ﰡ
وهي مكية. وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية، وهذه السورة جاءت تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين وتشجيعا لهم على تحملهم أذى قومهم، ثم ضربت لهم الأمثال بأصحاب الأخدود، وفرعون وثمود. وتخلل ذلك ما به تقر نفوس المؤمنين ببيان نهاية الكفار، ونهاية المؤمنين، على أنها لم تغفل ذكر القرآن في نهايتها.
[سورة البروج (٨٥) : الآيات ١ الى ٢٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤)النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩)
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)
الْبُرُوجِ: جمع برج، وهو في أساس اللغة يطلق على الأمر الظاهر. ثم استعمل في القصر العظيم، وعلى ذلك فالسماء ذات البروج أى: النجوم، وقيل المراد بالبروج هنا: منازل الكواكب. وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ: يوم القيامة. الْأُخْدُودِ: الشق في الأرض يحفر مستطيلا، وجمعه أخاديد. شُهُودٌ أى: حضور عذاب المؤمنين.
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ: وما عابوا عليهم. فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ: ابتلوهم بالإحراق.
بَطْشَ رَبِّكَ: أخذه الكفار. الْوَدُودُ: المحب للطائعين.
المعنى:
أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالسماء ذات النجوم التي كانت ضياء وزينة، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها المسافرون، وهي مع ذلك أبنية فخمة عظيمة تدل على قدرة صانعها الحكيم، وقيل المراد بالبروج: منازل الكواكب في السماء التي ينشأ عنها الفصول الأربعة، وما فيها من حرارة وبرودة، والتي ينشأ عنها عدد السنين والحساب، وتفصيل كل شيء في الوجود، وأقسم الحق- تبارك وتعالى- باليوم الموعود الذي وعدنا الله به، وهو يوم القيامة، وأقسم كذلك بكل الخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود، فله- سبحانه- في كل شيء دلالة على وحدانيته، فكل شيء شاهد بهذا المعنى، على أن كل شيء في الكون مشهود للناس، والناس مختلفون في الشهادة، أى: الرؤية، أو الفكرة والتأمل.
أقسم الحق- تبارك وتعالى- بهذه الأشياء: لقد ابتلى الله المؤمنين والمؤمنات قديما بالعذاب والفتنة والبلاء من أعدائهم الكفار، ولكنهم صبروا على ما أوذوا واحتسبوا ذلك عند الله، فكان لهم الأجر الكبير، ولأعدائهم عذاب جهنم ولهم فيها عذاب الحريق، فاصبروا أيها المؤمنون، وسيعوضكم الله خيرا، ولقد ضرب الله قصة أصحاب الأخدود هنا مثلا، ودليلا على جواب القسم المقدر وهو ابتلاء المؤمنين.
قتل أصحاب الأخدود: أصحاب النار ذات الوقود، النار التي أعدوها ليصلاها المؤمنون الموحدون.
ويروى أنهم من أمراء اليمن أو زعماء اليهود، وقد غاظهم إيمان المؤمنين المعاصرين لهم، وشق عليهم ذلك، فانتقموا منهم انتقاما شديدا، وشقوا لهم أخدودا في الأرض، أضرموا فيه النيران ذات الوقود الشديد اللهب والدخان وألقوا فيها كل ما يضرمها ويؤججها ثم جاءوا بالمؤمنين وألقوهم في النار ذات الوقود!!
وقد كانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد، فجلسوا يضحكون فرحين بإلقاء المؤمنين في النار، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين من كبائر الإثم وفظائع الجرم شهود وحضور! وما فعل هؤلاء المؤمنون حتى يلقوا في النار؟ لم يفعلوا شيئا أبدا، وما نقموا، ولا عابوا عليهم إلا أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد! يا سبحان الله ما كان سببا في السعادة والخير، يكون سببا في القتل والإحراق والتعذيب بالنيران! ولكن تلك طبيعة البشر قديما وحديثا، وهذا صراع الحق والباطل، وتلك هي البوتقة التي يصهر فيها الإيمان ويصفى.
هؤلاء المؤمنون آمنوا بالله العزيز الذي لا يعجزه شيء، الحميد في السموات والأرض، وإن كفر به بعض خلقه، الذي له ملك السموات والأرض، وهو على كل شيء شهيد، فهل يترك المؤمنين نهبا للكفار والمشركين يفعلون معهم الأباطيل ويذيقونهم العذاب ألوانا؟! لن يكون هذا أبدا.
إن الذين فتنوا المؤمنين بالتعذيب ثم لم يتوبوا- فإن من يفعل ذلك لن يتوب- فلهم عذاب جهنم، ولهم عذاب الحريق، والله من ورائهم محيط، وهو على كل شيء قدير، أما المؤمنون العاملون فلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، وذلك هو الفوز العظيم، ولا عجب في هذا كله فربك بطشه بالكفار شديد، وهو القادر على كل شيء الذي يبدئ الخلق ثم يعيد، وهو الغفور لمن تاب الودود لمن أطاع، صاحب الملك والسلطان بيده الأمر وهو الفعال لما يريد.
وهذه أمثلة أخرى تؤكد أن العاقبة للصابرين، وأن الله مع المؤمنين، فاحذروا يا آل مكة تلك العاقبة، وهذه النتيجة، واحذروا أيها الطغاة الظالمون نتيجة أعمالكم! هل بلغك قصص أولئك الجنود، أصحاب القوة والبأس الشديد، مثل فرعون وجنوده وقبيلة عاد وثمود، وكانوا أكثر منكم أموالا وأولادا، فلما كذبوا بالرسل
لو نظر العاقل في تلك الآيات يسوقها الحق للاعتبار والاتعاظ لاهتدى إلى سنة الله في خلقه، وأنها لا تتحول ولا تتغير، ولكن كفار مكة لم يكن فيهم شيء من ذلك بل كانوا في كفر وتكذيب، وكأن الكفر والتكذيب إطار وهم داخلون فيه لا يتجاوزونه.
والله من ورائهم محيط، وهو على كل شيء قدير، فهم لا يعجزونه في الأرض ولا في السماء.
وهل لهؤلاء عذر في تكذيبهم وعدم إيمانهم؟ لا. بل هو قرآن مجيد: قرآن كريم، قد رفع الله قدره، وشرف مكانته، وجعله كاملا في كل شيء، وهو في لوح محفوظ، ولذلك هم في ضلال ولا عذر لهم.
ويقول الشيخ محمد عبده- رحمه الله- في تفسيره: واللوح المحفوظ شيء أخبر الله به وأنه أودعه كتابه، ولم يعرفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن بأنه شيء موجود، وأن الله قد حفظ فيه كتابه إيمانا بالغيب.