تفسير سورة التكوير

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة التكوير
مكية هي تسع وعشرون آية

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ إذا الشمس كورت ١ ﴾
عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من سره أن ينظر إلى يوم القيامة رأي العين فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت )١ رواه أحمد والترمذي وحسنه، ورواه البغوي من غير ذكر إذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت ﴿ وإذا الشمس ﴾ إذا شرطية والشمس مرفوعة بفعل شرط محذوف يفسره ﴿ كورت ﴾ وكذا كل ما عطف عليه أي لغت فذهب ضوءه وأظلمت، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق أبي طلحة عن ابن عباس قال : أظلمت وأخرج ابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا في كتاب في البحر والأحوال وأبو الشيخ في كتاب العظمة عنه في تلك الآيات قال يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ويبعث الله ريحا دبورا فينفخه حتى يرجع نارا قال بعضهم إذا ألقيت الشمس في البحر فيه انحمى وتنقلب نارا، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مريم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى :﴿ إذا الشمس كورت ١ وإذا النجوم انكدرت ٢ ﴾ قال : انكدرت في جهنم وكل من عبد من دون الله فهو في جهنم إلا ما كان من عيسى وأمه قلت : لعل التطبيق بين تكويرها في البحر وفي جهنم أن البحر يصير نارا حميما لأهل النار، وأخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الشمس والقمر مكوران يوم القيامة )٢ وأخرج البزار في مسنده وزاد في النار.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة إذا الشمس كورت (٣٣٣٣)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة الشمس والقمر بحسبان (٣٢٠٠)..
﴿ وإذا النجوم انكدرت ٢ ﴾ أي اقتضت وتناثرت من السماء وتساقطت إلى الأرض يقال انكدر الطير أي أسقط، قال الكلبي يمطر السماء يومئذ نجوما فلا يبقى نجم إلا وقع.
﴿ وإذا الجبال سيرت ٣ ﴾ عن وجه الأرض فصارت هباء منبثا.
﴿ وإذا العشار ﴾ أي التوق اللاتي مر على حملها عشرة أشهر جمع عشراء ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة وهي النفيس أموال العرب يكونون ملازمي أذنابهن ﴿ عطلت ﴾ تركت بلا راع أهملها أهلها لما جاء أهوال يوم القيامة أو المراد بالعشار السحايب عطلت عن المطر.
﴿ وإذا الوحوش حشرت ٥ ﴾ قال أبي بن كعب معناه اجتلت وماجت بعضها في بعضها وقيل : معناه جمعت بعد البعث للقصاص بين الدواب كما مر في تفسير قوله تعالى :﴿ يا ليتني كنت ترابا ﴾١ وروى عكرمة عن ابن عباس حشرها موتها قال حشر كل شيء الموت غير الجن والإنس.
١ سورة النبأ، الآية: ٤٠..
﴿ وإذا البحار سجرت ٦ ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والباقون بالتشديد، قال ابن عباس أوقدت فصارت نارا تضطرم وهو قول أبي، وقال الكلبي ملئت يقال المسجود المملوء، وقال مجاهد مقاتل يعني قحم بعضها في بعض العذب والملح فصارت البحور كلها بحرا واحدا من الحميم لأهل النار، وقال الحسن وقتادة يبست وذهب ماءها فلم يبق من الماء قطرة، قلت والجمع بين الأقوال أنه يجمع البحار كلها وملئت بحرا واحد أو كورت الشمس فيها فحينئذ تحمي البحر وتصير نارا ولم يبق من الماء قطرة بصيرورتها نارا وماء حميما لأهل النار، وأخرج ابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا عن أبي بن كعب قال ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذا وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت وفزعت الإنسان والجن فتقول الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج فبينما هم كذلك إذا جاءت بهم ريح فأماتتهم، وقال البغوي روى أبو العالية عنه فذكر نحوه غير أن في رواية فانطلقوا الجن إلى البحر فإذا هي نار تأجج فبينما هم كذلك إذ انصدعت الأرض صدعة واحدة أي الأرض السابعة السفلى إلى السماء العليا فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم، وعن ابن عباس أيضا قال : هي اثني عشر خصلة ست في الدنيا ستة في الآخرة وهي ما ذكر بعدها.
﴿ وإذا النفوس زوجت ٧ ﴾ أخرج ابن أبي حاتم عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ( الضرباء كل رجل مع قومه كانوا يعملون عمله وذلك بإذن الله ويقول وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون )، وأخرج البيهقي من النعمان بن بشير قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : وإذا النفوس زوجت قال : هما الرجلان يعملان العمل يدخلان به الجنة أو النار وسمعته يقول احشروا الذين ظلموا وأزواجهم قال ضربائهم وأخرج سعيد بن منصور بلفظ يقرن الرجل الصالح مع الصالح في الجنة ويقرن الرجل السوء مع السوء في النار، وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم قال : أشياعهم، وقيل : تزوجت النفوس بأعمالها وقال عطاء ومقاتل زوجت النفوس المؤمنين بالحور العين وقرنت نفوس الكفار بالشياطين وروى عن عكرمة قال إذا النفوس زوجت أي ردت الأزواج في الأجساد.
﴿ وإذ الموءودة ﴾ وهي الجارية المدفونة حية سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيودها أي يثقلها حتى تموت وكانت العرب تدفن البنات مخافة العار والفقر تبكيتا للوائدة كتبكيت النصارى بقوله تعالى :﴿ يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ﴾١ أو يقال أسند الفعل إلى الموءودة مجازا والمعنى ﴿ سئلت ﴾ عنها كما في قوله :﴿ العهد كان مسئولا ﴾٢ أي مسئولا عنه أو المراد بالموءودة الوائدة وقد يطلق المفعول بمعنى الفاعل كما في قوله تعالى :﴿ كان وعده مأتيا ﴾٣ والمراد بالمؤدة المؤودة لهما كما في قوله عليه السلام :( الوائدة والموؤدة في النار )٤ رواه أبو داود بسند حسن عن ابن مسعود قال الوائدة هي القابلة والموؤدة لها هي الأم ولا يمكن في الحديث إلا هذا التأويل.
فائدة : الوأد كبيرة لأنه قتل النفس بغير حق وفي حكمه إسقاط الحمل بعد أربعة أشهر لتمام خلقة الجنين ونفخ الروح في تلك المدة وأقل منه وزرا إسقاط الحمل قبل أربعة أشهر لكنه حرام ولذلك تجب الغرة إجماعا فيما ضرب بطن امرأة حبلى فسقط جنينا كامل الخلقة أو ناقصا إذ تصور فيها خلق آدمي هذا إذا انفصل ميتا وأما إذا انفصل حيا فمات ففيه كمال دية الكبير، عن أبي هريرة قال :( قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط بغرة عبد أو أمة )٥ متفق عليه.
مسألة :
يجوز العزل عن الأمة ولا يجوز عن الحرة إلا بإذنها لكنه يكره ملقا لما روى مسلم عن خذامة بنت وهب أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ذلك الوأد الخفي وهي وإذا الموءودة سئلت )٦ ووجه الجواز حديث جابر كنا نعزل والقرآن ينزل )٧ متفق عليه وزاد مسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم قال في الأمة ( اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها ) وفي روايتها ( ما عليكم أن لا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة )٨ متفق عليه ووجه الاحتياج إلى الإذن في الحرة حديث عمر بن الخطاب قال :( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها )٩ رواه ابن ماجه.
١ سورة المائدة، الآية: ١١٦..
٢ سورة الإسراء، الآية: ٣٤..
٣ سورة مريم، الآية: ٦١..
٤ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في ذراري المشركين (٤٧٩٤)..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: ميراث المرأة والزوج مع الولد وغيره (٦٧٤٠)، وأخرجه مسلم في كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: دية الجنين (١٦٨١)..
٦ أخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: جواز الفعيلة وهي وطء المرضع وكراهة العزل (١٤٤٢)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: النكاح، باب: العزل (٥٢٠٩)، وأخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: حكم العزل (١٤٤٠)..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: العزل (٥٢١٠)، وأخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: حكم العزل (١٤٣٨)..
٩ أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب: العزل (١٩٢٨) وإسناده ضعيف..
﴿ بأي ذنب قتلت ٩ ﴾ أي المؤودة قرأ أبو جعفر بالتشديد المبالغة والجمهور بالتخفيف في التاء.
﴿ وإذا الصحف ﴾ صحف الأعمال ﴿ نشرت ﴾ للحساب أو فرقت بين أصحابها قراءة نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين والباقون بالتشديد للمبالغة في النشر أو لكثرة الصحف أو شدة الطائر.
﴿ وإذا السماء كشطت ١١ ﴾ قلعت وأزيلت كما تكشط الأهاب عن الذبيحة، قلت والظاهر أن يكون هذا قبل نفخة الصعف حين كورت الشمس وانتشرت الكواكب أو عند تلك النفخة ويحتمل أن يكون بين النفختين فتطوى السماء والأرض وتبدل السماء سماء آخر وتبدل الأرض غير الأرض، قال القرظي جمع صاحب الأفصاح بين الأخبار فقال تبديل السماوات والأرض تقع مرتين إحداهما تبديل صفاتها فقط وذلك قبل نفخة الصعف فتنشر الكواكب وتخسف الشمس والقمر وتصير السماء كالمهل وتكشط عن الروس وتسير الجبال ويصير البحر نارا وعوج الأرض وينشق إلى أن تصير الهيئة غير الهيئة ثم بين النفختين تطوى السماء والأرض وتبدل السماء بسماء أخرى.
﴿ وإذا الجحيم سعرت ١٢ ﴾ قرأ نافع وحفص وابن زكوان بتشديد العين والباقون بالتخفيف أي أوقدت إيقادا شديدا لأعداء الله تعالى.
﴿ وإذا الجنة أزلفت ١٣ ﴾ أدنيت للمتقين قال الله تعالى :﴿ وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ٣١ ﴾١.
١ سورة ق، الآية: ٣١..
﴿ علمت نفس ﴾ مكرمة عامة في الأسباط بمعاونة المقام أي كل نفس ﴿ ما أحضرت ﴾ أي ما فعلت من خير أو شر وهذا جواب لإذا الشرطية في إذا الشمس كورت وفيما عطف عليه والمراد بذلك الزمان الزمان المتسع الشامل لجميع ما ذكرهما قبل النفخة الأولى إلى دخول الجنة.
﴿ فلا أقسم ﴾ الكلام ها هنا كالكلام في المفتتح سورة القيامة والفاء يعني لما أنزلنا عليكم الآيات في شأن الساعة فاعلموا أنه كلام الله غير مقتول أقسم ﴿ بالخنس ﴾ الخنوس الرجوع من منتهى السير إلى مكان ابتدأ منه والمراد بها الكواكب الخمسة المسمات بالمتحيرة وهي عطارد والزهرة والمشتري والمريخ والزحل فإنها ترى سيارة من المغرب إلى المشرق ثم ترجع إلى المغرب وقد ترى ساكنة ولذلك سميت متحيرة والسبب في ذلك عند الهيئة أنها مرتكزة في أفلاك جزئية غير مجوفة تسمى تدويرات وللتدويرات حركات برأسها وحركات أعاليها على نسق أفلاكها من المغرب إلى المشرق وحركات أسافلها على عكس ذلك فالكواكب إذا كان في أعلى التدوير فتساعد الحركتين حركة التدوير وحركة الفلك الكلي يرى متحركا على المشرق بسرعته وإذا كان في أسفلها فلتزاحم الحركتين أو عدم التساعد قد يرى متحركا نحو المغرب وهو الرجوع والخنوس وقد يرى ساكنا، وأما عندنا فالكواكب كل منها في ذلك يسبحون على ما أراد الله سبحانه ولا امتناع لخرق السماوات والتئامها فحركات الخمسة المتحيرة قد تكون نحو المشرق وقد تكون نحو المغرب وقد تكون بطيئة وقد تكون سريعة كما أراد الله تعالى وجرى به عادته وحركات سائر الكواكب جرت العادة بكونها دائما على نسق واحد، وقال قتادة الخنس هي النجوم كلها تبدو بالليل وتخنس بالنهار فتخفى فالمراد بالخنوس حينئذ الخفاء وهو لازم يعني الرجوع، وقيل : خنوسها أن يغيب قلت وعلى هذا يكون الخنس والكنس مترادفين فلا وجه للتكرار.
﴿ الجوار ﴾ في الفلك ﴿ الكنس ﴾ والكنوس أن تأوى الأرنب والظبي في مكانها والمراد ها هنا بالكنس اختفائها عند غروبها أو عند المحاق قلت : ويحتمل أن يقال المراد بمكانها مستقرها تحت العرش، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حين غربت الشمس ( أتدري أين تذهب ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش )١ الحديث.
١ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة الشمس والقمر بحسبان (٣١٩٩)..
﴿ والليل إذا عسعس ١٧ ﴾ قال الحسن أقبل بظلامه وقال أدبر وهو من الأضداد.
﴿ والصبح إذا تنفس ١٨ ﴾ أي بدأ أوله، وقيل امتد ضوئه وارتفع جواب القسم.
﴿ إنه ﴾ يعني القرآن ﴿ لقول رسول ﴾ من حيث إنه رسول يعني ليس بمقول محمد عليه السلام بل هو قول مرسل وهو الله سبحانه والمراد بالرسول جبرائيل أو محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ كريم ﴾ على الله صفة رسول.
﴿ ذي قوة ﴾ أن المراد جبرائيل فمن قوته أنه اقتلع قريات قوم لوط ومن الماء الأسود حملها على جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها وأنه صاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين وأنه يخبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من الطرف وأن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم فهو ذو قوة في الجذب إلى الله من الإرشاد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وما آمن قوم إلا قليل ولبث محمد صلى الله عليه وسلم في أمته ثلاثا وعشرين سنة وانتشر دينه في الآفاق كان الناس يدخلون في دين الله أفواجا وكان معه حجة الوداع مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا وأربعة وعشرين ألفا من الصحابة وأنه صعد من السماء السابعة وإلى ما لم يستطع جبرائيل الصعود إليه، ثم هبط الأرض في أقل من ساعة وأنه رأى ربه ولم يستطع أحد غيره فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ﴿ عند ذي العرش ﴾ أي الله سبحانه الظرف متعلق بما بعده ﴿ مكين ﴾ ذي مكانة وجاه ومنزلة.
﴿ مطاع ﴾ للعالمين قال الله تعالى :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾١ ﴿ ثم ﴾ أي عند ذي العرش ﴿ أمين ﴾ على الوحي والظرف أعني ثم الظاهر أنه متعلق بأمين ويجوز أن يكون متعلق بمطاع يعني في الملأ إلا علي قال البغوي من إطاعة الملائكة إياه يعني جبرائيل أنهم فتحوا أبواب السماوات ليلة المعراج بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح خزنة الجنة أبوابها، قلت : وهذا بعينه إطاعة لمحمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يراد بالإطاعة أن الأحكام الإلهية تنزل أولا عليه ثم بواسطته تصل تلك الأحكام إلى غيره من الملائكة، عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل فيكلمه الله وحيه بما أراد ثم يمر جبرائيل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرائيل فيقول جبرائيل قال : الحق وهو العلي الكبير، قال فيقول كلهم مثل ما قال : جبرائيل بالوحي حيث أمره الله )٢ وهذا يدل على كون جبرائيل مطاعا وأما كون محمد صلى الله عليه وسلم مطاعا في الملائكة فوجه ذلك أن الحقيقة المحمدية عند أهل التحقيق هو التعين الأولى بفيوض الوجود ومراتب القرب ومنها مرتبة كونه يوحي إليه كليم الله لا يصل في أحد إلا بتوسط الحقيقة المحمدية وهذا أمر كشفي ويشهد من النصوص قوله تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ١٠٧ ﴾٣ وقوله عليه السلام :( أما وزيراي في السماء فجبرائيل وميكائيل ووزيراي في الأرض أبو بكر وعمر )٤ فجبرائيل مطاع بالطريق الأولى.
١ سورة النساء، الآية: ٨٠..
٢ أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه في الأسماء والصفات والطبراني.
انظر: كنز العمال (٣٠٢٨)..

٣ سورة الأنبياء، الآية: ١٠٧..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب (٣٦٨٩)..
﴿ وما صاحبكم ﴾ يعني محمد صلى الله عليه وسلم عطف على أنه فهو أيضا جواب للقسم فإن كان المراد بالرسل فيما سبق محمد صلى الله عليه وسلم فوضع المظهر موضع المضمر للتنبيه على أنه صاحبكم منذ أربعين سنة قبل ذلك لم يظهر منه إلا وفور العقل وكماله فالحكم فيه ﴿ بمجنون ﴾ مكابرة أو جنون ففي هذا الكلام رد لقول الكفار افترى على الله كذبا أم به جنة.
﴿ ولقد رآه ﴾ الضمير المرفوع راجع إلى صاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم بالاتفاق والضمير المنصوب إما راجع إلى ذي العرش فعلى هذا قوله تعالى :﴿ بالأفق المبين ﴾ ظرف مستقر حال من الضمير المرفوع والمعنى أنه رأى محمد ذا العرش ليلة المعراج حال كون محمد بالأفق للعالم على منتهى السماوات السبع، قال البغوي روينا في قصة المعراج عن شريك بن عبد الله عن أنس قال دنى جبار رب العزة فتدلى كان حتى قاب قوسين أو أدنى وهو رواية أبي سلمة عن ابن عباس وكذا قال الضحاك، والقائلون بهذا القول اختلفوا فقال بعضهم جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده استنباطا من قوله تعالى :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ١١ ﴾١ وهذا قول ابن عباس، روى مسلم عن أبي العالية عنه ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى قال رآه بفؤاده مرتين وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة قالوا : رأى محمد ربه وروى عكرمة عن ابن عباس قال : إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة واصطفى موسى بالكلام واصطفى محمد بالرؤية وعن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ قال :( نور أنى أراه )٢ رواه مسلم، قلت : ويحتمل أن يراد بالأفق المبين والأفق الأعلى منتهى درجات سير السالكين إن أقصى حقائق العابدين وهي الحقيقة الأحمدية المعبر فيها بالمحبوبية الصرفة وراء ذلك مرتبة اللاتعين ولا مساغ للسير والسلوك في مرتبة اللاتعين والسير في تلك المرتبة العليا السير النظري فحسب كذا قال المجدد، وقال جمهور المفسرين الضمير المنصوب راجع إلى رسول كريم والمراد بالرسول جبرائيل، قال قتادة ومجاهد الأفق المبين هو الأفق الأعلى من ناحية المشرق، روى البغوي بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرائيل :( إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء قال : لن تقوى على ذلك قال بلى قال : فأين تشاء أن أتخيل لك قال بالأبطح قال : لا يسعني قال في منى قال لا يسعني قال فبعرفات قال لا يسعني ذلك قال بحراء قال : يسعني فواعده فخرج النبي صلى الله عليه وسلم للوقت فإذا هو بجبرائيل قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم كبر وخر مغشيا عليه قال فتحول جبرائيل في صورته فضمه إلى صدره، وقال : يا محمد لا تخف فكيف لك لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابع وإن العرش لعال كأهله وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله عز وجل حتى يصير مثل يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمة ) ومن القائلين بهذا القول عائشة رضي الله عنها. روى البخاري في صحيحه وغيره أنها كذبت من قال : رأى محمد ربه مستدلة بقوله تعالى :﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ﴾ وقوله تعالى :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ﴾٣ الآية، والفقه في الباب أن المثبتين للرؤية أولي من قولها وقوله تعالى :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾٤ لا ينفي الرؤية في الآخرة إجماعا فكذا في ليلة المعراج حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم ورأى الجنة والنار وما ذكر ابن عباس وعائشة قصة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم جبرائيل على صورته حق لكن لا يستلزم أن يكون المراد بالآية تلك القصة كيف وسوق الكلام لبيان فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان كماله ورؤية جبرائيل وهو مفضول من النبي صلى الله عليه وسلم بالإجماع ليست من الفضائل كيف وقوله :﴿ عند ذي العرش مكين ﴾ يدل على كمال قربه والترقي منه إثبات رؤية الله دون رؤية جبرائيل ولو كان عند ذي العرش صفة جبرائيل ورؤية جبرائيل صفة محمد عليه السلام يلزم الانعكاس الأمر في الفضل والله تعالى أعلم.
١ سورة النجم، الآية: ١١..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: في قوله عليه السلام (نور أنى أراه) (١٧٨)..
٣ سورة الشورى، الآية: ٥١..
٤ سورة الأنعام، الآية: ١٠٣..
﴿ وما هو ﴾ يعني محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ على الغيب ﴾ أي على ما يخبره من ما يوحى إليه ﴿ بضنين ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمر والكسائي بظنين بالظاء أي ليس هو بمتهم يعني لا يجوز أن يتهم والباقون بالضاد أي ليس هو يخيل عن تبليغ ما يوحى إليه وتعليمه ﴿ إذا الشمس ﴾ أي القرآن ﴿ بقول شيطان رجيم ﴾ استرق سمعه فألقاه على وليه الكاهن رد لقول الكفار أنه كاهن، هذه الجملة وما عطف عليه من الجمل السابقة جواب للقسم معطوفات على أنه لقول رسول كريم.
﴿ إذا الشمس ﴾ أي القرآن ﴿ بقول شيطان رجيم ﴾ استرق سمعه فألقاه على وليه الكاهن رد لقول الكفار أنه كاهن، هذه الجملة وما عطف عليه من الجمل السابقة جواب للقسم معطوفات على أنه لقول رسول كريم.
﴿ فأين تذهبون ٢٦ ﴾ الفاء المسببة والاستفهام للإنكار على ذهابهم إلى الباطل فيما قالوا إنه شاعر تقوله أو مجنون أو كاهن، قال الزجاج أي طريق يسلكون أبين من هذه الطريقة التي بنيت لكم.
ثم بين ما هو كأنه في جواب سائل يقوله فما هو ﴿ إن هو ﴾ أي القرآن ﴿ إلا ذكر ﴾ في القاموس الذكر بالكسر الحفظ الشيء كالتذكار والشيء الذي يجري على اللسان والصيت والثناء والشرف والصلاة والدعاء وكتاب فيه تفصيل الذين ووضع الملة والمعنى الأخير ظاهر ها هنا لا غبار عليه ويمكن الحمل على معان أخر أيضا فإن القرآن ذكر الله وحفظ ما يجب حفظه وشيء ينبغي أن يكون جاريا على اللسان دائما أو غالبا وثناء لله تعالى وصلاة له وشرف للإنسان ودعاء له ﴿ للعالمين ﴾ عموما فإن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كافة الأنام الإنس والجن بل هو رحمة للعالمين وفيوض القرآن شامل لملائكة أيضا يدل عليه قوله تعالى :﴿ بأيدي سفرة ١٥ كرام بررة ١٦ ﴾١.
١ سورة عبس، الآية: ١٥ -١٦..
وروى الحاكم في المستدرك عن جابر أنه قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقد سبح هذه من الملائكة فسدوا الأفق ثم خصه وقال ﴿ لمن شاء منكم أن يستقيم ٢٨ ﴾ أي القرآن لمن يتبع الحق ويستقيم عليه خصوصا من حيث أنهم هم المنتفعون به بدل بعض من العالمين والاستقامة لفظ جامع لجميع الأحكام، عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك وفي رواية غيرك قال عليه السلام :( قل آمنت بالله فاستقم )١ رواه مسلم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: في جامع أوصاف الإيمان (٣٨)..
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سليمان بن يسار قال : لما نزلت لمن شاء منكم أن يستقيم قال أبو جهل جعل الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم تستقم فأنزل الله تعالى ﴿ وما تشاءون ﴾ الاستقامة على الحق ﴿ إلا ﴾ وقتل ﴿ أن يشاء الله ﴾ شئكم واستقامتكم ﴿ رب العالمين ﴾ فإنه رب كل شي وخالق كل شيء من الأعيان والأعراض وأفعال العباد وغير ذلك حتى مشيتكم فمن شاء الاستقامة واستقام فذلك من فضل الله ونعمه وأخرج ابن أبي حاتم من طريق بقية عن عمر بن محمد عن زيد بن مسلم عن أبي هريرة مثل ما روى عن سليمان وأخرج ابن المنذر من طريق سليمان عن القاسم بن مخيمرة نحوه والله أعلم بالصواب.
Icon