تفسير سورة المزّمّل

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة المزمل
هذه السورة مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها :﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ﴾والتي تليها، ذكره الماوردي. وقال الجمهور : هي مكية إلا قوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ ﴾ الخ، فإنه نزل بالمدينة. وسبب نزولها فيما ذكر الجمهور : أنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره، رجع إلى خديجة فقال :«زملوني زملوني »، فنزلت :
﴿ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ ﴾، وعلى هذا نزلت :﴿ يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ﴾.
وما رووا أن عائشة رضي الله عنها سئلت : ما كان تزميله ؟ قالت : كان مرطاً طوله أربع عشرة ذراعاً، نصفه عليّ وأنا نائمة، ونصفه عليه، إلى آخر الرواية ؛ كذب صراح، لأن نزول ﴿ يا أيها المزمل ﴾ بمكة في أوائل مبعثة، وتزويجه عائشة كان بالمدينة.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أن في آخر ما قبلها ﴿ عالم الغيب ﴾ الآيات، فأتبعه بقوله :﴿ يا أيها المزمل ﴾،

سورة المزّمّل
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١ الى ٢٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩)
وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)
309
تَزَمَّلَ فِي ثَوْبِهِ: الْتَفَّ، وَزَمَلَ: لَفَّ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَّمَّلِ وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَكَائِنٍ تَخَطَّتْ نَاقَتِي مِنْ مَفَازَةٍ وَمِنْ نَائِمٍ عَنْ لَيْلِهَا مُتَزَمِّلِ
تَبَتَّلَ إِلَى كَذَا: انْقَطَعَ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ هِبَةٌ بَتْلَةٌ، وَطَلْقَةٌ بَتْلَةٌ، وَالْبَتُولُ وَبَتَلَ الْحَبْلَ. قَالَ اللَّيْثُ: الْبَتْلُ تَمْيِيزُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَالْبَتُولُ الْمَرْأَةُ الْمُنْقَطِعَةُ عَنِ الرِّجَالِ لَا شَهْوَةَ لَهَا وَلَا حَاجَةَ لَهَا فِيهِمْ، وَالتَّبَتُّلُ: تَرْكُ النِّكَاحِ وَالزُّهْدُ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
تُضِيءُ الظَّلَامَ بِالْعِشَاءِ كَأَنَّهَا مَنَارَةُ مُمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ
وَمِنْهُ النَّهْيُ عَنِ التَّبَتُّلِ: أَيْ عَنِ الِانْقِطَاعِ عَنِ التَّزْوِيجِ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّاهِبِ مُتَبَتِّلِ، وَمِنْهُ النَّهْيُ عَنِ التَّبَتُّلِ: أَيْ عَنِ الِانْقِطَاعِ عَنِ التَّزْوِيجِ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّاهِبِ مُتَبَتِّلٌ، لِانْقِطَاعِهِ عَنِ النَّاسِ وَانْفِرَادِهِ لِلْعِبَادَةِ. وَالْغُصَّةُ: الشَّجَى، وَهُوَ مَا يَنْشَبُ بِالْحَلْقِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَجَمْعُهَا غُصَصٌ، وَالْفِعْلُ غَصَصْتَ، فَأَنْتَ غَاصٌّ وَغَصَّانُ، قَالَ:
كُنْتُ كَالْغَصَّانِ بِالْمَاءِ اعْتِصَارِي الْكَثِيبُ: الرَّمْلُ الْمُجْتَمِعُ، وَجَمْعُهُ كُثُبٌ وَكُثْبَانُ فِي الْكَثْرَةِ، وَأَكْثِبَةٌ فِي الْقِلَّةِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
فَقُلْتُ لَهَا لَا إِنَّ أَهْلِي جيرة لا كثبة الدَّهْنَا جَمِيعًا وَمَالِيَا
الْمَهِيلُ: الَّذِي يَمُرُّ تَحْتَ الرَّجُلِ، وَهِلْتُ عَلَيْهِ التُّرَابَ: صَبَبْتُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
الْمَهِيلُ: الَّذِي إِذَا وَطِئَتْهُ الْقَدَمُ زَلَّ مِنْ تَحْتِهَا، وَإِذَا أَخَذَتْ أَسْفَلَهُ انْهَالَ، وَأَهَلْتُ لُغَةٌ فِي هِلْتُ. الشِّيبُ: جَمْعُ أَشَيْبٍ.
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا، إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا، إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً، وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً، يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا، إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا.
310
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَالَّتِي تَلِيهَا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إِلَخْ، فَإِنَّهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ.
وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا
ذَكَرَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا جَاءَهُ الْمَلَكُ فِي غَارِ حِرَاءٍ وَحَاوَرَهُ بِمَا حَاوَرَهُ، رَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فَنَزَلَتْ:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «١»، وَعَلَى هَذَا نَزَلَتْ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قَالَتْ عَائِشَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: وَنُودِيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ مُتَزَمِّلًا بِكِسَاءٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ تَزَمَّلَ فِي ثِيَابِهِ لِلصَّلَاةِ وَاسْتَعَدَّ. فَنُودِيَ عَلَى مَعْنَى: يَا أَيُّهَا الْمُسْتَعِدُّ لِلْعِبَادَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنَاهُ الْمُزَّمِّلُ لِلنُّبُوَّةِ وَأَعْبَائِهَا، أَيِ الْمُشَمِّرُ الْمُجِدُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّزَمُّلُ مَجَازًا، وَعَلَى مَا سَبَقَ يَكُونُ حَقِيقَةً.
وَمَا رَوَوْا إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُئِلَتْ: مَا كَانَ تَزْمِيلُهُ؟ قَالَتْ: كَانَ مِرْطًا طُولُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، نِصْفُهُ عَلَيَّ وَأَنَا نَائِمَةٌ، وَنِصْفُهُ عَلَيْهِ، إِلَى آخَرِ الرِّوَايَةِ كَذِبٌ صُرَاحٌ، لِأَنَّ نُزُولَ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بمكة فِي أَوَائِلِ مَبْعَثِهِ، وَتَزْوِيجُهُ عائشة كان بالمدينة.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ فِي آخِرِ مَا قَبْلَهَا عالِمُ الْغَيْبِ «٢» الآيات، فأتبعه بقوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، إعلاما بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنِ ارْتَضَاهُ مِنَ الرُّسُلِ وَخَصَّهُ بِخَصَائِصَ وَكَفَاهُ شَرَّ أَعْدَائِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُزَّمِّلُ، بِشَدِّ الزَّايِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَصْلُهُ الْمُتَزَمِّلُ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: المتزمل على الأصل وعكرمة: بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. أَيِ الْمُزَمِّلُ جِسْمَهُ أَوْ نَفْسَهُ. وَقَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ: بِتَخْفِيفِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، أَيِ الَّذِي لف. وللزمخشري فِي كَيْفِيَّةِ نِدَاءِ اللَّهِ لَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ كَلَامٌ ضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا، فَلَمْ أَذْكُرْهُ فِي كِتَابِي. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَيْسَ الْمُزَّمِّلُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعْرَفُ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ حَالَتِهِ الَّتِي كَانَ الْتَبَسَ بِهَا حَالَةَ الْخِطَابِ، وَالْعَرَبُ إِذَا قَصَدَتِ الْمُلَاطَفَةَ بِالْمُخَاطَبِ تَتْرُكُ الْمُعَاتَبَةَ نَادَوْهُ بِاسْمٍ مشتق من حالته التي هُوَ عَلَيْهَا،
كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَقَدْ نَامَ وَلَصِقَ بِجَنْبِهِ التُّرَابُ: «قُمْ أَبَا تُرَابٍ»، إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مُلَاطِفٌ لَهُ
، فَقَوْلُهُ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ فِيهِ تَأْنِيسٌ وَمُلَاطَفَةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُمِ اللَّيْلَ، بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَأَبُو السَّمَّالِ:
(١) سورة المدثر: ٧٤/ ١.
(٢) سورة الجن: ٧٢/ ٢٦ وما بعدها.
311
بِضَمِّهَا اتِّبَاعًا لِلْحَرَكَةِ مِنَ القاف. وقرىء: بِفَتْحِهَا طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: الْغَرَضُ بِالْحَرَكَةِ الْهُرُوبُ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَبِأَيِّ حَرَكَةٍ تَحَرَّكَ الْحَرْفُ حَصَلَ الْغَرَضُ، وَقُمْ طَلَبٌ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، وَقِيلَ: كَانَ فَرْضًا عَلَى الرَّسُولِ خَاصَّةً، وَقِيلَ: عَلَيْهِ وَعَلَى الْجَمِيعِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَدَامَ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَنَزَلَتْ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ الْآيَاتِ، فَخَفَّفَ عَنْهُمْ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. بَيَّنَ الِاسْتِثْنَاءُ أَنَّ الْقِيَامَ الْمَأْمُورَ بِهِ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ اللَّيْلِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ، لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَاسْتِغْرَاقُ جَمِيعِهِ بِالْقِيَامِ عَلَى الدَّوَامِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُ لِرَاحَةِ الْجَسَدِ وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَهُ الْفِعْلُ وَهُوَ عِنْدُ الْكُوفِيِّينَ مَفْعُولٌ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى قَدْ يَكُونُ مُبْهَمَ الْمِقْدَارِ، كَقَوْلِهِ: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ «١» فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ «٢».
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: الْقَلِيلُ مَا دُونُ الْمِعْشَارِ وَالسُّدْسِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: الثُّلُثُ.
وَقِيلَ: مَا دُونُ النِّصْفِ، وَجَوَّزُوا فِي نِصْفِهِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ اللَّيْلِ وَمِنْ قَلِيلًا. فَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنَ اللَّيْلِ، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَكَانَ الْمَأْمُورُ بِقِيَامِهِ نِصْفَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ وَعَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى النِّصْفِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: قُمْ نِصْفَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا، أَوِ انْقُصْ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَوِ انْقُصْ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ قَلِيلًا، تَكْرَارًا لِقَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ تَرْكِيبٌ غَيْرُ فَصِيحٍ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نِصْفَهُ بَدَلٌ من الليل، وإلا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ النِّصْفِ، كَأَنَّهُ قَالَ: قُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ وَعَلَيْهِ لِلنِّصْفِ، وَالْمَعْنَى: التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، بَيْنَ أَنْ يَقُومَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ عَلَى البت، وبين أن يخنار أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُمَا النُّقْصَانُ مِنَ النِّصْفِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. فَلَمْ يَتَنَبَّهْ لِلتَّكْرَارِ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِهِ: قُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ كَانَ قَوْلَهُ، أَوِ انْقُصْ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ تَكْرَارًا. وَإِذَا كَانَ نِصْفَهُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا، فَالضَّمِيرُ فِي نِصْفِهِ إِمَّا أَنْ يَعُودُ عَلَى الْمُبَدَّلِ مِنْهُ، أَوْ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ اللَّيْلُ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَعُودُ عَلَى الْمُبَدَّلِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ اسْتِثْنَاءَ مَجْهُولٍ مِنْ مَجْهُولٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفُ الْقَلِيلِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لَهُ مَعْنَى الْبَتَّةِ. وَإِنْ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّيْلِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ اللَّيْلِ، إِذْ كَانَ يَكُونُ أَخْصَرَ وَأَوْضَحَ وَأَبْعَدَ عَنِ الْإِلْبَاسِ أن يكون
(١) سورة النساء: ٤/ ٦٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٨٣.
312
التَّرْكِيبُ قُمِ اللَّيْلَ نِصْفَهُ. وَقَدْ أَبْطَلْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْبَدَلِ وَهُوَ نِصْفُهُ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: قُمِ اللَّيْلَ نِصْفَهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ، أَيْ مِنَ النِّصْفِ. وأَيْضًا فَفِي دَعْوَى أَنَّ نِصْفَهُ بَدَلٌ مِنْ إِلَّا قَلِيلًا، وَالضَّمِيرُ فِي نِصْفَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّيْلَ، إِطْلَاقُ الْقَلِيلِ عَلَى النِّصْفِ، وَيَلْزَمُ أَيْضًا أَنْ يَصِيرَ التَّقْدِيرُ: إِلَّا نِصْفَهُ فَلَا تَقُمْهُ، أَوِ انْقُصْ مِنَ النِّصْفِ الَّذِي لا تقومه، أو زد عَلَيْهِ النِّصْفَ الَّذِي لَا تَقُومُهُ، وَهَذَا مَعْنًى لَا يَصِحُّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ قَطْعًا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ نِصْفَهْ بَدَلًا مِنْ قَلِيلًا، وَكَانَ تَخْيِيرًا بَيْنَ ثَلَاثٍ:
بَيْنَ قِيَامِ النِّصْفِ بِتَمَامِهِ، وَبَيْنَ قِيَامِ النَّاقِصِ مِنْهُ، وَبَيْنَ قِيَامِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا وَصَفَ النِّصْفَ بِالْقِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ: لَمَّا كَانَ مَعْنَى قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ: إِذَا أَبْدَلْتَ النِّصْفَ مِنَ اللَّيْلِ، قُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، رَجَعَ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ وَعَلَيْهِ إِلَى الْأَقَلِّ مِنَ النِّصْفِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَقُمْ أنقص من ذلك الأقل أَوْ أَزْيَدَ مِنْهُ قَلِيلًا، فَيَكُونُ التَّخْيِيرُ فِيمَا وَرَاءَ النِّصْفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثُّلُثِ، وَيَجُوزُ إِذَا أَبْدَلْتَ نِصْفَهُ مِنْ قَلِيلًا وَفَسَّرْتَهُ بِهِ أَنْ تَجْعَلَ قَلِيلًا الثَّانِي بِمَعْنَى نِصْفِ النِّصْفِ وَهُوَ الربع، كأنه قيل: أو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا نِصْفَهُ، وَتَجْعَلُ الْمَزِيدَ عَلَى هَذَا الْقَلِيلَ، أَعْنِي الرُّبُعَ نِصْفَ الربع، كأنه قيل: أو زِدْ عَلَيْهِ قَلِيلًا نِصْفَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ الزِّيَادَةَ لِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً تَتِمَّةَ الثُّلُثِ، فَيَكُونُ تَخْيِيرًا بَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ. انْتَهَى. وَمَا أَوْسَعَ خَيَالَ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ مَا يَقْرُبُ وَمَا يَبْعُدُ، وَالْقُرْآنُ لَا يَنْبَغِي، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ إِلَّا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَأْتِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي خُطْبَةِ هَذَا الْكِتَابِ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَكُونَ نِصْفَهُ بَدَلًا مِنْ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ قَلِيلًا الزَّمَخْشَرِيُّ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ. وَابْنُ عَطِيَّةَ أَوْرَدَهُ مَوْرِدَ الِاحْتِمَالِ، وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَقَالَ: أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ، وَالْهَاءُ فِيهِمَا لِلنِّصْفِ.
فَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النِّصْفِ لَصَارَ التَّقْدِيرُ: قُمْ نِصْفَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا، أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا.
وَالْقَلِيلُ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَالنُّقْصَانُ مِنْهُ لَا يَتَحَصَّلُ. انْتَهَى. وَأَمَّا الْحَوْفِيُّ فَأَجَازَ أن يكون بدلا من اللَّيْلَ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يَحْتَمِلُ عِنْدِي قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْقِيَامِ، فَيُجْعَلُ اللَّيْلَ اسْمَ جِنْسٍ. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا قَلِيلًا، أَيِ اللَّيَالِي الَّتِي تُخِلُّ بِقِيَامِهَا عِنْدَ الْعُذْرِ الْبَيِّنِ وَنَحْوُهُ، وَهَذَا النَّظَرُ يَحْسُنُ مَعَ الْقَوْلِ بِالنَّدْبِ. انْتَهَى، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَوْ نِصْفَهُ، كَمَا تَقُولُ: أَعْطِهِ دِرْهَمًا دِرْهَمَيْنِ ثَلَاثَةً، تُرِيدُ: أَوْ دِرْهَمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً. انْتَهَى، وَفِيهِ حَذَفَ حَرْفَ الْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: الْأَمْرُ بِالْقِيَامِ وَالتَّخْيِيرِ فِي الزِّيَادَةِ
313
وَالنُّقْصَانِ وَقَعَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ مِنْ آخَرِ اللَّيْلِ، لِأَنَّ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ وَقْتَ الْعَتَمَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ وَارِدٌ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُمْ ثُلْثَيِ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا، ثُمَّ جَعَلَ نِصْفَهُ بَدَلًا مِنْ قَلِيلًا، فَصَارَ الْقَلِيلُ مُفَسَّرًا بِالنِّصْفِ مِنَ الثُّلْثَيْنِ، وَهُوَ قَلِيلٌ مِنَ الْكُلِّ. فَقَوْلُهُ: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ: أَيْ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ قِيَامُ الثُّلُثِ، قَلِيلًا: أَيْ مَا دُونَ نِصْفِهِ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى الثُّلُثَيْنِ، فَكَانَ التَّخْيِيرُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاقِعًا عَلَى الثُّلُثَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهَانِ مُلَخَّصَانِ، وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا مُلَفَّقًا يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّرْتِيلِ فِي آخِرِ الْإِسْرَاءِ.
قَوْلًا ثَقِيلًا: هُوَ الْقُرْآنُ، وَثِقَلُهُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، كَالْجِهَادِ وَمُدَاوَمَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْهَذَّ خَفِيفٌ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ ثَقِيلٌ. وَقَالَ أبو العالية: والقرطبي: ثِقَلُهُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِإِعْجَازِهِ وَوَعِيدِهِ. وَقِيلَ: ثِقَلُهُ مَا كَانَ يَحِلُّ بِجِسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَةَ تَلَقِّيهِ الْوَحْيَ، حَتَّى كَانَتْ نَاقَتُهُ تَبْرُكُ بِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَحَتَّى كَادَتْ رَأْسُهُ الْكَرِيمَةُ أَنْ تُرَضَّ فَخَذَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ. وَقِيلَ: كَلَامٌ لَهُ وَزْنٌ ورجحان ليس بالسفساف. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلَامًا عَظِيمًا. وَقِيلَ: ثَقِيلٌ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ.
وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنْ بَقَائِهِ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، لِأَنَّ الثَّقِيلَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْقَى فِي مَكَانِهِ.
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ،
قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: هِيَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وقالت عائشة ومجاهد: هِيَ الْقِيَامُ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَمَنْ قَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَلَمْ يَقُمْ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ لَفْظَةٌ حَبَشِيَّةٌ، نَشَأَ الرَّجُلُ: قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، فَنَاشِئَةٌ على هذا جمع ناشىء، أَيْ قَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا وَجَمَاعَةٌ: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ: سَاعَاتُهُ، لِأَنَّهَا تَنْشَأُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو مِجْلِزٍ: مَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَهُوَ نَاشِئَةٌ، وَمَا كَانَ قَبْلَهَا فَلَيْسَ بِنَاشِئَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ صَلَاتُهُمْ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَقَالَ هُوَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: اللَّيْلُ كُلُّهُ نَاشِئَةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:
نَاشِئَةُ اللَّيْلِ أَوَّلُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ: النَّفْسُ النَّاشِئَةُ بِاللَّيْلِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِهَا إِلَى الْعِبَادَةِ، أَيْ تَنْهَضُ وَتَرْتَفِعُ مَنْ نَشَأَتِ السَّحَابَةُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، وَنَشَأَ مِنْ مَكَانِهِ وَنَشَرَ إِذَا نَهَضَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
نَشَأْنَا إِلَى خُوصٍ بَرَى فِيهَا السُّرَى وَأَلْصَقَ مِنْهَا مُشْرِفَاتِ الْقَمَاحِدِ
أَوْ: قِيَامُ اللَّيْلِ، عَلَى أَنَّ النَّاشِئَةَ مَصْدَرٌ مِنْ نَشَأَ إِذَا قَامَ وَنَهَضَ عَلَى فَاعِلِهِ كَالْعَاقِبَةِ.
انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وِطَاءً بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الطَّاءِ مَمْدُودًا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَشِبْلٌ، عَنْ أَهْلِ
314
مَكَّةَ: بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَالْهَمْزَةُ مَقْصُورَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِفَتْحِ الْوَاوِ مَمْدُودًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَشَدُّ مواطأة، أي يواطىء الْقَلْبُ فِيهَا اللِّسَانَ، أَوْ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِمَا يُرَادُ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ. وَمَنْ قرأ وَطْئاً: أَيْ أَشَدُّ ثَبَاتَ قَدَمٍ وَأَبْعَدُ مِنَ الزَّلَلِ، أَوْ أَثْقَلُ وَأَغْلَظُ عَلَى الْمُصَلِّي مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، كَمَا
جَاءَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ».
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَشَدُّ قِيَامًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَثْبَتُ قِرَاءَةً وَقِيَامًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَشَدُّ نَشَاطًا لِلْمُصَلِّي لِأَنَّهُ فِي زَمَانِ رَاحَتِهِ. وَقِيلَ: أَثْبَتُ لِلْعَمَلِ وَأَدْوَمُ لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَاللَّيْلُ وَقْتُ فَرَاغٍ، فَالْعِبَادَةُ تَدُومُ. وَأَقْوَمُ قِيلًا: أَيْ أَشَدُّ اسْتِقَامَةً عَلَى الصَّوَابِ، لِأَنَّ الْأَصْوَاتَ هَادِئَةٌ فَلَا يَضْطَرِبُ عَلَى الْمُصَلِّي مَا يَقْرَؤُهُ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أَصْوَبُ لِلْقِرَاءَةِ وَأَثْبَتُ لِلْقَوْلِ، لِأَنَّهُ زَمَانُ التَّفَهُّمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَتَمُّ نَشَاطًا وَإِخْلَاصًا وَبَرَكَةً. وَحَكَى ابْنُ شَجَرَةَ: أَعْجَلُ إِجَابَةً لِلدُّعَاءِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَجْدَرُ أَنْ يَتَفَقَّهَ فِيهَا الْقَارِئُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَبْحاً: أَيْ تَصَرُّفًا وَتَقَلُّبًا فِي الْمُهِمَّاتِ، كَمَا يَتَرَدَّدُ السَّابِحُ فِي الْمَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أباحوا لكم شَرْقَ الْبِلَادِ وَغَرْبَهَا فَفِيهَا لَكُمْ يَا صَاحُ سَبْحٌ مِنَ السَّبْحِ
وَقِيلَ: سَبْحًا سُبْحَةً، أَيْ نَافِلَةً. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمُرَ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: سَبْخًا بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ وَمَعْنَاهُ: خِفَّةٌ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَالتَّسْبِيخُ: التَّخْفِيفُ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ سَبَّخَ الصُّوفَ إِذَا نَفَشَهُ وَنَشَرَ أَجْزَاءَهُ، فَمَعْنَاهُ: انْتِشَارُ الْهِمَّةِ وَتَفَرُّقِ الْخَاطِرِ بِالشَّوَاغِلِ. وَقِيلَ: فَرَاغًا وَسَعَةً لِنَوْمِكَ وَتَصَرُّفِكَ فِي حَوَائِجِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنْ فَاتَ حِزْبُ اللَّيْلِ بِنَوْمٍ أَوْ عُذْرٍ. فَلْيُخْلِفْ بِالنَّهَارِ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْحًا طَوِيلًا. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَفَسَّرَ ابْنُ يَعْمُرَ وَعِكْرِمَةُ سَبْخًا بِالْخَاءِ مُعْجَمَةً. وَقَالَ: نَوْمًا، أَيْ تَنَامُ بِالنَّهَارِ لِتَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ. وَقَدْ تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى، لَكِنَّهُمَا فَسَّرَاهَا، فَلَا يُجَاوِزُ عَنْهُ. انْتَهَى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَسَبَّخِي بِدُعَائِكِ»
، أَيْ لَا تخفي. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَسَبِّخْ عَلَيْكَ الْهَمَّ وَاعْلَمْ بِأَنَّهُ إِذَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ شَيْئًا فَكَائِنٌ
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ سَبَّخَ اللَّهُ عَنْكَ الْحُمَّى، أَيْ خَفَّفَهَا. وَقِيلَ: السَّبْخُ: الْمَدُّ، يُقَالُ: سَبِّخِي قُطْنَكِ: أَيْ مُدِّيهِ، وَيُقَالُ لِقِطَعِ الْقُطْنِ سَبَائِخُ، الْوَاحِدَةُ سَبِيخَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
فَأَرْسَلُوهُنَّ يُذْرِينَ التُّرَابَ كَمَا يُذْرِي سَبَائِخَ قُطْنِ نَدْفُ أَوْتَارِ
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ: أَيْ دُمْ عَلَى ذِكْرِهِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذِكْرٍ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَهْلِيلٍ
315
وَغَيْرِهِمَا، وَانْتَصَبَ تَبْتِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُهُ فَاصِلَةً.
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ: رَبِّ بِالْخَفْضِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ رَبِّكَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بالرفع وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالنَّصْبِ وَالْجُمْهُورُ: الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُوَحَّدَيْنِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِجَمْعِهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلَى الْقَسَمِ، يَعْنِي: خَفَضَ رَبِّ بِإِضْمَارِ حَرْفِ الْقَسَمِ، كَقَوْلِكَ: اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ، وَجَوَابُهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، كَمَا تَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَحَدَ فِي الدار إلا زيد. انْتَهَى. وَلَعَلَّ هَذَا التَّخْرِيجَ لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ فِيهِ إِضْمَارُ الْجَارِّ فِي الْقَسَمِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فِي لَفْظَةِ اللَّهِ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَنْفِيَّةَ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ إِذَا كَانَتِ اسْمِيَّةً فَلَا تنفي إلا بما وحدها، ولا تنفي بلا إِلَّا الْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِمُضَارِعٍ كَثِيرًا وَبِمَاضٍ فِي مَعْنَاهُ قَلِيلًا، نَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
ردوا فو الله لَا زُرْنَاكُمْ أَبَدًا مَا دَامَ فِي مَائِنَا وِرْدٌ لورّاد
والزمخشري أَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ هُوَ نَفْيُهَا بِمَا نَحْوُ قَوْلِهِ:
لَعَمْرُكَ مَا سَعْدٌ بِخُلَّةِ آثِمٍ وَلَا نَأْنَأٍ يَوْمَ الْحِفَاظِ وَلَا حَصِرْ
فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، لِأَنَّ مَنِ انْفَرَدَ بِالْأُلُوهِيَّةِ لَمْ يَتَّخِذْ وَكِيلًا إِلَّا هُوَ. وَاصْبِرْ، وَاهْجُرْهُمْ: قِيلَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: فِي الْمُطْعِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَتَقَدَّمَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلِ هَذَا فِي فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ «١». أُولِي النَّعْمَةِ: أَيْ غَضَارَةُ الْعَيْشِ وَكَثْرَةُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَالنَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ: التَّنَعُّمُ، وَبِالْكَسْرِ: الْأَنْعَامُ وَمَا يُنْعِمُ بِهِ، وَبِالضَّمِّ:
الْمَسَرَّةُ، يُقَالُ: نِعَمٌ وَنِعْمَةُ عَيْنٍ. وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا: وَعِيدٌ لَهُمْ بِسُرْعَةِ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَالْقَلِيلُ: مُوَافَاةُ آجَالِهِمْ وَقِيلَ: وَقْعَةُ بَدْرٍ. إِنَّ لَدَيْنا: أَيْ مَا يُضَادُّ نِعْمَتَهُمْ، أَنْكالًا:
قُيُودًا فِي أَرْجُلِهِمْ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ تُجْعَلْ فِي أَرْجُلِهِمْ خَوْفًا مِنْ هُرُوبِهِمْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَرْتَفِعُوا اسْتَقَلَّتْ بِهِمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْأَنْكَالُ: الْأَغْلَالُ، وَالْأَوَّلُ أَعْرَفُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
دَعَاكَ فَقَطَّعْتَ أَنْكَالَهُ وَقَدْ كُنَّ قَبْلَكَ لَا تقطع
(١) سورة القلم: ٦٨/ ٤٤.
316
وَجَحِيماً: نَارًا شَدِيدَةَ الْإِيقَادِ. وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَوْكٌ مِنْ نَارٍ يَعْتَرِضُ فِي حُلُوقِهِمْ، لَا يَخْرُجُ وَلَا يَنْزِلُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. وَقِيلَ:
الضَّرِيعُ وَشَجَرَةُ الزَّقُّومِ. يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِالْعَامِلِ في الدنيا، وقيل: بذرني، تَرْجُفُ:
تَضْطَرِبُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَرْجُفُ بِفَتْحِ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِضَمِّهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، كَثِيباً: أَيْ رَمْلًا مُجْتَمِعًا، مَهِيلًا: أَيْ رَخْوًا لَيِّنًا. قِيلَ: وَيُقَالُ: مَهِيلٌ وَمَهْيُولٌ، وَكَيْلٌ وَمَكْيُولٌ، وَمَدِينٌ وَمَدْيُونٌ، الْإِتْمَامُ فِي ذَوَاتِ الْيَاءِ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالْحَذْفُ لِأَكْثَرِ الْعَرَبِ.
وَلَمَّا هَدَّدَ الْمُكَذِّبِينَ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، ذَكَّرَهُمْ بِحَالِ فِرْعَوْنَ وَكَيْفَ أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى، إِذْ كَذَّبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ إِنْ دَامَ تَكْذِيبُهُمْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ، وَالْخِطَابُ عَامٌّ لِلْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ. وَقِيلَ: لِأَهْلِ مَكَّةَ، رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ، كَمَا قَالَ: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ «١». وَشَبَّهَ إِرْسَالَهُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِإِرْسَالِ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ عَلَى التَّعْيِينِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَبَا فِي قَوْمِهِ وَاسْتُحْقِرُوا بِهِمَا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِمَا جَرَى مِنْ غَرَقِ فِرْعَوْنَ، فَنَاسَبَ أَنْ يُشَبِّهَ الْإِرْسَالَ بِالْإِرْسَالِ. وَقِيلَ: الرَّسُولُ بِلَامِ التَّعْرِيفِ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَأُحِيلَ عَلَيْهِ. كَمَا تَقُولُ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ، لِأَنَّ الْمَضْرُوبَ هُوَ الْمَلْقِيُّ، وَالْوَبِيلُ: الرَّدِيءُ الْعُقْبَى، مِنْ قَوْلِهِمْ: كَلَأٌ وَبِيلٌ: أَيْ وَخِيمٌ لَا يُسْتَمْرَأُ لِثِقَلِهِ، أَيْ لَا يَنْزِلُ فِي الْمَرِيءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا، إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا، إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
يَوْماً منصوب بتتقون، مَنْصُوبٌ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى الْمَجَازِ، أَيْ كَيْفَ تَسْتَقْبِلُونَ هَذَا الْيَوْمَ الْعَظِيمَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا؟ وَالضَّمِيرُ فِي يَجْعَلُ لِلْيَوْمِ، أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْجَعْلُ لَمَّا كَانَ وَاقِعًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَوْماً مَفْعُولٌ بِهِ، أي
(١) سورة النحل: ١٦/ ٨٩.
317
فَكَيْفَ تَقُونَ أَنْفُسَكُمْ يَوْمَ القيامة وهو له إِنْ بَقِيتُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ تُؤْمِنُوا وَتَعْمَلُوا صَالِحًا؟
انتهى. وتتقون مُضَارِعُ اتَّقَى، وَاتَّقَى لَيْسَ بِمَعْنَى وَقَى حَتَّى يُفَسِّرَهُ بِهِ، وَاتَّقَى يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَوَقَى يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. قَالَ تَعَالَى: وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ «١»، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقُونَ أَنْفُسَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ تَتَّقُونَ بِمَعْنَى تَقُونَ، فَلَا يَتَعَدَّى بعديته، وَدَسَّ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ تُؤْمِنُوا وَتَعْمَلُوا صَالِحًا الِاعْتِزَالَ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، أَيْ فَكَيْفَ لَكُمْ بِالتَّقْوَى فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْ كَفَرْتُمْ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بكفرتم عَلَى تَأْوِيلِ جَحَدْتُمْ، أَيْ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ اللَّهَ وَتَخْشَوْنَهُ إِنْ جَحَدْتُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَالْجَزَاءُ لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ خَوْفُ عِقَابِهِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَوْماً مُنَوَّنًا، يَجْعَلُ بِالْيَاءِ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَجْعَلُ صفة ليوم، فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي يَجْعَلُ عَائِدًا عَلَى الْيَوْمِ فَوَاضِحٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَإِنْ عَادَ عَلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ ضَمِيرٍ يَعُودُ إِلَى الْيَوْمِ، أَيْ يَجْعَلُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ «٢». وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِغَيْرِ تَنْوِينٍ: نَجْعَلُ بِالنُّونِ، فَالظَّرْفُ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَالشِّيبُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَجْعَلَ، أَيْ يَصِيرُ الصِّبْيَانُ شُيُوخًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَيُقَالُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ: يَوْمٌ يُشِيبُ نَوَاصِيَ الْأَطْفَالِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْهُمُومَ إِذَا تَفَاقَمَتْ أَسْرَعَتْ بِالشِّيبِ. قَالَ الْمُتَنَبِّي:
وَالْهَمُّ يَخْتَرِمُ الْجَسِيمَ نَحَافَةً وَيُشِيبُ نَاصِيَةَ الصَّبِيِّ وَيُهْرِمُ
وَقَالَ قَوْمٌ: ذَلِكَ حَقِيقَةٌ تَشِيبُ رُؤُوسُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ، كَمَا قَدْ يُرَى الشَّيْبُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْهَمِّ الْمُفْرِطِ، كَهَوْلِ الْبَحْرِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْيَوْمُ بِالطُّولِ، وَأَنَّ الْأَطْفَالَ يَبْلُغُونَ فِيهِ أَوَانَ الشَّيْخُوخَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْوِلْدَانَ: أَوْلَادُ الزِّنَا. وَقِيلَ: أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ، أَيْ يَشِيبُ الصَّغِيرُ مِنْ غَيْرِ كِبَرٍ، وَذَلِكَ حِينَ يُقَالُ لِآدَمَ: يَا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. وَقِيلَ: هَذَا وَقْتَ الْفَزَعِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةَ الصَّعْقِ.
السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي الْمُظِلَّةَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، فَجَاءَ مُنْفَطِرٌ عَلَى التَّذْكِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ:
فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءُ إليه قوم لَحِقْنَا بِالسَّمَاءِ وَبِالسَّحَابِ
وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّأْنِيثِ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ الْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ، وَالشَّجَرِ الْأَخْضَرِ، وَأَعْجَازِ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّهَا مِنْ بَابِ اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي بينه وبين
(١) سورة الدخان: ٤٤/ ٥٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٤٨- ١٢٣.
318
مُفْرَدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ وَأَنَّ مُفْرَدَهُ سَمَاءٌ، وَاسْمُ الْجِنْسِ يَجُوزُ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، فَجَاءَ مُنْفَطِرٌ عَلَى التَّذْكِيرِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ، وَتَبِعَهُمُ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: مَجَازُهَا السَّقْفُ، فَجَاءَ عَلَيْهِ مُنْفَطِرٌ، وَلَمْ يَقُلْ مُنْفَطِرَةً. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ أَيْضًا: التَّقْدِيرُ ذَاتُ انْفِطَارٍ كَقَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ، أَيْ ذَاتُ رَضَاعٍ، فَجَرَى عَلَى طَرِيقِ التَّسَبُّبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوِ السَّمَاءُ شَيْءٌ مُنْفَطِرٌ، فَجَعَلَ مُنْفَطِرٌ صِفَةً لِخَبَرٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ بِمُذَكَّرٍ وَهُوَ شَيْءٌ، وَالِانْفِطَارُ: التَّصَدُّعُ وَالِانْشِقَاقُ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الْيَوْمِ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَوْ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ بِأَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَعْدُهُ عَائِدٌ عَلَى الْيَوْمِ، فَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ عِبَادَهُ هَذَا الْيَوْمَ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِنْجَازِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ قَرِيبٌ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي هَذِهِ مَوَاعِيدُهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
إِنَّ هذِهِ: أي السورة، أو الْأَنْكَالُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْأَخْذُ الْوَبِيلُ، أَوْ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُتَضَمِّنَةُ شِدَّةَ الْقِيَامَةِ، تَذْكِرَةٌ: أَيْ مَوْعِظَةٌ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ، وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْطُ، لِأَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ سَبِيلًا اتَّخَذَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَلَيْسَتِ الْمَشِيئَةُ هُنَا عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ، بَلْ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى: تُصَلِّي، كَقَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ. لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ الْقِيَامَ عَبَّرَ بِهِ عَنْهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ تَخْفِيفًا لِمَا كَانَ اسْتِمْرَارُ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ أَمْرِ قِيَامِ اللَّيْلِ، إِمَّا عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِمَّا عَلَى النَّدْبِ، عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ: أَيْ زَمَانًا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، وَاسْتُعِيرَ الْأَدْنَى، وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِلْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمَسَافَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا دَنَتْ قَلَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحْيَازِ، وَإِذَا بَعُدَتْ كَثُرَ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ ثُلُثَيِ بِضَمِّ اللَّامِ وَالْحَسَنُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ السميفع وَهِشَامٌ وَابْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ قُنْبُلٍ فِيمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَامِلِ: بِإِسْكَانِهَا، وَجَاءَ ذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ عَامِرٍ فِيمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ. وقرأ العربيان ونافع: وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، بِجَرِّهِمَا عَطْفًا عَلَى ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَدْنى، لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ وَقْتًا أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ. فَقِرَاءَةُ النَّصْبِ مُنَاسِبَةٌ لِلتَّقْسِيمِ الَّذِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَامَ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا صَدَقَ عَلَيْهِ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، لِأَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي لَمْ يَقُمْ فِيهِ يَكُونُ الثُّلُثَ وشَيْئًا مِنَ الثُّلُثَيْنِ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا. وَأَمَّا
319
قَوْلُهُ: وَنِصْفَهُ فَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ أَوَّلًا: نِصْفَهُ. وَأَمَّا ثُلُثَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا قَدْ يَنْتَهِي النَّقْصُ فِي الْقَلِيلِ إِلَى أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ ثُلُثَ اللَّيْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ قَلِيلًا، كَانَ الْوَقْتُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، فَيَكُونُ قَدْ طَابَقَ قَوْلَهُ:
أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا شَرْحًا لِمُبْهَمِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، وَعَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ.
قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَى تُحْصُوهُ: تُطِيقُوهُ، أَيْ قَدَّرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ الزَّمَانَ عَلَى مَا مَرَّ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَلَمْ يُطِيقُوا قِيَامَهُ لِكَثْرَتِهِ وَشِدَّتِهِ، فَخَفَّفَ تَعَالَى عَنْهُمْ فَضْلًا مِنْهُ، لَا لِعِلَّةِ جَهْلِهِمْ بِالتَّقْدِيرِ وَإِحْصَاءِ الْأَوْقَاتِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجَرِّ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قِيَامٌ مُخْتَلِفٌ مَرَّةً أَدْنَى مِنَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَرَّةً أَدْنَى مِنَ النِّصْفِ، وَمَرَّةً أَدْنَى مِنَ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ الْبَشَرِ مَقَادِيرَ الزَّمَانِ مَعَ عُذْرِ النَّوْمِ. وَتَقْدِيرُ الزَّمَانِ حَقِيقَةٌ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْبَشَرُ لَا يُحْصُونَ ذَلِكَ، أَيْ لَا يُطِيقُونَ مَقَادِيرَ ذَلِكَ، فَتَابَ عَلَيْهِمْ، أَيْ رَجَعَ بِهِمْ مِنَ الثِّقَلِ إِلَى الْخِفَّةِ وَأَمَرَهُمْ بِقِيَامِ مَا تَيَسَّرَ. وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ يَكُونُ عِلْمُهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْوُقُوعِ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَامُوا تِلْكَ الْمَقَادِيرَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قَامُوا أَدْنَى مِنَ الثُّلُثَيْنِ وَنِصْفًا وَثُلُثًا، وَقَامُوا أَدْنَى مِنَ النِّصْفِ وَأَدْنَى مِنَ الثُّلُثِ، فَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَثُلُثَهُ بِضَمِّ اللَّامِ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ شِبْلٍ: بِإِسْكَانِهَا وَطَائِفَةٌ: مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي تَقُومُ، وَحَسَّنَهُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُهُ: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلَى الْجَمِيعِ، إِذْ لَوْ كَانَ فَرْضًا، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: وَالَّذِينَ مَعَكَ، إِلَّا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُمْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُومُ فِي بَيْتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ، فَيُمْكِنُ إِذْ ذَاكَ الْفَرْضِيَّةُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ.
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ: أَيْ هُوَ وَحْدَهُ تَعَالَى الْعَالِمُ بِمَقَادِيرِ السَّاعَاتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَقْدِيمُ اسْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ مُبْتَدَأً مَبْنِيًّا عَلَيْهِ يُقَدِّرُ هُوَ الدَّالُّ عَلَى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ بِالتَّقْدِيرِ. انْتَهَى. وَهَذَا مَذْهَبُهُ، وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ الِاخْتِصَاصُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لَا مِنْ تَقْدِيمِ الْمُبْتَدَأِ. لَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ أَوْ يَتَفَقَّهُ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، لَمْ يَدُلَّ تَقْدِيمُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، والضمير في نحصوه، الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ يُقَدِّرُ، أَيْ أَنْ لَنْ تُحْصُوا تَقْدِيرَ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لَا تُحِيطُوا بِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْقِيَامِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ. قِيلَ:
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ مَا أَمَرَ بِهِ. وَقِيلَ: رَجَعَ بِكُمْ مِنْ ثِقَلٍ إِلَى خَفٍّ، وَمِنْ عسر إلى عسر، وَرَخَّصَ لَكُمْ فِي تَرْكِ القيام المقدر. فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ:
320
عَبَّرَ بِالْقِرَاءَةِ عَنِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا بَعْضُ أَرْكَانِهَا، كَمَا عُبِّرَ عَنْهَا بِالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَيْ فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ مِنْ صَلَاةِ الليل. قيل: وَهَذَا نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، ثُمَّ نُسِخَا جَمِيعًا بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وهذا الأمر بقوله: فَاقْرَؤُا، قَالَ الْجُمْهُورُ: أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَجَمَاعَةٌ: هُوَ فَرْضٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَوْ خَمْسِينَ آيَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: قِيَامُ اللَّيْلِ فَرْضٌ، وَلَوْ قَدْرُ حَلْبِ شَاةٍ. وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِعَيْنِهَا، لَا كِنَايَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ: فاقرؤا فِي الصَّلَاةِ مَا تَيَسَّرَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مَا يَقْرَأُ، بَلْ إِذَا قَرَأَ مَا تَيَسَّرَ لَهُ وَسَهُلَ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ وَقَدَّرَهُ، وأبو حَنِيفَةَ بِآيَةٍ، حَكَاهُ عَنْهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَبِثَلَاثٍ. حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَعَيَّنَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ مَا تَيَسَّرَ، قَالَا: هُوَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، لَا يَعْدِلُ عَنْهَا وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضِهَا.
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى: بَيَانٌ لِحِكْمَةِ النَّسْخِ، وَهِيَ تَعَذُّرُ الْقِيَامِ عَلَى الْمَرْضَى، وَالضَّارِبِينَ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ، وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سبيل الله، فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، كَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. ثُمَّ أَمَرَ بِعَمُودَيِ الْإِسْلَامِ الْبَدَنِيِّ وَالْمَالِيِّ، ثُمَّ قَالَ:
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً: الْعَطْفُ يُشْعِرُ بِالتَّغَايُرِ، فَقَوْلُهُ: وَآتُوا الزَّكاةَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَأَقْرِضُوا اللَّهَ: أَمَرَ بِأَدَاءِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي يُتَطَوَّعُ بِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً بِنَصْبِهِمَا، وَاحْتَمَلَ هُوَ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا، وَأَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ النَّصْبِ فِي تَجِدُوهُ. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ فِي إِعْرَابِ هُوَ إِلَّا الْفَصْلَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ فَصْلٌ، أَوْ بَدَلٌ، أَوْ تَأْكِيدٌ. فَقَوْلُهُ: أَوْ بَدَلٌ، وَهْمٌ لَوْ كَانَ بَدَلًا لَطَابَقَ فِي النَّصْبِ فَكَانَ يَكُونُ إِيَّاهُ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَابْنُ السميفع: هُوَ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ، بِرَفْعِهِمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوِ الْخَبَرِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: هُوَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، يَرْفَعُونَ مَا بَعْدَ الْفَاصِلَةِ، يَقُولُونَ: كَانَ زَيْدٌ هُوَ الْعَاقِلُ بِالرَّفْعِ، وَهَذَا الْبَيْتُ لِقَيْسِ بن ذريح وهو:
نَحِنُّ إِلَى لَيْلَى وَأَنْتَ تَرَكْتَهَا وَكُنْتَ عَلَيْهَا بِالْمَلَا أَنْتَ أَقْدَرُ
قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْجَرْمِيُّ: أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ هَذَا الْبَيْتَ شَاهِدًا لِلرَّفْعِ وَالْقَوَافِي مَرْفُوعَةٌ.
وَيُرْوَى: أَقْدَرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ فَصْلٌ وَجَازَ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ، لِأَنَّ أَفْعَلَ مِنْ أَشْبَهَ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ حَرْفِ التَّعْرِيفِ الْمَعْرِفَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ مَا ذَكَرَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، وَلَيْسَ أَفْعَلُ مِنْ أَحْكَامِ الْفَصْلِ وَمَسَائِلِهِ، وَالْخِلَافُ الْوَارِدُ فِيهَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَقَدْ جَمَعْنَا فِيهِ كِتَابًا سَمَّيْنَاهُ بِالْقَوْلِ الْفَصْلِ فِي أَحْكَامِ الْفَصْلِ، وَأَوْدَعْنَا مُعْظَمَهُ شَرْحِ التَّسْهِيلِ مِنْ تَأْلِيفِنَا.
321
Icon