تفسير سورة الرعد

اللباب
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ

وهي ثلاثة وأربعون آية، وعدد كلماتها ثمانمائة وخمس وخمسون كلمة، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وستة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ قال ابن عبَّاس: معناه أنا الله أعلمُ.
وقال أيضاً في رواية عطاءٍ: أنَا اللهُ الملكُ الرَّحمنُ. وأمالها أبو عمرو والكسائي وفخمها عاصم، وجماعةٌ.
قوله ﴿تِلْكَ آيَاتُ﴾ يجوز في «تِلْكَ» أن تكون مبتدأ، والخبر «آيَاتُ»، والمشار إليه آيات السُّورةِ، والمراد ب «الكِتَابِ» : السُّورةُ.
234
وقيل: إشارة إلى ما قصَّ عليه من أنباء الرسل، وهذا الجملة لا محلَّ لها إن قيل: إن «المر» كلامٌ مستقلٌّ، أو قصد به مجرَّد التنبيه، وفي محل رفع على الخبر إن قيل: «المر» مبتدأ، ويجوز أن يكون «تِلْكَ» خبراً ل «المر» و ﴿آيَاتُ الكتاب﴾ بدل، أو بيان، وتقدم تقريرُ هذا أوَّل الكتابِ.
قوله: ﴿والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ يجوز في أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ، و «الحَقُّ» خبره.
الثاني: أن يكون مبتدأ و «مِنْ ربِّكَ» خبره، وعلى هذا ف «الحَقُّ» خبر مبتدأ مضمر، أي هو الحق.
الثالث: أن «الحَقَّ» خبر بعد خبرٍ.
الرابع: أن يكون «مِن ربِّك الحقُّ» كلاهما خبر واحد، قاله أبو البقاءِ، والحوفيُّ وفيه بعد، إذ ليس هو مثل: «حُلْوٌ حَامضٌ.
الخامس: أن يكون»
الَّذي «صفة للكتاب.
قال أبو البقاءِ:»
وادخلت الواو في لفظه، كما أدخلت في «النَّازِلينَ والطيبين» يعني أنَّ الواو تدخل على الوصف، والزمخشري يجيزهن ويجعل الواو في ذلك تأكيداً، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحجر في قوله ﴿إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤].
وقوله: (في النزالين والطيبين) يشير إلى بيت الخرنقِ بنت هفّان في مدحها لقومها: [الكامل]
٣١٦٠ - لا يَبْعدَنْ قَوْمِي الَّذينَ هُمُ سُمُّ العُداةِ وَآفةُ الجُزْرِ
النَّازِلينَ بِكُلِّ مُعتَركٍ والطَّيبينَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ
فعطف «الطَّيبين» على «النَّازلينَ» وهما صفتان لقومٍ معينين، إلاَّ أن القوم بين الآية، والبيت واضحٌ، من حيث إنَّ البيت فيه عطف صفةٍ على مثلها، والآية ليست كذلك.
وقال أبو حيَّان: أن تكون الآية مما عطف [فيه] وصف على مثله، فقال: وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون «والَّذِي» في موضع رفع عطفاً على «آيَاتُ»، وأجاز هو، وابن عطيَّة: أن يكون «والَّذي» في مضع خفضٍ، وعلى هذين الإعرابين، يكون «الحقُّ» خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحق، ويكون «والَّذي» ممَّا عطف فيه الوصفُ على الوصفِ، وهما لشيءٍ واحدٍ، كما تقول: جاءني الظريف العاقلُ، وأنت تريدُ شخصاً واحداً، من ذلك قول الشاعر: [المتقارب]
235
٣١٦١ - إلى المَلكِ القَرْمِ وابنِ الهُمَامِ ولَيْثِ الكَتِيبةِ في المُزْدَحَمْ
قال شهابُ الِّدين: وأين الوصف المعطوف عليه؛ حتى نجعله مثل ابيت الذي أنشده.
السادس: أن يكون «الَّذي» مرفوعاً نسقاً على «آيَاتُ: كما تقدَّمت حكايته عن الحوفي. وجوَّز الحوفي أيضاً: أن يكون» الحقُّ «نعتاً ل» الَّذي «حال عطفه على» آيَاتُ الكِتَابِ «.
فتلخَّص في»
الحق «خمسة أوجه.
أنَّهُ خبرٌ أوَّل، أو ثان، أو هو ما قبله، أو خبراً لمبتدأ مضمر، أو صفة ل»
الَّذي «إذا جعلناه معطوفاً على» آيَاتُ «.

فصل


قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أراد ب: الكِتابِ»
القرآن ومعناه: هذه آيات الكتاب، يعني: القرآن، ثمَّ ابتدأ، وهذا القرآن ﴿والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ وهذا زجرٌ وتهديدٌ.
وقال مقاتلُ: نزلت في مشركي مكَّة حين قالوا: إنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقوله من تلقاء نفسه فردَّ قولهم.

فصل


تمسَّك نفاةُ القياس بهذه الآية وقالوا: الحكمُ المستنبطُ بالقياس غير ما نزل من عند الله تعالى وإلاَّ لكان من لم يحكم به كافر، لقوله تعالى ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون﴾ [المائدة: ٤٤]، وبالإجماع لا يكفرُ، فثبت أنَّ الحكم المثبت بالقياس غير نازلٍ من عند الله تعالى، وإذا كان كذلك، وجب ألاَّ يكون حقًّا، وإذا لم يكن حقًّا، وجب أن يكون باطلاً، لقوله تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال﴾ } [يونس: ٣٢] وأجيبك بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضاً؛ لأنَّه تعالى أمر العملِ بالقياسِ، فكان الحكمُ الَّذي دلَّ عليه القياس نازلاً من عند الله تعالى.
قوله تعالى ﴿الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الآية: ٢] لما ذكر انَّ أكثر النَّاس لا يؤمنون، ذكر عقبهُ ما ديلُّ على صحَّة التَّوحيد، والمعاد، وهو هذه الآية.
قوله: «اللهُ» قال الزَّمخشريُّ: «اللهُ» مبتدأ، و ﴿الذي رَفَعَ السماوات﴾ خبره بدليل
236
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض﴾ ويجوز أن يكون ﴿الذي رَفَعَ السماوات﴾ صفة، وقوله: ﴿يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات﴾ خبراً «.
وقوله:»
بِغَيْرِ عمدٍ «هذا الجار في محلِّ نصب على الحال من» السَّمواتِ «أي: رفعها خالية من عمدٍ، ثمَّ في هذا الكلام وجهان:
أحدهما: انتفاء العمدِ، والرؤية جميعاً، أي: لا عمد؛ فلا رؤية، يعني: لا عمد لها؛ فلا ترى، وإليه ذهب الجمهور.
والثاني: أنَّ لهما عمداً، ولكنها غير مرئيَّة.
وعن ابن عبَّاسٍ: ما يدريك أنّضها بعمدٍ لا ترى، وإليه ذهب مجاهد وهذا قريب من قولهم:»
مَا رأيتُ رجُلاً صالحاً «، ونحو: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ [البقرة: ٢٧٣] [الطويل]
٣١٦٢ - على لا حِبٍ لا يُهْتَدَى بِمنَارِهِ......................
وقد تقدَّم هذا، إذا قلنا: إنَّ «تَروْنَهَا»
صفة أمَّا إذا قلنا: إنَّها مستأنفةٌ كما سيأتي؛ فيتعيّن أن لا عمد لها.
والعامة على فتح العين، والميم، وهو اسم جمع، وعبارة بعضهم: أنه جمع نظراً إلى المعنى دون الصناعة، وفي مفرده احتمالان:
أحدهما: أنَّه عماد مثل «إهَاب وأهُب».
والثاني: أنه عمودٌ، كأدِيم وأدُم، وقَضِيتم وقُضُم، كذا قاله أبو حيَّان: وقال أبو البقاءِ: «جمع عماد، أو عمود مثل: إدِيم وأدُم، وأفِيق وأفُق، وإهَاب وأهُب، ولا خامس لها»، فجعلوا فعلاً كفعيل في ذلك.
وفيه نظر؛ لأنَّ الأوزان لها خصوصية، فلا يلزمُ من جمع «فعيل» وعلى كذا أن يجمع عليه «فعول»، فكان ينبغي أن ينظروه بأن: «فَعُلاً» جمع على «فَعَل»، ثم قول أبي البقاءِ «ولا خامس لها» يعني أنه لم يجمع على: «فُعُل» إلاَّ هذه الخمسة «عِمادٌ وعَمُودٌ وأدِيمٌ وأفِيقٌ وإهَابٌ».
وهذا الحصرُ ممنوعٌ لما تقدَّم من نحو: قَضِيمٌ وقُضُمٌ، ويجمعان في القلَّة على أعمدة. وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن وثاب: «عُمُد» بضمتين، ومفرده يحتمل أن يكون عِمَاداً، كشِهَاب، وشُهُب، وكِتَاب، وكُتُب، وأ، يكون عَمُوداً، كرسُولٍ، ورُسُل وقد قرىء في السبع: ﴿فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ﴾ [الهمز: ٩] بالوجهين.
237
وقال ابن عطية في «عَمَد: اسم جمع عمود، والباب في جمعه» عُمُد «بضم الحروف الثلاثة، كرسول ورُسُلٌ.
قال أبو حيان:»
وهذا وهمٌ، وصوابه: بضمِّ الحرفين؛ لأنَّ الثالث هو حرف الإعراب، فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمعِ «.
والعِمَادُ والعَمود: ما يعمدُ به، أي: يسند، ويقال: عمدت الحائطَ أعمدهُ عَمْداً، أي: أدْعمتهُ، فاعْتمدَ الحائطُ على العِمَادِ، والعَمَدُ: الأساطينُ قال النابغة: [البسيط]
٣١٦٣ - وخَيِّسِ الجِنَّ إنِّي قَدْ أذِنْتُ لَهُمْ يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ والعَمدِ
والعَمْدُ: قصد الشيء، والاستناد إليهن فهو ضدُّ السَّهو، وعمودُ الصُّبْحِ: ابتداءُ ضوئهِ تشبيهاً بعمُودِ الحديدِ في الهَيئةِ، والعُمْدَة: ما يُعْتمدُ عليه من مالِ وغيرهِ والعَمِيدُ: السَّيِّد الذي يعمدهُ النَّاسُ، أي: يَقْصدُونَهُ.
قوله»
تَرَوْنَها «في الضَّمير المنصُوب وجهان:
أحدهما: أنَّهُ عائدٌ على:»
عَمَدٍ «، وهو أقرب مذكورٍ، وحينئذ تكون الجملة في محل جر صفة ل» عَمَدٍ «، ويجيء فيه الاحتمالانِ المتقدِّمانِ من كون العمد موجودة لكنَّها لا ترى، أو غير موجودة ألبتََّة.
والثاني: أنَّ الضَّمير عائد على»
السَّمواتِ «، ثمَّ في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنَّها مستأنفة لا محلَّ لها، أي: استشهد برؤيتهم لها لذلك، ولم يذكر الزمخشري غيره.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال من هاء:»
تَرَوْنهَا «وتكون حالاً مقدرة؛ لأنها حين رفعها لم نكن مخلوقين، والتقدير: رفعها مرئية لكم.
وقرأ أبي: «تَرَوْنهُ»
بالتَّذكير مراعة للفظ «عَمَدٍ» إذ هو اسمُ جمع، وهذه القراءة رجح بها الزمخشري كون الجملة صفة ل «عَمَدٍ»، وزعم بعضهم أن «تَرَوْنَهَا» خبر لفظاً، ومعناه الأمر، أي روها، وانظروا إليها لتعتبروا بها، وهو بعيد؛ ويتعين على هذا أن يكون مستأنفاً، لأن الطَّلب لا يقع صفة، ولا حالاً.
و «ثُمَّ» في «ثُمَّ اسْتَوَى» لمجرَّدِ العطف لا للترتيبح لأنَّ الاستواء على العرشِ غير مرتب على رفع السموات.
238
قوله: ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ علا عليه: ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ لمنافع خلقه، فهما مقهوران يجريان على ما يريد الله عزَّ وجلَّ.
قال ابن عبَّاسٍ: للشَّمس مائة وثمانون منزلاً كُلَّ يوم لها منزلٌ، وذلك يتمُّ في ستَّة أشهرٍ، ثم تعود مرة أخرى إلى واحدٍ منها في ستَّة أشهر أخرى، وكذلك للقمر ثمانية وعشرون منزلاً، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى: ﴿كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾.
وتحقيقه: أن الله قدَّر لكلِّ واحدٍ من هذه الكواكب سيراً خاصًّا إلى جهة خاصَّة بمقدارٍ خاص من السُّرعةِ، والبُطءِ، وإذا كان كذلك؛ لزم أن يكون لها بحسب كلِّ لحظة لمحة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك.
وقيل: المراد بقوله: ﴿كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ كونها متحركين إلى يوم القيامة فتنقطع هذه الحركات كما وصف تعالى في قوله: ﴿إِذَا الشمس كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: ١] ﴿إِذَا السمآء انشقت﴾ [الانشقاق: ١] و ﴿إِذَا السمآء انفطرت﴾ [الإنفطار: ١] ﴿وَجُمِعَ الشمس والقمر﴾ [القيامة: ٩] كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾ [الأنعام: ٢].
قوله: ﴿يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات﴾ قرأ العامة هذين الحرفين بالياء من تحت جرياً على ضمير اسم الله تعالى وفيهما وجهان:
أظهرهما: أنهما مستأنفان للإخبار بذلك.
والثاني: أنَّ الاولى حالٌ من فاعل «سخَّر»، والثاني حالٌ من فاعل: «يُدبِّرُ».
وقرأ النخعي، وأبان بن تغلب: (ندبر الأمر نفصل) بالنون فيهما، والحسن والأعمش: «نُفَصِّلُ» بالنون «يُدبِّرُ» بالياء.
قال المهدويُّ: لم يختلف في: «يُدبِّرُ» يعني أنَّه بالياء، وليس كما ذكر لما تقدَّم عن النخعي، وأبان بن تغلب.

فصل


قوله: ﴿يُدَبِّرُ الأمر﴾ يقضيه وحده، وحمل كل واحد من المفسرين التَّدبير على نوع آخر من أحوال العالم، والأولى حمله على الكل، فهو يدبِّرهم بالإيجاد، والإعدامِ والإحياءِ، والإماتةِ، والاعِدتمادِ، والانقيادِ، ويدخل فيه إنزال الوحي، وبعث الرسلَ وتكليف العبادِ، وفيه دليلٌ عجيبٌ على كمال القدرةِ والرحمة؛ لأنًَّ هذا العالم من أعلى العرش إلى أطباق الثَّرى يحتوي على أجناسٍ، وأنواع لا يحيطُ بها إلا الله تعالى.
والدليل المذكور على تدبير كلِّ واحدٍ بوصفه في موضعه وطبيعته، ومن المعلوم أنَّ
239
من اشتغل بتدبير شيءٍ، فإنَّهُ لا يمكنه تدبير شيء آخر، فإنه لا يشغله شأنٌ عن شأن، وإذا تأمَّل العاقل في هذه الآية علم أنَّهُ تعالى يدبِّر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبيرٌ عن تدبير، وذلك يدل على أنه في ذاته، وصفاته، وعلمه، وقدرته غير مشابه للمخلوقات، والممكنات.
قوله ﴿يُفَصِّلُ الآيات﴾ يبين الدلالات الدَّالة على إلا هيته، وعلمه، وحكمه.
واعلم أنَّ الدَّلائل الدالَّة على وجود الصَّانع قسمان:
أحدهما: الموجودات الباقية الدائمةُ كالأفلاكِ، والشمس، والقمر، والكواكب وهذا القسم تقدَّم ذكره.
والثاني: الموجودات الحادثة المتغيرة، وهي الموتُ بعد الحياة، والفقرُ بد الغنى، والهرم بعد الصحَّة، وكون الأحمق في أهنأ العيش، والعاقل في أشد الأحوال، فهذا النَّوعُ من الموجودات، والأحوال دلالتها على وجود الصَّانع الحكيم ظاهرةٌ.
فقوله: ﴿يُفَصِّلُ الآيات﴾ إشارة إلى أنَّه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز، والتفصيل.
ثم قال: ﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ لكي توقنوا بوعده، وتصدِّقوا.
واعلم أنَّ الدلائل الدالة على وجود الصَّانع الحكيم تدلُّ ايضاً على صحَّة القول بالحشرِ والنشر؛ لأنَّ من قدر على خلق هذه الأشياء، وتدبيرها على عظمها، وكثرتها فبأن يقدر على الحشر، والنشر أولى.
وروي أنَّ رجلاً قال لعليِّ بن أبي طالبٍ كرَّم الله وجهه: كيف يحاسب الله الخلق دفعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمعُ نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة.
واعلم أنَّهُ تعالى كما قدر على بقاء الأجرام الفلكيِّة، والنيرات الكوكبية في الجو العالي، وكما يمكنه تدبير ما فوق العرش إلى ما تحت الثَّرى لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، كذلك يحاسبُ الخلق بحيث لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ.
واعلم أنَّ لفظ «اللِّقاءِ» يدل على رؤية اللهِ تعال وقد تقدَّم تقريره.
﴿وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض﴾ [الآية: ٣] لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال: ﴿وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض﴾ بسطها، قال الأصم: المد: البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله: ﴿مَدَّ الأرض﴾ ليشعر بأنَّه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً، لا يقع البصر على منتهاه، وقال قومٌ كانت الأرض مكورة فمدَّها، ودحاها من مكَّة من تحت
240
البيت، فذهبت كذا وكذا وقال آخرون: كانت مجتمعة عند بيت المقدس، فقال لها: اذهبي كذا، وكذا.
قال ابن الخطيب: وهذا القول إنَّما يتمٌّ إذا قلنا: الأرض مسطحةٌ لا كرةٌ وأصحاب هذا القول، احتجوا عليه بقوله تعالى: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠] وهو مشكل من وجهين:
الأول: أنَّه ثبت بالدليل أنَّ الأرض كرةٌ، فإن قالوا: قوله تعالى: مد الأرض ينافي كونها كرة.
قلنا: لا نسلم؛ لأنَّ الأرض جسم عظيم، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان لكم قطعة منها تشاهدُ كالسَّطح، والتَّفاوت الحاصل بينه، وبين السَّطح، لايصحلُ إلاَّ في علم الله تبارك وتعالى إلا في قوله تعالى
﴿والجبال أَوْتَاداً﴾ [النبأ: ٧] مع أن العالم من النَّاس يستقرُّون عليه، فكذلك هنا.
والثاني: أنَّ هذه الآية إنَّما ذكرت ليستدلّ على وجود الصَّانع؛ والشروط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً، حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع لأنَّ الشيء إذا رأيت حجمه، ومقداره، صار ذلك الحجم، وذلك المقدار عبرة؛ فثبت أنَّ قوله: ﴿مَدَّ الأرض﴾ إشارة إلى أنه تعالى هو الذي جعل الأرض مختصة بمقدار معيَّن لا يزيدُ ولا ينقص، والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً ممَّا هو الآن، وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه، فاختصاصه بذلك المقدار المعيَّن لا بدَّ وأن يكون بتخصيص مخصَّصِ، وتقدير مقدِّرٍ.
قوله: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ وهي الجبالُ الثَّوابت، وقاعدة هذا الوصف لا تطَّرد إلا الإناث إلا أن المكسر مما لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث، وأيضاً كثرة استعماله الجوامد، فجمع حائط حوائطن وكاهل كواهل. وقيل: هو جمع راسية، والهاء للمبالغة، والرسوُّ: الثبوت، قال الشاعر: [الطويل]
٣١٦٤ - بِهِ خَالدَاتٌ مَا يرِمْنَ وهَامِدٌ وأشْعَثُ أرْسَتْهُ الوَلِيدةُ بالفِهْرِ

فصل


قال بان عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كان أبو قبيسٍ أوَّل جبلٍ وضع على وجه الأرض.
241
واعلم أنَّ الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصَّانع القادر الحكيم من وجوه:
أولها: أنَّ طبيعة الارض واحدة، فحصول الجبل في بعض جوابنها دون البعضِ لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر العليم.
قالت الفلاسفة: الجبال إنّضما تولّدت من البخارات؛ لأنَّ البخارات كانت في هذا الجانب من العالمِ، كان تتولدُ في البحر طيناً لزجاً، ثم يقوى فيه تأثير الشمس؛ فينقلب حجراً كما نشاهده، ثمَّ إنَّ الماء كان يفور ويقلّ؛ فلهذا السببت تولّدت هذه الجبالُ وإنما حصلت هذه الجبالُ في هذا الجانب من العالمك لأن في الدّهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال، والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض، فكانل التسخين أقوى، وشدّة والسُّخونة توجب انجذاب الطوبات، فحين كان الحضيض في جانب الشمالِ، كان البخارُ في جانب الشمال، ولما انتقل الأوج إلى جانب الشمال، والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبالُ في جانب الشمال، وهذا ضعيفٌ من وجوه:
الأول: أنَّ حصول الطِّين في البحر أمر عام، ووقوع الشَّمس عليها أيضاً أمر عامٌّ، فلم حصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون العبضِ؟.
الثاني: أنَّا نشاهدُ بعض الجبال كأنَّ تلك الأحجار موضوعة أقساماً كأن البنَّاءَ بناه من لبِنَاتٍ كثيرة موضوع بعضها فوق بعضٍ، ويبعدُ حصول مثل هذا التركيب من السَّبب الذي ذكروه.
الثالث: أنَّ أوج الشَّمس الآن قريب من أوَّل السَّرطان، فعلى هذا من أوَّل الوقت الذي انتقل أوجُ الشمس إلى الجانب الشَّمالي مضى قريباً من تعسة آلاف سنة، وبهذا التقدير: أنَّ الجبال في هذه المدَّة الطويلة كانت في التفتت، فوجب أن لايبقى من الأحجار شيءٌ، لكن ليس الأمرُ كذلك؛ فعلمنا أنَّ السب بالذي ذكروه ضعيف.
الوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبالِ على وجود الصَّانع: ما يحصلُ فيها من المعادن، ومواضع الجواهر النفيسة، وما يحصل فيها من معادن الدخان ومعادن النفط، والكبريت، فتكون طبيعة الأرض واحدة، وكون الجبل واحداً في الطَّبع وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدلُّ ظاهراً على أنَّ بتدقير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات.
الوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال: وذلك أنَّ بسببها تتولدُ الأنهار على وجه الأرض؛ لأنَّ الحجر جسمٌ صلبٌ، فإذا تصادعت الأبخرة من قعْرِ الأرض، ووصلت إلى الجبال انحبست هناك، فلا تزال تتكامل، فيحصل بسبب الجبل مياه عظيمة ثمَّ إنَّها لكثرتها، وقوتها تثقب، وتخرج، وتسيل على وجه الأرض، فمنفعة الجبال في تولدِ الأنهارِ هو من هذا الوجه، ولهذا السَّبب ما ذكره الله الجبال إلاَّ وذكر بعدها الأنهار في
242
أكثر الأمر كهذه الآية، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً﴾ [المرسلات: ٢٧].

فصل


قال القرطبي: في هذه الآية ردٌّ على من زعم أنَّ الأرض كالكرةِ لقوله: ﴿مَدَّ الأرض﴾، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبداً بما عليها، وزعم ابنُ الرَّوانديُّ: أنَّ تحت الأرض جسماً صاعداً كالرِّيحِ الصعادة، وهي منحدرة فاعتدل الهاوي، والصعَّاعدي في الجرم والقوة فتوافقا.
وزعم آخرون: أن الأرض مركبة من جسمين.
أحدهما: منحدرٌ، والآخر: مصدع فاعتدلا، فلذلك وقفت، والذي عليه المسلمون، وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض، وسكونها، ومدِّها، وأنَّ حركتها إنَّما تكونُ في العادةِ بزلزلةٍ تصيبها والله أعلم.
قوله: ﴿وَمِن كُلِّ الثمرات﴾ يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «جَعَلَ» [بعده]، أي: وجعل فيها زوجين اثنين من كلِّ صنفٍ من أصناف الثمرات، وهو ظاهرٌ.
والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من: «اثْنَيْنِ» ؛ لأنَّه في الأصل صفة لهُ.
الثالث: أن يتمَّ الكلام على قوله: ﴿وَمِن كُلِّ الثمرات﴾ فيتعلق ب «جَعَلَ» الأولى على أنه من باب عطف المفردات، يعني عطف على معمول «جعل» الأولى تقديره: أنه جعل في الأرض كذا، وكذا ومن كل الثمرات.
قال أبو البقاء: ويكون «جَعل» الثاني مستأنفاً، و «يُغْشِي اللَّيْلَ» تقدَّم الكلام فيه، وهو إمَّا مستأنفٌ، وإمَّا حال من فاعل الأفعال.

فصل


المعنى: ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين، أي: صنفين اثنين: أصفر، وأحمر، وحلواً، وحامضاً.
وهذا النوعُ الثالث في الاستدلال بعجائب خلقة النبات.
واعلم أن الحبَّة إذا وقعت في الأرض ربت وكبرت؛ فبسبب ذلك ينشقُّ أعلاها وأسفلها، فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصَّاعدة، ويخرج من الشق الأسفل العروق
243
الغائصة في الأرض، وهذا من العجائب؛ لأنَّ طبيعة تلك الحبَّة واحدة وتأثير الطبائع، والأفلاك، والكواكب فيها واحد، ثم إنه يخرد من الجانب الأعلى من تلك الحبَّة جرمٌ صاعدٌ إلى الهواء، ومن الجانب الأسفل جرمٌ غائصٌ في الأرض، ومن المحال أن يتولَّد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أنَّ ذلك إنَّما كان بتدبير المدبِّر العليم الحكيمِ لا بسبب الطَّبع، والخاصة، ثم إنَّ الشجرة النَّامية في تلك الجهة بعضها يكون خشباً، وبعضها يكون نوراً، وبعضها يكون ثمرة، ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسامٌ مختلفة الطَّبائع مثل الجوز ففيه أربعة أنواع من القشور، فالقشرة الأعلى، وتحته القشرة الخشبية، وتحته القشرة المحيطة باللبَّ، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرَّقة تمتازُ عمَّا فوقها حال كون الجوز واللوز رطباً وأيضاً: فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة فالأترجد قشرهُ جارّ يابس ولحمه وماؤه حارّان رطبان؛ فثبت أنَّ هذه الطَّبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع، وتأثيرات الأنجم، والأفلاك على زعم من يدعيه لا بد وأن يكون بتدبير العليمِ القدير.
فإن قيل: الزَّوجان لا بدَّ وأن يكونا اثنين، فما الفائدة في قوله: «زَوْجيْنِ اثْنَيْنِ» ؟.
فالجواب: أنه تعالى أوَّل ما خلق العالم، وخلق فيه الأشجار، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط، فلو قال: «زَوْجَيْنِ» لم يعلم أنَّ المراد النوع، أو الشخص فلما قال: «اثْنَيْنِ» علمنا أنه تعالى أوَّل ما خلق من كل زوجين اثنين [لا أقل ولا أزيد، والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة، إلا أنهم ابتدءوا من زوجين اثنين] بالشَّخص وهما: آدم وحواء عليهما السلام وكذلك القول في جميع الأشجار، والزروع، والله أعلم.
النوع الرابع: الاستدلال بأحوال الليل، والنهار، وإليه الإشارة بقوله: ﴿يُغْشِي الليل النهار﴾ وقد سبق الكلام فيه فأغنى عن الإعادة.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيستدلون، والتَّفكر: تصرف القلب في طلب المعاني.
قوله: ﴿وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ﴾ العامة على رفع: «قِطَعٌ» «وجَنَّاتٌ» إمَّا على الابتداء، وإما على الفاعلية بالجار قبله.
وقرىء «قِطَعاً متَجَاورَاتٍ» بالنصب، وكذلك هي في بعض المصاحف على إضمار جعل. وقرأ الحسن: «وجَنَّاتِ» بكسر التَّاءِ وفيها أوجهٌ:
244
أحدها: أنه جر عطفاً على «كُلِّ الثَّمراتِ».
الثاني: أنه نصب نسقاً على: «زَوحَيْنِ اثْنَينِ» قاله الزمخشري.
الثالث: أنه نصبه نسقاً على: «رَواسِيَ».
الرابع: أنه نصبه بإضمار جعلن وهو أولى لكثرة الفواصل في الأوجه قبله.
قال أبو البقاء: ولم يقرأ أحد منهم «وزَرْعاً» بالنصب «.
قوله: ﴿وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾ قرأ ابن كثيرٍن وأبو عمرو، وحفص: بالرفع في الأربعة، والباقون بالخفض، فالرفع في «زَرْعٌ ونَخِيلٌ»
للنسق على «قِطَعٌ» وفي «صِنْوانٌ» لكونه تابعاً ل «نَخِيلٌ»، و «غَيْرُ» لعطفه عليه.
وعاب أبو حيَّان على ابن عطيَّة قوله: «عطفاً على: قِطَعٌ». قال: وليست عبارة محررة؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطفٍ، وهو «صِنوانٌ» «.
قال شهابُ الدين:»
ومثل هذا [غير معيب] ؛ لأنَّه عطف محقق غاية ما فيه أنَّ بعض ذلك تابع، فلا يقدحُ في هذه العبارة، والخفض مراعاة ل «أعنابٍ» «.
وقال ابن عطيَّة:»
عطفاً على «أعْنابٍ»، وعابها أبو حيان بما تقدَّم وجوابه ما تقدَّم.
وقد طعن قومٌ على هذه القراءة، وقالوا: ليس الزَّرعُ من الجنَّات، وروي لك عن أبي عمر.
وقد أجيب عن ذلك: بأنَّ الجنَّة احتوت على النَّخيل، والأعناب، لقوله تعالى ﴿جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً﴾ [الكهف: ٣٢].
وقال أبو البقاءِ: «وقيل: المعنى، ونبات زرع فعطفه على المعنى».
قال شهاب الدين: «ولا أدري ما هذا الجوابُ؛ لأنَّ الذي يمنعُ أن يكون الجنة من الزَّرعِ بمعنى أن يكون من نبات الزَّرعِ، وأي فرق». والصنوان: جمع صنوٍ كقنوان جمع قنو، وقد تقدَّم تحقيق هذا التّنبيه في الأنعام.
و «الصِّنْوُ» : الفرع يجمعه وفرعاً آخر أصل واحد، وأصله المثل، وفي الحديث: «عمَّ
245
الرَّجل صِنْوُ أبيه»، أي: مثله؛ أو لأنهما يجمعهما أصل واحدٌ والعامة على كسر الصاد.
وقرأ السلميُّ، وابن مصرف، وزيد بن عليٍّ: بضمها، وهي لغة قيسٍ، وتميم كذئب، وذُؤبان.
وقرأ الحسنُ، وقتادة: بفتحها، وهو اسم جمعٍ لا جمع تكسير؛ لأنه لس من أبنية «فعلان»، ونظير «صنْوان» بالفتح «السَّعْدَان» هذا جمعه في الكثرةِ، وأمَّا القلَّة، فيجمع على «أصْنَاء» ك «جَمَل، وأجْمَال».
قوله: ﴿يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ «يُسْقَى» بالياء من تحت أي يسقى بما ذكرنا، والباقون بالتاء من فوق مراعاة للفظ ما تقدَّم، وللتأنيث في قوله «وجَنَّاتٍ»، ولقوله: «بَعْضَهَا».
قوله «ونُفَصِّلُ» قرأة بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل: الأخوان، والباقون بنون العظمة، ويحيى بن يعمر، وأبو حيوة: «يُفَضَّلُ» بالياء منبيًّا للمفعول و «بَعضُهَا» رفعاً.
وقال أبو حاتم: وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر، وهو أوَّل من نقط المصاحف، وتقدَّم [الخلاف] في الأكل في البقرةِ.
وفي «الأكلٍ» وجهان:
أظهرهما: أنَّه ظرفٌ [ل «نُفَضِّلُ» ].
والثاني: أنه حال من «بَعْضِهَا»، أي: نُفَضِّلُ بعضها مأكولاً، أي: وفيه الأكل، قاله أبو البقاءِ.
وفيه بعد جهة المعنى، والصناعة.

فصل


قوله: ﴿وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ﴾ قال الأصمُّ: أرضٌ قريبةٌ من أرض أخرى واحدة طيبة، وأخرى سبخة، وأخرى رملة، وأخرى حصباء وحصى، وأخرى تكون حمراء، وأخرى تكونُ سوداء.
وبالجملة: فاختلافُ بقاع الأرضِ في الارتفاع، والانخفاضِ، والطبعِ، والخاصيةِ أمر معلوم.
246
«وجَنَّاتٍ» بساتين: ﴿مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾ تقدَّم الكلام على الصنو، والصنوان، وهي النخلات يجمعهن أصلٌ واحد، «وغيْرُ صِنْوانٍ» هي النَّخلةُ المنفردةُ بأصلها.
قال المفسريون: الصنوان: المجتمع، وغير الصنوان متفرق، ولا فرق في الصنوانِ، والقنوان بين التثنية والجمع إلاَّ في الإعرابِ، وذلك أنَّ النُّونَ في التثنية مكسورةٌ غير منونة وفي الجمع منونة.
﴿يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ﴾ والماء: جسم رقيق مائع به حياة كلِّ نامٍ.
﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل﴾ في الثَّمر، والطَّعم، جاء في الحديث: «ونُفصِّلُ بعضهَا على بَعْضٍ في الأكلِ» قال: «الفارسي والدقلُ الحلوُ والحَامضُ».
قال مجاهد: كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد.
وحكى الواحديُّ عن الزجاج: أنَّ الأكل: الثَّمر الذي يؤكل، وحكى عن غيره أنَّ الأكل: المهيّأ للأكل.
قال ابنُ الخطيب: «وهاذ أولى؛ لقوله تعالى في صفة الجنة: ﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا﴾ [الرعد: ٣٥] : وهو عامٌّ في جميع المطعومات».
قال الحسن: هذا مثلٌ ضرب لقلوب بني آدم، كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن، فسطحها؛ فصارت قطعاً متجاورات، فينزل عليها الماءُ من السَّماءِ فتخرج هذه زهرتها، وشجرتها، ونباتها، وثمرها، وتخرجُ هذه سبخها وملحها وخبيثها، وكلٌّ يصقى بماء واحد، كذلك النًّاسُ خلقوا من آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فتنزل عليهم من السَّماءِ تذكرة، فترق قلوب قوم، فتخشع، وتقْسُو قلوب قوم فتلهو.
قال الحسنُ: والله ما جالس القرآن أحدٌ، إلاَّ قام من عنده بزيادة، أو نقصان، قال الله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً﴾ [الإسراء: ٨٢] ﴿إِنَّ فِي ذلك﴾ الذي ذكر: ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.

فصل


قال ابنُ الخطيب: المقصُودُ من هذه الآية: إقامة الدَّلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية الحركات الكوكبية من وجهين:
247
الأول: أنه جعل الأرض قطعاً مختلفة في الماهيَّة والطبيعة، وهي مع ذلك متجاورةٌ، فبعضها سبخةٌ، وبضعها طيِّبةٌ، وبعضها صلبة وبعضها حجريةٌ، وبعضها رمليةٌ، وتأثير الشمس، وتأثير الكواكب في تلك القطع على السَّويَّة؛ فدلَّ ذلك على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير.
الثاني: أنَّ القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماءٍ واحدٍ، ويكون تأثير الشمس فيها [متساوياً]، ثمَّ إنَّ تلك الثمار تجيءُ مختلفة في اللَّون، والطَّعم، والطَّبيعة، والخاصية؛ حتى أنَّك قد تأخذ عنقوداً واحداً من العنب، فتكون جميع حبَّاته ناضحة حلوة إلاَّ حبة واحدة منه، فإنها تبقى حامضة يابسة، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطبائع والأفلاك إلى الكل على السوية، بل نقول ههنا ما هو أعجب منه، وهو أنَّه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون في أحد وجهيه في غاية الحمرة، والوجه الثاني في غاية السَّواد، مع أنَّ ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنُّعومة، ويستحيل أن يقال: وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني، وهذا يدلُّ دلالة [قطعية] على أنَّ الكل بتقدير الفاعل المختار لا بسبب الأتصالات الفلكيَّة، وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل﴾، ولهذا قال: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.

فصل


قال القرطبي: وهذا الآية تدلُّ على بطلان القول بالطبع، إذا لو كان ذلك بالماء، والتراب، والفاعل له الطبيعة؛ لما وقع الاختلاف.
وذهب الكفرةُ لعنهم الله إلى أنَّ كلَّ حادث يحدث من نفسه لا من صانع وادعوا ذلك في الثِّمار الخارجة من الأشجار، وأقرُّوا بحدوثها، وأنكروا الأعراض، وقالت فرقةُ بحصول الثِّمار لا من صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلاً.
والدَّليل على أنَّ الحادث لا بد له من محدثٍ: أنَّه يحدثُ في وقت، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر، فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به؛ لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه، وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أنَّ اختصاصه لأجل مخصص خصصه به، لولا تخصيصه إيَّاه لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده.
248
قوله تعالى ﴿ الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ [ الآية : ٢ ] لما ذكر انَّ أكثر النَّاس لا يؤمنون، ذكر عقبهُ ما ديلُّ على صحَّة التَّوحيد، والمعاد، وهو هذه الآية.
قوله :" اللهُ " قال الزَّمخشريُّ :" اللهُ " مبتدأ، و ﴿ الذي رَفَعَ السماوات ﴾ خبره بدليل قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض ﴾ ويجوز أن يكون ﴿ الذي رَفَعَ السماوات ﴾ صفة، وقوله :﴿ يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات ﴾ خبراً ".
وقوله :" بِغَيْرِ عمدٍ " هذا الجار في محلِّ نصب على الحال من " السَّمواتِ " أي : رفعها خالية من عمدٍ، ثمَّ في هذا الكلام وجهان :
أحدهما : انتفاء العمدِ، والرؤية جميعاً، أي : لا عمد ؛ فلا رؤية، يعني : لا عمد لها ؛ فلا ترى، وإليه ذهب الجمهور.
والثاني : أنَّ لهما عمداً، ولكنها غير مرئيَّة.
وعن ابن عبَّاسٍ : ما يدريك أنّضها بعمدٍ لا ترى، وإليه ذهب مجاهد وهذا قريب من قولهم :" مَا رأيتُ رجُلاً صالحاً "، ونحو :﴿ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً ﴾ [ البقرة : ٢٧٣ ] [ الطويل ]
٣١٦٢ على لا حِبٍ لا يُهْتَدَى بِمنَارِهِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم هذا، إذا قلنا : إنَّ " تَروْنَهَا " صفة أمَّا إذا قلنا : إنَّها مستأنفةٌ كما سيأتي ؛ فيتعيّن أن لا عمد لها.
والعامة على فتح العين، والميم، وهو اسم جمع، وعبارة بعضهم : أنه جمع نظراً إلى المعنى دون الصناعة، وفي مفرده احتمالان :
أحدهما : أنَّه عماد مثل " إهَاب وأهُب ".
والثاني : أنه عمودٌ، كأدِيم وأدُم، وقَضِيتم وقُضُم، كذا قاله أبو حيَّان : وقال أبو البقاءِ :" جمع عماد، أو عمود مثل : إدِيم وأدُم، وأفِيق وأفُق، وإهَاب وأهُب، ولا خامس لها "، فجعلوا فعلاً كفعيل في ذلك.
وفيه نظر ؛ لأنَّ الأوزان لها خصوصية، فلا يلزمُ من جمع " فعيل " وعلى كذا أن يجمع عليه " فعول "، فكان ينبغي أن ينظروه بأن :" فَعُلاً " جمع على " فَعَل "، ثم قول أبي البقاءِ " ولا خامس لها " يعني أنه لم يجمع على :" فُعُل " إلاَّ هذه الخمسة " عِمادٌ وعَمُودٌ وأدِيمٌ وأفِيقٌ وإهَابٌ ".
وهذا الحصرُ ممنوعٌ لما تقدَّم من نحو : قَضِيمٌ وقُضُمٌ، ويجمعان في القلَّة على أعمدة. وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن وثاب :" عُمُد " بضمتين، ومفرده يحتمل أن يكون عِمَاداً، كشِهَاب، وشُهُب، وكِتَاب، وكُتُب، وأ، يكون عَمُوداً، كرسُولٍ، ورُسُل وقد قرىء في السبع :﴿ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ ﴾ [ الهمز : ٩ ] بالوجهين.
وقال ابن عطية في " عَمَد : اسم جمع عمود، والباب في جمعه " عُمُد " بضم الحروف الثلاثة، كرسول ورُسُلٌ.
قال أبو حيان :" وهذا وهمٌ، وصوابه : بضمِّ الحرفين ؛ لأنَّ الثالث هو حرف الإعراب، فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمعِ ".
والعِمَادُ والعَمود : ما يعمدُ به، أي : يسند، ويقال : عمدت الحائطَ أعمدهُ عَمْداً، أي : أدْعمتهُ، فاعْتمدَ الحائطُ على العِمَادِ، والعَمَدُ : الأساطينُ قال النابغة :[ البسيط ]
٣١٦٣ وخَيِّسِ الجِنَّ إنِّي قَدْ أذِنْتُ لَهُمْ يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ والعَمدِ
والعَمْدُ : قصد الشيء، والاستناد إليهن فهو ضدُّ السَّهو، وعمودُ الصُّبْحِ : ابتداءُ ضوئهِ تشبيهاً بعمُودِ الحديدِ في الهَيئةِ، والعُمْدَة : ما يُعْتمدُ عليه من مالِ وغيرهِ والعَمِيدُ : السَّيِّد الذي يعمدهُ النَّاسُ، أي : يَقْصدُونَهُ.
قوله " تَرَوْنَها " في الضَّمير المنصُوب وجهان :
أحدهما : أنَّهُ عائدٌ على :" عَمَدٍ "، وهو أقرب مذكورٍ، وحينئذ تكون الجملة في محل جر صفة ل " عَمَدٍ "، ويجيء فيه الاحتمالانِ المتقدِّمانِ من كون العمد موجودة لكنَّها لا ترى، أو غير موجودة ألبتََّة.
والثاني : أنَّ الضَّمير عائد على " السَّمواتِ "، ثمَّ في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّها مستأنفة لا محلَّ لها، أي : استشهد برؤيتهم لها لذلك، ولم يذكر الزمخشري غيره.
والثاني : أنها في محل نصب على الحال من هاء :" تَرَوْنهَا " وتكون حالاً مقدرة ؛ لأنها حين رفعها لم نكن مخلوقين، والتقدير : رفعها مرئية لكم.
وقرأ أبي :" تَرَوْنهُ " بالتَّذكير مراعة للفظ " عَمَدٍ " إذ هو اسمُ جمع، وهذه القراءة رجح بها الزمخشري كون الجملة صفة ل " عَمَدٍ "، وزعم بعضهم أن " تَرَوْنَهَا " خبر لفظاً، ومعناه الأمر، أي روها، وانظروا إليها لتعتبروا بها، وهو بعيد ؛ ويتعين على هذا أن يكون مستأنفاً، لأن الطَّلب لا يقع صفة، ولا حالاً.
و " ثُمَّ " في " ثُمَّ اسْتَوَى " لمجرَّدِ العطف لا للترتيبح لأنَّ الاستواء على العرشِ غير مرتب على رفع السموات.
قوله :﴿ ثُمَّ استوى عَلَى العرش ﴾ علا عليه :﴿ وَسَخَّرَ الشمس والقمر ﴾ لمنافع خلقه، فهما مقهوران يجريان على ما يريد الله عزَّ وجلَّ.
قال ابن عبَّاسٍ : للشَّمس مائة وثمانون منزلاً كُلَّ يوم لها منزلٌ، وذلك يتمُّ في ستَّة أشهرٍ، ثم تعود مرة أخرى إلى واحدٍ منها في ستَّة أشهر أخرى، وكذلك للقمر ثمانية وعشرون منزلاً، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى :﴿ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾.
وتحقيقه : أن الله قدَّر لكلِّ واحدٍ من هذه الكواكب سيراً خاصًّا إلى جهة خاصَّة بمقدارٍ خاص من السُّرعةِ، والبُطءِ، وإذا كان كذلك ؛ لزم أن يكون لها بحسب كلِّ لحظة لمحة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك.
وقيل : المراد بقوله :﴿ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ كونها متحركين إلى يوم القيامة فتنقطع هذه الحركات كما وصف تعالى في قوله :﴿ إِذَا الشمس كُوِّرَتْ ﴾ [ التكوير : ١ ] ﴿ إِذَا السمآء انشقت ﴾ [ الانشقاق : ١ ] و ﴿ إِذَا السمآء انفطرت ﴾ [ الإنفطار : ١ ] ﴿ وَجُمِعَ الشمس والقمر ﴾ [ القيامة : ٩ ] كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ﴾ [ الأنعام : ٢ ].
قوله :﴿ يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات ﴾ قرأ العامة هذين الحرفين بالياء من تحت جرياً على ضمير اسم الله تعالى وفيهما وجهان :
أظهرهما : أنهما مستأنفان للإخبار بذلك.
والثاني : أنَّ الاولى حالٌ من فاعل " سخَّر "، والثاني حالٌ من فاعل :" يُدبِّرُ ".
وقرأ النخعي، وأبان بن تغلب :( ندبر الأمر نفصل ) بالنون فيهما، والحسن والأعمش :" نُفَصِّلُ " بالنون " يُدبِّرُ " بالياء.
قال المهدويُّ : لم يختلف في :" يُدبِّرُ " يعني أنَّه بالياء، وليس كما ذكر لما تقدَّم عن النخعي، وأبان بن تغلب.

فصل


قوله :﴿ يُدَبِّرُ الأمر ﴾ يقضيه وحده، وحمل كل واحد من المفسرين التَّدبير على نوع آخر من أحوال العالم، والأولى حمله على الكل، فهو يدبِّرهم بالإيجاد، والإعدامِ والإحياءِ، والإماتةِ، والاعِتمادِ، والانقيادِ، ويدخل فيه إنزال الوحي، وبعث الرسلَ وتكليف العبادِ، وفيه دليلٌ عجيبٌ على كمال القدرةِ والرحمة ؛ لأنًَّ هذا العالم من أعلى العرش إلى أطباق الثَّرى يحتوي على أجناسٍ، وأنواع لا يحيطُ بها إلا الله تعالى.
والدليل المذكور على تدبير كلِّ واحدٍ بوصفه في موضعه وطبيعته، ومن المعلوم أنَّ من اشتغل بتدبير شيءٍ، فإنَّهُ لا يمكنه تدبير شيء آخر، فإنه لا يشغله شأنٌ عن شأن، وإذا تأمَّل العاقل في هذه الآية علم أنَّهُ تعالى يدبِّر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبيرٌ عن تدبير، وذلك يدل على أنه في ذاته، وصفاته، وعلمه، وقدرته غير مشابه للمخلوقات، والممكنات.
قوله ﴿ يُفَصِّلُ الآيات ﴾ يبين الدلالات الدَّالة على إلا هيته، وعلمه، وحكمه.
واعلم أنَّ الدَّلائل الدالَّة على وجود الصَّانع قسمان :
أحدهما : الموجودات الباقية الدائمةُ كالأفلاكِ، والشمس، والقمر، والكواكب وهذا القسم تقدَّم ذكره.
والثاني : الموجودات الحادثة المتغيرة، وهي الموتُ بعد الحياة، والفقرُ بد الغنى، والهرم بعد الصحَّة، وكون الأحمق في أهنأ العيش، والعاقل في أشد الأحوال، فهذا النَّوعُ من الموجودات، والأحوال دلالتها على وجود الصَّانع الحكيم ظاهرةٌ.
فقوله :﴿ يُفَصِّلُ الآيات ﴾ إشارة إلى أنَّه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز، والتفصيل.
ثم قال :﴿ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ لكي توقنوا بوعده، وتصدِّقوا.
واعلم أنَّ الدلائل الدالة على وجود الصَّانع الحكيم تدلُّ ايضاً على صحَّة القول بالحشرِ والنشر ؛ لأنَّ من قدر على خلق هذه الأشياء، وتدبيرها على عظمها، وكثرتها فبأن يقدر على الحشر، والنشر أولى.
وروي أنَّ رجلاً قال لعليِّ بن أبي طالبٍ كرَّم الله وجهه : كيف يحاسب الله الخلق دفعة واحدة ؟ قال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمعُ نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة.
واعلم أنَّهُ تعالى كما قدر على بقاء الأجرام الفلكيِّة، والنيرات الكوكبية في الجو العالي، وكما يمكنه تدبير ما فوق العرش إلى ما تحت الثَّرى لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، كذلك يحاسبُ الخلق بحيث لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ.
واعلم أنَّ لفظ " اللِّقاءِ " يدل على رؤية اللهِ تعال وقد تقدَّم تقريره.
﴿ وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض ﴾ [ الآية : ٣ ] لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال :﴿ وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض ﴾ بسطها، قال الأصم : المد : البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله :﴿ مَدَّ الأرض ﴾ ليشعر بأنَّه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً، لا يقع البصر على منتهاه، وقال قومٌ كانت الأرض مكورة فمدَّها، ودحاها من مكَّة من تحت البيت، فذهبت كذا وكذا وقال آخرون : كانت مجتمعة عند بيت المقدس، فقال لها : اذهبي كذا، وكذا.
قال ابن الخطيب : وهذا القول إنَّما يتمٌّ إذا قلنا : الأرض مسطحةٌ لا كرةٌ وأصحاب هذا القول، احتجوا عليه بقوله تعالى :﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣٠ ] وهو مشكل من وجهين :
الأول : أنَّه ثبت بالدليل أنَّ الأرض كرةٌ، فإن قالوا : قوله تعالى : مد الأرض ينافي كونها كرة.
قلنا : لا نسلم ؛ لأنَّ الأرض جسم عظيم، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهدُ كالسَّطح، والتَّفاوت الحاصل بينه، وبين السَّطح، لايحصلُ إلاَّ في علم الله تبارك وتعالى. كما في قوله تعالى ﴿ والجبال أَوْتَاداً ﴾ [ النبأ : ٧ ] مع أن العالم من النَّاس يستقرُّون عليه، فكذلك هنا.
والثاني : أنَّ هذه الآية إنَّما ذكرت ليستدلّ على وجود الصَّانع ؛ والشروط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً، حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع لأنَّ الشيء إذا رأيت حجمه، ومقداره، صار ذلك الحجم، وذلك المقدار عبرة ؛ فثبت أنَّ قوله :﴿ مَدَّ الأرض ﴾ إشارة إلى أنه تعالى هو الذي جعل الأرض مختصة بمقدار معيَّن لا يزيدُ ولا ينقص، والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً ممَّا هو الآن، وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه، فاختصاصه بذلك المقدار المعيَّن لا بدَّ وأن يكون بتخصيص مخصَّصِ، وتقدير مقدِّرٍ.
قوله :﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ وهي الجبالُ الثَّوابت، وقاعدة هذا الوصف لا تطَّرد إلا الإناث إلا أن المكسر مما لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث، وأيضاً كثرة استعماله الجوامد، فجمع حائط حوائط وكاهل كواهل. وقيل : هو جمع راسية، والهاء للمبالغة، والرسوُّ : الثبوت، قال الشاعر :[ الطويل ]
٣١٦٤ بِهِ خَالدَاتٌ مَا يرمْنَ وهَامِدٌ وأشْعَثُ أرْسَتْهُ الوَلِيدةُ بالفِهْرِ

فصل


قال بان عباس رضي الله عنه : كان أبو قبيسٍ أوَّل جبلٍ وضع على وجه الأرض.
واعلم أنَّ الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصَّانع القادر الحكيم من وجوه :
أولها : أنَّ طبيعة الارض واحدة، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعضِ لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر العليم.
قالت الفلاسفة : الجبال إنّما تولّدت من البخارات ؛ لأنَّ البخارات كانت في هذا الجانب من العالمِ، كان تتولدُ في البحر طيناً لزجاً، ثم يقوى فيه تأثير الشمس ؛ فينقلب حجراً كما نشاهده، ثمَّ إنَّ الماء كان يفور ويقلّ ؛ فلهذا السببت تولّدت هذه الجبالُ وإنما حصلت هذه الجبالُ في هذا الجانب من العالم لأن في الدّهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال، والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض، فكان التسخين أقوى، والشدّة والسُّخونة توجب انجذاب الرطوبات، فحين كان الحضيض في جانب الشمالِ، كان البخارُ في جانب الشمال، ولما انتقل الأوج إلى جانب الشمال، والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبالُ في جانب الشمال، وهذا ضعيفٌ من وجوه :
الأول : أنَّ حصول الطِّين في البحر أمر عام، ووقوع الشَّمس عليها أيضاً أمر عامٌّ، فلم حصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون العبضِ ؟.
الثاني : أنَّا نشاهدُ بعض الجبال كأنَّ تلك الأحجار موضوعة أقساماً كأن البنَّاءَ بناه من لبِنَاتٍ كثيرة موضوع بعضها فوق بعضٍ، ويبعدُ حصول مثل هذا التركيب من السَّبب الذي ذكروه.
الثالث : أنَّ أوج الشَّمس الآن قريب من أوَّل السَّرطان، فعلى هذا من أوَّل الوقت الذي انتقل أوجُ الشمس إلى الجانب الشَّمالي مضى قريباً من تعسة آلاف سنة، وبهذا التقدير : أنَّ الجبال في هذه المدَّة الطويلة كانت في التفتت، فوجب أن لايبقى من الأحجار شيءٌ، لكن ليس الأمرُ كذلك ؛ فعلمنا أنَّ السبب بالذي ذكروه ضعيف.
الوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبالِ على وجود الصَّانع : ما يحصلُ فيها من المعادن، ومواضع الجواهر النفيسة، وما يحصل فيها من معادن الدخان ومعادن النفط، والكبريت، فتكون طبيعة الأرض واحدة، وكون الجبل واحداً في الطَّبع وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدلُّ ظاهراً على أنَّ بتدقير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات.
الوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال : وذلك أنَّ بسببها تتولدُ الأنهار على وجه الأرض ؛ لأنَّ الحجر جسمٌ صلبٌ، فإذا تصادعت الأبخرة من قعْرِ الأرض، ووصلت إلى الجبال انحبست هناك، فلا تزال تتكامل، فيحصل بسبب الجبل مياه عظيمة ثمَّ إنَّها لكثرتها، وقوتها تثقب، وتخرج، وتسيل على وجه الأرض، فمنفعة الجبال في تولدِ الأنهارِ هو من هذا الوجه، ولهذا السَّبب ما ذكره الله الجبال إلاَّ وذكر بعدها الأنهار في أكثر الأمر كهذه الآية، وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً ﴾ [ المرسلات : ٢٧ ].

فصل


قال القرطبي : في هذه الآية ردٌّ على من زعم أنَّ الأرض كالكرةِ لقوله :﴿ مَدَّ الأرض ﴾، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبداً بما عليها، وزعم ابنُ الرَّوانديُّ : أنَّ تحت الأرض جسماً صاعداً كالرِّيحِ الصعادة، وهي منحدرة فاعتدل الهاوي، والصعَّادي في الجرم والقوة فتوافقا.
وزعم آخرون : أن الأرض مركبة من جسمين.
أحدهما : منحدرٌ، والآخر : مصدع فاعتدلا، فلذلك وقفت، والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض، وسكونها، ومدِّها، وأنَّ حركتها إنَّما تكونُ في العادةِ بزلزلةٍ تصيبها والله أعلم.
قوله :﴿ وَمِن كُلِّ الثمرات ﴾ يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب " جَعَلَ " [ بعده ]، أي : وجعل فيها زوجين اثنين من كلِّ صنفٍ من أصناف الثمرات، وهو ظاهرٌ.
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من :" اثْنَيْنِ " ؛ لأنَّه في الأصل صفة لهُ.
الثالث : أن يتمَّ الكلام على قوله :﴿ وَمِن كُلِّ الثمرات ﴾ فيتعلق ب " جَعَلَ " الأولى على أنه من باب عطف المفردات، يعني عطف على معمول " جعل " الأولى تقديره : أنه جعل في الأرض كذا، وكذا ومن كل الثمرات.
قال أبو البقاء : ويكون " جَعل " الثاني مستأنفاً، و " يُغْشِي اللَّيْلَ " تقدَّم الكلام فيه، وهو إمَّا مستأنفٌ، وإمَّا حال من فاعل الأفعال.

فصل


المعنى : ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين، أي : صنفين اثنين : أصفر، وأحمر، وحلواً، وحامضاً.
وهذا النوعُ الثالث في الاستدلال بعجائب خلقة النبات.
واعلم أن الحبَّة إذا وقعت في الأرض ربت وكبرت ؛ فبسبب ذلك ينشقُّ أعلاها وأسفلها، فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصَّاعدة، ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في الأرض، وهذا من العجائب ؛ لأنَّ طبيعة تلك الحبَّة واحدة وتأثير الطبائع، والأفلاك، والكواكب فيها واحد، ثم إنه يخرد من الجانب الأعلى من تلك الحبَّة جرمٌ صاعدٌ إلى الهواء، ومن الجانب الأسفل جرمٌ غائصٌ في الأرض، ومن المحال أن يتولَّد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أنَّ ذلك إنَّما كان بتدبير المدبِّر العليم الحكيمِ لا بسبب الطَّبع، والخاصة، ثم إنَّ الشجرة النَّامية في تلك الجهة بعضها يكون خشباً، وبعضها يكون نوراً، وبعضها يكون ثمرة، ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسامٌ مختلفة الطَّبائع مثل الجوز ففيه أربعة أنواع من القشور، فالقشرة الأعلى، وتحته القشرة الخشبية، وتحته القشرة المحيطة باللبَّ، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرَّقة تمتازُ عمَّا فوقها حال كون الجوز واللوز رطباً وأيضاً : فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة فالأترجد قشرهُ جارّ يابس ولحمه وماؤه حارّان رطبان ؛ فثبت أنَّ هذه الطَّبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع، وتأثيرات الأنجم، والأفلاك على زعم من يدعيه لا بد وأن يكون بتدبير العليمِ القدير.
فإن قيل : الزَّوجان لا بدَّ وأن يكونا اثنين، فما الفائدة في قوله :" زَوْجيْنِ اثْنَيْنِ " ؟.
فالجواب : أنه تعالى أوَّل ما خلق العالم، وخلق فيه الأشجار، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط، فلو قال :" زَوْجَيْنِ " لم يعلم أنَّ المراد النوع، أو الشخص فلما قال :" اثْنَيْنِ " علمنا أنه تعالى أوَّل ما خلق من كل زوجين اثنين [ لا أقل ولا أزيد، والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة، إلا أنهم ابتدءوا من زوجين اثنين ] بالشَّخص وهما : آدم وحواء عليهما السلام وكذلك القول في جميع الأشجار، والزروع، والله أعلم.
النوع الرابع : الاستدلال بأحوال الليل، والنهار، وإليه الإشارة بقوله :﴿ يُغْشِي الليل النهار ﴾ وقد سبق الكلام فيه فأغنى عن الإعادة.
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ فيستدلون، والتَّفكر : تصرف القلب في طلب المعاني.
قوله :﴿ وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ﴾ العامة على رفع :" قِطَعٌ " " وجَنَّاتٌ " إمَّا على الابتداء، وإما على الفاعلية بالجار قبله.
وقرىء " قِطَعاً متَجَاورَاتٍ " بالنصب، وكذلك هي في بعض المصاحف على إضمار جعل. وقرأ الحسن :" وجَنَّاتِ " بكسر التَّاءِ وفيها أوجهٌ :
أحدها : أنه جر عطفاً على " كُلِّ الثَّمراتِ ".
الثاني : أنه نصب نسقاً على :" زَوحَيْنِ اثْنَينِ " قاله الزمخشري.
الثالث : أنه نصبه نسقاً على :" رَواسِيَ ".
الرابع : أنه نصبه بإضمار جعل، وهو أولى لكثرة الفواصل في الأوجه قبله.
قال أبو البقاء : ولم يقرأ أحد منهم " وزَرْعاً " بالنصب ".
قوله :﴿ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ﴾ قرأ ابن كثيرٍن وأبو عمرو، وحفص : بالرفع في الأربعة، والباقون بالخفض، فالرفع في " زَرْعٌ ونَخِيلٌ " للنسق على " قِطَعٌ " وفي " صِنْوانٌ " لكونه تابعاً ل " نَخِيلٌ "، و " غَيْرُ " لعطفه عليه.
وعاب أبو حيَّان على ابن عطيَّة قوله :" عطفاً على : قِطَعٌ ". قال : وليست عبارة محررة ؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطفٍ، وهو " صِنوانٌ " ".
قال شهابُ الدين :" ومثل هذا [ غير معيب ] ؛ لأنَّه عطف محقق غاية ما فيه أنَّ بعض ذلك تابع، فلا يقدحُ في هذه العبارة، والخفض مراعاة ل " أعنابٍ " ".
وقال ابن عطيَّة :" عطفاً على " أعْنابٍ "، وعابها أبو حيان بما تقدَّم وجوابه ما تقدَّم.
وقد طعن قومٌ على هذه القراءة، وقالوا : ليس الزَّرعُ من الجنَّات، وروي لك عن أبي عمر.
وقد أجيب عن ذلك : بأنَّ الجنَّة احتوت على النَّخيل، والأعناب، لقوله تعالى ﴿ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً ﴾ [ الكهف : ٣٢ ].
وقال أبو البقاءِ :" وقيل : المعنى، ونبات زرع فعطفه على المعنى ".
قال شهاب الدين :" ولا أدري ما هذا الجوابُ ؛ لأنَّ الذي يمنعُ أن يكون الجنة من الزَّرعِ بمعنى أن يكون من نبات الزَّرعِ، وأي فرق ". والصنوان : جمع صنوٍ كقنوان جمع قنو، وقد تقدَّم تحقيق هذا التّنبيه في الأنعام.
و " الصِّنْوُ " : الفرع يجمعه وفرعاً آخر أصل واحد، وأصله المثل، وفي الحديث :" عمَّ الرَّجل صِنْوُ أبيه "، أي : مثله ؛ أو لأنهما يجمعهما أصل واحدٌ والعامة على كسر الصاد.
وقرأ السلميُّ، وابن مصرف، وزيد بن عليٍّ : بضمها، وهي لغة قيسٍ، وتميم كذئب، وذُؤبان.
وقرأ الحسنُ، وقتادة : بفتحها، وهو اسم جمعٍ لا جمع تكسير ؛ لأنه لس من أبنية " فعلان "، ونظير " صنْوان " بالفتح " السَّعْدَان " هذا جمعه في الكثرةِ، وأمَّا القلَّة، فيجمع على " أصْنَاء " ك " جَمَل، وأجْمَال ".
قوله :﴿ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ " يُسْقَى " بالياء من تحت أي يسقى بما ذكرنا، والباقون بالتاء من فوق مراعاة للفظ ما تقدَّم، وللتأنيث في قوله " وجَنَّاتٍ "، ولقوله :" بَعْضَهَا ".
قوله " ونُفَصِّلُ " قرأة بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل : الأخوان، والباقون بنون العظمة، ويحيى بن يعمر، وأبو حيوة :" يُفَضَّلُ " بالياء مبنيًّا للمفعول و " بَعضُهَا " رفعاً.
وقال أبو حاتم : وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر، وهو أوَّل من نقط المصاحف، وتقدَّم [ الخلاف ] في الأكل في البقرةِ.
وفي " الأكلٍ " وجهان :
أظهرهما : أنَّه ظرفٌ [ ل " نُفَضِّلُ " ].
والثاني : أنه حال من " بَعْضِهَا "، أي : نُفَضِّلُ بعضها مأكولاً، أي : وفيه الأكل، قاله أبو البقاءِ.
وفيه بعد جهة المعنى، والصناعة.

فصل


قوله :﴿ وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ﴾ قال الأصمُّ : أرضٌ قريبةٌ من أرض أخرى واحدة طيبة، وأخرى سبخة، وأخرى رملة، وأخرى حصباء وحصى، وأخرى تكون حمراء، وأخرى تكونُ سوداء.
وبالجملة : فاختلافُ بقاع الأرضِ في الارتفاع، والانخفاضِ، والطبعِ، والخاصيةِ أمر معلوم.
" وجَنَّاتٍ " بساتين :﴿ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ﴾ تقدَّم الكلام على الصنو، والصنوان، وهي النخلات يجمعهن أصلٌ واحد، " وغيْرُ صِنْوانٍ " هي النَّخلةُ المنفردةُ بأصلها.
قال المفسريون : الصنوان : المجتمع، وغير الصنوان متفرق، ولا فرق في الصنوانِ، والقنوان بين التثنية والجمع إلاَّ في الإعرابِ، وذلك أنَّ النُّونَ في التثنية مكسورةٌ غير منونة وفي الجمع منونة.
﴿ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ ﴾ والماء : جسم رقيق مائع به حياة كلِّ نامٍ.
﴿ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل ﴾ في الثَّمر، والطَّعم، جاء في الحديث :" ونُفصِّلُ بعضهَا على بَعْضٍ في الأكلِ " قال :" الفارسي والدقلُ الحلوُ والحَامضُ ".
قال مجاهد : كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد.
وحكى الواحديُّ عن الزجاج : أنَّ الأكل : الثَّمر الذي يؤكل، وحكى عن غيره أنَّ الأكل : المهيّأ للأكل.
قال ابنُ الخطيب :" وهاذ أولى ؛ لقوله تعالى في صفة الجنة :﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ﴾ [ الرعد : ٣٥ ] : وهو عامٌّ في جميع المطعومات ".
قال الحسن : هذا مثلٌ ضرب لقلوب بني آدم، كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن، فسطحها ؛ فصارت قطعاً متجاورات، فينزل عليها الماءُ من السَّماءِ فتخرج هذه زهرتها، وشجرتها، ونباتها، وثمرها، وتخرجُ هذه سبخها وملحها وخبيثها، وكلٌّ يسقى بماء واحد، كذلك النًّاسُ خلقوا من آدم عليه الصلاة والسلام فتنزل عليهم من السَّماءِ تذكرة، فترق قلوب قوم، فتخشع، وتقْسُو قلوب قوم فتلهو.
قال الحسنُ : والله ما جالس القرآن أحدٌ، إلاَّ قام من عنده بزيادة، أو نقصان، قال الله تعالى :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ] ﴿ إِنَّ فِي ذلك ﴾ الذي ذكر :﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.

فصل


قال ابنُ الخطيب : المقصُودُ من هذه الآية : إقامة الدَّلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية الحركات الكوكبية من وجهين :
الأول : أنه جعل الأرض قطعاً مختلفة في الماهيَّة والطبيعة، وهي مع ذلك متجاورةٌ، فبعضها سبخةٌ، وبضعها طيِّبةٌ، وبعضها صلبة وبعضها حجريةٌ، وبعضها رمليةٌ، وتأثير الشمس، وتأثير الكواكب في تلك القطع على السَّويَّة ؛ فدلَّ ذلك على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير.
الثاني : أنَّ القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماءٍ واحدٍ، ويكون تأثير الشمس فيها [ متساوياً ]، ثمَّ إنَّ تلك الثمار تجيءُ مختلفة في اللَّون، والطَّعم، والطَّبيعة، والخاصية ؛ حتى أنَّك قد تأخذ عنقوداً واحداً من العنب، فتكون جميع حبَّاته ناضحة حلوة إلاَّ حبة واحدة منه، فإنها تبقى حامضة يابسة، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطبائع والأفلاك إلى الكل على السوية، بل نقول ههنا ما هو أعجب منه، وهو أنَّه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون في أحد وجهيه في غاية الحمرة، والوجه الثاني في غاية السَّواد، مع أنَّ ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنُّعومة، ويستحيل أن يقال : وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني، وهذا يدلُّ دلالة [ قطعية ] على أنَّ الكل بتقدير الفاعل المختار لا بسبب الأتصالات الفلكيَّة، وهذا هو المراد بقوله تعالى :﴿ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل ﴾، ولهذا قال :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.

فصل


قال القرطبي : وهذا الآية تدلُّ على بطلان القول بالطبع، إذا لو كان ذلك بالماء، والتراب، والفاعل له الطبيعة ؛ لما وقع الاختلاف.
وذهب الكفرةُ لعنهم الله إلى أنَّ كلَّ حادث يحدث من نفسه لا من صانع وادعوا ذلك في الثِّمار الخارجة من الأشجار، وأقرُّوا بحدوثها، وأنكروا الأعراض، وقالت فرقةُ بحصول الثِّمار لا من صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلاً.
والدَّليل على أنَّ الحادث لا بد له من محدثٍ : أنَّه يحدثُ في وقت، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر، فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به ؛ لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه، وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أنَّ اختصاصه لأجل مخصص خصصه به، لولا تخصيصه إيَّاه لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده.
قوله: ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ الآية لما ذكر الدَّليل على معرفة المبدأ ذكر بعده ما يدلُّ على المعادِ.
قال ابن عبَّاس رضي الله عهما: «إنْ تعجب من تكذيبهم إيَّاك بعد ما حكموا عتليك بأنَّك من الصَّادقين، فهذا عجبٌ».
وقيل: إن تعجب يا محمَّدُ من عبادتهم ما لا يملك لهم ضرًّا، ولا نفعاً بعد ما عرفوا الدلائل الدِّالة على التوحيد، فهذا عجبٌ.
وقيل: تقدير الكلام: وإن تعجب يا محمد صلوات الله عليه فقد تعجبت في موضع العجب، لأنهم لما اعترفوا بأنه تعالى مدبِّر السموات، والأرضيين، وخالق الخلق أجمعين، وأنَّه هو الذي رفع السموات بغير عمدٍ ترونها، وأنَّه الذي سخر الشَّمس، والقمر على وفق مصالح العباد، وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب، والغرائب، فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة، كيف لا تكون وافية بأعادة الإنسان بعد موته؛ لأنَّ القادر على الأقوى يكون قادراً على الأضعفِ بطريق الأولى، وهذا تقرير موضع التَّعجُّب.
قوله: ﴿فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر مقدم، و «قَوْلُهمْ» مبتدأ مؤخَّرٌن ولا بد من حذف [صفة] لتتمْ الفائدة، أي: فعجب أي عجب، أو غريب، ونحوه.
الثاني: أنه مبتدأ، وسوَّغ الابتداء ما ذكر من الوصف المقدر، ولا يضر حنيئذٍ كون خبره معرفة، هذا كما أعرب سيبويه: كم مالك وخير من أقصد رجلاً خير منه أبوه مبتدأين لمسوغ الابتداء بهما، وخبرهما معرفةٌ، قاله أبو حيَّان.
وللنزاع فيه مجال؛ على أنَّ هناك علّة لا تتأتى هنا، وهي: أنَّ الذي حمل سيبويه على ذلك من المسألتين أن أكثر ما تقع موقع «كَمْ»، وخبر «مَا» هو مبتدأ؛ فلذلك حكم عليهما بحكم الغالب بخلاف ما نحنُ فيه.
الثالث: أنَّ «عَجَبٌ» مبتدأ بمعنى معجب، و «قَوْلُهمْ» فاعل به، قاله أبو البقاء.
249
ورد عليه أبو حيَّان: بأنهم نصُّوا على أنَّ «فعلاً وفعَلة وفُعْلاً» ينوبُ عن «مَفْعُول» في المعنى، ولا يعمل عمله، فلا تقول: «مَرَرْتُ بِرجُل [ذبح] كَبْشَهُ ولا غَرَفَ مَاءهُ ولا قَبضَ مالهُ، وأيضاً فإنَّ الصفات لا تعمل إلاَّ إذا اعتمدت على أشياء مخصوصة وليس منها هنا شيء.
والعَجَبُ: تغير النَّشفس برؤية المستبعد في العادة.
وقال القرطبيُّ: العَجَبُ تغير النفس بما يخفى أسبابه.
قوله تعالى: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ يجوز في هذه الجملة الاستفهامية وجهان:
أظهرهما: أنَّها منصوبة المحل لحكايتها بالقول.
والثاني: أنَّها، وما في حيزها في محل رفع بدلاً من:»
قَوْلهِمْ «وبه بدأ الزمخشريُّ وعلى هذا فقولهم بمعنى مقولهم ويكونُ بدل كُلِّ؛ لأنَّ هذا هو نفس» قَوْلُهُم «، و» إذَا «هنا ظرفٌ محضٌ، وليس فيها معنى الشَّرط، والعاملُ فيها مقدر يفسره ﴿لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ تقديره: أئذا كُنَّا تراباً نبعث، أو نحشر، ولا يعمل فيها: ﴿خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ؛ لا، ما بعد» إذَا «لا يعملُ فيما قبلها، ولا يعمل فيها» كُنَّا «لأضافتها إليها.
واختلف القراء في هذا الاستفهام المكرر اختلافاً منتشراً، وهو في أحد عشر موضعاً في تسع سور من القرآن ولا بد من تعيينها، [وبيان] مراتب القرَّاء فيها، فإن ضبطها عسر ليسهل ذلك بعون الله تعالى.
فأولها: ما في هذه السورة.
والثاني، والثالث: الإسراء وهما: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً﴾ [الإسراء: ٤٩] موضعان.
الرابع في المؤمنون: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٢].
الخامس في النمل: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ﴾ [النمل: ٦٧].
السادس في العنكبوت: ﴿لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال﴾ [العنكبوت: ٢٨، ٢٩].
السابع في «الم»
السجدة: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [السجدة: ١٠].
الثامن، والتاسع في الصافات موضعان [الصافات: ١٦].
العاشر: في الواقعة: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [الواقعة: ٤٧].
الحادي عشر في النازعات: ﴿أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً﴾ [النازعات: ١٠، ١١].
250
فهذه هي المواضع الختلف فيها، وأمَّا ضبط الخلاف فيها بالنِّسبة إلى القراء فيه طريقان:
أحدهما: بالنِّسبةإلى ذكر القرَّاءِ.
والثاني: بالنسبة إلى ذكر السُّور.
فاعلم أنَّ هذه المواضعِ تنقسم قسمين: قسم منها سبعة مواضع لها حكم واحد، وقسم منها أربعة مواضع، لكلِّ منها حكم على حدته.
أمَّا القسمُ الأوَّل فمنه في هذه السورة، والثاني، والثالث في: «سُبْحَانَ» والرابع: في «المؤمنون»، والخامس: في «الم» السجدة، والسادس، والسابع: في الصافات وحكمها: «أنَّ نافعاً، والكسائي يستفهمان في الأول، ويخبران في الثاني، وأن ابن عامر يخبر في الأول، ويستفهم في الثاني، والباقين يستفهمون في الأول والثاني.
وأما القسم الثاني، فأوله ما في سورة النمل، وحكمه: أن نافعاً يخبر عن الأول، ويستفهم في الثاني، وأن ابن عامر والكسائي بعكسه، وأن الباقين يستفهمون فيهما.
الثاني: ما في العنكبوت، وحكمه: أن نافعاً، وابن كثير، وابن عامر، وحفصاً يخبرون في الأول، ويستفهمون في الثاني، والباقون، يستفهمون فيهما.
الثالث: ما في سورة الواقعة، وحكمه: أن نافعاً، والكسائي يستهفمان في الأول، ويخبران في الثاني، والباقون يستفهمون فيهما.
الرابع: ما في سورة النازعات، وحكمه: أن نافعاً وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول، وخبرون في الثاني، والبقاين يستفهمون فيهما.
وأما الطريق الآخر بالنسبةإلى القراء؛ فإنهم فيها على أربع مراتب:
الأول: أن نافعاً قرأ بالاستفهام في الأول، وبالخبر في الثاني، إلا في النمل والعنكبوت فإنه العكس.
المرتبة الثانية: أنَّ ابن كثير، وحفصاًم قرآ بالاستفهام في الأول والثاني إلا الأول من العنكبوت فقرآه بالخبر.
المرتبة الثالثة: أنَّ ابن عامرٍ قرأ بالخبر في الأوَّل، والاستفهام في الثَّاني إلا في النمل، والواقعة، والنازعات، فقرأ في النمل، والنازعات بالاستفهام في الأول، وبالخبر في الثاني، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما.
المرتبة الرابعة: الباقون وهم: أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر رضيه الله عنهم
251
أجمعين قرءوا بالاستفهام في الأول، والثاني، ولم يخالف أحدٌ منهم أصله.
قال شهاب الدين: «وإنما ذكرت هذين الطريقين لعسرهما، وصعوبة استخراجهما من كتب القراءات.
فأمَّا وجه قراءة من استفهم في الأوَّل، والثاني؛ فقصد المبالغة في الإنكار، فأتى به في الجملة الأولى، وأعاده في الثانية تأكيداً له، ووجه من أتى به مرة واحدة: حصول المقصود به؛ لأنَّ كل جملة مرتبطة بالأخرى، فإذا أنكر في إحداها حصل الإنكارُ في الأخرى، وأمَّا من خالف أصله في شيءٍ من ذلك، فلاتباع الأثر»
.

فصل


هذا الخطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعناه: أنَّك تعجبُ من إنكارهم النَّشأة الأخرى مع إقرارهم باتبداءِ الخلق، فعجب أمرهم، وكان المشركون ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عزَّ وجلَّ وحقد تقرَّر في القلوب أنَّ الإعادة أهون من الابتداء، فهذا موضع العجب.
ثم قال: ﴿أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ﴾ وهذا يدلُّ على أنَّ من أنكر البعث والقيامة فهو كافرٌ، وإنما لزم من إنكار البعثِ الكفر بالله تعالى؛ لأنَّ إنكار البعث لا يتمُّ إلا بإنكار القدرة، والعلم، والصدق، وأما إنكار القدرة فكقوله: الله غير قادر على الإعادة، وأما إنكار العلم فكقوله: الله غير عالم بالجزيئات، فلا يمكنه تمييز المطيع عن العاصي، وأمَّا إنكار الصِّدق فكقولهم: إنَّه أخبر عنه، ولكنه لا يفعل؛ لأنَّ الكذب جائز عليه، وكل ذلك كفرٌ بالله تعالى.
ثم قال: ﴿وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ﴾ قال الأصمُّ: المراد بالأغلالِ: كفرهم وذلهم، وانقيادهم للأصنام، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً﴾ [يس: ٨٠] ؛ وقال الشاعر: [البسيط]
٣١٦٥ -..................... لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أغْلالٌ وأقْيَادُ
ويقال للرَّجلُ: هذا غلٌّ في عنقك للعمل الرَّديء، معناه: أنَّه [ملازم] لك، وأنت مُجازًى عليه بالعذابِ.
252
قال القاضي: هذا وإن كان محتملاً؛ لكن حمل اللفظ على الحقيقة أولى.
قال ابن الخطيب: «أقول على نصرة الأصم، بأن ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحالِ، وذلك غير حاصل، فإنهم يحملون هذا اللفظ على أنًَّه سيحصل هذا المعنى، ونحنُ نحمله على أنه حاصلٌ من الحالِ، والمراد بالأغلال ما ذكره فكلُّ واحدٍ منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه، فلمَ كَانَ قولكم أقوى؟».
وقيل: المعنى: أنَّهُ تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة، ويدلُّ عليه قوله تعالى:
﴿إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ﴾ [غافر: ٧١] إلى قوله: ﴿ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ﴾ [غافر: ٧٢].
ثم قال: ﴿وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ﴾ والمراد منه التَّهديد بالعذاب المخلد المؤبّد، وذلك يدلُّ على أنَّ العذاب المؤبَّد ليس إلا للكفَّار؛ لأن قولهم: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدونَ﴾ يدلُّ على أنَّهم هم الموصوفون بالخُلودِ لا غيرهم فدل على أنَّ أهل الكبائر لا يخلدون في النَّارِ.
فإن قيل: العجبُ هو الذي لا يعرف بسبب، وذلك في حق الله تعالى محالٌ، فكيف قال: «فعجَبٌ قَولُهُمْ» ؟.
فالجواب: المعنى: فعجب عنك.
فإن قيل: قرأ بعضهم: «بَل عَجِبْتُ» بإضافة العجب إلى نفسه.
فالجواب: أنَّا قد بيَّنا أنَّ مثل هذه الألفاظ يجبُ تنزيهها عن مبادىْ الأعراض ويجب حملها على نهايات الأعراض ونهاية التعجب أن الإنسان إذا تعجّب من الشيء أنكره، فكان التعجب في حقِّ الله تعالى محمولاً على الإنكار.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة﴾ وعلم أ، النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يهددهم تارة بعذاب القايمة، وتارة بعذاب الدنيا، والقوم كلَّما هددهم بعذاب القيامة، أنكروا القيامة، والبعث، والنشر كما تقدَّم في الآية الأولى، وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه، وذلك أنَّ مشركي مكَّة كانوا يطلبون العقوبة بدلاً من العافية استهزاء منهم يوقلون: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢].
قوله «قَبْلَ الحَسَنةِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ بالاستعجالِ ظرفاً لهُ.
والثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنَّه حال مقدرة من السيئة، قاله أبو البقاء. قوله: «وقَدْ خَلتْ» يجوز أن تكون حالاً وهو الظاهر، ويجوز أن تكون مستأنفة.
253
والعامة على فتح الميم، وضم المثلثة الواحدة مثله، ك «سَمُرَة» وسَمْرَات «و» صَدُقَة وصَدُقَات «وهي العقوبة الفاضحة.
قال ابن عباس:»
العقوبات المتأصلاتُ كمثلات قطع الأذن، والأنف، ونحوهما «.
سُمَّيت بذلك لما بين العقاب، والمعاقب عليه من المماثلة، كقوله تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، ولأخذها من المثال بمعنى القصاصِ.
يقال: أمثلتُ الرَّجل من صاحبه، وأقصصته بمعنى واحدٍ، أو لأخذها من ضربِ المثل لعظم شأنها.
وقرأ ابن مصرف»
المَثْلات «بفتح الميم، وسكون الثاء، وقيل: وهي لغة الحجاز في مثله.
وقرأ ابن وثاب: بضم الميم، وسكون الثاء، وهي لغة تميم.
وقرأ الأعمش، ومجاهد بفتحهما، وعيسى بن عمرو، وأبو بكر في رواية بضمهما.
فأما الضم، والإسكان: فيجوز أن يكون أصلاً بنفسه لغة، وأن يكون مخففاً في من قراءة الضم، والإسكان نحو»
العُشْر في العَشَر «وقد عرف ما فيه.
قال ابنُ الأنباري:»
المَثُلَة: العقوبة المبينة في المعاقب شيئاً، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة، وهو من قولهم: مثل فلانٌ بفلانٍ: إذا قبح صورته إمَّا بقطع أنفه، أو أذنه، أو سمل عينيه، أو بقر بطنه؛ فهذا هو الأصل، ثم يقال للعار الباقي والخزي الدائم اللازم مُثْلَه «.
وقال الواحدي: «وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه، ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابهاً للمعاقب عليه، ومماثلاً له سمي بهذا الاسم»
.
والمعنى: يستعجلونك بالعذابِ الذي لم نعاجلهم به، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية، أفلا يعتبرون بها.
ثم قال ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾ وهذا يدلُّ على أنه سبحانه وتعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبةن لأن قوله: ﴿لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾، أي:
254
حال اشتغالهم بالظلم كما يقال: رأيت الأمير على أكله، أي حال اشتغاله بالأكل، وهذا يقتضي كونه تعالى غافراً للناس حال اشتغالهم بالظلم، ومعلوم أنَّ حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائباً؛ فدلَّ هذا على أنه تعالى قد يغفر الذُّنوب قبل الاشتغالِ بالتوبة، وترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في حق غير الكفرة، وهو المطلوبُ.
ويقال: إنَّهُ تعالى لم يقتصر على قوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾ بل عطف عليه قوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب﴾ ؛ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر، ويحتمل الثاني على الكفَّار.
قال المفسريون: «لَذُو مَغْفرةٍ» لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وعن المذنبيين إذا تابوا.
وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أرجى آية في القرآن هذه الآية: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب﴾ إذا أصرُّوا على الكفر.
وروى حمّضاد بن سلمة عن عليِّ بن زيد عن سعيد بن المسيب رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال: لما نزلت: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب﴾ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لَوْلاَ عَفْوُ اللهِ ورَحْمتهُ وتَجاوُزهُ لمَا هَنأ أحَدا عَيْشٌ ولوْلاَ عِقابهُ ووَعِيدهُ وعَذابَهُ لاتَّكلَ كُلُّ أحدٍ».
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد: لذو مغفرة لأهل الصَّغائر لأجل أنَّ عقوبتهم مكفرة، ثم نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد إنَّ ربك لذو مغفرة إذا تابوا، وأنه تعالى إنَّما لا يعجل العقاب إمهالاً لهم في الإتيان بالتَّوبة، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم، ويكون المراد من هذه المغفرة [تأخير العقاب] إلى الآخرة، بل نقول: يجب حمل اللفظ عليه؛ لأنَّ القوم طلبوا تعجيل العذاب، فجيب أن تحمل المغفرة على تأخير العذاب حتى ينطبق الجواب على السُّؤال.
ثم يقال: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد بقوله: ﴿لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾ إمهالهم بالتَّوبة، ولا يعجل بالعقوبة، فإن تابوا، فهو ذو مغفرة، وإن لم يتوبوا؛ فهو شديد العقاب؟.
فالجواب عن الأوَّل: أن تأخير العذاب لا يمسى مغفرة، وإلاَّ لوجب أن يقال:
255
إن الكفار كلهم مغفور لهم؛ لأنَّ الله تعالى أخَّر عقابهم إلى الآخرة.
وعن الثاني: أنَّ الله تمدَّح بهذا، التَّمدُّح إنما يصحل بالتفضيل، أما أداء الواجب، فلا تمدح فيه، وعندكم يجب غفران الصغائر.
وعن الثالث: أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة؛ فسقطت الأسئلةُ.
قوله: ﴿على ظُلْمِهِمْ﴾ حال من «النَّاسِ» والعامل فيها، قال أبو البقاءِ «مَغْفرةٍ» يعني: أنه هو العامل في صاحبها.
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ الآية شلما بين تعالى أنَّهم طعنوا في النبوة بسبب طعنهم في الحشر والنشر ثم طعنوا في النبوَّة أيضاً بسبب طعنهم في صحَّة ما ينذرهم به من نزول العذابِ، بين أيضاً أنهم طعنوا في نبوَّته، وطلبوا منه المعجزة.
والسَّببُ في كونهم أنكروا كون القرآن معجزة: أنهم قالوا هذا كتابٌ مثلُ سائر الكتب، وإتيان الإنسان بتصنيف معين لا يكون معجزاً، وإنَّما يكون المعجز مثل معجزات موسى.
واعلم أنَّ من الناس من زعم أنَّهُ لم يظهر معجزة لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سوى القرآن، قالوا: لأن هذا الكلام إنَّما يصحُّ إذا طعنوا في كونِ القرآنِ معجزاً ولم يظهر معجزاً غيره؛ لأنه لو ظهر معجزة مغيره لم يحسن أن يقال: ﴿لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ وهذا يدلُّ على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان له معجزة سوى القرآنِ.
والجواب: عنه من وجهين:
الأول: لعلََّ المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوها من حينين الجزع، ونبع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير الطعام القليل؛ فطلبوا منه معجزاتن قاهرة غير هذه، مثل: فلقِ البَحْرِ لموسى، وقلب العصا ثُعْبَاناً.
فإن قيل: فما السبب في أنَّ الله منعهم، وما أعطاهم؟.
فالجواب: أن الله تعالى لما أظهر المعجزة الواحدة، فقد تَمَّ الغرض، فيكون طلب الثاني تحكماً، وظهور القرآن معجزةم، فما كان من ذلك حاجة إلى معجزات آخر.
وأيضاً: فلعلَّه تعالى علم أنَّهم يصرُّون على العناد بعد ظهور المعجزة الملتمسة وكونهم يصيرون حينئذٍ يستوجبون عذاب الاستئصال، فلهذا السبب ما أعطاهم ملطوبهنم، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله: ﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣] فبيَّن أنَّه لم يعطهم مطلوبهم، لعلمه أنَّهم لا ينتفعون به.
وأيضاً: ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له، وهو أنَّه كلَّما أتى بمعجزة جاء آخر، وطلب معجزة أخرى، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو باطلٌ.
256
والوجه الثاني: لعلَّ الكفار قالا ذلك قبل مشاهدة سائر المعجزات.
ثم قال: «إنَّما أنْتَ منذرٌ» مخوف.
قوله: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ هذا الكلام مستأنف مستقبل من مبتدأ، وخبر.
والثاني: أنَّ «لكُلِّ قَوْمٍ» متعلقٌ «هَادٍ»، و «هاد» نسق على «مُنْذِرٌ»، أي: إنَّما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم، وفي هذا الوجه الفصل بين حرف العطف، والمعطوف بالجار وفيه خلاف تقدم.
ولما ذكر أبو حيان هذا الوجه، لم يذكر هذا الإشكال، ومن عادته ذكره ردًّا به على الزمخشري.
الثالث: أنَّ «هادٍ» خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: إنَّما أنت منذرٌ، وهو لكلِّ قوم هادٍ، ف «لكُلِّ» متعلقٌ به أيضاً.
ووقف ابن كثير على «هَادٍ» [الرعد: ٣٣] [الزمر: ٢٣، ٣٦] و «واقٍ» حيث وقعا، وعلى «والٍ» ن و «باقٍ» [النحل: ٩٦] [الرعد: ٣٤، ٣٧] في النحل بإثبات الياء، وحذفها الباقون.
ونقل ابن مجاهد عنه: أنه يقف بالياء في جميع الياءات. ونقل عن ورش: أنَّه خير في الوقف بين الياء، وحذفها.
والباب: هو كل منقوصٍ منونٍ غير منصرف، واتفق القراء على التوحيد في «هَادٍ».

فصل


إذا جعلنا «ولكُلِّ قوم هادٍ» كلاماً مستأنفاً، فالمعنى: أنَّ الله تعالى خصَّ كلَّ قوم بنبيٍّ، ومعجزة تلائمهم، فَلمَّا كان الغالب في زمن موسى عليه السلام السحر؛ جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم، ولما كان الغلب في زمن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الطب، جعل معجزته ما كان من تلك الطريقة، وهي إحياء الموتى، وإبراء الأكمة، والأبرص، ولما كان الغالبُ في زمان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الفصاحة، والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقاً بذلك الزمان، وهو فصاحة القرآن، فلمَّا لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع أنَّها أليق بطبائهم، فبأن لا يؤمنون بباقي المعجزات أولى، هذا تقرير القاضي، وبه ينتظم الكلام.
257
وقيل: المعنى أنهم إذا جحدوا كون القرآن معجزة لا تضيق قلبك بسببه، و «إنَّما أنْتَ مُنذِرٌ»، أي ما عليك إلاَّ الإنذار، وأمَّا الهداية فليست عغليك، فإنَّ: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ قادر على هدايتهم.
والمعنى: إنَّ الهداية من الله.

فصل


قيل: المنذر، والهادي شيءٌ واحدٌ، والتقدير: إنَّما أنتَ مُنذِرٌ ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ منذر على حدةٍ، ومعجزة كل واحد غير معجزة الآخر.
وقيل: المنذر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والهادي: هو الله تعالى قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك.
وقال عكرمة: الهادي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: أنت منذر، وأنت هاد لكل قوم، أي: داع.
258
قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة ﴾ وعلم أ، النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يهددهم تارة بعذاب القايمة، وتارة بعذاب الدنيا، والقوم كلَّما هددهم بعذاب القيامة، أنكروا القيامة، والبعث، والنشر كما تقدَّم في الآية الأولى، وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه، وذلك أنَّ مشركي مكَّة كانوا يطلبون العقوبة بدلاً من العافية استهزاء منهم يوقلون :﴿ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ].
قوله " قَبْلَ الحَسَنةِ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ بالاستعجالِ ظرفاً لهُ.
والثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنَّه حال مقدرة من السيئة، قاله أبو البقاء. قوله :" وقَدْ خَلتْ " يجوز أن تكون حالاً وهو الظاهر، ويجوز أن تكون مستأنفة.
والعامة على فتح الميم، وضم المثلثة الواحدة مثله، ك " سَمُرَة " وسَمْرَات " و " صَدُقَة وصَدُقَات " وهي العقوبة الفاضحة.
قال ابن عباس :" العقوبات المتأصلاتُ كمثلات قطع الأذن، والأنف، ونحوهما ".
سُمَّيت بذلك لما بين العقاب، والمعاقب عليه من المماثلة، كقوله تعالى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]، ولأخذها من المثال بمعنى القصاصِ.
يقال : أمثلتُ الرَّجل من صاحبه، وأقصصته بمعنى واحدٍ، أو لأخذها من ضربِ المثل لعظم شأنها.
وقرأ ابن مصرف " المَثْلات " بفتح الميم، وسكون الثاء، وقيل : وهي لغة الحجاز في مثله.
وقرأ ابن وثاب : بضم الميم، وسكون الثاء، وهي لغة تميم.
وقرأ الأعمش، ومجاهد بفتحهما، وعيسى بن عمرو، وأبو بكر في رواية بضمهما.
فأما الضم، والإسكان : فيجوز أن يكون أصلاً بنفسه لغة، وأن يكون مخففاً في من قراءة الضم، والإسكان نحو " العُشْر في العَشَر " وقد عرف ما فيه.
قال ابنُ الأنباري :" المَثُلَة : العقوبة المبينة في المعاقب شيئاً، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة، وهو من قولهم : مثل فلانٌ بفلانٍ : إذا قبح صورته إمَّا بقطع أنفه، أو أذنه، أو سمل عينيه، أو بقر بطنه ؛ فهذا هو الأصل، ثم يقال للعار الباقي والخزي الدائم اللازم مُثْلَه ".
وقال الواحدي :" وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه، ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابهاً للمعاقب عليه، ومماثلاً له سمي بهذا الاسم ".
والمعنى : يستعجلونك بالعذابِ الذي لم نعاجلهم به، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية، أفلا يعتبرون بها.
ثم قال ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ ﴾ وهذا يدلُّ على أنه سبحانه وتعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة، لأن قوله :﴿ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ ﴾، أي : حال اشتغالهم بالظلم كما يقال : رأيت الأمير على أكله، أي حال اشتغاله بالأكل، وهذا يقتضي كونه تعالى غافراً للناس حال اشتغالهم بالظلم، ومعلوم أنَّ حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائباً ؛ فدلَّ هذا على أنه تعالى قد يغفر الذُّنوب قبل الاشتغالِ بالتوبة، وترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر ؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في حق غير الكفرة، وهو المطلوبُ.
ويقال : إنَّهُ تعالى لم يقتصر على قوله :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ ﴾ بل عطف عليه قوله :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب ﴾ ؛ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر، ويحتمل الثاني على الكفَّار.
قال المفسريون :" لَذُو مَغْفرةٍ " لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وعن المذنبيين إذا تابوا.
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : أرجى آية في القرآن هذه الآية :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب ﴾ إذا أصرُّوا على الكفر.
وروى حمّاد بن سلمة عن عليِّ بن زيد عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال : لما نزلت :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لَوْلاَ عَفْوُ اللهِ ورَحْمتهُ وتَجاوُزهُ لمَا هَنأ أحَدا عَيْشٌ ولوْلاَ عِقابهُ ووَعِيدهُ وعَذابَهُ لاتَّكلَ كُلُّ أحدٍ ".
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد : لذو مغفرة لأهل الصَّغائر لأجل أنَّ عقوبتهم مكفرة، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد إنَّ ربك لذو مغفرة إذا تابوا، وأنه تعالى إنَّما لا يعجل العقاب إمهالاً لهم في الإتيان بالتَّوبة، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم، ويكون المراد من هذه المغفرة [ تأخير العقاب ] إلى الآخرة، بل نقول : يجب حمل اللفظ عليه ؛ لأنَّ القوم طلبوا تعجيل العذاب، فجيب أن تحمل المغفرة على تأخير العذاب حتى ينطبق الجواب على السُّؤال.
ثم يقال : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد بقوله :﴿ لَذُو مَغْفِرَةٍ ﴾ إمهالهم بالتَّوبة، ولا يعجل بالعقوبة، فإن تابوا، فهو ذو مغفرة، وإن لم يتوبوا ؛ فهو شديد العقاب ؟.
فالجواب عن الأوَّل : أن تأخير العذاب لا يمسى مغفرة، وإلاَّ لوجب أن يقال : إن الكفار كلهم مغفور لهم ؛ لأنَّ الله تعالى أخَّر عقابهم إلى الآخرة.
وعن الثاني : أنَّ الله تمدَّح بهذا، التَّمدُّح إنما يصحل بالتفضيل، أما أداء الواجب، فلا تمدح فيه، وعندكم يجب غفران الصغائر.
وعن الثالث : أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة ؛ فسقطت الأسئلةُ.
قوله :﴿ على ظُلْمِهِمْ ﴾ حال من " النَّاسِ " والعامل فيها، قال أبو البقاءِ " مَغْفرةٍ " يعني : أنه هو العامل في صاحبها.
قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ الآية
لما بين تعالى أنَّهم طعنوا في النبوة بسبب طعنهم في الحشر والنشر ثم طعنوا في النبوَّة أيضاً بسبب طعنهم في صحَّة ما ينذرهم به من نزول العذابِ، بين أيضاً أنهم طعنوا في نبوَّته، وطلبوا منه المعجزة.
والسَّببُ في كونهم أنكروا كون القرآن معجزة : أنهم قالوا هذا كتابٌ مثلُ سائر الكتب، وإتيان الإنسان بتصنيف معين لا يكون معجزاً، وإنَّما يكون المعجز مثل معجزات موسى.
واعلم أنَّ من الناس من زعم أنَّهُ لم يظهر معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم سوى القرآن، قالوا : لأن هذا الكلام إنَّما يصحُّ إذا طعنوا في كونِ القرآنِ معجزاً ولم يظهر معجزاً غيره ؛ لأنه لو ظهر معجزة مغيره لم يحسن أن يقال :﴿ لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ وهذا يدلُّ على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان له معجزة سوى القرآنِ.
والجواب : عنه من وجهين :
الأول : لعلََّ المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوها من حينين الجزع، ونبع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير الطعام القليل ؛ فطلبوا منه معجزاتن قاهرة غير هذه، مثل : فلقِ البَحْرِ لموسى، وقلب العصا ثُعْبَاناً.
فإن قيل : فما السبب في أنَّ الله منعهم، وما أعطاهم ؟.
فالجواب : أن الله تعالى لما أظهر المعجزة الواحدة، فقد تَمَّ الغرض، فيكون طلب الثاني تحكماً، وظهور القرآن معجزةم، فما كان من ذلك حاجة إلى معجزات آخر.
وأيضاً : فلعلَّه تعالى علم أنَّهم يصرُّون على العناد بعد ظهور المعجزة الملتمسة وكونهم يصيرون حينئذٍ يستوجبون عذاب الاستئصال، فلهذا السبب ما أعطاهم ملطوبهنم، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله :﴿ وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ [ الأنفال : ٢٣ ] فبيَّن أنَّه لم يعطهم مطلوبهم، لعلمه أنَّهم لا ينتفعون به.
وأيضاً : ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له، وهو أنَّه كلَّما أتى بمعجزة جاء آخر، وطلب معجزة أخرى، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو باطلٌ.
والوجه الثاني : لعلَّ الكفار قالا ذلك قبل مشاهدة سائر المعجزات.
ثم قال :" إنَّما أنْتَ منذرٌ " مخوف.
قوله :﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّ هذا الكلام مستأنف مستقبل من مبتدأ، وخبر.
والثاني : أنَّ " لكُلِّ قَوْمٍ " متعلقٌ " هَادٍ "، و " هاد " نسق على " مُنْذِرٌ "، أي : إنَّما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم، وفي هذا الوجه الفصل بين حرف العطف، والمعطوف بالجار وفيه خلاف تقدم.
ولما ذكر أبو حيان هذا الوجه، لم يذكر هذا الإشكال، ومن عادته ذكره ردًّا به على الزمخشري.
الثالث : أنَّ " هادٍ " خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره : إنَّما أنت منذرٌ، وهو لكلِّ قوم هادٍ، ف " لكُلِّ " متعلقٌ به أيضاً.
ووقف ابن كثير على " هَادٍ " [ الرعد : ٣٣ ] [ الزمر : ٢٣، ٣٦ ] و " واقٍ " حيث وقعا، وعلى " والٍ " ، و " باقٍ " [ النحل : ٩٦ ] [ الرعد : ٣٤، ٣٧ ] في النحل بإثبات الياء، وحذفها الباقون.
ونقل ابن مجاهد عنه : أنه يقف بالياء في جميع الياءات. ونقل عن ورش : أنَّه خير في الوقف بين الياء، وحذفها.
والباب : هو كل منقوصٍ منونٍ غير منصرف، واتفق القراء على التوحيد في " هَادٍ ".

فصل


إذا جعلنا " ولكُلِّ قوم هادٍ " كلاماً مستأنفاً، فالمعنى : أنَّ الله تعالى خصَّ كلَّ قوم بنبيٍّ، ومعجزة تلائمهم، فَلمَّا كان الغالب في زمن موسى عليه السلام السحر ؛ جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم، ولما كان الغلب في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام الطب، جعل معجزته ما كان من تلك الطريقة، وهي إحياء الموتى، وإبراء الأكمة، والأبرص، ولما كان الغالبُ في زمان محمد صلى الله عليه وسلم الفصاحة، والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقاً بذلك الزمان، وهو فصاحة القرآن، فلمَّا لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع أنَّها أليق بطبائهم، فبأن لا يؤمنون بباقي المعجزات أولى، هذا تقرير القاضي، وبه ينتظم الكلام.
وقيل : المعنى أنهنم إذا جحدوا كون القرآن معجزة لا تضيق قلبك بسببه، و " إنَّما أنْتَ مُنذِرٌ "، أي ما عليك إلاَّ الإنذار، وأمَّا الهداية فليست عغليك، فإنَّ :﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ قادر على هدايتهم.
والمعنى : إنَّ الهداية من الله.

فصل


قيل : المنذر، والهادي شيءٌ واحدٌ، والتقدير : إنَّما أنتَ مُنذِرٌ ﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ منذر على حدةٍ، ومعجزة كل واحد غير معجزة الآخر.
وقيل : المنذر محمد صلى الله عليه وسلم والهادي : هو الله تعالى قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك.
وقال عكرمة : الهادي محمد صلى الله عليه وسلم يقول : أنت منذر، وأنت هاد لكل قوم، أي : داع.
قوله تعالى: ﴿الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى﴾ الآية في النَّظم وجوهٌ:
أحدها: أنَّ الكفار لما طلبوا آيات أخر غير ما أتى به الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بين أنَّه تعالى عالم بجميع المعلومات، فلو علم من حالهم أنهم إنما طلبوا الآية الآخرى للاسترشاد، وطلب البيان أظهرها، وما منعها، لكنه تعالى عالم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لمحض العناد؛ فلذلك منعهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ﴾ [يونس: ٢٠]، وقوله: ﴿إِنَّمَا الآيات عِندَ الله﴾ [العنكبوت: ٥٠].
وثانيها: أنه تعالى لما قال: ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ [الرعد: ٥] في إنكار البعث بسبب أنَّ أجزاء أبدان الحيوانات تتفرَّق، وتختلط بعضها ببعض، ولا يتميَّز، فبين الله تعالى أنه
258
إنما لم يتميز في حق من لا يكون عالماً بجميع المعلومات فأمّضا من: ﴿يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ كيف لا يميزها؟.
وثالثها: أنَّه متصلٌ بقوله: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة﴾ [الرعد: ٦].
والمعنى: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فهو إنَّما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة فيه.
قوله: ﴿الله يَعْلَمُ﴾ يجوز في الجلالة وجهان:
أحدهما: أنَّها خبر مبتدأ مضمر، أي: هو الله، وهذا على قول من فسَّر «هادٍ» بأنه هو الله [تعالى، فكان هذه الجملة تفسير له، وهذا [ما] عنى الزمخشري بقوله: وأن يكون المعنى: هو الله] تفسيراً ل «هادٍ» على الوجه الأخير، ثم ابتدأ فقال: «يَعْلمُ».
والثاني: أنَّ الجلالة مبتدأ «ويَعْلمُ» خبرها، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ.
قال أبو حيَّان، «و» يَعْلمُ «هاهنا متعدية إلى واحدٍ؛ لأنَّه لا يراد هنا النسبة إنَّما المراد تعلق العلم بالمفردات».
قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: «وإذا كانت كذلك، كانت غير فائتة» وقد تقدَّم أنه لا ينبغي أنه يجوز نسبة هذا إلى الله عزَّ وجلَّ وتقدم تحقيقه في الأنفال فالتفت إليه.
قوله: «مَا تَحْمِلُ» «مَا» تحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون موصولة أسمية، والعائد محذوف، أي: ما تحمله.
والثاني: أن تكون مصدرية، فلا عائد.
والثالث: أن تكون استفهامية، وفي محلها وجهان:
أحدهما: أنها في محلِّ رفع بالابتداء، و «تَحْمِلُ» خبره، والجملة معلقة للعلم.
والثاني: أنها في محلِّ نصب ب «تَحْمِلُ» قاله أبو البقاء.
وهو أولى؛ لأنَّه لا يحتاج إلى حذف عائد لا سيَّما عند البصريين؛ فإنهم لا يجيزون زيداً ضَرَبتُ.
ولم يذكر أبو حيان غير هذا، ولم يتعرض لهذا الاعتراض.
و «مَا» في قوله: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ﴾ محتملة للأوجه المتقدِّمة و «غاض، وزاد» سمع تعدِّيهما، ولزومهما، ولك أن تدَّعي حذف العائد على القول بتعديهما، وأن تجعلهما مصدريّة عل القول بمصدريتها.

فصل


إذا كانت «مَا» موصولة فالمعنى: أنه تعالى يعلم ما تحمل كل أنثى من الولد أهو
259
ذكرٌ، أم أثنى، أم ناقصٌ، وحسنٌ، أم قبيحٌ، وطويلٌ، أم قصيرٌ أو غير ذلك من الأحوال.
وقوله سبحانه: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرحام﴾ الغيضُ: النقصان سواء كان لازماً، أو متعدياً فيقال: غاض الماء وغضته أنا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَغِيضَ المآء﴾ [هود: ٤٤] والمعنى: ما تغضيه الأرحام إلاَّ أنه حذف الرَّافع.
و «مَا تَزْدادُ»، أي تأخذه زيادة، تقول: أخذت منه حقي، وازددت منه كذا، ومنه قوله تعالى: ﴿وازدادوا تِسْعاً﴾ [الكهف: ٢٥].
ثم اختلفوا فيما تفيضه الرحم، وما تزداده على وجوهٍ:
الأول: عدد الولد فإنَّ الرَّحم قد يشتمل على واحدٍ، وعلى اثنين، وثلاثة، وأربعة.
يروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه.
الثاني: عند الولادة قد تكون زائدة، وقد تكون ناقصة.
الثالث: [مدة الولادة] قد تكون تسعة أشهر [فأزيد] إلى سنتين عند أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ وإلى أربع عند الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وإلى خمس عند مالكٍ رضي الله.
قيل: إنَّ الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حيان بقي في بطن أمِّه أربع سنين، ولذلك سميي هرماً.
الرابع: الدم؛ فإنه تارة يقلُّ، وتارة يكثرُ.
الخامس: ما ينقصُ بالسَّقط من غير أن يتم، وما يزداد بالتَّمامِ.
السادس: ما ينقصُ بظهور دم الحيض؛ لأنَّه إذا سال الدَّم في وقت الحمل ضعف الولد، ونقص بمقدار ذلك النقصان، وتزداد أيام الحمل، لتصير هذه الزيادة جابرة لذلك النُّقصان.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «كلَّما سال الحيضُ في وقت الحمل يوماً، زاد في مدَّة الحمل يوماً، ليحصل الجبرُ، ويعتدلُ الأمر».
وهذا يدلُّ على أنَّ الحامل تحيضُ، وهو مذهب مالكٍ، وأحد قولي الشَّافعي لقول ابن عباس في تأويل هذه الآية: إنَّه حيض الحبالى، وهو قول عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وأنها كانت تفتي النِّساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصَّلاة.
260
وقال المخالف: لو كانت الحاملُ تحيض مكان ما تراه المرأة من الدَّم حيضاً، لما صحَّ استراءُ الأمة بحيضة، وهذا بالإجماع.
السابع: أن دم الحيض فضلة تجتمع في [بطن] المرأة، فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات؛ فاضت، وخرجت، وسالت من دواخل تلك العروض، ثم إذا سالت تلك المواد، امتلأت تلك العروض مرَّة أخرى.
هذا كلُّه إذا قلنا: إن «ما: موصولة.
فإذا قلنا: إنَّها مصدرية: فالمعنى أنَّه تعالى يعلمُ حمل كلَّ شيءٍ، ويعلم غيض الأرحام، وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولا أوقاته، وأحوالهن.
ثم قال: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ يحتمل أن يكون المراد بالعنديَّة: العلم ومعناه: أنَّه تعالى يعلم كمية كل شيء، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات، ويحتمل أن يكون المراد من العنديَّة أنه تعالى خصَّص كل حادث بوقت معين، وحال معينة بمشيئة الأزليَّة وإرادته السرمدية.
وعند حكماء الإسلام: أنه تعالى وضع أشياء كلّيّة، وأودع فيها قوى، وخواصَّ، وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزيئة متعينة ومناسبات مخصوصة [مقدرة]، ويدخل في هذه الآية أفعالُ العبادِ، وأحوالهم، وخواطرهم، وهي من أدلِّ الدَّلائلِ على بطلان قول المعتزلةِ.
قوله: «عِنْدَهُ»
يجوز أن يكون مجرور المحل صفة ل «شَيْءٍ»، أو مرفوعة صفة ل «كُلُّ»، أو منصوبة ظرفاً لقوله: «بِمقْدارٍ»، أو ظرفاً للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبراً.
قوله: ﴿عَالِمُ الغيب﴾ يجوز أن يكون مبتدأ، وخبره: «الكَبيرُ المتعَالِ»، وأن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: هو عالمٌ.
وقرأ زيد بن عليى «عَالِمَ» نصمباً على المدحِ.
ووقف ابنُ كثير، وأبو عمرو في رواية على ياءِ «المُتعَالِ» وصلاً ووقفاً، وهذا هو الأشهر في لسانهم، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً لحذفها في الرَّسم.
واستسهل سيبويه حذفها الفواصل، والقوافي، ولأنَّ «ألْ» تعاقب التنوين، فحذفت معها إجراء لها مجراها.
261

فصل


قال ابن عباس رضي اكلله عنه: يريد علم ما غاب عن خلقه وما شاهدوه.
قال الواحديُّ: «فعلى هذا» الغَيْب «مصدر يرادُ به الغائب، والشهادة أراد بها الشَّاهد».
واختلفوا في المراد بالغائب، والشَّاهد؛ فقيل: المراد بالغائب: [المعدوم]، وبالشَّاهد: الموجود. وقيل: الغائب مالا يعرفه الخلق.
واعلم أنَّ المعلومات قسمان: المعدمات، والموجودات.
والمعدومات منهنا معدوماتٌ يمتنع وجودها، ومعدومات لا يمتنع وجودها.
والموجودات قسمان: موجودات يمتنع عدمها، وموجودات لا يمتنع عدمها، وكل واحدٍ من هذه الأقسام الأربعة له أحكام، وخواص، والكل معلوم لله تعالى.
قال إمامُ الحرمين: الله تعالى معلوماتٌ لا نهاية لها وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها؛ لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، وموصوف بأوصاف لا نهاية لها على البدل، وهو تعالى عالمٌ بكلِّ الأحوال على التفصيل وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله: ﴿عَالِمُ الغيب والشهادة﴾.
ثم قال: «الكَبِيرُ المُتعَالِ» وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثَّة والمقدار؛ فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة الإلهيَّة، و «المُتعَالِ» المتنزه عن كلِّ ما لا يجوز عليه في ذاته، وصفاته.
قوله تعالى: ﴿سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾.
في «سَواءٌ» وجهان:
أحدهما: أنه خبرٌ مقدمٌ، و: «مَنْ اسرَّ»، و «مَنْ جَهرَ» هو المبتدأ، وإنما لم يثن الخبر؛ لأنَّه في الأصل مصدر، وهو ههنا بمعنى متسوٍ، و «مِنكُمْ» على هذا حالٌش من الضمير المستتر في «سَواءٌ» ؛ لأنه بمعنى مستوٍ.
قال أبو البقاء: «ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في» أسرَّ «، و» جَهَرَ «لوجهين:
أحدهما: تقديم ما في الصلة على الموصول، أو الصِّفة على الموصوف.
والثاني: تقديم الخبر على»
مِنْكُم «وحقُّه أن يقع بعده».
262
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «وحقُّه أ، يقع بعده يعني: بعدهُ، وبعد المبتدأ، ولا يصير كلامه لا معنى له».
والثاني: أنه مبتدأ وجاز الابتداء به لوصفه بقوله: «مِنْكُم».
وأعرب سيبويه: «سواءٌ» عليه الجهر والسِّر كذلك، وقول بن عطيَّة: إنَّ سيبويه ضعَّف ذلك بأنه ابتداء بنكرة غلط عليه.
قال ابنُ الخطيب: لفظ «سواء» يطلب اثنين، تقول: «سواء زيد، وعمرو»، ثم فيه وجهان:
الأول: أنَّ «سواءٌ» مصدر، والمعنى: ذو سواء، كما تقول: عدل زيد وعمرو، أي: ذو عدلٍ.
الثاني: أن يكون «سواءٌ» بمعنى مستوٍ، وعلى هذا التقدير، فلا حاجة إلى الإضمار، إلا أنَّ سيبويه يستقبحُ أن يقال: مستو زيد وعمرو؛ لأنَّ اسماء الفاعل إذا كانت نكرة لا يبتدأ بها.
ولقائلٍ أن يقول: بل هذا الوجه أول؛ لأنَّ حمل الكلام عليه يغني عن التزامِ الإضمار الذي هو خلاف الأصل.
قوله: ﴿وَسَارِبٌ بالنهار﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون معطوفاً على «مُسْتَخْفٍ»، ويراد ب «مَنْ» حينئذ اثنان، وحمل المبتدأ الذي هو لفظ «هُوَ» على لفظها، فأفرده، والخبر على معناها فثناه.
والوجه الثاني: أن يكون عطفاً على «من هُوَ» في «ومَنْ هُو مُسْتخْفٍ» لا على: مُستَخفٍ «وحده.
ويوضح هذين الوجيهن ما قاله الزمخشريُّ قال:»
فإن قلت: كان حق العبارةِ أن يقال: ومن هو مستخف باللَّيل، ومن هو ساربٌ بالنَّهار حتَّى يتنول معنى الاستواء المستخفي، والسارب، وإلا فقد تناول واحد هو مستخف وسارب.
قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن قوله: «سَارِبٌ» عطف على: «مَنْ هُو مُسْتَخْفٍ» [لا على:: مُسْتَخْفٍ «.
والثاني: أنَّه عطف على:»
مُسْتَخْفٍ «إلا أنَّ:» مَنْ «في معنى الاثنين؛ كقوله: [الطويل]
263
٣١٦٦ -................... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطحِبَانِ
كأنه قيل: سواء منكم اثنان مستخف بالليل، وسارب بالنَّهار «.
قال شهابُ الدِّين: وفي عبارته بقوله: كان حق العبارة كذا سوء أدب، وقوله كقوله:»
نَكُنْ مِثلَ مَنْ يا ذئب «يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضهم مع ذئبٍ يخاطبه: [الطويل]
٣١٦٧ - تَعَشَّ فإنْ عَاهَدْتَنِي لا تَخُونُنِي نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئبُ يَصْطحِبَانِ
وليس في البيت حملٌ على اللفظ والمعنى، وإنَّما فيه حملٌ على المعنى فقط، وهو مقصوده.
وقوله:»
وإلا فقد تناتول واحدٌ هو مستخق وسارب «لو قال بهذا قائل لأصاب الصَّواب وهو مذهب ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ومجاهد ذهبا إلى أن المستخفي والسَّاب شخص واحد يستخفي بالليل، ويسرب بالنَّهار، ليري تصرفه في النَّاس.
الثالث: أن يكون على حذف»
مَنْ «الموصولة، أي: ومن هو سارب، وهذا إنَّما يتمشى عند الكوفيين، فإنهم يجيزون حذف الموصول، وقد استدلالهم على ذلك.
والسَّاربُ: اسم فاعل من»
سَرَبَ، يَسْرُبُ «، أي: تصرف كيف يشاء؛ قال: [الكامل]
٣١٦٨ - أنَّى سَربْتِ وكُنْتِ غَيرَ سَرُوبِ وتُقرَّبُ الأحلامُ غَيْرَ قَريبِ
وقال آخر: [الطويل]
٣١٦٩ - وكُلُّ أنَاسٍ قَاربُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ونَحْنُ خَلعْنَا قَيْدُهُ فهو سَارِبُ
أي: متصرف كيف توجَّه، ولا يدفعه أحدٌ عن مرعى قومه بالمنعة، والقوة.

فصل


معنى الكلام: أي: يستوي في علم الله المسر في القول، والجاهر به. وفي المستخفي، والسَّارب وجهان:
الأول: يقال: أخفيت الشيء أخفيه فخفي، واستخفى فلان من فلان، أي: توارى واستتر منه.
264
والسَّارب: قال الفراء والزجاج: أي: ظاهر بالنهار في سربه، أي: طريقه يقال: خلا له سربه، أي: طريقه، والسَّرب بفتح السِّين، وسكون الراء الطريق.
وقال الأزهري:» تقول العرب: سَربتِ الإبلُ تسرب سَرَباً، أي: مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت «.
فمعنى الآية: سواء كان الإنسان مستخفياً في الظُّلماتِ، وكان ظاهراً في الطرقاتِ فعلم الله تعالى محيطٌ بالكلِّ.
قال ابن عباس:»
سواء ما أضمرته القلوب، أو أظهرته الألسنة «.
وقال مجاهد: سواء من أقدم على القبائح في ظلمات الليل، ومن أتى بها في النهار الظاهر على سبيل التَّوالي.
وقال ابن عباس أيضاً:»
هو صاحب ريبة مستخسف بالليل، وإذا خرج النهار أرى النَّاس أنه بريء من الإثم «.
والقول الثاني: نقل الواحدي عن الأخفش، وقطرب قال: المستخفي: الظاهر والسارب: المتواري، ومنه يقال: خفيت الشيء، أي: أظهرته، وأخفيت الشيء أي: استخرجته، ويسمى النَّبَّاش: المستخفي، والسَّارب: المتواري، أي: الداخل سرباً، وانسرب الوحش: إذا دخل في السِّرب، أي: في كناسه.
قال الواحديُّ:»
وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أنَّ الأول هو المختارُ لإطباق أكثر المفسرين عليه، وأيضاً: فالليل يدلُّ على الاستتار، والنهار على الظهور «.
قوله: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ﴾ الضمير فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه عائد على «مِنْ»
المكررة، أي: لمن أسرّ القول، ولمن جهر به ولمن استخفى: «مُعَقباتٌ»، أي: جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضاً.
الثاني: أنه يعود على «مِنْ» الأخيرة، وهو قول ابن عبَّاسٍ.
قال ابن عطية: والمعقبات على هذا: حرسُ الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه، قالوا: والآية على هذا في الرؤساء الكفار، واختاره الطبريُّ وآخرون إلاَّ أنَّ المارودي ذكر على هذا التأويل: أنَّ الكلام نفي، والتقدير: لا يحفظونه، وهذا ينبغي ألاّ يمسع ألبتة، كيف يبرز كلام موجب، ويراد به نفي، وحذف «لا» إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعاً
265
في جواب قسم، نحو ﴿تَالله تَفْتَأُ﴾ [يوسف: ٨٥] وقد تقدَّم تحريره وإنّضما معنى الكلام كما قال المهدويُّ: يحفظونه من أمر الله في ظنه، وزعمه.
الثالث: أن الضمير في «لهُ» يعود على الله تعالى وفي «يَحْفظُونَهُ» للبعد أي: للهِ ملائكة يحفظون العبد من الآفات، ويحفظون عليه أعماله قاله الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
الرابع: عود الضميرين على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإن لم يجر له ذكر قريب، ولتقدُّم ما يشعر به في قوله: «لوْلاَ أنْزِلَ عليْهِ».
و «مُعقِّباتٌ» جمع معقب بزنة مفعل، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر؛ لأن بعضهم يعقبُ بعضاً، أو لأنَّهم يعقبون ما يتكلَّم به.
وقال الزمخشري: «والأصل: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، كقوله: ﴿وَجَآءَ المعذرون﴾ [التوبة: ٩٠] فلا يتعيَّن أن يكون أصله» المُتعذِّرُون «وقد تقدَّم توجيهه، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه.
وأما قوله: ويجوز»
مُعِّبات «بكسر العين، فهذا لا يجوز؛ لأنه بناه على أن أصله: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، وقد بيَّنا أن ذلك وهم فاحشٌ وفي» مُعَقِّباتٌ «احتمالان:
أحدهما: أن يكون معقبة بمعنى معقب، والتَّاء للمبالغة، كعلاَّمة، ونسَّابة. أي: ملك معقب، ثم جمع هذا كعلامات، ونسَّابات.
والثاني: أن يكون معقبة صفة لجماعة، ثم جمع هذا الوصف، وذكر ابنُ جريرٍ: أن معقبة جمع معقب، وشبه ذلك ب»
رَجُلٍ، ورجالٍ، ورِجَالاتٍ «. قال أبو حيَّان: وليس كما ذكر، إنما ذلك ك» جَمَلٍ، وجِمَالٍ، وجمالاتٍ «ومعقب، ومعقبات إنَّما هو كضارب، وضاربات.
ويمكن أن يجاب عنه: بأنه يمكن أن يريد بذلك أنَّه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث»
معقب «، فصار مثل:» الواردة «للجماعة الذين يريدون، وإن كان أصله للمؤنثة من جهة أنَّ جموع التَّكسير في العقلاء تعامل معاملة المؤنثة في الإخبار، وعود الضَّمير، ومنه قولهم: الرِّجحالُ وأعضادها،
266
والعلماء ذاهبةٌ إلى كذا، وتشبيهنه ذلك برجل، ورجالات من حيث المعنى لا الصناعة».
وقرأ أبي، وإبراهيم، وعبيد الله بن زيادٍ: له معاقيب.
قال الزمخشريُّ: «جمع معقب، أو معقبة، والياء عوضٌ من حذف إحدى القافين في التكسير».
ويوضح هذا ما قاله ابنُ جنِّي؛ فإنه قال: «مَعَاقِيب» تكسير مَعْقِب بسكون العين، وكسر القاف، ك «مُطْعِم، مطاعم» و «مَقْدِم، ومَقَادِيم»، فكأن «مُعْقباً» جمع على معاقبة، ثم جعلت الياء في «معاقيب» عوضاً من الهاء المحذوفة في «مُعَاقبةٍ».

فصل


قال: المعقب من كلِّ شيء ما خلف يعقب ما قبله، ويجوز أن يكون عقبه، إذا جاء على عقب، والمعنى في كلا الوجهين واحد.
والتَّعقيب: العود بعد البدءِ، وإنَّما ذكر بلفظ التَّأنيث؛ لأن واحدها معقب وجمعه معقبة، ثم جمع المعقبة معقبات، كقولك: رجالات مكسر، وقد تقدَّم.
وفي المراد ب «المعقبات» قولان:
أشهرهما: أن المراد الحفظة، وإنَّمام وصفوا بالمعقبات، إما لأجل أن ملائكة اللَّيل تعقب ملائكة النَّهار، وبالعكس، وإما لأجل أنهم يعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ، والكتابة، وكل من عمل عملاً ثم معاد إليه؛ فقد عقَّبهُ.
فعلى هذا المراد من المعقبات: ملائكة الليل، والنَّهار، قال تعالى جلًَّ ذكره ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ﴾ [الانفطار: ١٠، ١١، ١٢، ١٣].
قوله: ﴿مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة ل «مُعقِّباتٌ» ويجوز أن يتعلق ب: مُعقِّباتٌ «، و» مِنْ «لابتداء الغاية، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير الذي هو الظرف الواقع خبراً والكلامم على هذه الأوجه تام عند قوله: ﴿وَمِنْ خَلْفِهِ﴾.
وقد عبَّر ِأبو البقاء، رَحِمَهُ اللَّهُ عن هذه الأوجه بعبارة مشكلة، وهي قوله: ﴿مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ يجحوز أن يكون صفة ل»
مُعقِّباتٌ «، وأن يكون ظرفاً، وأن يكون حالاً من الضمير الذي فيه، فعلى هذا يتمُّ الكلام عنده» انتهى «.
ويجوز أن يتعلق ب»
يَحْفَظُونَه «أي: يحفظونه من بين يديه، ومن خلفه.
فإن قيل: كيف يتعلَّق حرفان متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحدٍ، وهما»
مِنْ «الداخلة على» بَيْنِ «و» مِنْ «الداخلة على:» أمْرِ اللهِ «؟.
267
فالجواب: أنَّ» مِنْ «الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما ستعرفه.
قوله:»
يَحْفَظُونهُ «يجوز أن يكون صفة ل» مُعقِّباتٌ «، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجار الواقع [خبراً]، و» مِنْ أمْرِ اللهِ «متعلق به، و» مِنْ «إمَّا للسَّببِ أي: بسبب أمر الله.
ويدل له على قراءة عليِّ بن أبي طالبٍ، وابن عبَّاسٍ، وزيد بن عليّ، وعكرمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: بأمر الله.
وقيل: المعنى على هذا يحفظون عمله بإذن الله، فحذف المضاف.
قال ابن الأنباري: كلمة «مِنْ»
معناها الباء، وتقديره: يحفظونه بأمر الله وإعانته، والدَّليل عليه: أنه لا بد من المصير إليه؛ لأنَّه لا قدرة للملائكة، ولا لأحد من الخلقِ على أن يحفظوا أحداً من أمر الله، ممَّا قضاه الله عليه؛ وإمَّا أن تكون على بابها.
قال أبُو البقاء: «مِنْ أمْرِ اللهِ» من الجنِّ، والإنس، فتكون «مِنْ» على بابها.
«يعني: أن يراد بأمر الله: نفس ما يحفظ منه كمردة الإنس، والجن، فتكون» مِنْ «لابتداء الغاية».
ويجوز أن تكون بمعنى «عَنْ»، وليس عليه معنى يليق بالآية الكريمة، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة ل: «مُعقِّباتٍ» أيضاً فيجيء الوصف بثلاثة أشياء في بعض الأوجه المتقدمة بكونها ﴿مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ وبكونها «يَحفظه»، وبكونها «مِنْ أمْرِ اللهِ» ولكن يتقدَّم الصوف بالجملة على الوصف بالجار، وهو جائزٌ فصيحٌ، وقد ذكر الفراء فيه وجهين:
الأول: أنه على التَّقديم، والتأخير، والتقدير: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه.
قال شهاب الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «والأصل عدم ذلك مع الاستغناء عنه».
والثاني: أن فيه إضماراً، أي: ذلك الحفظ من أمر الله، أي: ممَّا أمر الله به، فحذف الاسم، وأبقى خبره، كما يكتب على الكيس: ألفان، والمراد الذي فيه ألفان.

فصل


ذكر المفسرون: أن للهِ ملائكة يتعاقبون بالليل، والنهار؛ فإذا صعدت ملائكمة الليل
268
جاء في عقبها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النَّهار، جاء في عقبها ملائكة الليل.
لما روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قال «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ باللِّيلِ ومَلائكِةٌ بالنَّهارِ يَجْتمِعُونَ عِنْدَ صلاةِ الفَجْرِ وصلاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرجُ الَّذينَ باتُواة فيكُم؛ فيَسْألهُم وعو أعملُ بِهِم: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادي؟ فَيقُولُون: تَركْنَاهُم، وهُمْ يُصَلُّونَ، وأتَيْنَاهُمْ، وهُمْ يُصَلُّون».
وقوله: ﴿مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ يعنى من قدام، هذا استخفى باللَّيل والسَّارب بالنَّهار، ومن وراء ظهره يحفظونه من أمر الله يعني بإذنِ الله ما لم يجىء القدر، فإذا جاء القدر خلوا عنه.
وقيل: يحفظونه ممَّا أمر الله به من الحفظ عنه.
قال مجاهدٌ: ما من عبدٍ إلا وله ملك وكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنِّ والإنس، والهوام.
وقيل: المراد بالآية الملكين القاعدين على اليمين، وعلى الشمال يكتبان الحسنات والسيئات «يحفظونه» أي يحفظون عليه، «من أمر الله» يعني الحسنات والسيئات قال الله تعالى:
﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق. ١٨].
وقال عبد الرحمن بن زيد: نزلت هذه الآية في عامر بن الطُّفيل وأربد بن ربيعة، وكانت قصَّتهما على ماروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، قال: «أقبل عامر بن الطُّفيل، وأربد بن ربيعة، وهما عامريان يريدان رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو جالس في المسجد في نفرٍ من أصحابه، فدخلا المسجد، فاسْتشْرَفَ الناسُ لجمالِ عامرٍ، وكان أعورَ، وكان من أجمل النَّاس، فقال رجل: يا رسول الله هذا عامر بن الطُّفيل قد أقبل نحوك فقال: دعه؛ فإن يرد الله به خيراً يهده، مفأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؛ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لك ما للمسلمين، وعليك ما على المسلمين، قال: تجعلي لي الأمر بن بعدك؛ قال: ليس ذلك إليَّ، إنما ذلك إلى الله عَزَّ وَجَلَّ يجعله حيث يشاءُ، فقال: تجعلني على الوبر والمدرِ، قال: لا، قال: فما تجعلي لي؟ قال أجعل لك أعنَّة الخيل تغزُو عليها قال: أوليس ذلك لي اليوم، قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة: إذا رأيتني أكلمه فدُرْ من خلفه، فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويراجعه، فدار أربدُ من خلف النبي ليضربه، فاخترط من سيفه شبراً، ثمذَ حبسه الله عزَّ وجلَّ عنده، فلم يقدر على سلّه،
269
وجعل عامرُ يومىء إليه، فالتفت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال:» اللَّهُمَّ أكْفِنِيهما بِمَا شِئْتَ «فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم مصحوٍ صائفٍ، فأحرقته، وولّى عامر بنُ الطفيل هارباً، وقال: يا محمد! دعوت ربك فقتل أربد، والله لأملأنَّها عليك خيلاً جرداً، وفتياناً مرداً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يَمْنَعُكَ اللهُ مِنْ هذا، وأبْناءُ قيْلة «يريد الأوس، والخزرج؛ فنزل عامرٌ بيت امرأة سلوليّة فلما أصبح، ضم عليه سلاحه، وقد تغير لونه، فخرج يركض في الصحراء ويقول: ابرز يا ملك الموت، ويقول الشِّعر، ويقول: واللات لئن أصبح لي محمداً وصاحبه يعني ملك المت لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل الله تبارك وتعالى ملكاً فلطمه بجناحه، فأذراه في التراب، وخرجت على ركبته في الوقت غدة عظيمة، فعاد إلى بيت السلولية، وهو يقول:» غُدَّةٌ كغُدةِ البَعيرِ، ومَوْتٌ في بَيْتِ سَلُوليَّة «، ثم دعا بفرسه، فركبه، ثمَّ أجراه حتَّى مات على ظهره، فأجاب الله دعاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقُتلَ عامرٌ بالطعن، وأربد بالصَّاعقة»، وأنزل الله في هذه القصَّة: ﴿سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار لَهُ مُعَقِّبَاتٌ﴾ يعنى للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله، يعنىم: تلك المعقبات من أمر الله، وفيه تقديرم وتأخير.
ونقل عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما واختاره أبو مسلم الأصفهاني رَحِمَهُ اللَّهُ أن المراد يستوي في علم الله السرُّ، والجهر، والمستخفي في ظلمة اللَّيل والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين، والأنصار، وهم الملوك، والأمراء فمن لجأ إلى الله فلن يفوِّت الله سبحانه وتعالى أمره، ومن سار نهاراً بالمعقبات، وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه حراسه من الله تعالى والمعقب هو العون؛ لأنه إذا نصر هذا وذاك؛ فلا بد وأن ينصر ذاك هذا؛ فنصر كل واحد منهما معاقبة لنصرة الآخر؛ فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله، وقدره، وهم وإن ظنُّوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله، ومن قضائه؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتَّة.
والمقصود من الكلام: بعث السلاطين، والأمراء، والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره من الله، ويعلولوا على حفظه وعصمته ولا يعولوا في دعفها على الأعوان والأنصار؛ ولذلك قال تعالى جل ذكره بعده: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾.
قال القرطبي: «قيل: إن في الكلام نفياً محذوفاً تقديره: لا يحفظونه من أمر الله تعالى ذكره الماورديُّ.
270
قال المهدوي: ومن ج عل المعقٍِّبات: الحرس، فالمعنى: م يحفظونه من أمر الله على ظنه، وزعمه.
وقيل: سواء من أسر القول، ومن جهر، فله حراس، وأعوان يتعاقبون عليه، فيحملونه على المعاصي، و» يَحْفظُونَهُ «من أن ينجع فيه وعظٌ.
قال القشيريُّ: وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذابل، وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار، فيصير ذلك سبباً للعقوبة، فكأنه الذي يحل العقوبة»
.
وقال عبد الرحمن بن زيد: «المعقِّبات: ما تعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده».
قال الماورديُّ: «ومن قال بهذا القول، ففي تأويل قوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾ وجهان:
أحدهما: يحفظونه من الموت ما لم يأت أجله، قاله الضحاك.
الثاني: يحفظونه من الجنِّ، والهوام المؤذية، ما لم يأت قدرٌ، قاله أبو أمامة، وكعب الأحبار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما فإذا جاء القدر خلوا عنه؟.
قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ﴾ : من العافية والنعمة ﴿حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ من [الحالة الجميلة] فيعصون ربَّهم.
قال الجبائي، والقاضي: هذه الآية تدلُّ على مسألتين:
الأولى: أنَّه سبحانه لا يعاقبُ أطفال المشركين بذنوب آبائهم؛ لأنَّهم لم يغيِّروا ما بأنفسهم من نعمه، فيغير الهلن حالهم من النِّعمة إلى العذاب.
الثانية: قالوا: الآية تدلُّ على بطلان قول المجبرة: إنَّه تعالى ابتدأ العبد بالضَّلال، والخذلان أوَّل ما يبلغ؛ لأنَّ ذلك أبلغ في العقاب، مع أنَّه ما كان منه تغيير.
قال ابن الخطيب: «والجواب أن ظاهر الآية يدل على أن فعل الله تعالى في التغيير يترتب على فعل العبد، وقوله ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [التكوير: ٢٩] يدلُّ على أن فعله مقدم على فعل العبد، فوقع التَّعارض.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ﴾ يدلُّ على أنَّ العبد غير مستقل
271
بالفعل، فلو كان العبد مستقلاً بتحصيل الإيمان، ولكان قادراً على ردّ ما أراد الله تعالى من كفر، وحينئذٍ بطل قوله: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ﴾ ؛ فثبت أنَّ الآية السابقة، وإن أشعرب بمذهبهم إلا أن هذا من أقوى الدلائل على مذهبنا.
روى الضحاك عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لم تغن المعقبات شيئاً وقال عطاء عنه: لا رادّ لعذابي، ولاناقض لحكمي: ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾، أي: ليس لهم من دون الله من يتولاهم، ويمنع قضاء الله عنهم، أي: مال هم والٍ يتولَّى أمرهم، ويمنع العذاب عهم.
قوله: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ﴾ » العامل في «إذَا» محذوف لدلالة جوابها عليه تقديره: لم يرد أو وقع، أو نحوهما، ولا يعمل فيها جوابها؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعملُ فيما قبلها.
272
قوله :﴿ عَالِمُ الغيب ﴾ يجوز أن يكون مبتدأ، وخبره :" الكَبيرُ المتعَالِ "، وأن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي : هو عالمٌ.
وقرأ زيد بن عليى " عَالِمَ " نصباً على المدحِ.
ووقف ابنُ كثير، وأبو عمرو في رواية على ياءِ " المُتعَالِ " وصلاً ووقفاً، وهذا هو الأشهر في لسانهم، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً لحذفها في الرَّسم.
واستسهل سيبويه حذفها الفواصل، والقوافي، ولأنَّ " ألْ " تعاقب التنوين، فحذفت معها إجراء لها مجراها.

فصل


قال ابن عباس رضي اكلله عنه : يريد علم ما غاب عن خلقه وما شاهدوه.
قال الواحديُّ :" فعلى هذا " الغَيْب " مصدر يرادُ به الغائب، والشهادة أراد بها الشَّاهد ".
واختلفوا في المراد بالغائب، والشَّاهد ؛ فقيل : المراد بالغائب :[ المعدوم ]، وبالشَّاهد : الموجود. وقيل : الغائب مالا يعرفه الخلق.
واعلم أنَّ المعلومات قسمان : المعدمات، والموجودات.
والمعدومات منهنا معدوماتٌ يمتنع وجودها، ومعدومات لا يمتنع وجودها.
والموجودات قسمان : موجودات يمتنع عدمها، وموجودات لا يمتنع عدمها، وكل واحدٍ من هذه الأقسام الأربعة له أحكام، وخواص، والكل معلوم لله تعالى.
قال إمامُ الحرمين : الله تعالى معلوماتٌ لا نهاية لها وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها ؛ لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، وموصوف بأوصاف لا نهاية لها على البدل، وهو تعالى عالمٌ بكلِّ الأحوال على التفصيل وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله :﴿ عَالِمُ الغيب والشهادة ﴾.
ثم قال :" الكَبِيرُ المُتعَالِ " وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثَّة والمقدار ؛ فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة الإلهيَّة، و " المُتعَالِ " المتنزه عن كلِّ ما لا يجوز عليه في ذاته، وصفاته.
قوله تعالى :﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ﴾.
في " سَواءٌ " وجهان :
أحدهما : أنه خبرٌ مقدمٌ، و :" مَنْ اسرَّ "، و " مَنْ جَهرَ " هو المبتدأ، وإنما لم يثن الخبر ؛ لأنَّه في الأصل مصدر، وهو ههنا بمعنى متسوٍ، و " مِنكُمْ " على هذا حالٌ من الضمير المستتر في " سَواءٌ " ؛ لأنه بمعنى مستوٍ.
قال أبو البقاء :" ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في " أسرَّ "، و " جَهَرَ " لوجهين :
أحدهما : تقديم ما في الصلة على الموصول، أو الصِّفة على الموصوف.
والثاني : تقديم الخبر على " مِنْكُم " وحقُّه أن يقع بعده ".
قال شهابُ الدِّين رحمه الله :" وحقُّه أ، يقع بعده يعني : بعدهُ، وبعد المبتدأ، ولا يصير كلامه لا معنى له ".
والثاني : أنه مبتدأ وجاز الابتداء به لوصفه بقوله :" مِنْكُم ".
وأعرب سيبويه :" سواءٌ " عليه الجهر والسِّر كذلك، وقول بن عطيَّة : إنَّ سيبويه ضعَّف ذلك بأنه ابتداء بنكرة غلط عليه.
قال ابنُ الخطيب : لفظ " سواء " يطلب اثنين، تقول :" سواء زيد، وعمرو "، ثم فيه وجهان :
الأول : أنَّ " سواءٌ " مصدر، والمعنى : ذو سواء، كما تقول : عدل زيد وعمرو، أي : ذو عدلٍ.
الثاني : أن يكون " سواءٌ " بمعنى مستوٍ، وعلى هذا التقدير، فلا حاجة إلى الإضمار، إلا أنَّ سيبويه يستقبحُ أن يقال : مستو زيد وعمرو ؛ لأنَّ اسماء الفاعل إذا كانت نكرة لا يبتدأ بها.
ولقائلٍ أن يقول : بل هذا الوجه أول ؛ لأنَّ حمل الكلام عليه يغني عن التزامِ الإضمار الذي هو خلاف الأصل.
قوله :﴿ وَسَارِبٌ بالنهار ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون معطوفاً على " مُسْتَخْفٍ "، ويراد ب " مَنْ " حينئذ اثنان، وحمل المبتدأ الذي هو لفظ " هُوَ " على لفظها، فأفرده، والخبر على معناها فثناه.
والوجه الثاني : أن يكون عطفاً على " من هُوَ " في " ومَنْ هُو مُسْتخْفٍ " لا على : مُستَخفٍ " وحده.
ويوضح هذين الوجيهن ما قاله الزمخشريُّ قال :" فإن قلت : كان حق العبارةِ أن يقال : ومن هو مستخف باللَّيل، ومن هو ساربٌ بالنَّهار حتَّى يتنول معنى الاستواء المستخفي، والسارب، وإلا فقد تناول واحد هو مستخف وسارب.
قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن قوله :" سَارِبٌ " عطف على :" مَنْ هُو مُسْتَخْفٍ " [ لا على :: مُسْتَخْفٍ ".
والثاني : أنَّه عطف على :" مُسْتَخْفٍ " إلا أنَّ :" مَنْ " في معنى الاثنين ؛ كقوله :[ الطويل ]
٣١٦٦. . . . . . . . . . . . . . . . نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطحِبَانِ
كأنه قيل : سواء منكم اثنان مستخف بالليل، وسارب بالنَّهار ".
قال شهابُ الدِّين : وفي عبارته بقوله : كان حق العبارة كذا سوء أدب، وقوله كقوله :" نَكُنْ مِثلَ مَنْ يا ذئب " يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضهم مع ذئبٍ يخاطبه :[ الطويل ]
٣١٦٧ تَعَشَّ فإنْ عَاهَدْتَنِي لا تَخُونُنِي نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئبُ يَصْطحِبَانِ
وليس في البيت حملٌ على اللفظ والمعنى، وإنَّما فيه حملٌ على المعنى فقط، وهو مقصوده.
وقوله :" وإلا فقد تناتول واحدٌ هو مستخق وسارب " لو قال بهذا قائل لأصاب الصَّواب وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد ذهبا إلى أن المستخفي والسَّارب شخص واحد يستخفي بالليل، ويسرب بالنَّهار، ليري تصرفه في النَّاس.
الثالث : أن يكون على حذف " مَنْ " الموصولة، أي : ومن هو سارب، وهذا إنَّما يتمشى عند الكوفيين، فإنهم يجيزون حذف الموصول، وقد استدلالهم على ذلك.
والسَّاربُ : اسم فاعل من " سَرَبَ، يَسْرُبُ "، أي : تصرف كيف يشاء ؛ قال :[ الكامل ]
٣١٦٨ أنَّى سَربْتِ وكُنْتِ غَيرَ سَرُوبِ وتُقرَّبُ الأحلامُ غَيْرَ قَريبِ
وقال آخر :[ الطويل ]
٣١٦٩ وكُلُّ أنَاسٍ قَاربُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ونَحْنُ خَلعْنَا قَيْدُهُ فهو سَارِبُ
أي : متصرف كيف توجَّه، ولا يدفعه أحدٌ عن مرعى قومه بالمنعة، والقوة.

فصل


معنى الكلام : أي : يستوي في علم الله المسر في القول، والجاهر به. وفي المستخفي، والسَّارب وجهان :
الأول : يقال : أخفيت الشيء أخفيه فخفي، واستخفى فلان من فلان، أي : توارى واستتر منه.
والسَّارب : قال الفراء والزجاج : أي : ظاهر بالنهار في سربه، أي : طريقه يقال : خلا له سربه، أي : طريقه، والسَّرب بفتح السِّين، وسكون الراء الطريق.
وقال الأزهري :" تقول العرب : سَربتِ الإبلُ تسرب سَرَباً، أي : مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت ".
فمعنى الآية : سواء كان الإنسان مستخفياً في الظُّلماتِ، وكان ظاهراً في الطرقاتِ فعلم الله تعالى محيطٌ بالكلِّ.
قال ابن عباس :" سواء ما أضمرته القلوب، أو أظهرته الألسنة ".
وقال مجاهد : سواء من أقدم على القبائح في ظلمات الليل، ومن أتى بها في النهار الظاهر على سبيل التَّوالي.
وقال ابن عباس أيضاً :" هو صاحب ريبة مستخسف بالليل، وإذا خرج النهار أرى النَّاس أنه بريء من الإثم ".
والقول الثاني : نقل الواحدي عن الأخفش، وقطرب قال : المستخفي : الظاهر والسارب : المتواري، ومنه يقال : خفيت الشيء، أي : أظهرته، وأخفيت الشيء أي : استخرجته، ويسمى النَّبَّاش : المستخفي، والسَّارب : المتواري، أي : الداخل سرباً، وانسرب الوحش : إذا دخل في السِّرب، أي : في كناسه.
قال الواحديُّ :" وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أنَّ الأول هو المختارُ لإطباق أكثر المفسرين عليه، وأيضاً : فالليل يدلُّ على الاستتار، والنهار على الظهور ".
قوله :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ﴾ الضمير فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه عائد على " مِنْ " المكررة، أي : لمن أسرّ القول، ولمن جهر به ولمن استخفى :" مُعَقباتٌ "، أي : جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضاً.
الثاني : أنه يعود على " مِنْ " الأخيرة، وهو قول ابن عبَّاسٍ.
قال ابن عطية : والمعقبات على هذا : حرسُ الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه، قالوا : والآية على هذا في الرؤساء الكفار، واختاره الطبريُّ وآخرون إلاَّ أنَّ المارودي ذكر على هذا التأويل : أنَّ الكلام نفي، والتقدير : لا يحفظونه، وهذا ينبغي ألاّ يسمع ألبتة، كيف يبرز كلام موجب، ويراد به نفي، وحذف " لا " إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعاً في جواب قسم، نحو ﴿ تَالله تَفْتَأُ ﴾ [ يوسف : ٨٥ ] وقد تقدَّم تحريره وإنّضما معنى الكلام كما قال المهدويُّ : يحفظونه من أمر الله في ظنه، وزعمه.
الثالث : أن الضمير في " لهُ " يعود على الله تعالى وفي " يَحْفظُونَهُ " للبعد أي : للهِ ملائكة يحفظون العبد من الآفات، ويحفظون عليه أعماله قاله الحسن رضي الله عنه.
الرابع : عود الضميرين على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قريب، ولتقدُّم ما يشعر به في قوله :" لوْلاَ أنْزِلَ عليْهِ ".
و " مُعقِّباتٌ " جمع معقب بزنة مفعل، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر ؛ لأن بعضهم يعقبُ بعضاً، أو لأنَّهم يعقبون ما يتكلَّم به.
وقال الزمخشري :" والأصل : معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، كقوله :﴿ وَجَآءَ المعذرون ﴾ [ التوبة : ٩٠ ] فلا يتعيَّن أن يكون أصله " المُتعذِّرُون " وقد تقدَّم توجيهه، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه.
وأما قوله : ويجوز " مُعِّبات " بكسر العين، فهذا لا يجوز ؛ لأنه بناه على أن أصله : معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، وقد بيَّنا أن ذلك وهم فاحشٌ وفي " مُعَقِّباتٌ " احتمالان :
أحدهما : أن يكون معقبة بمعنى معقب، والتَّاء للمبالغة، كعلاَّمة، ونسَّابة. أي : ملك معقب، ثم جمع هذا كعلامات، ونسَّابات.
والثاني : أن يكون معقبة صفة لجماعة، ثم جمع هذا الوصف، وذكر ابنُ جريرٍ : أن معقبة جمع معقب، وشبه ذلك ب " رَجُلٍ، ورجالٍ، ورِجَالاتٍ ". قال أبو حيَّان : وليس كما ذكر، إنما ذلك ك " جَمَلٍ، وجِمَالٍ، وجمالاتٍ " ومعقب، ومعقبات إنَّما هو كضارب، وضاربات.
ويمكن أن يجاب عنه : بأنه يمكن أن يريد بذلك أنَّه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث " معقب "، فصار مثل :" الواردة " للجماعة الذين يريدون، وإن كان أصله للمؤنثة من جهة أنَّ جموع التَّكسير في العقلاء تعامل معاملة المؤنثة في الإخبار، وعود الضَّمير، ومنه قولهم : الرِّجحالُ وأعضادها، والعلماء ذاهبةٌ إلى كذا، وتشبيهنه ذلك برجل، ورجالات من حيث المعنى لا الصناعة ".
وقرأ أبي، وإبراهيم، وعبيد الله بن زيادٍ : له معاقيب.
قال الزمخشريُّ :" جمع معقب، أو معقبة، والياء عوضٌ من حذف إحدى القافين في التكسير ".
ويوضح هذا ما قاله ابنُ جنِّي ؛ فإنه قال :" مَعَاقِيب " تكسير مَعْقِب بسكون العين، وكسر القاف، ك " مُطْعِم، مطاعم " و " مَقْدِم، ومَقَادِيم "، فكأن " مُعْقباً " جمع على معاقبة، ثم جعلت الياء في " معاقيب " عوضاً من الهاء المحذوفة في " مُعَاقبةٍ ".

فصل


قال : المعقب من كلِّ شيء ما خلف يعقب ما قبله، ويجوز أن يكون عقبه، إذا جاء على عقب، والمعنى في كلا الوجهين واحد.
والتَّعقيب : العود بعد البدءِ، وإنَّما ذكر بلفظ التَّأنيث ؛ لأن واحدها معقب وجمعه معقبة، ثم جمع المعقبة معقبات، كقولك : رجالات مكسر، وقد تقدَّم.
وفي المراد ب " المعقبات " قولان :
أشهرهما : أن المراد الحفظة، وإنَّمام وصفوا بالمعقبات، إما لأجل أن ملائكة اللَّيل تعقب ملائكة النَّهار، وبالعكس، وإما لأجل أنهم يعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ، والكتابة، وكل من عمل عملاً ثم معاد إليه ؛ فقد عقَّبهُ.
فعلى هذا المراد من المعقبات : ملائكة الليل، والنَّهار، قال تعالى جلًَّ ذكره ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [ الانفطار : ١٠، ١١، ١٢، ١٣ ].
قوله :﴿ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ ﴾ يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة ل " مُعقِّباتٌ " ويجوز أن يتعلق ب : مُعقِّباتٌ "، و " مِنْ " لابتداء الغاية، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير الذي هو الظرف الواقع خبراً والكلامم على هذه الأوجه تام عند قوله :﴿ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾.
وقد عبَّر ِأبو البقاء، رحمه الله عن هذه الأوجه بعبارة مشكلة، وهي قوله :﴿ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ ﴾ يجوز أن يكون صفة ل " مُعقِّباتٌ "، وأن يكون ظرفاً، وأن يكون حالاً من الضمير الذي فيه، فعلى هذا يتمُّ الكلام عنده " انتهى ".
ويجوز أن يتعلق ب " يَحْفَظُونَه " أي : يحفظونه من بين يديه، ومن خلفه.
فإن قيل : كيف يتعلَّق حرفان متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحدٍ، وهما " مِنْ " الداخلة على " بَيْنِ " و " مِنْ " الداخلة على :" أمْرِ اللهِ " ؟.
فالجواب : أنَّ " مِنْ " الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما ستعرفه.
قوله :" يَحْفَظُونهُ " يجوز أن يكون صفة ل " مُعقِّباتٌ "، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجار الواقع [ خبراً ]، و " مِنْ أمْرِ اللهِ " متعلق به، و " مِنْ " إمَّا للسَّببِ أي : بسبب أمر الله.
ويدل له على قراءة عليِّ بن أبي طالبٍ، وابن عبَّاسٍ، وزيد بن عليّ، وعكرمة رضي الله عنهم : بأمر الله.
وقيل : المعنى على هذا يحفظون عمله بإذن الله، فحذف المضاف.
قال ابن الأنباري : كلمة " مِنْ " معناها الباء، وتقديره : يحفظونه بأمر الله وإعانته، والدَّليل عليه : أنه لا بد من المصير إليه ؛ لأنَّه لا قدرة للملائكة، ولا لأحد من الخلقِ على أن يحفظوا أحداً من أمر الله، ممَّا قضاه الله عليه ؛ وإمَّا أن تكون على بابها.
قال أبُو البقاء :" مِنْ أمْرِ اللهِ " من الجنِّ، والإنس، فتكون " مِنْ " على بابها.
" يعني : أن يراد بأمر الله : نفس ما يحفظ منه كمردة الإنس، والجن، فتكون " مِنْ " لابتداء الغاية ".
ويجوز أن تكون بمعنى " عَنْ "، وليس عليه معنى يليق بالآية الكريمة، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة ل :" مُعقِّباتٍ " أيضاً فيجيء الوصف بثلاثة أشياء في بعض الأوجه المتقدمة بكونها ﴿ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ وبكونها " يَحفظه "، وبكونها " مِنْ أمْرِ اللهِ " ولكن يتقدَّم الصوف بالجملة على الوصف بالجار، وهو جائزٌ فصيحٌ، وقد ذكر الفراء فيه وجهين :
الأول : أنه على التَّقديم، والتأخير، والتقدير : له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه.
قال شهاب الدِّين رحمه الله :" والأصل عدم ذلك مع الاستغناء عنه ".
والثاني : أن فيه إضماراً، أي : ذلك الحفظ من أمر الله، أي : ممَّا أمر الله به، فحذف الاسم، وأبقى خبره، كما يكتب على الكيس : ألفان، والمراد الذي فيه ألفان.

فصل


ذكر المفسرون : أن للهِ ملائكة يتعاقبون بالليل، والنهار ؛ فإذا صعدت ملائكمة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النَّهار، جاء في عقبها ملائكة الليل.
لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ باللِّيلِ ومَلائكِةٌ بالنَّهارِ يَجْتمِعُونَ عِنْدَ صلاةِ الفَجْرِ وصلاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرجُ الَّذينَ باتُواة فيكُم ؛ فيَسْألهُم وعو أعملُ بِهِم : كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادي ؟ فَيقُولُون : تَركْنَاهُم، وهُمْ يُصَلُّونَ، وأتَيْنَاهُمْ، وهُمْ يُصَلُّون ".
وقوله :﴿ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ يعنى من قدام، هذا استخفى باللَّيل والسَّارب بالنَّهار، ومن وراء ظهره يحفظونه من أمر الله يعني بإذنِ الله ما لم يجىء القدر، فإذا جاء القدر خلوا عنه.
وقيل : يحفظونه ممَّا أمر الله به من الحفظ عنه.
قال مجاهدٌ : ما من عبدٍ إلا وله ملك وكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنِّ والإنس، والهوام.
وقيل : المراد بالآية الملكين القاعدين على اليمين، وعلى الشمال يكتبان الحسنات والسيئات " يحفظونه " أي يحفظون عليه، " من أمر الله " يعني الحسنات والسيئات قال الله تعالى :﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ ق. ١٨ ].
وقال عبدالرحمن بن زيد : نزلت هذه الآية في عامر بن الطُّفيل وأربد بن ربيعة، وكانت قصَّتهما على ماروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال :" أقبل عامر بن الطُّفيل، وأربد بن ربيعة، وهما عامريان يريدان رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد في نفرٍ من أصحابه، فدخلا المسجد، فاسْتشْرَفَ الناسُ لجمالِ عامرٍ، وكان أعورَ، وكان من أجمل النَّاس، فقال رجل : يا رسول الله هذا عامر بن الطُّفيل قد أقبل نحوك فقال : دعه ؛ فإن يرد الله به خيراً يهده، مفأقبل حتى قام عليه، فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : لك ما للمسلمين، وعليك ما على المسلمين، قال : تجعلي لي الأمر بن بعدك ؛ قال : ليس ذلك إليَّ، إنما ذلك إلى الله عز وجل يجعله حيث يشاءُ، فقال : تجعلني على الوبر والمدرِ، قال : لا، قال : فما تجعل لي ؟ قال أجعل لك أعنَّة الخيل تغزُو عليها قال : أوليس ذلك لي اليوم، قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة : إذا رأيتني أكلمه فدُرْ من خلفه، فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه، فدار أربدُ من خلف النبي ليضربه، فاخترط من سيفه شبراً، ثمَ حبسه الله عزَّ وجلَّ عنده، فلم يقدر على سلّه، وجعل عامرُ يومىء إليه، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال :" اللَّهُمَّ أكْفِنِيهما بِمَا شِئْتَ " فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم مصحوٍ صائفٍ، فأحرقته، وولّى عامر بنُ الطفيل هارباً، وقال : يا محمد ! دعوت ربك فقتل أربد، والله لأملأنَّها عليك خيلاً جرداً، وفتياناً مرداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" يَمْنَعُكَ اللهُ مِنْ هذا، وأبْناءُ قيْلة " يريد الأوس، والخزرج ؛ فنزل عامرٌ بيت امرأة سلوليّة فلما أصبح، ضم عليه سلاحه، وقد تغير لونه، فخرج يركض في الصحراء ويقول : ابرز يا ملك الموت، ويقول الشِّعر، ويقول : واللات لئن أصبح لي محمداً وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي ؛ فأرسل الله تبارك وتعالى ملكاً فلطمه بجناحه، فأذراه في التراب، وخرجت على ركبته في الوقت غدة عظيمة، فعاد إلى بيت السلولية، وهو يقول :" غُدَّةٌ كغُدةِ البَعيرِ، ومَوْتٌ في بَيْتِ سَلُوليَّة "، ثم دعا بفرسه، فركبه، ثمَّ أجراه حتَّى مات على ظهره، فأجاب الله دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُتلَ عام
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق﴾ الآية لما خوَّف العباد بإنزال ما لا مرد له، أتبعه بذكر هذه الآية المشتملة على قدرة الله تعالى وحكمته، وهي تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه، وتشبه العذاب، والقهر من بعض الوجوه.
قوله: «خوفاً وطمعاً» يجوز أن يكونا مصدرين ناصبهما محذوف، أي: يخافون خوفاً، ويطمعون طمعاً، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع نصب على الحالِ، وفي صاحب الحال حينئذ وجهان:
أحدهما: أنه مفعول: «يُرِيكُمْ» الأول، أي: خائفين طامعين، أي: تخافون صواعقه وتطمعون في مطره، كما قال المتنبي: [الطويل]
٣١٧٠ - فَتًى كالسَّحابِ الجُونِ يُخْشَى ويُرْتَجَى يُرجَّى الحَيَا مِنهَا وتُخْشَى الصَّوعِقُ
والثاني: أنَّه البرق، أي: يريكموه حالَ كيف ذا خوفٍ وطمعٍ، إذ هو ف ينفسه خوف وطمع على المبالغة، ولمعنى كما تقدَّم.
ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله، ذكره أبو البقاء، ومنعه الزمخشريُّ لعدم اتِّحادِ
272
الفاعل، يعني أنَّ «الإرادة» وهو الله تعالى غير فاعل الخوف، والطمع، وهو ضمير المخاطبين، فاخلتف فاعل الفعل المعلل، وفاعل العلة وهذا يمكن أن يجاب عنه: بأنَّ المفعول في قوَّة الفاعل، فإن معنى «يُرِيكُم» يجعلكم رائين، فتخافون، وتطمعون.
ومثله ف يالمعنى قوله النابغة الذبياني: [الطويل]
٣١٧١ - وحَلَّتْ بُيوتِي في يَشفاعٍ مُمنَّعٍ تَخالُ بهِ رَاعِي الحَمُولةِ طَائِرَا
حِذَاراً على الاَّتَنالَ مَقادَتِي ولا نِسْوتِي حتَّى يَمُتْنَ حَرائِرَا
ف «حذارا» مفعول من أجله، فاعله هو المتكلم، والفعل المعلل الذي هو: «حَلَّت» فالعه «بُيُوتِي» فقد اختلف الفاعل، قالوا: لكن لما كان التقدير: وأحللت بيوتي حذاراً صحَّ ذلك. وقد جوَّز الزمخشريُّ ذلك أيضاً على حذف مضاف فقال: «إلاَّ على تقدير حذف مضاف، أي: إرادة خوفٍ، وطمع، وجوَّزه، أيضاً على أن بعض المصادر ناب عن بعض. يعني أن الأصل: يريكم البرق إخافة، وإطماعاً».
فإنَّ المرئي، المخيف، والمطمع هو الله تعالى فناب خوف عن أخافة، وطمع عن إطماع، نحو: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧] على أنه قد ذهب ابن خروف، وجماعة على أنَّ اتحاد الفعل ليس بشرط.

فصل


في كون البرق خوفاً وطمعاً وجوه:
قيل: يخاف منه نزول الصَّواعق، وطمع في نزول الغيثِ. وقيل: يخافُ المطر من يتضرر به كالمسافر، ومن في جرابه التمر والزبيب، والحب، ويطمع فيه من له فيه نفعٌ.
وقيل: يخاف منه في غير مكانه، وأمانه، يطمع فيه إذا كان في مكانه وأمانه، ومن البلدان إذا مطروا، قحطوا، وإذا لم يمطروا خصبوا.
قال ابن الخطيب: «البرقُ جسمٌ مركبٌ من أجزاء رطبة مائية، ومن أجزاء هوائية ولا شك أنَّ الغالب عليه الأجزاء المائية، والماء جسمٌ باردٌ رطبٌ، والنَّار جسم حار يابس فظُورُ الضدِّ من الضد التام على خلافِ العقل، فلا بد من صانع مختاار يظهر الضدّ من الضدّ».
ثم قال: «ويُنْشِىءُ السَّحاب الثِّقَال» بالمطر، ويقال: أنشأ الله السحابة، فنشأت، أي: أبدأها فبدأت.
قال الزمخشري: «السَّحابُ: اسم جنس الواحدة سحابة، والثقال: جمع ثقيلة؛
273
لأنَّك تقول: سحابةٌ ثقيلةٌ وسحابٌ ثِقَال، كما تقول: امرأةٌ كريمة، ونساءٌ كِرام».
وقال البغوي: «السَّحاب جمع، واحدتها: سحابة، ويقال في الجمع: سُحُبٌ وسَحَائِبُ أيضاً، قال عليٌّ: السحاب غربال الماءِ».

فصل


قال ابن الخطيب: «وهذا من دلائل القدرة والحكمة، وذلك لأنَّ هذه الأجزاء المائية إمَّا أن يقال: حدثيت في جو جو الهواءِ أو تصاعدت من وجه الأرض، فإن كان الأوَّل وجب أن يكون [حدوثها] بأحداث محدث حكيم قادر، وهو المطلوب، وإن كان الثاني هو أن يقال: تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض، فلمَّا وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت، فثقلت، فرجعت إلى الأرض.
فنقول: هذا باطلٌ؛ لأن الأمطار مختلفة، فتارة تكمون القطرات كبيرة، وتارة تكون صغيرة، وتارة تكون متقاربة، وأخرى تكون متباعدة، وتارة تطول مدة نزول المطر، وتارة تقصر واختلاف الأمطار في هذه الصفِّات مع أنَّ طبيعة الأرض واحدة، وطبيعة الشمس واحدة فلا بد وأن يكون تخصيص الفاعل المختار، وأيضاً فالتَّجربة دلَّت على أنَّ للدعاءن والتَّضرع في نزول الغيث أثراً عظيماً كما في الاستسقاء ومشروعيته، فعلمنا أنَّ المثؤر فيه [قدرة] الفاعل لا الطبيعة، والخاصية»
.
قوله: ﴿وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ﴾ قال أكثر المفسرين: الرَّعدُ اسم ملكٍ يسوقُ السَّحاب، والصوت المسموع تسبيحه.
قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «مَنْ سَمِعَ صوتَ الرَّعدِ فقال: سُبْحانَ الَّذي يُسبِّحُ الرَّعْدُ بحَمْدهِ والمَلائِكةُ مِنْ خِيفتهِ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قدير، فإنْ أصَابهُ صَاعِقةٌ فَعَلى دِينه».
وعن ابن عبَّاس: أنَّ اليهود سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الرَّعدِ ما هو؟. فقال صلى لله عليه وسلم «ملكٌ من الملائكةِ وُكِلَ بالسَّحابِ معهُ مخَارِيق من نَارِ يسُوقُ بِهَا السَّحابَ حيثُ شَاء اللهُ، قالوا: فَمَا الصَّوتُ الذي نَسْمَع؟ قال: زَجْرةُ السَّحابِ».
وعن الحسن: أنَّه خلق من خلق اكلله ليس بملكٍ.
274
قال ابن الخطيب: «فعلى هذا القولِ: الرَّعدُ هو الملكُ الموكل بالساحب، وذلك الصَّوت يسمّى بالرَّعدِ، ويؤكد هذا ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه سلم أنه قال:» إنَّ اللهَ يُنشِىءُ السَّحاب، فتَنْطِقُ أحسنَ النُّطقِ وتَضحَكُ أحسن الضِّحكِ فنُطقه الرَّعدُ وضِحْكهُ برق «.
وهذا القول غير مستبعد؛ لأن عند أهل السنة البينة ليست شرطاً لحصولِ الحياة، فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة، والعلم، والقدرة، والنُّطق في أجزاء السَّحاب، فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له، وكيف يستبعد ذلك، ونحن نرى أنَّ السمندل يتولد في النَّار، والضفادع تتولّد في الماءِ، والدُّوجة العظيمة ربما تولدت في الثلوج القديمة، وأيضاً: فإذا لم يبعد تسبيحُ الحِبالِ في زمن داود صلوات الله وسلامه عليه ولا تسبيح الحصى في زمن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكيف يبعدُ تسبيحُ السَّحاب؟.
وعلى هذا القول ففي هذا المسموع قولان:
أحدهما: أنه ليس بملك؛ لأنَّه عطف عليه الملائكة فقال: ﴿والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ﴾ المعطوف عليه مغايرٌ للمعطوف.
والثاني: لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة، وإنَّما أفرده بالذِّكر تشريفاً كقوله تعالى: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ [الأحزاب: ٧].
وقيل: الرعدُ اسم لهذا الصوت المخصوص، ومع ذلك فإنَّه يسبحُ، قال تعالى ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾ [الإسراء: ٤٤].
وقيل: المراد من كون الرَّعد مسبحاً، أن من يسمع الرَّعد فإنَّه يسبح الله تعالى فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه.
قوله: ﴿والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ﴾، أي: الملائكة يسبحون من خيفة الله، وخشيته، وقيل: أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله تعالى له أعواناً، فهم خائفون خاضعون طائعون.
قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «خائفون من الله لا كخوف بني آدم، فإنَّ أحدهم لا يعرف من على يمينه، ومن على يساره لا يشغله عن عبادة الله طعامٌ، ولا شراب ولا شيء»
.
قال ابن الخطيب: «والمحققون من الحكماء يقولون: إنَّ هذه الآثار العلوية إنَّما هي تتمُّ بقوى روحانية فكليَّة، فللسّضحاب روح معيَّن في الأرواح الفلكيَّة يدبره، وكذا الرِّياح، وسائر الآثار العلوية، وهذا عين ما قلنا: إنَّ الرعد اسمٌ لملك من الملائكة يسبِّح الله تعالى.
275
فالذي قاله المفسِّرون بهذه العبارة، هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء، فيكيف يليق بالعاقل الإنكار؟».
قوله: ﴿وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ﴾ كما أصاب أربد بن ربيعة.
«الصَّواعِقَ» جمع صاعقة، وهي العذاب المهلك ينزل من البرقِ، فتحرق من تصيبه وتقدَّم الكلام عليه في أوَّل البقرةِ.
قال المفسرون: نزلت هذه الآية في عامر الطُّفيل، وأربد بن ربيعة أخي أسد بن ربيعة كما قدمنا.
واعلم أنَّ أمر الصاعقة عجيبٌ جدًّا؛ لأنَّها نارٌ تتولَّد في السَّحاب، وإذا نزلت من السَّحاب فربما غاصت في البحرِ، وأحرقت الحيتان.
قال محمدُ بن عليّ الباقر: «الصَّاعقة تصيبُ المسلم، وغير المسلمِ، ولا تصيب الَّذاكر».
قوله: ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله﴾ يجوز أن تكون الجملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك ويجوز أن تكون حالاً.
وظاهر كالام الزمخشري أنَّها حال من مفعول «تَصِيبُ» فإنَّه قال: «وقيل: الواو للحال، أي: يصيب بها من يشاء في حال جدالهم» وجعلها غيره: حالاً من مفعول «يَشَاء».

فصل


معنى الكلام: أنه تعالى بيَّن دلائل العلم بقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى﴾ [الرعد: ٨]، ودلائل كمال القدرة في هذه الآية، ثم قال تعالى: ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله﴾ يعنى أنَّ الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله.
قيل: المراد بها الرَّد على الكافر يعني أربد بن ربيعة الذي قال: أخبرنا عن ربِّنا، أهو من نحاسٍ، أم من حديد، أم من درٍّ، أم من ياقوت، أم من ذهب؟ فنزلت الصاعقة من السماء؛ فأحرقته.
وقيل: المراد جدالهم في إنكار البعث، وقيل المراد الرد على جدالهم في طلب سائر المعجزات.
وقيل: المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال.
وسئل الحسن عن قوله: ﴿وَيُرْسِلُ الصواعق﴾ الآية قال: كان رجلٌ من طواغيت العرب بعث إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرّ بدعوته إلى الله ورسوله، فقال لهم: أخبروني عن رب محمدٍ، هذا الذي تدعُوني إليه، مِمَّ هو «من ذهبٍ، أو فضةٍ، أو حديدٍ أو نحاس؟
276
فاستعظم القوم مقالته، فانصرفوا إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا رسول الله: ما رأينا رجُلاً أ: فر قلبا، ولا أعتى على الله منه، فقال: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ارجعوا إليه «فرجعوا إليه؛ فجعل لايزيدهم على مثل مقالته الأولى، وقال: أجيب محمداً إلى رب لا أراه، ولا أعرفه! وانصرفوا، وقالوا: يا رسول الله: ما زادنا على مقالته الأولى، وأخبث. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ارجعوا إليه «، فرجعوا إليه، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه، وهو يقول هذه المقالة، إذا ارتفعت سحابة، فكانت فوق رءوسهم، فرعدت، وبرقت ورمت بصاعقة؛ فأحرقت الكافر، وهم جلوسٌ، فجاءوا يسعون؛ ليخبروا رسول الله صلى الله عليه سلم؛ فاستقبلهم قومٌ من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم فقالوا:» احْترَقَ صَاحبُكُم «فقالوا: من أين علمتم؟ فقالوا: أوحى الله إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال﴾.
قوله: ﴿وَهُوَ شَدِيدُ المحال﴾ هذه الجملة حال من الجلالة الكريمة، ويضعف استنأفها.
وقأ العام: بكسر الميم وهو القوَّة والإهلاكُ.
قال عبد المطلب: [الكامل]
٣١٧٢ - لا يَغْلبَنَّ صَلِبُهُمْ ومِحَالُهُمْ عَدواً مِحَالَك
وقل الأعشى: [الخفيف]
٣١٧٣ - فَرْغُ نَبْغٍ يَهتزٌ في غُصُنِ المَجْدِ عَظيمُ النَّدى شديدُ المحالِ
والمحال أيضاً: أشدُّ المكايدة، والممكارة، يقال: ما حله، ومنه تمحَّل فلان بكذا أي: تكلَّف له استعمال الحيلة.
وقال أبو زيدٍ: هو النِّقمةُ. وقال ابن عرفة: هو الجدالُ، وفيه على هذا مقابلة معنوية كأنه قيل: وهم يجادلون في الله، وهو شديد المحالِ.
وقال عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: شديد الأخذ.
وقال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه شديد المحال. وقال الحسن: نشديد الحقدِ.
قالوا: وهذا لايصح للحقد؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى إلاَّ أنَّه تقدم أنَّ أمثال هذه الكلمات إذا وردت في حقِّ الله تعالى فإنَّها تحمل على نهايات
277
الأغراض لا على مبادي الأعراض، فيكون المراد بالحقد ههنا: هو أنه تعالى يريد إيصال الشَّر إليه، مع أنه أخفى عنه تلك الإرادة.
وقال مجاهدٌ: شديد القوَّة. وقال أبو عبيدة: نشديد العقوبة.
وقيل: شديد المكرِ، والمحال، والمماحلة، والمماكرة، والمغالبة.
واختلفوا في ميمه: فالجمهور على أنَّها أصلية من المحل، وهو المكر، والكيد، وزنها فعال: كمِهَاد.
وقال القتبيُّ: إنَّه من الحيلةِ، وميمه مزيدة، ك «مكان» من الكون، ثم يقال: تمكنت، وقد غلَّطه الأزهريُّ، وقال: لو كان: «مِفْعَلاً» من الحيلة لظهرت الواو، مثل: مرودةٍ، ومحولٍ، ومحودٍ. وقرأ الأعرج والضحاك بفتحها والظاهر أنه لغة في المكسورة، وهو مذهب ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فإنه فسره بالحول كما تقدم، وفسره غيره: بالحيلة.
وقال الزمخشري: «وقرأ الأعرج بفتشح الميم على أنه مفعل من: من حال يحول محالاً إذا احتال، ومنه:» أحْوَل مِنْ ذئْبٍ «أي: أشد حيلة، ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار، ويكون مثلاً في القوة، والقدرة كما جاء: فساعد الله أشد، وموساه أحد؛ لأن الحيوان إذا اشتد محاله كان منعوتاً بشدة القوَّة، والإضطلاع بما يعجز عنه غيره ألا ترى إلى قولهم: فقَرَتْهُ الفَواقِر، وذلك أنَّ الفقار عمود الظَّهر، وقوامه».
قوله: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الحق﴾ من باب إضافة الموصوف إلى صفة، والأصل له الدعوة الحق، كقوله ﴿وَلَدَارُ الآخرة﴾ [يوسف: ١٠٩] على أحد الوجيهن.
وقال الزمخشري فيه وجهان:
أحدهما: أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيضُ الباطل، كما يضاف الكلمة إليه في قوله: «كَلمةُ الحَقُّ».
الثاني: أن تضاف إلى «الحقِّ» الذي هو «لله» على معنى: دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب.
قال أبو حيَّان: «وهذا الوجه الثاني لا يظهر؛ لأنه مآله إلى تقدير: لله دعوة الله، كما تقول:» لزيد دعوة زيد «، وهذا التركيب لا يصحُّ».
قال شهاب الدين: «وأين هذا ممَّا قاله الزمخشريُّ حتى يرد عليه به» ؟.
278

فصل


معنى قوله: «دَعْوةُ الحقِّ»، أي لله دعوة الصدق.
قال عليُّ: دَعْوةُ الحقِّ: التَّوحيد. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: الدُّعاء بالإخلاص عند الخوف، فإنَّه لا يدعى فيه إلا أياه «، كما قال: ﴿ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧].
قال الماورديُّ: وهو أشبه لسياق الآية؛ لأنه قال: ﴿والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ يعنى الأصنام: ﴿لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ﴾، أي لا يجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء.
﴿إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾. ضرب الله عزَّ وجلَّ الماء مثلاً لما يأتيهم من الإجابة لدعائهم.
قوله: ﴿والذين يَدْعُونَ﴾ يجوز أن يراد ب «الَّذينَ»
المشركون، فالواو في: «يَدعُونَ» عائدة، ومفعوله محذوف، وهو الأصنام، والواو في «لا يستجيبون» عائدة على مفعول «تَدْعَونَ» المحذوف، وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتهم إيّاه معاملتهم، والتقدير: والمشركون الذي يدعون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنام وإلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي: كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد، ولا يشعر ببسط كفيه، ولا بعطشه، ولا يقدر أن يجيبه، ويبلغ فاه، قال معناه الزمخشريُّ.
وما ذكره أبو البقاء قريب من هذا، وقدر التقدير المذكور، قال: «والمصدر في هذا التقدير مضاف إلى المفعول، كقوله: ﴿لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير﴾ [فصلت: ٤٩] وفاعل هذا المصدر مضمر، وهو ضمير الماءِ أي: لا يجيبونهم إلا كما يجيب الماء باسط كفيه إليه، والإجابة هنا كناية عن الانقياد».
وقيل: ينزلون في قلَّة فائدة دعائهم لآلهتهم منزلة من أراد أن يغرق الماء بيده؛ ليشرب، فيبسطها ناشراً أصابعه، ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء، ولم يبلغ مطلوبه من شربه.
قال الفراء: المراد بالماء هاهنا: البئر؛ لأنَّها معدن الماءِ، ويجوز أن يراد ب «الَّذينَ»
279
الأصنام أي: والآلهة، والذين يدعونهم من دون الله لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابة، والتقدير: كما تقدَّم في الوجه قبله.
وإنَّما جمعهم جمع القعلاء؛ إمَّا للاختلاط، لأنَّ آلهتهم عقلاء وجماد، وإمَّا لمعاملتهم إيَّاها معاملة العقلاء في زعمهم، قالوا: الواو في «يَدعُونَ» للمشركين والعائد المحذوف للأصنام، وكذا واو: «يَسْتَجِيبون».
وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمرو: «تَدْعُونَ» بالخطاب: «كبَاسِطٍ كَفَّيْهِ» بالتنوين وهي مقوية للوجه الثانين، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره.
قوله: «ليَبْلُغَ» في: «بَاسط»، وفاعل: «يَبلُغَ» ضمي الماء؟
قوله: ﴿وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ في «هُوَ» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ضمير الماءِ، والهاء في: «بِبَالغِه» للفم، أي: وما الماء ببالغ فيه.
الثاني: أنه ضمير الفم، والهاء في «بِبالغِهِ» للماء، أي: وما الفم ببالغ الماء إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالِ، فنسبةُ الفعلِ إلى كل واحد وعدمه صحيحان.
الثالث: أن يكون ضمير الباسط، والهاء في: «بِبالغِهِ» للماء، أي: وما باسط كفيه إلى الماء ببالغ الماء.
ولا يجوز أن يكون «هُوَ» ضمير «البَاسط»، وفاعل «بِبَالغهِ» مضمراً والهاء في «بِبَالغهِ» للماء؛ لأنَّه حينئذٍ يكون من باب جريان الصِّفة على غير من هي له، ومتى كان كذلك لزم إبراز الفاعل، فكان التركيب هكذا: وما هو ببالغ الماء، فإن جعلنا الضمير في «ببَالغهِ» للماء؛ جاز أن يكون: «هُوَ» ضمير الباسط كما تقدَّم تقريره.
والكاف في «كباسط» إما نعت لمصدر محذوف، وإما حال من ذلك المصدر، كما تقدم تقريره.
وقال أبو البقاء: «والكاف في» كَباسطِ «إن جعلتها حرفاً كان فيها ضمير يعودُ على الموصوف المحذوف، وإن جعلتها اسماً لم يكن فيها ضمير».
قال شهابُ الدِّين: «وكون الكاف اسماً في الكلام، لم يقل به الجمهور، بل الأخفش. ويعني بالموصوف ذلك المصدر، والذي قدره فيما تقدَّم».
ثم قال: ﴿وَمَا دُعَآءُ الكافرين﴾ أصنامهم: ﴿إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ يضلّ عنهم إذا احتاجوا إليه، كقوله تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ﴾ [فصلت: ٤٨].
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ﴿وَمَا دُعَآءُ الكافرين﴾ ربهم: ﴿إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ ؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله عزََّ وجلَّ.
280
وقيل: ﴿إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ ؛ في ضياع لا منفعة فيه؛ لأنَّ الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.
قوله: ﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض﴾ الآية في المراد بهذا السجود قولان:
أحدهما: السجود بوضع الجبهة على الأرض، وعلى هذا القول، ففيه وجهان: د
أحدهما: أنَّ اللفظ، وإن كان عامًّا إلا أنَّ المراد المؤمنون، فبعضهم يسجدُ لله طوعاً بنشاط، وبضعهم يسجد لله كرهاً لصعوبة ذلك عليه، ويتحمل مشقَّة العبادة.
وقيل: المراد بقوله: «طَوعاً» الملائكة، والمؤمنون، و «كَرْهاً» المنافقون، والكافرون الذين أكرهوا على السجود بالسَّيف.
والثاني: أنَّ اللفظ عام.
فإن قيل: ليس المراد: ﴿مَن فِي السماوات والأرض﴾ يسجد لله؛ لأن الكفَّار لا يسجدون.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن المعنى أنه يجب على كلٍّ من في السموات، والأرض أن يعترف بعبودية الله، كما قال: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزمر: ٣٨].
والقول الثاني: أنَّ السُّجود عبارة عن الانقياد، والخضوع، وترك الامتناع، كلُّ من في السموات، والأرض ساجد لله بهذا المعنى؛ لأنَّ قدرته، ومشيئته نافذة في الكُل.
قوله: ﴿طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ إمَّا معفول من أجله، وإمَّا حال، أي: طائعين، كارهين وإمَّا منصوب على المصدر المؤكد بفعل مضمر.
قوله: ﴿وَظِلالُهُم بالغدو والآصال﴾ قرأ أبو مجلز: والإيصال، بالياء قبل الصَّاد وخرَّجها ابن جني على أنه مصدر «آصل»، كضارب، أي: دخل في الأصيل، كأصبح أي: دخل في الصَّباح، و «ظِلالُهمْ» عطف على «من»، و «بِالغُدوِّ» متعلق ب «يَسْجدُ» والباء بمعنى «فِي»، أي: في هذين الوقتين.
قال المفسرون: كل شخص سواء كان مؤمناً، أو كافراً فإنَّ ظله يسجد لله.
قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد لله طوعاً، وهو طائع، وظل الكافر يسجد لله كرهاً وهو كاره.
وقال الزجاج: «جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغيرِ الله، وظله يسجد لله».
281
وعند هذا قال ابن الأنباري: لا يبعد أن يخلق تعالى للظلال عقولاً، وأفهاماً تسجد بها، وتخشع كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيح الله وظهر اسم التجلي فيها، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً﴾ [الأعراف: ١٤٣].
قال القشيري رَحِمَهُ اللَّهُ: «وفي نظر؛ لأن الجبل عين، فيمكنُ أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأمَّا الظلال، فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها».
وقيل: المراد من سجود الظلال [ميلانها] من جانب إلى جانب، وطولها بسبب انحطاطِ الشمس، وقصرها بسبب ارتفاع الشمس، وهي منقادة [مستسلمة] في طولها، وقصرها وميلها من جانب إلى جانب، وإنَّما خص الغدو، والآصال بالذِّكر؛ لأنَّ الظلال إنما تعظم، وتكثر في هذين الوقتين «.
و»
الآصَال «جمع الأُصُل، والأُصل: جمع الأصيل، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس.
وقيل:»
ظِلالُهمْ «، أي: أشخاصهم بالغدو، والآصال بالبكر والعشايا.
282
قوله :﴿ وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ ﴾ قال أكثر المفسرين : الرَّعدُ اسم ملكٍ يسوقُ السَّحاب، والصوت المسموع تسبيحه.
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه :" مَنْ سَمِعَ صوتَ الرَّعدِ فقال : سُبْحانَ الَّذي يُسبِّحُ الرَّعْدُ بحَمْدهِ والمَلائِكةُ مِنْ خِيفتهِ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قدير، فإنْ أصَابهُ صَاعِقةٌ فَعَلى دِينه ".
وعن ابن عبَّاس : أنَّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرَّعدِ ما هو ؟. فقال صلى لله عليه وسلم " ملكٌ من الملائكةِ وُكِلَ بالسَّحابِ معهُ مخَارِيق من نَارِ يسُوقُ بِهَا السَّحابَ حيثُ شَاء اللهُ، قالوا : فَمَا الصَّوتُ الذي نَسْمَع ؟ قال : زَجْرةُ السَّحابِ ".
وعن الحسن : أنَّه خلق من خلق الله ليس بملكٍ.
قال ابن الخطيب :" فعلى هذا القولِ : الرَّعدُ هو الملكُ الموكل بالسحاب، وذلك الصَّوت يسمّى بالرَّعدِ، ويؤكد هذا ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه سلم أنه قال :" إنَّ اللهَ يُنشِىءُ السَّحاب، فتَنْطِقُ أحسنَ النُّطقِ وتَضحَكُ أحسن الضِّحكِ فنُطقه الرَّعدُ وضِحْكهُ برق ".
وهذا القول غير مستبعد ؛ لأن عند أهل السنة البينة ليست شرطاً لحصولِ الحياة، فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة، والعلم، والقدرة، والنُّطق في أجزاء السَّحاب، فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له، وكيف يستبعد ذلك، ونحن نرى أنَّ السمندل يتولد في النَّار، والضفادع تتولّد في الماءِ، والدُّوجة العظيمة ربما تولدت في الثلوج القديمة، وأيضاً : فإذا لم يبعد تسبيحُ الحِبالِ في زمن داود صلوات الله وسلامه عليه ولا تسبيح الحصى في زمن محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يبعدُ تسبيحُ السَّحاب ؟.
وعلى هذا القول ففي هذا المسموع قولان :
أحدهما : أنه ليس بملك ؛ لأنَّه عطف عليه الملائكة فقال :﴿ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ المعطوف عليه مغايرٌ للمعطوف.
والثاني : لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة، وإنَّما أفرده بالذِّكر تشريفاً كقوله تعالى :﴿ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ﴾ [ الأحزاب : ٧ ].
وقيل : الرعدُ اسم لهذا الصوت المخصوص، ومع ذلك فإنَّه يسبحُ، قال تعالى ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ].
وقيل : المراد من كون الرَّعد مسبحاً، أن من يسمع الرَّعد فإنَّه يسبح الله تعالى فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه.
قوله :﴿ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ ﴾، أي : الملائكة يسبحون من خيفة الله، وخشيته، وقيل : أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله تعالى له أعواناً، فهم خائفون خاضعون طائعون.
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما :" خائفون من الله لا كخوف بني آدم، فإنَّ أحدهم لا يعرف من على يمينه، ومن على يساره لا يشغله عن عبادة الله طعامٌ، ولا شراب ولا شيء ".
قال ابن الخطيب :" والمحققون من الحكماء يقولون : إنَّ هذه الآثار العلوية إنَّما هي تتمُّ بقوى روحانية فكليَّة، فللسّحاب روح معيَّن في الأرواح الفلكيَّة يدبره، وكذا الرِّياح، وسائر الآثار العلوية، وهذا عين ما قلنا : إنَّ الرعد اسمٌ لملك من الملائكة يسبِّح الله تعالى.
فالذي قاله المفسِّرون بهذه العبارة، هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء، فيكيف يليق بالعاقل الإنكار ؟ ".
قوله :﴿ وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ ﴾ كما أصاب أربد بن ربيعة.
" الصَّواعِقَ " جمع صاعقة، وهي العذاب المهلك ينزل من البرقِ، فتحرق من تصيبه وتقدَّم الكلام عليه في أوَّل البقرةِ.
قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عامر الطُّفيل، وأربد بن ربيعة أخي أسد بن ربيعة كما قدمنا.
واعلم أنَّ أمر الصاعقة عجيبٌ جدًّا ؛ لأنَّها نارٌ تتولَّد في السَّحاب، وإذا نزلت من السَّحاب فربما غاصت في البحرِ، وأحرقت الحيتان.
قال محمدُ بن عليّ الباقر :" الصَّاعقة تصيبُ المسلم، وغير المسلمِ، ولا تصيب الَّذاكر ".
قوله :﴿ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله ﴾ يجوز أن تكون الجملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك ويجوز أن تكون حالاً.
وظاهر كالام الزمخشري أنَّها حال من مفعول " تَصِيبُ " فإنَّه قال :" وقيل : الواو للحال، أي : يصيب بها من يشاء في حال جدالهم " وجعلها غيره : حالاً من مفعول " يَشَاء ".

فصل


معنى الكلام : أنه تعالى بيَّن دلائل العلم بقوله :﴿ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى ﴾ [ الرعد : ٨ ]، ودلائل كمال القدرة في هذه الآية، ثم قال تعالى :﴿ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله ﴾ يعنى أنَّ الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله.
قيل : المراد بها الرَّد على الكافر يعني أربد بن ربيعة الذي قال : أخبرنا عن ربِّنا، أهو من نحاسٍ، أم من حديد، أم من درٍّ، أم من ياقوت، أم من ذهب ؟ فنزلت الصاعقة من السماء ؛ فأحرقته.
وقيل : المراد جدالهم في إنكار البعث، وقيل المراد الرد على جدالهم في طلب سائر المعجزات.
وقيل : المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال.
وسئل الحسن عن قوله :﴿ وَيُرْسِلُ الصواعق ﴾ الآية قال : كان رجلٌ من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يقرّ بدعوته إلى الله ورسوله، فقال لهم : أخبروني عن رب محمدٍ، هذا الذي تدعُوني إليه، مِمَّ هو " من ذهبٍ، أو فضةٍ، أو حديدٍ أو نحاس ؟
فاستعظم القوم مقالته، فانصرفوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : ما رأينا رجُلاً أ : فر قلبا، ولا أعتى على الله منه، فقال : صلى الله عليه وسلم :" ارجعوا إليه " فرجعوا إليه ؛ فجعل لايزيدهم على مثل مقالته الأولى، وقال : أجيب محمداً إلى رب لا أراه، ولا أعرفه ! وانصرفوا، وقالوا : يا رسول الله : ما زادنا على مقالته الأولى، وأخبث. فقال صلى الله عليه وسلم :" ارجعوا إليه "، فرجعوا إليه، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه، وهو يقول هذه المقالة، إذا ارتفعت سحابة، فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت، وبرقت ورمت بصاعقة ؛ فأحرقت الكافر، وهم جلوسٌ، فجاءوا يسعون ؛ ليخبروا رسول الله صلى الله عليه سلم ؛ فاستقبلهم قومٌ من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم فقالوا :" احْترَقَ صَاحبُكُم " فقالوا : من أين علمتم ؟ فقالوا : أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال ﴾.
قوله :﴿ وَهُوَ شَدِيدُ المحال ﴾ هذه الجملة حال من الجلالة الكريمة، ويضعف استئنافها.
وقأ العام : بكسر الميم وهو القوَّة والإهلاكُ.
قال عبدالمطلب :[ الكامل ]
٣١٧٢ لا يَغْلبَنَّ صَلِبُهُمْ ومِحَالُهُمْ عَدواً مِحَالَك
وقل الأعشى :[ الخفيف ]
٣١٧٣ فَرْغُ نَبْغٍ يَهتزٌ في غُصُنِ المَجْدِ عَظيمُ النَّدى شديدُ المحالِ
والمحال أيضاً : أشدُّ المكايدة، والممكارة، يقال : ما حله، ومنه تمحَّل فلان بكذا أي : تكلَّف له استعمال الحيلة.
وقال أبو زيدٍ : هو النِّقمةُ. وقال ابن عرفة : هو الجدالُ، وفيه على هذا مقابلة معنوية كأنه قيل : وهم يجادلون في الله، وهو شديد المحالِ.
وقال عليٌّ رضي الله عنه : شديد الأخذ.
وقال ابن عباسٍ رضي الله عنه شديد المحال. وقال الحسن : نشديد الحقدِ.
قالوا : وهذا لايصح للحقد ؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى إلاَّ أنَّه تقدم أنَّ أمثال هذه الكلمات إذا وردت في حقِّ الله تعالى فإنَّها تحمل على نهايات الأغراض لا على مبادي الأعراض، فيكون المراد بالحقد ههنا : هو أنه تعالى يريد إيصال الشَّر إليه، مع أنه أخفى عنه تلك الإرادة.
وقال مجاهدٌ : شديد القوَّة. وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة.
وقيل : شديد المكرِ، والمحال، والمماحلة، والمماكرة، والمغالبة.
واختلفوا في ميمه : فالجمهور على أنَّها أصلية من المحل، وهو المكر، والكيد، وزنها فعال : كمِهَاد.
وقال القتبيُّ : إنَّه من الحيلةِ، وميمه مزيدة، ك " مكان " من الكون، ثم يقال : تمكنت، وقد غلَّطه الأزهريُّ، وقال : لو كان :" مِفْعَلاً " من الحيلة لظهرت الواو، مثل : مرودةٍ، ومحولٍ، ومحودٍ. وقرأ الأعرج والضحاك بفتحها والظاهر أنه لغة في المكسورة، وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنه فإنه فسره بالحول كما تقدم، وفسره غيره : بالحيلة.
وقال الزمخشري :" وقرأ الأعرج بفتح الميم على أنه مفعل من : من حال يحول محالاً إذا احتال، ومنه :" أحْوَل مِنْ ذئْبٍ " أي : أشد حيلة، ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار، ويكون مثلاً في القوة، والقدرة كما جاء : فساعد الله أشد، وموساه أحد ؛ لأن الحيوان إذا اشتد محاله كان منعوتاً بشدة القوَّة، والإضطلاع بما يعجز عنه غيره ألا ترى إلى قولهم : فقَرَتْهُ الفَواقِر، وذلك أنَّ الفقار عمود الظَّهر، وقوامه ".
قوله :﴿ لَهُ دَعْوَةُ الحق ﴾ من باب إضافة الموصوف إلى صفة، والأصل له الدعوة الحق، كقوله ﴿ وَلَدَارُ الآخرة ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] على أحد الوجيهن.
وقال الزمخشري فيه وجهان :
أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيضُ الباطل، كما يضاف الكلمة إليه في قوله :" كَلمةُ الحَقُّ ".
الثاني : أن تضاف إلى " الحقِّ " الذي هو " لله " على معنى : دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب.
قال أبو حيَّان :" وهذا الوجه الثاني لا يظهر ؛ لأنه مآله إلى تقدير : لله دعوة الله، كما تقول :" لزيد دعوة زيد "، وهذا التركيب لا يصحُّ ".
قال شهاب الدين :" وأين هذا ممَّا قاله الزمخشريُّ حتى يرد عليه به " ؟.

فصل


معنى قوله :" دَعْوةُ الحقِّ "، أي لله دعوة الصدق.
قال عليُّ : دَعْوةُ الحقِّ : التَّوحيد. وقال ابن عباس رضي الله عنه شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل : الدُّعاء بالإخلاص عند الخوف، فإنَّه لا يدعى فيه إلا أياه "، كما قال :﴿ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ].
قال الماورديُّ : وهو أشبه لسياق الآية ؛ لأنه قال :﴿ والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ يعنى الأصنام :﴿ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ ﴾، أي لا يجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء.
﴿ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ﴾. ضرب الله عزَّ وجلَّ الماء مثلاً لما يأتيهم من الإجابة لدعائهم.
قوله :﴿ والذين يَدْعُونَ ﴾ يجوز أن يراد ب " الَّذينَ " المشركون، فالواو في :" يَدعُونَ " عائدة، ومفعوله محذوف، وهو الأصنام، والواو في " لا يستجيبون " عائدة على مفعول " تَدْعَونَ " المحذوف، وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتهم إيّاه معاملتهم، والتقدير : والمشركون الذي يدعون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنام وإلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي : كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد، ولا يشعر ببسط كفيه، ولا بعطشه، ولا يقدر أن يجيبه، ويبلغ فاه، قال معناه الزمخشريُّ.
وما ذكره أبو البقاء قريب من هذا، وقدر التقدير المذكور، قال :" والمصدر في هذا التقدير مضاف إلى المفعول، كقوله :﴿ لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير ﴾ [ فصلت : ٤٩ ] وفاعل هذا المصدر مضمر، وهو ضمير الماءِ أي : لا يجيبونهم إلا كما يجيب الماء باسط كفيه إليه، والإجابة هنا كناية عن الانقياد ".
وقيل : ينزلون في قلَّة فائدة دعائهم لآلهتهم منزلة من أراد أن يغرق الماء بيده ؛ ليشرب، فيبسطها ناشراً أصابعه، ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء، ولم يبلغ مطلوبه من شربه.
قال الفراء : المراد بالماء هاهنا : البئر ؛ لأنَّها معدن الماءِ، ويجوز أن يراد ب " الَّذينَ " الأصنام أي : والآلهة، والذين يدعونهم من دون الله لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابة، والتقدير : كما تقدَّم في الوجه قبله.
وإنَّما جمعهم جمع العقلاء ؛ إمَّا للاختلاط، لأنَّ آلهتهم عقلاء وجماد، وإمَّا لمعاملتهم إيَّاها معاملة العقلاء في زعمهم، قالوا : الواو في " يَدعُونَ " للمشركين والعائد المحذوف للأصنام، وكذا واو :" يَسْتَجِيبون ".
وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمرو :" تَدْعُونَ " بالخطاب :" كبَاسِطٍ كَفَّيْهِ " بالتنوين وهي مقوية للوجه الثانين، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره.
قوله :" ليَبْلُغَ " في :" بَاسط "، وفاعل :" يَبلُغَ " ضمي الماء ؟
قوله :﴿ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ﴾ في " هُوَ " ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضمير الماءِ، والهاء في :" بِبَالغِه " للفم، أي : وما الماء ببالغ فيه.
الثاني : أنه ضمير الفم، والهاء في " بِبالغِهِ " للماء، أي : وما الفم ببالغ الماء إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالِ، فنسبةُ الفعلِ إلى كل واحد وعدمه صحيحان.
الثالث : أن يكون ضمير الباسط، والهاء في :" بِبالغِهِ " للماء، أي : وما باسط كفيه إلى الماء ببالغ الماء.
ولا يجوز أن يكون " هُوَ " ضمير " البَاسط "، وفاعل " بِبَالغهِ " مضمراً والهاء في " بِبَالغهِ " للماء ؛ لأنَّه حينئذٍ يكون من باب جريان الصِّفة على غير من هي له، ومتى كان كذلك لزم إبراز الفاعل، فكان التركيب هكذا : وما هو ببالغ الماء، فإن جعلنا الضمير في " ببَالغهِ " للماء ؛ جاز أن يكون :" هُوَ " ضمير الباسط كما تقدَّم تقريره.
والكاف في " كباسط " إما نعت لمصدر محذوف، وإما حال من ذلك المصدر، كما تقدم تقريره.
وقال أبو البقاء :" والكاف في " كَباسطِ " إن جعلتها حرفاً كان فيها ضمير يعودُ على الموصوف المحذوف، وإن جعلتها اسماً لم يكن فيها ضمير ".
قال شهابُ الدِّين :" وكون الكاف اسماً في الكلام، لم يقل به الجمهور، بل الأخفش. ويعني بالموصوف ذلك المصدر، والذي قدره فيما تقدَّم ".
ثم قال :﴿ وَمَا دُعَآءُ الكافرين ﴾ أصنامهم :﴿ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ يضلّ عنهم إذا احتاجوا إليه، كقوله تعالى :﴿ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ ﴾ [ فصلت : ٤٨ ].
وعن ابن عباس رضي الله عنه :﴿ وَمَا دُعَآءُ الكافرين ﴾ ربهم :﴿ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ ؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله عزََّ وجلَّ.
وقيل :﴿ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ ؛ في ضياع لا منفعة فيه ؛ لأنَّ الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.
قوله :﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض ﴾ الآية في المراد بهذا السجود قولان :
أحدهما : السجود بوضع الجبهة على الأرض، وعلى هذا القول، ففيه وجهان :
أحدهما : أنَّ اللفظ، وإن كان عامًّا إلا أنَّ المراد المؤمنون، فبعضهم يسجدُ لله طوعاً بنشاط، وبضعهم يسجد لله كرهاً لصعوبة ذلك عليه، ويتحمل مشقَّة العبادة.
وقيل : المراد بقوله :" طَوعاً " الملائكة، والمؤمنون، و " كَرْهاً " المنافقون، والكافرون الذين أكرهوا على السجود بالسَّيف.
والثاني : أنَّ اللفظ عام.
فإن قيل : ليس المراد :﴿ مَن فِي السماوات والأرض ﴾ يسجد لله ؛ لأن الكفَّار لا يسجدون.
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المعنى أنه يجب على كلٍّ من في السموات، والأرض أن يعترف بعبودية الله، كما قال :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ الزمر : ٣٨ ].
والقول الثاني : أنَّ السُّجود عبارة عن الانقياد، والخضوع، وترك الامتناع، كلُّ من في السموات، والأرض ساجد لله بهذا المعنى ؛ لأنَّ قدرته، ومشيئته نافذة في الكُل.
قوله :﴿ طَوْعاً وَكَرْهاً ﴾ إمَّا معفول من أجله، وإمَّا حال، أي : طائعين، كارهين وإمَّا منصوب على المصدر المؤكد بفعل مضمر.
قوله :﴿ وَظِلالُهُم بالغدو والآصال ﴾ قرأ أبو مجلز : والإيصال، بالياء قبل الصَّاد وخرَّجها ابن جني على أنه مصدر " آصل "، كضارب، أي : دخل في الأصيل، كأصبح أي : دخل في الصَّباح، و " ظِلالُهمْ " عطف على " من "، و " بِالغُدوِّ " متعلق ب " يَسْجدُ " والباء بمعنى " فِي "، أي : في هذين الوقتين.
قال المفسرون : كل شخص سواء كان مؤمناً، أو كافراً فإنَّ ظله يسجد لله.
قال مجاهد : ظل المؤمن يسجد لله طوعاً، وهو طائع، وظل الكافر يسجد لله كرهاً وهو كاره.
وقال الزجاج :" جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغيرِ الله، وظله يسجد لله ".
وعند هذا قال ابن الأنباري : لا يبعد أن يخلق تعالى للظلال عقولاً، وأفهاماً تسجد بها، وتخشع كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيح الله وظهر اسم التجلي فيها، كما قال تعالى :﴿ فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ].
قال القشيري رحمه الله :" وفي نظر ؛ لأن الجبل عين، فيمكنُ أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأمَّا الظلال، فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها ".
وقيل : المراد من سجود الظلال [ ميلانها ] من جانب إلى جانب، وطولها بسبب انحطاطِ الشمس، وقصرها بسبب ارتفاع الشمس، وهي منقادة [ مستسلمة ] في طولها، وقصرها وميلها من جانب إلى جانب، وإنَّما خص الغدو، والآصال بالذِّكر ؛ لأنَّ الظلال إنما تعظم، وتكثر في هذين الوقتين ".
و " الآصَال " جمع الأُصُل، والأُصل : جمع الأصيل، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس.
وقيل :" ظِلالُهمْ "، أي : أشخاصهم بالغدو، والآصال بالبكر والعشايا.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض﴾ الآية لما بيَّن أنَّ كل من في السَّموات، والأرض ساجد لله بمعنى كونه خاضعاً له؟، عدل إلى الرَّد على عبدة الأصنام فقال: ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض قُلِ الله﴾ ولمَّا كان هذا الجواب يقرّ به المسئولُ ويعترف به، ولا ينكره، أمره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهاً على أنهم لا ينكرونه ألبتَّة.
قال القشيري: «ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع، أي: سلهم عن خالق السموات والأرض؛ فإنه يسهل تقرير الحجة عليهم ويقربُ الأمر من الضرورة،
282
فإن عجز الجماد، وعجز كل مخلوق عن خالق السموات، والأرض معلوم» ؟
ولما بين الله أنَّه هو الرب لكلِّ الكائنات [قاله له] : قل لهم على طريق الإلزام للحجة فلم اتخذتم من دونه أولياء، وهي جمادات، وهي لا تملكُ لأنفسها نفعاً، ولا ضرًّا، ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة [لأنفسها، ودفع المضرة عن نفسها، فلأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة] لغيرها، ودفع المضرة عن غيرها بطريق الأولى، وإذا كانت عاجزة عن ذلك كانت عبادتها محض العبث، والسَّفه، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أنَّ الجاهل بمثل هذه الحجة لا يساوي العالم بها.
فقال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور﴾ قرأ الأخوان، وأبو بكر عن عاصم: «يَسْتَوِي» بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق، والوجهان واضحان باعتبار أن الفاعل مجازي التَّأنيث، فيجوز في فعله التذكير، والتأنيث، كنظائر له مرت. وهذه مثل ضربه اللهُ سبحانه وتعالى للكفَّار؟
قوله: «أمْ هَلْ» هذه أم المنقطعة، فتقدر ب «بل»، والهمزة عند الجمهور، وب «بل» وحدها عند بعضهم، وقد تقدَّم تحريره، وهذه الآية قد يتقوى بها من يرى تقديرها ب «بَلْ» فقط بوقوع: «هَلْ» بعدها، فلو قدَّرناها ب «بَلْ» والهمزة لزم اجتماع حرفي معنى؛ فتقدرها ب «بل» وحدها، «ولا» تقويةٌ له، فإن الهمزة قد جامعت: «هَلْ: في اللفظ، كقوله الشاعر: [البسيط]
٣١٧٣ -....................... أهَلْ رَأوْنَا بِوادِي القُفِّ ذي الأكَمِ
فأولى أن يجامعها تقديراً.
ولقائل أن يقول: لا نسلم إنَّ:»
هَلْ «هذه استفهاميَّة، بل بمعنى:» قَدْ «، وإليه ذبله جماعةٌ، وإن لم تجامعها همزة، كقوله تعالى: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر﴾ [الإنسان: ١] أي: قد أتى، فههنا أولى، والسماع قد ورد بوقوع:» هَلْ «بعد:» أم «وبعدمه. فمن الاول هذه الآية، ومن الثاني: ما بعدها من قوله:» أمْ جَعلُوا «.
وقد جمع الشاعر بين الاستعمالين في قوله: [البيسط]
283
٣١٧٥ - هَلْ مَا عَلمْتَ ومَا اسْتُودعْتَ مكْتومُ أمْ حَبْلُهَا إذ نَأتْكَ اليَوْمَ مَصرُومُ
أمْ هَلْ كثيرٌ بَكَى لمْ يَقْضِ عَبرتَهُ إثْرَ الأحِبَّة يَوْمَ البَيْنِ مَشْكُومُ

فصل


قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾ كذلك لايستوي المؤمن، والكافر: ﴿أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور﴾ اي كما لا تستوي الظلمات والنور، لايستوي الكفر، والإيمان.
قوله: ﴿أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ﴾ الجملة من قوله: «خَلقُوا» صفة ل: «شُرَكاءَ»، ﴿فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ﴾، أي: اشتبه ماخلقوه بما خلقه الله عزَّ وجلَّ فلا يدرون ما خلق الله، وما خلق آلهتهمخ.
والمعنى: أنَّ هذه الأشياء الَّتي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتَّى يقولوا: إنها تشارك الله في الخالقيَّة؛ فوجب أن تشاركه في الإلهيَّة بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أنَّ هذه الأصنام لم يمصدر عنها فعلٌ، ولا خلق، ولا أثر ألبتة، وإذا كان كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهيَّة محض السَّفه، والجهل.

فصل


قال ابن الخطيب: «زعمت المعتزلة أنَّ العبد يخلق حركات، وسكنات مثل الحركات، والسكنات التي يخلقها الله، وعلى هذا التقدير: فقد ﴿جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ﴾ والله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الذَّم، والإنكارِ؛ فدلت على أنَّ العبد لا يخلق أفعال نفسه».
قال القاضي: «نحن وإن قلنا:» إنَّ العبد يخلق إلاَّ أنَّا لا نطلق القول بأنه يخلق كخلق الله؛ لأن أحداً ما يفعل كقدرة الله، وإنما يفعل لجلب منفعة، ودفع مضرة، والله تعالى منزه عن ذلك؛ فثبت أنَّ بتقدير كون العبدِ خالقاً إلا أنَّه لا يكون خلقه كخلق الله، وأيضاً: فهذا الإلزامُ للمجبرة أيضاً؛ لأنَّهم يقولون عين ما هو خلق الله تعالى فهو كسبٌ للعبد، وفعلٌ له، وهذا عين الشرك؛ لأنَّ الإله، والعبد في ذلك الكسب كالشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه أيضاً نصيبٌ، وهو أنه، تعالى إنَّما ذكر هذا الكلام عيباً للكفَّار أن يقولوا: إنَّ الله تعالى خلق هذا الكفر فينا؛ فلم يذمنا، ولم
284
ينسبنا للجهل، والتقصير، مع أنه حصل فينا بغير فعلنا، ولا باختيارنا «.
والجواب عن الأول: هو أنَّ لفظ الخلق عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود، أو عبارة عن التقديرين، وعلى الوجهين: فبتقدير أن يكون العبد محدثاُ، فإنه لا بد أن يكون حادثاً، أما قوله: والعبد وإن كان خالقاً إلاَّ أنه ليس خلقه كخلق الله تعالى.
قلنا: الخلق عبارةٌ عن الإيجاج التكوين والإخراج من العدم إلى الوجود، ومعلومٌ أنَّ الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلاً للحركة الواقعة بقدرة الله تعالى كان أحد المخلوقين مثلاً للمخلوق الثاني، وحينئذ يصحُّ أن يقال: إنَّ هذا الذي هو مخلوقٌ للعبد مثل لما هو مخلوق لله تعالى، ولا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات، إلاَّ أنَّ حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في المماثلة من هذا الوجه، وهذا القدر يكفي في الاستدلال.
وأما قوله: «هذا لازم على المجبرة حيث قالوا: إنَّ فعل العبد مخولق لله تعالى»
.
فنقول: هذا غير لازم؛ لأنَّ هذه الآية [دالة] على أنَّه لا يجوز ِأن يكون العبد مثلاً كخلق الله تعالى ونحن لا نثبت للعبد خلقاً ألبتَّة، فكيف يلزمنا ذلك؟.
وأما قوله: «لو كان فعل العبد خلقاً لله لما حسن ذمُّ الكفَّار على هذا المذهب».
قلنا: حاصلة يرجع إلى أنَّه لما حصل الوجود، وجب أن يكون العبد مستقلاً بالفعل وهنو منقوض؛ لأنَّه تعالى ذمَّ أبا لهب على كفره مع أنَّه علم منه أنَّه يموت على الكفر، وخلاف المعلوم محال الوقوع.
قوله: ﴿قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار﴾ وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخولق لله تعالى؛ لأنَّ فعل العبد شيء، فوجب أن يكون خالقه هو الله تعالى وأيضاً: فقوله: ﴿وَهُوَ الواحد القهار﴾ لا يقال فيه: إنه تعالى واحد في أي المعاني، بل الواحد في الخالقية؛ لأن المذكور السابق هو الخالقية، فوجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية، القهار لكل ما سواه.

فصل


زعم جهم أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء.
قال الخطيب: «وهذا الخلاف ليس إلا في اللفظ، وهو أن اسم الشيء هل يقع عليه أم لا؟ فزعم قوم أنهن لا يقع، وجوّزه قومٌ».
واحتج المانعون: بأنه لو كان شيئاً لوجب أن يكون خالقاً لنفسه، لقوله تعالى: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: ٦٢] وذلك محالٌ؛ فثبت أنه لا يقع عليه اسم الشيء، ولا يقال: إنَّ هذا عام دخله التخصيص؛ لأنَّ العام المخصوص إنَّما يحسن إذا كان
285
المخصوص أقل من الباقي، وأحسن منه، كما يقال: هذه الرُّمَّانة مع أنَّه سقطت حبات ما أكلها، وههنا ذات الله أعلى الموجودات، وأشرفها، فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصاً في حقِّه.
واستدلُُّوا أيضاً بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] ٍ والمعنى: ليس مثل مثله شيء، ومعلوم أن كل حقيقة [فإنها] مثل مثل نفسها، فالباري تعالى مثل مثل نفسه مع أنه تعالى نصَّ على أنَّ مثل مثله ليس بشيء، فهذا تنصيصٌ على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيءِ.
واستدلُّوا أيضاً بقوله تعالى:
﴿وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا﴾ [الأعراف: ١٨٠] قالوا: دلَّت على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى، ولفظ الشيء يتناول أحد الموجودات، فلا يكون هذا اللفظ مشعراً بمعنى حسن؛ فوجب ألاَّ يجو دعاء الله بهذا اللفظ.
وتمسك من جوَّز إطلاق هذه التسمية عليه بقوله تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ١٩].
وأجاب الألولون: بأنَّ هذا سؤال متروك الجواب، وقوله: ﴿قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ١٩] مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله.

فصل


تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّه تعالى عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة، وقالوا: لأنه لو حصل لله تعالى علم، وقدرة وحياة لكانت هذه الصفات إمَّا أن تحصل يخلق الله تعالى أو لا تحصل بخلق الله والأول باطل، وإلا لزم التسلسل، والثاني باطلٌ؛ لأنََّ قول الله تعالى: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: ٦٢] يتناول الذات، والصفات حكمنا بدخول التخصيص في ذات الله تعالى؛ فوجب أن يبقى على عمومه في سائر الأشياء، والقرآن ليس هو الله؛ فوجب أن يكون مخلوقاً لدخوله في هذا العموم.
والجواب أن يقال: أقصى ما في الباب أنَّ الصِّيغة عامة؛ لأن تخصيصها في حق صفات الله تعالى بالدلائل العقليَّة.
قوله تعالى: ﴿أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ الآية لما شبَّه المؤمن والكافر، والإيمان، والكفر بالأعمى، والبصير، والظلمات، والنور، ضرب للإيمان، والكفر مثلاً آخر فقال: ﴿أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ «أنْزلَ» يعني الله: ﴿مِنَ السمآء مَآءً﴾ يعني المطر «فَسَالتْ» من ذلك الماء: ﴿أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ أي: في الصغر، والكبر ﴿فاحتمل السيل﴾ الذي حدث من ذلك الماء: ﴿زَبَداً رَّابِياً﴾ الزّبد: الخبث الذي يظهر على وجه الماء وكذلك على وجه القدر «رَابِياً» أي: عالياً مرتفعاً فوق الماءِ، فالماءُ الصًّافي الباقي هو الحق، والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار، وجوانب الأودية هو الباطل.
286
وقيل: هذا مثل القرآن: ﴿أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ وهو القرآن، والأودية: قلوب العباد، يريد: ينزل القرآن، فيحتمل منه القلوب على قدر اليقينِ، والعقل والشك وكما أنَّ الماء يعلوهُ زيدٌ، والأجساد يخالطها خبثٌ، ثمَّ إنَّ ذلك الزبد، والخبث يذهب، ويضيع، ويبقى جوهر الماء، وجوهر الأجساد السبعة، كذلك ههنا بيانات القرآن يختلط بها شكوك وشهبات، ثمَّ إنها تزول بالآخرة وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة في العاقبة كذلك ههنا؟
قوله: «أوْديَةٌ» جمع وادٍ، وجمع فال على أفعلة، قال أبو البقاءِ: «شاذٌّ، ولم نسمعه في غير هذا الحرف. ووجهه: أنَّ فاعلاً قد جاء بمعنى فعيل، وكما جاء فعيل وأفعلة كَجرِيب وأجْرِبَة كذلك فاعل».
قال شهابُ الدين: «قد سمع فَاعِلَة، وأفْعِلَة في حرفين آخرين:
أحدهما: قولهم جَائِر وِأجْوِرَة.
والثاني: نَادجٍ وأنْجِيَة»
.
وقال الفارسي: «أودية: جع واد ولا نعلم فاعلاً جمع على أفْعِلَة، قال:» ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل، وفعيل على الشيء الواحد، كعَالِم وعَلِيم، وشَاهِد وشَهِيد، ونَاصِر ونَصِير، ووزن فاعل يجمع على أفعالٍ كصاحب وأصحابٍ، وطائرْ وأطيارٍ، [ووزن] فعيلٍ يجمع على أفْعِلَة كجَرِيبٍ، وأجْرِبَة، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل، وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع العفيل، فيقال: وادٍ وأودية، ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال: يَتِيمٌ وأيْتامٌ، وشَرِيفٌ وأشْرافٌ «.
وقال غيره: ن ظير وادٍ، وأوْدِيَة: نادٍ، وأنْديَة للمجالس وسمي وادِياً: لخروجه وسيلانه، والوادي على هذا اسم للماء السَّائل.
وقال أبو علي:»
سَالتْ أوْديةٌ «فيه توسع، أي: يسالُ ماؤها فحذف، ومعنى» بِقدَرِهَا «أي: بقدر مياهها؛ لأنَّ الأودية ما سالت بقدرِ نفسها».
قوله: «بِقَدِرهَا» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ ب: سَالَتْ «.
والثاني: أنَّه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ للأودية.
وقرأ العامة بفتح الدال، وزيد بن عليّ، والأشهب العقيلي، وأبو عمرو في رواية بسكونها، وقد تقدَّم في البقرة.
قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: القَدْرُ والقَدَر: مبلغ الشَّيء، يقال: كم قَدْر هذه الدَّراهم
287
وقَدَرُهَا ومِقْدَارُها؟ أي: كم بلغ في القدر وما يكون مساوياً لها في الوزن فهو قَدرُوهَا».
والمَعنى: بدقرها، من الماء فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتَّسع الوادي كثر الماء.
و «احْتَمَلَ» بمعنى حَمَلَ فافتعل بمعنى المجرَّرد، وإنَّما نكَّر الأودية، وعرف السيل؛ لأنَّ المطر ينزلُ في البقاع على المناوبة، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض، وعرف السي؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله، وهو قوله: «فَسَالَتْ»، وهو لو نُكِّر لكان نكرة، فلمَّا أعيد أعيد بلفظ التَّعريف نحو «رَأْتَ رجُلاً فأكْرَمْتُ الرَّجُلَ».
والزَّبدُ: وضرُ الغليان وخبثه؛ قال النابغة: [البسيط]
٣١٧٦ - فَمَا الفُرَاتُ إذا هَبَّ الرِّياحُ لَهُ تَرْمِي غَوارِبهُ العِبْرَيْنِ بالزَّبدِ
وقيل: هو ما يحمله السِّيل من غثاءٍ ونحوه، وما يرمى به ضَفَّتاه من الحباب، وقيل: هو ما يطرحه الوادي إذا [سال] ماؤه، وارتفعت أمواجه، وهي عباراتٌ متقاربةٌ.
والزَّبدُ: المستخرج من اللَّبن. قيل: هو مشتقٌّ من هذه لمشابهته إيَّاه في اللون، ويقال: زبدته زبداً، أي: أعطيته مالاً كالزَّبدِ يضرب به المثل في الكثرةِ، وفي الحديث: «غُفِرتْ ذُنوبهُ، ولوْ كَانتْ مِثْلَ زَبدِ البَحْرِ».
وقوله تعالى: «رَابِياً» قال الزجاج: طافياً عالياً فوق الماءِ «.
وقال غيره: زائداً بسب انتفاخه، يقال: رَبَا يربُوا إذا زاد.
قوله ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ﴾ هذا الجار خير مقدم، و»
زَبدٌ «مبتدأ، و» مثْلُهُ «صفة المبتدأ، والتقدير: ومن الجواهر التي هي كالنُّحاسِ، والذهب، والفضة زبد، أي: خبثن مثله، أي:» مِثْل زبدِ الماءِ «.
و «مِنْ»
في قوله: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ﴾ تحتمل وجهين:
[أحدهما] : أن تكون لابتداء الغاية، أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماءِ.
والثاني: أنَّها للتبعيض بمعنى: وبعض زبد، هذا مثل آخر.
فالأول: ضرب المثل بالزَّبد الحاصل من المثال، ووجه المماثلة: أنَّ كلاَّ منهما ناشىء من الأكدار.
وقرأ الأخوان، وحفص: «يُوقدُون» بالياء من تحت، أي: النَّاس، والباقون بالتاء من فوق على الخطاب، و «عَليْهِ» متعلق ب: «تُوقِدُونَ».
288
وأمَّا «فِي النَّار» ففيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلق ب «تُوقِدُونَ» وهو قول الفارسي، والحوفي، وأبي البقاء.
والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، أي: كائناً، أو ثابتاً، قاله مكيٌّ، وغيره ومنعوا تعلُّقه ب «يُوقِدُونَ» ؛ لأنهم زعموا أنَّه لا يوقد على الشَّيء إلا وهو في النَّار، وتعليق حرف الجر ب «تُقِدُونَ» يقتضي تخصيص حال من حال أخرى، وهذ غيرُ لازمٍ.
قال أبو علي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وقد يُوقَدُ على الشَّيء، وِإن لم يكن في النَّار، كقوله تعالى: ﴿فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين﴾ [القصص: ٢٨] فالطينُ لم يكن [فيها]، وإنَّما يصيبه لهبها، وأيضاً: فقد يكون ذلك على سبيل التَّوكيد، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨]. والمراد بالحيلةِ: الذهب، والفضة، والمتاع: كل ما يتمتع به.
قوله: «ابْتِغاءَ حِليَةةٍ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول من أجله.
والثاني: أنه مصدر في موضع الحالِ، أي: مبتغين حلية، و «حِليَةٍ» مفعولٌ [في] المعنى، «أوْ مَتاعٍ» نسق على «حِيلْيةٍ».
فالحِليَةُ: ما تتزين به. والمتَاعُ: ما يقضون به حوائجهم كالمساحي من الحديد ونحوها.
قوله: «جُفَاءً» حالٌ، والجفاء: قال ابن الأنباري: المتفرق، يقال: جفأتِ الرِّح السَّحاب، أي: قطعته وفرقته، وقال الفراء: الجفاءُ: الرَّمي، والاطراحُ.
يقال: جَفَا الوادي، أي: غُثَاءه يجفوهُ: جفاءً، إذا رماه، والجفاء اسم للمجتمع منه [المنضمّ] بعضه إلى بعض، ويقال: جفَأتِ القِدرُ بزُبْدِهَا تَجْفَأ، وحفاءُ السَّيل: زبده، وأجْفَأ وأجْفَلَ وباللام قرأ رؤبة بن العجاج.
قال أبو حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة؛ لأنَّه كان يأكل الفأر، يعني أنه أعرابي جاف وقد تقدم ثناء الزمخشري عليه أوَّل البقرة، وذكروا فصاحته، وقد وجَّهوا قراءته بأنها من أجفأت الرِّح الغيم، أي: فرقته قطعاً، فهي في المعنى كقراءة العامة بالهمزة.
وفي همزة «جَفَأ» وجهان:
أظهرهما: أنها أصل لثبوتها في تصاريف هذه المادة.
والثاني: أنه بدل من واو، وكأنه مختار أبي البقاء.
وفيه نظر؛ لأن مادة «جَفَا يَجْفُو» لا يليقُ معناها، والأصل: عدم الاشتراك.

فصل


المعنى: أنَّ الباقي الصَّافي من هذه الجواهر مثل الحق، والزَّبد الذي لا ينتفعُ به
289
مثل الباطل، فأمَّا الزَّبد الذي علا السيل والفلز، فيذهب جفاء، أي: ضائعاً باطلاً، والجفاء، ما رمى به الوادي من الزَّبد، والقدر إلى جنباته.
والمعنى: أنَّ الباطل، وإن علا في وقت فإنه يضمحلُّ، ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشُّبهات.
قوله: ﴿كذلك يَضْرِبُ الله﴾ الكاف في محل نصب، أي: مثل ذلك الضَّرب يضربُ.
قيل: إنَّما تمَّ الكلام عند قوله: ﴿كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال﴾ ثم استأنف الكلام بقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى﴾ وملحه الرفع بالابتداء، و «للذين» خبره، وتقديره: لهم الخصلة الحسنى، أو الحالة الحسنى.
وقيل: متصل بما قبله، والتقدير: كأنه الذي يبقى، وهو مثل المستجيب، والذي يذهب جفاء مثل الذي لا يستجيب، ثمَّ بين الوجه في كونه مثلاً، أي: لمن يستجيب «الحُسْنَى» وهي الجنَّة، ولمن لا يستجيب الحسرة والعقوبة.
وفيه وجه آخر: وهو أنَّ التقدير: كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى، أي: الاستجابة الحسنى.
واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أحوال السعداء، وأحوال الأشقياء، أما أحوال السعداء، فهي قوله جل ذكره: ﴿لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى﴾، أي: أنَّ الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد، والتزام الشرائع، فلهم الحسنى.
قال ابن عبَّاس: «الحُسْنَى» الجنَّة.
وأمَّا أحوال الأشقياء، فهي قوله عزَّ وجلَّ: ﴿والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ﴾، أي لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداءً من النار.
قوله: ﴿لِلَّذِينَ استجابوا﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلقٌ ب «يَضْرِبُ»، وبه بدأ الزمخشري قال: «أي: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا؛ وللكافرين الذين لم يستجيبوا، و» الحُسْنَى «صفة لمصدر» اسْتَجَابُوا «، أي: استجابوا الاستجابة الحسنى، وقوله ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض﴾ كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين».
قال أبو حيان: «والتفسير الأول أولى» يعني به أن «لِلَّذينَ» خبرٌ مقدمٌ و «الحُسْنَى» متبدأ مؤخَّر كما سيأتي.
إيضاحه قال: «لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قد
290
ضرب أمثالاً كثيرة في هذهي وفي غيرهما؛ ولأنَّ فيه ذكر ثواب المتسجيبين بخلاف قول الزمخشري، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ذكر للمستجيبين من الثواب؛ ولأن تقديره: الاستجابة الحسنى مشعرٌ بتقييد الاستجابةِ وما قبلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى، والله سبحانه وتعالى قد
نفى الاستجابة مطلقاً، ولأنه على قوله يكون قوله: ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً﴾ كلاماً مفلتا ممَّا قبله، أو كالمفلتِ، إذ يصير المعنى: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين، والكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض، فلو كان التركيب بحذفِ رابط» لو «بما قبلها زال التفلت، وأيضاً: فتوهم الاشتراك في الضمير، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً».
قال شهاب الدين: «قوله:» لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيَّد «ليس ف يقول الزمخشري ما يقتضي التّقييد، وقوله: لأن فيه ذكر ثواب المستجيبين إلى آخر ما ذكره الزمخشري أيضاً. على أن يؤخذ من فحواه ثوابهم، وقوله:» والله تعالى نفي الاستجابة مطلقاً «ممنوع، بل نفى تلك الاستجابة الأولى لا يقال: فثبتت لنا استجابة غير حسنى؛ لأنَّ هذه الصفة لا مفهوم لها، إذ الواقع أنَّ الاستجابة لله لا تكون إلا حسنى.
وقوله:»
يصيرُ مُفْلتاً «كيف يكون مع قولِ الزمخشريِّ مبتدأ في ذكر ما أعدَّ لهم، وقوله» وأيضاً فيتوهَّم الاشتراك «كيف يتوهّم هذا بوجه من الوجوه؟ وكيف يقول ذلك مع قوله: وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً؟ فإذا علم كيف يتوهَّم؟».
والوجه الثاني:: أن يكون «لِلَّذينَ» خبراً مقدماً، والمبتدأ «الحُسْنَى»، و ﴿والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ﴾ مبتدأ، وخبره الجملة الامتناعيَّة بعده.
وإنَّما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا لانتفاعهم دون غيرهم ومفعول «افتَدَوا» محذوف، تقديره: لا فتدوا به أنفسهم، أي: جعلوه فداء أنفسهم من العذاب، والهاء في «بِهِ» عائد إلى: «مَا» في قوله: «مَافي الأرضِ».
ثم قال: ﴿أولئك لَهُمْ سواء الحساب﴾.
[قال الزجاج: وذلك لأن كفرهم أحبط أعمالهم.
وقال إبراهيم النخعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: سوء الحساب] أن يحاسب الرجل بذنبه كله، ولا يغفر له منه شيء «ومَأوَاهُمٍ» في الآخرة: ﴿جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد﴾ والفراشُ، أي: بئس ما مهد لهم.
291
قوله تعالى :﴿ أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً ﴾ الآية لما شبَّه المؤمن والكافر، والإيمان، والكفر بالأعمى، والبصير، والظلمات، والنور، ضرب للإيمان، والكفر مثلاً آخر فقال :﴿ أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً ﴾ " أنْزلَ " يعني الله :﴿ مِنَ السمآء مَآءً ﴾ يعني المطر " فَسَالتْ " من ذلك الماء :﴿ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾ أي : في الصغر، والكبر ﴿ فاحتمل السيل ﴾ الذي حدث من ذلك الماء :﴿ زَبَداً رَّابِياً ﴾ الزّبد : الخبث الذي يظهر على وجه الماء وكذلك على وجه القدر " رَابِياً " أي : عالياً مرتفعاً فوق الماءِ، فالماءُ الصًّافي الباقي هو الحق، والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار، وجوانب الأودية هو الباطل.
وقيل : هذا مثل القرآن :﴿ أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً ﴾ وهو القرآن، والأودية : قلوب العباد، يريد : ينزل القرآن، فيحتمل منه القلوب على قدر اليقينِ، والعقل والشك وكما أنَّ الماء يعلوهُ زيدٌ، والأجساد يخالطها خبثٌ، ثمَّ إنَّ ذلك الزبد، والخبث يذهب، ويضيع، ويبقى جوهر الماء، وجوهر الأجساد السبعة، كذلك ههنا بيانات القرآن يختلط بها شكوك وشهبات، ثمَّ إنها تزول بالآخرة وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة في العاقبة كذلك ههنا ؟
قوله :" أوْديَةٌ " جمع وادٍ، وجمع فال على أفعلة، قال أبو البقاءِ :" شاذٌّ، ولم نسمعه في غير هذا الحرف. ووجهه : أنَّ فاعلاً قد جاء بمعنى فعيل، وكما جاء فعيل وأفعلة كَجرِيب وأجْرِبَة كذلك فاعل ".
قال شهابُ الدين :" قد سمع فَاعِلَة، وأفْعِلَة في حرفين آخرين :
أحدهما : قولهم جَائِر وِأجْوِرَة.
والثاني : نَاجٍ وأنْجِيَة ".
وقال الفارسي :" أودية : جمع واد ولا نعلم فاعلاً جمع على أفْعِلَة، قال :" ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل، وفعيل على الشيء الواحد، كعَالِم وعَلِيم، وشَاهِد وشَهِيد، ونَاصِر ونَصِير، ووزن فاعل يجمع على أفعالٍ كصاحب وأصحابٍ، وطائرْ وأطيارٍ، [ ووزن ] فعيلٍ يجمع على أفْعِلَة كجَرِيبٍ، وأجْرِبَة، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل، وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع العفيل، فيقال : وادٍ وأودية، ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال : يَتِيمٌ وأيْتامٌ، وشَرِيفٌ وأشْرافٌ ".
وقال غيره : ن ظير وادٍ، وأوْدِيَة : نادٍ، وأنْديَة للمجالس وسمي وادِياً : لخروجه وسيلانه، والوادي على هذا اسم للماء السَّائل.
وقال أبو علي :" سَالتْ أوْديةٌ " فيه توسع، أي : يسالُ ماؤها فحذف، ومعنى " بِقدَرِهَا " أي : بقدر مياهها ؛ لأنَّ الأودية ما سالت بقدرِ نفسها ".
قوله :" بِقَدِرهَا " فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ ب : سَالَتْ ".
والثاني : أنَّه متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفةٌ للأودية.
وقرأ العامة بفتح الدال، وزيد بن عليّ، والأشهب العقيلي، وأبو عمرو في رواية بسكونها، وقد تقدَّم في البقرة.
قال الواحدي رحمه الله : القَدْرُ والقَدَر : مبلغ الشَّيء، يقال : كم قَدْر هذه الدَّراهم وقَدَرُهَا ومِقْدَارُها ؟ أي : كم بلغ في القدر وما يكون مساوياً لها في الوزن فهو قَدرُوهَا ".
والمَعنى : بدقرها، من الماء فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتَّسع الوادي كثر الماء.
و " احْتَمَلَ " بمعنى حَمَلَ فافتعل بمعنى المجرَّرد، وإنَّما نكَّر الأودية، وعرف السيل ؛ لأنَّ المطر ينزلُ في البقاع على المناوبة، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض، وعرف السي ؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله، وهو قوله :" فَسَالَتْ "، وهو لو نُكِّر لكان نكرة، فلمَّا أعيد أعيد بلفظ التَّعريف نحو " رَأْتَ رجُلاً فأكْرَمْتُ الرَّجُلَ ".
والزَّبدُ : وضرُ الغليان وخبثه ؛ قال النابغة :[ البسيط ]
٣١٧٦ فَمَا الفُرَاتُ إذا هَبَّ الرِّياحُ لَهُ تَرْمِي غَوارِبهُ العِبْرَيْنِ بالزَّبدِ
وقيل : هو ما يحمله السِّيل من غثاءٍ ونحوه، وما يرمى به ضَفَّتاه من الحباب، وقيل : هو ما يطرحه الوادي إذا [ سال ] ماؤه، وارتفعت أمواجه، وهي عباراتٌ متقاربةٌ.
والزَّبدُ : المستخرج من اللَّبن. قيل : هو مشتقٌّ من هذه لمشابهته إيَّاه في اللون، ويقال : زبدته زبداً، أي : أعطيته مالاً كالزَّبدِ يضرب به المثل في الكثرةِ، وفي الحديث :" غُفِرتْ ذُنوبهُ، ولوْ كَانتْ مِثْلَ زَبدِ البَحْرِ ".
وقوله تعالى :" رَابِياً " قال الزجاج : طافياً عالياً فوق الماءِ ".
وقال غيره : زائداً بسب انتفاخه، يقال : رَبَا يربُوا إذا زاد.
قوله ﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ ﴾ هذا الجار خير مقدم، و " زَبدٌ " مبتدأ، و " مثْلُهُ " صفة المبتدأ، والتقدير : ومن الجواهر التي هي كالنُّحاسِ، والذهب، والفضة زبد، أي : خبثن مثله، أي :" مِثْل زبدِ الماءِ ".
و " مِنْ " في قوله :﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ ﴾ تحتمل وجهين :
[ أحدهما ] : أن تكون لابتداء الغاية، أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماءِ.
والثاني : أنَّها للتبعيض بمعنى : وبعض زبد، هذا مثل آخر.
فالأول : ضرب المثل بالزَّبد الحاصل من المثال، ووجه المماثلة : أنَّ كلاَّ منهما ناشىء من الأكدار.
وقرأ الأخوان، وحفص :" يُوقدُون " بالياء من تحت، أي : النَّاس، والباقون بالتاء من فوق على الخطاب، و " عَليْهِ " متعلق ب :" تُوقِدُونَ ".
وأمَّا " فِي النَّار " ففيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلق ب " تُوقِدُونَ " وهو قول الفارسي، والحوفي، وأبي البقاء.
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف، أي : كائناً، أو ثابتاً، قاله مكيٌّ، وغيره ومنعوا تعلُّقه ب " يُوقِدُونَ " ؛ لأنهم زعموا أنَّه لا يوقد على الشَّيء إلا وهو في النَّار، وتعليق حرف الجر ب " تُقِدُونَ " يقتضي تخصيص حال من حال أخرى، وهذ غيرُ لازمٍ.
قال أبو علي رحمه الله تعالى : وقد يُوقَدُ على الشَّيء، وِإن لم يكن في النَّار، كقوله تعالى :﴿ فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين ﴾ [ القصص : ٢٨ ] فالطينُ لم يكن [ فيها ]، وإنَّما يصيبه لهبها، وأيضاً : فقد يكون ذلك على سبيل التَّوكيد، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ]. والمراد بالحيلةِ : الذهب، والفضة، والمتاع : كل ما يتمتع به.
قوله :" ابْتِغاءَ حِليَةةٍ " فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول من أجله.
والثاني : أنه مصدر في موضع الحالِ، أي : مبتغين حلية، و " حِليَةٍ " مفعولٌ [ في ] المعنى، " أوْ مَتاعٍ " نسق على " حِيلْيةٍ ".
فالحِليَةُ : ما تتزين به. والمتَاعُ : ما يقضون به حوائجهم كالمساحي من الحديد ونحوها.
قوله :" جُفَاءً " حالٌ، والجفاء : قال ابن الأنباري : المتفرق، يقال : جفأتِ الرِّيح السَّحاب، أي : قطعته وفرقته، وقال الفراء : الجفاءُ : الرَّمي، والاطراحُ.
يقال : جَفَا الوادي، أي : غُثَاءه يجفوهُ : جفاءً، إذا رماه، والجفاء اسم للمجتمع منه [ المنضمّ ] بعضه إلى بعض، ويقال : جفَأتِ القِدرُ بزُبْدِهَا تَجْفَأ، وحفاءُ السَّيل : زبده، وأجْفَأ وأجْفَلَ وباللام قرأ رؤبة بن العجاج.
قال أبو حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ؛ لأنَّه كان يأكل الفأر، يعني أنه أعرابي جاف وقد تقدم ثناء الزمخشري عليه أوَّل البقرة، وذكروا فصاحته، وقد وجَّهوا قراءته بأنها من أجفأت الرِّح الغيم، أي : فرقته قطعاً، فهي في المعنى كقراءة العامة بالهمزة.
وفي همزة " جَفَأ " وجهان :
أظهرهما : أنها أصل لثبوتها في تصاريف هذه المادة.
والثاني : أنه بدل من واو، وكأنه مختار أبي البقاء.
وفيه نظر ؛ لأن مادة " جَفَا يَجْفُو " لا يليقُ معناها، والأصل : عدم الاشتراك.

فصل


المعنى : أنَّ الباقي الصَّافي من هذه الجواهر مثل الحق، والزَّبد الذي لا ينتفعُ به مثل الباطل، فأمَّا الزَّبد الذي علا السيل والفلز، فيذهب جفاء، أي : ضائعاً باطلاً، والجفاء، ما رمى به الوادي من الزَّبد، والقدر إلى جنباته.
والمعنى : أنَّ الباطل، وإن علا في وقت فإنه يضمحلُّ، ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشُّبهات.
قوله :﴿ كذلك يَضْرِبُ الله ﴾ الكاف في محل نصب، أي : مثل ذلك الضَّرب يضربُ.
قيل : إنَّما تمَّ الكلام عند قوله :﴿ كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال ﴾.
ثم استأنف الكلام بقوله تعالى :﴿ لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى ﴾ وملحه الرفع بالابتداء، و " للذين " خبره، وتقديره : لهم الخصلة الحسنى، أو الحالة الحسنى.
وقيل : متصل بما قبله، والتقدير : كأنه الذي يبقى، وهو مثل المستجيب، والذي يذهب جفاء مثل الذي لا يستجيب، ثمَّ بين الوجه في كونه مثلاً، أي : لمن يستجيب " الحُسْنَى " وهي الجنَّة، ولمن لا يستجيب الحسرة والعقوبة.
وفيه وجه آخر : وهو أنَّ التقدير : كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى، أي : الاستجابة الحسنى.
واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أحوال السعداء، وأحوال الأشقياء، أما أحوال السعداء، فهي قوله جل ذكره :﴿ لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى ﴾، أي : أنَّ الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد، والتزام الشرائع، فلهم الحسنى.
قال ابن عبَّاس :" الحُسْنَى " الجنَّة.
وأمَّا أحوال الأشقياء، فهي قوله عزَّ وجلَّ :﴿ والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ ﴾، أي لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداءً من النار.
قوله :﴿ لِلَّذِينَ استجابوا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلقٌ ب " يَضْرِبُ "، وبه بدأ الزمخشري قال :" أي : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا ؛ وللكافرين الذين لم يستجيبوا، و " الحُسْنَى " صفة لمصدر " اسْتَجَابُوا "، أي : استجابوا الاستجابة الحسنى، وقوله ﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض ﴾ كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين ".
قال أ بو حيان :" والتفسير الأول أولى " يعني به أن " لِلَّذينَ " خبرٌ مقدمٌ و " الحُسْنَى " متبدأ مؤخَّر كما سيأتي.
إيضاحه قال :" لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذهي وفي غيرهما ؛ ولأنَّ فيه ذكر ثواب المتسجيبين بخلاف قول الزمخشري، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ذكر للمستجيبين من الثواب ؛ ولأن تقديره : الاستجابة الحسنى مشعرٌ بتقييد الاستجابةِ وما قبلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى، والله سبحانه وتعالى قد
نفى الاستجابة مطلقاً، ولأنه على قوله يكون قوله :﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ﴾ كلاماً مفلتا ممَّا قبله، أو كالمفلتِ، إذ يصير المعنى : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين، والكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض، فلو كان التركيب بحذفِ رابط " لو " بما قبلها زال التفلت، وأيضاً : فتوهم الاشتراك في الضمير، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً ".
قال شهاب الدين :" قوله :" لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيَّد " ليس في ما يقول الزمخشري ما يقتضي التّقييد، وقوله : لأن فيه ذكر ثواب المستجيبين إلى آخر ما ذكره الزمخشري أيضاً. على أن يؤخذ من فحواه ثوابهم، وقوله :" والله تعالى نفي الاستجابة مطلقاً " ممنوع، بل نفى تلك الاستجابة الأولى لا يقال : فثبتت لنا استجابة غير حسنى ؛ لأنَّ هذه الصفة لا مفهوم لها، إذ الواقع أنَّ الاستجابة لله لا تكون إلا حسنى.
وقوله :" يصيرُ مُفْلتاً " كيف يكون مع قولِ الزمخشريِّ مبتدأ في ذكر ما أعدَّ لهم، وقوله " وأيضاً فيتوهَّم الاشتراك " كيف يتوهّم هذا بوجه من الوجوه ؟ وكيف يقول ذلك مع قوله : وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً ؟ فإذا علم كيف يتوهَّم ؟ ".
والوجه الثاني : أن يكون " لِلَّذينَ " خبراً مقدماً، والمبتدأ " الحُسْنَى "، و ﴿ والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ ﴾ مبتدأ، و خبره الجملة الامتناعيَّة بعده.
وإنَّما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا لانتفاعهم دون غيرهم ومفعول " افتَدَوا " محذوف، تقديره : لا فتدوا به أنفسهم، أي : جعلوه فداء أنفسهم من العذاب، والهاء في " بِهِ " عائد إلى :" مَا " في قوله :" مَافي الأرضِ ".
ثم قال :﴿ أولئك لَهُمْ سواء الحساب ﴾.
[ قال الزجاج : وذلك لأن كفرهم أحبط أعمالهم.
وقال إبراهيم النخعي رضي الله عنه : سوء الحساب ] أن يحاسب الرجل بذنبه كله، ولا يغفر له منه شيء " ومَأوَاهُمٍ " في الآخرة :﴿ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد ﴾ والفراشُ، أي : بئس ما مهد لهم.
قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق﴾ الآية قد تقدَّم تقرير القولين في «أفَلمْ» وهو نظيرُ «أفَمَنْ»، ومذهب الزمخشريِّ فه بعد هنا.
والمعنى: أنَّ العالم بالشَّيء كالبصير، والجاهل به كالأعمى، وليس أحدهما كالآخر، لأن الأعمى إذا مشى من غير قائدٍ، فرُبَّما وقع في المهالك، أو أفسد ما كان في طريقهن من الأمتعة النافعة، وأمَّا البصير، فإنه يكون آمناً [الهلاك]، والإهلاك.
قيل: نزلت في حمزة، وأبي جهلٍ، وقيل: في أبي عمَّار، وأبي جهلٍ، فالأوَّل حمزة، أو عمَّار، والثاني: أبو جهل، وهو الأعمى، أي: لا يستوي من من يبصر الحق ويتبعه، ومن لا يبصره، ولا يتبعه. ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ﴾ يتعظ ﴿أُوْلُواْ الألباب﴾ ذوو العقول.
﴿الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله﴾ بما أمرهم به، وفرضه عليهم، ولا يخالفونه. ويجوز أن يكون قوله: ﴿الذين يُوفُونَ﴾ صفة ل «أولي الألباب»، ويجوز أن يكون صفة لقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق﴾.
وقيل: ﴿الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله﴾ مبتدأ: و ﴿أولئك لَهُمْ عقبى الدار﴾ خبره لقوله تعالى: ﴿والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله﴾ [الرعد: ٢٥] أولئك لهم اللعنة. وهذه الآية من أوَّلها إلى آخرها جملة واحدة شرطيَّة، وشرطها مشتملٌ على قيودٍ.
القيد الأول قوله: ﴿الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله﴾ قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يريد الذين عاهدهم حين كانوا في صلب آدم صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ [الأعراف: ٣٢] وقيل: المراد ب «عَهْدِ اللهِ» كل أمرٍ قام الدليل على صحَّته.
والقيد الثاني: قوله سبحانه: ﴿وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق﴾، وهذا قريبٌ من الوفاء بالعهد؛ فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق؛ فهما متلازمان.
وقيل: الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه من الطاعات كالنذر، والوفاء بالعهد ما كلف العبد به ابتداء.
وقيل: الوفاءُ بالعهدِ: عهد الربوبيَّة، والعبودية، والمراد بالميثاق: المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند ظهوره.
292
وقيل: المراد من الوفاء بالعهد: أن لا يغدر فيه، قال عليه أفضل الصلاة والسلام: «مَنْ عَاهدَ اللهَ فَغَدرَ كَانَ فِيهِ خَصْلةٌ مِنَ النِّفاقِ».
القيد الثالث: قوله تعالى: ﴿والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾.
قيل: أراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل، و: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥].
وقال الأكثرون: المراد صلة الرَّحم.
فِإن قيل: الوفاء بالعهد، وترك نقض الميثاقِ اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات، والاحتراز عن كل المنهيات. فما الفائدة في ذكر هذه القيود بعدهما؟
فالجواب من وجهين:
[الأول] : ذكر ذلك لئلا يظنَّ طانٌّ أنَّ ذلك، فيمابينهن، وبين ربه، فلا جرم أفرد ما بينه، وبين العباد، بالذكر.
والثاني: أنه تأكيدٌ، وفي [تفسير] هذه الصِّلة وجوه:
أحدهما: صلة الرَّحم، قال صلوات الله وسلامه عليه حاكياً عن ربِّه عَزَّ وَجَلَّ أنا الرَّحمنُ، وهِيَ الرَّحمُ شققتُ لها اسماً من اسْمِي فمنْ وصلها وصلتهُ ومن قَطهَا [قَطَعْتُهُ] قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: ٢٢].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ثَلاثَةٌ يَأتِينَ يَوْمَ القِيامة لها ذَلَق: تأتي الرَّحِمُ تقول: أيْ ربِّ قُطِعْتُ، والأمَانَةُ تقول: أي ربِّ تُركت، والنِّعمة تقول: أي ربِّ كُفِرْتُ».
وثانيها: المراد صلة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومؤازرته ونصرته في الجهادِ.
وثالثاً: رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه صلة الرَّحم، وأخوة الإيمان قال تعالى: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] ويدخل في هذه الصلة أيضاً إمدادهم بالخيرات، ودفع الآفات بقدر الإمكان، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، وإفشاء السلام والتبسم في وجوههم، وكف الأذى عنهم، ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة، والدجاجة.
القيد الرابع: قوله: «وَخْشَوْنَ ربَّهُمْ» معناه: أنَّ العبد، وإن قام بكُلِّ ما جَاءَ عليه
293
من تعظيم الله، والشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد من وأن تكون الخشية من الله عَزَّ وَجَلَّ والخوف منه مستويان.
والفرق بين الخشية، والخوف: أنَّ الخشية أن تخشى وقوع خلل إمَّا بزيادةٍ، أو نقصٍ فيما يأتي به، والخوفُ: هو مخافة الهيبة والجلال.
القيد الخامس: قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ﴾.
وهذا القيد هو المخافة من سوءِ الحسابِ، وهو خوف الجلال، والعظمة، والمهابة، وإلا لزم التكرار.
القيد السادس: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾.
قال ابن عبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «عَلى أمْرِ اللهِ». وقال عطاء: «على المصائب». وقيل: على الشَّهوات.
واعلم أنَّ العبد قد يصبر لوجوه:
إما أن يصبر ليقال: ما أصبره، وما أشد قوته على تحمل النَّوائب.
وإما أن يصبر لئلا يعاب على الجزع.
وإما أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء، وإما أن يصبر لعلمه أنَّ الجزع لا فائدة فيه.
فإذا كان أتى بالصَّبر لأحد هذه الوجوه، لم يكن داخلاً في كمالِ النفس، أمَّا إذا صبر على البلاء لعلمه أن البلاء قسمة القاسم الحكيم العلام المنزه عن العبث، الباطل، والسَّفه وأنَّ تلك القسمة مشتملةٌ على حكمةٍ بالغةٍ، ومصلحةٍ راجحةٍ، ورضي بذلك؛ لأنَّه لا اعتراض على المالك في تصرُّفه في ملكه، فهذا هو الذي يصدق عليه أنه صبر ابتغاء وجه ربه؛ لأنه صبر لمجرَّد طلب رضوان الله.
القيد السابع: قوله تعالى: ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ واعلم أنَّ الصَّلاة، والزَّكاة، وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى، إلاَّ أنه تعالى أفردهما بالذِّكر تنبيهاً على كونهما أشرف سائر العبادات، ولا يتمنع دخول النَّوافل فيه أيضاً.
القيد الثامن: قوله تعالى: ﴿وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ قال الحسنُ رضي اكلله عنه: المراد الزكاة المفروضة فِإن لم يتَّهم بتركها أدَّاهَا سرًّا، وإن اتهم بتركها فالأولى أداؤها في العلانية. وقيل: السرُّ: ما يؤديه بنفسه، والعلانية: ما يؤديه إلى الإمام.
وقيل: العلانية: الزكاة، والسر: صدقة التَّطوع.
القيد التاسع: قوله تعالى: ﴿وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة﴾ قيل: إذا أتوا المعصية، درءوها، أو دفعوها بالحسنة.
294
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «يدفعون بالصَّالح من العمل السيّىء من العمل، وهو معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات﴾ [هود: ١٤].
وقال صلوات الله وسلامه عليه لمعاذ بن جبلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:»
إذا عَملْتَ سَيِّئةً فاعْمَلْ بِجَنْبهَا حَسَنةً تَمْحُهَا، السِّرُّ بالسِّرِّ، والعَلانيةُ بالعَلانِيَة «.
وقيل: لا تقابلوا الشَّر بالشَّر، بل قابلوا الشَّر بالخير، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً﴾ [الفرقان: ٧٢] ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً﴾ [الفرقان: ٦٣] قال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا.
قال عبد الله بن المبارك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:»
فهذه ثماني خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنَّة «.
واعلم أنَّ هذه القيود هي القيودُ المذكورة في الشَّرط، وأمَّا القيودُ المذكورة في الجزاء، فهي قوله تعالى: ﴿أولئك لَهُمْ عقبى الدار﴾، أي عاقبة الدار، وهي الجنَّة.
قال الواحديُّ:»
العُقْبَى كالعاقبة، ويجوز أن يكون مصدراً كالشُّورى والقُربى والرُّجعى، وقد يجيء مثل هذا أيضاً على «فَعْلَى» كالنَّجْوى والدَّعوى وعلى «فِعْلَى» كالذِّكرى والضِّيزى، ويجوز أن يكون اسماً وهو هاهنا مصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى: أولئك لهم أن تعاقب أحوالهم الدار التي هي الجنة «.
قوله:»
أؤْلئِكَ «مبتدأ، و» عُقْبَى الدَّارِ «يجوز أن يكون مبتدأ خبره الجار قبله والجملة خبر» أوْلئِكَ «، يجوز أن يكون» لهم «خبر» أولئك «و» عقبى «فاعل بالاستقرار. قوله:» جنات عدن «يجوز أن يكون بدلاً من» عُقْبَى «وأن يكون بياناً، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون متبدأ خبره» يَدْخُلونهَا «.
وقرأ النخعي:»
جَنَّة «بالإفراد، وتقدم الخلاف في ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ [الرعد: ١٣] والجملة من» يَدْخُلونَهَا «تحتمل الاستئناف أو الحالية المقدرة.
قوله:»
ومَنْ صَلَحَ «يجوز أن يكون مرفوعاً عطفاً على الواو، وأغنى الفصل بالمفعول عن التأكيد بالضمير المنفصل، وأن يكون منصوباً على المفعول معه، وهو مرجوح.
295
وقرأ ابن أبي عبلة» صَلُحَ «بضم اللام، وهي لغة مرجوحة.
قوله: ﴿مِنْ آبَائِهِمْ﴾ في محل الحال من»
مَنْ صَلَحَ «و» مِنْ «لبيان الجنس.
وقرأ عيسى الثقفي: «ذُرِّيتَهُم»
بالتوحيد؟

فصل


قوله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ هو القيد الثاني، وقد تقدم الكلام في ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ عند قوله ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ [التوبة: ٧٢].
والقيد الثالث: هو قوله «ومَنْ صَلَحَ» قال ابن عباس: يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعلم مثل أعمالهم.
وقال الزجاج: «بين تعالى أن الأنتساب لا تنفع إذا لم يحصل معه أعمال صالحة»، بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصاحلة.
قال الواحدي: «والصحيح ما قاله ابن عباس؛ لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله في الجنة، وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع، الآتي بالأعمال الصالحة، ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع، فلا فائدة في الوعد به، إذ كل من كان صالحاً في عمله فهو يدخل الجنة».
قال ابن الخطيب: «وهذه الحجة ضعيفة؛ لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سروراً وبهجة، فإذا بشر الله المكلف أنه إذا دخل الجنة يجد أباه وأولاده، فلا شك يعظم سروره بذلك وهذا الذي قاله وإن كان فيه مزيد سرور، لكنه إذا علم أنهم إنما دخلوا الجنة إكراماً له كان سروره أعظم وبهجته أتم».
قوله: «وأزْوَاجُهُمْ» ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه، قاله ابن الخطيب.
وفيه نظر؛ لأنه لو مات عنها فتزوجت بعده غيره لم تكن من أزواجه، بل الأولى أن يقال: إن من ماتت في عصمته فقط.
والقيد الرابع: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ﴾ [قيل: من أبواب الجنة، وقيل: من أبواب القصور، وقال الأصم: من كل باب] من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر، يقولون: نعم ما أعقبكم الله بهذه الدار.
296

فصل


تمسّك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال: ِإنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم والسلام، فكانوا أجل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم موجباً علو درجتهم وشرف مراتبهم، ألا ترى أن من عاد من سفره أو مرضه فعاده الأمير والوزير والقاضي والمفتي فتعظم درجته عند سائر الناس فكذا هاهنا.
قوله: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ الآية قال الزجاج: «ههنا محذوف تقديره والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون: سلام عليكم، فأضمر القول ههنا؛ لأن في الكلام دليلاً عليه والجملة محكية بقول مضمر والقول المضمر حال من فاعل» يَدخُلون «أي يدخلون قائلين. قوله» بِمَا صَبرْتُمْ «متعلق بما تعلق به» عَلَيْكُمْ «.
قال ابن الخطيب: متعلق بمحذوف، أي: أن هذه الكرامات التي ترونها إنما حصلت بصبركم و «ما»
مصدرية، أي: سبب صبركم، ولا يتعلق ب «سَلامٌ»، لأنه لا يفصل بين المصدر ومعموله بالخبر قاله أبو البقاء.
وقال الزمخشري: «ويجوز أن يتعلق ب» سَلامٌ «أي: نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم».
ولما نقله عنه أبو حيان لم يعترض عليه بشيء. والظاهر أنه لا يعترض عليه بما تقدم لأن ذلك في المصدر المؤول بحرف مصدري وفعل هذا المصدر ليس من ذلك، والباء إما سببية كما تقدم، وإما بمعنى بدل أي: بدل صبركم، أي: بما احتملتم مشاق الصبر؟
وقيل: «بمَا صَبَرتُم» خبر مبتدأ مضمر، أي: هذا [الثواب] الجزيل بما صبرتم.
وقرأ الجمهور: «فَنِعْمَ» بكسر النون وسكون العين، وابن يعمر بالفتح والكسر وقد تقدم أنها الأصل؛ كقوله: [الرمل]
٣١٧٧ -...................... نَعِمَ السَّاعُون في الأمْرِ الشُّطُرْ
وابن وثاب بالفتح والسكون، وهي تخفيف الأصل، ولغة تميم تسكين عين فعل مطلقاً والمخصوص بالمدح محذوف، أي: الجنة.
297
﴿ الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله ﴾ بما أمرهم به، وفرضه عليهم، ولا يخالفونه. ويجوز أن يكون قوله :﴿ الذين يُوفُونَ ﴾ صفة ل " أولي الألباب "، ويجوز أن يكون صفة لقوله عز وجل :﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق ﴾.
وقيل :﴿ الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله ﴾ مبتدأ : و ﴿ أولئك لَهُمْ عقبى الدار ﴾ خبره لقوله تعالى :﴿ والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله ﴾ [ الرعد : ٢٥ ] أولئك لهم اللعنة. وهذه الآية من أوَّلها إلى آخرها جملة واحدة شرطيَّة، وشرطها مشتملٌ على قيودٍ.
القيد الأول قوله :﴿ الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله ﴾ قال ابن عباسٍ رضي الله عنه : يريد الذين عاهدهم حين كانوا في صلب آدم صلوات الله وسلامه عليه :﴿ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ] وقيل : المراد ب " عَهْدِ اللهِ " كل أمرٍ قام الدليل على صحَّته.
والقيد الثاني : قوله سبحانه :﴿ وَلاَ ينقُضُونَ الميثاق ﴾، وهذا قريبٌ من الوفاء بالعهد ؛ فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق ؛ فهما متلازمان.
وقيل : الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه من الطاعات كالنذر، والوفاء بالعهد ما كلف العبد به ابتداء.
وقيل : الوفاءُ بالعهدِ : عهد الربوبيَّة، والعبودية، والمراد بالميثاق : المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم عند ظهوره.
وقيل : المراد من الوفاء بالعهد : أن لا يغدر فيه، قال عليه أفضل الصلاة والسلام :" مَنْ عَاهدَ اللهَ فَغَدرَ كَانَ فِيهِ خَصْلةٌ مِنَ النِّفاقِ ".
القيد الثالث : قوله تعالى :﴿ والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾.
قيل : أراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل، و :﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ].
وقال الأكثرون : المراد صلة الرَّحم.
فِإن قيل : الوفاء بالعهد، وترك نقض الميثاقِ اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات، والاحتراز عن كل المنهيات. فما الفائدة في ذكر هذه القيود بعدهما ؟
فالجواب من وجهين :
[ الأول ] : ذكر ذلك لئلا يظنَّ ظانٌّ أنَّ ذلك، فيما بينهن، وبين ربه، فلا جرم أفرد ما بينه، وبين العباد، بالذكر.
والثاني : أنه تأكيدٌ، وفي [ تفسير ] هذه الصِّلة وجوه :
أحدهما : صلة الرَّحم، قال صلوات الله وسلامه عليه حاكياً عن ربِّه عز وجل أنا الرَّحمنُ وهِيَ الرَّحمُ شققتُ لها اسماً من اسْمِي فمنْ وصلها وصلتهُ ومن قَطهَا [ قَطَعْتُهُ ] قال تعالى :﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ [ محمد : ٢٢ ].
وقال صلى الله عليه وسلم :" ثَلاثَةٌ يَأتِينَ يَوْمَ القِيامة لها ذَلَق : تأتي الرَّحِمُ تقول : أيْ ربِّ قُطِعْتُ، والأمَانَةُ تقول : أي ربِّ تُركت، والنِّعمة تقول : أي ربِّ كُفِرْتُ ".
وثانيها : المراد صلة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ومؤازرته ونصرته في الجهادِ.
وثالثاً : رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه صلة الرَّحم، وأخوة الإيمان قال تعالى :﴿ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾ [ الحجرات : ١٠ ] ويدخل في هذه الصلة أيضاً إمدادهم بالخيرات، ودفع الآفات بقدر الإمكان، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، وإفشاء السلام والتبسم في وجوههم، وكف الأذى عنهم، ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة، والدجاجة.
القيد الرابع : قوله :" وَيخْشَوْنَ ربَّهُمْ " معناه : أنَّ العبد، وإن قام بكُلِّ ما جَاءَ عليه من تعظيم الله، والشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد من وأن تكون الخشية من الله عز وجل والخوف منه مستويان.
والفرق بين الخشية، والخوف : أنَّ الخشية أن تخشى وقوع خلل إمَّا بزيادةٍ، أو نقصٍ فيما يأتي به، والخوفُ : هو مخافة الهيبة والجلال.
القيد الخامس : قوله عز وجل :﴿ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴾.
وهذا القيد هو المخافة من سوءِ الحسابِ، وهو خوف الجلال، والعظمة، والمهابة، وإلا لزم التكرار.
القيد السادس : قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ ﴾.
قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما :" عَلى أمْرِ اللهِ ". وقال عطاء :" على المصائب ". وقيل : على الشَّهوات.
واعلم أنَّ العبد قد يصبر لوجوه :
إما أن يصبر ليقال : ما أصبره، وما أشد قوته على تحمل النَّوائب.
وإما أن يصبر لئلا يعاب على الجزع.
وإما أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء، وإما أن يصبر لعلمه أنَّ الجزع لا فائدة فيه.
فإذا كان أتى بالصَّبر لأحد هذه الوجوه، لم يكن داخلاً في كمالِ النفس، أمَّا إذا صبر على البلاء لعلمه أن البلاء قسمة القاسم الحكيم العلام المنزه عن العبث، الباطل، والسَّفه وأنَّ تلك القسمة مشتملةٌ على حكمةٍ بالغةٍ، ومصلحةٍ راجحةٍ، ورضي بذلك ؛ لأنَّه لا اعتراض على المالك في تصرُّفه في ملكه، فهذا هو الذي يصدق عليه أنه صبر ابتغاء وجه ربه ؛ لأنه صبر لمجرَّد طلب رضوان الله.
القيد السابع : قوله تعالى :﴿ وَأَقَامُواْ الصلاة ﴾ واعلم أنَّ الصَّلاة، والزَّكاة، وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى، إلاَّ أنه تعالى أفردهما بالذِّكر تنبيهاً على كونهما أشرف سائر العبادات، ولا يتمنع دخول النَّوافل فيه أيضاً.
القيد الثامن : قوله تعالى :﴿ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ قال الحسنُ رضي اكلله عنه : المراد الزكاة المفروضة فِإن لم يتَّهم بتركها أدَّاهَا سرًّا، وإن اتهم بتركها فالأولى أداؤها في العلانية. وقيل : السرُّ : ما يؤديه بنفسه، والعلانية : ما يؤديه إلى الإمام.
وقيل : العلانية : الزكاة، والسر : صدقة التَّطوع.
القيد التاسع : قوله تعالى :﴿ وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة ﴾ قيل : إذا أتوا المعصية، درءوها، أو دفعوها بالحسنة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما :" يدفعون بالصَّالح من العمل السيّىء من العمل، وهو معنى قوله تعالى :﴿ إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ﴾ [ هود : ١٤ ].
وقال صلوات الله وسلامه عليه لمعاذ بن جبلٍ رضي الله عنه :" إذا عَملْتَ سَيِّئةً فاعْمَلْ بِجَنْبهَا حَسَنةً تَمْحُهَا، السِّرُّ بالسِّرِّ، والعَلانيةُ بالعَلانِيَة ".
وقيل : لا تقابلوا الشَّر بالشَّر، بل قابلوا الشَّر بالخير، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ] ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ] قال الحسن : إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا.
قال عبدالله بن المبارك رضي الله عنه :" فهذه ثماني خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنَّة ".
واعلم أنَّ هذه القيود هي القيودُ المذكورة في الشَّرط، وأمَّا القيودُ المذكورة في الجزاء، فهي قوله تعالى :﴿ أولئك لَهُمْ عقبى الدار ﴾، أي عاقبة الدار، وهي الجنَّة.
قال الواحديُّ :" العُقْبَى كالعاقبة، ويجوز أن يكون مصدراً كالشُّورى والقُربى والرُّجعى، وقد يجيء مثل هذا أيضاً على " فَعْلَى " كالنَّجْوى والدَّعوى وعلى " فِعْلَى " كالذِّكرى والضِّيزى، ويجوز أن يكون اسماً وهو هاهنا مصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى : أولئك لهم أن تعاقب أحوالهم الدار التي هي الجنة ".
قوله :" أؤْلئِكَ " مبتدأ، و " عُقْبَى الدَّارِ " يجوز أن يكون مبتدأ خبره الجار قبله والجملة خبر " أوْلئِكَ "، يجوز أن يكون " لهم " خبر " أولئك " و " عقبى " فاعل بالاستقرار.
قوله :" جنات عدن " يجوز أن يكون بدلاً من " عُقْبَى " وأن يكون بياناً، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون متبدأ خبره " يَدْخُلونهَا ".
وقرأ النخعي :" جَنَّة " بالإفراد، وتقدم الخلاف في ﴿ يَدْخُلُونَهَا ﴾ [ الرعد : ١٣ ] والجملة من " يَدْخُلونَهَا " تحتمل الاستئناف أو الحالية المقدرة.
قوله :" ومَنْ صَلَحَ " يجوز أن يكون مرفوعاً عطفاً على الواو، وأغنى الفصل بالمفعول عن التأكيد بالضمير المنفصل، وأن يكون منصوباً على المفعول معه، وهو مرجوح.
وقرأ ابن أبي عبلة " صَلُحَ " بضم اللام، وهي لغة مرجوحة.
قوله :﴿ مِنْ آبَائِهِمْ ﴾ في محل الحال من " مَنْ صَلَحَ " و " مِنْ " لبيان الجنس.
وقرأ عيسى الثقفي :" ذُرِّيتَهُم " بالتوحيد ؟

فصل


قوله تعالى :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ هو القيد الثاني، وقد تقدم الكلام في ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ عند قوله ﴿ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ [ التوبة : ٧٢ ].
والقيد الثالث : هو قوله " ومَنْ صَلَحَ " قال ابن عباس : يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم.
وقال الزجاج :" بين تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معه أعمال صالحة "، بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصاحلة.
قال الواحدي :" والصحيح ما قاله ابن عباس ؛ لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله في الجنة، وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع، الآتي بالأعمال الصالحة، ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع، فلا فائدة في الوعد به، إذ كل من كان صالحاً في عمله فهو يدخل الجنة ".
قال ابن الخطيب :" وهذه الحجة ضعيفة ؛ لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سروراً وبهجة، فإذا بشر الله المكلف أنه إذا دخل الجنة يجد أباه وأولاده، فلا شك يعظم سروره بذلك وهذا الذي قاله وإن كان فيه مزيد سرور، لكنه إذا علم أنهم إنما دخلوا الجنة إكراماً له كان سروره أعظم وبهجته أتم ".
قوله :" وأزْوَاجُهُمْ " ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه، قاله ابن الخطيب.
وفيه نظر ؛ لأنه لو مات عنها فتزوجت بعده غيره لم تكن من أزواجه، بل الأولى أن يقال : إن من ماتت في عصمته فقط.
والقيد الرابع :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ ﴾ [ قيل : من أبواب الجنة، وقيل : من أبواب القصور، وقال الأصم : من كل باب ] من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر، يقولون : نعم ما أعقبكم الله بهذه الدار.

فصل


تمسّك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال : ِإنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم والسلام، فكانوا أجل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم موجباً علو درجتهم وشرف مراتبهم، ألا ترى أن من عاد من سفره أو مرضه فعاده الأمير والوزير والقاضي والمفتي فتعظم درجته عند سائر الناس فكذا هاهنا.
قوله :﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾ الآية قال الزجاج :" ههنا محذوف تقديره والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون : سلام عليكم، فأضمر القول ههنا ؛ لأن في الكلام دليلاً عليه والجملة محكية بقول مضمر والقول المضمر حال من فاعل " يَدخُلون " أي يدخلون قائلين. قوله " بِمَا صَبرْتُمْ " متعلق بما تعلق به " عَلَيْكُمْ ".
قال ابن الخطيب : متعلق بمحذوف، أي : أن هذه الكرامات التي ترونها إنما حصلت بصبركم و " ما " مصدرية، أي : سبب صبركم، ولا يتعلق ب " سَلامٌ "، لأنه لا يفصل بين المصدر ومعموله بالخبر قاله أبو البقاء.
وقال الزمخشري :" ويجوز أن يتعلق ب " سَلامٌ " أي : نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم ".
ولما نقله عنه أبو حيان لم يعترض عليه بشيء. والظاهر أنه لا يعترض عليه بما تقدم لأن ذلك في المصدر المؤول بحرف مصدري وفعل هذا المصدر ليس من ذلك، والباء إما سببية كما تقدم، وإما بمعنى بدل أي : بدل صبركم، أي : بما احتملتم مشاق الصبر ؟
وقيل :" بمَا صَبَرتُم " خبر مبتدأ مضمر، أي : هذا [ الثواب ] الجزيل بما صبرتم.
وقرأ الجمهور :" فَنِعْمَ " بكسر النون وسكون العين، وابن يعمر بالفتح والكسر وقد تقدم أنها الأصل ؛ كقوله :[ الرمل ]
٣١٧٧. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** نَعِمَ السَّاعُون في الأمْرِ الشُّطُرْ
وابن وثاب بالفتح والسكون، وهي تخفيف الأصل، ولغة تميم تسكين عين فعل مطلقاً والمخصوص بالمدح محذوف، أي : الجنة.
قوله: ﴿والذين يَنقُضُونَ﴾ مبتدأ، والجملة من قوله ﴿أولئك لَهُمُ اللعنة﴾ خبره، والكلام في «اللعنة» تقدم في «عُقْبَى الدَّارِ.
ولما ذكر صفة السعداء وما يترتب عليها من الأحوال الشريفة، ذكر صفة الأشقياء وما يترتب عليها من الأحوال المخزية، وابتع الوعد بالوعيد فقال عَزَّ وَجَلَّ ﴿والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ وقد تقدم أن عهد الله ما ألزم عباده مما يجب الوفاء به وهذا في الكفار، والمراد من نقض العهد: ألا ينظر في الأدلة وحينئذ لا يكون العمل بموجبها أو ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعمله أو ينظر في الشبهة فيعتقد خلاف الحق، والمراد من قوله:»
مِن بَعْدِ ميثاقهِ «أن وثق الله تلك الأدلة وأحكامها.
فإن قيل: العهد لا يكون إلا مع الميثاق، فما فائدة اشتراطه بقوله: ﴿مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ ؟.
فالجواب: لا يمتنع أن يكون المراد بالعهد هو ما كلف العبد به والمراد بالميثاق الأدلة؛ لأنه تعالى قد يؤكد [العهد] بدلائل أخر سواء كانت تلك المؤكدات دلائل عقلية أو سمعية.
ثم قال ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ فيدخل فيه قطع كل ما أوجب الله وصله مثل: أن يؤمنوا ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض، ويقطعون وصل الرسول بالموالاة والمعاونة، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام وسائر ما تقدم.
ثم قال: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض﴾ إما بالدعاء إلى غير دين اكلله وإما بالظلم كما في النفوس والأموال وتخريب البلاد ثم قال: ﴿أولئك لَهُمُ اللعنة﴾ وهي الإبعاد من خيري الدنيا والآخرة ﴿وَلَهُمْ سواء الدار﴾ وهي جنهم.
قوله ﴿الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ﴾ الآية لما حكى عن ناقضي العهد في التوحيد والنبوة بأنهم ملعونين ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل: لو كان أعداء الله لما أنعم عليهم في الدنيا؟ فأجاب الله تعالى عنه بهذه الآية وهو أنه تعالى يبسط الرزق على البعض، وبسط الرزق لا تعلق له بالكفر والإيمان، فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن، والدنيا دار امتحان.
298
قال الواحدي:» ومعنى القدر في اللغة: قطع الشيء على مساوة غيره من غير زيادة ولا نقصان «.
وقال المفسرون في معنى»
يَقْدرُ «ههنا: يضيق، لقوله ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: ٧] ومعناه: أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء.
وقرأ زيد بن علي:»
ويَقْدُر «بضم العين.
قوله:»
وفَرِحُوا «هذا استئناف إخبار. وقيل: بل هو عطف على صلة» الذين «قبل.
وفيه نظر؛ من حيث الفصل بين أبعاض الصلة بالخبر، وأيضاً: فإن هذا ماض وما قبله مستقبل ولا يدعي التوافق في الزمان إلا أن يقال: المقصود استمرارهم بذلك أو أن الماضي متى وقع صلة صلح [للماضي] والاستقبال.
قوله «فِي الآخِرَةِ»
، أي في جنب الآخرة.
«إلاَّ مَتاعٌ» وهذا الجار في موضع الحال تقديره: وما الحياة القريبة الكائنة في جنب الآخرة إلا متاع ولا يجوز تعلقه بالحياة ولا بالدنيا لأنهما لا يقعان إلا في الآخرة.
ومعنى الآية: أن [مشركي] مكة أشروا وبطروا، والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام محال ﴿وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ﴾ أي قليل ذاهب.
قوله: ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ ألآية اعلم أن كفار مكمة قالوا: يا محمد فأجابهم الله بقوله ﴿إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾.
وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه:
أحدها: كأنه يقول: إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، لكن [الإضلال] والهداية من الله فأضلهم عن تلك الآيات وهدى إليها آخرين، فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات.
وثانيها: أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام كانت أكثر من أن تصير مشتبه على العاقل فلما طلبوا بعدها آيات أخر كان في موضع التعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم ﴿إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ﴾ من كان على صنيعكم من التصميم على الكفر فلا سبيل إلى هدايتكم وإن نزلت كل آية: «ويَهْدِي» من كان على خلاف صنيعكم.
299
وثالثها: لما طلبوا سائر الآيات والمعجمزات فكأنه قال لهم: لا فائدة في ظهور الآيات والمعجزات، فإن الإضلال والهداية من الله تعالى فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية من الله فإنه لم يحصل الانتفاع بها.
ورابعها: قال الجبائي: المعنى: أنه يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم الإضلال عن الثواب ﴿ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾، أي: يهدي إلى جنته من [تاب] وآمن. قال: وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث إنه عقبه بقوله: «من أناب»، أي: من تاب.
والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب؛ لأنه يستحقه على إيمانه وذلك يدل على أنه تعالى إنما يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا هذا تمام كلام الجبائي.
والضمير في «إليه» عائد على الله، أي: إلى دينه وشرعه. وقيل على الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وقيل: على القرآن.
قوله: ﴿الذين آمَنُواْ﴾ يجوز فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ خبره الموصول الثاني وما بينهما اعتراض.
الثاني: أنه بدل من «مَنْ أنَابَ».
والثالث: أنه عطف بيان له.
الرابع: أنه خبر مبتدأ مضمر.
الخامس: أنه منصوب بإظمار فعل.

فصل


قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إذا سمعوةا القرآن خشتع قلوبهم واطمأنت.
فإن قيل: أليس قال في سورة الأنفال: ﴿إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: ٢] والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم هنا بالاطمئنان؟.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أ، هم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا أن [يقربوا] المعاصي فهناك الوجل وإذا ذكروا ما وعد الله به من الثواب والرحمة سكنت قلوبهم، فإن أحد الأمرين لا ينافي الآخر؛ لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب.
وثانيها: أن المراد أن يكون القرآن معجزاً يوجب حصو الطمأنينة لهم في كون
300
محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نبياً حقاً من عند الله، ولما شكوا في أنهم أتوا بالطاعات كاملة فيوجب حصول الوجل في قلوبهم.
وثالثها: أنه حصل في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعات الموجبة للثواب أم لا؟ وهل احترزوا عن المصعية الموجبة للعقاب أم لا؟.
وقيل: الوجل عند ذكر الله: الوعيد والعقاب، الطمأنينة عند ذكر الله عزّ وجل: الوعد والثواب، فالعقاب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه، وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وكرمه ﴿أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب﴾ تسكن قلوب المؤمنين ويستقر فيه اليقين.
قال ابن عباس رَحِمَهُ اللَّهُ: «هذا في الحلف، يقول: إذا حلف السملم بالله على شيء تسكن قولب المؤمنين إليه».
قوله ﴿بِذِكْرِ الله﴾ يجوز أن يتعلق ب «تَطْمئِنُّ» فتكون الياء سببية، أي: بسبب ذكر الله.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن مفعولاً به، أي: الطمأنينة تحصل لهم بذكر الله.
الثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «قلوبهم»، أي: تطمئن وفيها ذكر الله.
قوله: ﴿الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ فيه أوجه:
أن يكون بدلاً من «القُلوب» على حذف مضاف أي: قلوب الذين أمنوا وأن يكمون بدلاً من «مَنْ أنَابَ»، وهذا على قول من لم يجعل الموصول الأول بدلاً من «مَنْ أنَابَ» وإلا كان يتوالى بدلان، وأن يكون مبتدأ، و «طُوبَى» جملة خبرية، وأن تكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون منصوباً بإضمار فعل، والجملة من «طُوبى لَهُمْ» على هذين الوجهين حال مقدرة، والعامل فيها ءامَنُوا «و» عَمِلُوا:.
قوله «طُوبى لَهُم» وتاو «طُوبَى» منقلبة عن ياء، لأنها من الطيب وإنما قلبت لأجل الضمة قبلها، كموسر وموقن من اليسر واليقين واختلفوا فيها، فقيل: هي اسم مفرد مصدري، كبُشْرَى ورُجْعَى من طَابَ يطِيبُ.
وقيل: بل هي جميع طيبة، كما قالوا: كوسى في جمع كيسة، وضُوقَى في جمع ضِيقَة.
ويجوز أن يقال: طِيبى، بكسر الباء، وكذلك الكِيسَى والضِّيقَى. وهل هي اسم شجرة بعينها أو اسم للجنة بلغة الهند أو الحبشة؟.
وجاز الابتداء ب «طُوبَى» إما لأنها علم لشيء بعينه، وإما لأنها نكرة في معنى الدعاء، كسلام عليك، وويل لك، كذا قال سيبويه.
وقال ابن مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: «إنه يلتزم رفعها بالابتداء، ولا يدخل عليها نواسخه»
301
وهذا يرد عليه: أن بعضهم جعلها في هذا الآية منصوبة بإضمار فعل، اي: وجعل لهم طوبى، وقد تأيد ذلك بقراءة عيسى الثقفي «وحُسْنَ مآبٍ» بنصب النون، قال: إنه معطوف على «طُوبَى» وأنها في موضع نصب.
قال ثعلب: و «طُوبَى» على هذا مصدر، كما قال: «سقيا».
وخرج هذه القراءة صاحب اللوامح على النداء، كيا أسَفَى على الفوت، يعنى أن «طُوبَى» مضاف للضمير معه واللام مقحمة؛ كقوله: [البسيط]
٣١٧٨ -................. يَا بُؤسَ لِلجَهْلِ ضَرَّاراً الأقْوامِ
وقوله: [مجزوء الكامل]
٣١٧٨ - يَا بُؤسَ لِلحَرْبِ الَّتِي وضَعْتْ أرَاهِطَ قاستراحُوا
ولذلك سقط التنوين من «بُؤسَ: كأنه قيل: يا طيبا، أي: ما أطيبهم وأحسن مآبهم.
قال الزمخشري:»
ومعنى «طُوبَى لَكَ» : أصحبت خيراً، و «طيبا» ومحلها النصب أو الرفع، كقولك: طيبا لك وطيبٌ لك، وسلاماً لك وسلام لك والقراءة ف يقوله «وحُسن مَآبٍ» بالنصب والرفع يدل على محلها، واللام مفي «لَهُمْ» للبيان مثلها في «سقيا لك» فهذا يدل على أنها تتصربف، ولا يلزم الرمفع بالابتداء.
وقرأ مكوزوة الأعرابي: «طِيبَى» بكسر الطاء لتسليم الياء، نحو: بيض ومعيشة.
وقرىء: «وحُسْنَ مَآبٌ» بفتح النون ورفع «مآبٌ» على أنه فعل ماض، أصله حَسُنَ فنقلت ضمة العين إلى الفاء قصداً للمدح، كقوله: حسن ذا أدب، و «مَآبُ» فاعله.

فصل


قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: طوبى، فرح لهم وقرة عين.
وقال عكرمة: نعم ما لهم. وقال قتادة: حسنى لهم.
302
وقال معمر عن قتادة: هذه كلمة عربية، يقول الرجل: طوبى لك، أي: أصبت خيراً.
وقال إبراهيم رَحِمَهُ اللَّهُ: خير لهم وكرامة. وقال الفراء: وفيه لغتان: تقول العرب: طوباك، وطوبى لك، أي لهم الطيب «وحُسْنَ مَآبٍ» أي: حسن المنقلب.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: «طُوبَى: اسم الجنة بالحبشية.
وقال الربيع: البستان بلغة الهند. وقال الزجاج: العيش الطيب لهم وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرجاء قالوا: طوبى شجرة في الجنة تظل الجنان كلها وقيل فيها غير ذلك.
303
قوله ﴿ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ ﴾ الآية لما حكى عن ناقضي العهد في التوحيد والنبوة بأنهم ملعونون ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل : لو كان أعداء الله لما أنعم عليهم في الدنيا ؟ فأجاب الله تعالى عنه بهذه الآية وهو أنه تعالى يبسط الرزق على البعض، وبسط الرزق لا تعلق له بالكفر والإيمان، فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن، والدنيا دار امتحان.
قال الواجي :" ومعنى القدر في اللغة : قطع الشيء على مساوة غيره من غير زيادة ولا نقصان ".
وقال المفسرون في معنى " يَقْدرُ " ههنا : يضيق، لقوله ﴿ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ﴾ [ الطلاق : ٧ ] ومعناه : أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء.
وقرأ زيد بن علي :" ويَقْدُر " بضم العين.
قوله :" وفَرِحُوا " هذا استئناف إخبار. وقيل : بل هو عطف على صلة " الذين " قبل.
وفيه نظر ؛ من حيث الفصل بين أبعاض الصلة بالخبر، وأيضاً : فإن هذا ماض وما قبله مستقبل ولا يدعي التوافق في الزمان إلا أن يقال : المقصود استمرارهم بذلك أو أن الماضي متى وقع صلة صلح [ للماضي ] والاستقبال.
قوله " فِي الآخِرَةِ "، أي في جنب الآخرة.
" إلاَّ مَتاعٌ " وهذا الجار في موضع الحال تقديره : وما الحياة القريبة الكائنة في جنب الآخرة إلا متاع ولا يجوز تعلقه بالحياة ولا بالدنيا لأنهما لا يقعان إلا في الآخرة.
ومعنى الآية : أن [ مشركي ] مكة أشروا وبطروا، والفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام محال ﴿ وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ ﴾ أي قليل ذاهب.
قوله :﴿ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ ألآية اعلم أن كفار مكة قالوا : يا محمد فأجابهم الله بقوله ﴿ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ﴾.
وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه :
أحدها : كأنه يقول : إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، لكن [ الإضلال ] والهداية من الله فأضلهم عن تلك الآيات وهدى إليها آخرين، فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات.
وثانيها : أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام كانت أكثر من أن تصير مشتبه على العاقل فلما طلبوا بعدها آيات أخر كان في موضع التعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم ﴿ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ﴾ من كان على صنيعكم من التصميم على الكفر فلا سبيل إلى هدايتكم وإن نزلت كل آية :" ويَهْدِي " من كان على خلاف صنيعكم.
وثالثها : لما طلبوا سائر الآيات والمعجزات فكأنه قال لهم : لا فائدة في ظهور الآيات والمعجزات، فإن الإضلال والهداية من الله تعالى فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية من الله فإنه لم يحصل الانتفاع بها.
ورابعها : قال الجبائي : المعنى : أنه يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم الإضلال عن الثواب ﴿ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ﴾، أي : يهدي إلى جنته من [ تاب ] وآمن. قال : وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث إنه عقبه بقوله :" من أناب "، أي : من تاب.
والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب ؛ لأنه يستحقه على إيمانه وذلك يدل على أنه تعالى إنما يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا هذا تمام كلام الجبائي.
والضمير في " إليه " عائد على الله، أي : إلى دينه وشرعه. وقيل على الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وقيل : على القرآن.
قوله :﴿ الذين آمَنُواْ ﴾ يجوز فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ خبره الموصول الثاني وما بينهما اعتراض.
الثاني : أنه بدل من " مَنْ أنَابَ ".
والثالث : أنه عطف بيان له.
الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمر.
الخامس : أنه منصوب بإضمار فعل.

فصل


قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا سمعوا القرآن خشتع قلوبهم واطمأنت.
فإن قيل : أليس قال في سورة الأنفال :﴿ إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٢ ] والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم هنا بالاطمئنان ؟.
فالجواب من وجوه :
أحدها : أ، هم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا أن [ يقربوا ] المعاصي فهناك الوجل وإذا ذكروا ما وعد الله به من الثواب والرحمة سكنت قلوبهم، فإن أحد الأمرين لا ينافي الآخر ؛ لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب.
وثانيها : أن المراد أن يكون القرآن معجزاً يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلى الله عليه وسلم نبياً حقاً من عند الله، ولما شكوا في أنهم أتوا بالطاعات كاملة فيوجب حصول الوجل في قلوبهم.
وثالثها : أنه حصل في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعات الموجبة للثواب أم لا ؟ وهل احترزوا عن المصعية الموجبة للعقاب أم لا ؟.
وقيل : الوجل عند ذكر الله : الوعيد والعقاب، الطمأنينة عند ذكر الله عزّ وجل : الوعد والثواب، فالعقاب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه، وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وكرمه ﴿ أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب ﴾ تسكن قلوب المؤمنين ويستقر فيه اليقين.
قال ابن عباس رحمه الله :" هذا في الحلف، يقول : إذا حلف المسلم بالله على شيء تسكن قولب المؤمنين إليه ".
قوله ﴿ بِذِكْرِ الله ﴾ يجوز أن يتعلق ب " تَطْمئِنُّ " فتكون الياء سببية، أي : بسبب ذكر الله.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن مفعولاً به، أي : الطمأنينة تحصل لهم بذكر الله.
الثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من " قلوبهم "، أي : تطمئن وفيها ذكر الله.
قوله :﴿ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ فيه أوجه :
أن يكون بدلاً من " القُلوب " على حذف مضاف أي : قلوب الذين آمنوا وأن يكون بدلاً من " مَنْ أنَابَ "، وهذا على قول من لم يجعل الموصول الأول بدلاً من " مَنْ أنَابَ " وإلا كان يتوالى بدلان، وأن يكون مبتدأ، و " طُوبَى " جملة خبرية، وأن تكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون منصوباً بإضمار فعل، والجملة من " طُوبى لَهُمْ " على هذين الوجهين حال مقدرة، والعامل فيها ءامَنُوا " و " عَمِلُوا :.
قوله " طُوبى لَهُم " وتاو " طُوبَى " منقلبة عن ياء، لأنها من الطيب وإنما قلبت لأجل الضمة قبلها، كموسر وموقن من اليسر واليقين واختلفوا فيها، فقيل : هي اسم مفرد مصدري، كبُشْرَى ورُجْعَى من طَابَ يطِيبُ.
وقيل : بل هي جمع طيبة، كما قالوا : كوسى في جمع كيسة، وضُوقَى في جمع ضِيقَة.
ويجوز أن يقال : طِيبى، بكسر الباء، وكذلك الكِيسَى والضِّيقَى. وهل هي اسم شجرة بعينها أو اسم للجنة بلغة الهند أو الحبشة ؟.
وجاز الابتداء ب " طُوبَى " إما لأنها علم لشيء بعينه، وإما لأنها نكرة في معنى الدعاء، كسلام عليك، وويل لك، كذا قال سيبويه.
وقال ابن مالك رحمه الله :" إنه يلتزم رفعها بالابتداء، ولا يدخل عليها نواسخه " وهذا يرد عليه : أن بعضهم جعلها في هذا الآية منصوبة بإضمار فعل، اي : وجعل لهم طوبى، وقد تأيد ذلك بقراءة عيسى الثقفي " وحُسْنَ مآبٍ " بنصب النون، قال : إنه معطوف على " طُوبَى " وأنها في موضع نصب.
قال ثعلب : و " طُوبَى " على هذا مصدر، كما قال :" سقيا ".
وخرج هذه القراءة صاحب اللوامح على النداء، كيا أسَفَى على الفوت، يعنى أن " طُوبَى " مضاف للضمير معه واللام مقحمة ؛ كقوله :[ البسيط ]
٣١٧٨. . . . . . . . . . . . . . يَا بُؤسَ لِلجَهْلِ ضَرَّاراً الأقْوامِ
وقوله :[ مجزوء الكامل ]
٣١٧٨ يَا بُؤسَ لِلحَرْبِ الَّتِي وضَعْتْ أرَاهِطَ قاستراحُوا
ولذلك سقط التنوين من " بُؤسَ : كأنه قيل : يا طيبا، أي : ما أطيبهم وأحسن مآبهم.
قال الزمخشري :" ومعنى " طُوبَى لَكَ " : أصحبت خيراً، و " طيبا " ومحلها النصب أو الرفع، كقولك : طيبا لك وطيبٌ لك، وسلاماً لك وسلام لك والقراءة ف يقوله " وحُسن مَآبٍ " بالنصب والرفع يدل على محلها، واللام في " لَهُمْ " للبيان مثلها في " سقيا لك " فهذا يدل على أنها تتصرف، ولا يلزم الرفع بالابتداء.
وقرأ مكوزوة الأعرابي :" طِيبَى " بكسر الطاء لتسليم الياء، نحو : بيض ومعيشة.
وقرىء :" وحُسْنَ مَآبٌ " بفتح النون ورفع " مآبٌ " على أنه فعل ماض، أصله حَسُنَ فنقلت ضمة العين إلى الفاء قصداً للمدح، كقوله : حسن ذا أدب، و " مَآبُ " فاعله.

فصل


قال ابن عباس رضي الله عنهما : طوبى، فرح لهم وقرة عين.
وقال عكرمة : نعم ما لهم. وقال قتادة : حسنى لهم.
وقال معمر عن قتادة : هذه كلمة عربية، يقول الرجل : طوبى لك، أي : أصبت خيراً.
وقال إبراهيم رحمه الله : خير لهم وكرامة. وقال الفراء : وفيه لغتان : تقول العرب : طوباك، وطوبى لك، أي لهم الطيب " وحُسْنَ مَآبٍ " أي : حسن المنقلب.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس :" طُوبَى : اسم الجنة بالحبشية.
وقال الربيع : البستان بلغة الهند. وقال الزجاج : العيش الطيب لهم وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرجاء قالوا : طوبى شجرة في الجنة تظل الجنان كلها وقيل فيها غير ذلك.
قوله: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ﴾ الكاف في محل نصب كانظائرها.
قال الزمخشري: «مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعن: إرسالا ً له شأن».
وقيل: الكاف متعلقة بالمعنى الذي قبله في قوله: ﴿إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ [الرعد: ٢٧]، أي كما أنفذ الله هذا كذلك أرسلناك.
وقال ابن عطية: «الذي يظهر لي أن المعنى كما أجرينا العادة بأن الله يضل ويهدي لا بالآيات المقترحة فكذلك فعلنا أيضاً في هذه الأمة أرسلناك إليها بوحي لا بأيآت مقترحة».
وقال أبو البقاء: وكذلك: «الأمر كذلك» فجعلها في موضع رفع.
وقال الحوفي: الكاف للتشبيه في موضع نصب، أي: كفعلنا الهداية والإضلال والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وتكون الكاف للتشبيه.
قال ابن عباس والحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أي: أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك.
303
وقيل: كما أرسلنا إلى أمم وأعطيناهم كتباً تتلى عليهم كذلك [أعطيناك] هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم.
قوله: «قَد خَلتْ» جملة في محل جر صفة ل «أمَّة»، و «لِتَتْلُ» متعهلق ب «أرْسلْنَاك» والمعنى: أنه فسر كيف أرسله فقال: ﴿في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ﴾ أي: أرسلناك في أمة قد تقدمها أمم وهم آخر الأمم وأنت آخر الأنبياء «لتتلو» لتقرأ عليهم الذي أوحينا إليك وهو الكتاب العظيم.
قوله: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافية، وأن تكون حالية والضمير في «وهم يكفُرون» عائد على «أمَّة» من حيث المعنى، ولو عاد على لفظها لكان التركيب: وهي تكفر.
وقيل: الضمير عائد على «أمَّة» وعلى «أممٍ». وقيل: عائد على الذين قالوا: «لوْلاَ أنْزِلَ».

فصل


قال قتادة ومقاتل وابن جريح: الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية وذلك أن سهل بن عمرو لما جاءوا واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لعلي كرم الله وجهه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. قالوا لا نعرف إلى الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون: مسليمة الكذاب، اكتب كما كممنت تكتب: باسمك اللهم فهذا معنى قوله: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن﴾ والمعروف أن الآية مكية، وسبب نزولها: أن أبا جهل سمع النبي س صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في الحجر يدعو الله يا رحمن فرجع إلى المشركين، وقال: إن محمداً يدعو إلهين: يدعو الله ويدعو الرحمن إلهاً آخر يسمى الرحمن، ولا نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى:
﴿قُلِ
ادعوا
الله
أَوِ
ادعوا
الرحمن
أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى﴾
[الإسراء: ١١٠]
وروى الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظم: «اسجدوا للرحمن»، قالوا: وما الرحمن؟ قال الله تعالى: «قل لهم يا محمد إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت» اعتمدت «وإليه متاب» أي: توبتي ومرجعي.
304

فصل


اعلم أن قوله ﴿يَكْفُرُونَ بالرحمن﴾ أنا إن حملناه على هذه الروايات كان معناه: يكفرون بإطلاق هذا الاسم على الله تعالى لا أنهم كفروا بالله تعالى وقال آخرون: بل كفروا بالله إما جحداً له، وإما لإثباتهم الشركاء معه. قال القاضي: وهذا القول أليق بالظاهر؛ لأن قوله تعالى ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن﴾ يقتضي أنهم كفروا بالله وهو المفهوم به فكان المفهوم هو دون اسمه تعالى.
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال﴾ [الرعد: ٣١] نزلت في نفر من مشركي مكة منهم: أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية المخزومي جلسوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعرض عليهم الإسلام، فقال عبد الله بن أمية المخزومي: إن سرك أن نتبعك فسيِّر لنا جبال مكة بالقرآن فأذهبها حتى تنفسح علنيا فإنها أرض ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً لنغرس الأشجار ونزرع، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه، أو [سخر لنا الريح، فنركبها إلى الشام والبلاد لميرتنا وحوائجنا، ونرجع في يومنا؛ فقد] سخر الريح لسليمان صلوات الله وسلامه عليه كما زعمت فلست على ربك بأهون من سليمان، أو أحْي لنا جدك قصي، أو من شئت من موتانا نسأله عن أمرك، أحق ما تقول أوة باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى، ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض﴾ [الرعد: ٣١] أي: شققت فجلعت أنهاراً وعيوناً ﴿أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى﴾ [الرعد: ٣١].
305
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ﴾ جوابها محذوف، أي: لكان هذا القرآن، لأنه في غاية ما يكون من الصحة، واكتفى بمعرفة السامعين من مراده؛ كقوله الشاعر: [الطويل]
٣١٨٠ - فأقْسِمُ لو شَيءٌ أتَاناَ سِواكَ ولكِنْ لَمْ نَجْدْ عنْكَ مَدْفَعَا
أراد: لرددناهن، وهذا معنى قول قتادة: قالوا: لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم.
305
وقيل: تقديره لما آمنوا.
ونقل عن الفراء: جواب «لو» هي الجملة من قوله ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن﴾ [الرعد: ٣٠] وفي الكلام تقديم وتأخير وما بينهما اعتراض، وتقدير الكلام: وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآناً سيرت به الجبال كأنه قيل: لو سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم الموتى به لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا لما سبق من علمنا فيهم، كقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا﴾ [الأنعام: ١١١] وهذا في الحقيقة دال على الجواب.
وإنما حذفت التاء شفي قوله ﴿أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى﴾ وثبتت في الفعلين قبله؛ لأنه من باب التغليب، لأن الموتى تشمل المذكر والمؤنث.
قوله ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا﴾ أصل اليأتس: قطع الطمع عن الشيء والقنوط منه، واختلف الناس فه ههنا، فقال بعضهم هو هنا على بابه، والمعنى أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش، وذلك أنهم لما سألوا هذه الآيات طمعوا في إيمانهم وطلبوا نزول هله الآيات ليؤمن الكفار، وعلم الله أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم ييأس الذين آمنوا من آيات الكفار، أي: ييأس من إيمانهم قال الكسائي.
وقال الفراء: «أوقع الله للمؤنين أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً فقال: أفلم ييأسوا علماً» يقول: يؤيسهم العلم، فكان فيهم العلم مضمراً كما تقول في الكلام: «يئست منك إن لا تفلح» كأنه قال: علمه علماً، قال: فيئست بمعنى علمت، وإن لم يكن سمع فإنه يتوجه لذلك بالتأويل «.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه وذلك لأنه لما أبعد إيمانهم في قوله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ﴾ على [التأويلين] في المحذوف المقدر، قال في هذه الآية»
أفلمْ يَيْأسٍ «المؤمنون من إيمان هؤلاء علماً منهم ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً﴾.
وقال الزمخشري:»
ويجوز أن يتعلق ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ الله﴾ ب «آمَنَوا» على أو لو يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولهداهم «.
وهذا قد سبقه إليه أبو العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقال أبو حيان: ويحتمل عندي وجه آخر غير الذي ذكروه، وهو: أن الكلام تام
306
عند قوله تعالى ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا﴾ إذ هو تقرير، أي: قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعنادين، و ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ الله﴾ جواب قسم محذوف، أي: وأقسم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدل على هذا القسم [وجود] » أنْ «مع» لَوْ «في قول الشاعر: [الوافر]
٣١٨١ - أمَا واللهِ أن لوْ كُنَْ حُرًّا وما الحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ
وقول الآخر: [الطويل]
٣١٨٢ - فأقْسِمُ أن لَوِ التَقيْنَا وأنتمُ لكَانَ لكُم يَوْمٌ مِنَ الشَّر مُظْلِم
وقد ذكر سيبويه أن «أن»
تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم بالجملة المقسم عليها، وقال بعضهم بل هو ههنا بمعنى «عَلِمَ» و «تَبيَّن».
قال القاسم بن مَعنٍن وهو من ثقاب الكوفيين: هي من لغة هوازن.
وقال الكلبي: هي لغة حي من النَّخع، ومنه قول رباح بن عدي: [الطويل]
٣١٨٣ - ألَمْ يَيأسِ الأقْوامُ أنِّي أنَا ابنهُ وإن كُنْتُ عن أرْضِ العَشِيرةِ نَائِيا
وقول سحيم بن وثيل الرياحي: [الطويل]
٤١٨٤ - أقُولُ لهُمْ بالشِّعْبِ إذ يَأسِرُونَنِي ألمْ تَيأسُوا أنِّي ابنُ فارسِ زَهْدمِ
وقول الآخر: [الكامل]
307
ورد الفراء هذا وقال: «لم أسمع» يَئِسْتُ «بمعنى عَلْمتُ».
وردَّ عليه بأن من حفظ حجة على من لكم يحفظ، ويدل على ذلك: قراءة علي وابن عباس وعكرمة وابن أبي مليكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المدني وعبد الله بن يزيد، وعلي بن بذيمة: (أفلم يتبين) من: «تبينت كذا» إذا عرفته، وقد افترى من قال: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس، كان أصله: «أفلم يتبين» فسوى هذه الحروف [فتوهَّم] أنها سين.
قال الزمخششري: «وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى هذا حتى يبقى بين دفتي الإمام، وكان متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها المبنى، هذه والله فرية ما فيها مرية».
وقال الزمخشري أيضاً: «وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم؛ لأن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنيسان في معنى الترك لتضمنه ذلك».
وتحصل في «أنْ» قولان:
أحدهما: أنها «أن» المخففة من الثقيلة، فأسمها ضمير الشأن، والجملة الامتناعية بعدها خبرها، وقد وقع الفصل ب «لو» و «أن» وما في حيزها إن علقنا ب «ءامنوا» يكون في محل نصب، أو جر على الخلاف بين الخليل وسيبويه، إذا أصلها الجر بالحرف، أي: آمنوا بأن لو يشاء الله، وإن علقناها ب: يَيْأس «على أنه بمعنى علم كانت في محل نصب لسدها سمد المفعولين.
والثاني: رابطة بين القسم والمقسم عليه، كما تقدم.

فصل


قال المفسرون: إن أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لما سعموا كلام المشركين طمعوا في أن يفعل الله تعالى ما سألوا فيؤمنوا، فنزل ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا﴾ يعني الصحابة من إيمان هؤلاء، يعني: الم ييأسوا وكل من علم شيئاً ييِأس عن خلافه.
يقول: ألم يؤيسهم العلم ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ الله﴾.

فصل


احتج أهل السنة بقوله: ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ الله﴾ وكلمة «لَوْ»
تفيد انتفاء
308
الشيء لانتفاء غيره، والمعنى: أنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس والمعتزلة تارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء، وتارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الهداية إلى طريق الجنة، ومنهم من يجري الكلام على الظاهر، ويقول: إنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس لأنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين فلا يكون مبايناً لهداية جميع الناس، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مراراً.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ﴾ ألآية قيل: أراد جميع الكفار؛ لأن الوقائع الشديدة [التي وعقت لبعض الكفار من القتل والسبي، أوجب حصول الغم] في قلوب الكل.
وقيل: أراد بعض الكفار وهم جماعة معينون، فتكون الألف واللام للعهد، والمعنى لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وأعمالهم القبيحة «قارِعَةٌ» أي: نازلة وداهيةٌ تقرعهم من أنواع البلاء أحياناً بالجدب وأحياناً بالسلب وأحياناً بالقلب.
يقال: قرعه أمر إذا أصابه، والجمع قوارع، والأصل في القرع: الضرب أي: لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد، أو من قتل أو أسر أو جدب أو غير ذلك من العذاب والبلاء كما نزل يخاطب المستهزئين من رؤساء المشركين.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أراد كفار قريش يصيبهم بما صنعوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من العداوة والتكذيب بأن لايزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم وتصيب من مواشيهم «.
قوله»
أوْ تَحُلُّ «يجوز أن يكون فاعله ضمير الخطاب، أي: تحل أنت يا محمد وأن يكون ضمير القارعة، وهذا أبين، أي: تصيبهم قارعة أو تحل القارعة، وموضعها نصب عطف علىخبر» يَزالُ «.
وقرأ ابن جبير ومجاهد:»
أوْ يَحُلُّ «بالياء من تحت، والفاعل على ما تقدم إما ضمير القارعة وإنما ذكر العفل؛ لأنها بمعنى العذاب ولأن التاء للمبالغة، والمراد: قارع وإما ضمير الرسول صلوات الله وسلامه عليه أتى به غائباً، وقرأ أيضاً:» مِن دِيَارهِمْ «جمعاً، وهي واضحة.
المعنى: أو تحل القارعة أو أنت يا محمد صلوات الله وسلامه عليك بجيشك قريباً من دراهم كما حل بالحديبية ﴿حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله﴾ وهو فتح مكة، وكان قد وعده ذلك. وقيل: يوم القيامة.
309
﴿إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد﴾ والغرض منه: [تقوية] قلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإزالة الحزن عنه وتسليته.

فصل


قال القاضي: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد﴾ يدل على بطلان قول من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده، وهذه الآية وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بمعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق [الفساق] من العناد.
والجواب: أن الخلق غير، وتخصيص العموم غير، ونحن لا نقول بالخلف، ولكننا تخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو.
310
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ الآية لما طلبوا المعجزات من الرسول صلوات الله وسلامه عليه على سبيل الاستهزاء، وكان يتأذى من تلك الكلمات، فأِنزل الله تعالى هذه الآية تسلية له وتصبيراً على سفاهتهم فقال: إن أقوام سائر الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ استهزؤوا بهم كما أن قومك يستهزئون بك ﴿فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أمهلتهم وأطلت لهم المدة بتأخير [العقوبة] ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ عاقبتهم في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار ﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ لهم؟.
والإملاء: الإمهال وإن تركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها ف يالمرعى، ومنه الملوان وهو الليل والنهار؟
قوله: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ﴾ «مَنْ» موصولة، وصلتها «هُو قَائِمٌ» والموصول مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف تقديره: كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع، ودل على هذا المحذوف، قوله ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ﴾ ونحوهن قوله ﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ [الزمر: ٢٢] تقديره: كمن قسا قبله.
يدل عليه أيضاً ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله﴾ [الزمر: ٢٢] وإنما حسن حذفه
310
كون الخبر مقابلاً للمبتدأ، وقد جاء مبيناً، كقوله ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ [النحل: ١٧] ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى﴾ [الرعد: ١٩].
والمعنى: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، أي: حافظها ورازقها وعالم بها ومجازيها بما علمت، وجوابه محذونف، تقديره: كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه.
قوله ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ﴾ يجوز أن يكون استئنافاً، وهو الظاهر، جيء به للدلالة على الخبر المحذوف كما تقدم تقريره.
وقال الزمخشري: «يجوز أن تقدر ما يقع خبر للمبتدأ ويعطف عليه:» وجَعَلُوا «وتمثيله: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه» جعلوا لهُ «وهو الله تعالى أي: وهو الذي يستحق العبادة».
قال أبو حيان: «وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله تعالى ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ﴾ أي: له، وفيه حذف الخبر غير المقابل، وأكثر ما جاء الخبر مقابلاً».
وقيل: الواو للحال، والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجودة والحال أنهم جعلوا له شركاء، فأقيم الظاهر وهو «اللهُ» مقام المضمر تقريراً للإلهية وتصريحاً بها، قاله صاحب العقد.
وقال ابن عطية: «ويظهر أن القول مرتبط بقوله ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ﴾ كان التقدير: أفمن له القدرة والوحدانية، ويجعل له شريك أهل ينتقم ويعاقب أم لا؟».
وقيل: «وَجَعلُوا» عطف على «استُهْزِىءَ» بمعنى: وقد استهزؤوا وجعلوا.
وقال أبو البقاء: «هو معطوف على» كَسبَتْ «أي: ويجعلهم لله شركاء» ولما قر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال: «قُلْ سمُّوهُمْ» وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر، ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال: سمه إن شئت، يعني أنه [أخس] من أن يسمى ويذكر، ولكن إن شئت أن تضع له أسماً فافعل، وقيل: «سموهم» : أي: صفوهم، ثم انظروا: هل هي أهلٌ أن تعبد؟ على سبيل التهديد، والمعنى: سواء سيمتموهم باسم الآلهة أو لم تسموهم فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها، ثم زاد في الحجاج.
قوله ﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ﴾ «أمْ» هذه منقطعة مقدرة ب «بل» والهمزة والاستفهام للتوبيخ بل أتنبؤنه شركاء لا يعلمهم في الأرض ونحوه ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾ [يونس: ١٨] فجعل الفاعل ضميراً عائداً على الله، والعائد على «ما» محذوف تقديره: بما لا يعلمه الله، وقد تقدم في تلك الآية: أن الفاعل ضمير يعود على «ما» وهو جائز هنا أيضاً.
311
قوله «أمْ بِظاهِرِ» أنها منقعطة. والظاهر هنا، قيل: الباطن؛ وأنشدوا: [الطويل]
٣١٨٥ - حتَّى إذَا يَئسَ الرُّماةُ فأرْسَلُوا غُضْفاً دَواجِنَ قافِلاً أعْصامُهَا
٣١٨٦ - اعَيَّرْتنَا ألْبانهَا ولحُومَهَا وذلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ رَيْطة ظَاهِرُ
أي: باطن.
وفسره مجاهد: بكذب، وهو موافق لهذا.
وقيل: «أمْ» متصلة، أي: تنبئونه بظاهر لا حقيقة له.
والمعنى: أم يخبرون الله بأمر يعلمونه وهو لايعمله، فإنه لا يعلم لنفسه شريكاً وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك التبة؛ لا، هم ادعوا أن له شريكاً في الأرض لا في غيرها أم تموهو بظاهر من القول لا حقيقة له وهو كقوله ﴿ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [التوبة: ٣٠].
ثم إنه تعالى بعد هذا الحجاج بيّن طريقتهم، فقال على وجه التحقير لما هم عليه ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ﴾.
قال الواحدي: «معنى» بَلْ «ههنا كأنه يقول: دع ذلك زين له مكرهم لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد قولهم فكأنه يقول: دع ذلك الدليل فإنه لا فائدة فيه، لأن زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل».

فصل


قالت المعتزلة: لا شبهة في أنه إنما ذكر ذلك لأجحل أن يذمَّهم به وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله تعالى، فلا بد إما أن يكون شياطين الإنس وما شياطين الجن.
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: وهذا التأويل ضعيف من وجوه:
الأول: أنه إن كان المزين هو أحد شياطين الإنس أو الجن فالمزين لذلك الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل، وإن كان هو الله فقد زال السؤال.
والثاني: أن أفعال القلوب لا يقدر عليها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ.
والثالث: أنا دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله عَزَّ وَجَلَّ وعند حصوله يجب الفعل.
قوله ﴿وَصُدُّواْ عَنِ السبيل﴾ قرأ الكوفيون ويعقوب «وصُدَّوا» مبنياً للمفعول، وفي
312
غافر ﴿وَصُدَّ عَنِ السبيل﴾ [غافر: ٣٧] كذلك، وابقي السبعة مبنيّين للفاعل، و «صد: جاء لازماً ومتعدياً، فقراءة الكوفية من التعدي فقط، وقراءة الباقين: يحتمل أن تكون من المتعدي ومفعوله محذوف، أي: صدوا غيرهم أو أنفسهم، وأن يكون من اللازم، أي: أعرضوا وتولوا.
وقرأ ابن وثاب:»
وصِدُّوا عَن السَّبيال «بكسر الصاد، وهو مبني للمفعول أجراه مجرى» قِيلَ «و» بِيعَ «فهو كقراءة: ﴿رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾ [يوسف: ٦٥]. قوله: [الطويل]
٣١٨٧ - ومَا حِلَّ مِنْ جَهْلِ حُبَا حُلمَائِنَا...........................
وقد تقدم. فأما قراءة المبني للمعفول، فعند أهل السنة: أن الله صدهم. المعتزلة وجهان:
قيل: الشيطان وبعضهم لبعض، هو قول أبي مسلم رَحِمَهُ اللَّهُ. ومن فتح الصاد: يعني الكفار أعرضوا إن كان لازماً، وصدوا غيرهم إن كان متعدياً. وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول، وحجة القراءة الثانية قوله جل ذكره ﴿الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ﴾ [محمد: ١١] ثم مقال: ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾.
وتمسك أهل السنة بهذه الآية من وجوه: أحدها: قوله ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ﴾ وقد تقدم بالدليل أن المزين هو الله تعالى. وثانيها: قوله ﴿وَصُدُّواْ عَنِ السبيل﴾ بضم الصاد، وبينا ِأيضاً أن ذلك الصاد هو الله تعالى.
وثالثها: قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾، وهو صريح في المقصود، ثم قال تعالى: ﴿لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا﴾ بالقتل والأسر ﴿وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ﴾ أي: أشد ﴿وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ﴾ مانع يمنعهم من العذاب. وقال الواحي: أكثر القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء، مثل قوله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [غافر: ٣٣] وكذلك ﴿مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ﴾ [الرعد: ٣٧] وهو الوجه؛ لأنه يقال في الوصل:»
هادٍ ووالٍ وواقٍ «محذوف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين، فإذا وقفت انحذف التنوين في الوقف في الرفع والجر، والياء [كانت] انحذفت ف يالوصل فيصادف الوقف الحركة التي كسرت فتحذف كما يحذف سائر الحركات التي يوقف عليها، فيقال:» هَاد «و» وَال «و» وَاق «.
وابن كثير يقف بالياء، ووجهه ما حكى سيبوبه: أن بعض من يوثق به من العرب يقفون بالياء، وقد تقدم.
313
قوله :﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ ﴾ " مَنْ " موصولة، وصلتها " هُو قَائِمٌ " والموصول مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف تقديره : كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع، ودل على هذا المحذوف، قوله ﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ﴾ ونحوهن قوله ﴿ أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾ [ الزمر : ٢٢ ] تقديره : كمن قسا قبله.
يدل عليه أيضاً ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله ﴾ [ الزمر : ٢٢ ] وإنما حسن حذفه كون الخبر مقابلاً للمبتدأ، وقد جاء مبيناً، كقوله ﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ [ النحل : ١٧ ] ﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى ﴾ [ الرعد : ١٩ ].
والمعنى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، أي : حافظها ورازقها وعالم بها ومجازيها بما علمت، وجوابه محذوف، تقديره : كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه.
قوله ﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ ﴾ يجوز أن يكون استئنافاً، وهو الظاهر، جيء به للدلالة على الخبر المحذوف كما تقدم تقريره.
وقال الزمخشري :" يجوز أن تقدر ما يقع خبر للمبتدأ ويعطف عليه :" وجَعَلُوا " وتمثيله : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه " جعلوا لهُ " وهو الله تعالى أي : وهو الذي يستحق العبادة ".
قال أبو حيان :" وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله تعالى ﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ﴾ أي : له، وفيه حذف الخبر غير المقابل، وأكثر ما جاء الخبر مقابلاً ".
وقيل : الواو للحال، والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجودة والحال أنهم جعلوا له شركاء، فأقيم الظاهر وهو " اللهُ " مقام المضمر تقريراً للإلهية وتصريحاً بها، قاله صاحب العقد.
وقال ابن عطية :" ويظهر أن القول مرتبط بقوله ﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ﴾ كان التقدير : أفمن له القدرة والوحدانية، ويجعل له شريك أهل ينتقم ويعاقب أم لا ؟ ".
وقيل :" وَجَعلُوا " عطف على " استُهْزِىءَ " بمعنى : وقد استهزؤوا وجعلوا.
وقال أبو البقاء :" هو معطوف على " كَسبَتْ " أي : ويجعلهم لله شركاء " ولما قر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال :" قُلْ سمُّوهُمْ " وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر، ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال : سمه إن شئت، يعني أنه [ أخس ] من أن يسمى ويذكر، ولكن إن شئت أن تضع له أسماً فافعل، وقيل :" سموهم " : أي : صفوهم، ثم انظروا : هل هي أهلٌ أن تعبد ؟ على سبيل التهديد، والمعنى : سواء سيمتموهم باسم الآلهة أو لم تسموهم فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها، ثم زاد في الحجاج.
قوله ﴿ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ ﴾ " أمْ " هذه منقطعة مقدرة ب " بل " والهمزة والاستفهام للتوبيخ بل أتنبؤنه شركاء لا يعلمهم في الأرض و نحوه ﴿ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض ﴾ [ يونس : ١٨ ] فجعل الفاعل ضميراً عائداً على الله، والعائد على " ما " محذوف تقديره : بما لا يعلمه الله، وقد تقدم في تلك الآية : أن الفاعل ضمير يعود على " ما " وهو جائز هنا أيضاً.
قوله " أمْ بِظاهِرِ " أنها منقعطة. والظاهر هنا، قيل : الباطن ؛ وأنشدوا :[ الطويل ]
٣١٨٦ اعَيَّرْتنَا ألْبانهَا ولحُومَهَا *** وذلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ رَيْطة ظَاهِرُ
أي : باطن.
وفسره مجاهد : بكذب، وهو موافق لهذا.
وقيل :" أمْ " متصلة، أي : تنبئونه بظاهر لا حقيقة له.
والمعنى : أم يخبرون الله بأمر يعلمونه وهو لايعمله، فإنه لا يعلم لنفسه شريكاً وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك التبة ؛ لا، هم ادعوا أن له شريكاً في الأرض لا في غيرها أم تموهو بظاهر من القول لا حقيقة له وهو كقوله ﴿ ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ [ التوبة : ٣٠ ].
ثم إنه تعالى بعد هذا الحجاج بيّن طريقتهم، فقال على وجه التحقير لما هم عليه ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ ﴾.
قال الواحدي :" معنى " بَلْ " ههنا كأنه يقول : دع ذلك زين له مكرهم لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد قولهم فكأنه يقول : دع ذلك الدليل فإنه لا فائدة فيه، لأن زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل ".

فصل


قالت المعتزلة : لا شبهة في أنه إنما ذكر ذلك لأجل أن يذمَّهم به وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله تعالى، فلا بد إما أن يكون شياطين الإنس أو شياطين الجن.
قال ابن الخطيب رحمه الله : وهذا التأويل ضعيف من وجوه :
الأول : أنه إن كان المزين هو أحد شياطين الإنس أو الجن فالمزين لذلك الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل، وإن كان هو الله فقد زال السؤال.
والثاني : أن أفعال القلوب لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
والثالث : أنا دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله عز وجل وعند حصوله يجب الفعل.
قوله ﴿ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل ﴾ قرأ الكوفيون ويعقوب " وصُدَّوا " مبنياً للمفعول، وفي غافر ﴿ وَصُدَّ عَنِ السبيل ﴾ [ غافر : ٣٧ ] كذلك، وابقي السبعة مبنيّين للفاعل، و " صد : جاء لازماً ومتعدياً، فقراءة الكوفية من التعدي فقط، وقراءة الباقين : يحتمل أن تكون من المتعدي ومفعوله محذوف، أي : صدوا غيرهم أو أنفسهم، وأن يكون من اللازم، أي : أعرضوا وتولوا.
وقرأ ابن وثاب :" وصِدُّوا عَن السَّبيال " بكسر الصاد، وهو مبني للمفعول أجراه مجرى " قِيلَ " و " بِيعَ " فهو كقراءة :﴿ رُدَّتْ إِلَيْنَا ﴾ [ يوسف : ٦٥ ]. قوله :[ الطويل ]
٣١٨٧ ومَا حِلَّ مِنْ جَهْلِ حُبَا حُلمَائِنَا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدم. فأما قراءة المبني للمعفول، فعند أهل السنة : أن الله صدهم. المعتزلة وجهان :
قيل : الشيطان وبعضهم لبعض، هو قول أبي مسلم رحمه الله. ومن فتح الصاد : يعني الكفار أعرضوا إن كان لازماً، وصدوا غيرهم إن كان متعدياً. وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول، وحجة القراءة الثانية قوله جل ذكره ﴿ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ ﴾ [ محمد : ١١ ] ثم مقال :﴿ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.
وتمسك أهل السنة بهذه الآية من وجوه : أحدها : قوله ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ ﴾ وقد تقدم بالدليل أن المزين هو الله تعالى. وثانيها : قوله ﴿ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل ﴾ بضم الصاد، وبينا ِأيضاً أن ذلك الصاد هو الله تعالى.
وثالثها : قوله سبحانه وتعالى :﴿ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾، وهو صريح في المقصود
ثم قال تعالى :﴿ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا ﴾ بالقتل والأسر ﴿ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ ﴾ أي : أشد ﴿ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ ﴾ مانع يمنعهم من العذاب. وقال الواحي : أكثر القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء، مثل قوله عز وجل ﴿ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [ غافر : ٣٣ ] وكذلك ﴿ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ ﴾ [ الرعد : ٣٧ ] وهو الوجه ؛ لأنه يقال في الوصل :" هادٍ ووالٍ وواقٍ " محذوف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين، فإذا وقفت انحذف التنوين في الوقف في الرفع والجر، والياء [ كانت ] انحذفت في الوصل فيصادف الوقف الحركة التي كسرت فتحذف كما يحذف سائر الحركات التي يوقف عليها، فيقال :" هَاد " و " وَال " و " وَاق ".
وابن كثير يقف بالياء، ووجهه ما حكى سيبوبه : أن بعض من يوثق به من العرب يقفون بالياء، وقد تقدم.
قوله: ﴿مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون﴾ الآية لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين فقال «مثلُ الجَنَّة».
قال سيبويه: «مثَلُ الجنَّة» مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: فيما قصصنا أو فما يتلى عليكم مثل الجنة وعلى هذا فقوله ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ تفسير لذلك المثل.
وقال أبو البقاء: «فعلى هذا» تَجْرِي «حال من العائد المحذوف في» وُعِدَ
أي: وعدها مقدراً جريان أنهارها «.
ثم نقل عن الفراء: أنه جعل الخبر قوله:»
تَجْرِي «قال:» وهذا خطأ عند البصريين، قال: لأن المثل لا تجري من تحته الأنهار وإنما هو من صفات المضاف إليه، وشبهته: أن المثل هنا بمعنى الصفة فهو كقوله: صفة زيد أنه طيل ويجوز أن يكون «تَجْرِي» مستأنفاً.
وهذا الذي ذكره أبو البقاء نقل نحنوه الزمخشري، ونقل غيره عن الفراء في الآية تأويلين آخرين:
أحدهما: على حذف لظفه «أنها» والأصل: صفة الجنة أنها تجري وهذا منه تفسير معنى لا إعراب، وكيف تحذف «أنها» من غير دليل؟.
والثاني: أن لفظة «مثلُ» زائدة، والأصل: الجنة تجري من تحتها الأنهار، وزيادة «مثِلُ» في لسانهم كثير، ومنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] ﴿فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [البقرة: ١٣٧] وقد تقدم.
قال الزمخشري: «وقال غيره، أي غير سيبويه: الخبر ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ كما تقول: صفة زيد أسمر».
قال أبو حيان: «وهذا أيضاً لا يصح أن يكون: تجْري» خبراً عن الصفة ولا «
314
أسمر» خبراً عن الصفة، وإنما يتاول «تَجْرِي» على إسقاط «أن» ورفع الفعل، والتقدير أن تجري، أي: جريانها «.
وقال الزجاج:»
مثلُ الجنَّةِ «» جنة «على حذف المضاف تمثيلاً لما غاب بمان نشاهده.
ورد عليه أبو علي قال:»
لا يصح ما قال الزجاج لا على معنى الصفة ولا على معنى الشبه؛ لأن الجنة التي قدرها جثَّة ولا تكون الصفة، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة بين المتماثلين وهوحدث والجنة جثة فلا تكون [المماثلة] «.
والجمهور على أن المثل هنا بمعنى الصفة، فلس هنا ضرب مثل، فهو كقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ المثل الأعلى﴾ [النحل: ٦٠]، وأنكر أبو علي أن يكون بمعنى الصفة، وقال: معناه: الشبه.
وقرأ علي وابن مسعود»
أمْثَالُ الجنَّةِ «، أي: صفاتها وقد تقدم خلاف القراء فيه في البقرة.

فصل


اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث:
أولها: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾.
وثانيها: ﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ﴾ أي: لا ينقطع ثمرها ونعيهما بخلاف جنات الدنيا.
و «أكلها دائم»
كقوله: «تجري» في الاستئناف التفسيري، أو الخبري، أو الحالية، وقد تقدم.
وثالثها: ظلها ظليل لا يزول، أي: ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظله نظيره قوله تعالى: ﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾ [الإنسان: ١٣] وهذا رد على الجهمية حيث قالوا: نعيم الجنة يفنى.
ولما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث، بين أن تلك عقبى المتقين، أي: عاقبتهم، يعنى الجنة، وعاقبة الكافرين النار.
قوله: ﴿والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ يعنى القرآن وهم أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه ﴿يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ من القرآن ﴿وَمِنَ الأحزاب﴾ أي: الجماعات، يعني الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من اليهود والنصارى ﴿مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾ هذا قول الحسن وقتادة.
315
فإن قيل: الأحزاب ينكرون كلّ القرآن.
فالجواب: أن الأحزاب لا ينكرون كل القرآن؛ لأنه ورد في إثبات الله تعالى وإثبات قدرته وعلمه وحكمه وقصص الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهم لا ينكرون هذه الأشياء.
وقيل: المراد بالكتاب: التوراة والإنجيل، وعلى هذه ففي الآية قولان:
الأول: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ﴿الذين ءاتيناهم الكتاب﴾ كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً: أربعو بنجران وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، فرحوا بالقرآن، لأنهم آمنوا به وصدقوه.
وسبب فرحهم به أن ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فنزلت الآية. والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين.
قال القاضي: وهذا القول أول من الأول؛ لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن، فإذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة.
ويمكن أن يقال: إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة، ولهذا السبب حكى الله فرحهم به.
والثاني: أن الذي أتيناهم الكتاب: اليهود أعطوا التوراة، والنصارى الإنجيل يفرحون بما أنزل في القرآن، لأنه مصدق لما معهم ﴿وَمِنَ الأحزاب﴾ سائر الكفار ﴿مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾ وهو قول مجاهد.
قال القاضي: وهذا لا يصح لقوله ﴿يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي جميع ما أنزل الله إليك ويمكن أن يجاب فيقال:: إن قوله ﴿بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ لا يفيد العموم بدليل جواز إدخال لفظة الكل والبعض عليه، ولو كانت كلمة «ما» للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكراراً، وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً.
ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة فقال ﴿قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولاا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ وهذا كلام جامع لكل ماورد التكليف به، وفيه فوائد.
أولها: كلمة «إنَّمَا» للحصر، ومعناه: إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك.
وثانيها: أن العبادة غاية التعظيم، وذلك يدل على أن المرء كلف بذلك.
316
وثالثها: أن عبادة الله لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل وهذا يدل على أن المرء مكلفٌ بالنظر والاستدلال، في معرفة الصانع وصفاته وما يجب ويجوز ويستحيل عليه.
ورابعها: أن عبادة الله واجبة، وهي تبطل قول نفاة التكليف ويبطل القول بالجبر المخض.
وخامسها: قوله ﴿ولاا أُشْرِكَ بِهِ﴾ وهذا يدل على نفي الأضداد والأنداد بالكلية ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى من الشمس والقمر والكواكب الأصنام والأوثان والأرواح، وهو على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما تقوله الثنوية.
وسادسها: قوله (إليه أدعو) أي: كلما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات يجب عليه الدعوة إلى [عبودية] الله تعالى وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة.
قوله: ﴿ولاا أُشْرِكَ﴾ قرأ نافع في رواية عنه برفع «ولا أشْرِكُ» وهي تحتمل الطقع، أي: وأنا لا أشرك. وقيل: هي حال.
وفيه نظر؛ لأن المنفي ب «لا» كالمثبت في عدم مباشرة واو الحال.
قوله: ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً﴾ الكاف في محل نصب، أي: وكما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض كذلك ﴿أَنزَلْنَاهُ حُكْماً﴾ و «حُكْماً» حال من مفعول «أنْزلْنَاهُ».
وقيل: شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل على من تقدم من الأنبياء أي: كما أنزلنا الكمتب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بلسانهم كذلك أنزلنا إليك القرآن.
وقيل: كما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد فأنكره الأحزاب كذلك أنزلنا الحكم والدين «عربياً» نسب إلى العرب، لأنه منزل بلغتهم فكذب به الأحزاب، ولما كان القرِآن مشتملاً على جميع أنواع التكاليف وكان سبباً للحكم جعل نفس الحكم مبالغة.

فصل


قالت المعتزلة: دلت الآية على حدوث القرآن من وجوه:
الأول: أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث.
والثاني: وصفه بكونه عربياً، والعربي هو الذي حصر بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاُ.
والثالث: أن الآية دلت على أنه إنما كان حكماً عربياً؛ لأن الله جعله كذلك والموصوف بهذه الصفة محدث.
317
والجواب: أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث لانزاع فيه.
قوله: ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم﴾ روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائهم، فتوعدوه الله على موافقتهم على تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوله الله عنها.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الخطاب مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد أمته.
وقيل: المراد منه حث الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها، وذلك يتضمن تحذير جميع المكلفين بطريق الأولى.
318
قوله :﴿ والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب ﴾ يعنى القرآن وهم أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه ﴿ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ من القرآن ﴿ وَمِنَ الأحزاب ﴾ أي : الجماعات، يعني الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ﴿ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ﴾ هذا قول الحسن وقتادة.
فإن قيل : الأحزاب ينكرون كلّ القرآن.
فالجواب : أن الأحزاب لا ينكرون كل القرآن ؛ لأنه ورد في إثبات الله تعالى وإثبات قدرته وعلمه وحكمه وقصص الأنبياء عليه الصلاة والسلام وهم لا ينكرون هذه الأشياء.
وقيل : المراد بالكتاب : التوراة والإنجيل، وعلى هذه ففي الآية قولان :
الأول : قال ابن عباس رضي الله عنه :﴿ الذين ءاتيناهم الكتاب ﴾ كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعون بنجران وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، فرحوا بالقرآن، لأنهم آمنوا به وصدقوه.
وسبب فرحهم به أن ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في الابتداء فلما أسلم عبدالله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فنزلت الآية. والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين.
قال القاضي : وهذا القول أول من الأول ؛ لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن، فإذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة.
ويمكن أن يقال : إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة، ولهذا السبب حكى الله فرحهم به.
والثاني : أن الذي أتيناهم الكتاب : اليهود أعطوا التوراة، والنصارى الإنجيل يفرحون بما أنزل في القرآن، لأنه مصدق لما معهم ﴿ وَمِنَ الأحزاب ﴾ سائر الكفار ﴿ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ﴾ وهو قول مجاهد.
قال القاضي : وهذا لا يصح لقوله ﴿ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ أي جميع ما أنزل الله إليك ويمكن أن يجاب فيقال : إن قوله ﴿ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ لا يفيد العموم بدليل جواز إدخال لفظة الكل والبعض عليه، ولو كانت كلمة " ما " للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكراراً، وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً.
ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة فقال ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولاا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ﴾ وهذا كلام جامع لكل ماورد التكليف به، وفيه فوائد.
أولها : كلمة " إنَّمَا " للحصر، ومعناه : إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك.
وثانيها : أن العبادة غاية التعظيم، وذلك يدل على أن المرء كلف بذلك.
وثالثها : أن عبادة الله لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل وهذا يدل على أن المرء مكلفٌ بالنظر والاستدلال، في معرفة الصانع وصفاته وما يجب ويجوز ويستحيل عليه.
ورابعها : أن عبادة الله واجبة، وهي تبطل قول نفاة التكليف ويبطل القول بالجبر المحض.
وخامسها : قوله ﴿ ولاا أُشْرِكَ بِهِ ﴾ وهذا يدل على نفي الأضداد والأنداد بالكلية ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى من الشمس والقمر والكواكب الأصنام والأوثان والأرواح، وهو على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما تقوله الوثنية.
وسادسها : قوله ( إليه أدعو ) أي : كلما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات يجب عليه الدعوة إلى [ عبودية ] الله تعالى وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة.
قوله :﴿ ولاا أُشْرِكَ ﴾ قرأ نافع في رواية عنه برفع " ولا أشْرِكُ " وهي تحتمل الطقع، أي : وأنا لا أشرك. وقيل : هي حال.
وفيه نظر ؛ لأن المنفي ب " لا " كالمثبت في عدم مباشرة واو الحال.
قوله :﴿ وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً ﴾ الكاف في محل نصب، أي : وكما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض كذلك ﴿ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً ﴾ و " حُكْماً " حال من مفعول " أنْزلْنَاهُ ".
وقيل : شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل على من تقدم من الأنبياء أي : كما أنزلنا الكتب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بلسانهم كذلك أنزلنا إليك القرآن.
وقيل : كما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد فأنكره الأحزاب كذلك أنزلنا الحكم والدين " عربياً " نسب إلى العرب، لأنه منزل بلغتهم فكذب به الأحزاب، ولما كان القرآن مشتملاً على جميع أنواع التكاليف وكان سبباً للحكم جعل نفس الحكم مبالغة.

فصل


قالت المعتزلة : دلت الآية على حدوث القرآن من وجوه :
الأول : أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث.
والثاني : وصفه بكونه عربياً، والعربي هو الذي حصر بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاُ.
والثالث : أن الآية دلت على أنه إنما كان حكماً عربياً ؛ لأن الله جعله كذلك والموصوف بهذه الصفة محدث.
والجواب : أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث لانزاع فيه.
قوله :﴿ وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم ﴾ روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائهم، فتوعدوه الله على موافقتهم على تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوله الله عنها.
قال ابن عباس رضي الله عنه : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.
وقيل : المراد منه حث الرسول عليه الصلاة والسلام على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها، وذلك يتضمن تحذير جميع المكلفين بطريق الأولى.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ﴾ الآية اعمل أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشهبات في [إبطال] النبوة:
فالشهبة الأولى: قولهم: ﴿مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق﴾ [الفرقان: ٧] وهذه الشبهة ذكرها الله في سورة أخرى.
والشبهة الثانية: قولهم: الرسول الذي يرسله الله تعالى إلى الخلق لا بد أن يكون من جنس الملائكة كما قال: ﴿لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [الأنعام: ٨] وقالوا: ﴿لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة﴾ [الحجر: ٧].
الشهبة الثالثة: عابوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكثرة الزوجات، وقالوا لو كان رسولاً من عند الله لما اشتغل بالنسوة بل كان معرضاً عنهن مشتغلاً بالنسك والزهد فأجاب الله عَزَّ وَجَلَّ بقوله ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً﴾ وهذا أيضاً يصلح أن يكون جواباً عن الشبهات المتقدمة فقد كان لسليمان صلوات الله وسلامه عليه ثلاثمائة امرأة ممهرة وسبعمائة سرية، ولداود صلوات الله وسلامه عليه مائة امرأة.
والشبهة الرابعة: قولهم: لو كان رسولاً من عند الله لكان أي شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف، فأجاب الله تعالى عنه بقوله ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾.
الشبهة الخامس: أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخوفهم ينزول العذاب [وظهور النصرة له ولقومه، فلما تأخر ذلك احتجوا بتأخره للطعن في نبوته وصدقه، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ يعنى نزول العذاب على
318
الكفار] وظهور النصر والفتح للأولياء فقضى الله بحصولها في أوقات معينة ولكل حادث وقت معين و ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ فقيل: حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث، وتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كذاباً.
الشبهة السادسة: قالوا: لو كان صادقاً في دعوى الرسالة لما نسخ الأحكام التي نص الله على ثبوتها في الشرائع المتقدمة، كالتوارة والإنجيل، لكنه نسخها وحرفها كما في القبلة، ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل، فوجب أن لا يكون نبياً حقاً.
فأجاب الله تعالى عنه بقوله ﴿يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾ ويمكن أيضاً أن يكون قوله: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ كالمقدمة لتقرير هذا الجةاب، وذلك لأِنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيواناً عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة، ثم يبقيه مدة مخصوصة، ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه، فلما لم يمتنع أن يحيي أولاً ثم يميت ثانياً، فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات؟ فكان المراد من قوله ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ ما ذكرنا.
ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال ﴿يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾ أي: أنه يوجد تارة ويعدم أخرى، ويحيي تارة ويميت أخرى، ويغني تارة ويفقر أخرى، فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما تقضيه المشيئة الإلهية عند أهل السنة، أو بحسب رعاية المصالح عند المعتزلة.
قوله ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أي: لكل شيء وقت مقدر وقيل: لكل حادث وقت معين قضي الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة، ولا يتغير البتة عن ذلك الوقت.
وقيل: هذا من المقلوب أي: فيه تقديم وتأخير، أي: لكل كتاب أجل ينزل فيه، أي: لكل تاب وقت يعمل به، فوقت العمل بالتوراة قد انقضى، ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر.
وقيل: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ عند الملائكة، فللإنسان أحوال:
أولها نظفة ثم علقة ثم مضغة يصير شاباً ثم يصير شيخاً، وكذلك القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر السعادة والشقاوة والحسن والقبح.
وقيل: لكل وقت مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعملها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ فإذا جاء ذلك الوقت حدث الحادث، ولا يجوز حدوثه في غيره.
وهذه الآية صريحة من أن الكل بقضاء الله وقدره.
قوله: ﴿يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: «ويُثْبِتُ» مخففاً من «
319
أثْبَتَ» والباقون بالتشديد والتضعيف، والهمزة للتعدية ولا يصح أن يكون التضعيف للتكثير، إذ من شرطه أن متعدياً قبل ذلك، ومفعول «يُثْبِتُ» محذوف، أي: ويثبت ما يشاء والمحو: ذهاب أثر الكتابة، يقال: مَحَاهُ يَمْحُوهُ مَحْواً، إذا أذهب أثره.
قوله: «ويُثْبِتُ» قال النحويون: ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية الفعل الأول عن تعدية الفعل الثاني، وهو كقوله عَزَّ وَجَلَّ ﴿والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات﴾ [الأحزاب: ٣٥].

فصل


قال سعيد بن جبير وقتادة «يمحو الله مايشاء» من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله «ويُثْبِتُ» ما يشاء منها فلا ينسخه.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ﴿يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ﴾ الرزق والأجل والسعادة والشقاوة.
وعن ابن عمر وابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنهما قالا: «يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء.
وروي عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أنه كان يطف بالبيت وهو بيكي يقول:»
اللهم إن كنت كتبتي في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كانت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني منها بفضلك وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشائ وتثبت وعندك أم الكتاب «.
ومثله عن ابن مسعود وفي بعض الآثار: أن الرجل قد يكون بقي له من عمره ثلاثون سنة، فيقطع رحمه فيرد إلى ثلاثة أيام، والرجل قد بقي له من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة.
روي عن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم:
«ينْزِلُ اللهُ سبحانه وتعالى في آخر ثلاث سَاعاتِ يبقين من اللَّيل فنظر في الساعة الاولى منهنَّ في أم الكتاب الذي لا نظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت»
.
320
وقيل: الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحوا الله من دويان الحفظة ماليس فيه ثواب ولا عقاب، كقوله: أكلت. شربت. دخلت. خرجت، ونحوها من الكلام هو صادق فيه، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، قاله الضحاك والكلبي ورواه أبو بكر الأصم لأن الله تعالى قال في وصف الكتاب ﴿لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: ٤٩].
وقال تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧٨].
فأجاب القاضي عنه: بأنه لا يغادر من الذنوب صغير ولا كبيرة، ويمكمن أن يجاب عن هذا: بانكم خصصتم الكبيرة والصغيرة بالذنوب بمجرد اصطلاحكم، وأمام في أصل اللغة فالصغيرة والكبيرة تتناول كل فعل وعرضٍ، لأنه إن كان حقيراً فهو صغير وإن ك ان غير ذلك فهو كبير، وعلى هذا يتناول المباحات.
وقال عطية عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله، فهو الذي يمحو اوالذي يثبت هو الرجل يعمل بطاعة الله فيموت في طاعته فهو الذي يثبت».
وقال الحسن: ﴿يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ﴾ أي: من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله.
وعن سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يمحو الله ما يشاء: من ذنوب العباد ويغفرها وثبت ما يشاء فلا يغفرها.
وقال عكرمة: ما يشاء من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات، كما قال الله تعالى ﴿فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠] وقيل غير ذلك.
قوله ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾ أي: أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لايبدل ولا يغير، والأم: أصل الشيء، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمَّا له، ومنه أم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، وكد مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى.
قال ابن عباس في رواية عكرمة: هما كتابان: كتاب سمي أم الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وأم الكتاب لا يغيرمنه شيء، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق.
321
وعن عطاء عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم قال: إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوت، لله فيه كل ثوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحوا ما يشاء ويثبت ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾ [وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب] فقال: «علم الله ما خلقه ما هو خالقه إلى كيوم القيامة».
322
قوله :﴿ يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم :" ويُثْبِتُ " مخففاً من " أثْبَتَ " والباقون بالتشديد والتضعيف، والهمزة للتعدية ولا يصح أن يكون التضعيف للتكثير، إذ من شرطه أن متعدياً قبل ذلك، ومفعول " يُثْبِتُ " محذوف، أي : ويثبت ما يشاء والمحو : ذهاب أثر الكتابة، يقال : مَحَاهُ يَمْحُوهُ مَحْواً، إذا أذهب أثره.
قوله :" ويُثْبِتُ " قال النحويون : ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية الفعل الأول عن تعدية الفعل الثاني، وهو كقوله عز وجل ﴿ والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ].

فصل


قال سعيد بن جبير وقتادة " يمحو الله مايشاء " من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله " ويُثْبِتُ " ما يشاء منها فلا ينسخه.
وقال ابن عباس رضي الله عنه :﴿ يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ﴾ الرزق والأجل والسعادة والشقاوة.
وعن ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا :" يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء.
وروي عن عمر رضي الله عنه : أنه كان يطوف بالبيت وهو بيكي يقول :" اللهم إن كنت كتبتي في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كانت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني منها بفضلك وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب ".
ومثله عن ابن مسعود وفي بعض الآثار : أن الرجل قد يكون بقي له من عمره ثلاثون سنة، فيقطع رحمه فيرد إلى ثلاثة أيام، والرجل قد بقي له من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة.
روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم :
" ينْزِلُ اللهُ سبحانه وتعالى في آخر ثلاث سَاعاتِ يبقين من اللَّيل فنظر في الساعة الاولى منهنَّ في أم الكتاب الذي لا نظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ".
وقيل : الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحوا الله من ديوان الحفظة ماليس فيه ثواب ولا عقاب، كقوله : أكلت. شربت. دخلت. خرجت، ونحوها من الكلام هو صادق فيه، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، قاله الضحاك والكلبي ورواه أبو بكر الأصم، لأن الله تعالى قال في وصف الكتاب ﴿ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
وقال تعالى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧٨ ].
فأجاب القاضي عنه : بأنه لا يغادر من الذنوب صغير ولا كبيرة، ويمكن أن يجاب عن هذا : بانكم خصصتم الكبيرة والصغيرة بالذنوب بمجرد اصطلاحكم، وأمام في أصل اللغة فالصغيرة والكبيرة تتناول كل فعل وعرضٍ، لأنه إن كان حقيراً فهو صغير وإن كان غير ذلك فهو كبير، وعلى هذا يتناول المباحات.
وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما :" هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله، فهو الذي يمحو والذي يثبت هو الرجل يعمل بطاعة الله فيموت في طاعته فهو الذي يثبت ".
وقال الحسن :﴿ يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ ﴾ أي : من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله.
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : يمحو الله ما يشاء : من ذنوب العباد ويغفرها وثبت ما يشاء فلا يغفرها.
وقال عكرمة : ما يشاء من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات، كما قال الله تعالى ﴿ فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [ الفرقان : ٧٠ ] وقيل غير ذلك.
قوله ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب ﴾ أي : أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لايبدل ولا يغير، والأم : أصل الشيء، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمَّا له، ومنه أم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، وكد مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى.
قال ابن عباس في رواية عكرمة : هما كتابان : كتاب سمي أم الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وأم الكتاب لا يغيرمنه شيء، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق.
وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم قال : إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوت، لله فيه كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحوا ما يشاء ويثبت ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب ﴾ [ وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب ] فقال :" علم الله ما خلقه ما هو خالقه إلى يوم القيامة ".
قوله: ﴿وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب قبل وفاتك ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبل ذلك ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ﴾ ليس عليك إلا ذلك ﴿وَعَلَيْنَا الحساب﴾ والجزاء يوم القيامة.
قوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ﴾ جواب للشرط قبله. قال أبو حيان: «والذي تقدم شرطان، لأن المعطوف على الشرط شرط، فأما كونه جواباً للشرط الأول فلس بظاهر؛ لأنه لا يترتب عليه، إذ يصير المعنى: وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب ﴿وَعَلَيْنَا الحساب﴾ وأما كونه جواباً للشرط الثاني وهو ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ فكذلك لأنه يصير التقدير: إنما نتوفينك فإنما عليك البلاغ ولا يترتب جواب التبليغ عليه وعلى وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن التكليف ينقطع [عند الوفاة] فيحتاج إلى تأويل، وهو أن يقدر لكل شرط ما يناسب أن يكون جزاء مترتباً عليه، والتقدير: وإما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك أو نتوفينك قبل حلوله بهم، فلا لوم عليك ولا عتب».
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ الآية.
لما وعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بأن يريد بعض ما وعده أو يتوفاه قبل ذلك، بين ههنا أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت، فقال ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ﴾ يعني أن أهل مكة الذي يسألون محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الآيات ﴿أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ أكثر المفسرين على أن المراد: فتشح ديار الشرك فإن ما زاد من دار الإسلام قد نقص من دار الشرك؛ لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من
322
الكفرة قهراً وجبراً، فانتقاض أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أن الله تبارك وتعالى ينجز وعده فلا يعتبرون بهذا ونظيره قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون﴾ [الأنبياء: ٤٤] وقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣].
وقال قوم: هو خراب الأرض، أي: أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها، ونهلك أهلها، أفلا تخافون أن يفعل بكم ذلك؟ وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أيضاً: ننقصها من أطرافها، المراد موت كبرائها وأشرافها وعلمائها وذهاب الصلحاء. قال الواحدي: «وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول، ويمكن أن يقال: هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع؛ لأن قوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ﴾ أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة، وموت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم أن الله يقلب الأمر على هؤلاء الكفرة ويصيرهم ذليلين بعد عزهم ومقهورين بعد قهرهم، فناسب هذا الكلام ماقبله».
قوله: نَنْقُصهَا «حال إما من فاعل» نَأتِي «أو من مفعوله.
وقرأ الضحاك»
نُنَقِّصها «بالتضعيف، عداه بالتضعيف.
قوله:»
لا مُعَقِّبَ «جملة حالية، وهي لازمة. والمعقب: هو الذي يكرّ على الشيء فيبطله، قال لبيد: [الكامل]
٣١٨٨ -.................... طَلبُ المُعقِّبِ حَقَّهُ المظْلُومُ
والمعنى: والله يحكم لا رادَّ لحكمه. والمعقب: هو الذي يعقبه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب؛ لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع ﴿وَهُوَ سَرِيعُ الحساب﴾ قال بان عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الانتقام.
323
قوله: ﴿وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ يعني من قبل مشركي مكمة والمكر: إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر ﴿فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً﴾ أي: عند الله جزاء مكرهم.
قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: يعني أن مكر جمعي الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته لأنه تعالى هو الخالق لجميع العباد والمكر لا يضح إلا بإذنه، ولا يؤثر إلا بتقديره وفيه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمانٌ لهن من مكرهم، فكأنه قيل: إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره في المأمور به من الله تعالى وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله.
ثم قال جل ذكره ﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾، أي: أن اكتساب العباد معلوم لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله تعالى.
قالت المعتزلة: الآية الأولى إن دلت على قلوكم، فقوله ﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ دليل على قولنا، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة، ولو كان حدوث الفعل [بخلق] الله تعالى لم تكن لقدرة العبد فيه أثر، فوجب أن لا يكون للعبد فيه كسب.
والجواب: أن جميع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد.
ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال جل ذكره ﴿وَسَيَعْلَمُ الكفار﴾ قرأ ابن عامر والكوفيون «الكُفَّار» جمع تكسير والباقون: «الكَافِرُ» بالإفراد ذهاباً إلى الجنس.
وقرأ عبد الله «الكَافِرُونَ» جمع سلامة.
قال الزمخشري: «قرىء: الكَّفارُ والكَافرُون والذين كفرُوا، والكَافِرُ».
قال المفسرون: والمراد بالكافر: الجنس، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢].
وقال عطاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: يريد المستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون «وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد أبا جهل، والأول هو الصواب.
قوله: ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً﴾ الآية لما حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولاً من عند الله احتج عليهم بأمرين:
324
الاول: شهادة الله تعالى على نبوته، والمراد من تلك الشهادة تعالى أظهر المعجزات على صدقه في ادعاء الرسالة، وهذا أعظم مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن، وإظهار المعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله، فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة.
والثاني: قوله ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ العامة على فتح ميم» مَنْ «وهي موصولة، وفي محلها أوجه:
أحدها: أنها مجرورة المحل نسقاً على لفظ الجلالة، أي: بالله وبمنْ عِندْهُ علمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوه.
والثاني: أنها في محل رفع عطفاً على محل الجلالة، إذ هي فاعلة، والباء مزيدة فيها.
والثالث: أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، أي: ومن عنده علم الكتاب أعدل وأمضى قولاً، و ﴿عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ يجوز أن يكون الظرف صلة و»
عِلْمُ «فاعل به، واختاره الزمخشري وتقدم تقريره.
وأن يكون مبتدأ، وما قبله الخبر، والجملة صلة ل «مَنْ»
.
والمراد بمن عنده علم الكتاب: ابن سلام، أو جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قال ابن عطية: «ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ولا يجوز وإنما يعطف الصفات».
فاعترض أبو حيان عليه: بأن «مَنْ» لا يوصف بها ولا يغيرها من الموصولات إلا ما استثني، وبأن عطف الصفات بعضها على بعض لا يجوز إلا بشرط الاختلاف.
قال شهاب الدين: نما عنى ابن عطية الوصف المعنوي لا الصناعي، أما شرط الاختلاف فمعلوم.
وقرأ أبيّ وعلي وابن عباس وعكرمة وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد رضوان الله عليهم في خلق كثير ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ جعلوا «من» حرف جر، و «عنده» مجرور بها، وهذا الجار خبر مقدم، و «عِلْمُ» مبتدأ مؤخر، و «منْط لابتداء الغاية أي: ومن عند الله حصل علم الكتاب.
وقرأ علي أيضاً والحسن وابن السميفع ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ يحعلون»
من «جارة، و» عُلِمَ «مبنياً للمعفول و» الكِتابُ «رفع بهن. وقرىء كذلك؛ إلا أنه بتشديد» عُلِّمِ «والضمير في» عِنْده «على هذه القراءات لله تعالى فقط.
325
وقرىء أيضاً:» وبِمَن «بأعادة الباء الداخلة على» مَنْ «عطفاتً على [» باللهِ «].

فصل


على هذه القراءة الأولى المراد: شهادة مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري. وقال أبو البشر: قلت لسعيد بن جبير: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ أهو عبد الله بن سلام؟، فقال: وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية، وهو ممن آمنوا بالمدينة بعد الهجرة؟.
وأجيب: بأن هذه السورة وإن كانت مكية إلا إن هذه الآية مدنية.
ويعترض هذا أيضاً: بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين لا يجوز.
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والزجاج ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ هو الله سبحانه وتعالى.
وقال الأصم: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ أي: ومن عنده علم القرآن.
والمعنى: أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزاً إلا لمن علم ما فيه من الفصاحة والبلاغة واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة فمن عرف هذا الكتاب من هذا الوجه دل على كونه معجزاً.
وقيل: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ أي: الذي حصل عنده علم التوارة والإنجيل يعني كل من كان عالماً بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلوات الله وسلامه عليه فإذا انصف ذلك العالم ولم يكذبه كان ذلك شاهداً على أن محمداً رسول حق من عند الله صلوات الله وسلامه عليه.
وأما معنى القراءة الثانية: أي: أن أحداً لا يعلم الكتاب إلا من فضل وإحسانه وتعليمه، والمراد العلم الذي هو ضل الجهل.
وأما القراءة على مالم يسم فاعله، فالمعنى: أنه تعالى لما أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحتج عليهم بشهادة الله على نبوته، وكان لا معنى لشهادة الله على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه، ولا يعلم كون القرآن معجزاً إلا بعد الإحاطة بمعاني القرآن وأسراره،
326
بين الله تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله، والمعنى: أن الوقوف على كون القرآن معجزاً لا يحصل إلا لمن شرفه الله من عباده بأن يعلمه علم القرآن.
روى ابن عباس عن أبي بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ قَرَأ سُورةَ الرَّعدِ أعْطيَ مِنَ الأجْرِ عَشْر حَسنَاتٍ بِوزْنِ كُلِّ سَحابٍ مَضَى وكُلِّ سَحابِ يكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وكَانَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُوفِينَ بِعهْدِ اللهِ عزَّ وجلَّ سُبحَانهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ الحقُّ المُبِينُ».
327
سورة إبراهيم
مكية في قول الحسن، وعكرمة، وجابر. وقال ابن عباس، وقتادة - رضي الله عنهم - وهي مكية إلا اثنتين، وقيل: ثلاث من قوله تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا﴾ [الآية: ٢٨] إلى قوله تعالى: ﴿فإن مصيركم إلى النار﴾ فإنها مدنية. وهي اثنتان وخمسون آية، وعدد كلماتها ثمان مائة وإحدى وثلاثون كلمة وعدد حروفها ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا.
328
قوله :﴿ وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ يعني من قبل مشركي مكمة والمكر : إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر ﴿ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً ﴾ أي : عند الله جزاء مكرهم.
قال الواحدي رحمه الله : يعني أن مكر جمعي الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته لأنه تعالى هو الخالق لجميع العباد والمكر لا يصح إلا بإذنه، ولا يؤثر إلا بتقديره وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأمانٌ له من مكرهم، فكأنه قيل : إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره في المأمور به من الله تعالى وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله.
ثم قال جل ذكره ﴿ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ﴾، أي : أن اكتساب العباد معلوم لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله تعالى.
قالت المعتزلة : الآية الأولى إن دلت على قولكم، فقوله ﴿ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ﴾ دليل على قولنا، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة، ولو كان حدوث الفعل
[ بخلق ] الله تعالى لم تكن لقدرة العبد فيه أثر، فوجب أن لا يكون للعبد فيه كسب.
والجواب : أن جميع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد.
ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال جل ذكره ﴿ وَسَيَعْلَمُ الكفار ﴾ قرأ ابن عامر والكوفيون " الكُفَّار " جمع تكسير والباقون :" الكَافِرُ " بالإفراد ذهاباً إلى الجنس.
وقرأ عبدالله " الكَافِرُونَ " جمع سلامة.
قال الزمخشري :" قرىء : الكَّفارُ والكَافرُون والذين كفرُوا، والكَافِرُ ".
قال المفسرون : والمراد بالكافر : الجنس، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ ﴾ [ العصر : ٢ ].
وقال عطاء رحمه الله تعالى : يريد المستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون " وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أبا جهل، والأول هو الصواب.
قوله :﴿ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾ الآية لما حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولاً من عند الله احتج عليهم بأمرين :
الاول : شهادة الله تعالى على نبوته، والمراد من تلك الشهادة تعالى أظهر المعجزات على صدقه في ادعاء الرسالة، وهذا أعظم مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن، وإظهار المعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله، فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة.
والثاني : قوله ﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾ العامة على فتح ميم " مَنْ " وهي موصولة، وفي محلها أوجه :
أحدها : أنها مجرورة المحل نسقاً على لفظ الجلالة، أي : بالله وبمنْ عِندْهُ علمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوه.
والثاني : أنها في محل رفع عطفاً على محل الجلالة، إذ هي فاعلة، والباء مزيدة فيها.
والثالث : أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، أي : ومن عنده علم الكتاب أعدل وأمضى قولاً، و ﴿ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾ يجوز أن يكون الظرف صلة و " عِلْمُ " فاعل به، واختاره الزمخشري وتقدم تقريره.
وأن يكون مبتدأ، وما قبله الخبر، والجملة صلة ل " مَنْ ".
والمراد بمن عنده علم الكتاب : ابن سلام، أو جبريل عليه الصلاة والسلام.
قال ابن عطية :" ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ولا يجوز وإنما يعطف الصفات ".
فاعترض أبو حيان عليه : بأن " مَنْ " لا يوصف بها ولا يغيرها من الموصولات إلا ما استثني، وبأن عطف الصفات بعضها على بعض لا يجوز إلا بشرط الاختلاف.
قال شهاب الدين : نما عنى ابن عطية الوصف المعنوي لا الصناعي، أما شرط الاختلاف فمعلوم.
وقرأ أبيّ وعلي وابن عباس وعكرمة وعبدالرحمن بن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد رضوان الله عليهم في خلق كثير ﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾ جعلوا " من " حرف جر، و " عنده " مجرور بها، وهذا الجار خبر مقدم، و " عِلْمُ " مبتدأ مؤخر، و " منْط لابتداء الغاية أي : ومن عند الله حصل علم الكتاب.
وقرأ علي أيضاً والحسن وابن السميفع ﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾ يجعلون " من " جارة، و " عُلِمَ " مبنياً للمعفول و " الكِتابُ " رفع بهن، وقرىء كذلك ؛ إلا أنه بتشديد " عُلِّمِ " والضمير في " عِنْده " على هذه القراءات لله تعالى فقط.
وقرىء أيضاً :" وبِمَن " بأعادة الباء الداخلة على " مَنْ " عطفاتً على [ " باللهِ " ].

فصل


على هذه القراءة الأولى المراد : شهادة مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري. وقال أبو البشر : قلت لسعيد بن جبير :﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾ أهو عبد الله بن سلام ؟، فقال : وكيف يكون عبدالله بن سلام وهذه السورة مكية، وهو ممن آمنوا بالمدينة بعد الهجرة ؟.
وأجيب : بأن هذه السورة وإن كانت مكية إلا إن هذه الآية مدنية.
ويعترض هذا أيضاً : بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين لا يجوز.
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والزجاج ﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾ هو الله سبحانه وتعالى.
وقال الأصم :﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾ أي : ومن عنده علم القرآن.
والمعنى : أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزاً إلا لمن علم ما فيه من الفصاحة والبلاغة واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة فمن عرف هذا الكتاب من هذا الوجه دل على كونه معجزاً.
وقيل :﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾ أي : الذي حصل عنده علم التوارة والإنجيل يعني كل من كان عالماً بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلوات الله وسلامه عليه فإذا انصف ذلك العالم ولم يكذبه كان ذلك شاهداً على أن محمداً رسول حق من عند الله صلوات الله وسلامه عليه.
وأما معنى القراءة الثانية : أي : أن أحداً لا يعلم الكتاب إلا من فضل وإحسانه وتعليمه، والمراد العلم الذي هو ضد الجهل.
وأما القراءة على مالم يسم فاعله، فالمعنى : أنه تعالى لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحتج عليهم بشهادة الله على نبوته، وكان لا معنى لشهادة الله على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه، ولا يعلم كون القرآن معجزاً إلا بعد الإحاطة بمعاني القرآن وأسراره، بين الله تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله، والمعنى : أن الوقوف على كون القرآن معجزاً لا يحصل إلا لمن شرفه الله من عباده بأن يعلمه علم القرآن.
روى ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
Icon