" بسم الله " كلمة سماعها يورث لقوم طلبا ثم طربا، ولقوم حزنا ثم هربا، فمن سمع بشاهد الرجاء طلب وجود رحمته فأذنه لها طرب، ومن سمع بشاهد الرهبة حزن من خوف عقوبته ثم إليه هرب.
ﰡ
أقسم بما تدل عليه هذه الحروف من أسمائه إِنَّ هذه آيات الكتاب الذي أخبرتُ أَنِّي أُنَزِّلُ عليك.
فالألف تشير إلى اسم " الله "، واللام تشير إلى اسم " اللطيف "، والميم تشير إلى " المجيد "، والراء تشير إلى اسم " الرحيم " قال بسم الله اللطيف المجيد الرحيم إن هذه آياتُ الكتاب الذي أخبرتُ إني أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم. ثم عَطَفَ عليه بالواو قوله تعالى :﴿ والذي أُنِزلَ إلَيك مِن رَّبِّكَ الحَقُّ ﴾ هو حق وصدق، لأنه أنزله على نَبيِّه - صلى الله عليه وسلم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
أي ولكن الأكثر من الناس من أصناف الكفار لا يؤمنون به، فَهُمْ الأكثرون عدداً، والأقلون قَدْراً وخَطَراً.
و ﴿ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ : أي احتوى على مُلْكِه احتواءَ قُدْرَةٍ وتدبير. والعرشُ هو المُلْكُ حيث يقال : أندكَّ عرشُ فلان إذا زال مُلْكُه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌ يَجْرِى لأَِجَلٍ مُّسَمّىً. . . . ﴾.
كلٌّ يجري في فَلَكٍ. ويدلُّ كل جزء من ذلك على أنه فِعلُ في مُلْكِه غير مشترك.
وقومٌ أطلقوا اللفظ بأن هذا من باب الموافقة أي إنك إن تعجب فهذا عجب موافقتك له.
وإطلاق هذا - وإن كان فيه إشارة إلى حالة لطيفة - لا يجوز، والأدبُ السكوتُ عن أمثال هذا. والقوم عبّروا عن ذلك فقالوا : أعجبُ العجبِ قول ما لا يجوز في وصفه العجب. . وإنْ تعجَّب.
وقوله تعالى :﴿ أَءِذَا كُنَّا تُرَاَباً أءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ : استبعادُهم النشأةَ الثانيةَ- مع إقرارهم بالخَلْقِ الأولِ وهما في معنىً واحد - موضعُ التعجب، إذ هو صريح في المناقضة، وكان القومُ أَصحابَ تمييز وتحصيل، فقياسٌ مثل هذا يدعو إلى العجب. ولكن لولا أن الله - سبحانه - لَبَّسَ عليهم كما قال :﴿ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ [ يس : ٩ ] - وإلا ما كان ينبغي أَنْ يخفي عليهم جواز هذا مع وضوحه١.
وإذا غيَّروا ما بهم إلى الطاعات غيَّر الله ما بهم منه من الإحسان والنعمة، وإذا كانوا في نعمة فغيَّروا ما بهم من الشكر لله تغيَّر عليهم ما مَنَّ به من الإنعام فيسلبهم ما وهبهم من ذلك، وإذا كانوا في شدة لا يغير ما بهم من البلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أخذوا في التضرع، وأظهروا العجز غيَّر ما بهم من المحنة بالتبديل والتحويل.
ويقال إذا غيَّروا ما بألسنتهم من الذِّكْرِ غيَّر الله ما بقلوبهم من الحظوظ فأبدلهم به النسيانَ والغفلة، فإذا كان العبد في بسطةٍ وتقريب، وكشفٍ بالقلب وترقب. . فاللَّهُ لا يُغَيِّر ما بأنفسهم بترك أدبٍ، أو إخلال بحقٍ، أو إلمام بذنبٍ.
ويقال لا يَكُفُّ ما أتَاحه للعبد من النعمة الظاهرة أو الباطنة حتى يتركَ ويُغَيِّر ما هو به من الشكر والحمد. فإذا قابل النعمة بالكفران، وأبدل حضور القلب بالنسيان وما يُطيح به من العصيان. . أبدل اللَّهُ تعالى ما به من النعمة بالحرمان والخذلان، وسَلَبَه ما كان يعطيه من الإحسان.
ويقال إذا توالت المحنُ وأراد العبدُ زوالَها فلا يصل إليه النَّفْضُ٢ منها إلاَّ بأَنْ يغير ما هو به ؛ فيأخذ في السؤال بعد السكوت، وفي إظهار الجَزَع بعد السكون، فإذا أخذ في التضرع غيَّر ما به من الصبر.
قوله :﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بَقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ﴾ : يقال إذا أراد اللَّهِ بقومٍ بلاءً وفتنة فما تعلَّقَتْ به المشيئة لا محالة يجري.
ويقال إذا أراد الله بقوم سوءاً (. . . )٣ أعينهم حتى يعملوا ويختاروا ما فيه بلاؤهم، فهم يمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، ويسعون - في الحقيقة - في دَمِهِم كما قال قائلهم :
إلى حَتْفِي مَشَى قدمي | إذا قَدَمِي أراق دمي |
﴿ خَوْفَاً ﴾ : من أن ينقطع ولا يبقى، ﴿ وَطَمَعاً ﴾ : في أن يدومَ فيه نقلُ صاحبه من المحاضرة إلى المكاشفة، ثم من المكاشفة إلى المشاهدة، ثم إلى الوجود ثم دوام الوجود ثم إلى كمال الخمود.
ويقال :﴿ يَرِيكُمُ الْبَرْقَ ﴾ : من حيث البرهان، ثم يزيد فيصير كأقمار البيان، ثم يصير إلى نهار العرفان. فإذا طلعت شموسُ التوحيدِ فلا خفاءَ بعدها ولا استتار ولا غروب لتلك الشموس، كما قيل :
هي الشمسُ إلا أَنَّ للشمس غيبة | وهذا الذي نَعْنيه ليس يغيب |
أي يوم سررتني بوصالٍ | لم تَدَعْني ثلاثةً بصدود ؟ ! |
إذا انتاب السحابةَ في السماء ظلامٌ في وقتٍ فإنه يعقبه بعد ذلك ضحكُ الرياض، فَمَا لَمْ تَبْكِ السماءُ لا يضحكُ الروضُ، كما قيل :
ومأتمٌ فيه السماءُ تبكي*** والأرضُ من تحتها عَرُوسُ
كذلك تنشأ في القلب سحابة الطلب، فيحصل للقلب ترددُ الخاطر، ثم يلوح وجهُ الحقيقة، فتضحكُ الروح لفنونِ راحاتِ الأُنْس وصنوفِ ازهارِ القُرْب.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ في اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ ﴾.
قد يكون في القلب حنين وأنين، وزفير وشهيق. والملائكة إذا حصل لهم على قلوب المريدين - خصوصاً - إطلاع يبكون دَمَاً لأَجْلهم، لاسيّما إذا وقعت لواحدٍ منهم فترةُ، والفترةُ في هذه الطريقة الصواعقُ التي يصيب بها من يشاء، وكما قيل :
ما كان ما أَوْلَيْتَ مِن وَصْلنا | إلا سراجاً لاح ثم انْطَفا |
ودواعي الحقِّ تكون بلا واسطة مَلَكٍ، ولا بدلالة عقل، ولا بإشارة علم، فمن أسمعه الحقُّ ذلك استجاب لا محالَة لله بالله.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ في ضَلاَلٍ ﴾.
هواجس النَّفسِ ودواعيها تدعو - في الطريقة - إلى الشّركِ، وذلك بشهود شيءٍ منكَ، وحسبان أمرٍ لَكَ، وتعريجٍ في أوطان الفرْق، والعَمَى عن حقائق الجَمْع.
ويقال السجود على قسمين : ساجدٌ بِنَفْسِه وساجدٌ بقلبه ؛ فسجودُ النَّفْسِ معهود، وسجودُ القلب من حيث الوجود. . وفَرْقٌ بين من يكون بنفسه، وواجد بقلبه.
ويقال الكلُّ يسجدون لله ؛ إِمَّا من حيث الأفعال بالاختيار، أو من حيث الأحوال بنعت الافتقار والاستبشار : سجودٌ من حيث الدلالة على الوحدانية ؛ فكلُّ جزءٍ من عين أو أثر فَعَلَى الوحدانية شاهدٌ، وعلى هذا المعنى للَّهِ ساجدٌ. وسجود من حيث الشهادة على قدرة الصانع واستحقاقه لصفات الجلال.
ثم قال :﴿ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ﴾ : يعني الأصنام، وهي جمادات لا تملك لنفسها نَفْعَاً ولاَ ضَرَّاً، ويلتحق في المعنى بها كلُّ مَنْ هو موسومٌ برقم الحدوث، فَمَنْ علَّقَ قلبَه بالحدثان ساوَى - مِنْ وجهٍ - مَنْ عَبَدَ الأصنام، قال تعالى :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٦ ].
قوله جلّ ذكره :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَمْ هَلْ تََسْتَوِى الظُّلُمَاتُ والنُّورُ ﴾.
الأعمى مَنْ على بصيرته غشاوة وحجبة، والبصيرُ مَنْ كَحَّلَ الحقُّ بصيرة سِرِّه بنور التوحيد. . لا يستويان !
ثم هل تستوي ظلماتُ الشِّرك وأنوارُ التوحيد ؟ ومن جملة النور الخروجُ إلى ضياء شهود التقدير.
قوله جلّ ذكره :﴿ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَئٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ﴾.
أي لو كان له شريك لَوَجَبَ أن يكون له نِدٌّ مُضاهٍ، وفي جميع الأحكام له موازٍ، ولم يجدِ حينئذٍ التمييزُ بين فِعْلَيْهِما.
وكذلك لو كان له ندٌّ. . فإنَّ إثباتَهما شيئين اثنين يوجِب اشتراكَهما في استحقاق كل وصف، وأن يكون أحدهما كصاحبه أيضاً مستحقاً له، وهذا يؤدي إلى ألا يُعْرَفَ المَحَلُّ. . . وذلك محال.
﴿ وَكُلُّ شَئٍ ﴾ تدخل فيه المخلوقات بصفاتها وأفعالها، والمخاطِبُ لا يدخل في الخطاب.
﴿ وَهُوَ الوَاحِدُ ﴾ : الذي لا خَلَفَ عنه ولا بَدَل، الواحد الذي في فضله منزه عن فضل كل أحد، فهو الكافي لكلِّ أحد، ويستعين به كل أحد.
و ﴿ الْقَهَّارُ ﴾ : الذي لا يجري بخلاف حُكْمِه - في مُلْكِه - نَفَسٌ.
وكما أنَّ الجواهَر التي تتخذ منها الأواني إذا أذيبت خَلَصتْ من الخَبَثِ كذلك الحق يتميز من الباطل، ويبقى الحقُّ ويضمحل الباطل.
ويقال إن الأنوار إذا تلألأت في القلوب نَفَت آثار الكلفة، ونور اليقين ينفي ظلمة الشك، والعلم ينفي تهمة الجهل، ونور المعرفة ينفي أثر النكرة، ونور المشاهدة ينفي آثار البشرية، وأنوار الجمع تنفي آثار التفرقة. وعند أنوار الحقائق تتلاشى آثار الحظوظ، وأنوار طلوعِ الشمس من حيث العرفان تنفي سَدَفَةَ الليل من حيث حسبان أثر الأغيار.
ثم الجواهر التي تتخذ منها الأواني مختلفة فَمِنْ إناءٍ يتخذ من الذهب وآخر من الرصاص، إلى غيره، كذلك القلوب تختلف، وفي الخبر :" إن لله تعالى أوانيَ وهي القلوب " ٥ فزاهد قاصدٌ ومحب واجِدٌ، وعابدٌ خائفٌ ومُوحِّدٌ عارفٌ، ومتعبِّدٌ متعفِّفٌ ومتهجِّدٌ متصوف، وأنشدوا :
ألوانُها شتَّى الفنونِ وإنما | تُسْقى بماءٍ واحدٍ من مَنْهَلِ |
أما الذين لم يستجيبوا له فلو أَنّ لهم جميع ما في الأرض وأنفقوه عَمْداً لا يُقْبَلُ منهم، ولهم سوءُ الحساب، وهو المناقشة في الحساب، ثم مأواهم جهنم ودوام العذاب.
وميثاقُ قومٍ ألا يعبدوا شيئاً، وميثاق قومٍ ألا يسألوا سواه.
ويقال الذين يصلون أنفاسَهم بعضاً ببعض ؛ فلا يتخلَّلُها نَفَسٌ لغير الله، ولا بغير الله، ولا في شهود غير الله.
ويقال يَصِلُون سَيْرَهم بِسُرَاهم في إقامة العبودية، والتبرِّي من الحول والقوة.
وقوله :﴿ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ : الخشية لجامٌ يُوقفُ المؤمنَ عن الرَّكْضِ في ميادين الهوى، وزِمامٌ يَجُرُّ إلى استدامة حكم التُّقَى.
وقوله :﴿ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴾ هو أن يبدو من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
ومما يجب عليه الصبر الوقوفُ على حكم تَعزُّز الحق، فإنَّه - سبحانه - يتفضِّل على الكافة من المجتهدين، ويتعزز - خصوصاً- على المريدين، فيمنحهم الصبر في أيام إرادتهم، فإذا صَدَقُوا في صبرهم جَادَ عليهم بتحقيق ما طلبوا.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيةً ﴾.
الأغنياء ينفقون أموالَهم. والعُبَّاد ينفقون نفوسَهم ويتحملون صنوف الاجتهاد، ويصبرون على أداء الفرائض والأوراد. والمريدون ينفقون قلوبهم فيسرعون إلى أداء الفرائض والأوراد ويصبرون إلى أن يبوحَ علم من الإقبال عليهم. وأمَّا المحبون فينفقون أرواحَهم. . وهي كما قيل :
ألستَ لي خَلَفاً ؟ كفى شَرَفَاً | فما وراءكَ لي قَصْدٌ ومطلوبُ |
يعاشرون الناس بِحُسْنِ الخلُق ؛ فيبدأون بالإنصاف ولا يطلبون الانتصاف، وإِنْ عَامَلَهم أحدٌ بالجفاء قابلوه بالوفاء، وإِنْ أذنب إليهم قومٌ اعتذروا عنهم، وإن مرضوا عادوهم.
وقوله :﴿ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾، هو نقض قوله :﴿ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ [ الرعد : ٢١ ].
ويقال نقض العهد هو الاستعانة بالأغيار، وتَرْكُ الاكتفاء بالله الجبّار.
ويقال نَقْضُ العهد الرجوع إلى الاختيار والتدبير بعد شهودِ الأقدار، وملاحظة التقدير.
ويقال نقض العهد بِتَرْكِ نَفْسِه، ثم يعود إلى ما قال بتركه.
يبسط الرزق للأغنياء ويُطَالِبُهم بالشكر ؛ ويُضَيِّقُ على الفقراء ويطالبهم بالصبر. وَعَدَ الزيادةَ للشاكرين، ووعد المَعِيَّة للصابرين. للأغنياء الأموال بمزيدها، وللفقراء التجرد في الدارين عن طريفها وتليدها.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ في الآخرة إلاَّ مَتَاعٌ ﴾.
فَرِحَ الأغنياءُ بزكاء أموالهم، وفَرِحَ الفقراء بصفاء أحوالهم.
﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدنيا في الآخرة إلاَّ مَتَاعٌ ﴾ قليلٌ بالإضافة إلى ما وعدهم الله، فأموالُ الأغنياء- وإنْ كَثُرَت - قليلةٌ بالإضافة إلى ما وعَدَهم من وجود أفضاله، وأحوال الفقراء- وإنْ صَفَتْ - قليلة بالإضافة إلى ما وعدهم من شهود جماله وجلاله.
﴿ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ [ النور : ٤٦ ] : وهم الذين أبصروا بعيون أسرارهم ما خُصَّ به من الأنوار فسكنوا بنور استبصارهم.
ويقال إذا ذكروا أَنَّ الله ذَكَرَهم استروحت قلوبُهم، واستبشرت أرواحُهم، واستأنست أسرارُهم، قال تعالى :﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ ﴾ لِمَا نالت بِذِكْرِهِ من الحياة، وإذا كان العبدُ لا يطمئن قلبُه بذكر الله، فذلك لِخَللٍ في قلبه، فليس قلبه بين القلوب الصحيحة.
ويقال طوبى لمن قال له الحقُّ : طوبى.
طوبى لهم في الحال، وحُسْنُ المآب في المآل.
قوله جلّ ذكره ﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّى لا إلَهَ إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾.
لئن كفروا بنا فآمِنْ أنت، وإذا آمنتَ فلا تبالِ بِمَنْ جَحَد، فإِنَّك أنت المقصودُ من البَرِيَّة، والمخصوصُ بالرسالة والمحبة.
لو كان يجوز في وصفنا أن يكون لنا غرضٌ في أفعالنا.
ولو كان الغرض في الخِلْقَة فأنت سيد البَشَر، وأنت المخصوص من بين البشرية بحسن الإقبال، فهذا مخلوق يقول في مخلوق :
وكنتُ أَخَّرْتُ أوطاري لوقت | فكان الوقت وقتك والسلام |
وكنت أطالِبُ الدنيا بِحُبِّ | فكنتَ الحُبَّ. . وانقطع الكلام |
قوله جلّ ذكره ﴿ أَفَلَمْ يَايْئَسِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ﴾.
معناه أفلم يعلم الذين آمنوا، ويقال أفلم ييأسوا من إيمانهم وقد علموا أنه من يهديه الحق فهو المهتدي ؟
قوله جلّ ذكره ﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةُ أَوْ تَحُلَّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ ﴾.
يعني شؤمُ كُفْرِهم لا يزال واصلاً إليهم، ومقتصُّ فعلهم لاحِقٌ بهم أبداً.
الجواب فيه مضمر ؛ أي أفمن هو مُجْرِي ومنشئ الخَلْقِ والمُطَّلِعُ عليهم، لا يَخْفَى عليه منهم شيءٌ كَمَنْ ليس كذلك ؟ لا يستويان غداَ أبداً.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِئُّونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ في الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القَوْلِ ﴾.
قُل لهم أروني أي تأثير منهم، وأي نفع لكم فيهم، وأي ضرر لكم منهم ؟ أتقولون ما يعلم الله بخلافه ؟ وهذا معنى قوله :﴿ بِمَا لاَ يَعْلَمُ ﴾.
قوله جلّ ذكره :﴿ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضِلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.
أي قد تبين لكم أن ذلك من كيد الشيطان، وزين للذين كفروا مكرهم، وصاروا مصدودين عن الحق، مسدودة عليهم الطُّرُقُ، فإنَّ مَنْ أَضَلَّه حُكْمُه - سبحانه - لا يهديه أحدٌ قطعاً.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمِنَ الأَحَزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ﴾.
أي الأحزاب الذين قالوا كان محمد يدعو إلى إله واحد، فالآن هو ذا يدعو إلى إلهين لمَّا نزل :﴿ قَلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادعُوا الرَّحَمْنَ ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ].
قوله جلّ ذكره :﴿ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَئَابِ ﴾.
قل يا محمد :﴿ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ﴾. والعبوديةُ المبادرة إلى ما أُمِرْتُ به، والمحاذرة مما زجُرْتُ عنه، ثم التبرِّي عن الحَوْل والمُنَة، والاعتراف بالطوْل والمِنَّة.
وأصل العبودية القيام بالوظائف، ثم الاستقامة عند رَوْح اللطائف.
ويقال مِنْ صفات العرب الشجاعة والسخاء ومراعاة الذِّمام، وهذه الأشياء مندوبٌ إليها في الشريعة.
﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوآءَهُم ﴾ : أي ولئن وافقتهم، ولم تعتصم بالله، ووَقَعَتْ على قلبك حشمةٌ من غير الله - فَمَا لَكَ من واقٍ من الله.
ويقال إن من اشتغل بالله فكثرة العيال وتراكم الأشغال لا تؤثر في حاله ؛ ولا يضره ذلك.
قوله جلّ ذكره ﴿ لِكُلِّ أَجَلِ كِتَابٌ ﴾.
أي لكل شيء أجل مثبت في كتاب الله وهو المحفوظ، وله وقت قُسِمَ له، وأنه لا اطلاعَ لأحدٍ على علمه، ولا اعتراضَ لأحدٍ على حُكْمه.
فصفات ذات الحق - سبحانه - من كلامه وعلمه، وقوْلِه وحُكْمِه لا تدخل تحت المحو والإثبات، وإنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله ؛ المحوُ يرجع إلى العَدَم، والإثباتُ إلى الإحداثِ، فهو يمحو من قلوب الزُّهاد حُبَّ الدنيا ويُثْبِتُ بَدَلَه الزهدَ فيها، كما في خبر حارثَةَ :" عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي حَجَرُها وذَهبُها ".
ويمحو عن قلوب العارفين الحظوظَ، ويُثْبِتُ بدلها حقوقَه تعالى، ويمحو عن قلوب المُوحِّدين شهودَ غير الحق ويثبت بَدَلَه شهود الحق، ويمحو آثار البشرية ويثبت أنوار شهود الأحدية.
ويقال يمحو العارفين عن شواهدهم، ويثبتهم بشاهد الحق.
ويقال يمحو العبد عن أوصافه ويثبته بالحقِّ فيكون محواً عن الخْلق مثبتاً بالحق للحق.
ويقال يمحو العبد فلا يجري عليه حكم التدبير، ويكون محواً بحسب جريان أحكام التقدير، ويثبت سلطانَ التصديق والتقليب بإدخال ما لا يكون فيه اختيار عليه على ما يشاء.
ويقال يمحو عن قلوب الأجانب ذِكْرَ الحق، ويثبت بَدَلَه غلبات الغفلةِ وهواجِمَ النسيان.
ويقال يمحو عن قلوب أهل الفترة ما كان يلوح فيها من لوامع الإرادة، ويثبت بدلها الرجوعَ إلى ما خرجوا عنه من أحكام العادة.
ويقال يمحو أوضارَ الزَّلَّة عن نفوس العاصين، وآثار العصيان عن ديوان المذنبين ( ويثبت ) يدل ذلك لَوْعَةَ النَّدم، وانكسار الحَسْرَةِ، والخمودَ عن متابعة الشهوة.
ويقال يمحو عن ذنوبهم السيئةَ، ويثبت بدلها الحسنة، قال تعالى :﴿ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَنَاتٍ ﴾ [ الفرقان : ٧٠ ].
ويقال يمحو الله نضارةَ الشباب ويثبت ضعفَ المشيب.
ويقال يمحو عن قلوب الراغبين في مودة أهل الدنيا ما كان يحملهم على إيثار صحبتهم، ويثبت بدلاً منه الزهد في صحبتهم والاشتغال بعِشْرَتِهِم.
ويقال يمحو الله ما يشاء من أيام صَفَتْ من الغيب، وليالٍ كانت مُضاءةً بالزلفة والقربة ويثبت بدلاً منه ذلك أياماً في أشدُّ ظلاماً من الليالي الحنادس، وزمانا يجعل سَعَةَ الدنيا عليهم محابِس.
ويقال يمحو العارفين بكشف جلاله، ويثبتهم في وقت آخر بلطف جماله.
ويقال يمحوهم إذا تجلَّى لهم، ويثبتهم إذا تعزَّز عليهم.
ويقال يمحوهم إذا ردّهم إلى أسباب التفرقة لأنهم يبصرون بنعت الافتقار والانكسار، ويثبتهم إذا تجلَّى لقلوبهم فيبصرون بنعت الاستبشار، ويشهدون بحكم الافتخار.
قوله جلّ ذكره ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ ﴾.
قيل اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه ما سبق به عِلْمُه وحُكْمُه مما لا تبديلَ ولا تغييرَ فيه.
ويقال إنه إشارة إلى علمه الشامل لكل معلوم.
ويقال هو ذهاب أهل المعرفة حتى إذا جاء مسترشِدٌ في طريق الله لم يجد مَنْ يهديه إلى الله.
ويقال : في كل زمان لسانٌ ينطق عن الحقِّ سبحانه، فإذا وَقَعتْ فترةٌ سكنَ ذلك اللسانُ - وهذا هو النقصان في الأطراف الذي تشير إليه الآية، وأنشد بعضهم :
طوى العصران ما نشراه مني | وأبلى جدتي نشرٌ وطيُّ |
أراني كلَّ يومٍ في انتقاصٍ | ولا يبقى مع النقصان شيءُ |
ويقال ينقصها من أطرافها بخرابِ البلدان، قال تعالى :﴿ كُلُّ شَئٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ ﴾
[ القصص : ٨٨ ] وقال :﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ [ الرحمن : ٢٦ ] فموعودُ الحقِّ خرابُ العَالَمِ وفناءُ أهلِه، ووعدُه حقٌّ لأن كلامَه صِدْقٌ، واللَّهُ يحكم لا مُعَقِّبَ لِحُكمِه، ولا ناقِضَ لما أبرمه، ولا مُبْرِمَ لِمَا نَقَضَه، ولا قابل لِمَنْ رَدَّه، ولا رادَّ لِمَنْ قَبِلَه ولا مُعِزَّ لِمَنْ أهانه، ولا مُذِلَّ لمن أعَزَّه.
﴿ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ ﴾ [ الرعد : ٤١ ] : لأن ما هو آتٍ فقريب.
ويقال ﴿ سَرِيعُ الحِسَابِ ﴾ [ الرعد : ٤١ ] في الدنيا ؛ لأَنَّ الأولياءَ إذا ألموا بشيءٍ، أو هَمُّوا لمزجورٍ عُوتِبُوا في الوقت، وطولِبوا بِحُسْنِ الرُّجعي.
١ الآيات : من ( ٥ -١٠ ) لم ترد.
٢ النفض : نفض الرجل من مرضه : برىء منه.
٣ بياض في الأصل.
٤ الزبد : ما يعلو الماء وغيره من الرغوة.
٥ أخرجه الزبيدي في ( إتحاف السادة المتقين ٦/٢٠٩ )، والعراقي في ( المغني عن حمل الأسفار ٢/١٧٣.