطَبُون به بسمع الإيمان. هـ.
﴿ سَأصرِفُ عن آياتي ﴾ المنصوبة في الآفاق والأنفس الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا من عجائب المصنوعات فلا يتفكرون فيها، أو القرآن وغيره من الكتب، أصرفُ عنها ﴿ الذين يتكبّرون في الأرض ﴾ بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها، ولا يعتبرون، ولا يؤمنون بها، عقوبة لهم على تكبرهم، وقيل : الصرف : منعهم من إبطالها وإطفاء نورها، وإن اجتهدوا، كما فعل فرعون وغيره، فعاد عليهم بإعلائها وإظهار نورها، وذلك التكبر صدر منهم ﴿ بغير الحق ﴾ أي : تكبروا بما ليس بحق، وهو دينهم الباطل.
﴿ وإن يروا كل آية ﴾ مُنزلةٍ أو معجزة ﴿ لا يُؤمنوا بها ﴾ لعنادهم، واختلال نظرهم، بسبب انهماكهم في الهوى وحب الجاه، ﴿ وإن يَرَوا سبيل الرُّشد ﴾ أي : طريق الصواب والحق ﴿ لا يتخذوه سبيلاً ﴾ لاستيلاء الشيطان عليهم، ﴿ وإن يَرَوا سبيلَ الغيِّ ﴾ أي : الظلال ﴿ يتخذوه سبيلاً ﴾ أي : يسلكونه ويتبعونه، لأن سجيتهم الضلال، ﴿ ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ﴾ أي : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم الآيات.
وقوله تعالى :﴿ يأخذوا بأحسنها ﴾ قال الورتجبي : يأخذون بأبينها لهم، وهي المحكمات التي توجب العبودية، ويأخذون بمتشابهها التي هي وصف الصفات بحسن الاعتقاد والتسليم فيها، لأن علومها وحقائقها لا تكشف إلا للربانيين. قال تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالْرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [ آل عِمرَان : ٧ ] الآية. هـ. وقوله تعالى :﴿ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض ﴾. قال القشيري : سأحرِمُ المتكبرين بركة الاتباع، حتى لا يتلقوا الآيات التي يُكاشَفَون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يُخَاطَبُون به بسمع الإيمان. هـ.
وقوله تعالى :﴿ يأخذوا بأحسنها ﴾ قال الورتجبي : يأخذون بأبينها لهم، وهي المحكمات التي توجب العبودية، ويأخذون بمتشابهها التي هي وصف الصفات بحسن الاعتقاد والتسليم فيها، لأن علومها وحقائقها لا تكشف إلا للربانيين. قال تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالْرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [ آل عِمرَان : ٧ ] الآية. هـ. وقوله تعالى :﴿ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض ﴾. قال القشيري : سأحرِمُ المتكبرين بركة الاتباع، حتى لا يتلقوا الآيات التي يُكاشَفَون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يُخَاطَبُون به بسمع الإيمان. هـ.
﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِيا أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾
قلت :﴿ عِجلاً ﴾ : مفعول أول لاتخذ، و﴿ جسدًا ﴾ : بدل منه، وحذف الثاني أي :" إلهًا " لدلالة أوله، و﴿ له خوار ﴾ : نعت له.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ واتخذ قُوم موسى من بعده ﴾ أي : من بعد ذهابه للميقات، ﴿ من حُليَّهم ﴾ التي كانوا استعاروها من القبط، حين هموا بالخروج من مصر، وإضافتها إليهم ؛ لأنها كانت تحت أيديهم، فصنع لهم منها السامري ﴿ عِجلاً جسدًا ﴾ بلا روح، فألقى في جوفه من تراب أثر فرس جبريل، فصار ﴿ له خُوارٌ ﴾، فقال لهم :﴿ هذا إلهكم وإله موسى ﴾، فعكفوا على عبادته، واتخذوه إلهًا.
قال تعالى :﴿ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ﴾ أي : ألم يروا، حين اتخذوه إلهًا، أنه لا يقدر على كلام، ولا على إرشاد سبيل، كآحاد البشر، حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر، وهذا تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر. قال تعالى :﴿ اتخذوه ﴾ إلهًا ﴿ وكانوا ظالمين ﴾ في اتخاذه، وضعوا الأشياء في غير محلها، أي : كانت عادتهم الظلم، فلم يكن اتخاذ العجل بدعًا منهم.
﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
الإشارة :﴿ بئسما ﴾ :" ما " نكرة موصوفة : تمييز، تفسير للضمير المستكن في ( بئس )، والمخصوص : محذوف، أي : بئس شيئًا خلفتموني خلافتكم هذه، و﴿ ابن أم ﴾ : منادى مضاف، منصوب بفتحة مقدرة قبل ياء المتكلم، وأصله : ابن أمي، فحذفت الياء، وفتحت الميم تخفيفًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولما رجعَ موسى ﴾ من ميقاته ﴿ إلى قومه غضبان ﴾ على قومه، ﴿ أسِفًا ﴾ أي : حزينًا عليهم حيث ضلوا، ﴿ قال ﴾ لهم، أو لأخيه ومن معه من المؤمنين :﴿ بئسما خلفتُموني من بعدي ﴾ أي : من بعد انطلاقي إلى المناجاة، ﴿ أعَجِلتُم أمرَ ربكم ﴾ أي : أسابقتم قضاء ربكم ووعده، واستعجلتم إتياني قبل الوقت الذي قدَّر فيه، أو أعجلتم عقوبة ربكم وإهلاكه لكم حيث عبدتم غيره.
﴿ وألقى الألواحَ ﴾ ؛ طرحها من شدة الغضب حمية للدين، رُوِي أن التوراة كانت سبعة أسفار في سبعة ألواح، فلما ألقاها انكسرت، فرفع ستةَ أسبَاعِها، وكان فيها تفصيل كل شيء، وبقي سُبعٌ كان فيه المواعظ والأحكام، ﴿ وأخذَ برأسِ أخيه ﴾ : بشعر رأسه ﴿ يَجرُّه إليه ﴾ ؛ توهمًا في أنه قصَّر في زجرهم، وهارونُ كان أكبر منه بثلاث سنين، وكان حمولاً لَيِّنًا، ولذلك كان أحبَّ إلى بني إسرائيل، ولما رأى هارونُ ما يفعل به أخروه ﴿ قال ابنَ أُمَّ ﴾ ؛ ذكر الأم ليرقّقه، وكان شقيقًا له، ﴿ إنَّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ﴾ حين أنكرتُ عليهم، فقد بذلتُ جهدي في كفهم، وقهروني حتى قاربوا قتلي، فلم أُقَصِّر، ﴿ فلا تُشمت بي الأعداء ﴾ ؛ فلا تفعل بي ما يشمتون بي، أي : يستشفون بي لأجله، ﴿ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾ معدودًا في عدادهم بالمؤاخذة، أو نسبة التقصير.
وحاصله : أن المُرادين هم قوم مخصوصون، ملطوف بهم، محمول عنهم، ومنه :
﴿ ومَا كُنتَ تَرْجُوَاْ أَن يُلْقَىَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَّبِكَ ﴾ [ القَصَص : ٨٦ ] فقد خُص ـ عليه الصلاة والسلام ـ بما لم يخطر على باله قبل النبوة.
قال الهروي : والمراد : ثلاث درجات : الدرجة الأولى : أن يُعصمَ العبد وهو مستشرف للجفا ؛ اضطرارًا بتنغيص الشهوات وتعويق الملاذ، وسد مسالك المعاطب عليه، إكرامًا، والدرجة الثانية : أن توضع عن العبد عوارض النقص، ويعافيه من سمة اللائمة، ويملكه عواقب الهفوات، كما فعل لسليمان عليه السلام في قتل الخيل ؛ حمله على الريح الرُخاء، فأغناه عن الخيل، وكما فعل لموسى عليه السلام ؛ حين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه لم يعتب عليه كما عتب على آدم ونوح وداود ويونس ـ عليهم السلام ـ. هـ.
قال شارحه الإمام عبد المعطي السكندري : وهذه الدرجة أتم في الحمل على الأعمال وركوب الأهوال، والتلطف في تعليم الإقبال مما قبلها، فإن ما قبلها منعٌ من الشهوات وصيانة عن الآفات ؛ جبرًا وقهرًا وحفظًا، وهذا حفظ عنها ؛ بإظهار صفح برفق وإكرام ولطف، فتقوى المحبة في القلب، فيحمل ذلك على سرعة الموافقة، ومتى عرف العبد تقصيره في حق مولاه، ورأى مع ذلك تجاوزه عنه، وإحسانه إليه، فضلاً عن ترك مؤاخذته بما جناه، انغرس في قلبه محبته، وقوى بذلك نشاطه، وخفت عليه الأعمال، وقويت منه الأحوال، فكلاهما محفوظ مُعَان، إلا أن الأول قهر مع تعلقه، وهذا إكرام ولطف بعد جريان هفوته، ثم ذكر الدرجة الثالثة، فانظره. هـ. بنقل المحشي.
وحاصله : أن المُرادين هم قوم مخصوصون، ملطوف بهم، محمول عنهم، ومنه :
﴿ ومَا كُنتَ تَرْجُوَاْ أَن يُلْقَىَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَّبِكَ ﴾ [ القَصَص : ٨٦ ] فقد خُص ـ عليه الصلاة والسلام ـ بما لم يخطر على باله قبل النبوة.
قال الهروي : والمراد : ثلاث درجات : الدرجة الأولى : أن يُعصمَ العبد وهو مستشرف للجفا ؛ اضطرارًا بتنغيص الشهوات وتعويق الملاذ، وسد مسالك المعاطب عليه، إكرامًا، والدرجة الثانية : أن توضع عن العبد عوارض النقص، ويعافيه من سمة اللائمة، ويملكه عواقب الهفوات، كما فعل لسليمان عليه السلام في قتل الخيل ؛ حمله على الريح الرُخاء، فأغناه عن الخيل، وكما فعل لموسى عليه السلام ؛ حين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه لم يعتب عليه كما عتب على آدم ونوح وداود ويونس ـ عليهم السلام ـ. هـ.
قال شارحه الإمام عبد المعطي السكندري : وهذه الدرجة أتم في الحمل على الأعمال وركوب الأهوال، والتلطف في تعليم الإقبال مما قبلها، فإن ما قبلها منعٌ من الشهوات وصيانة عن الآفات ؛ جبرًا وقهرًا وحفظًا، وهذا حفظ عنها ؛ بإظهار صفح برفق وإكرام ولطف، فتقوى المحبة في القلب، فيحمل ذلك على سرعة الموافقة، ومتى عرف العبد تقصيره في حق مولاه، ورأى مع ذلك تجاوزه عنه، وإحسانه إليه، فضلاً عن ترك مؤاخذته بما جناه، انغرس في قلبه محبته، وقوى بذلك نشاطه، وخفت عليه الأعمال، وقويت منه الأحوال، فكلاهما محفوظ مُعَان، إلا أن الأول قهر مع تعلقه، وهذا إكرام ولطف بعد جريان هفوته، ثم ذكر الدرجة الثالثة، فانظره. هـ. بنقل المحشي.
وحاصله : أن المُرادين هم قوم مخصوصون، ملطوف بهم، محمول عنهم، ومنه :
﴿ ومَا كُنتَ تَرْجُوَاْ أَن يُلْقَىَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَّبِكَ ﴾ [ القَصَص : ٨٦ ] فقد خُص ـ عليه الصلاة والسلام ـ بما لم يخطر على باله قبل النبوة.
قال الهروي : والمراد : ثلاث درجات : الدرجة الأولى : أن يُعصمَ العبد وهو مستشرف للجفا ؛ اضطرارًا بتنغيص الشهوات وتعويق الملاذ، وسد مسالك المعاطب عليه، إكرامًا، والدرجة الثانية : أن توضع عن العبد عوارض النقص، ويعافيه من سمة اللائمة، ويملكه عواقب الهفوات، كما فعل لسليمان عليه السلام في قتل الخيل ؛ حمله على الريح الرُخاء، فأغناه عن الخيل، وكما فعل لموسى عليه السلام ؛ حين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه لم يعتب عليه كما عتب على آدم ونوح وداود ويونس ـ عليهم السلام ـ. هـ.
قال شارحه الإمام عبد المعطي السكندري : وهذه الدرجة أتم في الحمل على الأعمال وركوب الأهوال، والتلطف في تعليم الإقبال مما قبلها، فإن ما قبلها منعٌ من الشهوات وصيانة عن الآفات ؛ جبرًا وقهرًا وحفظًا، وهذا حفظ عنها ؛ بإظهار صفح برفق وإكرام ولطف، فتقوى المحبة في القلب، فيحمل ذلك على سرعة الموافقة، ومتى عرف العبد تقصيره في حق مولاه، ورأى مع ذلك تجاوزه عنه، وإحسانه إليه، فضلاً عن ترك مؤاخذته بما جناه، انغرس في قلبه محبته، وقوى بذلك نشاطه، وخفت عليه الأعمال، وقويت منه الأحوال، فكلاهما محفوظ مُعَان، إلا أن الأول قهر مع تعلقه، وهذا إكرام ولطف بعد جريان هفوته، ثم ذكر الدرجة الثالثة، فانظره. هـ. بنقل المحشي.
وحاصله : أن المُرادين هم قوم مخصوصون، ملطوف بهم، محمول عنهم، ومنه :
﴿ ومَا كُنتَ تَرْجُوَاْ أَن يُلْقَىَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَّبِكَ ﴾ [ القَصَص : ٨٦ ] فقد خُص ـ عليه الصلاة والسلام ـ بما لم يخطر على باله قبل النبوة.
قال الهروي : والمراد : ثلاث درجات : الدرجة الأولى : أن يُعصمَ العبد وهو مستشرف للجفا ؛ اضطرارًا بتنغيص الشهوات وتعويق الملاذ، وسد مسالك المعاطب عليه، إكرامًا، والدرجة الثانية : أن توضع عن العبد عوارض النقص، ويعافيه من سمة اللائمة، ويملكه عواقب الهفوات، كما فعل لسليمان عليه السلام في قتل الخيل ؛ حمله على الريح الرُخاء، فأغناه عن الخيل، وكما فعل لموسى عليه السلام ؛ حين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه لم يعتب عليه كما عتب على آدم ونوح وداود ويونس ـ عليهم السلام ـ. هـ.
قال شارحه الإمام عبد المعطي السكندري : وهذه الدرجة أتم في الحمل على الأعمال وركوب الأهوال، والتلطف في تعليم الإقبال مما قبلها، فإن ما قبلها منعٌ من الشهوات وصيانة عن الآفات ؛ جبرًا وقهرًا وحفظًا، وهذا حفظ عنها ؛ بإظهار صفح برفق وإكرام ولطف، فتقوى المحبة في القلب، فيحمل ذلك على سرعة الموافقة، ومتى عرف العبد تقصيره في حق مولاه، ورأى مع ذلك تجاوزه عنه، وإحسانه إليه، فضلاً عن ترك مؤاخذته بما جناه، انغرس في قلبه محبته، وقوى بذلك نشاطه، وخفت عليه الأعمال، وقويت منه الأحوال، فكلاهما محفوظ مُعَان، إلا أن الأول قهر مع تعلقه، وهذا إكرام ولطف بعد جريان هفوته، ثم ذكر الدرجة الثالثة، فانظره. هـ. بنقل المحشي.
﴿ وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لما سكت ﴾ أي : سكن ﴿ عن موسى الغضبُ ﴾ ؛ لَمَّا كان الغضب هو الحامل له على ما فعل صار كأنه كان يأمره به ويغريه عليه، حتى عبَّر عن سكونه بالسكوت، أي : لما سكن غضبه ﴿ أخذَ الألواحَ ﴾ التي ألقاها، ﴿ وفي نُسختها ﴾ أي : وفيما نسخ فيها، أي : كُتب ﴿ هُدَىً ورحمة ﴾ أي : بيان للحق وإرشاد إلى الصلاح والخير، ﴿ للذين هم لربهم يرهبون ﴾ أي : للذين يخافون ربهم ويهابونه ؛ هم المنتفعون بها، ودخلت اللام في المفعول ؛ لضعف العامل بتأخره.
الإشارة : الغضب لأجل النفس يُفسد الإيمان، كالحنظل مع العسل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام للذي قال له : أوصني، قال :" لا تَغضَب "، ثم كرر عليه : أوصني، قال :" لا تَغضَب "، ثلاثًا، لأن الغضب المفرط يغطي نور العقل، فيصدر من صاحبه أمور منكرة، قد يخرج بها عن الإيمان بالكلية، وقد يؤدي إلى قتل نفسه والعياذ بالله، والغضب معيار الصوفية ؛ قال بعضهم : إذا أردت أن تعرف الرجل فغضبه وانظر ما يخرج منه، إلى غير ذلك مما ورد فيه، فإن كان غضبه لله أو بالله فلا كلام عليه، وهو حال الأنبياء وأكابر الأولياء رضي الله عنهم.
﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ واختارَ موسى قومه ﴾ من قومه ﴿ سبعين رجلاً ﴾ يعتذرون عن قومهم في عبادة العجل، ﴿ لميقاتنا ﴾ الذي وقتنا لهم يأتون إليه، وقيل : إن الله تعالى أمره به بأن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فاختار من كل سبط ستةً، فزاد على السبعين اثنان، فقال : يتخلف منكم رجلان، فتشاجروا، فقال : إن لِمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع، وذهب معه الباقون، فلما دنوا من الجبل غشية غمام، فدخل موسى بهم الغمام وخروا سُجدًا، فسمعوه يكلم موسى، يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام، فأقبلوا إليه، وقالوا :﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ﴾ [ البَقَرَة : ٥٥ ]، ﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ أي : الصعقة، أو رجفة الجبل، عقابًا لهم على قولهم، فصعقوا منها، يحتمل أن تكن رجفة موت أو إغماء. والأول أظهر ؛ لقوله :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ [ البَقَرَة : ٥٦ ].
﴿ فلما أخذتهُم الرّجفَةُ قال ﴾ موسى :﴿ ربِّ لو شئتَ أهلكتَهم من قبل وإيّايَ ﴾، تمنى هلاكهم وهلاكه قبل ذلك الوقت، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه، إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين، ربما قالوا : عرّضهم للهلاك، أو يكون قال ذلك على وجه الاستسلام والانقياد للقضاء، أي : لو شئت أن تُهلكنا من قبل ذلك لفعلت، فإنا عبيدك وتحت قهرك تفعل بنا ما تشاء، أو يكون قاله على وجه التضرع والرغبة، أي : لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت، لكنك عافيتنا وأنقذتنا وأغرقت عدونا، فافعل بنا الآن كما عودتنا، وأحيي هؤلاء الذي أمتهم، إذ ليس ببعيد من عميم إحسانك، ﴿ أَتُهلِكُنا بما فعلَ السفهاءُ منّا ﴾ من العناد والتجاسر على طلب الرؤية، أو بما فعل السفهاء من عبادة العجل.
﴿ إن هي إلا فتنتُك ﴾ أي : ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك، حتى طمعوا في الرؤية، أو فتنتك لهم بأن أجريت الصوت من العجل حتى افتتنوا به، وهذا اعتراف بالقدر، ورجوع إلى قوله :﴿ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ ﴾ [ طه : ٨٥ ] الآية، ولذلك قيل : إنه قال له تعالى : نعم هي فتنتي يا حكيم الحكماء. ه. أي : ما هذه الأمور كلها التي صدرت من بني إسرائيل إلا فتنتك ﴿ تُضلَّ بها من تشاء ﴾ ضلالته، باتباع المخايل، ﴿ وتهدي من تشاء ﴾ هدايته، فيقوي بها إيمانه، وهو اعتذار عن فعل السفهاء فإنه كان بقضاء الله ومشيئته.
﴿ أنت وليُّنا ﴾ القائم بأمرنا، أو ناصرنا من الوقوع في أسباب المهالك، ﴿ فاغفر لنا ﴾ ما قارفنا من الذنوب، ﴿ وارحمنا ﴾ أي : اعصمنا من الوقوع في مثله، ﴿ وأنت خير الغافرين ﴾ ؛ تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في جواب سيدنا موسى عليه السلام :﴿ قال عذابي أُصيب به من أشاءُ ﴾ ممن أخذّته الرجفة وغيرهم، ﴿ ورحمتي وَسِعت كلَّ شيء ﴾ في الدنيا للمؤمنين والكافرين، وفي الآخرة مخصوصة بالمؤمنين، ﴿ فسأكتبها ﴾ كتابة خاصة لا تليق بكم يا بني إسرائيل، إنما تليق بالأمة المحمدية الموسومة بالآداب المرضية، الذين ﴿ يتقون ﴾ الكفر والمعاصي، وإن وقعت هفوة بادروا إلى التوبة، ﴿ ويُؤتون الزكاة ﴾، خصصها بالذكر لأنها كانت أشق عليهم. ﴿ والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾ فلا يكفرون بشيء منها، بل يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء، وليس ذلك لغيرهم. ولذلك خصهم الله بهذه الرحمة ؛ فَنَصرَهم على جميع الأمم، وأعلى دينهم على جميع الأديان، ومكّن لهم ما لم يمكن لغيرهم.
﴿. . . قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
﴿ الذين يتبعون الرسول ﴾ صلى الله عليه وسلم ﴿ النبي الأميَّ ﴾ وهو نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وكونه أُميًّا شرفٌ له، إذ الكتابة وسيلة للعلوم، وقد أُعطي منها ما لم يُعطَ أحَدٌ من العالمين، من غير تعب تعلمها، ولارتفاع الارتياب في نبوته صلى الله عليه وسلم، فهي من جملة معجزاته ؛ قال تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ. . . ﴾ [ العَنكبوت : ٤٨ ] الآية. قال بعضهم : لما قال الله تعالى :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ طمع فيها كل أحد، حتى إبليس، فلما قال :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ﴾ يئس إبليس، وبقيت اليهود والنصارى، فلما قال :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ ﴾ يئس اليهود والنصارى. ه.
﴿ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل ﴾ اسمًا وصفة، ونص ما في التوراة على ما في صحيح البخاري، عن عبد الله بن سلام :" يا أيُّهَا النَبِيُّ إنَّا أرسلَنَاكَ شَاهِدًا ومُبَشَّرًا ونَذِيرًا، وحِرزًا للأمِّيينَ، أنتَ عَبدِي ورَسُولِي، سَمَّيتُكَ المُتَوكلَ، لِيسَ بفظٍ ولا غليظ ولا صَخَّابِ في الأسوَاقُ، ولا يُجَازِي بالسَّيِّئةَ السَّيِّئة، ولكِن يَعَفُو ويَصفَحُ، ولَن يَقبِضَهُ الله حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوجاءَ ؛ بِأن يَقُولُوا : لا إله إلاَّ الله، فَيفَتَح بِها أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلُوبًا غُلفًا١ ".
ومما في التوراة أيضًا، وهو مما أجمع عليه أهل الكتاب، وهو باق في أيديهم إلى الآن ؛ أن الملك قد نزل على إبراهيم، فقال له : في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق، فقال إبراهيم : يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك، فقال الله لإبراهيم : ذلك لك، قد استجيب لك في إسماعيل، وأنا أباركه، وأنميه، وأكثره، وأعظمه بما ذماذ، وتفسيره : محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك مما في التوراة أيضًا : أن الرب تعالى جاء من طور سيناء، وطلع على " ساغين "، وظهر من جبل فاران، ويعني طور سيناء : موضع مناجاة موسى، وساغين موضع عيسى، وفاران هي مكة، موضع مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي التوراة أيضًا : أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة، تراءى لها ملكٌ، فقال لها : يا هاجر، أين تريدين، ومن أين أقبلتِ ؟ فقالت : أهرب من سيدتي سارة، فقال لها : يا هاجر، ارجعي إلى سارة، وستحملين وتلدين ولدًا اسمه إسماعيل، وهو يكون عَين الناس، وتكون يده فوق الجميع، وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع. ه.
وهذا الذي وعدها الملك إنما ظهر بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وظهور دينه وعلو مكانه، ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره من أولاده، لكن الأصل يشرف بشرف فرعه، وفي التوراة أيضًا : أن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام : قد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه، وسيلد اثني عشر عظيمًا، وأجعله لأمة عظيمة. وفي بعض كتبهم : لقد تقطعت السماء من بهاء مُحمدٍ المحمود، وامتلأت الأرض من حمده، لأنه ظهر بخلاص أمته. ه. ونص ما في الإنجيل : أن المسيح قال للحواريين : إني ذاهب عنكم، وسيأتيكم الفارقَليط، الذي لا يتكلم من قِبل نفسه، إنما يقول كما يقال له. ه. والفارقليط بالعبرانية : اسم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل معناه : الشافع المشفع.
وعن شَهر بن حَوشبٍ في قصة إسلام كعب الأحبار، وهو من اليمن من حمير : أن كعبًا أخبره بأمره، وكيف كان ذلك، وكان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل ظهوره، قال كعب : وكان أبي من أعلم الناس بالتوراة وكُتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عني شيئًا مما كان يعلم، فلما حضرته الوفاة دعاني فقال : يا بني، قد علمتَ أني لم أكن أدخر عنك شيئًا مما كنتُ أعلم، إلا أني حَبَستُ عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يُبعث، وقد أطل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك، فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكاذبين فتتبعه، وقد قطعتهما من كتابي، وجعلتهما في هذه الكوة التي ترى، وطينت عليهما، فلا تتعرض لهما حتى يخرج هذا النبي، فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما، فإن الله تعالى يزيدك بهذا خيرًا، فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إليّ من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين، فإذا فيهما :" محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين لا نبي بعده، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمَّادون، الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال، وتُذلل ألسنتهم بالتكبير، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء، ويتأزرون على أوساطهم، وأنَاجِيلُهُم في صدورهم، ويأكلون قربانهم في بطونهم، ويؤجرون عليها، وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون المقربون، والشافعون المشفع فيهم " ٢. ثم أسلم على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في بقية أوصاف نبينا عليه الصلاة والسلام :﴿ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحِلُّ لهم الطيبات ﴾ مما حرم على اليهود ؛ كالشحوم وغيرها، ﴿ ويُحرَّم عليهم الخبائث ﴾ كالدم والحم الخنزير وسائر الخبائث، أو كالربا والرشوة وغيرهما من المحرمات. قال ابن جزي : مذهب مالك أن الطيبات هي الحلال، وأن الخبائث هي الحرام. ومذهب الشافعي : أن الطيبات هي المستلذات، إلا ما حرمه الشرع منها، كالخمر والخنزير، وأن الخبائث هي المستقذرات كالخنافس والعقارب. ه.
﴿ ويضعُ عنهم إصرَهم ﴾ أي : الثقل الذي عليهم، وهو مثال لما كُلفوا به أي : بنو إسرائيل في شرعهم من المشقات ؛ كقتل الأنفس في التوبة، وقطع موضع النجاسة من الثوب، وتعيين القصاص في العمد والخطأ. ﴿ والأغلال التي كانت عليهم ﴾ ؛ عبارة عما منعت منه شريعتهم، كتحريم الشحوم، وتحريم العمل يوم السبت وشبه ذلك. ﴿ فالذين آمنوا به وعزّرُوه ﴾ أي : منعوه وحفظوه من عدوه، حتى لا يقوى عليه، أو عظموه بالتقوية حتى انتصر، وأصله : المنع، ومنه التعزير، ﴿ ونصروه ﴾ حتى أظهروا دينه في حياته وبعد مماته، ﴿ واتبعوا النورَ الذي أُنزل معه ﴾ وهو القرآن، وإنما سماه نورًا ؛ لأنه بإعجازه ظاهر أمره ومظهر غيره، أو لأنه كاشف للحقائق مظهر لها.
﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ الفائزون بالرحمة الأبدية، وهذا آخر جواب سيدنا موسى عليه السلام.
الإشارة : قوله تعالى ﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾، قال القشيري : لم يُعَلَّقها بالمشيئة يعني : كما قال في العذاب لأنها نفس المشيئة، ولأنها قديمة، والإرادة لا تتعلق بالقديم، فلمَّا كان العذاب من صفات الفعل علَّقه بالمشيئة، بعكس الرحمة لأنها من صفات الذات. ويقال في قوله تعالى :﴿ وسعت كل شيء ﴾ : مجالٌ لآمال العُصَاة ؛ لأنهم، وإن لم يكونوا من جملة المطيعين العابدين والعارفين، فيهم " شيء ". ه.
قلت : وبهذا العموم تشبث إبليس في قضية له مع سهل، وذلك أنه لما تراءى له، ضحك، فقال له : كيف تضحك وقد أبلست من رحمة الله ؟ فقال له : قال تعالى :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ وأنا شيء فسكت سهل، ثم تذكر تما الآية، فقال : قال تعالى :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ﴾، فهي مُقيدة لا مطلقة، فقال له : التقوى فعل العبد، والرحمة صفة الرب، ولا يتغير وصف الحق بفعل العبد، فعجز سهل.
قلت : والجواب : أن إبليس جاء من جهة الفرق، ولو نظر للجمع لوجد الرحمة وصفه، والتقوى فعله، وفعله يغير وصفه، والكل منه وإليه. والله تعالى أعلم.
وقال الورتجبي : جميع الخلائق مستغرقون في بحر الرحمة، لأن إيجاد الحق إياهم، على أي : وصف كانوا، عين رحمته، حيث دخلوا تحت نظره وسلطانه وربوبيته، ومباشرة قدرته فيهم، ثم إن الخلق بالتفاوت في الرحمة فالجمادات مستغرقة في نور فعله، وهي الرحمة الفعلية، والحيوانات مستغرفة في نور صفاته، وهي الرحمة الصفاتية، والعقلاء من الجن والإنس والملائكة مستغرقون في نور ذاته، وهي الرحمة القديمة الذاتية من جهة تعريفهم ربوبيته ووحدانيته، وهم من جهة الأجسام وما يجري عليها، في الرحمة العامة، ومن جهة الأرواح وما يجري عليها، في الرحمة الخاصة، وهم فيها بالتفاوت، فبعضهم في رؤية العظمة ذابوا، وبعضهم في رؤية القدم والبقاء تاهوا، وبعضهم في رؤية الجلال والجمال عشقوا وطاشوا، ومن خرج من مقام الرحمة إلى أصل الصفة، ومن الصفة إلى أصل الذات استغرق في الراحم، وفنى عن الرحمة، فصار رحمة للعالمين، وهذا وصف نبينا عليه الصلاة والسلام، لأنه وصل بالكل إلى الكل، فوصفه برحمة الكل بقوله :
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إَلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبيَاء : ١٠٧ ]، ثم خص رحمته الخاصة الصفاتية، بعد أن عم الكل برحمته العامة للمنفردين بالله عن غير الله، القانتين بعظمته في عظمة الذين بذلوا وجوههم لحق ربوبيته عليهم بقوله :﴿ فسأكتبها للذين يتقون. . . ﴾. ه.
قال في الحاشية : واعتبر قوله :﴿ فسأكتبها ﴾، فإنه يقتضي كون الرحمة السابقة مطلقة، والتغيير طارئ، والطارئ لا ينافي الذات.
قلت : فتكون على هذا الرحمة التي وسعت كل شيء رحمة عامة، إذ لا يخلو مخلوق من رحمته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فالخلق كلهم مرحومون إيجادًا وإمدادًا، وأما في الآخرة فما من عذاب إلا والله أشد منه في قدرته، والرحمة التي كتبت للمتقين رحمة خاصة، ويدل على هذا ما في القوت٣ على قوله :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ﴾، قال : معناه خصوص الرحمة وصفوها لا كلها، إذ لا نهاية للرحمة، لأنها صفة الراحم الذي لا حد له، ولأنه لم يخرج من رحمته شيء، كما لم يخرج من حكمته وقدرته شيء. ه.
وقال السيوطي : فسأكتبها في الآخرة، ووجه تخصيصها في الآخرة بالمؤمنين : تمحضها هنالك من غير شوب بضد، ولا كذلك في الدنيا، وإن كانت غالبة، والكافر عمته في الدنيا عمومًا ظاهرًا، وسلب منها في الآخرة بحسب الظاهر، وإن لم يخل عنها في الجملة، لأن عضبه تعالى لا حدّ له لولا رحمته.
وحاصله : أنه لم تفي جهنم بغضبه، لأنه لا يفي المتناهي بغير المتناهي ورحمته عمت الك
٢ أخرجه الدارمي في المقدمة، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم..
٣ القوت: هو كتاب القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد" لأبي طالب محمد بن علي بن عطية العجمي ثم المكي المتوفى سنة ٣٨٦هـ(انظر كشف الظنون ٢/١٣٦١)..
﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد :﴿ يا أيها الناس إَني رسولُ الله إليكم جميعًا ﴾ ؛ الأحمر والأسود، والعرب والعجم، والإنس والجن، خص بهذه الدعوة العامة، وإنما بعثت الرسل إلى قومها خاصة. فادع الناس أيها الرسول إلى الله تعالى، ﴿ الذي له ملك السماوات والأرض ﴾ يتصرف فيهما كيفما شاء، ﴿ لا إله إِلا هو ﴾ ؛ لأن من ملك العالم كان هو الإله لا غير، ﴿ يُحيي ويميت ﴾ ؛ لعموم قدرته ونفوذ أمره، ﴿ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمي الذي يُؤمن بالله وكلماته ﴾ أي : ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل قبله من كتبه ووحيه. وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة، أي : لم يقل : فآمنوا بالله وآمنوا ؛ لإجراء هذه الصفات عليه، الداعية إلى الإيمان به وأتباعه، ولذلك قال :﴿ واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾ إلى طريق الحق والرشد، جعل رجاء الاهتداء آثر الأمرين ؛ تنبيهًا على أن من صدّقه، ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة. قاله البيضاوي.
الإشارة : لا غنى للمريد عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو بلغ ما بلغ، لقوله تعالى :﴿ واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾، وغاية الاهتداء غير متناهية، لأن أدب العبودية مقرونٌ مع عظمة الربوبية، فكما أن الترقي في مشاهدة الربوبية لا نهاية له، كذلك أدب العبودية لا نهاية له، ولا تُعرف كيفية الأدب إلا بواسطة تعليمه عليه الصلاة والسلام، فواسطة النبي صلى الله عليه وسلم لا تفارق العبد، ولو عرف ما عرف، وبلغ ما بلغ. والله تعالى أعلم.
﴿ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن قوم موسى ﴾، يعني بني إسرائيل، ﴿ أمةٌ ﴾ طائعة ﴿ يهدون ﴾ الناس بكلمة الحق، أو متلبسين ﴿ بالحق ﴾ ؛ وهم الذين ثبتوا حين افتتن الناس بعبادة العجل، والأحبار الذين تمسكوا بالتوراة من غير تحريف، أو الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ وبه ﴾ أي : بالحق ﴿ يعدِلُون ﴾ في أحكامهم وقضاياهم. قال البيضاوي : أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن ؛ تنبيهًا على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر. ه.
الإشارة : في كل أمة، وفي كل عصر، أمة صالحة، يُبَصِّرُونَ الناس بالحق، ويدعون إلى الله، فمنهم مَن يهدي إلى تزيين الظواهر بالشرائع، وهم العلماء الأتقياء، ومنهم من يَهدي إلى تنوير السرائر بالحقائق، وهم الصوفية الأولياء، المحققون بمعرفة الله. وبالله التوفيق.
﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
قلت :﴿ أسباطًا ﴾ : بدل لا تمييز ؛ لأن تمييز العدد يكون مفردًا، والتمييز محذوف، أي : فرقة أسباطًا. وقال الزمخشري : يصح تمييزًا ؛ لأن كل قبيلة أسباطٌ لا سبط. ه. فكأنه قال : وقطعناهم اثنتي عشر سبطًا سبطا. والسبط في بني إسرائيل كالقبيلة عند العرب، و﴿ أُممًا ﴾ : بدل بعد بدل على الأول، وعلى الثاني بدل من أسباط.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقطَّعناهم ﴾ أي : بني إسرائيل : فرقناهم ﴿ اثنتي عشر أسباطًا ﴾ ؛ أثني عشر سبطًا، ﴿ أُممًا ﴾ : متميزة، كل سبط أمة مستقلة، ﴿ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه ﴾ في التيه، ﴿ أن اضرب بعصاك الحجر فانبجَست ﴾ ؛ انفجرت، إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار، أي : فضرب فانبجست، وحذفه للإيماء إلى أن موسى لم يتوقف في الامتثال، وأن ضربه لم يكن مؤثرًا يتوقف عليه الفعل ذاته، بل سبب عادي وحكمة جارية، والفعل إنما هو القدرة الإلهية، أي : نبعت ﴿ منه اثنتا عشرةَ عينًا قد علم كلُّ أُناس ﴾ ؛ كل سبط ﴿ مشربهم وظلّلنا عليهم الغمام ﴾ لتقيهم من حرّ الشمس، ﴿ وأنزلنا عليهم المنَّ والسلوى ﴾، وقلنا لهم :﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ سبق في سورة البقرة، وكذلك الإشارة١.
﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ إذ قيلَ ﴾ لبني إسرائيل :﴿ اسكنوا هذه القرية ﴾ ؛ بيت المقدس، ﴿ وكُلوا منها حيث شئتم وقولوا ﴾ : أمرنا ﴿ حِطةٌ وادخلوا الباب سُجّدًا ﴾ سجود انحناء، ﴿ نغفر لكم خطيئاتِكم ﴾ التي سلفت، ﴿ سنزيد المحسنين ﴾ ؛ وعد بالغفران والزيادة عليه، وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف، يعني : سنزيد، ولم يقل : وسنزيد ؛ للدلالة على أنه تفضل محض، ليس في مقابلة ما أمروا به.
تنبيه : وقع اختلاف كثير في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين سورة البقرة، في ﴿ انفجرت ﴾ و﴿ انبجست ﴾، وقوله :﴿ وإذ قلنا ادخلوا ﴾ و﴿ إذا قيل لهم اسكنوا ﴾، وقوله هنا :﴿ وكُلُوا ﴾، وهناك ﴿ فكُلُوا ﴾. فقال الزمخشري : لا بأس باختلاف العبارتين، إذا لم يكن هناك تناقض. ووجّه بعضهم الفرق بأن ما في هذه السورة سيق في محل الغضب والعقاب على عبادة العجل، وما في سورة البقرة سيق في محل الامتنان، فلذلك عبَّر هنا بانبجست ؛ لأنه أقل من انفجرت، وعبَّر هنا بقيل ؛ مبنيًا للمجهول ؛ تحقيرًا لهم أن يذكر نفسه لهم، وعبَّر هنا بالسكنى ؛ لأنه أشق من الدخول ويستلزمه، وعبَّر هنا بالواو ؛ لأن السكنى تجامع الأكل، بخلاف الدخول، فإن الأكل مسبب عنه، فعبَّر بالفاء، وزاد في البقرة الواو في :﴿ سنزيد ﴾، كأنه نعمة أخرى، بخلاف هذا، وزاد هنا ﴿ منهم ﴾ ؛ لتقدم ذكرهم في قوله :﴿ وإذ قيل لهم ﴾، وعبّر هنا بالظلم ؛ لأنه أعم من الفسق وغيره. والله تعالى أعلم.
﴿ وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُواءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾
قلت :﴿ إذ يَعْدُون ﴾ : بدل من ﴿ القرية ﴾، بدل اشتمال، أو منصوب بكانت، أو بحاضرة و﴿ إذ تأتيهم ﴾ : منصوب بيعدون، و﴿ سبتهم ﴾ : مصدر مضاف للفاعل، يقال : سبت اليهود سبتًا : إذا عظم يوم السبت وقطع شغله فيه، و﴿ شُرَّعًا ﴾ : حال، ومعناه : ظاهرة قريبة منهم، يقال : شرع منه فلان إذا دنا منه.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ واسألهم عن القرية ﴾ أي : اليهود، سؤال تقرير وتوبيخ على تقديم عصيانهم وعما هو من معلومهم، الذي لا يعلم إلا بتعليم أو وحي، وقد تحققوا أنك أُمي، فيكون ذلك معجزة وحجة عليهم، ﴿ عن القرية ﴾ أي : عن خبرها وما وقع لها، ﴿ التي كانت حاضرةَ البحر ﴾ قريبة منه، وهي " إيلة "، قرية بين مدين والطور، على شاطئ البحر، وقيل : مدين، وقيل : طبرية، ﴿ إذ يَعدُون في السّبِت ﴾ : يتجاوزون حدود الله بالاصطياد في يوم السبت، وكان حرامًا عليهم لاشتغالهم عنه بالعبادة، ﴿ إذ تأتيهم حيتانُهم يوم سبتهم شُرّعًا ﴾ : ظاهرة على وجه الماء، دانية منهم، ﴿ ويوم لا يَسبِتُون لا تأتيهم ﴾ بل تغوص كلها في البحر، ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا البلاء الشديد ﴿ نَبلوهم بما كانوا يفسقون ﴾ أي : بسبب فسقهم. وقيل " كذلك " : متصل بما قبله، أي : لا تأتيهم مثل ذلك الإتيان الذي تأتيه يوم السبت.
قال ابن عباس : لا أدري ما فعل بالفرقة الساكتة ؟ وقال عكرمة : لم تهلك ؛ لأنها كرهت ما فعلوه. ورجع إليه ابن عباس وأعجبه، لأن كراهيتها تغيير المنكر في الجملة، مع قيام الفرقة الناهية به ؛ لأنه فرض كفاية.
﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ النحل : ٤٠ ]، والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذَّبهم أولاً بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك، فمسخهم قردة وخنازير، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرًا وتفصيلاً للأولى.
رُوِي أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين، كرهوا مساكنتهم، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يومًا ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين، فقالوا : إن لهم شأنًا، فدخلوا عليهم فإذا هم قردة، فلم يعرفوا أنسباءهم، ولكن القردة تعرفهم، فجعلت تأتي أنسباءهم وتشم ثيابهم، وتدور باكية حولهم، ثم ماتوا بعد ثلاثة أيام. ه.
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُواءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
قلت :﴿ تأذن ﴾ : أعلم، وهي تفعل، وهي من الإيذان بمعنى الإعلام، كتوعّد وأوعد، أو : عزم، لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله، وأجرى مجرى القسم كعَلِم الله وشهد الله، ولذلك أجيب باللام القسمية.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ إذ تأَذَّن ربُّك ﴾ أي : أعلم وأظهر ذلك في عالم الشهادة، ﴿ ليبعثنَّ ﴾ على بني إسرائيل، أيك ليسلطن ﴿ عليهم إلى يوم القيامة مَن يسومُهم سُوءَ العذابِ ﴾ ؛ كالإذلال وضرب الجزية، وقد بعث الله عليهم بعد سليمان عليه السلام بُختنصر، فخرب ديارهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى نساءهم وذراريهم، وضرب الجزية على من بقي منهم، وكانوا يؤدونها إلى المجوس، حتى بعث الله نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ففعل بهم ما فعل، في بني قريظة والنضير وخبير، ثم ضرب الله عليهم الجزية إلى آخر الدهر، ﴿ إن ربك لسريع العقاب ﴾ فعاقبهم في الدنيا، ﴿ وإنه لغفور رحيم ﴾ لمن تاب وآمن، وإنما أكد هنا الخبر باللام دون ما في آخر الأنعام١، لأن ما هنا في اليهود، وما في آخر الأنعام في المؤمنين، فأكد ما هنا باللام، فقال :﴿ لسريع العقاب ﴾ ؛ زيادة في توبيخهم ونكالهم.
الإشارة : مواطن الذل والهوان هو الانهماك في المخالفة والعدوان، وقد ينسحب ذلك في الذرية إلى آخر الزمان، فإن الله تعالى يقول : أنا الملك الودود، أعاقب الأحفاد بمعاصي الجدود، ومواطن العز والحرمة والأمان : هو الطاعة والتعظيم والإحسان، ينسحب ذلك على الأحفاد، إلى منتهى الزمان، فإن الله تعالى يحفظ الأولاد ببركة الأجداد. وقد تذاكر بعض التابعين ما يكون في آخر الزمان من الفتن والفساد، فقال بعضهم : يا ليتني كنت عقيمًا أو لم أتزوج، فقال له من هو أكبر منه : ألا أدلك على ما يحفظ الله عقبك ؟ قال : نعم، دلني، قال : قوله تعالى : وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً. . . } [ النِّساء : ٩ ] الآية. وبالله التوفيق.
﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾
قلت :﴿ أُمَمًا ﴾ : مفعول ثانٍ لقطَّعنا، أو حال، وجملة ﴿ منهم الصالحون ﴾ : صفة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقطَّعناهم ﴾ أي : فرقناهم ﴿ في الأرض أُممًا ﴾ : فرقًا، ففي كل بلد من البلدان فرقة منهم، فليس لهم إقليم يملكونه، تتمةً لإذلالهم، حتى لا تكون لهم شوكة قط، ﴿ منهم الصالحون ﴾ وهو من تمسك بدين التوراة، ولم يحرف، ولم يفرق، أو من آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في زمانه وبعده، ﴿ ومنهم دون ذلك ﴾ أي : ومنهم ناس دون ذلك، أي : منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم، ﴿ وبلوناهم ﴾ أي : اختبرناهم ﴿ بالحسنات والسيئات ﴾ أي : بالنعم والنقم، ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ ؛ ينتبهون فينزجرون عمًّا هُم عليه.
﴿ فخلَفَ من بعدهم خلفٌ ﴾ أي : فخلف، من بعد الأولين، خلف، أي : بدل سوء، وهو مصدر نعت به، فالخلف، بالسكون، شائع في الشر، يقال : جعل الله منك خلفًا صالحًا. والمراد بالخلف في الآية : اليهود الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَرِثوا الكتابَ ﴾ ؛ التوراة، من أسلافهم، يقرؤونها ويقفون على ما فيها، ﴿ يأخذون عَرَضَ هذا الأدنى ﴾ ؛ حطام هذا الشيء الحقير، من الدنو، أو من الدناءة، وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الأحكام، وعلى تحريف الكلام، ﴿ ويقولون سيُغفرُ لنا ﴾ ؛ لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه، اغترارًا وحمقًا.
﴿ وإن يأتهم عَرَضٌ مثلُه يأخذوه ﴾ أي : يرجون المغفرة، والحال أنهم مصرون على الذنب، عائدون إلى مثله، غير تائبين منه، ﴿ ألم يُؤخذْ عليهم ميثاقُ الكتاب ﴾ أي : في الكتاب، وهو التوراة، ﴿ أن لا يقولوا على الله إِلا الحق ﴾، وهو تكذيب لهم في قولهم :﴿ سيُغفر لنا ﴾، والمراد : توبيخهم على القطع بالمغفرة مع عدم التوبة، والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب، ﴿ ودَرَسُوا ما فيه ﴾ أي : وقد درسوا ما فيه، وعلموا ما أُخذ عليهم فيه من المواثيق، ثم تجرأوا على الله، ﴿ والدارُ الآخرة خير للذين يتقون ﴾ مما يأخذ هؤلاء من العرض الفاني. ﴿ أفلا يعقلون ﴾ فيعلموا ذلك، ولا يستبدلوا الأدنى الحقير المؤدي إلى العقاب بالنعيم الكبير المخلد في دار الثواب، ومن قرأ بالخطاب فهو لهم، من باب التلوين في الكلام.
ويؤخذ من مفهوم قوله :﴿ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ﴾، أن من عقد التوبة وحل عقدة الإصرار غفر له ما مضى من الأوزار. وفي قوله :﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب... ﴾ الآية، تحذير لعلماء السوء. وقوله :﴿ والذين يُمسكون بالكتاب... ﴾ الآية، أي : والذين يمسكون بظاهر الكتاب وأقاموا صلاة الجوارح، ﴿ إنا لا نضيع أجر المصلحين ﴾ مع عامة أهل اليمين، والذين يمسكون بباطن الكتاب وأقاموا صلاة القلوب ـ التي هي العكوف في الحضرة ـ حضرة الغيوب ـ إنا لا نضيع أجر المصلحين لقلوبهم، وهو شهود رب العالمين مع المقربين، في حضرة الأنبياء والمرسلين، جعلنا الله منهم وفي حزبهم، آمين.
﴿ والذين يُمَسِّكُون بالكتاب ﴾ أي : يتمسكون بالتوراة، ﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ المفروضة عليهم، ﴿ إنا لا نضيع أجر المصلحين ﴾ منهم. وهذا فيمن مات قبل ظهور الإسلام، أو : والذين يمسكون بالقرآن، ﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ مع المسلمين، { إن لا نضيع أجر المصلحين.
ويؤخذ من مفهوم قوله :﴿ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ﴾، أن من عقد التوبة وحل عقدة الإصرار غفر له ما مضى من الأوزار. وفي قوله :﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب... ﴾ الآية، تحذير لعلماء السوء. وقوله :﴿ والذين يُمسكون بالكتاب... ﴾ الآية، أي : والذين يمسكون بظاهر الكتاب وأقاموا صلاة الجوارح، ﴿ إنا لا نضيع أجر المصلحين ﴾ مع عامة أهل اليمين، والذين يمسكون بباطن الكتاب وأقاموا صلاة القلوب ـ التي هي العكوف في الحضرة ـ حضرة الغيوب ـ إنا لا نضيع أجر المصلحين لقلوبهم، وهو شهود رب العالمين مع المقربين، في حضرة الأنبياء والمرسلين، جعلنا الله منهم وفي حزبهم، آمين.
﴿ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
قلت : جملة ﴿ خُذوا ﴾ : محكية، أي : وقولنا لهم : خذوا.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إِذْ نَتقْنا ﴾ أي : قلعنا ورفعنا ﴿ الجبلَ فَوقَهم ﴾ أي : فوق بني إسرائيل، ﴿ كأنه ظُلّة ﴾ أي : سقيفة، والظلة : كل ما أظلك، ﴿ وظنّوا ﴾ أي : تيقنوا ﴿ أنه واقع بهم ﴾ أي : ساقط عليهم بسبب عصيانهم ؛ لأن الجبل لا يثبت في الجو ؛ لأنهم كانوا يوعدون به، وإنما عبَّر بالظن ؛ لأنه لم يقع بالفعل حين الظن، وسبب نتق الجبل أنهم امتنعوا من أحكام التوراة، فلم يقبلوها ؛ لثقلها، فرفع الله الطور فوقهم، وقيل لهم : إن قبلتم ما فيها وإلاَّ ليقعن عليكم، فقلنا لهم حين الرفع :﴿ خُذُوا ما آتيناكم ﴾ من الأحكام ﴿ بقوةٍ واذكروا ما فيه ﴾ بالعمل به، ولا تتركوه كالمنسى، ﴿ لعلكم تتقون ﴾ قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق.
الإشارة : من لم ينقد إلى الله بملاطفة الإحسان، قيد إليه بسلاسل الامتحان، عجب ربك من قوم يُساقون إلى الجنة بالسلاسل.
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيا ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
قلت :﴿ من ظهورهم ﴾ : بدل من ﴿ بني آدم ﴾، أي : من ظهور بني آدم، و﴿ ذريتهم ﴾ : مفعول به، و﴿ بلى ﴾ : حرف جواب، يُجاب بها عن الهمزة إذا دخلت على منفي، فخرجت عن الاستفهام إلى التقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما بعد النفي، نحو :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [ الشّرح : ١ ]، فيجاب ببلى، أي : شرحت، وكذا نظائرها، ومنه :﴿ ألست بربكم. . . ﴾ الآية.
وقد يجاب بها الاستفهام المجرد عن النفي، كما في الحديث :" أتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ ؟ قالوا : بلى " ١ ولكنه قليل، فلا يُقاس عليه، بل يوقف على ما سمع، والكثر : أنها جواب للنفي، ومعناها : إثبات ما نفي، ورفع النفي، لا إثباته وتقريره، بخلاف " نعم " ؛ فإنها تقرر ما قبلها من إثبات أو نفي، ولذا قال ابن عباس :( ولو قالوا : نعم، لكفروا )، وقد تقدم الفرق بينهما في سورة البقرة٢، ثم الكثير : مراعاة صورة النفي، فيجاب ببلى، وقد ينظر للمعنى وما يفيده الاستفهام الإنكاري من نفيه للنفي، فيصير الكلام إيجابًا، فيصح الجواب بنعم في الجملة، لكن لمَّا كان محتملاً امتنع في الآية : انظر المغني. وقوله :﴿ أن تقولوا ﴾ : مفعول من أجله.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ إِذْ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم ﴾ ؛ من ظهور بني آدم ﴿ ذريَّتهم ﴾ ؛ وذلك أن الله تعالى لَمَّا خلق آدم، وأهبطه إلى الأرض، أخرج من صلبه نسيم بنيه، بعضهم من صلب بعض، على نحو ما يتوالدون، قرنًا بعد قرن كالذر، وكان آدم بنَعمان، وهو جبل يواجه عرفة، وقال لهم حين أخرجهم :﴿ ألستُ بربكم ﴾ ؟ فأقروا كلهم، و﴿ قالوا بلى ﴾ أنت ربنا، ﴿ شهِدْنا ﴾ بذلك على أنفسنا، لأن الأرواح حينئذٍ كانت كلها على الفطرة، علاّمة دَرَّاكة، فلما ركبت في هذا القالب نسيت الشهادة، فبعث اللهُ الأنبياءَ والرسل يُذكِّرون الناس ذلك العهد، فمن أقرّ به نجا، ومن أنكره هلك، ويحتمل أن يكون ذلك من باب التمثيل، وأن أخذ الذرية من الظهر عبارة عن إيجادهم في الدنيا، وأما إشهادهم فمعناه : أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم، فكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال :﴿ ألست بربكم ﴾ ؟ وكأنهم قالوا بلسان الحال : أنت ربنا.
والأول هو الصحيح ؛ لتواتر الأخبار به، فقوله :﴿ شَهِدنا ﴾ : هو من تمام الجواب، فهو تحقيق لربوبيته وأداء لشهادتهم بذلك، فينبغي أن يوقف عليه، وقيل : إنَّ ﴿ شهدنا ﴾ : من قول الله أو الملائكة، فيوقف على ﴿ بلى ﴾، لكنه ضعيف.
ثم ذكر حكمة هذا الأخذ، فقال :﴿ إن تقولوا ﴾ أي : فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا ﴿ يوم القيامة إِنا كنا عن هذا غافلين ﴾.
وقوله تعالى :﴿ يأخذوا بأحسنها ﴾ قال الورتجبي : يأخذون بأبينها لهم، وهي المحكمات التي توجب العبودية، ويأخذون بمتشابهها التي هي وصف الصفات بحسن الاعتقاد والتسليم فيها، لأن علومها وحقائقها لا تكشف إلا للربانيين. قال تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالْرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [ آل عِمرَان : ٧ ] الآية. هـ. وقوله تعالى :﴿ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض ﴾. قال القشيري : سأحرِمُ المتكبرين بركة الاتباع، حتى لا يتلقوا الآيات التي يُكاشَفَون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يُخَاطَبُون به بسمع الإيمان. هـ.
٢ انظر الجزء الأول، تفسر الآية ٨١ من سورة البقرة..
وقال ابن الفارض في تائيته :
وَسَابِقِ عَهْدٍ لَمْ يَحُل مُذ عَهِدتُهُ | ولا حِقِ عَقدٍ جَلَّ عَنْ حَلِّ فتْرَهِ |
والحاصل مما تقدم : أن العهد أخذ على الأرواح ثلاث مرات، أحدها : حين استخرجت من صلب الروح الأعظم الذي هو آدم الكبير، وهو معنى القبضة النورانية، التي آخذت من عالم الجبروت. والثاني : حين استخرجت من صلب آدم الأصغر، كالذر، والثالث : حيث دخلت في عالم الأشباح، على ألسنة الرسل، ومن ناب عنهم، فالمذكور في الآية هو الثاني، وهو أحسن من حَملِ القاشاني الآية على الأول.
فالحاصل : أن الأخذ الأول كان على الأرواح مجردة عن مادة التطوير والتمثيل، بإقرارها إقرار النفوس، لا إقرار الألسنة، والأخذ الثاني كان على الأرواح بعد خروجها من الوجود العلمي إلى الوجود العيني، فتطورت الأرواح بصفاتها الذاتية، من سمع وبصر ولسان وغيرها، في عالم المثال، بصور مقالية ؛ لتُبصر بها ظهور الرب، وتسمع خطابه، وتجيب سؤاله، بإقرارها حينئذٍ إقرار الألسنة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية. وأما العهد الذي أخذه عليها، فلا بد من انضمامه إِلى الأوَّلَين في قيام الحجة، كما تقدم.
فالموجدات ثلاث : علمي، ثم خيالي مثالي، ثم نوعي حسي. فَأُخِذَ على كل واحد عهد ؛ من الأَوَّلَيْنِ بلا واسطة، والثالث بواسطة الرسل. والله تعالى أعلم.
وقال ابن الفارض في تائيته :
وَسَابِقِ عَهْدٍ لَمْ يَحُل مُذ عَهِدتُهُ | ولا حِقِ عَقدٍ جَلَّ عَنْ حَلِّ فتْرَهِ |
والحاصل مما تقدم : أن العهد أخذ على الأرواح ثلاث مرات، أحدها : حين استخرجت من صلب الروح الأعظم الذي هو آدم الكبير، وهو معنى القبضة النورانية، التي آخذت من عالم الجبروت. والثاني : حين استخرجت من صلب آدم الأصغر، كالذر، والثالث : حيث دخلت في عالم الأشباح، على ألسنة الرسل، ومن ناب عنهم، فالمذكور في الآية هو الثاني، وهو أحسن من حَملِ القاشاني الآية على الأول.
فالحاصل : أن الأخذ الأول كان على الأرواح مجردة عن مادة التطوير والتمثيل، بإقرارها إقرار النفوس، لا إقرار الألسنة، والأخذ الثاني كان على الأرواح بعد خروجها من الوجود العلمي إلى الوجود العيني، فتطورت الأرواح بصفاتها الذاتية، من سمع وبصر ولسان وغيرها، في عالم المثال، بصور مقالية ؛ لتُبصر بها ظهور الرب، وتسمع خطابه، وتجيب سؤاله، بإقرارها حينئذٍ إقرار الألسنة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية. وأما العهد الذي أخذه عليها، فلا بد من انضمامه إِلى الأوَّلَين في قيام الحجة، كما تقدم.
فالموجدات ثلاث : علمي، ثم خيالي مثالي، ثم نوعي حسي. فَأُخِذَ على كل واحد عهد ؛ من الأَوَّلَيْنِ بلا واسطة، والثالث بواسطة الرسل. والله تعالى أعلم.
﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
قلت : أتبعه الشيطانُ : أدركه، يقال : أتبع القوم : لحقهم، ومنه :﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ ﴾ [ يُونس : ٩٠ ]، أي : لحق بني إسرائيل. قاله في الأساس.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ واتلُ عليهم ﴾ ؛ على اليهود ﴿ نبأَ ﴾ أي : خبر ﴿ الذي آتيناه آياتنا ﴾ ؛ علمًا بكتابنا، ﴿ فانسَلَخ منها ﴾ ؛ بأن كفر بها، وأعرض، ﴿ فأَتبعه الشيطانُ ﴾ فأدركه ﴿ فكان من الغاوين ﴾. قال عبد الله بن مسعود : هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين، داعيًا إلى الله، فرشاه الملكُ، وأعطاه المُلك على أن يترك دين موسى، ويُتابع الملكَ على دينه، ففعل وأضل الناس على ذلك.
وقال ابن عباس : هو رجل من الكنعانيين، اسمه :" بلعم "، كان عنده الاسم الأعظم، فلما أراد موسى قتل الكنعانيين، وهم الجبارون، سألوه أن يدعو على موسى باسم الله الأعظم، فأبى، فألحوا عليه حتى دعا ألا يدخل المدينة، ودعا موسى عليه. فالآيات التي أعطيها، على هذا : اسم الله الأعظم، وعلى قول ابن مسعود : هو ما علمه موسى من الشريعة. قيل : كان عنده من صحف إبراهيم. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : هو أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد أُوتي علمًا وحكمة، وأراد أن يُسلم قبل غزوة بدر، ثم رجع عن ذلك ومات كافرًا، وكان قد قرأ الكتب، وخالط الرهبان، وسمع منهم أن الله تعالى مرسِلٌ رسولاً في ذلك الزمان، فَرَجَا أن يكون هو، فلما بَعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم حسده، وقال : ما كنت لأؤمن لرسول من ثقيف.
وقال في الإحياء : إن بلعم أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات، فشُبه بالكلب، أي : سواء أوتي الحكمة أو لم يؤتها فهو يلهث إلى الشهوات. هـ. وفي ذكر قصته تحذير لعلماء هذه الأمة وصلحائها. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : من أخلدت نفسه إلى أرض الشهوات، وغلبته عن النهوض إلى الطاعات، فدواؤه في حرفين، أحدهما : أن يذكر منّة الله عليه بنعمة الإيمان والإسلام، ويقيد هذه النعمة بالشكر، لئلا تفلت من يده، والثاني : أن يتوجه إلى الله بالتضرع والاضطرار، آناء الليل والنهار، وفي رمضان راجيًا الإجابة، قائلاً : اللهم سَلِّم سَلِّم. فإن أهمل هاتين الخصلتين فالشقاوة لازمة له. هـ. بالمعنى لطول العهد به. وبالله التوفيق.
قال ابن جزي : اللهث : هو تنفس بسرعة، وتحريك أعضاء الفم، وخروج اللسان، وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات عند الحر والتعب، وهي حالة دائمة للكلب، ومعنى " إن تحمل عليه " : أن تفعل معه ما يشق عليه، من طرد أو غيره، أو تتركه دون أن تحمل عليه، فهو يلهث على كل حال. ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، فضلالته على كل حال. ه. وقال الواحدي : وذلك أنه زجر في المنام عن الدعاء على موسى، فلم ينزجر، وترك عن الزجر، فلم يهتد. ه. وقيل. ه. أن ذلك الرجل خرج لسانه على صدره، فصار مثل الكلب، وصورته ولهثه حقيقة. ه. وفعل به ذلك حين دعا على موسى عليه السلام. وفي ابن عطية : ذكر " المعتمد " أن موسى قتله.
قال تعالى :﴿ ذلك مَثَل القوم الذين كذَّبوا بآياتنا ﴾ ؛ صفتهم كصفة الكلب في لهثه وخسته، أو كصفة الرجل المشبه به، لأنهم إن أنذروا لم يهتدوا، وإن تركوا لم يهتدوا. أو شبههم بالرجل في أنهم رأوا الآيات فلم تنفعهم، كما أن الرجل لم ينفعه ما عنده من الآيات. وقال الواحدي : يعني : أهل مكة كانوا متمنين هادياً يهديهم، فلما جاءهم من لا يشكُّون في صدقه كذبوه، فلم يهتدوا لمَّا تُركوا، ولم يهتدوا أيضًا لما دعوا بالرسول، فكانوا ضالين عن الرسول في الحالتين. ه.
﴿ فاقصص القصَصَ ﴾ المذكور على اليهود، فإنها نحو قصصهم، ﴿ لعلهم يتفكرون ﴾ تفكرًا يُؤدي إلى الاتعاظ، فيؤمنوا به، فإنَّ هذه القصص لا توجد عند من لم يقرأ إلا بوحي، فيتيقنوا نبوتك.
وقال في الإحياء : إن بلعم أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات، فشُبه بالكلب، أي : سواء أوتي الحكمة أو لم يؤتها فهو يلهث إلى الشهوات. هـ. وفي ذكر قصته تحذير لعلماء هذه الأمة وصلحائها. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : من أخلدت نفسه إلى أرض الشهوات، وغلبته عن النهوض إلى الطاعات، فدواؤه في حرفين، أحدهما : أن يذكر منّة الله عليه بنعمة الإيمان والإسلام، ويقيد هذه النعمة بالشكر، لئلا تفلت من يده، والثاني : أن يتوجه إلى الله بالتضرع والاضطرار، آناء الليل والنهار، وفي رمضان راجيًا الإجابة، قائلاً : اللهم سَلِّم سَلِّم. فإن أهمل هاتين الخصلتين فالشقاوة لازمة له. هـ. بالمعنى لطول العهد به. وبالله التوفيق.
وقال في الإحياء : إن بلعم أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات، فشُبه بالكلب، أي : سواء أوتي الحكمة أو لم يؤتها فهو يلهث إلى الشهوات. هـ. وفي ذكر قصته تحذير لعلماء هذه الأمة وصلحائها. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : من أخلدت نفسه إلى أرض الشهوات، وغلبته عن النهوض إلى الطاعات، فدواؤه في حرفين، أحدهما : أن يذكر منّة الله عليه بنعمة الإيمان والإسلام، ويقيد هذه النعمة بالشكر، لئلا تفلت من يده، والثاني : أن يتوجه إلى الله بالتضرع والاضطرار، آناء الليل والنهار، وفي رمضان راجيًا الإجابة، قائلاً : اللهم سَلِّم سَلِّم. فإن أهمل هاتين الخصلتين فالشقاوة لازمة له. هـ. بالمعنى لطول العهد به. وبالله التوفيق.
وقال في الإحياء : إن بلعم أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات، فشُبه بالكلب، أي : سواء أوتي الحكمة أو لم يؤتها فهو يلهث إلى الشهوات. هـ. وفي ذكر قصته تحذير لعلماء هذه الأمة وصلحائها. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : من أخلدت نفسه إلى أرض الشهوات، وغلبته عن النهوض إلى الطاعات، فدواؤه في حرفين، أحدهما : أن يذكر منّة الله عليه بنعمة الإيمان والإسلام، ويقيد هذه النعمة بالشكر، لئلا تفلت من يده، والثاني : أن يتوجه إلى الله بالتضرع والاضطرار، آناء الليل والنهار، وفي رمضان راجيًا الإجابة، قائلاً : اللهم سَلِّم سَلِّم. فإن أهمل هاتين الخصلتين فالشقاوة لازمة له. هـ. بالمعنى لطول العهد به. وبالله التوفيق.
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولقد ذرأنا ﴾ ؛ خلقنا ﴿ لجهنم كثيرًا من الجن والإنس ﴾ ؛ كتبنا عليهم الشقاء في سابق الأزل، فهم من قبضة أهل النار، كما قال :" هؤلاء إلى الجنة ولا أُبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي " ١.
ثم ذكر علامتهم فقال :﴿ لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ﴾ المواعظ والتذكير ؛ للأكنة التي جعلت عليها، ﴿ ولهم أعين لا يبصرون بها ﴾ دلائل وحدانيتنا وكمال قدرتنا، فلا ينظرون بها نظر اعتبار، ﴿ ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾ الآيات والمواعظ، سماع تأمل وتدبير، ﴿ أولئك كالأنعام ﴾ في عدم التفقه والاستبصار، أو في أن هممهم ومشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش، مقصورة عليها، فهممهم في بطونهم وفروجهم، ﴿ بل هم أضلُّ ﴾ من الأنعام، لأنها تطلب منافعها وتهرب من مضارها، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة، وأيضًا : الأنعام رُفع عنها التكليف فلا تعذب، بخلاف الكافر، وأيضًا : البهائم تقبل الرياضة والتأديب لِمَا يراد بها، والكافر عاص على الدوام، ﴿ أولئك هم الغافلون ﴾ الكاملون في الغفلة المنهمكون فيها.
الإشارة : النار على قسمين : حسية ومعنوية، كما أن الجنة كذلك، فالنار الحسية لتعذيب الأشباح، والنار المعنوية لتعذيب الأرواح، والجنة الحسية لنعيم الأشباح، والمعنوية لنعيم الأرواح. النار الحسية معلومة. والنار المعنوية هي نار القطيعة وغم الحجاب، وأهلها هم أهل الغفلة، وهم كثير من الجن والإنس، ليس لهم قلوب تجول في معاني التوحيد، وليس لم أعين تنظر بعين الاعتبار، وليس لهم آذان تسمع المواعظ والتذكار، إن هم إلا كالأنعام، غير أن الله تعالى تفضل عليهم برسم الإسلام. والجنة الحسية هي جنة الزخارف، والجنة المعنوية هي جنة المعارف، وأعدها الله لقلوب تجول في الأنوار والأسرار، ولأعين تنظر بعين الاعتبار والاستبصار، حتى تشاهد أنوار الواحد القهار، ولآذان تسمع المواعظ والتذكار، وتعي ما تسمع من الحكم والأسرار، وبالله التوفيق.
﴿ وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيا أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولله الأسماءُ الحسنى ﴾ تسعة وتسعين، ﴿ فادعوه بها ﴾ أي : سموه بها. قال ابن جزي : أي : سموه بأسمائه، وهذا إباحة لإطلاق الأسماء على الله سبحانه، فأما ما ورد منها في القرآن والحديث فيجوز إطلاقه على الله إجماعًا، وأما ما لم يرد، وفيه مدح ولا تتعلق به شُبهة، فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على الله، ومنع ذلك أبو الحسن الأشعري وغيره، ورأوا أن أسماء الله تعالى موقوفة على ما ورد في القرآن والحديث. وقد ورد في حديث الترمذي عدتها١، أعني : تعيين التسعة والتسعين.
واختلفت أهل الحديث : هل هي مرفوعة أو موقوفة على أبي هريرة ؟ والذي في الصحيح :" إنَّ للهِ تِسعَةً وتِسعِينَ اسمًا، مائَةً إلاَ وَاحِدًا، مَن أحصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ " ٢ وهل الإحصاء بالحفظ أو بالعلم أو بالتخلق أو بالتعلق أو بالتحقق ؟ أقوال. قلت : كونها موقوفة بعيد جدًا ؛ إذ ليس هذا مما يقال بالرأي.
وسبب نزول الآية : إن أبا جهل سمع بعض الصحابة يقرأ، فيذكر الله مرة، والرحمن أخرى، فقال : يزعم محمد أن الإله واحد، وها هو يعبد آلهة كثيرة، فنزلت الآية مُبيِّنة أن تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمى واحد، ﴿ الحسنى ﴾ : مصدر وُصف به، أو تأنيث أحسن، وحسن أسماء الله هي أنها صفة مدح وتعظيم وتحميد، وقيل : الدعاء بها : التوسل بكل واحد منها.
قال تعالى :﴿ وذَرُوا ﴾ أي : اتركوا ﴿ الذين يُلحدون ﴾ أي : يميلون ﴿ في أسمائه ﴾ عن الكمال ؛ إما بتعطيلها، أو إنكار شيء منها، وإما بزيادة فيها، مما يوهم نقصًا أو فسادًا.
قال القشيري : الإلحاد : هو الميل عن القصد، وذلك على وجهين : بالزيادة والنقصان ؛ فأهل التمثيل زادوا فألحدوا، وأهل التعطيل نقصوا فألحدوا. ه. قال البيضاوي : أي : اتركوا تسمية الزائغين فيها، الذين يسمونه بما لا توقيف فيه، إذ ربما يوهم معنىً فاسدًا، كقولهم : يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، أو لا تبالُوا بإنكارهم ما سمى به نفسه، كقولهم ؛ ما نعرف إلا رحمان اليمامة، أو : وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام، واشتقاقها منه ؛ كاللات من الله، والعزى من العزيز، فلا توافقوهم عليه، أو أعرضوا عنهم ولا تحاوروهم. ه.
قال ابن جزي : قيل : معنى ﴿ ذروا ﴾ : اتركوهم فلا تجادلوهم ولا تتعرضوا لهم، فالآية، على هذا، منسوخة بالقتال، وقيل : معنى ﴿ ذروا ﴾ للوعيد والتهديد، كقوله :﴿ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ ﴾ [ المزمل : ١١ ]، وهو الأظهر. ه. قلت : وهو أليق بقوله بعده :﴿ سيُجزون ما كانوا يعملون ﴾ من الإلحاد وغيره.
الإشارة : قال القشيري بعد كلام : ويقال إن الله سبحانه وقف الخلق بأسمائه، فهم يذكرونها قالةً، وتعزَّزَ بذاته، والعقول وإن صَفَت لا تهجم على حقائق الإشراف ؛ إذ الإدراك لا يجوز على الحق، فالعقول عند بواده الحقائق متقنعة بنقاب الحيرة عن التعرض للإدراك، وطلبه في أحوال الرؤية. والحق سبحانه عزيز باستحقاق نعوت التعالي مُتَفَرِّد. ه.
قلت : وأسماء الله الحسنى كلها تتجلى في مظاهر الإنسان، وتتوارد عليه انفرادًا واجتماعًا، وقد تجتمع في واحد إذا كان عارفًا، كلها بحيث يتخلق بها، غير أن تجلياتها تختلف عليه، تارة ملكًا قدوسًا، وتارة رحمانيًا رحيمًا، وهكذا. وقد تقدم بيان كيفية التعلق والتخلق والتحقق بها، في شرحنا : الفاتحة الكبير، والله تعالى أعلم.
٢ أخرجه البخاري في التوحيد باب ١٢، والشروط باب ١٨..
﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وممن خلقنا ﴾ أي : ومن جملة ما خلقنا :﴿ أمة ﴾ : طائفة ﴿ يهدون ﴾ الناس ﴿ بالحق ﴾ ويحملونهم عليه، ﴿ وبه يَعْدِلُون ﴾ في حكوماتهم وقضاياهم. رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" هذه الآية لكم، وقد تقدم مثلها لقوم
موسى " ١.
قال البيضاوي : ذكر ذلك بعدما ما بيَّن أنه خلق للنار طائفة ضالين، ملحدين عن الحق، للدلالة على أنه خلق أيضًا للجنة أمة، هادين بالحق، عادلين في الأمر، واستدل به على صحة الإجماع، لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :" لاَ تَزالُ مِنْ أمَّتِي طَائِفةٌ عَلى الحَقِّ، إِلى أن يأتيَ أَمرُ اللهِ " ٢ إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة، فإنه معلوم. ه.
الإشارة : هذه الأمة التي خلقها الله لهداية خلقه، وهي الطائفة التي لا تزال على الحق، وهي مؤلفة من العلماء الأتقياء على اختلاف أصنافهم وعلومهم، ومن الأولياء العارفين، فالعلماء يهدون إلى التمسك بالشرائع وإتقانها، والأولياء العارفون يهدون إلى التحقق بالحقائق وأذواقها، فالعلماء داعون إلى أحكام الله، والعارفون داعون إلى معرفة ذات الله، العلماء لإصلاح الظواهر، والأولياء لإصلاح البواطن، ولا يقوم هذا إلا بهذا، فالظاهر من غير باطن فسق، والباطن من غير ظاهر إلحاد، وسيأتي عند قوله :﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِ فِرْقَةٍ. . . ﴾ [ التّوبَة : ١٢٢ ] الآية، تمثيل منزلتهم عند الله، والله تعالى أعلم.
٢ أخرجه البخاري في الاعتصام باب ١٠، ومسلم في الإيمان حديث ٢٤٧، والإمارة حديث ١٧٠، ١٧٣، ١٧٤، وأحمد في المسند ٥/٣٤..
﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾
قلت : أصل الاستدراج : الاستصعاد، أو الاستنزال درجة بعد درجة، ومعناه : نسوقهم إلى الهلاك شيئًا فشيئًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والذين كذَّبوا بآياتنا ﴾، وألحدوا في أسمائنا، ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم ﴾ أي : ندرجهم إلى الهلاك شيئًا فشيئًا، ﴿ من حيث لا يعلمون ﴾ ما نريد بهم، وذلك أَن تتواتر النعم عليهم، فيظنوا أنها لطفٌ من الله بهم، فيزدادوا بطرًا وانهماكًا في الغي، حتى تحق عليه كلمة العذاب.
قال في الحكم :" خف من وجود إحسانه إليك، ودوام إساءتك معه، أن يكون ذلك استدراجًا لك ؛ ﴿ سَنَسْتَدرِجُهُم من حيث لا يعلمون ﴾ ". وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنه : نمدهم بالنعم، وننسيهم الشكر عليها، فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم : أُخذوا.
وقال ابن عطاء رضي الله عنه : كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة. وقال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : الخوف من الاستدراج بالنعم من صفة المؤمنين، وعدم الخوف منه مع الدوام على الإساءة من صفة الكافرين. يقال : من أمارات الاستدراج : ركوب السيئة والاغترار بزمن المُهلة، وحمل تأخير العقوبة على استحقاق الوصلة، وهذا من المكر الخفي. قال تعالى :﴿ سَنَسْتدرِجُهُم من حيث لا يعلمون ﴾ أي : لا يشعرون بذلك، وهو أن يلقي في أوهامهم أنهم على شيء، وليسوا كذلك، يستدرجهم في ذلك شيئًا فشيئًا، حتى يأخذهم بغتة، كما قال تعالى :﴿ فلما نسوا ما ذُكروا به ﴾ ؛ إشارة إلى مخالفتهم وعصيانهم، بعدما رأوا من الشدة، ﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ أي : فتحنا عليهم أسباب العوافي وأبواب الرفاهية، ﴿ حتى إذا فرحوا بما أُوتوا ﴾ من الحظوظ الدنيوية، ولم يشكروا عليها برجوعهم منها إلينا، ﴿ أخذناهم بغتة ﴾ أي : فجأة، ﴿ فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ﴾ [ الأنعَام : ٤٤ ] ؛ آيسون قانطون من الرحمة. هـ.
قال في الحكم :" خف من وجود إحسانه إليك، ودوام إساءتك معه، أن يكون ذلك استدراجًا لك ؛ ﴿ سَنَسْتَدرِجُهُم من حيث لا يعلمون ﴾ ". وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنه : نمدهم بالنعم، وننسيهم الشكر عليها، فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم : أُخذوا.
وقال ابن عطاء رضي الله عنه : كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة. وقال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : الخوف من الاستدراج بالنعم من صفة المؤمنين، وعدم الخوف منه مع الدوام على الإساءة من صفة الكافرين. يقال : من أمارات الاستدراج : ركوب السيئة والاغترار بزمن المُهلة، وحمل تأخير العقوبة على استحقاق الوصلة، وهذا من المكر الخفي. قال تعالى :﴿ سَنَسْتدرِجُهُم من حيث لا يعلمون ﴾ أي : لا يشعرون بذلك، وهو أن يلقي في أوهامهم أنهم على شيء، وليسوا كذلك، يستدرجهم في ذلك شيئًا فشيئًا، حتى يأخذهم بغتة، كما قال تعالى :﴿ فلما نسوا ما ذُكروا به ﴾ ؛ إشارة إلى مخالفتهم وعصيانهم، بعدما رأوا من الشدة، ﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ أي : فتحنا عليهم أسباب العوافي وأبواب الرفاهية، ﴿ حتى إذا فرحوا بما أُوتوا ﴾ من الحظوظ الدنيوية، ولم يشكروا عليها برجوعهم منها إلينا، ﴿ أخذناهم بغتة ﴾ أي : فجأة، ﴿ فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ﴾ [ الأنعَام : ٤٤ ] ؛ آيسون قانطون من الرحمة. هـ.
﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أوَ لم يتفكروا ﴾ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ؛ حتى يتحققوا أنه ﴿ ما بصاحبهم من جِنَّة ﴾ ؛ يعني : نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم. رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم لما أُمر بالإنذار صعد الصَّفا، فدعاهم، فَخْذًا فخذًا، يُحذّرهم بأس الله تعالى، فقال قائلهم : إن صاحبكم لمجنون، بات يُصوِّت إلى الصباح، فنزلت١.
﴿ إن هو إِلا نذير مبين ﴾ أي : بيّن الإنذار واضح أمره، لا يخفى على ناظر.
﴿ أو لم ينظروا ﴾ نظر استدلال ﴿ في ملكوت السماوات والأرض ﴾ أي : في عظمتهما وما اشتملتا عليه من العجائب، ﴿ وما خَلَق الله من شيء ﴾ أي : وينظروا فيما خلق الله من شيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها، لتدلهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها، وعظم شأن مالكها ومتولي أمرها، ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه.
﴿ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم ﴾ أي : أوَ لم ينظروا أيضًا في اقتراب أجلهم وتوقع حلول الموت بهم، فيسارعوا إلى طلب الحق، والتوجه إلى ما ينجيهم من عذابه، قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب. ﴿ فبأي حديث بعده ﴾ أي : بعد القرآن، ﴿ يُؤمنون ﴾ إن لم يؤمنوا به، وهو النهاية في البيان ؟ كأنه إخبار عنهم بالطبع على القلوب والتصميم على الكفر، بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر، وقيل : هو متعلق بقوله :﴿ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم ﴾ ؛ كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يُبادرون بالإيمان بالقرآن، وماذا ينتظرون بعد وضوحه ؟ وإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به ؟ !. . قاله البيضاوي.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾
قلت : إنما سميت القيامة ساعة : لسرعة حسابها، أو وقوعها، لقوله :﴿ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾ [ النّحل : ٧٧ ].
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يسألونك ﴾ أي : قريش، ﴿ عن الساعة ﴾ أي : قيام الناس من قبورهم للحساب، ﴿ أيَّان مُرسَاها ﴾ أي : متى إرساؤها، أي : ثبوتها ووقوعها ؟ ﴿ قل إنما علمها عند ربي ﴾ ؛ استأثر بعلمها، لم يطلع عليها ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلاً ﴿ لا يُجلِّيها لوقتها ﴾ أي : لا يُظهرها عند وقت وقوعها، ﴿ إلا هو ﴾، والمعنى إن إخفاءها يستمر إلى وقت وقوعها، ﴿ ثَقُلَت في السماوات والأرض ﴾ ؛ عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها. أو ثَقُلَت على السماوات والأرض أنفسهما ؛ لتبدلهما وتغير حالهما، ﴿ لا تأتيكم إلا بغتةً ﴾ : فجأة على غفلة، كما قال صلى الله عليه وسلم " إنَّ الساعَة تَهِيجُ بالنَّاسِ، والرَّجُلُ يُصلِحُ حَوضَهُ، والرَّجُلُ يَسقِي مَاشِيتَهُ، والرَّجلُ يُقَوَّم سِلعَته في سُوقِه، والرَّجُل يَخفِضُ مِيزَانَهُ ويرفعه " ١. والمراد : النفخ في الصور للصعق، لأن الساعة مُرَتَّبة عليه وقريبة منه.
﴿ يسألونك كأنك حَفِيٌّ عنها ﴾ أي : عالم بها، من حفى على الشيء : إذا سأل عنه، فإنَّ من بالغ في السؤال عن الشيء، والبحث عنه، استحكم علمه فيه، أي : يسألونك عن وقت قيامها، كأنك بليغ في السؤال عنها فعلمتها، وليس كما يزعمون، وأما قوله :
﴿ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ﴾ [ النَّازعَات : ٤٣ ] : فقيل : معناه : التعجب عن كثرة اهتمامه بالسؤال، أي : في أي شغل أنت من ذكراها والسؤال عنها ؟ ولا يُعارض ما هنا ؛ لأنه استغنى عن ذلك بتلك الآية، وبعدها نزلت هذه، والله أعلم.
وقيل :" عنها " : يتعلق ب ﴿ يسألونك ﴾، أي : يسألونك عنها كأنك حفي بهم، أي : شفيق بهم، قيل : إن قريشًا قالوا : إنَّ بيننا وبينك قرابة، فقل لنا : متى الساعة ؟ فقال له الحق تعالى :﴿ قل إنما علمها عند الله ﴾ ؛ لا يعلمها غيره، وكرره ؛ لتكرر " يسألونك ". ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أن علمها عند الله لم يؤته أحدًا من خلقه.
الإشارة : إذا أشرق نور اليقين في القلب صارت الأمور المستقبلة حاصلة، والغائبة حاضرة، والآجلة عاجلة، فأهل اليقين الكبير قدّموا ما كان آتيًا، فحاسبوا أنفسهم قبل أن يُحاسبوا، ووزنوا أعمالهم قبل أن تُوزن عليهم، وجازوا الصراط بسلوكهم المنهاج المستقيم، ودخلوا جنة المعارف قبل حصول جنة الزخارف، فالموت في حقهم إنما هو انتقال من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، ومن دار الغرور إلى دار الهناء والسرور. وفي الحِكم :" لو أشرق لك نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفَنَاء عليها ".
قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : نور اليقين تتراءى به حقائق الأمور على ما هي عليه، فيحق به الحق، ويبطل به الباطل، والآخرة حق، والدنيا باطل، فإذا أشرق نور اليقين في قلب العبد أبصر به الآخرة التي كانت غائبة عنه حاضرة لديه، حتى كأنها لم تزل، فكانت أقرب إليه من أن يرتحل إليها، فحق بذلك حقها عنده، وأبصر الدنيا الحاضرة لديه، قد انكسف نورها وأسرع إليها الفناء والذهاب، فغابت عن نظره بعد أن كانت حاضرة، فظهر له بطلانها، حتى كأنها لم تكن، فيوجب له هذا النظر اليقيني الزهادة في الدنيا والتجافي في زهرتها، والإقبال على الآخرة، والتهيؤ لنزول حضرتها، ووجدان العبد لهذا هو علامة انشراح صدره بذلك النور. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنَّ النورَ إذا دَخَلَ القلبَ انشرحَ له الصَّدرُ وانفسَحَ "، وقِيلَ يا رَسُولَ اللهِ : هَل لذلكَ مِن عَلامَةٍ يُعرَفُ بِها ؟ قال : نعَمَ. التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، والاستِعدَادُ للمَوتِ قَبل نُزُولهِ " ٢. أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وعند ذلك تموت شهواته وتذهب دواعي نفسه، فلا تأمره بسوء، ولا تطالبه بارتكاب منهي، ولا تكون لهم همة إلا المسارعة إلى الخيرات، والمبادرة لاغتنام الساعات والأوقات، وذلك لاستشعاره حلول الأجل، وفوات صالح العمل، وإلى هذا الإشارة بحديثي حارثة ومعاذ رضي الله عنهما. رَوى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ استقبله شابٌ من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" كَيْفَ أصبحَتَ يا حارثةٌ ؟ قال : أصبحت مؤمنًا بالله حقًا، قال : انظر ما تقول، فإن لكلِّ قَولٍ حقيقة ؟ فقال : يا رسولَ الله عَزَفت نَفسِي عن الدنيا فأسهَرْتُ لَيلي وأظمَأتُ نهاري، وكأني بعَرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهلِ الجنّةِ يَتَزَاوَرُون فيها، وكأني أنظرُ إلى أهل النار يتعاوون فيها، فقال : أبصَرتَ فالزَم، عَبدٌ نور اللهُ الإيمانَ في قلبه. . " ٣ إلى آخر الحديث.
وروى أنس رضي الله عنه أيضًا : أن معاذَ بن جبل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له :" كيف أصبحتَ يا معاذ ؟ " فقال : أصبحتُ بالله مؤمنًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنَّ لكل قول مصداقًا، ولكل حق حقيقة، فما مصداق ما تقول ؟ " فقال : يا نبيَّ اللهِ، ما أصبحتُ صباحًا قط إلا ظننتُ أني لا أُمسي، ولا أمسَيتُ قط إلا ظننت إني لا أُصبِح، ولا خَطَوتُ خطوةً قط إلا ظننتُ أني لا أُتبِعُها أُخرَى، وكأني أنظرُ إلى كل أمةٍ جاثية تُدعى إلى كتابها، معها نبيُها وأوثَانُها التي كانت تعبدُ من دون اللهِ، وكأني أنظرُ إلى عُقُوبَةِ أهلِ النَّارِ وثوابِ أهلِ الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عَرَفَت فالزَم " انظر بقية كلامه رضي الله عنه.
٢ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ٧/٣٦٢..
٣ تقدم الحديث مع تخريجه..
﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّواءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾
قلت :﴿ وما مسني السوء ﴾ : عطف على " استكثرتُ "، أي : لو علمتُ الغيب لاستكثرتُ الخير واحترست من السوء، أو استئناف، فيوقف على ما قبله، ويراد حينئذٍ بالسوء : الجنون، والأول أحسن ؛ لاتصاله بما قبله، و﴿ لقوم ﴾ : يجوز أن يتعلق ببشير ونذير، أي : أُبشر المؤمنين وأُنذرهم، وخصهم بالبشارة والنذارة لانتفاعهم بهما، ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها، فيُوقف على ﴿ نذير ﴾، ويكون المتعلق بنذير محذوف، أي : نذير للكافرين، والأول أحسن. قاله ابن جزي.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ لهم يا محمد : أنا ﴿ لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضَرًا ﴾ أي : لا أجلب لها نفعًا ولا أدفع عنها ضررًا، ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ من ذلك، فيعلمَني به، ويوقفني عليه، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب، ﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ﴾ أي : لو كنت أعلم ما يستقبلني من الأمور المغيبة ؛ كشدائد الزمان وأهواله، لاستعددت له قبل نزوله باستكثار الخير والاحتراس من الشر، حتى لا يمسني سوء، ﴿ إن أنا إَلا نذير وبشير ﴾ أي : ما أنا إلا عبد مرسل بالإنذار والبشارة ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ ؛ فإنهم المنتفعون بهما، أو نذير لمن خالفني بالعذاب الأليم، وبشير لمن تبعني بالنعيم المقيم.
الإشارة : العبودية محل الجهل وسائر النقائص، والربوبية محل العلم وسائر الكمالات، فمن آداب العبد أن يعرف قدره، ولا يتعدى طوره، فإن ورد عليه شيء من الكمالات فهو وارد من الله عليه، وإن ورد عليه شيء من النقائص فهو أصله ومحله، فلا يستوحش منه، وكان شيخنا يقول : إن علمنَا فمن ربنا، وإن جهلنا فمن أصلنا وفصلنا. أو كلام هذا معناه، فالاستشراف إلى الاطلاع على علم الغيوب من أكبر الفضول، وموجب للمقت من علام الغيوب. والله تعالى أعلم.
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدة ﴾ ؛ آدم عليه السلام، ﴿ وجعل منها زوجها ﴾ أي : خلق من ضلعها زوجها حواء، سلها منه وهو نائم، ﴿ ليَسكُنَ إليها ﴾ ؛ ليستأنس بها، ويطمئن بها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه.
﴿ فلما تغشاها ﴾ أي : جامعها حين رُكبت فيه الشهوة، ﴿ حملت حملاً خفيفًا ﴾ أي : خف عليها، ولم تلق منه ما تلقى بعضُ الحبالى من حملهن من الأذى والكرب، أو حملاً خَفيفًا، يعني النطفة قبل تصورها، ﴿ فمرت به ﴾ أي : ذهبت وجاءت به، مخففة، واستمرت إلى حين ميلاده، ﴿ فلما أثقلت ﴾ أي : ثقل حملها وصارت به ثقيلة لكبره في بطنها، ﴿ دَعَوا الله ربهما ﴾ آدم وحواء، قائلين :﴿ لئن آتيتنا ﴾ ولدًا ﴿ صالحًا ﴾ أي : سويًا سالمًا في بدنه، تام الخلقة، ﴿ لنكونن ﴾ لك ﴿ من الشاكرين ﴾ على هذه النعمة المجددة.
وقيل : لما حملت حواء أتاها إبليسُ في صورة الرجل، فقال لها : وما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب، وما يدريك من أين يخرج ؟ فخافت من ذلك، ثم قال لها : إن أطعتيني، وسميته عبد الحارث، فسأخلصه لك، وكان اسم إبليس في الملائكة : الحارث، وإن عطيتني قتلته، فأخبرت بذلك آدم، فقال لها : إنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة، فلما ولدت مات الولد، ثم حملت مرة أخرى، فقال لها إبليس مثل ذلك، فعصته، فلما ولدت مات الولد، ثم حملت مرة ثالثة، فسمياه عبد الحارث ؛ طمعًا في حياته فقوله :﴿ جعلا له شركاء فيما آتاهما ﴾ أي : في التسمية لا غير، لا في عبادة غير الله.
والقول الأول أصح، لثلاثة أوجه : أحدها : أنه يقتضي براءة آدم وحواء من الشرك، قليله وكثيره، وذلك هو حال الأنبياء عليه السلام. والثاني : أنَّ جمع الضمير في قوله :﴿ فتعالى الله عما يشركون ﴾، يقتضي أن الشرك وقع من أولادهما، لا منهما. الثالث : أن هذه القصة تفتقر إلى نقل صحيح، وهو غير موجود. انظر : ابن جزي.
﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أيُشرِكون ﴾ مع الله أصنامًا جامدة، لا يخلقون شيئًا ﴿ وهم يُخلَقون ﴾، فهي مخلوقة غير خالقة. والله تعالى خالق غير مخلوق.
﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : قل لهم أيضًا يا محمد :﴿ إنَّ وَليّيَ اللهُ ﴾ أي : هو ناصري وحافظني منكم، فلا تضرونني ولو حرصتم أنتم وآلهتكم، ﴿ الذي نزَّل الكتاب ﴾ أي : القرآن، ﴿ وهو يتولى الصالحين ﴾ أي : ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلاً عن أنبيائه، فلا أخافكم بعد أن تَولى حفظي منكم.
الإشارة : قال القشيري : مَن قام بحقِّ الله تولّى أمورَه على وجه الكفاية، فلا يحوجه إلى أمثاله، ولا يَدَعُ شيئًا من أحواله إلا أجراه على ما يريد بحُسنِ إفضاله، فإن لم يفعل ما يريده جعل العبد راضيًا بما يفعله، فرَوحُ الرضا على الأسرار أتَمُّ من راحة العطاء على القلوب. ه.
﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : في إتمام الرد على المشركين :﴿ والذين تدعون من دونه ﴾ أي : تعبدونها من دونه، ﴿ لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ﴾، فلا تُبال بهم أيها الرسول.
وقوله تعالى :﴿ وتراهم ينظرون إليك... ﴾ الآية. قال المحشي : يقال : رُؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم، لكن لِما يحصل للقلوب من مكاشفة الغيوب، وذلك على مقدار الاحترام وحضور الإيمان. هـ. يعني : أن النظر إلى الأكابر، من العارفين بالله، ليست مقصودة لرؤية أشخاصهم، وإنما هي مقصودة لفيضان أمدادهم، وذلك على قدر التعظيم والاحترام، وصدق المحبة والاحتشام، فكل واحد من الناظرين إليهم يغرف على قدر محبته وتعظيمه. رُوِي أن بعض الملوك زار قبر أبي يزيد البسطامي، فقال : هل هنا أحد ممن أدرك الشيخ أبا يزيد البسطامي ؟ فأتى بشيخ كبير، فقال : أنت أدركته، فقال : ما سمعتَه يقول ؟ فقال : سمعتُه يقول :( من رآني لا تأكله النار ). فقال الملك : هذا لم يكن للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ؛ فقد رآه كثير من الكفار فدخلوا النار، فكيف يكون لغيره ؟ فقال له الشيخ : يا هذا، الكفار لم يروه صلى الله عليه وسلم على أنه رسول الله، وإنما رأوه على أنه محمد بن عبد الله، فسكت. والله تعالى أعلم.
قال المحشي : شاهدوا بأبصار رؤوسهم، لكنهم حجبوا عن الرؤية ببصائر أسرارهم وقلوبهم، فلم يعتد برؤيتهم. ه.
وقوله تعالى :﴿ وتراهم ينظرون إليك... ﴾ الآية. قال المحشي : يقال : رُؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم، لكن لِما يحصل للقلوب من مكاشفة الغيوب، وذلك على مقدار الاحترام وحضور الإيمان. هـ. يعني : أن النظر إلى الأكابر، من العارفين بالله، ليست مقصودة لرؤية أشخاصهم، وإنما هي مقصودة لفيضان أمدادهم، وذلك على قدر التعظيم والاحترام، وصدق المحبة والاحتشام، فكل واحد من الناظرين إليهم يغرف على قدر محبته وتعظيمه. رُوِي أن بعض الملوك زار قبر أبي يزيد البسطامي، فقال : هل هنا أحد ممن أدرك الشيخ أبا يزيد البسطامي ؟ فأتى بشيخ كبير، فقال : أنت أدركته، فقال : ما سمعتَه يقول ؟ فقال : سمعتُه يقول :( من رآني لا تأكله النار ). فقال الملك : هذا لم يكن للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ؛ فقد رآه كثير من الكفار فدخلوا النار، فكيف يكون لغيره ؟ فقال له الشيخ : يا هذا، الكفار لم يروه صلى الله عليه وسلم على أنه رسول الله، وإنما رأوه على أنه محمد بن عبد الله، فسكت. والله تعالى أعلم.
﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ خُذ العفوَ ﴾ أي : اليسر من أخلاق الناس ولا تبحث عنها، أو : خذ من الناس، في أخلاقهم وأموالهم ومعاشرتهم، ما سهل وتيسر مما لا يشق عليهم ؛ لئلا ينفروا. فهو كقول الشاعر١ :
خُذِ العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمي مَوَدَّتِي ***. . .
أو : خذ في الصدقات ما سهل على الناس من أموالهم وهو الوسط، ولا تأخذ كرائم أموالهم مما يشق عليهم، أو تمسك بالعفو عمن ظلمك ولا تُعاقبه، وهذا أوفق لتفسير جبريل الآتي، ﴿ وأْمر بالعُرْفِ ﴾ أي : المعروف، وهو أفعال الخير، أو العرف الجاري بين الناس. واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعرف الذي يجري بين الناس. ﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ أي : لا تكافئ السفهاء على قولهم أو فعلهم، واحلم عليهم. ولمّا نَزَلَت سأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ عنها، فقال :" لا أَدري حَتَّى أسأَلَ، فعرج، ثم رَجَعَ فَقَالَ : يا مُحَمَدَّ، إِنَّ الله يَأمُركَ أن تَصِلَ مَن قَطَعَك، وتُعطِي مَن حَرَمَكَ، وتَعفُو عَمَّن ظَلَمَكَ " ٢. وعن جعفر الصادق :( أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بمكارم الأخلاق )، وهي على هذا ثابتة الحكم، وهو الصحيح. وقيل : كانت مداراة للكفار، ثم نسخت بالقتال.
وجُزْ مُثَقلاً لو خَفَّ طَفَّ مُوكلاًّ | بمَنْقُولِ أَحْكَامٍ ومَعْقُولِ حِكْمَه |
ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
والبيت لحاتم الطائي في تفسير أبي حيان ٤/٤٤٤، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (عفا)، وتاج العروس (عفا)..
٢ أخرجه الطبري في تفسيره ٩/١٥٥..
وجُزْ مُثَقلاً لو خَفَّ طَفَّ مُوكلاًّ | بمَنْقُولِ أَحْكَامٍ ومَعْقُولِ حِكْمَه |
﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ﴾
قلت : الطيف بسكون الياء : مصدر طاف به الخيال يطيف طيفًا، أو مخفف ؛ من طيّف ؛ كهين ولين وميت. ومن قرأ ﴿ طائف ﴾ : فاسم فاعل، والمراد به : لَمَّةُ الشيطان ووسوسته. وحذف مفعول ﴿ تذكروا ﴾ ؛ للعموم على ما يأتي في المعنى. وقوله :﴿ فإذا هم مبصرون ﴾ : أتى بإذا الفجائية ؛ ليقتضي سرعة تيقظهم، وبالجملة الاسمية ولم يقل : تذكروا فأبصروا ؛ ليفيد أنهم كانوا على البُصرى، وإنما السَّنة طرقتهم ثم رجعوا عنها.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين اتَّقَوا ﴾ الشرك والمعاصي، ﴿ إذا مسَّهُم طائفٌ من الشيطان ﴾ أي : لَمَّةُ منه، كما في الحديث :" إنَّ للشَّيطَانِ لَمّةٌ وللمَلكِ لَمّةَ. . . " ١ الخ، فإذا أخذتهم تلك السنة وغفلوا ﴿ تذكّروا ﴾ عقابَ الله وغضبه، أو ثواب الله وإنعامه، أو مراقبته والحياء منه، أو مننه وإحسانه، أو طرده وإبعاده، أو حجبه وإهماله، أو عدواة الشيطان وإغواءه، كلٌ على قدر مقامه، فلما تذكروا ذلك ﴿ فإذا هم مبصرون ﴾ بسبب ذلك التذكر، أي : فإذا هم على بصيرة من ربهم التي كانوا عليها قبل المس، أو : فإذا هم مبصرون مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فيحترزون منها، ولا يعودون إليها بخلاف المنهمكين في الغفلة، كما قال تعالى :﴿ وإِخوانُهم يَمدُّونهم في الغَي ﴾.
قال القشيري : إنما يمس المتقين طيفُ الشيطان في ساعات غفلتهم عن ذكر الله، ولو أنهم استداموا ذكر الله بقلوبهم لما مسَّهم طائف الشيطان، فإن الشيطانَ لا يَقَربُ قلبًا في حال شهوده الله ؛ لأنه يخنس عند ذلك، ولكل عازمٍ فترة، ولكلِّ عالم هفوة، ولكل عابد شدة، ولكل قاصد فترة، ولكل سائر وقفة، ولكل عارفٍ حجبة. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ :" الحِدَّةُ تعتري خيار أمتي " ١ فأخبر بأن خيار الأمة، وإن جلت رتبتهم، لا يتخلصون عن حدة تعتريهم في بعض أحوالهم، فتخرجهم عن دوام الحلم. هـ. وكأنه يشير إلى أن طائف الشيطان يمس الواصلين والسائرين، وهو كذلك بدليل أول الآية في قوله :﴿ وإما ينزغنك... ﴾ الآية، ومسه للسائر أو الواصل زيادة به، وترقية له، وتحويش له إلى ربه، والله تعالى أعلم.
قال القشيري : إنما يمس المتقين طيفُ الشيطان في ساعات غفلتهم عن ذكر الله، ولو أنهم استداموا ذكر الله بقلوبهم لما مسَّهم طائف الشيطان، فإن الشيطانَ لا يَقَربُ قلبًا في حال شهوده الله ؛ لأنه يخنس عند ذلك، ولكل عازمٍ فترة، ولكلِّ عالم هفوة، ولكل عابد شدة، ولكل قاصد فترة، ولكل سائر وقفة، ولكل عارفٍ حجبة. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ :" الحِدَّةُ تعتري خيار أمتي " ١ فأخبر بأن خيار الأمة، وإن جلت رتبتهم، لا يتخلصون عن حدة تعتريهم في بعض أحوالهم، فتخرجهم عن دوام الحلم. هـ. وكأنه يشير إلى أن طائف الشيطان يمس الواصلين والسائرين، وهو كذلك بدليل أول الآية في قوله :﴿ وإما ينزغنك... ﴾ الآية، ومسه للسائر أو الواصل زيادة به، وترقية له، وتحويش له إلى ربه، والله تعالى أعلم.
﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإذا لم تأْتِهم ﴾ أي : الكفار، ﴿ بآية ﴾ ؛ بمعجزة مما اقترحوا، أو من القرآن حين يتأخر الوحي، ﴿ قالوا لولا ﴾ ؛ هلا ﴿ اجتبيتها ﴾ أي : تخيرتها وطلبتها من ربك، أو هلا اخترعتها وتقولتها من نفسك كسائر ما تقرأ ؟ ﴿ قل إِنما أَتبع ما يُوحى إليَّ من ربي ﴾ فلا أطلب منه آية، ﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [ الكهف : ٢٩ ]، أو : لا أخترع القرآن من عند نفسي، بل أَتبع ما يُوحى إليَّ من ربي.
﴿ هذا ﴾ القرآن ﴿ بصائرُ ﴾ للقلوب ﴿ من ربكم ﴾، أي : من عند ربكم، بها تُبصر الحق وتُدرك الصواب، ﴿ وهُدىً ورحمةٌ لقوم يؤمنون ﴾ ؛ وإرشاد أو طمأنينة لقلوب المؤمنين.
الإشارة : قد تقدم مرارًا ما في طلب الآيات من ضعف اليقين، وعدم الصدق بطريق المقربين، وإنما على الأولياء أن يقولوا :﴿ هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يُؤمنون ﴾ بطريق المخصوصين. وبالله التوفيق.
﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإذا قُرئ القرآنُ ﴾، مطلقًا، ﴿ فاستمعوا له وأنصتُوا ﴾ ؛ لكي تعتبروا وتتدبروا، فإنما نزل لذلك، وهل على الوجوب أو الاستحباب وهو الراجح ؟ قولان : وقيل : الاستماع المأمور به لقراءة الإمام في الصلاة، وقيل : في الخطبة، والأول الراجح، لوجهين : أحدهما : عموم اللفظ، ولا دليل على تخصيصه، والثاني : أن الآية مكيّة، والخطبة إنما شُرعت بالمدينة، وقوله تعالى :﴿ لعلكم تُرحمون ﴾ أي : بسبب ما تكتسبه القلوب من الرقة والخشية عند استماع القرآن، قال بعضهم : الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن ؛ لهذه الآية. قاله ابن جزي.
الإشارة : الاستماع لكلام الحبيب أشهى للقلوب من كل حبيب، لا سيما لمن سمعه بلا واسطة، فكل واحد ينال من لذة الكلام على قدر حضوره مع المتكلم، وكل واحد ينال من لذة شهود المتكلم على قدر الحجاب عن المستمع، والله تعالى أعلم.
﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن تبعه :﴿ واذكر ربك في نفسك ﴾ أي : في قلبك ؛ بحركة لسان القلب، أو في نفسك ؛ سرًا بحركة لسان الحس، ﴿ تضرُّعًا وخِيفَةً ﴾ أي : متضرعًا وخائفًا، ﴿ ودونَ الجهر من القول ﴾ أي : متكلمًا كلامًا فوق السر ودون الجهر، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص، ولا حجة فيه لمن منع الذكر جهرًا ؛ لأن الآية مكية حين كان الكفر غالبًا، فكانوا يسبون الذكر والمذكور، ولما هاجر المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، جهر الصحابةُ بالتكبير والذكر. فالآية منسوخة. انظر : الحاوي في الفتاوى للإمام السيوطي. فقد أجاب عن الآية بأجوبة.
فقوله :﴿ بالغُدوِّ والآصال ﴾ أي : في الصباح والعشي، حين تتيقظ من نومك الشبيه بالبعث، وحين تريد النوم الشبيه بالموت، وقيل : المراد صلاةَ العصر والصبح، وقيل : صلاةَ المسلمين، قبل فرض الخمس، وقيل : للاستغراق، وإنما خص الوقتين ؛ لأنهما محل الاشتغال، فأولى غيرهما. ﴿ ولا تكن من الغافلين ﴾ عن ذكر الله.
وفي هذا المقام قال الواسطي رضي الله عنه : الذاكرون في حال ذكره أشد غفلة من التاركين لذكره ؛ لأن ذكره سواه. وفيه أيضًا قال الغزالي : ذكر اللسان يُوجب كثرة الذنوب. وقال الشاعر :
مَا إِنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُني | سرِّي، وقَلْبِي، وَرُوحِي، عِنْدَ ذِكْرَاكَ |
أَمَا تَرَى الحَقِّ قَدْ لآحَتْ شَوَاهِدِهُ | وَوَاصِل الكُلِّ مِنْ مَعْنِاهُ مَعْنَاكَ |
وفي هذا المقام قال الواسطي رضي الله عنه : الذاكرون في حال ذكره أشد غفلة من التاركين لذكره ؛ لأن ذكره سواه. وفيه أيضًا قال الغزالي : ذكر اللسان يُوجب كثرة الذنوب. وقال الشاعر :
مَا إِنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُني | سرِّي، وقَلْبِي، وَرُوحِي، عِنْدَ ذِكْرَاكَ |
أَمَا تَرَى الحَقِّ قَدْ لآحَتْ شَوَاهِدِهُ | وَوَاصِل الكُلِّ مِنْ مَعْنِاهُ مَعْنَاكَ |