تفسير سورة التوبة

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
قوله تعالى: ﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ الآية، هذه السورة مدنية كلها، وقيل: إلا آيتان من آخرها فإِنهما نزلتا بمكة، وهكذا قول الجمهور. ويقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أي انقطعت بيننا العصمة. ومنه برئت من الدين. وارتفع براءة على الابتداء، والخبر إلى الذين عاهدتم، ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة أو على إضمار مبتدأ، أي هذه براءة. وقرأ عيسى بن عمر براءة بالنصب، قال ابن عطية: أي الزموا. وفيه معنى الإِغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءة إلى الذين عاهدتم. قال ابن إسحاق وغيره: كانت العرب قد أوثقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً عاماً على أن لا يصد أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات. فنقض ذلك بهذه الآية وأجّل لجميعهم أربعة أشهر، فمن كان له مع رسول الله عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها، ومن كان أمده أكثر أتم له عهده، وإذا كان ممن تحسس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة. يسيح في الأرض، أي يذهب فيها سوحاً آمناً. وظاهر من المشركين العموم فدخل فيه مشركوا قريش وغيرهم. " فسيحوا " في الأرض أمر إباحة، وفي ضمنه تهديد، وهو التفات من غيبة إلى خطاب، أي قل لهم يسيحوا. ويقال: ساح سياحة وسيوحاً وسيحاناً، ومنه سيح الماء وهو الجاري المنبسط. قال ابن عباس: أول الأشهر شوال حين نزلت الآية، وانقضاؤها انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين. فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم النزول، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان.﴿ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ ﴾ أي لا تفوتونه وإن أمهلكم وهو مخزيكم، أي مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر والنهب، وفي الآخرة بالعذاب.﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ قرىء: وإذن بكسر الهمزة وسكون الذال. وقرىء: ان الله بكسر الهمزة وفتحها، فالفتح على تقدير بأنّ الله، والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين أو، لأن الاذان في معنى القول، فكسرت على مذهب الكوفيين. وحكى أبو عمرو عن أهل نجد أنهم يقرؤون من الله بكسر النون على أصل التقاء الساكنين واتباعاً لكسرة الميم. والظاهر أن يوم الحج الأكبر يوم واحد. فقال عمر وجماعة: هو يوم عرفة. وروي مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو موسى وجماعة: هو يوم النحر. وقيل: يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها، قاله سفيان بن عيينة. والذي تظاهرت به الأحاديث أن علياً رضي الله عنه أذن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر رضي الله عنه، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالاسماع فتتبّعهم بالاذان بها يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر من يعينه بها كأبي هريرة وغيره، وتتبّعوا بها أيضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره، وبهذا يترجح قول سفيان. وجملة براءة من الله ورسوله إخبار بثبوت البراءة، وجملة واذان من الله ورسوله اخبار بوجوب الاعلام بما ثبت فافترقنا، وعلقت البراءة بالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم، وعلق الاذان بالناس لشموله معاهداً وغيره ناكثاً وغيره مسلماً وكافراً.﴿ وَرَسُولُهُ ﴾ معطوف على موضع اسم انّ إذ كان قبل دخول انّ كان في موضع رفع على الابتداء وفي العطف على هذا الموضع خلاف، ويجوز أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في قوله: بريء، تقديره بريء هو ورسوله، والأجود أن يكون مرفوعاً على الابتداء وخبره محذوف تقديره ورسوله بريء منهم، وحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه.﴿ فَإِن تُبْتُمْ ﴾ أي من الشرك الموجب لتبرىء الله ورسوله منكم.﴿ فَهُوَ ﴾ أي التوب.﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ في الدنيا لعصمة أنفسكم وأولادكم وأموالكم، وفي الآخرة لدخولكم الجنة وخلاصكم من النار.﴿ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أي عن الإِسلام.﴿ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ ﴾ أي لا تفوتونه عما يحل بكم من نقماته.﴿ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ جعل الإِنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، والذين كفروا عام يشمل المشركين عبدة الأوثان وغيرهم، وفي هذا وعيد عظيم بما يحل بهم.﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم ﴾ الأظهر أن يكون استثناء منقطعاً بمعنى لكن، ويبعد أن يكون متصلاً وان كان قد قال به قوم لعسر ظهور المستثنى منه قبله الذي هؤلاء بعض منه.﴿ فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ﴾ أي إلى انقضاء مدة عهدهم. والظاهر أن قوله: إلى مدتهم، يكون في المدة التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروا بإِتمام العهد إلى تمام المدة. وعن ابن عباس: كان بقي لحيّ من كنانة تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم. ﴿ وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً ﴾، أي لم يعينوا عليكم أحداً كما فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة. وتعدى أتموا بإِلى لتضمنه معنى فادوا، أي فأدوه تامّاً كاملاً.
﴿ فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ ﴾ الظاهر أن هذه الأشهر هي التي أبيح للناكثين ان يسيحوا فيها، ووصفت بالحرم لأنها محرم فيها القتال، وتقدم ذكر الخلاف في ابتدائها وانتهائها، وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه ان يؤتى بالضمير نحو: لقيت رجلاً فضربته. ويجوز أن يعاد اللفظ معرفاً بأل نحو: لقيت رجلاً فضربت الرجل. ولفظ حيث وجدتموهم عام في الأماكن من حل وحرم.﴿ وَخُذُوهُمْ ﴾ عبارة عن الأسر والأخيذ الأسير، ويدل على جواز أسرهم.﴿ وَٱحْصُرُوهُمْ ﴾ قيدوهم وامنعوهم من التصرف في بلاد المسلمين. وقيل: استرقوهم وحاصروهم ان تحصنوا. قال القرطبي في قوله: واقعدوا لهم كل مرصد، دلالة على جواز اغتيالهم قبل الدعوة، لأن المعنى اقعدوا لهم مواضع الغرة، وهذا تنبيه على أن المقصود إيصال الأذى إليهم بكل طريق، اما بطريق القتال، أو بطريق الاغتيال. وقد أجمع المسلمون على جواز السرقة من أموال أهل الحرب، واستلال خيلهم وإتلاف مواشيهم إذا عجزوا عن الخروج بها إلى دار الإِسلام إلا أن يصالحوا على مثل ذلك. قال الزمخشري: كل مرصد، كل ممرّ، ومجتاز ترصدونهم فيه وانتصابه على الظرف كقوله:﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ﴾[الأعراف: ١٦].
" انتهى ". وهذا الذي قاله الزجاج قال: كل مرصد، ظرف كقولك: ذهبت مذهباً. ورده أبو علي لأن المرصد: المكان الذي يرصد العدو فيه، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعاً، كما حكي سيبويه: دخلت البيت، وكما: عسل الطريق الثعلب. " انتهى ". وأقول: يصح انتصابه على الظرف لأن قوله: واقعدوا لهم، ليس معناه حقيقة القعود بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه ولما كان هذا المعنى جاز قياساً أن يحذف منه في، كما قال: وقد قعدوا إيقافها كل مقعد. فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه جاز أن يصل إليه بغير واسطة في، فيجوز: جلست مجلس زيد، وقعدت مجلس زيد، تريد في مجلس زيد فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه فكذلك إلى الظرف. وقال الأخفش: معناه على كل مرصد فحذف على واعمل الفعل وحذف على ووصول الفعل إلى مجرورها فينصبه، يخصّه أصحابنا بالشعر وأنشدوا قول الشاعر: تحن فتبدي ما بها من صبابة   وأخفى الذي لولا الأسى لقضانيأي لقضى علي.﴿ فَإِن تَابُواْ ﴾ أي عن الكفر والغدر. والتوبة تتضمن الإِيمان وترك ما كانوا فيه من المعاصي.﴿ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ﴾ كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاؤا ولا يتعرض لهم.﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ ﴾ الآية، الظاهر أنها محكمة. وعن ابن جبير قال: جاء رجل إلى عليّ كرم الله وجهه فقال: ان أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء الأجل ليسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل. قال: لا، لأن الله تعالى قال: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ﴾ الآية، ولما أمر تعالى بقتل المشركين حيث وُجدوا وأخذهم وحصرهم وطلب غَدّتهم ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون وهي إذا جاء واحد منهم مسترشداً طالباً للحجة والدلالة على ما تدعو إليه من الدين، فالمعنى وان أحد من المشركين استجارك، أي طلب منك أن تكون مجيراً له وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام الله تعالى، وما تضمنه من التوحيد ويقف على ما بعثت به فكن مجيراً له حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر.﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ ﴾ داره التي يأمن فيها ان لم يسلم، ثم قاتله إن شئت من غير غدرٍ ولا خيانة.﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ أي ذلك الأمر بالإِجارة وإبلاغ المأمن بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإِسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويتفهموا الحق.﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ﴾ الآية، هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد، وفي الآية إضمار أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث. والاستفهام يراد به النفي كثيراً. قال الشاعر: فهذي سيوف يا هُدَيَ بن مالك   كثير ولكن كيف بالسيف ضاربأي ليس بالسيف ضارب. ولما كان الاستفهام معناه النفي صلح مجيء الاستثناء وهو متصل. وقيل: منقطع، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام. وقال ابن عباس: هم قريش. وقال السدي: بنو خزيمة بن الدئل. وقال ابن إسحاق: قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش. كيف في موضع نصب خبرا ليكون. وعهد اسم يكون. والظاهر أن ما مصدرية ظرفية، أي استقيموا لهم مدة استقامتهم، وليست شرطية. وقال أبو البقاء: هي شرطية كقوله تعالى:﴿ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ﴾[فاطر: ٢].
" انتهى ". فكان التقدير ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم. وقال الحوفي: ما شرط في موضع رفع بالابتداء، والخبر استقاموا، ولكم متعلق باستقاموا.﴿ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ ﴾ الفاء جواب الشرط. " انتهى ". فكان التقدير فأي وقت استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم. وإنما جوّز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا لأن المصدرية الزمانية لا تحتاج إلى الفاء.
﴿ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ﴾ الآية، الظاهر أن الفعل المحذوف الذي بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها وحذف للعلم به في كيف السابقة والتقدير فكيف يكون لهم عهد وحالهم هذه. والواو للحال، ومعنى يظهروا يغلبوا. وجواب الشرط لا يرقبوا. وقال الشاعر في حذف الفعل بعد كيف: وخبرتماني انما الموت بالقرى   وكيف وهاتان هضبة وكثيبأي فكيف مات وليس في قرية. الأل: الحلف. والذمة: العهد وقال أبو عبيدة: الأمان. والاباء: مخالفتهُ للقلب لما يجري على اللسان من القول الحسن.﴿ ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ الظاهر عود الضمير على من قبله من المشركين المأمور بقتلهم، ويكون المعنى اشتروا بالقرآن وما تدعو إليه من الإِسلام ثمناً قليلاً، وهو اتباع الشهوات والأهواء لما تركت دين الله وآثرت الكفر كان ذلك كالشراء والبيع.﴿ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾ هذا تنبيه على الوصف الموجب للعداوة وهو الإِيمان. ولما كان قوله: لا يرقبوا فيكم، يتوهم أن ذلك مخصوص بالمخاطبين، نبه على علة ذلك وان سبب المنافاة هو الإِيمان.﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ ﴾ أي الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة.﴿ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ ﴾ المتجاوزون الحد في الظلم والشر ونقص العهد.﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ ﴾ أي فإِن تابوا عن الكفر ونقض العهد والتزموا أحكام الإِسلام.﴿ فَإِخْوَٰنُكُمْ ﴾ أي فهم إخوانكم والاخوان والاخوة جمع أخ من نسب أو دين.﴿ وَنُفَصِّلُ ٱلأيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ أي نبيّنها ونوضحها، وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين من قوله: فإِن تابوا. وقوله: وإن نكثوا، بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصّل تعالى من الأحكام. وقال: لقوم يعلمون، لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم.﴿ وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم ﴾ أي وإن نقضوا عهدهم من بعد ما تعاهدوا وتحالفوا على أن لا ينكثوا.﴿ وَطَعَنُواْ ﴾ أي عابوه وسلبوه واستنقصوه. والطعن هنا مجاز وأصله الإِصابة بالرمح أو العود وشبهه. والظاهر أن هذا الترديد في الشرطين هو في حق الكفار أصلاً لا في من أسلم ثم ارتد فيكون قوله:﴿ فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ ﴾ أي رؤساء الكفار وزعماءه. والمعنى: فقاتلوا الكفار، وخص الأئمة بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الاتباع على البقاء على الكفر.﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ ﴾ الا حرف عرض ومعناه الحض على قتالهم ولما أمر تعالى بقتال أهل الكفر اتبع ذلك بالسبب الذي يبعث على مقاتلتهم وهو ثلاثة أشياء جمعوها، وكل واحد منها على انفراده كاف في الحض على مقاتلتهم. ومعنى نكثوا إيمانهم نقض العهد. قال السدي وجماعة: نزلت في كفار مكة نكثوا ايمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة. " انتهى ".﴿ وَهَمُّواْ ﴾ هو همّ قريش.﴿ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ ﴾ عليه السلام من مكة حين تشاوروا بدار الندوة فأذن الله تعالى في الهجرة فخرج بنفسه وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المنير وتحداهم به فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال بهم البادئون والبادىء أظلم.﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ ﴾ تقرير للخشية منهم وتوبيخ عليها.﴿ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ ﴾ فتقتلوا أعداءه. ولفظ الجلالة مبتدأ وخبره أحق وان تخشوه بدل من الله، أي وخشية الله أحق من خشيتهم فإِن تخشوه في موضع رفع، ويجوز أن يكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذا حذف حرف الجر وتقديره بأن تخشوه أي أحق من غيره بأن تخشوه. وجوز أبو البقاء أن يكون أن تخشوه مبتدأ، وأحق خبره قدم عليه. وأجاز ابن عطية أن يكون أحق مبتدأ وخبره ان تخشوه، والجملة خبر عن الأول وحسن الابتداء بالنكرة لأنها أفعل التفضيل.﴿ قَاتِلُوهُمْ ﴾ لما تقدم الحض على القتال في قوله: الا تقاتلون، أمر به هنا فقال: قاتلوهم.﴿ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي بالقتل والنهب وسبي الذرية. ونص على قوله: ﴿ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ على أنهم هم الذين يعذبونهم.﴿ وَيُخْزِهِمْ ﴾ يهنهم ويذلهم.﴿ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾ يعينكم على قتلهم. وجاء التركيب ﴿ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ ليشمل المخاطبين وكل مؤمن، وإذهاب الغيظ بمآل الكفار من المكروه. وهذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها. والضمير المجرور في قلوبهم عائد على قوم. وقرأت فرقة: ويذهب فعلاً لازماً. غيظ فاعل به. وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه رفع الباء. وقرىء: ويتوب الله رفعاً، وهو استئناف اخبار بأن بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره وكان كذلك أسلم عالم كثيرون وحسن إِسلامهم. وقرأ زيد بن عليّ ويعقوب وجماعة: ويتوب، بنصب الباء جعله داخلاً في جواب الأمر من طريق المعنى. قيل: ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء. قال ابن عطية: ويتوجه ذلك عندي إذا ذهب إلى أن التوبة يراد بها هاهنا ان قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لايمانكم فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال. " انتهى ". وهذا الذي قدره من كون التوبة تدخل تحت جواب الأمر هو بالنسبة إلى المؤمنين الذين أمروا بقتال الكفار، والذي يظهر ان ذلك بالنسبة إلى الكفار فالمعنى على من يشاء من الكفار وذلك أن قتال الكفار وغلبة المسلمين إياهم قد ينشأ عنها إسلام كثير من الناس وإن لم يكن لهم رغبة في الإِسلام ولا داعية قبل القتال ألا ترى إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة كيف كان سبباً لإِسلامهم لأن الداخل في الإِسلام قد يدخل فيه على بصيرة. وقد يدخل على كره واضطرار ثم قد يحسن حاله في الإِسلام.
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ ﴾ تقدم تفسير نظير هذه الجملة. والمعنى أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلص منكم، وهم المجاهدون في سبيل الله، والذين لم يتخذوا بطانة من دون الله من غيرهم.﴿ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ ﴾ معطوف على جاهدوا داخل في حيّز الصلة. ويجوز أن تكون الجملة حالاً من ضمير جاهدوا أي جاهدوا غير متخذين وليجة أي خيانة. والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل وهي البطانة، والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار شبه النفاق به.﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله ﴾ الآية، روي أنه لما أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك، وطفق عليّ يوبخ العباس. فقال العباس: تظهرون مساوءنا وتكتمون محاسننا. فقال: أو لكم محاسن؟ قال: نعم، ونحن أفضل منكم أجراً انا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني، فأنزل الله هذه الآية رداً عليهم. وانتصب شاهدين على الحال، والعامل فيه يعمروا، وصاحب الحال هو الضمير وشهادتهم على أنفسهم بالكفر هو قولهم في الطواف: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملكْ. أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم قالوا: نعبد اللات والعزى.﴿ مَنْ آمَنَ ﴾ أعاد الضمير على لفظ من في قوله: آمن، وما عطف عليه، ثم راعى المعنى في قوله: فعسى أولئك. وعسى من الله تعالى واجبة حيثما وقعت في القرآن، وفي ذلك قطع أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين إذ من جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من ترجى له هذه الهداية، فكيف بمن هو عار منها. وقال تعالى: ﴿ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ﴾، أي من الذين سبقت لهم الهداية، ولم يأت التركيب أن يكونوا مهتدين بل جعلوا بعضاً من المهتدين، وكونهم منهم أقل في التعظيم من أن يجرّد لهم الحكم بالهداية.﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ ﴾ الآية، في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة. ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه. فنزلت هذه الآية. وسقاية هو على حذف مضاف تقديره ذوي سقاية الحاج فيعادل قوله: كمن آمن، ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله: والله لا يهدي القوم الظالمين، من الراجح منهما وان الكافرين بالله هم الظالمون، ظلموا أنفسهم بترك الإِيمان بالله تعالى وبما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله تعالى متعبداً له فجعلوه متعبداً لأوثانهم.﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ ﴾ الآية، زادت هذه الآية وضوحاً في الترجيح للمؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف على المشركين المفتخرين بالسقاية والعمارة فطهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإِيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة إلى موطن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك ديارهم التي نشاؤا فيها، ثم بالغوا في الجهاد في سبيل الله تعالى بالمال والنفس المعرضين بالجهاد للتلف فهذه الخصال أعظم درجات البشرية.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ ﴾ الآية، نهى عن اتخاذ الآباء والإِخوان أولياء إذ كانوا قد آثروا الكفر على الإِيمان، وحكم بأن من تولاهم كان منهم وأنه ظالم.﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ ﴾ الآية، هذه الآية تقتضي الحض على الهجرة، وذكر الأبناء لأنهم أعلق بالنفس، وقدم الآباء لأنهم هم الذين يجب برهم وإكرامهم وحبّهم، وثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب، ولما ذكر الأصل والفرع، ذكر الحاشية وهي الاخوان، ثم ذكر الأزواج وهن في المحبة والإِيثار كالأبناء، ثم الأبعد بعد الأقرب في القرابة فقال: ﴿ وَعَشِيرَتُكُمْ ﴾.
ثم ذكر ﴿ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا ﴾ أي اكتسبتموها لأن الأموال يعادل حبها حب القرابة بل حبها أشد، وكانت الأموال في ذلك الوقت عزيزة وأكثر الناس كانوا فقراء. ثم ذكر ﴿ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ﴾ والتجارة لا تتهيأ إلا بالأموال. وجعل تعالى التجارة سبباً لزيادة الأموال ونمائها. ثم ذكر ﴿ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ ﴾ وهي القصور والدور. ومعنى ترضونها تختارون الإِقامة بها. وانتصب أحب على أنه خبر كان، واسمها آباؤكم فما بعده. وقرأ الحجاج بن يوسف أحب بالرفع فخطأه يحيى بن يعمر من حيث الرواية لأنه لم يرو إلا النصب وإن كان الرفع جائزاً من جهة العربية لأنه كان يكون في كان ضمير الأمر والشأن وهو اسمها. وآباؤكم وما عطف عليه مبتدأ. وأحب خبر. والجملة في موضع نصب على أنها خبر كان.﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ أي من الإِيمان بالله واتباع رسوله عليه السلام.﴿ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ ﴾ أي انتظروا. وهو أمر يتضمن التهديد.﴿ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ قال ابن عباس: هو فتح مكة.﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الآية، المواطن مقامات الحرب ومواقفها. وهذه المواطن وقعات بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة، ووصفت بالكثرة. قال أئمة التاريخ: كانت ثمانين موطناً.﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ﴾ حنين هو واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز، وصرف مذهوباً به مذهب المكان ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف، كما قال الشاعر: نصروا نبيّهم وشدوا أزره   بحنين يوم تواكل الأبطالوإذ بدل من يوم، وأضاف الإِعجاب إلى جميعهم وإن كان صادراً من واحد منهم لما رأى الجمع الكثير أعجبه ذلك وقال: لن نغلب اليوم من قلة وهذه الكثرة. قال ابن عباس: كانوا ستة عشر ألفاً. والباء في ﴿ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ للحال، وما: مصدرية، أي ضاقت بكم الأرض مع كونها رحبة واسعة لشدة الحال عليهم. والرحب: السعة، وبفتح الراء الواسع. يقال: فلان رحب الصدر، وبلد رحب، وأرض رحبة، وقد رحبت رحباً ورحابة.﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴾ أي وليتم فارين على إدباركم منهزمين تاركين رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وأسند التولي إلى جميعهم وهو واقع من أكثرهم إذ ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من الأبطال على ما يأتي ذكره. فنقول: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصاروا في اثني عشر ألفاً إلى ما انضاف إليهم من الأعراب من سليم وبني كلاب وعبس وذبْيان، وسمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها، وعليهم مالك بن عوف النضري، وثقيف عليهم عبد يا ليل بن عمرو، وانضاف إليهم اخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استعماله عتّاب بن أسيد على مكة حتى اجتمعوا بحنين، فلما تضافّ الناس حمل المشركون على مجابي الوادي وكانوا قد كمنوا بها فانهزم المسلمون. قال قتادة: ويقال ان الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين وبلغ فلهم مكة، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه على بغلة شهباء تسمى دلدل لا يتخلخل، والعباس قد اكتنفه آخذاً بلجامها وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر وعلي بن أبي طالب وربيعة بن الحارث والفضل بن العباس وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد ـ وهو أيمن ابن أمّ أيمن وقتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه ـ وهؤلاء من أهل بيته وثبت معه أبو بكر وعمر فكانوا عشرة رجال رضي الله عنهم. ولهذا قال العباس: نصرنا رسول الله في الحرب تسعة   وقد فر من قد فر منهم وأقشعواوعاشرنا لاقي الحمام بنفسه   بما مسه في الله لا يتوجعوثبتت أم سليم رضي الله عنها في جملة من ثبت ممسكة بعيراً لأبي طلحة وفي يدها خنجر." ونزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته إلى الأرض واستنصر الله تعالى وأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها في وجوه الكفار، وقال: شاهت الوجوه "قال يعلى بن عطاء: فحدثني ابناؤهم عن آبائهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا ودخل عينيْه من ذلك التراب." وقال عليه السلام للعباس وكان صيّتاً: نادِ أصحاب السَمُرة، فنادى الأنصار: فخذا فخذا، ثم نادي: يا أصحاب الشجرة! يا أصحاب البقرة! فكروا عنقاً واحداً وهم يقولون: لبيك لبيك. وانهزم المشركون. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال: هذا حين حمي الوطيس، وركض رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفهم على بغلته "وفي صحيح مسلم من حديث البراء" ان هوازن كانوا رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر الله تعالى وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، اللهم أنزل نصرك "قال البراء: كنا والله إذا حمي الوطيس نتقي به صلى الله عليه وسلم وان الشجاع منا الذي يتحاذى به ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ. وفي أول هذا الحديث: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة فقال: أشهد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما ولى.﴿ ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ ﴾ السكينة: النصر والوقار والثبات بعد الاضطراب والفلق. ويخرج من هذا القول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِنه لم يزل ثابت الجأش ساكنه.﴿ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ظاهره شمول من فر ومن ثبت. وقيل: هم الأنصار إذ هم الذين كفروا وردوا الهزيمة.﴿ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ هم الملائكة بلا خلاف، ولم تتعرض الآية لعددهم.﴿ وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي بالقتل الذي استقر فيهم، والأسر لذراريهم ونسائهم، والنهب لأموالهم. وكان السبي أربعة آلاف رأس. وقيل: ستة آلاف. ومن الإِبل اثنا عشر ألفاً سوى ما لا يعلم من الغنم وقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، وفيها قصة عباس بن مرداس وشعره، وكان مالك بن عوف قد أخرج الناس للقتال والذراري ليقاتلوا عنها، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة وقال: وهل يرد المنهزم شىء. وفي ذلك قتل دريد القتلة المشهورة قتله ربيعة بن رفيع بن اهبان السُلمي. ويقال له: ابن الدغنّة.﴿ ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ﴾ الآية، إخبار بأن الله تعالى يتوب على من يشاء ويهدي من يشاء ممن بقي من الكفار للإِسلام ووعد بالمغفرة والرحمة كمالك بن عوف النضري رئيس هوازن، ومن أسلم معه من قومه. وروي" أن ناساً منهم جاءوا فبايعوا على الإِسلام وقالوا: يا رسول أنت خير الناس وأبر الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. وكان سبي يومئذٍ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإِبل والغنم ما لا يحصى، فقال عليه السلام: ان خير القول أصدقه، اختاروا اما ذراريكم وإما أموالكم. فقالوا: ما نعدل بالاحساب شيئاً "وتمام الحديث أنهم أخذوا نساءهم وذراريهم إلا امرأة وقع عليها صفوان بن أمية فحبلت منه فلم يردها.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ الآية، لما أمر عليه السلام علياً أن يقرأ على مشركي مكة أول براءة وينبذ إليهم عهدهم وان الله برىء من المشركين ورسوله. قال اناس: يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدة وانقطاع السبل وفقد الحمولات. فنزلت. والظاهر الحكم عليهم بأنهم نجس أي ذو نجس. قال ابن عباس والحسن وعمر بن عبد العزيز والطبري وغيرهم: الشرك هو الذي نجسهم فاعيانهم نجسة كالخمر والكلاب والخنازير. وقال الحسن: من صافح مشركاً فليتوضأ. وفي التحرير وبالغ الحسن حتى قال: إن الوضوء يجب من مسّ يد المشرك، ولم يأخذ أحد بقول الحسن إلا الهادي من الزيدية. وقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما: وصف المشرك بالنجاسة لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل. وعلى هذا القول يجب الغسل على من أسلم من المشركين وهو مذهب مالك. وقال ابن عبد الحكم: لا يجب. ولا شك أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فجعلوا نجساً مبالغة في وصفهم بالنجاسة.﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ ﴾ الآية، الظاهر أن النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام وهذا مذهب أبي حنيفة وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد. وقال الشافعي: هي عامة في الكفار خاصة في المسجد الحرام فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد، وقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد.﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾ العيلة: الفقر. وقرىء: عائلة وهو مصدر كالعاقبة أو نعت لمحذوف أي حالاً عايلة.﴿ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ الآية، أتى في جواب الشرط بسوف وهي أكثر مبالغة في التنفيس من السين والإِغناء إنما وقع كثيراً بعد اتساع الإِسلام وفتح البلاد حتى يحكى عن الزبير وطلحة أنهما بلغا من اتساع المال ما يتعجب منه، وعلق الإِغناء بالمشيئة لأنه يقع في حق بعض دون بعض وفي وقت دون وقت.﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ الآية، نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو الروم وغزا بعد نزولها تبوك. وقيل: نزلت في قريظة والنضير فصالحهم وكانت أول جزية أصابها المسلمون وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. نفى الإِيمان بالله عنهم لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله إذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به.﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾ بيان لقوله: الذين. والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصاً واجمع الناس على ذلك وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً في أن الجزية تؤخذ منهم." انتهى ". وروي أنه كان بُعث في المجوس نَبي اسمه زَرَادُشُتْ واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب، وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى، وتؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبائحهم. وقالت فرقة: لا تؤخذ منهم الجزية ولا تؤكل ذبائحهم. وقيل: تؤخذ منهم الجزية ولا تؤكل ذبائحهم. والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية، ولم يرد نص في مقدار الجزية، وقال الشافعي وغيره: على كل رأس دينار. وقال أبو حنيفة: على الفقير المكتسب اثنا عشر درهماً، وعلى المتوسط في الغنى ضعفها، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهماً. ولا تؤخذ عنده من فقير لا كسب له.﴿ عَن يَدٍ ﴾ قال ابن عباس: أي يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها.﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ جملة حالية أي ذليلون حقيرون، وذكروا كيفيات في أخذها منهم وفي صغارهم لم تتعرض الآية لتعيين شيء منها.﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ ﴾ الآية، بيّن الله سبحانه وتعالى لحاق اليهود والنصارى بأهل الشرك وإن اختلفت طرق الشرك فلا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره. وقائل ذلك قوم من اليهود وكانوا بالمدينة. قال ابن عباس: قالها أربعة من أحبارهم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف. وقيل: قاله فنحاص. والدليل على أن هذا القول كان فيهم ان الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب وسبب هذا القول ان اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم. فحفّظه التوراة فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لم يخرم حرفاً. فقالوا: ما جمع الله له التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه. وظاهر قول النصارى المسيح ابن الله بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة. وكما قيل عنهم انهم يقولون ان المسيح إله وابن إله. وقيل: ان بعضهم يعتقدها بنوة حنوٍّ ورحمةٍ. وهذا القول لم يظهر إلا بعد النبوة المحمدية وظهور دلائل صدقها وبعد أن خالطوا المسلمين وناظروهم فرجعوا عما كانوا يعتقدونه في عيسى عليه السلام. وقرىء: عزيرٌ منوناً على أنه اسم عربي مصغر. وقرىء: غير منون على أنه أعجمي منع الصرف للعجمة والعلمية وهو مبتدأ وخبره ابن الله. ومعنى بأفواههم أنه قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي كالأجراس والنغم لا تدل على معان. وقرىء: يُضاهيُون ويضاهون ومعناه يشابهون، وهو على حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قول الذين كفروا، والذين كفروا هم أسلاف المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.﴿ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ دعاء عليهم عام لأنواع الشر.﴿ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾ أي كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل، على سبيل التعجب.﴿ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ ﴾ الآية، تعدت اتخذ إلى مفعولين، والضمير عائد على اليهود والنصارى. والأحبار: علماء اليهود، واحده حبر. والرهبان: عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا، وانقطعوا عن الخلق في الصوامع. أخبر عن المجموع وعاد إلى ما يناسبه أي اتخذ اليهود أحبارهم والنصارى رهبانهم.﴿ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾ عطف على رهبانهم.﴿ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً ﴾ الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا، أي أمروا في التوراة والإِنجيل وعلى ألسنة أنبيائهم. وفي قوله: عما يشركون، دلالة على إطلاق اسم الشرك على اليهود والنصارى.﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ ﴾ مثلهم ومثل حالهم في طلبهم ان يبطلوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبثّ في الآفاق. ونور الله تعالى: هداه الصادر عن القرآن والشرع المنبث، فمن حيث سماه نوراً سمي محاولة إفساده إطفاء. وكنى بالأفواه عن قلة حيلتهم وضعفها أخبر أنهم يحاولون أمراً جسيماً بشىء ضعيف فكان الإِطفاء بنفخ الأفواه.﴿ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ ﴾ أجرت العرب أبى بمعنى الفعل المنفي كأنه قال: لا يريد الله فلذلك دخلت إلا في الإِيجاب بعدما معناه النفي. و ﴿ أَن يُتِمَّ ﴾ في موضع نصب. ونظيره قول الشاعر: أبى الله إلا عدله ووفاءه   فلا النكر معروف ولا العرف ضائع﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ ﴾ الآية، الظاهر أن الضمير في ليظهره عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه المحدث عنه. والدين هنا جنس، أي ليعليه على أهل الأديان كلهم فهو على حذف مضاف، فهو صلى الله عليه وسلم غلبت أمته اليهود، وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام إلى ناجية الروم والعرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند وكذلك سائر الأديان.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ذكر ما عليه كثير منهم تنقيصاً من شأنهم وتحقيراً، وان مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم فضلاً عن اتخاذهم أرباباً لما اشتملوا عليه من أكل المال بالباطل، وصدهم عن سبيل الله، واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة، فجمعوا بين الخصلتين الذميمتين أكل المال بالباطل وكنز المال. وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال اتباعهم ضرائب باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم به أن النفقة فيه من الشرع والتقرب إلى الله تعالى، وصدهم عن سبيل الله هو دين الإِسلام، واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذين مبتدأ اسم موصول ضمّن معنى اسم الشرط فلذلك دخلت الفاء في خبره في قوله: ﴿ فَبَشِّرْهُمْ ﴾.
والضمير في لا ينفقونها عائد على المكنوزات الدال عليها الذهب والفضة.﴿ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا ﴾ الآية، يوم منصوب بقوله: اليم. والضمير في عليها عائد على المكنوزات يوقد عليها في نار جهنم إذ يجوز أن يخلق الله تلك المكنوزات فيحمى عليها.﴿ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ﴾ وخصصت هذه المواضع بالكيّ لأنه في الجبهة أشنع وفي الجنب والظهر أوجع، ولأنها مجوفة فتصل إلى أجوافهم النار بخلاف اليد والرجل.﴿ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ ﴾ هو على إضمار قول تقديره فيقال لهم: هذا إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: فتكوى، أي هذا الكي جزاء ما كنزتم.﴿ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ ﴾ الآية، كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها فكانت إذا توالت عليهم الأربعة الحرم صعب عليهم وأملقوا وكان بنو فُقَيم من كنانة أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم فنسأ الشهور للعرب ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ثم ابنه قلع، ثم ابنه أمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه جنادة بن عوف وعليه قام الإِسلام، وكانت العرب إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا: أنسئنا شهراً، أي أخّر عنّا حرمة الشهر المحرّم فاجعلها في صفر فيحل المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة الحرم ويسمون ذلك صفر المحرم، ويسمون ربيعاً الأول صفر، أو ربيعاً الآخر ربيعاً الأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون نسيئهم في المحرم ويسمون الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم. وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا. قال مجاهد: ثم كانوا يحجون من كل عام شهرين ولاءً، وبعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاءً، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذي القعدة حقيقة وهم يسمونه ذا الحجة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة فلذلك قوله:" ان الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان "ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنواعاً من قبائح أهل الشرك وأهل الكتاب، ذكر أيضاً نوعاً منه وهو تغيير العرب احكام الله تعالى لأنه حكم في وقت بحكم خاص، فإِذا غيروا ذلك الوقت فقد غيروا حكم الله تعالى والشهور جمع كثرة. وأعاد الضمير عليها كإِعادته على الواحدة المؤنثة فقال: منها، أي من تلك الشهور، ولما كانت الأربعة الحرم للقلة عاد الضمير عليها بالنون في قوله: فيهن. تقول العرب: الجذوع انكسرت لأنه جمع كثرة. والأجذاع انكسْرنَ، لأنه جمع قلة. وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو المفعول، ومعناه جميعاً. ولا يثنى ولا يجمع ولا تدخله ألْ ولا يتصرف فيها بغير الحال وتقدم بسط الكلام فيها عند قوله تعالى:﴿ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً ﴾[البقرة: ٢٠٨] فأغنى عن إعادته والمعيّة بالنصر والتأييد، وفي ضمّنه الأمر بالتقوى والحث عليها.
﴿ إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ ﴾ الآية، قرىء النسىء مهموزاً على وزن فعيل. وقرىء: النسىء بتشديد الياء من غير همز. وتقدم الكلام عليها في قوله:﴿ أَوْ نُنسِهَا ﴾[الآية: ١٠٦]، في البقرة زيادة في الكفر جاءت مع كفرهم بالله تعالى لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفراً. والضمير في به عائد على النسىء، واللام في ليواطئوا متعلقة بقوله: ويحرمونه، وذلك على طريق الأعمال. ومعنى ليواطئوا، أي ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد فأزالوا الفضيلة التي خصّ الله بها الأشهر الحرم وحفظوا العدة وحدها بمثابة أن يفطر رمضان ويصوم شهراً من السنة بغير مرض أو سفر.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ ﴾ الآية، لما أمر تعالى رسوله بغزوة تبوك وكان زمان جدب وحر شديد وقد طابت الثمار عظم ذلك على الناس وأحبوا المقام، نزلت عتاباً على من تخلف عن هذه الغزوة وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألفاً من راجل وراكب وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون وخص الثلاثة بالعتاب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم، وكان تخلفهم عن غير علة حسبما يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. ولما شرح معايب الكفار رغب في مقاتلتهم. وما لكم استفهام معناه الإِنكار والتقريع. وبنى قيل للمفعول والقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أغلاظاً ومخاشنة لهم وصوناً لذكره إذ أخلد إلى الهُوَينا والدعة من أخلد وخالف أمره عليه السلام، ومعنى اثاقلتم إلى الأرض ملتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمارها وكرهتم مشاق السفر. وقيل: ملتم إلى الإِقامة بأرضكم، ولما ضمن معنى الميل والإِخلاد عدى بإِلى. وفي قوله: أرضيتم، نوع من الإِنكار والتعجب، أي أرضيتم بالنعيم العاجل في الدنيا الزائل بدل النعيم الباقي، ومن تظافرت أقوال المفسرين على أنها بمعنى بدل أي بدل الآخرة كقوله تعالى:﴿ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً ﴾[الزخرف: ٦٠]، أي بدلاً منكم. ومنه قول الشاعر: فليت لنا من ماء زمزم شربة   مبردة باتت على طهيانأي بدلاً من ماء زمزم. والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء تعلق فيه أوعية الماء حتى يبرد، وأصحابنا لا يثبتون أنّ من تكون للبدل ويتعلق في الآخرة بمحذوف تقديره فما متاع الحياة الدنيا محسوباً في نعيم الآخرة.﴿ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ ﴾ الآية، هذا وعيد للمتثاقلين عظيم حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين وأنه يهلكهم ويستبدل قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع وأنه غني عنهم في نصرة دينه لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً.﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ ﴾ في: الا تنصروه انتفاء النصر بأي طريق كان من نفر أو غيره. وجواب الشرط محذوف تقديره فسينصره الله، ويدل عليه فقد نصره الله أي ينصره في المستقبل كما نصره في الماضي. ومعنى إخراج الذين كفروا إياه فعلهم به ما يؤدي إلى الخروج، والإِشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ونسب الإِخراج إليهم مجازاً كما نسب في قوله:﴿ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ ﴾[محمد: ١٣]، وقصة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مذكورة في السير. وانتصب ثاني اثنين على الحال أي أحد اثنين وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وروي أنه لما أمر بالخروج قال لجبريل عليه السلام: من يخرج معي؟ قال: أبو بكر. وقال الليث: ما صحب الأنبياء عليهم السلام مثل أبي بكر. وقال سفيان بن عيينة: خرج أبو بكر رضي الله عنه بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: ألا تنصروه. وقال ابن عطية: بل خرج بها كل من شاهد غزوة تبوك، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط. وهذه الآية منوهة بقدر أبي بكر وتقدمه وسابقته في الإِسلام، وفي هذه الآية ترغيبهم في الجهاد ونصر دين الله إذ بين فيها أن الله ينصره كما نصره إذ كان في الغار، وليس معه أحد فيه سوى أبي بكر رضي الله عنه. والغار: نقب في أعلى ثور ـ وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة ـ، مكث صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثاً.﴿ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ ﴾ بدل، وإذ يقول بدل ثان. وقال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإِنكاره كلام الله تعالى وليس ذلك لسائر الصحابة." وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاه رسول الله تسكيناً لقلبه وأخبره بقوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ﴾ يعني بالمعونة والنصر. وقال أبو بكر: يا رسول الله إن قتلتُ فأنا رجل واحد، وإن قتلتَ هلكت الأمة وذهب دين الله. فقال صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما "وقال أبو بكر رضي الله عنه: ـ من البسيط ـ. قال النبي ولم يجزع يوقرني   ونحن في سدف من ظلمة الغارلا تخشى شيئاً فإِن الله ثالثنا   وقد تكفل لي منه بإِظهاروإنما كيد من تخشى بوادره   كيد الشياطين قد كادت لكفاروالله مهلكهم طرا بما صنعوا   جاعلُ المنتهى منهم إلى النار﴿ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾ الآية، قال ابن عباس: السكينة الرحمة والوقار. والضمير في عليه عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو المحدّث عنه. وقال ابن عطية: والسكينة عندي إنما هي ما ينزله الله تعالى على أنبيائه من الحياطة لهم والخصائص التي لا تصلح إلا لهم كقوله:﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾[البقرة: ٢٤٨]، ويحتمل أن يكون قوله: فأنزل الله سكينته.. إلى آخره، يراد به ما صنعه الله تعالى لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح لا أن يكون هذا يختص بقضية الغار. وكلمة الذين كفروا هي الشرك وهي مقهورة، وكلمة الله هي التوحيد، وفي فصل بين المبتدأ والخبر، أو مبتدأ، والعليا خبره، والجملة خبر لقوله: وكلمة الله.
﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ لما توعد الله تعالى من لا ينفر مع رسوله عليه السلام وضرب له من الأمثال ما ضرب، اتبعه بهذا الأمر الجزم، والمعنى انفروا على الوصف الذي يخف عليكم فيه الجهاد، أو على الوصف الذي يثقل. والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا.﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً ﴾ أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سَهْلَ المنال وسفراً قاصداً وسطاً مقارباً. وهذه الآية في قصة تبوك حين استنفر المؤمنين فنفروا واعتذر منهم لا محالة فريق لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة.﴿ لاَّتَّبَعُوكَ ﴾ لبادروا إليه لا لوجه الله ولا لظهور كلمته.﴿ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ ﴾ أي المسافة الطويلة في غزو الروم. والشُقة: السفر البعيد. وربما قالوه بالكسر في الشين.﴿ وَسَيَحْلِفُونَ ﴾ أي المنافقون. وهذا إخبار بغيب. قال الزمخشري في قوله: وسيحلفون بالله، ما نصه: بالله متعلق بسيحلفون أو هو من كلامهم، والقول مراد في الوجهين أي سيحلفون متخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله.﴿ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ أو وسيحلفون بالله يقولون: لو استطعنا. وقوله: لخرجنا، سد مسد جواب القسم ولو جميعاً والاخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم. وقد كان من جملة المعجزات. ومعنى الاستطاعة: استطاعة العدّة أو استطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا. " انتهى ". وما ذهب إليه من أن قوله: لخرجنا، سدّ مسدّ جواب القسم، ولو جميعاً ليس بجيد بل للنحويين في هذا مذهبان: أحداهما: أن لخرجنا هو جواب القسم، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم. والشرط إذا تقدم القسم على الشرط وهو اختيار ابن عصفور، والآخر: ان لخرجنا هو جواب لو، وجواب القسم هو لو وجوابها وهذا هو اختيار ابن مالك، اما انّ لخرجنا يسد مسدهما فلا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك.﴿ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ بالحلف الكاذب أي يوقعونها في الهلاك به. والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه سبحانه وتعالى. وقال الزمخشري: يهلكون أنفسهم، إما أن يكون بدلاً من سيحلفون، أو حالاً بمعنى مهلكين، والمعنى أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب وما يحلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالاً من قوله: لخرجنا، أي لخرجنا معكم وان أهلكنا أنفسنا وألقيناها إلى التهلكة بما نحملها من السير في تلك الشقة. وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم، ألا ترى أنه لو قيل: سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديداً. يقال: حلف بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبة على حكم الاخبار والتكلم على الحكاية. " انتهى ". اما كون يهلكون بدلاً من سيحلفون فبعيد، لأن الاهلال ليس مرادفاً للحلف ولا هو نوع من الحلف، ولا يجوز أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه، واما كونه حالاً من قوله: لخرجنا، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز لأن قوله: لخرجنا فيه ضمير التكلم فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم، فلو كان حالاً من ضمير لخرجنا لكان التركيب نهلك أنفسنا أي مهلكي أنفسنا. واما قياسه ذلك على حلف بالله ليفعلن ولأفعلن فليس بصحيح لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منه إلى ضمير المتكلم، لو قلت: حلف زيد ليفعلن وانا قائم، على أن يكون وأنا قائم حالاً من ضمير ليفعلن لم يجز وكذا عكسه نحو: حلف زيد لأفعلن يقوم، تريد قائماً لم يجز. واما قوله: وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فمغالطة ليس مخبراً عنهم بقوله: لو استطعنا لخرجنا معكم، بل هو حاك لفظ قولهم. ثم قال: ألا ترى انه لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً.. إلى آخر كلام صحيح، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم بل حكاية. والحال من جملة كلامهم المحكي فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل. لو قلت: قال زيد: خرجت يضرب خالداً، تريد أضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت: قالت هند، خرج زيد أضرب خالداً، تريد خرج زيد ضارباً خالداً، لم يجز.﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ الآية، اللام في لم: لام التعليل، وما: استفهامية، حذف منها الألف، واللام الثانية: للتبليغ، وهما متعلقان باذنت، وجاز ذلك لاختلاف معنَيْيهما، وحتى: غاية للاستفهام. وقوله: الذين صدقوا في استئذانك، وانك لو لم تأذن لهم خرجوا معك.﴿ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ ﴾ يريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة، وقد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لو تأذن.﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ﴾ ما قبل هذه الآية وما بعدها ورد في قصة تبوك. والظاهر أن متعلق الاستئذان هو أن يجاهدوا، أي ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار لا يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم أبداً، ويقولون: لنجاهدنّ معه بأموالنا وأنفسنا.﴿ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ﴾ الآية، هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً، ومعنى وارتابت قلوبهم: شكت. ويتردّدون: ويتحيرون لا يتجه لهم هدى فتارة يخطر لهم صحة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارة يخطر لهم خلاف ذلك.
﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ ﴾ الآية، قال ابن عباس: عدة من الماء والزاد والراحلة، لأن سفرهم بعيد وفي زمان حر شديد. وفي تركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف.﴿ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ ﴾ الآية، قال الزمخشري: فإِن قلت: كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت: لما كان قوله: ولو أرادوا الخروج، معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو، قيل: ولكن كره الله انبعاثهم، كأنه قيل: ما خرجوا ولكنهم تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ. " انتهى ". وليست الآية نظيرة هذه المثال لأن المثال واقع فيه لكن بين ضدين، والآية لكن واقع فيها بين متفقين من جهة المعنى. والانبعاث: الانطلاق والنهوض. قال ابن عباس: فثبطهم كسلهم وفتّر نيّاتهم.﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ الآية، لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبيّ عسكره أسفل منها ولم يكن باقل العسكرين، فلما سار تخلف عنه عبد الله فيمن تخلف فنزلت. والخبال قال ابن عباس: الفساد ومراعاة إخماد الكلمة. وتقدم شرح الخبال في آل عمران. وهذا الاستثناء متصل وهو مفرغ إذ المفعول الثاني لزاد لم يذكر. وقد كان في هذه الغزوة منافقون كثير ولهم لا شك خبال، فلو خرج هؤلاء لتألبوا فزاد الخبال.﴿ ولأَوْضَعُواْ ﴾ الإِيضاع: الاسراع قال الشاعر: أرانا موضعين لأمر غيب   ونسحر بالطعام والشرابومفعول أوضعوا محذوف تقديره ولا وضعوا ركائبهم بينكم، لأن الراكب أسرع من الماشي. والخلال: جمع خلل وهو الفرجة بين الشيئين، وجلسنا خلال البيوت وخلال الدور أي بينها. ويبغون حال، أي باغين. والفتنة هي الكفر.﴿ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ قال الزمخشري: أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم، أو فيكم قوم يسمعون للمنافقين ويطيعونهم. " انتهى ". فاللام في القول الأول: للتعليل، وفي الثاني: التقوية التعدية، كقوله تعالى:﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾[هود: ١٠٧].
والقول الأول قاله سفيان بن عيينة والحسن ومجاهد وابن زيد قالوا: معناه جواسيس يستمعون الاخبار وينقلونها إليهم. ورجحة الطبري. والقول الثاني قول الجمهور قالوا: معناه وفيكم مطيعون سماعون.﴿ لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ ﴾ الآية، تقدم ذكر السبب في نزول هذه الآية والتي قبلها من قصة رجوع عبد الله بن أبيّ بأصحابه في هذه الغزاة حقر شأنهم في هذه الآية، وأخبر أنهم قد يماسعوا على الإِسلام فأبطل الله سعيهم. قال ابن عباس: بَغَوْالك الغوائل. وقال ابن جريج: وقف اثنا عشر رجلاً من المنافقين على الثنية ليلة العقبة كي يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى من قبل، أي من قبل هذه الغزوة، وذلك ما كان من حالهم وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعهم عنه في أُحد وغيرها، وتقليب الأمور هو تدبيرها ظهر البطن والنظر في نواحيها وأقسامها والسعي بكل حيلة.﴿ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ ﴾ أي القرآن وشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظة جاء مشعرة بأنه كان قد ذهب.﴿ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾ وصفه بالظهور لأنه كان كالمستور، أي غلب وعلا دين الله تعالى.﴿ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ أي لمجيء الحق وظهور دين الله.﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي ﴾ الآية،" نزلت في الجد بن قيس ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرّض الناس فقال للجد بن قيس المنافق: هل لك العام في جلاد بني الأصفر. وقال له وللناس: اغزوا تغنموا بنات الأصفر. فقال الجد: إئذن لي في التخلف ولا تفتني بذكر بنات الأصفر فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهن "ومعنى ولا تفتني بالنساء هذا قول ابن عباس، والفتنة التي سقطوا فيها هي فتنة التخلف وظهور كفرهم ونفاقهم. ولفظة سقطوا تنبىء عن تمكن وقوعهم فيها.
﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾ قال ابن عباس: الحسنة يوم بدر، والمصيبة يوم أحد. وينبغي أن يحمل قوله على التمثيل، واللفظ عام في كل محبوب ومكروه. وسياق الجمل يقتضي أن يكون ذلك في الغزو، ولذلك قالوا: الحسنة: الظفر والغنيمة، والمصيبة: الخيبة والهزيمة، مثل ما جرى في غزوة أحد، ومعنى أمرنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالجزم في التخلف عن الغزو من قبل ما وقع من المصيبة.﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ ﴾ الآية، أي ما تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين كل واحدة منهما هي الحسنى من العواقب اما النصرة واما الشهادة، فالنصرة مآلها إلى الغلبة والاستيلاء، والشهادة مآلها إلى الجنة.﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ قرىء: بضم الكاف ويعني في سبيل الله ووجوه البر، وهو أمر معناه التهديد والتوبيخ، انفقوا قال ابن عطية: أنفقوا أمر في ضمنه جزاء وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء، والتقدير ان تنفقوا لن يتقبل منكم، وأما إذا عري الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط. " انتهى ". ويقدح في هذا التخريج أن الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب، فلن يتقبل بالفاء لأن لن لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء فكذلك ما ضمّن معناه. وانتصب طوعاً أو كرهاً على الحال، والطوع أن يكون من غير إلزام الله ورسوله. والكره إلزام ذلك، وسمي الإِلزام إكراهاً لأنهم منافقون فصار الإِلزام شاقاً عليهم كالإِكراه. وعلل انتفاء التقبل بالفسق، والمراد به هنا الكفر، ويدل عليه قوله في الآية بعدها.﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ ﴾ الآية، وذكر السبب الذي هو بمفرده مانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر، واتبعه بما هو ناشىء عن الكفر ومستلزم له وهو دليل عليه وذلك إتيان الصلاة وهم كسالى، وإيتاء النفقة وهم كارهون، والكسل في الصلاة، وترك النشاط إليها، وأخذها بالإِقبال من ثمرات الكفر فإِيقاعها عندهم لا يرجون به ثواباً ولا يخافون بالتفريط فيها عقاباً، وكذلك الإِنفاق للأموال لا يخرجون ذلك إلا وهم لا يرجون به ثواباً.﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ ﴾ لما قطع رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة بين أن الأشياء التي يظنونها من باب منافع الدنيا جعلها تعالى أسباباً لتعذيبهم بها في الدنيا، أي فلا تعجبك أيها السامع بمعنى لا تستحسن ولا تفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا، وفي هذا تحقير لشأن المنافقين. والضمير في " بها " عائد على الأموال. واللام في " ليعذبهم " لام كي. ومفعول يريد محذوف تقديره يريد كسبهم الأموال والأولاد لأجل تعذيبهم.﴿ وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ ﴾ أي لمن جملة المسلمين. واكذبهم بقوله: ﴿ وَمَا هُم مِّنكُمْ ﴾.
ومعنى يفرقون: يخافون القتل، وما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإِسلام تقية وهم يبطنون النفاق.﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً ﴾ لما ذكر تعالى فرق المنافقين من المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق وهو أنهم لو أمكنهم الهرب منهم لهربوا ولكن صحبتهم لهم صحبة اضطرار لا اختيار، والملجأ: الحرز. والمغارات جمع مغارة وهي الغار تجمع على غير أن يبنى من غار يغور إذا دخل بدأ أولاً بالأَعم وهو الملجأ إذ يطلق على كل ما يلجأ إليه الإِنسان، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيران في الجبال، ثم أتى ثالثاً بالمداخل وهو النفقُ باطن الأرض. و ﴿ لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ ﴾ أي إلى واحد من الثلاث.﴿ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾ أي يسرعون إسراعاً لا يردهم شىء.﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ ﴾ اللامز هو حرقوص بن زهير التميمي وهو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال: اعدلّ يا رسول الله. الحديث. وقيل: غيره. والمعنى من يعيبك في قسم الصدقات. والضمير في ﴿ وَمِنْهُمْ ﴾ للمنافقين. والكاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الترديد بين الشرطين يدل على دناءة طباعهم ونجاسة أخلاقهم وان لمزهم الرسول عليه السلام إنما هو لشرههم في تحصيل الدنيا ومحبة المال، وان رضاهم وسخطهم إنما متعلقة العطاء. والظاهر حصول مطلق الاعطاء أو نفيه، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين لأن الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يتعقبه بل قد يجوز أن يتأخر نحو: ان اسلمت دخلت الجنة، فإِنما يقتضي مطلق الترتيب، وأما جواب الشرط الثاني فجاء بإِذا الفجائية وانه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم. ولم يمكن تأخره لما جلبوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها. ومفعول رضوا محذوف، أي رضوا ما أعطوه، وليس المعنى رضوا عن الرسول لأنهم منافقون، ولأن رضاهم وسخطهم لم يكن لأجل الدين بل لأجل الدنيا. وجاءت إذا الفجائية رابطة لجواب الجزاء بجملة الشرط ولا نحفظه جاءت إذا جواباً للشرط إلا وحرف الشرط انْ، وكذلك في قوله:﴿ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴾[الروم: ٣٦]، وسائر أدوات الشرط كانت أسماء كَمَنْ وَمَا ومَهْما. أو ظرف زمان كمتى وأيان، أو مكان كحيثُمَا، لا نعلمه جاء جواب شىء منها بإِذا الفجائية على كثرة مطالعتي لدواوين العرب.﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ ﴾ الآية، هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم، أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا: كفانا فضل الله ورسوله. وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم. وكانت رغبتهم إلى الله تعالى لا إلى غيره. وجواب لو محذوف تقديره لكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم.
﴿ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى من يعيب الرسول في قسم الصدقات بأنه يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، أو يخص أقاربه أو يأخذ لنفسه ما بقي، وكانوا يسألون فوق ما يستحقون، بيّن تعالى مصرف الصدقات فإِنه عليه السلام إنما قسم على ما فرضه الله تعالى. ولفظة ﴿ إِنَّمَا ﴾ إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها، وان لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف، إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به، والتعليل بالشىء يقتضي الاقتصار عليه. والظاهر أن مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف. والظاهر أن العطف مشعر بالتغاير فتكون الفقراء غير المساكين. والظاهر بقاء هذا الحكم للأصناف الثمانية دائماً إذ لم يرد نص في نسخ شىء منها. وتقدم الكلام على الفقراء والمساكين وفي الرقاب وابن السبيل في البقرة.﴿ وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ﴾ العامل هو الذي يستنيبه الإِمام في السعي في جمع الصدقات وكل من تصرف لا يستغني عنه فيها فهو من العاملين، ويسمى جابي الصدقات والساعي.﴿ وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ هم أشراف من العرب مسلمون لم يتمكن الإِيمان من قلوبهم أعطاهم صلى الله عليه وسلم ليتمكن الإِيمان من قلوبهم. فمن المؤلفة أبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وحويطب بن عبد العزى وصفوان بن أمية ومالك بن عوف النضري والعلاء بن حارثة الثقفي، فهؤلاء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بعير لكل واحد، ومَخْرَمة بن نوفل بن الزهري وعمير بن وهب الجمحي وهشام بن عمرو العائذي أعطاهم دون المائة، ومن المؤلفة سعيد بن يربوع والعباس بن مرداس والأقرع بن حابس وزيد الخيل وعلقمة بن علاثة وأبو سفيان الحارث بن عبد المطلب وحكيم بن حزام وعكرمة بن أبي جهل وسعيد بن عمرو وعيينة بن حصن، وحَسُنَ إسلام المؤلفة حاشى عيينة فإِنه لم يزل مغموصاً عليه.﴿ وَٱلْغَارِمِينَ ﴾ قال ابن عباس: الغارم من عليه دين. وزاد مجاهد وقتادة: في غير معصية ولا إسراف. والجمهور على أنه يقضى منها دين الميت إذ هو غارم. وقال أبو حنيفة وأبو المواز من المالكية: لا يقضى منها. وقال أبو حنيفة: ولا يُقضى منها كفارة ونحوها من حقوق الله تعالى. وإنما الغارم من عليه دين يحبس فيه. وقيل: يدخل في الغارمين من تحمل حمالات في إصلاح وبرّ، وان كان غنياً إذ كان ذلك يجحف بماله، وهو قول الشافعي وأصحابه وأحمد.﴿ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ هو المجاهد يعطي منها إذا كان فقيراً. والجمهور على أنه يعطى منها وإن كان غنياً ما ينفق في غزوته. وقال الشافعي وأحمد وعيسى بن دينار وجماعة: لا يعطى الغني إلا ان احتاج في غزوته وغاب عنه وَفْرُهُ. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطي إلا إن كان فقيراً أو منقطعاً به فإِذا أعطى ملك وإن لم يصرفه في غزوته. وقال ابن عبد الحكم: ويُجعَل من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج اليه من الات الحرب وكف العدو عن الحوزة لأنه كله في سبيل الله ومنفعته. والجمهور على أنه يجوز الصرف منها إلى الحجاج والمعتمرين وان كانوا أغنياء. وانتصب فريضة لأنه في معنى المصدر المؤكد لأن قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ ﴾، معناه فرض الله الصدقات فريضة لهم فهي مصدر. وقرىء: فريضة بالرفع على تلك الفريضة.﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ لأن ما صدر عنه هو عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة، أي عليم بمقادير المصالح، حكيم لا يشرع إلا ما هو الأصلح.﴿ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ ﴾ كان حزام بن خالد وعبيد بن هلال والجلاس بن سويد في آخرين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: لا تفعلوا فإِنا نخاف أن يبلغه فيوقع بنا. فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا فإِن محمداً أذن سامعة ثم نأتيه فيصدقنا. فنزلت. وقيل غير ذلك. يقال: رجل أذنٌ إذا كان يسمع فقال كل أحد يستوي فيه الواحد والجمع، قاله الجوهري. وقال الشاعر: وقد صرت أذناً للوشاة سميعة   ينالون من عرضي ولو شئت ما نالواوارتفع أذن على إضمار مبتدأ، أي قل هو إذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، تعدية يؤمن أولاً بالباء، وثانياً باللام قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر، فعدي بالباء وقصد الاستماع للمؤمنين وان يسلم لهم ما يقولون، فعدي باللام. وقرىء: ورحمة بالرفع عطفاً على إذن، وبالجر عطفاً على خير.﴿ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ﴾ وخص المؤمنين وإن كان رحمة للعالمين لأن ما حصل لهم من الإِيمان بسبب رسول الله لم يحصل لغيرهم. وخصوا هنا بالذكر وإن كانوا قد دخلوا في العالمين لحصول مزيتهم، وأبرز اسم الرسول ولم يأت مضمراً على نسق يؤمن بلفظ الرسول تعظيماً لشأنه وجمعاً له في الآية بين الرتبتين العظيمتين من النبوة والرسالة، وإضافته إليه زيادة في تشريفه وحتم على من أذاه بالعذاب الأليم وحق لهم ذلك، والذين يؤذون عام يندرج فيه هؤلاء الذين آذوا هذا الإِيذاء الخاص وغيرُهم.
﴿ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ ﴾ الظاهر ان الضمير في يحلفون عائد على الذين يقولون هو إذن أنكروه وحلفوا أنهم ما قالوه. واللام في " ليرضوكم " لام كي. قال ابن عطية: مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها والتقدير عنده والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه. ومذهب المبرد ان في الكلام تقديماً وتأخيراً وتقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله. " انتهى ". فقوله مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى إن كان الضمير في أنهما جملتان عائداً على كل واحدة من الجملتين، فكيف يقول: حذفت الأولى، ولم تحذف الأولى إنما حذف خبرها وإن كان الضمير عائداً على الخبر وهو أحق أن يرضوه، فلا تكون جملة إلا باعتقاد كون أن يرضوه مبتدأ وأحق المتقدم خبره لكن لا يتعين هذا القول، إذ يجوز أن يكون الخبر مفرداً بأن يكون التقدير أحق بأن يرضوه، وعلى التقدير الأول يكون التقدير والله إرضاؤه أحق. وقدره الزمخشري: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. " انتهى ". وفي تقديره تفكيك للكلام حيث جعل أحق أن يرضوه خبراً عن قوله: والله، فنوى به التقديم وأضمر خبراً لقوله: ورسوله، وقدره كذلك. والذي نقول: انه لما كانت طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة لله تعالى كما قال:﴿ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ ﴾[النساء: ٨٠]، صارا لذلك متلازمين كالشىء الواحد فأخبر عنهما إخبار الواحد فأفرد الضمير، كما قال الشاعر: بها العينان تنهل   ولم يقل: تنهلان. وقالت العرب: رب يوم وليلة مرّ بي. يُريد مرّا بي، فأفرد الضمير لتلازمهما.﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ ﴾ أي لم يعلم المنافقون، وهو استفهام معناه التوبيخ والإِنكار. وقرىء: بالتاء وهو التفات. خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب، واسم ان هو ضمير الأمر والشأن، وخبر ان هو جملة الشرط والجزاء، فمن مبتدأ ويحادد مجزوم به. قال ابن عباس: المحادة هنا المخالفة، ويحادد خبر لمن، والفاء داخلة في جواب الشرط وينسبك من أن وما بعدها مصدر خبر لمبتدأ محذوف تقديره فجزاؤه كينونة النار له. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون فإِنّ له معطوفاً على أنه على أن جواب من محذوف تقديره ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فإِنّ له نار جهنم. " انتهى ". فيكون فإِن له نار جهنم في موضع نصب. وهذا الذي قدره لا يصح لأنهم نصوا على أنه إذا حذف الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ أو مضارعاً مجزوماً بلم، فمن كلامهم: أنت ظالم إن فعلت، ولا يجوز أنْ تفعل. وهنا حذف جواب الشرط، وفعل الشرط ليس ماضي اللفظ ولا مضارعاً مقروناً بلم وذلك ان جاء في كلامهم فمخصوص بالضرورة، وأيضاً فتجد الكلام تاماً دون تقدير هذا الجواب.﴿ يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾ الآية، قال ابن كيسان: وقف جماعة منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به فأخبره جبريل عليه السلام. فنزلت. وقيل: في غزوة تبوك أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها هيهات هيهات. فأنزل الله تعالى: ﴿ قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ ﴾.
والظاهر أن يحذر خبر ويدل عليه:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾ فقيل: هو واقع منهم حقيقة لما شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما يكتمونه وقع الحذر والخوف في قلوبهم.﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ﴾ أي ولئن سألتهم عما قالوا من القبيح في حقك وحق أصحابك من قول بعضهم: أنظروا إلى هذا الرجل، يريد أن تفتح له قصور الشام. وقول بعضهم: كأنكم بهم غداً في الجبال أسْرى لبني الأصفر. وقول بعضهم: ما رأيت كهؤلاء أرغب بطوناً ولا أكثر كذباً ولا أجْبن عند اللقاء. فأطلع الله نبيّه على ذلك فعنّفهم، فقالوا: يا نبي الله ما كنا في شىء من أمرك ولا أمر أصحابك إنما كنا في شىء مما يخوض فيه الركب كنا في غير جد. فنزلت.﴿ قُلْ أَبِٱللَّهِ ﴾ الآية، تقرير على استهزائهم وضمنه الوعيد ولم يعْبأْ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم وبأنه موجود منهم حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء حيث جعل المستهزأ به على حرف التقرير وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته وهو حسن، وتقديم وبالله وهو معمول خبر كان عليها يدل على جواز تقديمه عليها. وعن ابن عمر قال:" رأيت قائل هذه المقالة يعني إنما كنا نخوض ونلعب، واسمه وديعة بن ثابت متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ".﴿ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ نهوا عن الاعتذارات لأنها اعتذارات كاذبة فهي لا تنفع. قد كفرتم: أظهرتم الكفر. بعد إيمانكم، أي بعد إظهار إيمانكم، لأنهم كانوا يسرون الكفر فأظهروه باستهزائهم وجاء التقسيم بالعفو عن طائفة والتعذيب لطائفة، وكان المنافقون صنفين: صنف أمر بجهادهم، جاهد الكفار والمنافقين وهم رؤساؤهم المعلنون بالأراجيف فعذبوا بإِخراجهم من المسجد وانكشاف معظم أحوالهم، وصنف ضعفة مظهرون الإِيمان وان أبطنوا الكفر لم يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفى عنهم، وهذا العذاب والعفو في الدنيا. وقيل: العفو عمّن علم الله أنهم سيخلصون من النفاق ويخلصون الإِيمان. والمعذبون من مات منهم على نفاقه. وقرىء: ان تعف مبنياً للمفعول التقدير ان تعف هذه الذنوب.
﴿ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ ﴾ الآية، بيّن سبحانه وتعالى أن ذكورهم وإناثهم ليسوا من المؤمنين، كما قال تعالى:﴿ وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ﴾[التوبة: ٥٦]، بل بعضهم من بعض في الحكم والمنزلة والنفاق، فهم على دين واحد، وليس المعنى على التبعيض حقيقة لأن ذلك معلوم، ووصفهم بخلاف ما عليه المؤمنون من أنهم:﴿ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ ﴾ وهو الكفر وعبادة غير الله والمعاصي.﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ ﴾ وهو الإِيمان والطاعات. وقبض الأيدي عبارة عن عدم الإِنفاق في سبيل الله. والنسيان هنا الترك، تركوا طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.﴿ فَنَسِيَهُمْ ﴾ أي تركهم من الخير، وأما من الشر فلم ينسهم منه.﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ ﴾ الآية، والكفار هنا المعلنون بالكفر، وخالدين فيها حال مقدرة لأن الخلود لم يقارن الوعد. و ﴿ حَسْبُهُمْ ﴾ كافيهم، وذلك مبالغة في عظم عذابهم إذ عذابهم شىء لا يزاد عليه، ولعنهم أهانهم مع التعذيب، ولما ذكر تشبيههم بمن قبلهم وذكر ما كانوا فيه من شدة القوة وكثرة الأولاد والأموال واستمتاعهم بما قدر لهم من الانصباء، شبه استمتاع المنافقين باستمتاع الذين من قبلهم وأبرزهم بالإِسم الظاهر فقال: كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير، لأنه كما يدل بإِعادة الظاهر مكان المضمر على التفخيم والتعظيم كذلك يدل بإِعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى:﴿ يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً ﴾[مريم: ٤٤].
وكقوله: ﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.
ولم يأت التركيب أنه كان ولا انهم هم.﴿ وَخُضْتُمْ ﴾ أي دخلتم في اللهو والباطل، وهو مستعار من الخوض في الماء. ولا يستعمل إلا في الباطل لأن التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض. ومنه قوله عليه السلام:" رُبّ متخوض في مال الله له النار يوم القيامة ".﴿ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ ﴾ أي كالخوض الذي خاضوا، قاله الفراء. وقيل: كالفوج الذي خاضوا. وقيل: النون محذوفة، أي كالذين خاضوا أي كخوض الذين خاضوا. وقيل: الذي مع ما بعدها ينسبك مصدراً أي كخوضهم. والظاهر أن أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والأولاد، والمعنى وأنتم كذلك تحبط أعمالكم.﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وتكذيب الأنبياء. وكان لفظ: الذين من قبلهم، فيه إبهام نص على طوائف بأعيانها ستة لأنه كان عندهم شىء من أنبائهم وكانت بلادهم قريبة من بلاد العرب، وكانوا أكثر الأمم عدداً وأنبياؤهم أعظم الأنبياء، نوح أول الرسل وإبراهيم الأقرب للعرب، وما بينهما من الأمم مقاربون لهم في الشدة وكثرة المال والولد، وقوم نوح أهلكوا بالغرق، وعاد بالريح، وثمود بالصيحة، وقوم إبراهيم بسلب النعمة عنهم، حتى سلطت البعوضة على نمرود مَلِكهم، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظلمة، والمؤتفكات بجعل أعالي أرضها أسافل وإمطار الحجارة عليهم.﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ ﴾ لما ذكر تعالى المنافقين والمنافقات وما هم عليه من الأوصاف القبيحة والأعمال الفاسدة، ذكر المؤمنين والمؤمنات وقال في أولئك بعضهم من بعض، وفي هؤلاء بعضهم أولياء بعض، إذ لا ولاية بين المنافقين ولا شفاعة لهم، ولا يدعو بعضهم لبعض، فكان المراد هنا الولاية لله خاصة.﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾ الآية، لما أعقب المنافقين بذكر ما أوعدهم به من نار جهنم أعقب المؤمنين بذكر ما وعدهم به من نعيم الجنات ولما كان قوله: أولئك سيرحمهم الله وعداً جمالياً فصله هنا تنبيهاً على أن تلك الرحمة هي هذه الأشياء.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ لما ذكر وعيد غير المؤمنين وكانت السورة قد نزلت في المنافقين بدأ بهم في ذلك بقولهم:﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ ﴾[التوبة: ٦٨] الآية، ولما ذكر أمر الجهاد وكان الكفار غير المنافقين أشد شكيمة وأقوى أسباباً في القتال وأنكاء بتصديهم للقتال قال: جاهد الكفار والمنافقين فبدأ بهم. قال ابن عباس: جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان.﴿ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ ﴾ الضمير عائد على المنافقين. وقيل: هو حلف الجلاس، وتقدمت قصته مع عامر بن قيس.﴿ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ﴾ قال مجاهد:" نزلت في خمسة عشر رجلاً هموا بقتله صلى الله عليه وسلم وتوافقوا على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع اخفاف الإِبل وقعقعة السلاح فالتفت فإِذا قوم متلثمون فقال: إليكم يا أعداء الله فهربوا "وكان منهم عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق والجلاس بن سويد وأبو عامر بن نعمان وأبو الأحوص.﴿ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ هذا إحسان منه تعالى ورفق بهم حيث فتح لهم باب التوبة بعد ارتكاب تلك الجرائم العظيمة، وكان الجلاس بعد حلفه وإنكاره أنه ما قال الذي نقل عنه قد تاب واعترف وصدق الناقل عنه وحسنت توبته، ولم يرد أن أحداً قبلت توبته منهم غير الجلاس. وقيل: وفي هذا دليل على قبول توبة الزنديق المسر للكفر المظهر للإِيمان، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا تقبل فإِن جاء تائباً من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته بلا خلاف يك خيراً لهم. اسم " يك " ضمير يعود على المصدر المفهوم في قوله: يتوبوا، تقديره هو أي الثواب خيراً لهم.﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ ﴾ الآية، قال الضحاك: هم نبتل بن الحارث والجد بن قيس ومعتب بن متشير وثعلبة بن خاطب، وفيهم نزلت الآية. والظاهر أن الضمير في فأعقبهم هو عائد على الله تعالى عاقبهم على الذنب بما هو أشد منه. والظاهر عود الضمير في يلقونه على الله تعالى. وقيل: جزاء أفعالهم.﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ ﴾ هذا استفهام تضمن التوبيخ والتقريع. وقرأ على وأبو عبد الرحمن والحسن تعلموا ـ بالتاء ـ وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير وأنه تعالى فاضح المنافقين ومعلم المؤمنين أحوالهم التي يكتمونها شيئاً فشيئاً.﴿ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ﴾ هذا التقسيم عبارة عن إحاطة علمه تعالى بهم. والظاهر أن الآية في جميع المنافقين من عاهد وأخلف وغيره.﴿ ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ ﴾ الآية،" نزلت فيمن عاب المتصدقين وكان رسول الله حث على الصدقة فتصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف وامسك مثلها، فبارك له الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أعطى وفيما أمسك وتصدق عمر بنصف ماله، وعاصم بن عدي بمائة وسق، وعثمان بن عفان بصدقة عظيمة، وأبو عقيل الاراش بصاع تمر، وترك لعياله صاعاً وكان آجر نفسه لسقي نخل بهما، ورجل بناقة عظيمة، قال: هي وذو بطنها صدقة يا رسول الله وألقى إلى رسول الله خطامَها فقال المنافقون: ما تصدق هؤلاء إلاّ ريآء وسمعة، وما تصدق أبو عقيل إلا ليذكر مع الأكابر أو ليذكر بنفسه فيغطي من الصدقات والله غني عن صاعه. وقال بعضهم: تصدق بالناقة وهي خير منه. وكان الرجل أقصر الناس قامة وأشدهم سواداً فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بل هو خير منك، ومنها يقوله ثلاثاً ".﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ﴾ هم مندرجون في المطوّعين ذكروا تشريفاً لهم حيث ما فاتتهم الصدقة بل تصدقوا بالشىء وإن كانوا أشد الناس إليه حاجة، وأتعبهم في تحصيل ما تصدقوا به كأبي عقيل وأبي خيثمة. وكان قد لُمِزَ في التصدق بالقليل ونظرائها الذين يلمزون: مبتدأ. وفي الصدقات: متعلق بيلمزون. والذين لا يجدون: معطوف على المطوعين، كأنه قيل: يلمزون الأغنياء وغيرهم.﴿ فَيَسْخَرُونَ ﴾ معطوف على يلمزون وسخر منهم. وما بعده خبر عن الذين يلمزون.
﴿ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ الآية، سأل عبد الله بن أبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رجلاً صالحاً أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل. فنزلت. فقال عليه السلام:" قد رخص لي فأزيد على السبعين "فنزلت سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم وعلى هذا فالضمائر عائدة على جميع المنافقين، والخطاب بالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والظاهر أن المراد بهذا الكلام التخيير، وهو الذي روي عنه صلى الله عليه وسلم وقد قال له عمر:" كيف تستغفر لعدو الله وقد نهاك الله عن الاستغفار لهم؟ فقال عليه السلام: ما نهاني ولكنه خيّرني "فكأنه قال له: إن شئت فاستغفر وإن شئت فلا تستغفر، ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر سبعين مرة.﴿ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين، ذكر حال المنافقين الذي لم يخرجوا معه وتخلفوا عن الجهاد، واعتذروا بأعذار وعلل كاذبة حتى أذن لهم، فكشف الله تعالى لرسوله عن أحوالهم وأعلمه بسوء فعالهم، فأنزل عليه فرح المخلفون أي عن غزوة تبوك، وكان عليه السلام قد خلفهم بالمدينة لما اعتذروا فأذن لهم. وهذه الآية تقتضي التوبيخ والوعيد. ولفظة المخلفون تقتضي الذم والتحقير، ولذلك جاء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وهي أمكن من لفظ المتخلفين، إذ هم مفعول بهم ذلك ولم يفرح إلا منافق فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر. ولفظ المقعد يكون للزمان والمكان والمصدر وهو هنا للمصدر، أي بقعودهم. وهو عبارة عن الأمة بالمدينة. وانتصب خلاف على الظرف أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال فلان أقام خلاف الحي أي بعدهم إذا ظعنوا ولم يظعن معهم. ومنه قول الشاعر: وقل للذي يبغي خلاف الذي مضى   تأهب لأخرى مثلها وكأن قد﴿ فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى فإِن رجعك الله من سفرك هذا وهو غزوة تبوك.﴿ فَٱسْتَأْذَنُوكَ ﴾ عطف على محذوف تقديره فاردت الخروج بعد الرجوع فأستأذنوك. وجواب الشرط قوله: فقل، وأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم لن تخرجوا معي هي عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم. وأكد نفي الخروج في المستقبل بقوله:﴿ أَبَداً ﴾ وهو ظرف مستقبل وانتقل بالنفي من الشاق عليهم وهو الخروج إلى الغزاة إلى الأشق وهو قتال العدو لأنه أعظم الجهاد وثمرة الخروج وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة. ثم علل انتفاء الخروج والقتال بكونهم رضوا بالقعود أول مرة، ورضاهم ناشىء عن نفاقهم وكفرهم وخداعهم وعصيانهم أمَر الله تعالى في قوله:﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾[التوبة: ٤١].
وقالوا هم لا تنفروا في الحر، فعلل بالمسبب وهو الرضا الناشىء عن السبب وهو النفاق وأول مرة هو الخرجة إلى غزوة تبوك ومرة مصدر، كأنه قيل: أول خرجة دعيتم إليها، لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول عليه السلام للغزاة فلا بد من تقييدها، إذ الأولية تقتضي السبق. وقيل: التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزو الروم بنفسه. وقيل: أول مرة قبل الاستئذان.
﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾ الآية، النهي عن الصلاة على المنافقين إذا ماتوا عقوبة ثانية لهم وخزي متأبد، وكان عليه السلام فيما روي يصلي على المنافقين إذا ماتوا ويقوم على قبورهم بسبب ما يظهرونه من الإِسلام فإِنهم كانوا يتلفظون بكلمتي الشهادة ويصلون ويصومون، فبنى الأمر على ما ظهر من أقوالهم وأفعالهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى. ولم يزل على ذلك حتى وقعت واقعة عبد الله بن أبيّ. وروي أنس أنه لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل عليه السلام فجذبه بثوبه وتلا عليه ولا تصل على أحد منهم الآية فانصرف ولم يصل عليه. ومات: صفة لأحد تقدم الوصف بالمجرور، ثم بالجملة وهو ماض بمعنى المستقبل، لأن الموت غير موجود لا محالة نهاه تعالى عن الصلاة عليه والقيم على قبره وهو الوقوف على قبره حتى يُفرَغ من دفنه.﴿ وَلاَ تُعْجِبْكَ ﴾ الآية، تقدم الكلام على نظيرها وأعيد ذلك لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له.﴿ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ ﴾ الآية، يحتمل أنّ أنْ تكون تفسيرية بمعنى أي. ويحتمل أن تكون مصدرية، أي بالإِيمان. والظاهر أن الخطاب للمنافقين أي آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم. و ﴿ ٱسْتَأْذَنَكَ ﴾ جواب إذا. و ﴿ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ ﴾ الكبراء والرؤساء والطول. قال ابن عباس: الغنى. والمعنى استأذنك أولو الطول منهم في القعود. وفي استأذنك التفات، إذ هو خروج من لفظ الغيبة في قوله: ورسوله، إلى ضمير الخطاب.﴿ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ ﴾ أي ألزمنا. وأهل العذر وفي ترك لحراسة المدينة. وفي قوله: ﴿ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ ﴾ تهجين لهم ومبالغة في الذم. والخوالف: الفساد. والظاهر أن قوله: ﴿ وَطُبِعَ ﴾ خبر من الله تعالى بما فعل بهم، فلأجل الطبع لا يفقهون ولا يتدبرون ولا يتفهمون ما في الجهاد من الفوز والشهادة والسعادة، وما في التخلف من الشقاء والضلال.
﴿ لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ ﴾ الآية، لكن وضعُها أن تقع بين متنافيين ولما تضمن قول المنافقين ذرنا استئذانهم في القعود كان ذلك تصريحاً بانتفاء الجهاد، وكأنه قيل: رضوا بكذا ولم يجاهدوا لكن الرسول جاهد والمعنى أن تخلف هؤلاء المنافقون فقد توجه إلى الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية. والخيرات: جمع خيرة، وهو المستحسن من كل شىء فيتناول محاسن الدنيا والآخرة لعموم اللفظ. وكثر استعماله في النساء ومنه قوله تعالى:﴿ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾[الرحمن: ٧٠].
﴿ وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ ﴾ الآية، وقرىء بالتشديد والتخفيف. والظاهر أن هؤلاء الجائين كانوا مؤمنين، كما قال ابن عباس، لأن التقسيم يقتضي ذلك ألا ترى إلى قوله: ﴿ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية، فلو كان الجميع كفاراً لم يكن لوصف الذين قعدوا بالكذب اختصاص، وكان يكون سيصيبهم عذاب أليم. والمعذورون: هم أسد وغطفان. وقيل غير ذلك.﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى حال من تخلف عن الجهاد مع القدرة عليه ذكر حال من له عذر في تركه. والضعفاء: جمع ضعيف وهو الهرم، ومن خلق في أصل البنية شديد النحافة والضؤولة بحيث لا يمكنه الجهاد. والمريض: من عرض له المرض، أو كان زمناً ويدخل فيه العُمْيُ والعرج. و ﴿ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ ﴾ هم الفقراء. قيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة. ونفى الحرج عنهم في التخلف عن الغزو، ونفي الحرج لا يتضمن المنع من الخروج إلى الغزو فلو خرج أحد هؤلاء ليعين المجاهدين بما يقدر عليه من حفظ متاعهم أو تكثير سوادهم ولا يكون كلاً عليهم كان له في ذلك ثواب جزيل" فقد كان عمرو بن الجموح أعرج وهو من أتقياء الأنصار وهو في أول الجيش، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان الله عذرك. فقال: والله لأحْقِرَنّ بعرْجتي هذه في الجنة "وكان ابن أم مكتوم أعمى فخر إلى أحد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى فضربت فأمسكه بصدره وقرأ: وما محمد إلا رسول، الآية. وشرط سبحانه وتعالى في انتفاء الحرج النصح لله ورسوله وهي أن تكون نياتهم وأقوالهم سراً وجهراً خالصة لله تعالى من الغش ساعية في إيصال الخيرات للمؤمنين داعية لهم بالنصر والتمكين. ففي سنن أبي داود:" لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم سيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلاّ وهم معكم فيه. قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر "وقرأ أبو حيوة: إذا نصحوا الله ورسوله، بنصب الجلالة والمعطوف.﴿ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ﴾ أي من لائمة تناط بهم أو عقوبة. ولفظ المحسنين عام في كل من أحسن.﴿ لِتَحْمِلَهُمْ ﴾ أي على ظهر يركب ويحمل عليه آيات المجاهد. وإذا: تقتضي جواباً. والأولى أن يكون ما يقرب منها وهو. قلت: ويكون قوله: قولوا، جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: فما حالهم إذا أجَابَهم الرسول؟ قيل: تولوا وأعينهم تفيض من الدمع. قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن يكون قوله قلت: لا أجد استئنافاً مثله يعني مثل رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا. فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ قلت: لا أجد ما أحملكم عليه، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض. قلت: نعم ويحسُن. " انتهى ". ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب فكيف في كلام الله تعالى وهو فهم أعجمي. وتقدم الكلام على نحو:﴿ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ ﴾[الآية: ٨٣] في المائدة. وقال الزمخشري: هنا وأعينهم تفيض من الدمع كقولك: تفيض دمعاً، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأن العين جعلت كأنّ كلها دمع فائض. ومن: للبيان، كقولك: أفديك من رجل. ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز. " انتهى ". ولا يجوز ذلك لأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن، وأيضاً فإِنه معرفة ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة، وانتصب حزناً على المفعول له، والعامل فيه تفيض. وقال أبو البقاء: أو مصدر في موضع الحال. و ﴿ أَلاَّ يَجِدُواْ ﴾ مفعول له أيضاً، والناصب له حزناً. وقال أيضاً: ويجوز أن يتعلق بتفيض. ولا يجوز ذلك على إعرابه حزناً مفعولاً له، والعامل فيه تفيض لأن العامل لا يقتضي اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل. وقوله: ألا يجدوا ما ينفعون فيه، دلالة على أنهم مندرجون تحت قوله: ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج. وتقدم نفيان: نفي الجرح عمن ذكر. والثاني: نفي السبيل، بمعنى اللائمة، والعتب على المحسنين. فيكون قوله: ولا على الذين، معطوف على المحسنين عطف الخاص على العام ويحسن هذا قوله:﴿ إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ ﴾ الآية، أثبت في حق المنافقين ما نفاه في حق المحسنين فدل لأجل المقابلة بأن هؤلاء مسيئون، وأي إساءة أعظم من النفاق، والتخلف عن الجهاد، والرغبة بأنفسهم عن رسول الله.﴿ رَضُواْ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ ﴾ الآية، لن نؤمن لكم، علة للنهي عن الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به فإِذا علم أنه مكذب في اعتذاره كف عنه.﴿ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾ علة لانتفاء التصديق لأنه تعالى إذا أخبر الرسول والمؤمنين بما انطوت عليه سرائرهم من الشر والفساد لم يكن تصديقهم في معاذريهم.﴿ سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ ﴾ الآية، لما ذكر أنه يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف، وان سبب الحلف هو طلبهم أن تعرضوا عنهم فلا تلوموهم ولا توبخوهم. فأعرضوا عنهم، أي فأجيبوهم إلى طلبتهم وعلّل الاعراض عنهم بأنهم رجس، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق فتجب مباعدتهم واجتنابهم، كما قال:﴿ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ ﴾[المائدة: ٩٠].
﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ﴾ الآية، قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبيّ حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها، وحلف ابن أبيّ سرح ليكونن معه على عدوّه وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فنزلت. وهنا حذف المحلوف به. وفي قوله: سيحلفون بالله، أثبت كقوله تعالى:﴿ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا ﴾[القلم: ١٧].
وقوله: واقسموا بالله، فلا فرق بين إثباته وحذفه في انعقاد ذلك يميناً. وغرضهم في الحلف رضي الرسول عليه السلام والمؤمنين عنهم لنفعهم في دنياهم لا أنّ مقصدهم وجه الله والبر، إذ هي إيمان كاذبة وأعذار مختلقة لا حقيقة لها. وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإِعراض جاء الأمر بالإعراض نصاً لأن الإِعراض من الأمور التي تظهر للناس، وها ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية لأن الرضى من الأمور القلبية التي تخفى. وخرج مخرج المتردد فيه وجعل جوابه انتفاء رضى الله عنهم فصار رضى المؤمنين عنهم أبعد شىء في الوقوع، لأنه معلوم منهم لأنهم لا يرضون عمن لا يرضى الله عنهم. ونص على الوصف الموجب لانتفاء الرضى وهو الفسق. وجاء اللفظ عاماً فيحتمل أن يراد به الخصوص كأنه قيل: فإِن الله لا يرضى عنهم، ويحتمل بقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السبب من العموم بتخصيص ولا غيره.
﴿ ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً ﴾ الآية، نزلت في أعراب من أسد وتميم وغطفان.
﴿ وَأَجْدَرُ ﴾ أحق ألا يعلموا، أي بأن لا يعلموا. والحدود هنا الفرائض.﴿ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً ﴾ الآية، نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم وكانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات مغرماً والمغرم الغرم والخسر.﴿ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ الآية. نزلت في بني مُقَرّن من مُزَينة، قاله مجاهد. ولما ذكر تعالى من يتخذ ما ينفق مغرماً ذكر مقابله وهو من يتخذ ما ينفق مغنماً. وذكر هنا الأصل الذي يترتب عليه إنفاق المال في القربات وهو الإِيمان بالله واليوم الآخر إذ جزاء ما ينفق إنما يظهر ثوابه الدائم في الآخرة. وفي قصة أولئك اكتفى بذكر نتيجة الكفر وعدم الإِيمان وهو اتخاذه ما ينفق مغرماً، وتربصه بالمؤمنين الدوائر والأجود تعميم القربات من جهاد وصدقة. والمعنى يتخذه سبب وصل عند الله وأدعية الرسول وكان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله صلى الله عليه وسلم:" اللهم صل على آل أبي أوْفَى "وقال تعالى:﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾[التوبة: ١٠٣].
والظاهر عطف وصلوات على قربات. والسابقون: مبتدأ، ورضي الله عنهم: الخبر.
﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ ﴾ الآية، ذكر فيها أن منافقين حولكم من الاعراب وفي المدينة لا تعلمونهم، أي لا تعلمون أعيانهم أو لا تعلمونهم منافقين. ومعنى حولكم: حول بلدتكم وهي المدينة. والذين كانوا حول المدينة جهينة وأسلم وأشجع وغفار ومزينة وعصية ولحيان وغيرهم ممن جاور المدينة.﴿ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ ﴾ معطوف على ممن حولكم فاشتركا في النفاق. ويكون مردوا اخباراً عن الصنفين. ويجوز أن يكون ومن أهل المدينة استئناف خير لمبتدأ محذوف تقديره قوم مردوا. ويجوز حذف هذا المبتدأ الموصوف بالفعل كقولهم: مناظعن ومنا أقام يريدون منا جمع ظعن، ومنا جمع أقام، ويكون الموصوف بالتمرد منافق المدينة قال الزمخشري: كقوله: أنا ابن جلا. " انتهى ". ان كان شبهه في مطلق حذف الموصوف فحسن وإن كان شبّهه في خصوصيته فليس بحسن، لأن حذف الموصوف مع من وإقامة صفته مقامة وهي في تقدير الاسم ولا سيما في التفصيل منقاس كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، وأما: أنا ابن جلا فضرورة شعر كقوله: يرمي بكَفَيْ كان من أَرْميَ البشر   أي بكفَيْ رجل. وكذلك أنا ابن جلا تقديره أنا ابن رجل جلا، أي كشف الأمرو وبيّنها. وفي قوله: ﴿ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ﴾ تهديد. وترتيب عليه الوعيد بقوله:﴿ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ﴾ والظاهر إرادة التثنية، ويحتمل أن يكون لا يراد بها شفع الواحد بل يكون المعنى على التكثير كقوله تعالى:﴿ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ﴾[الملك: ٤] أي كرة بعد كرة، كذلك يكون معنى سنعذبهم مرتين أي مرة بعد مرة.﴿ وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ الآية، نزلت في جماعة من الصحابة أوثق ثلاثة منهم أنفسهم بسواري المسجد، فمنهم أبو لبابة رغبوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين. فنزلت.﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والضمير عائد على الذين خلطوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا. فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً. فنزلت.﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ الآية، قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فنزلت.﴿ وَقُلِ ٱعْمَلُواْ ﴾ الآية، تقدم تفسير نظيرها.﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ ﴾ الآية، قال ابن عباس وغيره: نزلت في الثلاثة الذين تخلفوا قبل التوبة عليهم هلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري وكعب بن مالك. وقرىء: مرجون بالهمز وبغير الهمز، ومعناه التأخير.﴿ لأَمْرِ ٱللَّهِ ﴾ أي لحكمه اما يعذبهم إن أصروا ولم يتوبوا، واما يتوب عليهم إن تابوا.
﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً ﴾ الآية،" لما ذكر طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالاً وأفعالاً، ذكر أن منهم من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعاً للمنافقين يرتبون ما شاؤا فيه من الشر وسموه مسجداً، ولما بنى بنو عمرو بن عوف مسجد قباء وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء وصلى فيه، حسدهم بنو عمهم بنو غنم بن عوف وبنو سالم بن عوف وحرضهم أبو عامر الفاسق على بنائه حين نزل الشام هارباً من وقعة حنين فراسلهم في بنائه وقال: ابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر آتي بجند من الروم فأخرج محمداً وأصحابه. فبنوه إلى مسجد قباء وكانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين جزام بن خالد ومن داره أخرج المسجد، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قضير، وحارثة بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، وعباد بن حنيف، ونجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وأبو حنيفة الأزهر، وبحزج بن عمرو، ورجل من بني ضبيعة وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنينا مسجداً لذي القلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة. فقال صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا صلينا إن شاء الله فيه. وكان أمامهم مجمّع بن حارثة وكان غلاماً قارئاً للقرآن حسن الصوت وهو ممن حسن إسلامه وولاّه عمر إمامة مسجد قباء بعد مراجعة، ثم بعثه إلى الكوفة يعلمهم القرآن. فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك نزل بذي اوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، ونزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعا مالك بن الدخشم ومعنا وعاصماً ابني عدي. وقيل: بعث عمار بن ياسر ووحشياً قاتل حمزة بهدمه وتحريقه، فهدم وحرف بنار في سعف واتخذ كُناسة ترمي فيها الجيف والقمامة "وقرىء: الذي بغير واو. فاحتمل أن يكون بدلاً من قوله: وآخرون، مُرْجَوْن. وان يكون خبر مبتدأ تقديره هم الذين وأن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره منهم الذين. واتخذوا هنا تعدى لواحد كقوله: اتخذت بيتاً أي عملت بيتاً. وضراراً مفعول من أجله. وقوله: ان أردنا إلا الحسنى هي جملة القسم المحلوف عليه مصدرة بأن النافية التقدير ما أردنا إلا الحسنى كقوله:﴿ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا ﴾[فاطر: ٤١]، أي ما أمسكهما من أحد من بعده.﴿ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ﴾ نهاه أن يقوم فيه أبداً لأن بُنَانة كانوا خادعوا الرسول فهمّ الرسول بالمشي معهم واستدعى قميصه لينهض. فنزلت: لا تقم فيه أبداً. وعبّر بالقيام عن الصلاة فيه. قال ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين: المؤسس على التقوى مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس.﴿ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾ في الحديث قال لهم:" يا معشر الأنصار رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون؟ قالوا: يا رسول الله انا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء بالماء ففعلنا ذلك، فلما جاء الإِسلام لم ندعه. فقال: فلا تدعوه اذن "وقرىء: أسس بنيانه مبنياً للفاعل وأسس مبنياً للمفعول فيهما. شفا الشىء: حافته، وألفه مقلبة عن واو لذلك يقال في تثنيته شفوان. والجرف: ما جرفه السيل من الأودية أو الهوة، قاله أبو عبيدة. وقيل: الجرف البئر التي لم تطو وهار أي ساقط. يقال: هار يهور وهار يهير، واسم الفاعل هائر فقيل: حذفت الهمزة فبقي هار. وقيل: قلبت الكلمة من هائر إلى هارىء فحذفت الياء لأجل التنوين وصار الإِعراب في الراء، قالوا: في الرفع: هارٌ، وفي النصب: هاراً، وفي الجر: هار.﴿ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ﴾ الآية، ويحتمل أن يكون البنيان هنا مصادراً، أي لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان. ويحتمل أن يراد به المبنيُ فيكون على حذف مضاف، أي لا يزال بناء المبنيّ.﴿ رِيبَةً ﴾ أي شكا يريد سبب ريبة. وقرىء: ﴿ تَقَطَّعَ ﴾ مبنياً للمفعول وتقطّع مبنياً للفاعل وأصله تتقطع وحذفت التاء الثانية فبقي تقطع.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ ﴾ الآية، نزلت في البيعة الثانية وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين وكان أصغرهم سناً عقبة بن عمرو" وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فقالوا: اشترط لك ولربك والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة فاشترط رسول الله حمايته مما يحمون منه أنفسهم. واشترط لربه التزام الشريعة وقتل الأحمر والأسود في الرفع عن الحوزة فقالوا: ما لنا على ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: الجنة. فقالوا: نِعْم ربح البيع لا نقيل ولا نقائل "وفي بعض الروايات: ولا نستقبل. فنزلت. والآية عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. والظاهر من قوله في التوراة والإِنجيل والقرآن أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه بالجنة، فيكون في التوراة متعلقاً بقوله: اشترى. والأمر بالجهاد والقتال موجود في جميع الشرائع.﴿ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ ﴾ هذا استفهام على جهة التقرير أي لا أحد أوفى ولما أكد الوعد بقوله: حقاً أبرزه في صورة العهد الذي هو آكد وأوثق من الوعد إذ الوعد في غير حق الله تعالى جائزاً خلافه والعهد لا يجوز إلا الوفاء به إذ هو آكد من الوعد، قال الزمخشري: ومن أوفى بعهده من الله لان اخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام في الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه قبيح قط. ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال واستعمال قط في غير موضعه لأنه أتى به مع قوله: لا يجوز عليه قبيح قط. وقط: ظرف ماض فلا يعمل فيه إلا الماضي. ثم قال: ﴿ فَٱسْتَبْشِرُواْ ﴾ خاطبهم على سبيل الالتفات لأن في مواجهته تعالى بالخطاب تشريفاً لهم وهي حكمة الإِلتفات هنا. وليست استفعل هنا للطلب بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد. و ﴿ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ﴾ وصف على سبيل التوكيد ويحيل على البيع السابق. ثم قال: ﴿ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ أي الظفر للحصول على الربح التام، والغبطة في البيع لحط الذنب ودخول الجنة.﴿ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ﴾ الآية: قال ابن عباس: لما نزلت ان الله اشترى، الآية، قال رجل: يا رسول الله وإن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر؟ فنزلت: التائبون.. الآية. وهذه أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله ليستبق إلى التحلي بها عباده وليكونوا على أوفى درجات الكمال، التائبون قيل: هو مبتدأ خبره العابدون، وما بعده خبر بعد خبر أي التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الأوصاف. وقيل: خبره الآمرون. وقيل: خبره محذوف بعد تمام الأوصاف وتقديره من أهل الجنة، وترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن إذ بدأ أولاً بما يخص الإِنسان مرتبة على ما ينبغي، ثم بما يتعدى من هذه الأوصاف من الإِنسان لغيره وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بما يشمل ما يخصه في نفسه وما يتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود الله تعالى. ولما ذكر مجموع هذه الأوصاف أمر رسوله عليه السلام بأن يبشر المؤمنين. وفي الآية قبلها: فاستبشروا، أمرهم بالاستبشار فحصلت لهم المزية التامة بأن الله أمرهم بالاستبشار وأمر رسوله أن يبشرهم.﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾ الآية" نزلت في شأن أبي طالب حين احتضر فوعظه، وقال: أي عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله، وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال له: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال أبو طالب: يا محمد لولا اني أخاف أن يعيّر بها ولدي من بعدى لأقررتُ بها عينك. ثم قال: أنا على ملة عبد المطلب ومات. فنزلت: ﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ فقال عليه السلام لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك فكان يتسغفر له حتى نزلت هذه فترك الاستغفار لأبي طالب ".﴿ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ ﴾ الآية، ولما كان استغفار إبراهيم لأبيه بصدد أن يقتدي به، ولذلك قال جماعة من المؤمنين: سنستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه. بين العلة في استغفار إبراهيم لأبيه وذكر أنه حين اتضحت له عداوته لله تبرأ منه إبراهيم. والموعدة التي وعدها إبراهيم إياه هي قوله:﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ ﴾[مريم: ٤٧].
وقوله: لأسغفرنَّ لك. والضمير الفاعل في وعدها عائد على إبراهيم وكان أبوه بقيد الحياة فكان يرجو إيمانه، فلما تبين له من جهة الوحي من الله أنه عدو لله وأنه يموت كافراً، وانقطع رجاؤه منه تبرأ منه، وقطع عنه استغفاره. ويدل على أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم قراءة الحسن وابن السميقع وأبي نهيك ومعاذ القارىء وحماد الراوية وعدها إياه. وقيل: الفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم وعده أبوه أنه سيؤمن وكان إبراهيم عليه السلام قد قوي طمعُهُ في إيمانه فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه.﴿ لأَوَّاهٌ ﴾ الأواه الخاشع المتضرع. وقيل غير ذلك. قال الزمخشري: أواه فعال من أَوَهَ، كلأل من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورأفته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر إلى آخره. وتشبيهه أواه من أوه بلأل من اللؤلؤ ليس بجيد، لأن مادة أَوَهَ موجودة في صورة أواه، ومادة لؤلؤ مفقودة في لأل لاختلاف التركيب، إذ لأل ثلاثي ولؤلؤ رباعي وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية.
﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ﴾ الآية، مات قوم كان عملهم على الأمر الأول كاستقبال بيت المقدس وشرب الخمر فسأل قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مجيء النسخ ونزول الفرائض عن ذلك. فنزلت، أي ما كان الله ليديم إضلال قوم أرشدهم إلى الهدى حتى يُبيّن لهم ما يتقونه أي يتجنبونه فلا يجدي ذلك فيهم فحينئذٍ يدوم إضلالهم.﴿ لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ ﴾ الآية، قال ابن عطية: التوبة من الله تعالى رجوعه لعبده من حالة إلى حالة أرفع منها، وقد تكون في الأكثر رجوعاً عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة، وقد تكون رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها، وهذه توبته في هذه الآية على النبي لأنه رجع به من حالة قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشقاتها إلى حالة بعد ذلك أكمل منها. وأما توبته على المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأن تكون من نقصان إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة في الدين. وأما توبته على الفريق فرجوع من حالة محطوطة إلى حالة غفران ورضى.﴿ ٱتَّبَعُوهُ ﴾ أي اتبعوا أمره.﴿ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ ﴾ وهي الضيق والشدة والعدم. وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان بن عفان بألف جمل وألف دينار. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب الدنانير بيده وقال: وما على عثمان ما عمل بعد هذا "وجاء أنصاري بسبعمائة وسق من تمر. وقال مجاهد وغيره: بلغت العسرة بهم إلى أن كان العشرة منهم يعتقبون على بعير واحد من قلة الظهر، وإلى أن قسموا التمرة بين الرجلين، وكان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمصها أحدهم ويشرب عليها الماء ثم يفعل بها كلهم ذلك. وقال عمر بن الخطاب: أصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإِبل ويشربون ما في كروشها من الماء، ويعصرون الفَرْثَ حتى استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَفَع يديه يدعو فما رجّعهما حتى انسكبت سحابة فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا، فإِذا السحابة لم تخرج من العسكر وفي هذه الغزاة هموا من المجاعة بنحر الإِبل فأمر صلى الله عليه وسلم بجمع فضل ازوادهم حتى اجتمع منه على النطع شىء يسير فدعا فيه بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم ملؤها حتى لم يبق وعاء وأكل القوم كلهم حتى شبعوا وفضلت فضلة وكان الجيش ثلاثين ألفاً وزيادة، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم وفيها خلف علياً رضي الله عنه بالمدينة، فقال المنافقون: خلفه بغضاً له. فأخبره بقولهم فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. ووصل عليه السلام إلى أوائل بلاد العدو وبث السرايا فصالحه أهل أرزح وأيلة وغيرهما على الجزية وانصرف. قال ابن عباس: ﴿ تَزِيغُ ﴾ تعدل عن الحق في المتابعة. وكاد تدل على القرب لا على التلبس بالزيغ. وقرىء: يزيغ بالياء فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن وارتفاع قلوب بيزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد. ويزيغ في موضع الخبر لأن النية به التأخير، ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء. وقرىء: بالتاء، فاحتمل أن يكون في كاد ضمير الشأن كقراءة الياء، واحتمل أن يكون قلوب اسم كاد ويزيغ الخبر وُسّط بينهما كل فعل ذلك بكان. وفي هذين الإِعرابين كلام ذكر في البحر.﴿ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ﴾ قال الحسن: همت فرقة بالانصراف لما لقوا من الملاقة. وقيل: زيغها كان بظنون لها ساءت في معنى عزم الرسول عليه السلام على تلك الغزوة لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد الشقة وقوة العدو المقصود.﴿ وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ ﴾ الآية معطوف على قوله والأنصار. ومعنى يخلفوا أي عن غزوة تبوك.﴿ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ ﴾ تقدم تفسيره.﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ﴾ استعارة لأن الهم والغم ملأها بحيث لا يسعها أنس ولا سرور وجرحت من فرط الوحشة والغم.﴿ وَظَنُّوۤاْ ﴾ أي علموا. وقال قوم: الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الحائزين لأنه وقف أمرهم على الوحي ولم يكونوا قاطعين بأنه ينزل في شأنهم قرآن. أو كانوا قاطعين لكنهم يجوزون تطويل المدة في بقائهم في الشدة، فالظن عاد إلى تجويز تلك المدة القصيرة. وجاءت هذه الجملة في كيف إذا في غاية الحسن والترتيب فذكر أولاً ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم وثانياً:﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ﴾ هي كناية عن تواتر الهم والغم على قلوبهم حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع، فذكر أولاً ضيق المحل، ثم ثانياً ضيق الحال فيه، لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة، ثم ثالثاً لما يئسوا من الخلق عذقوا أمورهم بالله وانقطعوا إليه وعلموا أنه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى.﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ ﴾ ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا أو ليتوبوا أيضاً فيما يستقبل لمن فرطت منهم خطيئة علماً منهم أن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة.
﴿ يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ الآية، هو خطاب للمؤمنين أمروا بكونهم مع أهل الصدق بعد ذكر قصة الثلاثة الذين نفعهم صدقهم وازاحهم عن رتبة النفاق. واعترضت هذه الجملة تنبيهاً على رتبة الصدق وكفى بها أنها ثانية لرتبة النبوة في قوله:﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ ﴾[النساء: ٦٩] إلى آخره.﴿ مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ ﴾ الآية، نزلت فيمن تخلف من أهل المدينة عن غزوة تبوك، وفيمن تخلف ممن حولهم من الأعراب من مُزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار. ومناسبتها لما قبلها أنه لما أمر المؤمنين بتقوى الله وأمر بكينونتهم مع الصادقين وأفضل الصادقين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم المهاجرون والأنصار اقتضى ذلك موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم صحبته أنى توجه من الغزوات والمشاهد.﴿ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ الآية، قال الزمخشري: أن يصحبوه على البأساء والضراء ويكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط وأن يلقوا بأنفسهم في الشدائد ما تلقاه نفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم، علماً بها أنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه، فإِذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في الشدائد والهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ولا يكترث بها أصحابها ولا يقيموا لها وزناً.﴿ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ﴾ الظمأ: العطش. ولما كان العطش أشق الأشياء المؤذية للمسافرين بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصاً في شدة الحر كغزوة تبوك بُدىء به أولاً، وثني بالنصب وهو التعب لأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإِعياء الناشىء عن العطش والسير، وأتى ثالثاً بالجوع لأنه حالة يمكن الصبر عليها الأوقات العديدة بخلاف العطش، والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر، فكان الاخبار بما يعرض للمسافر أولاً فثانياً فثالثاً. وموطئاً: مفعل من وطىء فاحتمل أن يكون مكاناً، واحتمل أن يكون مصدراً، والفاعل في يغيظ عائد على المصدر إما على موطىء إن كان مصدراً، وإما على ما يفهم من موطىء إن كان مكاناً أي يغيظ وطئهم إياه الكفار. والنيل: مصدر فاحتمل أن يبقى على موضعه، واحتمل أن يراد به المنيل. واطلق نيلاً ليعم القليل والكثير مما يسؤهم قتلاً وأسراً وغنيمة وهزيمة، وبدىء في هاتين الجملتين بالاسبق أيضاً وهو الوطء ثم ثنّي بالنيل من العدو، وجاء للعموم في الكفار بالألف واللام وفي من عدو لكونه في سياق النفي. وبدىء أولاً بما يخص المسافر في الجهاد في نفسه، ثم ثانياً بما يترتب على تحمل تلك المشاق من غيظ الكفار والنيل من العدو.﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ﴾ قتل ابن عباس: كالثمرة ونحوها والكبيرة ما فوقها. وقدم صغيرة على سبيل الاهتمام كقوله:﴿ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً ﴾[الكهف: ٤٩].
﴿ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ ﴾ [يونس: ٦١، سبأ: ٣]، وإذا كتب أجراً لصغيرة فأحرى أجر الكبيرة. ومفعول كتب فضمير يعود على المصدر المفهوم من ينفقون ويقطعون، كأنه قيل: كتب لهم هو أي الانفاق والقطع، وتأخرت هاتان الجملتان وقدمت تلك الجملة السابقة لأنها أشق على النفس وأنكى للعدم، وهاتان أهون لأنهما في الأموال وقطع الأرض إلى العدو وسواء حصل غيظ للكفار والنيل من العدو أم لا يحصلا، فهذا أعم وتلك أخص. وكان تعليل تلك آكد إذ جاء بالجملة الإِسمية المؤكدة بأن، وذكر فيه الأجر. ولفظ المحسنين تنبيهاً على أنهم حازوا رتبة الإِحسان التي هي أعلى رتب المؤمنين وفي هاتين الجملتين أتى بلام العلة وهي متعلقة بكتب والتقدير أحسن جزاء الذي كانوا يعملون لأن عملهم له جزاء حسن وله جزاء أحسن وهنا الجزاء أحسن جزاء.﴿ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾ الآية، لما سمعوا قوله: ما كان لأهل المدينة إلى آخره أهمّهم ذلك فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت.﴿ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ أي ليجعلوا غرضهم في النفقة إنذار قومهم وإرشادهم إلى الخير والنصيحة لهم.﴿ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملاً صالحاً.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ ﴾ الآية، لما حض الله تعالى على النفقة في الدين وحض على رحلة طائفة من المؤمنين فيه أمر تعالى المؤمنين كافة بقتال من يليهم من الكفار فجمع بين الجهادين جهاد الحجة وجهاد السيف. وقال بعض الشعراء: من لا يعد له القرآن كان له   من الجهاد وبيض البتر تعديل﴿ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ الغلظة تجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة. والغلظة حقيقة في الأجسام فاستعيرت هنا للشدة في الحرب. وفي قوله: واعلموا تبشير لهم بالنصر.﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ ﴾ الآية، قال ابن عباس: نزلت هذه والثانية في المنافقين كانوا إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين خطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض بهم في خطبته فينظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب، ويقولون: هل يراكم من أحد إن قمتم فإِن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد.﴿ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً ﴾ يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإِنكار والاستهزاء بالمؤمنين. ويحتمل أن يقولوا ذلك لقراباتهم المؤمنين فيستقيمون إليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق. ومعنى قولهم: هذه، هو على سبيل التحقير للسورة والاستخفاف بها كما تقول: أي غريب في هذا، واني ذليل في هذا.﴿ أَوَلاَ يَرَوْنَ ﴾ قرىء: بياء الغيبة يعني به الكفار، وبتاء الخطاب يعني به المؤمنين، والرؤية إما بصرية أو علمية. ومعنى الآية: أفلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحدٍ واحدٍ ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون ويذكرون وعد الله ووعيده.﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ ﴾ الآية، ذكر أولاً ما يحدث منهم من القول على سبيل الاستهزاء، ثم ذكر ثانياً ما يصدر من الفعل على سبيل الاستهزاء وهو الإِيماء والتغامز بالعيون إنكاراً للوحي. وسخرية قائلين: هل يراكم من المسلمين لننصرف فإِنا لا نقدر على استماعه، ونظر بصرية وهي معلقة. وهل يراكم من أحد في موضع نصب بها.﴿ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ ﴾ أي عن الإِيمان والفكر في السورة التي نزلت.﴿ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم ﴾ الظاهر أنه خبر لما كان الكلام في معرض ذكر الذنب بدأ بالفعل المنسوب إليهم وهو قوله: ثم انصرفوا. ثم ذكر تعالى فعله بهم على سبيل المجازاة لهم في فعلهم، كقوله تعالى:﴿ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾[الصف: ٥].
﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ ﴾ الآية لما ابتدأ السورة سبحانه ببراءة الله ورسوله من المشركين وقص فيها احوال المنافقين شيئاً فشيئاً خاطب العرب على سبيل تعداد النعم والمن عليهم بكونهم جاءهم رسول من جنسهم عربياً قرشياً يبلغهم عن الله متصفٌ بالاوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب ويحرص على هداهم ويرأف بهم ويرحمهم صلى الله عليه وسلم.
Icon