مدنية وآياتها ثلاث وأربعون
سورة الرعد مدنية على قول بعض العلماء، ومكية على قول آخرين، ويجزم المرحوم سيد قطب أنها مكية بخلاف ما ورد في المصحف الأميري. ومكية السورة شديدة الوضوح، سواء في طبيعة موضوعها أو طريقة أدائها، أو في جوها العام، الذي لا يخطئ تنسمه من يعيش فترة في ظلال هذا القرآن. وعدد آياتها ثلاث وأربعون وسميت " الرعد " لقوله تعالى :﴿ يسبح الرعد بحمده ﴾.
وقد ابتدأت هذه السورة ببيان منزلة القرآن الكريم، وأنه وحي من الله، ثم بينت سلطان الله تعالى في الكون ونبّهت إلى ما فيه من إبداع ومنافع. ومن بيان قدرة الله في الإنشاء انتقلت إلى بيان قدرته على الإعادة والبعث، وعلمه بكل شيء، وقدرته على العقاب في الدنيا، وعليه يقاس العقاب في الآخرة. وبعد ذلك ذكرت السورة أحوال الناس في تلقيهم للهدى القرآني، ثم أوصاف المؤمنين في علاقاتهم بالإنسانية، وأخلاق الكافرين وتعنتهم في طلب معجزات غير القرآن.
وفي السورة بيان للرسول الكريم أنه قد استهزئ برسل من قبله، وأن الله تعالى قائم على الأشياء والنفوس، مجاز كلاً بما يستحق، وأن القرآن هو المعجزة الكبرى الباقية إلى يوم القيامة، فإذا كان المشركون ينكرون رسالة النبي عليه الصلاة والسلام فإن الله يشهد بصدقها وكفى بالله شهيدا.
وهذه السورة من أعاجيب السور القرآنية التي تستمر في نفس واحد، وإيقاع واحد، وجو واحد من بدئها إلى نهايتها، وتطوف بالقلب البشري في مجالات وآفاق، وتعرض عليه الكون كله في شتى مجالاته الأخّاذة، في السماوات المرفوعة بغير عمد، وفي الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، وفي الليل يغشاه النهار، وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواس ثابتة وأنهار جارية، وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان، ينبت في قطع من الأرض متجاوزات ويسقى بماء واحد، وفي البرق يخيف ويطمع، والرعد يسبح ويحمِّد.
وقد نزلت بعد سورة " محمد " على القول بأنها مدنية. وتتم مناسبتها للسورة التي قبلها وهي يوسف من وجوه :
١- أن الله تعالى أجمل في السورة السابقة الآيات السماوية والأرضية في قوله :
﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ﴾.
ثم فصَّلها هنا في سورة الرعد أتم تفصيل في عدة مواضع.
٢- أنه أشار في سورة يوسف إلى أدلة التوحيد بقوله :﴿ أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ﴾. ثم فصّل الأدلة هنا بإسهاب لم يذكر في سورة يوسف.
٣- أنه ذكر في كلتا السورتين أخبار الماضين مع رسلهم، وأنهم لاقوا منهم ما لاقوا وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وكتب الخزي على الكافرين، والنصر لرسله والمؤمنين.
٤- جاء في آخر سورة يوسف وصف القرآن بقوله :﴿ ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾.
٥- وفي أول سورة الرعد قوله تعالى :﴿ تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾.
بسم الله الرحمان الرحيم
ﰡ
تبدأ بها بعض سور القرآن، وهي تشير إلى أنه معجز مع أنه مكون من الحروف.
إن تلك الآياتِ العظيمةَ هي هذا القرآن، الكتاب العظيم الذي نزل عليك أيها النبي، بالحق والصدق من الله الذي خلقك، ولكنّ أكثرَ الناس
لا يصدّقون بما جاء به من الحق.
هكذا تبدأ السورة بقضية من قضايا العقيدة : قضيةَ الوحي بهذا الكتاب، والحق الذي اشتمل عليه، وتلك هي قاعدةٌ بقية القضايا من توحيد الله، والإيمان بالبعث والجزاء، والعمل الصالح في هذه الحياة، فكلُّها متفرعة عن الإيمان بالله، وإن هذا القرآن وحي من عنده.
بعد أن ذَكّر اللهُ تعالى أن أكثر الناس لا يؤمنون، بدأ هنا باستعراض آياتِ القدرة، وعجائب الكون الدّالة على قدرة الخالق وحكمته وتدبيره، وما في هذا الكون من أمور تدل على وجوده ووحدانيته، بعضها سماويّ، وبعضها أرضي.
إن الله الذي أنزلَ هذا الكتابَ هو الذي رفع ما ترون من سمواتٍ تجري فيها النجوم بغير أعمدٍ ترى ولا يعلمها إلى الله، ثم مَلَكَ هذا الكونَ باستيلائه على العرش، وسخّر الشمس والقمر وجعلهما طائعين، فكلٌّ يسيرُ في مدارٍ له لوقتٍ معين بنظام عجيب. وهو سبحانه يدبرّ كل شيء، ويبيّن لكم آياتِه الكونيةَ الدالة على القدرة الكاملة والحكمة الشاملة.
﴿ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾.
حين ترون هذه الآيات مفصّلة منسقة.
رواسي : جبال ثابتة.
يغشى الليل النهار : يغطيه ويستره.
وبعد أن ذكر سبحانه الدلائل السماوية على وحدانيته أردفها بالأدلة الأرضية فهو سبحانه الذي بسط لكم الأرض، وجعلها متَّسعةً تسيرون فيها شرقا وغربا، وهي لِعظَمِها تظهر مبسوطة مع أنها مكوّرة ( وهذا أيضاً من عجائب الكون ) وجعل فيها جبالاً ثابتة راسيات وأنهاراً تجري لمنافع الإنسان والحيوان. وقد جعل في هذه الأرض زوجين اثنين، ذكراً وأنثى، من كل أصناف الثمرات. ويتم التلقيح بينهما تلقائيا إذا كان في شجرة واحدة أو بواسطة الهواء إذا كانا في شجرتين.
وإنه تعالى يُلبِس النهارَ ظلمةً الليل فيستره فيصير الجو مظلماً، وكذلك يلبس الليل ضياءَ النهار فيصير الجوُّ مضيئا، إن في هذا الكون وعجائبه لَعلاماتٍ بينّةً تثبت قدرة الله ووحدانيته للذين يتفَكّرون.
صنوان وغير صنوان : الصنو، النظير والمثل، وجمعها صنوان. والمراد هنا النخلات الكثيرة يجمعها أصل واحد.
وغير صنوان : متفرقات ومن أصول شتى.
الأُكُل : ما يؤكل.
وفي الأرض ذاتها عجائب، فهنالك قطع من الأرض يجاور بعضُها بعضا، ولكنها تختلف في التفاضُل، فبعضها قاحل لا يُنبت، وبعضها خِصب جيد التربة ينبت أفضل الثمرات ومنها صالحةٌ للزرع دون الشجر، وأخرى مجاروة لها تصلُح للشجر دون الزرع، وفيها زرع من كل نوع وصنف، ونخيل صنوان يجمعها أصلٌ واحد وتتشعب فروعها، وغير صنوانٍ متفرقة مختلفة الأصول.. وذلك كلُّه يُسقى بماءٍ واحد لكنه يعطي طعوماً مختلفة.
﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.
يقدّرون قدرةَ الخالق وحكمته وله يشكرون.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص :«وزرعٌ ونخيل صنوان وغير صنوان » بالرفع والباقون بالجر. وقرأ ابن عامر ويعقوب وعاصم «يُسقى » بالتذكير كما هو في المصحف، وقرأ حمزة والكسائي «يفضّل » بالياء والباقون :«نفضّل » بالنون.
إن أمْرَ المشركين مع كل هذه الدلائل لَعَجَب، فإن كنت تعجب يا محمد، فالعجب هو قولُهم : أبعدَ الموت وبعد أن نصير ترابا سوف نخلق من جديد ؟
إن الذي خلق هذا الكون ودبره قادر على إعادة الناس في بعث جديد.
﴿ أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ ﴾.
كل هذه أوصافٌ للمنْكِرين للبعث، فمثل هذه الأقوال لا تصدر إلا عن الذين كفروا بربِّهم، لقد أغلقوا عقولهم وقيدّوها بالضلال وجزاؤهم يوم القيامة أغلالٌ في أعناقِهم يقادون فيها إلى النار.
قراءات :
قرأ ابن عامر :«إذا كنا » بهمزة واحدة والباقون «أإذا » بهمزتين على الاستفهام. وقرأ نافع وابن كثير ورويس «أإذا » بتخفيف الهمزة الأولى وتليين الثانية.
الحسنة : النعمة.
المثلات : مفردها مثلة بفتح الميم وضم الثاء : العقوبة والتنكيل بحيث تترك أثرا من تشويه ونحوه.
ثم العجبُ منهم أنهم يستعْجِلونك يا محمد، أن تأتيَهم بعذابِ الله، بدلاً من أن يطلبوا هدايتَه ورحمته.
لقد مضت العقوباتُ الفاضحة النازلةُ على أمثالهم ممّن أهلكهم الله، وإن ربَّك لذُو عفوٍ وصفحٍ عن ذنوب التّوابين من عباده وإن ظَلموا أنفسهم فترة، لكنه شديد العقاب لِمَن يستمر على ضلاله.
الله يعلم ما تحمله كل أنثى في غيابات الأرحام من ذَكرٍ أو أنثى، واحداً أو أكثر، وما تنقصه تلك الأرحام من خلوِّها من الولد، وما تزداد بولادتها وقتاً بعد آخر.. كلُّ شيء عنده بقَدْرٍ معلوم وله زمان معلوم.
المتعالي : المستعلي على كل شيء.
هو الذي يعلم ما احتجَبَ وغاب عن حِسِّنا، كما يعلم ما نشاهده في حاضِرنا عِلماً أعظمَ مما نشاهد ونرى، وهو سبحانه الكبيرُ العظيمُ المستعلي على كل شيء.
قراءات :
قرأ ابن كثير :«المتعالي » بإثبات الياء.
ثم بين الله تعالى أن عِلْمه شاملٌ لكلّ شيء في هذا الوجود، فهو يعلَم كلَّ أحوالِكم وأقوالكم في حياتكم، ومن أسرَّ القولَ أو جَهَر به عندَه سواءٌ، لأنه يعلم استخفاءَكم باللَّيل، وظهوركم بالنهار.
من وال : من ناصر.
كل واحدٍ من الناس له ملائكة تحفَظه بأمرِ الله، وتتناوبُ عل حفظه في كل حال.
إن الله تعالى لا يغير النعمة على قوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهِم، وكذلك لا يغير ذلة أو مهانة إلا أن يغير الناس من أعمالهم وواقع حياتهم، وأكبر دليلٍ على ذلك واقُعنا اليوم من تفكّك وتمزق... فنحن العربَ والمسلمين نملك أكبر ثروة في العالم، ونعيش على أعظم بقاع الأرض، ومع ذلك نعاني من الذل والفقر والمرض والجهل وكل ذلك بسبب تردي أحوالِنا وبُعدِنا عن ربّنا، وفي ذلك عبرة كبيرة لنا.
﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾.
إذا أراد اللهُ أن يُنزلَ بقومٍ ما يسوءهم فليس لهم ناصرٌ يحمِيهم من أمْرِه، ولا من يتولّى أمورَهم فيدفع عنهم ما ينزل بهم.
ويسبِّح الرعدُ بدَلالتِه على وحدانية الله بحمدِه وتقديسه، فهذا الصوتُ المدوِّي في السماوات إنما هو حمدٌ وتسبيحٌ بالقدرةٍ التي صاغت هذا النظام، ويسبِّح الملائكةُ الكرامُ من هيبته وجلاِله. ثم تتم الصورةُ الرهيبة المشمولة بالرهبة والابتهال والبرقِ والرعدِ والسحابِ الثقال، بإرسال الصواعق، فيُصيب الله بها من يشاء.
ومع كل هذه الآيات والظواهر الكونية العجيبة يجادلُ الكفّار في شأن الله ووحدانِيته وتفرُّدِه بالمُلْك، وهو سبحانه لا يغالب، فهو شديدٌ في عقوبة من طغى عليه وتمادى في كفره.
روى الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنَّسائي عن ابن عمر :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعَ صوتَ الرعد والصواعق يقول : اللهمَّ لا تقتلْنا بغضَبك، ولا تُهلكنا بعذابك وعافِنا قبلَ ذلك ».
المشرِكون المعاندون يجادلون في الله وينسبُون إليه شركاءَ يدْعونهم معه، ودعوةُ الله هي وحدَها الحق، وما عداها باطلٌ ذاهب.
وفي هذا وعيد للكفار على مجادَلَتهم الرسولَ الكريمَ في الله. هذا مع أن الّذين يدعونهم من الآلهة المزيَّفة من دونِ الله لا يَستجيبون دعاءَهم
ولا يُنجِدونهم بشيء، ومثلُهم في ذلك كَمَن يبسُط كفّيه ليأخذَ بهما ماءً إلى فمه، وهيات أن يحصَل على شيء.
﴿ ومَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾، في ضياعٍ وخسارة بدون فائدة.
الآصال : جمع أصيل، وهو ما بين العصر والمغرب.
ثم بيَّن الله تعالى عظيم قدرته فقال :
﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال ﴾.
في الوقت الذي يتّخذ الجاحدون آلهة من دون الله، ويتوجَّهون إليهم بالرّجاءِ والدعاء، نرى كلَّ من في هذا الكون يخضعُ لإرادته ويعنُو لعَظَمته من أناس وجِنّ وملائكةٍ طائعين أو كارهين، حتى ظِلالُهم خاضعةٌ لأمرِ الله ونَهْيِهِ في جميع أوقات النهار، وفي هذا تعميم لكل شيء.
عند قراءة هذه الآية يُسَنّ للقارئ والمستمع أن يسجد.
قُل لهم أيها النبي : من خَلَقَ السماواتِ والأرضَ ؟ فإن لم يجيبوا فقُل لهم : إن الذي خلق هذا الكونَ وما فيه هو الله، ثم اسألهم وقل لهم : كيف اتّخذتم مِن دونِ الله أرباباً مع أنهم لا يملكون لأنفسهم ولا لكم نفعا ولا ضرا ! ؟
ثم ضرب مثلاً للمشركين الذي يعبُدون الأصنامَ وغيرها من دون الله، والمؤمنين المصدِّقين بالله، فقال :
﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير ؟ ﴾.
هل يستوي الأعمى الذي لا يُبصر شيئاً ولا يهتدي، مع البصير الذي يُبصر الحقّ فيتّبعه.
ثم ضربَ مثلاً للكفر والإيمان فقال :
﴿ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور ؟ ﴾.
لا يستوي الكُفر والإيمان، فالظلماتُ التي تحجُب الرؤيةَ هي التي تلفُّهم وتكفُّهم عن إدراك الحق الظاهر المبين.
أم جعلوا لله شركاءَ خلقوا كخلقه فاشتبه الأمرُ عليهم فلم يعرِفوا من خَلَقَ هذا ومن خلق ذاك، قل لهم أيّها النبي : اللهُ وحده هو الخالقُ لكلّ ما في الوجود، وهو الواحد القهار الغالب على كل شيء.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر :«وهل يستوي الظلمات والنور » بالياء، والباقون «تستوي » بالتاء كما هي في المصحف.
رابيا : منتفخا عاليا.
جفاء : الجفاء هو كل ما رمى به الوادي من زبد وفتات الأشياء مما
لا نَفْعَ فيه.
في هذه الآية ضرب الله مثلَين الأول هنا وهو المقارنةُ بين الماء الذي يمكثُ في الأرض وينتفع الناس به من سقي الزرعِ والشجر والشُّرب وما فيه من الخير للناس، وبين الزَبَد الذي يعلو على وجه الماء وليسَ فيه نفعٌ.. وهي مقارنةٌ بين الحق والباطل.
والمعنى أن الله تعالى أنزلَ عليكم من السماءِ غيثاً تسيل به الوديانُ والأنهار، كلٌّ بالمقدارِ الذي قدّره الله تعالى لفائدةِ الناس، وهذه السيولُ في جَرَيانها تحملُ ما لا نفع به من الزبَد الذي يعلُو سطحها.
والمثل الثاني أيضا للمقارنة بين الحقّ والباطل قولُه تعالى :
﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ﴾.
كذلك المعادنُ الّتي تُذيبونها في النارِ من ذَهَب أو فضةٍ أو نحاس وغيرِها مما تصنعون منها حِليةً أو آلةً أو آنيةً فإن المعدنَ يبقى لمنفعة الناس. وما فيه من زبد وخَبَثٍ يذهب، فالحقُّ كالمعدنِ النافع، والزَبدُ كالباطل.
﴿ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل ﴾.
يعني أن الحقَّ مثلُ الماءِ النافع الذي يمكث في الأرض والمعدن المفيدِ للناس، والباطلَ مثلُ الزَبِد الذي يطفو على سطحِ الماء لا نفع فيه، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض ﴾.
كذلك الأمر في العقائد، منها ما هو ضلالٌ فيذهبُ، ومنها ما هو صِدق فيبقى.
﴿ كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال ﴾.
وبمثلِ هذا يبيّن اللهُ سبحانَه للناسِ ما أشكلَ عليهم من أمورِ دينهم وتظهرُ الفوارقُ بين الحقّ والباطل.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص :«يوقدون » بالياء، والباقون :«توقدون » بالتاء
وبعد أن بين الله تعالى شأن كل من الحق والباطل، شرع يبين حال أهل الحق والباطل وما يؤول إليه حالهم ترغيبا،
فمن أطاع اللهَ ورسولَه وانقاد لأوامره فلهم العاقبةُ الحُسنى في الدنيا والآخرة، ومن لم يجبْ دعوةَ الله ولم يطع أوامره فلهم العاقبةُ السّيئة. ولو أن لهم مُلْكَ ما في الأرض ومثلَه معه وقدّموه فِديةً لما نفعَهم أو دفع عنهم العذاب، ومصيرهم جهنم وبئس القرار.
إنما يؤمنُ ويعتبر بهذه الأمثال ويتَّعظُ بها، أهلُ العقول السليمة التي تفكّر وتُبصِر
﴿ الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق ﴾.
هؤلاء هم أولو الألبابِ، فهم الّذين آمنوا بربِّهم وعَقَدوا الميثاقَ بينهم وبينَه على أن يقوموا بأوامره ويبتعدِوا عن كلِّ ما خالفَ الشرع، ولا ينقضون هذا العهد.
لهم عقبى الدار : خاتمة مكانهم الجنة وهي سعادة الدنيا والآخرة.
وكذلك من صفات أولي الألباب : أنهم ثَبَتوا على العهد، فصَبروا على أداء التكاليف والواجبات وصبروا في خِدمة الناس ما استطاعوا، لا يُريدون في ذلك كلِّه إلا وجه الله، وأدَّوا الصلاةَ أتمَّ أداء، وأنفقوا من أموالِهم وجاهِهم في سبيلِ الله في السرِّ والعلَن، ويقابلون الإساءةَ بالإحسان. ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ].
هؤلاء الّذين تحلَّوا بكلَّ هذه الصفات هم أولو الألباب ولهم سعادةُ الدارَين.
أولئك الّذين وصفْناهم بتلكَ المحاسنِ لهم عقبى الدار : جناتُ عَدْنٍ للإقامة الدائمة والخلودِ، وفي هذه الجنات يأتَلِفُ شَمْلُهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجِهم وذريّاتم، فيجتمع الأحبابُ ويتلاقون في جوٍ من السعادة، وترحِّبُ بهم الملائكة.
ولا يعلمون أن الدنيا أخذٌ وعطاء، ومع كلِ هذا فهم مفسدون في الأرض فلهم اللعنةُ وسوءُ العاقبة في جهنم.
ويقدر : يضيق.
إن الله تعالى يُعطي الرزقَ الواسعَ لمن يشاء إذا أخذَ في الأسباب، ويضيِّقه على من يشاء، فهو يعطيه للمؤمِن وغيرِ المؤمن، فلا يظنَّ أحدٌ أن كثرة المال دليلٌ على أنه على الحق.
والذين يفرحَون بما أُوتوا من مالٍ في هذه الحياةٍ الدنيا، ويعتبرون ذلكَ أكبرَ متاعٍ وأعظمً لذّة ولا يفيدون غيرَهم منها، يَقعون في غرورٍ باطل، لأن الحياةَ الدنيا بدونِ عملٍ صالحٍ ونفعٍ للناس متاعٌ زائل، والدنيا مزرعةُ الآخرة، والعمر مهما طال فيها قصير.
روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال :( نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا : يا رسول الله، لو اتّخذنا لك فراشاً ناعما، فقال : مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها ).
ويلحّ المشركون في طلب آيةٍ من السّماء. والجوابُ على طلبهم هذا أن الآياتِ ليست هي التي تقودُ الناسَ إلى الإيمان، وأن هذا الطلبَ وأمثاله من العناد والتعجيز، فللإيمان دواعيه الأصليةُ في النفوس، وأسبابهُ المؤدّية إليه. فالله يهدي من يُنيبون إليه، فاسألوا الله الهداية.
وحسن مآب : المنقلب الحسن.
هؤلاء الذين أنابوا إلى الله ورجعوا إليه واطمأنت قلوبهم بذكره، وعملوا الصالحاتِ، يُحسن اللهُ مآبَهم إليه، ولهم الفرحُ وقُرَّةُ العين عند ربهم.
متابي : مرجعي.
كما أرسلنا إلى الأمم من قبِلك وأعطيناهم كتباً تتلى عليهم، أرسلناك
يا محمد، في أمة لاحقة وأعطيناك القرآن معجزة لتقرأه عليهم.
﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن ﴾ فقل لهم أيها النبي : الله الذي خلقني هو ربي
لا إله بحق غيره، ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ عليه وحده توكلت في جميع أموري، وإليه توبتي ومرجعي.
قطعت به الأرض : شققت.
كلِّم به الموتى : جعلهم يتكلمون.
ييأس : يعمل وهو لغة هوازن من العرب.
قارعة : مصيبة.
يعني : إنما أرسلناك لتتلوَ عليهم هذا القرآنَ العجيب، الذي لو كانَ من شأن قرآن أن تُسَيَّرَ به الجبالُ، أو تقطَّع به الأرض، أو يكلَّم به الموتى لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثّرات ما تَتِمُّ به هذه المعجزات، ولكنَّهم معاندون، بل للهِ الأمرُ جميعاً بل مرجعُ الأمورِ كلّها بيدِ الله.
أفَلَم يَعلم الذين آمنوا أن الله تعالى لو شاءَ هِدايةَ الناس أجمعين لهداهم.
﴿ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد ﴾.
إن قدرةَ الله ظاهرةٌ بين أيديهم، فلا يزالُ الذين كفَروا تُصيبهم بسبب عنادِهم وكفرِهم المصائبُ الشديدةُ التي تُهلكهم، أو تنزل قريباً منهم فتردعُهم وتُقلقهم، حتى يأتَي وعدُ الله الذي وعدَهم به، واللهُ تعالى
لا يخلف موعده.
في هذه الآيةِ تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، على سفاهة قومه، فإذا كان أولئك الجاحدون قد استهزأوا بما تدعو إليه يا محمد، وبالقرآن فقد نالَ الأنبياءَ الذي قبلك من أقوامهم كذلك، فلا تحزّن. فإني أمهلتُ الذين كفروا ثم أخذتُم بعقابٍ شديد.
أفمن هو قائمٌ حفيظٌ على كلّ نفسٍ لا يخفى عليه شيء ما كسبت كَمَن ليس كذلك ! فالجواب محذوف وهو : كمن ليس كذلك. وهذا من بلاغة القرآن.
وقد جعل هؤلاء الكفرةُ لِله شركاءَ فعبدوهم، فقل أيها النبي : صِفُوهم بأوصافِهم الحقيقية، ﴿ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض ﴾ أتخبرونه بشركاءَ يستحقَّون العبادة في الأرض وهو لا يعلَمُهم. ﴿ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول ﴾ أم تدَّعون أنهم آلهةٌ بالقول الباطلِ من غير حقيقة.
﴿ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.
بل الحقيقةُ أنه زُيِّن للذين كفروا تَدبيرُهم الباطلُ، فتخيَّلوا أباطيلَ ثم ظَنُّوها حقاً، وصُرِفوا عن السبيل وتاهوا، ومن يخذلْهُ اللهُ فما له من هادٍ يَهديه إلى الصواب.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر :«وصدوا عن السبيل » بفتح الصاد. والباقون «وصدوا عن السبيل » بضم الصاد وهي القراءة في المصحف.
لهم العذابُ في الدنيا بالهزيمةِ والأَسرِ والقتل، ولَعذابُ الآخرةِ أشدُّ وأدوم، وما لهم حافظ يعصِمُهم من عذاب الله.
بعد أن ذَكَر اللهُ تَعالى ما أعَدّه للكافرين من العذاب في الدُّنيا والآخرة، أتْبعَهُ بذِكر ثوابِ المتقين، فإذا كان لِلجاحدينَ العذابُ الدائم، فإن للمؤمنين الجنةَ ونعيمَها، وتجري تحت أشجار هذه الجنة، أنهار عذبة الماء، وثمراتُها دائمة لا تنقطع، وظِلُّها ظليلٌ دائم. هذه عاقبةُ المؤمنين الذي وَقَوا أنفُسَهم بالإيمان والصلاح، أما الذي كفروا فلهم النارُ وبئس القرار.
المآب : المرجع.
إن فريقاً من الذين أُوتوا الكتابَ من اليهود والنصارى الذين آمنوا وصدّقوا يفرحون بما أُنزل من القرآن، لأنّهم يَجِدون فيه مصداقاً للقواعد الأساسية في عقيدة التوحيد وامتداداً للرسالة الإلهية، ومن هؤلاء مَن آمن مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، وبعض النصارى من الحبشة ونجران واليمن.
ومن الّذين تحزَّبوا ضدَّ الإسلام من كفارِ قريش وغيرهم من أهل الأديانِ السابقة مَنْ ينكِر بعضَ ما أُنزلَ إليك عناداً وكفرا.
قلْ أيّها النبي : إنّي أُمرت بأن أعبدَ الله وحدَه، ولا أُشرِكَ في عبادتِه أحداً، إلى عبادته وحدَه أدعو الناس وإليه مرجعي ومصيري.
وكما أرسلْنا قبلك المرسَلين ونزلْنا عليهم الكتبَ، أنزلنا عليك القرآن حكماً عربياً بِلسانك ولسان قومك، فهو حاكمٌ لأن فيه بيانَ الحلال والحرام وجميعَ ما يَحتاجُ إليه المكلَّفون مما يوصِلُهم إلى السعادة في الدُّنيا والآخرة.
ولئن اتّبعت أهواءَ الأحزابِ ابتغاءَ رِضاهم بعد ما منحك اللهُ من العلم اليقين، فليس لك من دون اللهِ وليُّ ولا ناصرٌ ينصرك. إن ما يقولُه الأحزابُ أهواءٌ لا تستندُ إلى عِلم أو يقين.
إذا كان يعترضُ بعضُهم من المتعنّتِين ويطلب من الرسول أن يأتيَ بخارقةٍ ماديّة، فذلك ليسَ من شأنِه، إنّما هو من شأنِ الله، وهو الذي يقدّر ذلك ويدبّره بحكمتِه ومشيئته، ولكل أمرٍ كتبه اللهُ أجلٌ معين ووقت معلوم.
ينسَخُ الله ما يشاء من الشرائع، ويُحِلُّ محلَّها ما يشاء ويثبته، وعنده أصلُ الشرائع الذي لا يتغيّر، فما انقضَتْ حكمتُه يمحوه، وما هو نافعٌ يثبته حسبما تقتضيه حكمتُه، ولا رادَّ لقضائه.
لا معقب لحكمه : لا راد له.
ألم يروا أن قوةَ الله فوق كل شيء، فهي تأتي الأممَ القوية الغنية حين تَبْطَر وتكفر وتفسِد فَتُنقِص من قوتها ومن ثرائها وقدرتها، وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد أن كانت ذات سلطان وحكم وامتداد ! وإذا حكَمَ الله عليها بالنقص والتدهور فلا رادَّ لحكمه، وهو سريع الحساب.
وللمفسرين القدماء آراء كثيرة ومتعددة، وكذلك لبعض المفسّرين المعاصرين تأويل عن سرعة دوران الأرض وما ينتج عنها من تفلطح ونقص في طرفيها، وكل ذلك حَدْس وخبط.
وفي هذا تسلية للرسول الكريم وتعبير بأن العاقبة له لا محالة، وقد حقق الله له وعده.
وتكون ختام سورة الرعد بإنكار الكفار للرسالة، وقد بدأها الله تعالى بإثبات الرسالة، فيلتقي البدءُ والختام بقوله تعالى :﴿ قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ أي : حسْبي الله شاهدا بتأييد رسالتي ﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾ وهو من أسلم من اليهود والنصارى وغيرهم.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : كان من أهلِ الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه منهم، عبدُ الله بن سلام والجارودُ وتميم الداري وسلمان الفارسّي رضي الله عنهم.