تفسير سورة الرعد

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
قيل مكية وقيل مدنية

الضمير في قَصَصِهِمْ للرسل، وينصره قراءة من قرأ فِي قَصَصِهِمْ بكسر القاف. وقيل:
هو راجع إلى يوسف وإخوته. فإن قلت: فإلام يرجع الضمير في ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى فيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى القرآن، أى: ما كان القرآن حديثاً يفترى وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أى قبله من الكتب السماوية وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدين، لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس بعد أدلة العقل. وانتصاب ما نصب بعد لكِنْ للعطف على خبر كان. وقرئ «ذلك» بالرفع على: ولكن هو تصديق الذي بين يديه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: علموا أرقاءكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هؤن الله عليه سكرات الموت، وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلماً «١».
سورة الرعد
( [مدنية، وقيل] مختلف فيها وهي ثلاث وأربعون آية [نزلت بعد سورة محمد] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الرعد (١٣) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١)
تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة. والمراد بالكتاب السورة، أى: تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها، ثم قال وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن كله هو الْحَقُّ الذي لا مزيد عليه، لا هذه السورة وحدها، وفي أسلوب هذا الكلام قول الأنمارية: هم كالحلقة «٢» المفرعة، لا يدرى أين طرفاها؟ تريد الكملة.
(١). تقدم إسناده في تفسير آل عمران وهو في آخر آل عمران، وفي آخر الكتاب أيضا.
(٢). قوله «الأنمارية هم كالحلقة» أى في أولادها. (ع)

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢ الى ٣]

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)
اللَّهُ مبتدأ. والَّذِي خبره، بدليل قوله وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ويجوز أن يكون صفة. وقوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ خبر بعد خبر. وينصره ما تقدّمه من ذكر الآيات رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها كلام مستأنف استشهاد برؤيتهم لها كذلك. وقيل هي صفة لعمد. ويعضده قراءة أبىّ. ترونه. وقرئ: عمد، بضمتين يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يدبر أمر ملكوته وربوبيته يُفَصِّلُ آياته في كتبه المنزلة لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ بالجزاء وبأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه. وقرأ الحسن: ندبر، بالنون جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدّها، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت. وقيل:
أراد بالزوجين: الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً. وقرئ: يغشى، بالتشديد.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤]
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ بقاع مختلفة، مع كونها متجاورة متلاصقة: طيبة إلى سبخة، وكريمة إلى زهيدة، «١» وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على عكسها، مع انتظامها جميعاً في جنس الأرضية. وذلك دليل على قادر مريد، موقع لأفعاله على وجه دون وجه.
وكذلك الزروع والكروم والنخيل النابتة في هذه القطع، مختلفة الأجناس والأنواع، وهي تسقى بماء واحد، وتراها متغايرة الثمر في الأشكال والألوان والطعوم والروائح، متفاضلة فيها.
(١). قوله «زهيدة» في الصحاح: واد زهيد قليل الأخذ للماء، وأرض زهاد: أى لا تسيل إلا عن مطر كثير. (ع)
وفي بعض المصاحف: قطعاً متجاورات على: وجعل. وقرئ: وجنات، بالنصب للعطف على زوجين. أو بالجرّ على كل الثمرات. وقرئ: وزرع ونخيل، بالجرّ عطفاً على أعناب أو جنات والصنوان: جمع صنو، وهي النخلة لها رأسان، وأصلهما واحد. وقرئ بالضم. والكسر: لغة أهل الحجاز، والضم: لغة بنى تميم وقيس يُسْقى بالتاء والياء وَنُفَضِّلُ
بالنون. وبالياء على البناء للفاعل والمفعول جميعاً فِي الْأُكُلِ بضم الكاف وسكونها.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٥]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥)
وَإِنْ تَعْجَبْ يا محمد من قولهم في إنكار البعث، فقولهم عجيب حقيق بأن يتعجب منه، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعي بخلقهنّ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب أَإِذا كُنَّا إلى آخر قولهم: يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم، وأن يكون منصوباً بالقول. وإذا نصب بما دل عليه قوله أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وصف بالإصرار، كقوله إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا. ونحوه:
لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأَقْيَادُ «١»
أو هو من جملة الوعيد
[سورة الرعد (١٣) : آية ٦]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦)
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بالنقمة قبل العافية، والإحسان إليهم بالإمهال. وذلك أنهم سألوا رسول الله ﷺ أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أى عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزءوا. والمثلة:
(١).
ضلوا وإن سبيل الغى مقصدهم لهم عن الرشد أغلال وأقياد
سبيل الغى: مجاز عما هم عليه من الأحوال الخبيثة. والغل: ما تشد به اليد إلى العنق والقيد للرجلين «وهما مجاز عن الغفلة واتباع رأى النفس. يقول: سلكوا طريق الهوى وتركوا طريق الهدى.
العقوبة، بوزن السمرة. والمثلة لما بين «١» العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ويقال: أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته منه. والمثال: القصاص. وقرئ الْمَثُلاتُ بضمتين لإتباع الفاء العين. والمثلات، بفتح الميم وسكون الثاء، كما يقال: السمرة «٢». والمثلات بضم الميم وسكون الثاء، تخفيف المثلات بضمتين. والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات «٣» لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أى مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب. ومحله الحال، بمعنى ظالمين لأنفسهم «٤» وفيه أوجه. أن يريد السيئات المكفرة لمجتنب الكبائر. أو الكبائر بشرط التوبة. أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال. وروى أنها لما نزلت قال النبي عليه الصلاة والسلام «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» «٥»
[سورة الرعد (١٣) : آية ٧]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله ﷺ عناداً، فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى، من انقلاب العصاحية، وإحياء الموتى، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل أرسالات منذراً ومخوّفاً لهم من سوء العاقبة، وناصحاً كغيرك من الرسل، وما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذر، وصحة ذلك حاصلة بأية آية كانت، والآيات كلها سواء في حصول صحة الدعوة بها لا تفاوت بينها، والذي عنده كل شيء بمقدار يعطى كل نبى آية على حسب ما اقتضاه علمه بالمصالح وتقديره لها وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ من الأنبياء يهديهم إلى الدين، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية، وبآية خص بها، ولم يجعل الأنبياء شرعاً واحداً «٦» في آيات مخصوصة. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى أنهم
(١). قوله «المثلة لما بين» عبارة النسفي «والمثلة العقوبة لما بين... الخ. (ع)
(٢). قوله «كما يقال السمرة»
لعله السمرة والسمرات. (ع)
(٣). قوله «كركبة وركبات» في الصحاح الركبة معروفة وجمع القلة ركبات وركبات وركبات. وفي هامشه عن مرتضى: أى بسكون الكاف وضمها وفتحها، والراء مضمومة فيهن. (ع) [.....]
(٤). قال محمود: «ومحل على ظلمهم الحال بمعنى ظالمين لأنفسهم... الخ» قال أحمد: والوجه الحق بقاء الوعد على إطلاقه إلا حيث دل الدليل على التقييد في غير الموحد، فان ظلمه أعنى شركه لا يغفر وما عدا الشرك فغفرانه في المشيئة. والزمخشري يبنى على عقيدته التي وضح فسادها، في استحالة الغفران لصاحب الكبائر وإن كان موحدا إلا بالتوبة، فيقيد مطلقا، ويحجر واسعا، والله الموفق.
(٥). أخرجه ابن أبى حاتم والثعلبي من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن سعيد بن المسيب: لما نزلت وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ الآية، قال رسول الله ﷺ... فذكره.
(٦). قوله «ولم يجعل الأنبياء شرعا واحدا» أى سواء، كذا في الصحاح. (ع)
يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون، فلا يهمنك ذلك، إنما أنت منذر، فما عليك إلا أن تنذر لا أن تثبت الإيمان في صدورهم، ولست بقادر عليه، ولكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالإلجاء، وهو الله تعالى. ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضاء حكمته أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره: أمر مدبر بالعلم النافذ مقدّر بالحكمة الربانية، ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيراً ومصلحة، لأجابهم إليه. وأما على الوجه الثاني، فقد دل به على أن من هذه قدرته وهذا علمه، هو القادر وحده على هدايتهم، العالم بأى طريق يهديهم، ولا سبيل إلى ذلك لغيره.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٨ الى ٩]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩)
اللَّهُ يَعْلَمُ يحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً، وأن يكون المعنى: هو الله، تفسيراً لهاد على الوجه الأخير، ثم ابتدئ فقيل يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى «وما» في ما تَحْمِلُ، وَما تَغِيضُ، وَما تَزْدادُ. إما موصولة، وإما مصدرية. فإن كانت موصولة، فالمعنى: أنه يعلم ما تحمله من الولد على أن حال هو. من ذكورة وأنوثة، وتمام وخداج «١»، وحسن وقبح، وطول وقصر، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة، ويعلم ما تغيضه الأرحام: أى تنقصه. يقال:
غاض الماء وغضته أنا. ومنه قوله تعالى وَغِيضَ الْماءُ وما تزداده: أى تأخذه زائداً، تقول: أخذت منه حقي، وازددت منه كذا. ومنه قوله تعالى وَازْدَادُوا تِسْعاً ويقال: زدته فزاد بنفسه وازداد، ومما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد، فإنها تشتمل على واحد، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة. ويروى أن شريكا كان رابع أربعة في بطن أمه. ومنه جسد الولد، فإنه يكون تاما ومخدجا. ومنه مدة ولادته، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبى حنيفة، وإلى أربع عند الشافعي، وإلى خمس عند مالك. وقيل: إنّ الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين، ولذلك سمى هرما. ومنه الدم، فإنه يقل ويكثر. وإن كانت مصدرية، فالمعنى أنه يعلم حمل كل أنثى، ويعلم غيض الأرحام وازديادها، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ومن أوقاته وأحواله. ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها، على أنّ الفعلين غير متعدّيين، ويعضده قول الحسن: الغيضوضة أن تضع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك، والازدياد أن تزيد
(١). قوله و «خداج» في الصحاح: خدجت الناقة خداجا: ألقت ولدها قبل تمام الأيام، فهي خادج، وهو خديج، أو أخدجت: إذا جاءت به ناقص الخلق، فهو مخدج، وهو مخدج اه. (ع)
على تسعة أشهر. وعنه. الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام، والازدياد ما ولد لتمام بِمِقْدارٍ بقدر وحدّ لا يجاوزه ولا ينقص عنه، كقوله إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. الْكَبِيرُ العظيم الشأن الذي كل شيء دونه الْمُتَعالِ المستعلى على كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٠ الى ١١]
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)
سارِبٌ ذاهب في سربه- بالفتح- أى في طريقه ووجهه. يقال: سرب في الأرض سروبا. والمعنى: سواء عنده من استخفى: أى طلب الخفاء في مختبإ بالليل في ظلمته، ومن يضطرب في الطرقات ظاهراً بالنهار يبصره كل أحد. فإن قلت: كان حق العبارة أن يقال:
ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار «١»، حتى يتناول معنى الاستواء المستخفى والسارب، وإلا فقد تناول واحداً هو مستخف وسارب. قلت: فيه وجهان: أحدهما أنّ قوله وَسارِبٌ عطف على من هو مستخف، لا على مستخف، والثاني أنه عطف على مستخف، إلا أن مَنْ في معنى الاثنين، كقوله:
نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَاذِئْبُ يصْطَحِبَانِ «٢»
(١). قال محمود: «إن قلت كان من حق الكلام أن يقال: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار...
الخ»
قال أحمد: فمقتضى السؤال الذي أورده الزمخشري أن تكون الواو عاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى، ومقتضى ما أجاب به أن يعطف أحد الموصوفين على الآخر، وتحتمل الآية وجها آخر: وهو أن يكون الموصول محذوفا وصلته باقية. والمعنى: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار، وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع، وخصوصا وقد تكرر الموصول في الآية ثلاثا، ومنه قوله تعالى وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ والأصل: ولا ما يفعل بكم، وإلا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه، لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف لم يكن للنهى موقع، وإنما صحب في الأول الموصول لا الصلة. ومنه:
فمن بهجو رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
أى ومن يمدحه وينصره، والله أعلم.
(٢).
فبت أقد الزاد بيني وبينه... على ضوء نار مرة ودخان
فقلت له لما تكشر ضاحكا... وقائم سيفي من يدي بمكان
تعال فان عاهدتني لا تخوننى... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
أأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما... أخيين كانا أرضعا بلبان
للفرزدق، يصف ذئبا أتاه في مفازة فبات يقطع الزاد ويقسمه بينه وبينه، حال كونهما مشرفين على ضوء نار تارة وعلى دخانها أخرى، دلالة على تكرر إيقادها. وتكشر: أبدى أنيابه كالضاحك. وقائم سيفي: أى والحال أن مقبض سيفي بمكان عظيم من يدي، دلالة على الحرص والجرأة. تعال: أى أقبل إلى نتعاهد. ويروى تعش أى كل العشاء، فان عاهدتني بعد ذلك والتزمت أنك لا تخوننى: نكن مثل من يصطحبان يا ذئب. ومعنى «من» مثنى، فعاد عليه الرابط كذلك. والنداء. اعتراض بين الصلة والموصول. وأ أنت: استفهام توبيخي. وتكرير النداء فيه نوع توبيخ أيضا. وأخيين: مصغر أخوين. واللبان: لبن المرأة خاصة. شبه الذئب والغدر بتوأمين نشئا معا من صغرهما ترضعهما أم واحدة، دلالة على كمال التلازم والتآلف. وتسمية الذئب امرأ، مبنية على تنزيله منزلة العاقل المصحح لخطابه. وشبههما بالأخوين من نوع الإنسان، كما دل على ذلك لفظ اللبان، لأن التآلف فيه أكمل وأظهر منه في غيره.
كأنه قيل: سواء منكم اثنان: مستخف بالليل، وسارب بالنهار. والضمير في لَهُ مردود على مِنْ كأنه قيل: لمن أسرّ ومن جهر، ومن استخفى ومن سرب مُعَقِّباتٌ جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته، والأصل: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، كقوله وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ بمعنى المعتذرون. ويجوز معقبات، بكسر العين ولم يقرأ به. أو هو مفعلات من عقبه إذا جاء على عقبه، كما يقال: قفاء، لأنّ بعضهم يعقب بعضاً. أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ هما صفتان جميعاً، «١» وليس مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بصلة للحفظ، كأنه قيل: له معقبات من أمر الله. أو يحفظونه من أجل أمر الله، أى: من أجل أنّ الله أمرهم بحفظه. والدليل عليه قراءة على رضى الله عنه وابن عباس وزيد بن على وجعفر بن محمد وعكرمة: يحفظونه بأمر الله. أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب، بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب، كقوله قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ وقيل: المعقبات الحرس والجلاوزة «٢» حول السلطان، يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله أى من قضاياه ونوازله، أو على التهكم به، وقرئ له معاقيب جمع معقب أو معقبة.
والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية والنعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الحال الجميلة بكثرة المعاصي مِنْ والٍ ممن يلي أمرهم ويدفعه عنهم.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٢ الى ١٣]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)
(١). عاد كلامه. قال: ومعنى قوله لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ هما صفتان جميعا وليس من أمر الله بصلة الحفظ كأنه قيل له... الخ» قال أحمد: وحقيقة هذا الوجه أنهم يحفظونه من الأمر الذي علم الله أنه يدفعه عنه بسبب دعائهم. ولولا هذا السبب لكان في علم الله أن النقمة تحل عليه، لأن الله عز وجل يعلم ما لا يكون لو كان كيف كان يكون، وسع ربنا كل شيء علما.
(٢). قوله «والجلاوزة» في الصحاح «الجلواز» الشرطي، والجمع الجلاوزة. (ع)
517
خَوْفاً وَطَمَعاً لا يصح أن يكونا مفعولا لهما «١» لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف، أى: إرادة خوف وطمع. أو على معنى إخافة وإطماعاً. ويجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق، كأنه في نفسه خوف وطمع. أو على: ذا خوف وذا طمع. أو من المخاطبين، أى: خائفين وطامعين. ومعنى الخوف والطمع: أنّ وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق، ويطمع في الغيث. قال أبو الطيب:
فَتى كَالسَّحَابِ الْجُونِ تُخْشَى وَتُرْتَجَى يُرْجَى الْحَيَا مِنْهَا وَيُخْشَى الصَّوَاعِقُ «٢»
وقيل: يخاف المطر من له فيه ضرر، كالمسافر، ومن له في جرينه التمر والزبيب، ومن له بيت يكف «٣»، ومن البلاد مالا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر، ويطمع فيه من له فيه نفع، ويحيا به السَّحابَ اسم الجنس، والواحدة سحابة. والثِّقالَ جمع ثقيلة، لأنك تقول سحابة ثقيلة، وسحاب ثقال، كما تقول: امرأة كريمة ونساء كرام، وهي الثقال بالماء وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ويسبح سامع الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له. أى يضجون بسبحان الله والحمد لله. وعن النبىّ ﷺ أنه كان يقول «سبحان من يسبح الرعد بحمده» «٤» وعن على رضى الله عنه: سبحان من سبحت له. وإذا اشتدّ الرعد قال رسول الله ﷺ «اللهمّ لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» «٥» وعن ابن عباس أنّ اليهود سألت النبي ﷺ عن الرعد ما هو؟ فقال: «ملك من
(١). قال محمود: «خوفا وطمعا لا يصح أن يكون مفعولا لهما لأنهما ليسا بفعل... الخ» قال أحمد: أو مفعولا لهما، على أن المفعول له في مثل هذا الفعل فاعل في المعنى، لأنه إذا أراهم فقد رأوا، والأصل: وهو الذي يريكم البرق فترونه خوفاً وطمعاً، أى: ترقبونه وتتراءونه، تارة لأجل الخوف وتارة لأجل الطمع، والله أعلم.
(٢). يقول: هو فتى شجاع جواد، يخشى شره، ويرجى خيره، فهو كالسحاب الأسود. والجون: الأسود:
ويطلق على الأبيض. ورواه ابن جنى بالضم ليكون جمعا، أى السود المظلمات، لأن السحاب جمع في المعنى. يرتجى الحياء: أى المطر، منها. ونخشى صواعقها، وهي قطع النار التي تنزل منها.
(٣). قوله «ومن له بيت يكف» وكف البيت يكف: قطر يقطر، كذا في الصحاح. (ع)
(٤). أخرجه الطبري من رواية إسرائيل عن ليث عن رجل عن أبى هريرة رفعه «أنه كان إذا سمع الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده» ورواه البخاري في الأدب المفرد، موقوفا على كعب بن مالك.
(٥). أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وأبو يعلى والحاكم من رواية الحجاج بن أرطاة عن أبى مضر عن سالم ابن عبد الله عن أبيه قال الترمذي: غريب.
518
الملائكة موكل بالسحاب، معه مخاريق «١» من نار يسوق بها السحاب» «٢» وعن الحسن: خلق من خلق الله ليس بملك. ومن بدع المتصوّفة. الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم، والمطر بكاؤهم وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله.
ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده، وما دلّ على قدرته الباهرة ووجدانيته ثم قال وَهُمْ يعنى الذين كفروا وكذّبوا رسول الله وأنكروا آياته يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث وإعادة الخلائق بقولهم مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ويردّون الواحدانية باتخاذ الشركاء والأنداد، ويجعلونه بعض الأجسام المتوالدة بقولهم «الملائكة بنات الله» فهذا جدالهم بالباطل، كقولهم وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وقيل: الواو للحال. أى: فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم. وذلك أنّ أربد أخا لبيد ابن ربيعة العامري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم- حين وفد عليه معه عامر بن الطفيل قاصدين لقتله فرمى الله عامراً بغدّة كغدّة البعير «٣» وموت في بيت سلولية، وأرسل على أربد صاعقة فقتلته- أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد؟ «٤» الْمِحالِ المماحلة، وهي شدّة المماكرة والمكايدة. ومنه: تمحل لكذا، إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه. ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان. ومنه الحديث: «ولا تجعله علينا ماحلا «٥» مصدّقا» وقال الأعشى:
(١). قوله «معه مخاريق من نار» في الصحاح المخراق: منديل يلف ليضرب به. (ع) [.....]
(٢). أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد من رواية بكر بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال «أقبلت يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أخبرنا يا أبا القاسم عن الرعد. فذكره- وزاد: قالوا: فما هذا الصوت قال: زجره للسحاب قالوا: صدقت» وفي الطبراني والأوسط من رواية أبى عمران الكوفي عن ابن جريج وعن عطاء عن جابر أن خزيمة بن ثابت وليس بالأنصارى «سأل النبي ﷺ عن الرعد. فقال: هو ملك بيده مخراق إذا رفع برق وإذا زجر رعدت وإذا ضرب صعقت،.
(٣). قوله «بغدة كغدة البعير»
في الصحاح: غدة البعير: طاعونه. (ع)
(٤). أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وأخرجه الطبراني وابن مردويه عنه من رواية زيد بن أسلم عن عطاء عنه «أن أريد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة- فذكر الحديث مطولا» وأخرجه النسائي والطبري والعقيلي وأبو يعلى من رواية على بن أبى سارة عن ثابت عن أنس قال «بعث رسول الله ﷺ رجلا إلى رجل من خزاعة العرب فقال: ادعه قال: يا رسول الله هو أخى من ذلك. قال: اذهب فادعه.
فأتاه. فقال: إن رسول الله ﷺ يدعوك. قال: وما الله؟ أمن ذهب هو أو من فضة، أم من نحاس- الحديث. وفيه: فأنزل الله تعالى وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ... الآية قال العقيلي: لا مانع على حديثه إلا ممن هو دونه.
وقد رواه البزار والبيهقي في الدلائل من رواية ديلم بن غزوان عن ثابت نحوه.
(٥). قلت: الذي في الحديث «القرآن شافع مشفع وما حل مصدق»
أخرجه ابن حبان من رواية أبى سفيان عن جابر والحاكم من حديث معقل بن يسار، والطبراني من حديث ابن مسعود عن أنس. أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن.
519
فَرْعُ نَبْعٍ يَهَشُّ فِى غُصُنِ الْمَجْ دِ غَزِيرُ النّدَى شَدِيدُ الْمِحَالِ «١»
والمعنى أنه شديد المكر والكيد لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث. لا يحتسبون. وقرأ الأعرج بفتح الميم، على أنه مفعل، من حال يحول محالا إذا احتال. ومنه: أحول من ذئب، أى أشدّ حيلة. ويجوز أن يكون المعنى: شديد الفقار «٢»، ويكون مثلا في القوة والقدرة كما جاء:
فساعد الله أشدّ، وموساه أحدّ، لأن الحيوان إذا اشتدّ محاله، كان منعوتاً بشدّة القوّة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره. ألا ترى إلى قولهم: فقرته الفواقر؟ وذلك أن الفقار عمود الظهر وقوامه.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٤]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤)
دَعْوَةُ الْحَقِّ فيه وجهان، أحدهما: أن تضاف الدعوة إلى الحق «٣» الذي هو نقيض الباطل، كما تضاف الكلمة إليه في قولك: كلمة الحق، للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل من الباطل. والمعنى أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطى الداعي سؤاله إن كان مصلحة له، فكانت دعوة ملابسة للحق، لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء، لما في دعوته من الجدوى والنفع، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدى دعاؤه. والثاني: أن
(١). فرع كل شيء أعلاه. والنبع: شجر تتخذ منه القسي. والهش من كل شيء: ما فيه رخاوة وليونة. وهش إليه، من باب تعب وضرب: ضحك وانبسط إليه، أى هو كفرع النبع في العلو وللصلابة في الحروب. وشبه المجد بشجرة طيبة على طريق المكنية، فاضافة الغصن إليه تخييل لذلك. ويحتمل أنه شبه قومه بأغصان الشجرة المثمرة على طريق التصريحية، وإضافتها للمجد قرينة على ذلك. وفيها دلالة على أن المجد منهم كالثمر من الأغصان، غزير الندى كثير العطاء شديد المحال، أى المماحلة والمكايدة، وهو كالتفسير التشبيه الأول، وغزير الندى كالتفسير الثاني، وهو من بديع الكلام.
(٢). قوله «ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار» في الصحاح: والمحالة أيضا: الفقارة، وفيه «الفقارة» واحدة فقار الظهر. (ع)
(٣). قال محمود: «فيه وجهان: أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق... الخ» قال أحمد: دس تحت تأويل الأول نبذة من الاعتزال على وجه الاختزال. فحجر واسعاً من لطف الله واستجابته أدعية عباده، وحتم رعاية المصالح، وجعل معنى إضافة الدعوة إلى الحق التباسها بالمصلحة، وقد انكشف الغطاء وتبين أن الله تعالى لا تعلل أفعاله ولا تقف استجابته على الشرط المذكور، وغرضنا إيقاظ المطالع لهذه المواضع من غفلة يتحيز بها إلى بدعة وضلالة، والله الموفق.
تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وعلا، على معنى: دعوة المدعوّ الحق الذي يسمع فيجيب.
وعن الحسن: الحق هو الله، وكلّ دعاء إليه دعوة الحق. فإن قلت: ما وجه اتصال هذين الوصفين بما قبله «١» ؟ قلت. أما على قصة أربد فظاهر، لأن إصابته بالصاعقة محال من الله ومكر به من حيث لم يشعر. وقد دعا رسول الله ﷺ عليه وعلى صاحبه بقوله: اللهمّ اخسفهما بما شئت، فأجيب فيهما «٢»، فكانت الدعوة دعوة حق. وأما على الأوّل فوعيد للكفرة على مجادلتهم رسول الله بحلول محاله بهم، وإجابة دعوة رسول الله ﷺ أن دعا عليهم فيهم وَالَّذِينَ يَدْعُونَ والآلهة الذين يدعوهم الكفار مِنْ دون الله لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ من طلباتهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه، أى كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم. وقيل: شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسطهما ناشراً أصابعه، فلم تلق كفاه منه شيئاً ولم يبلغ طلبته من شربه.
وقرئ: تدعون، بالتاء. كباسط كفيه، بالتنوين إِلَّا فِي ضَلالٍ إلا في ضياع لا منفعة فيه، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٥]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ أى ينقادون لإحداث ما أراده فيهم من أفعاله، شاءوا أو أبوا. لا يقدرون أن يمتنعوا عليه، وتنقاد له ظِلالُهُمْ أيضاً، حيث تتصرف على مشيئته في الامتداد والتقلص، والفيء والزوال. وقرئ: بالغدوّ والإيصال، من آصلوا: إذا دخلوا في الأصيل.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٦]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)
(١). قوله «اتصال هذين الوصفين بما قبله» عبارة النسفي: واتصال شَدِيدُ الْمِحالِ ولَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ بما قبله. (ع)
(٢). ذكره الواحدي في الأسباب عن ابن عباس في القصة المذكورة. ولم أره فيها في الطريقين المتقدمين من رواية الكلبي وغيره.
قُلِ اللَّهُ حكاية لاعترافهم وتأكيد لم عليهم، لأنه إذا قال لهم: من رب السموات والأرض، لم يكن لهم بدّ من أن يقولوا الله. كقوله قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ وهذا كما يقول المناظر لصاحبه: أهذا قولك، فإذا قال: هذا قولي قال:
هذا قولك، فيحكى إقراره تقريراً له عليه واستيثاقا منه، ثم يقول له: فيلزمك على هذا القول كيت وكيت. ويجوز أن يكون تلقيناً، أى: إن كعوا عن الجواب «١» فلقنهم، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا عنها ضررا، فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب، فما أبين ضلالتكم! أَمْ جَعَلُوا بل اجعلوا. ومعنى الهمزة الإنكار «٢» وخَلَقُوا صفة لشركاء، يعنى أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله فَتَشابَهَ عليهم خلق الله وخلقهم، حتى يقولوا: قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه، فاستحقوا العبادة، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد، إذ لا فرق بين خالق وخالق، ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلا أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا خالق غير الله، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق، فلا يكون له شريك في العبادة وَهُوَ الْواحِدُ المتوحد بالربوبية الْقَهَّارُ لا يغالب، وما عداه مربوب ومقهور.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٧]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧)
(١). قوله «أى إن كعوا عن الجواب» أى امتنعوا جبناً أو احتبسوا. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قال محمود: «أم مقدرة ببل والهمزة ومعناها هاهنا الإنكار... الخ» قال أحمد: وفي قوله تعالى خَلَقُوا كَخَلْقِهِ في سياق الإنكار تهكم بهم، لأن غير الله لا يخلق خلقا البتة، لا بطريق المشابهة والمساواة لله- تقدس عن التشبيه- ولا بطريق الانحطاط والقصور، فقد كان يكفى في الإنكار عليهم أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقا، ولكن جاء في قوله تعالى كَخَلْقِهِ تهكم يزيد الإنكار تأكيداً. والزمخشري لا يطيق التنبيه على هذه النكتة مع كونه أفطن من أن تستتر عنه، لأن معتقده أن غير الله يخلق وهم العبيد يخلقون أفعالهم على زعمه، ولكن لا يخلقون كخلق الله، لأن الله تعالى يخلق الجواهر والأعراض، والعبيد لا يخلقون سوى أفعالهم لا غير. وفي قوله عز من قائل اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إلقام لأفواه المشركين الأولين، ثم لأفواه التابعة لهم في هذه الضلالة كالقدرية، فان الله تعالى بت هذه البتة أن كل شيء يصدق عليه أنه مخلوق جوهراً كان أو عرضا، فعلا لعبيده أو غيره، فالله خالقه، فلا يبقى بقية يحتمل معها الاشتراك إلا عند كل أثيم أفاك، يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم، فلأمر ما تقاصر لسان الزمخشري عند هذه الآية وقرن شقاشقه، والله الموفق.
522
هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلا لهما، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به «١» في صوغ الحلىّ منه واتخاذ الأوانى والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى به، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً، يثبت الماء في منافعه. وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب، والثمار التي تنبت به مما يدّخر ويكنز، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزيد السيل الذي يرمى به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب. فإن قلت: لم نكرت الأودية؟ قلت: لأن المطر لا يأتى إلا على طريق المناوبة بين البقاع، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. فإن قلت: فما معنى قوله بِقَدَرِها؟
قلت: بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ. ألا ترى إلى قوله وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ لأنه ضرب المطر مثلا للحق، فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف «٢». فإن قلت: فما فائدة قوله ابْتِغاءَ حلية أو متاع؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله بِقَدَرِها لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ لأنّ المعنى: وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع مما يوقد عليه منه ويذاب، وهو الحلية والمتاع. وقوله وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ عبارة جامعة لأنواع الفلز، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما هو هجيرى الملوك، نحو ما جاء في ذكر الآجر فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ و «من» لابتداء الغاية. أى: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء. أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبداً رابياً منفخاً مرتفعاً على وجه السيل، أى يرمى به. وجفأت القدر بزبدها، وأجفأ السيل وأجفل. وفي قراءة رؤبة ابن العجاج: جفالا. وعن أبى حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفأر. وقرئ:
يوقدون، بالياء: أى يوقد الناس.
(١). قوله «وبالفلز الذي ينتفعون به» في الصحاح «الفلز» بالكسر وتشديد الزاى: ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض اه فليحرر، ولعله ما يبقيه الكير... الخ. (ع)
(٢). قوله «السيول الجواحف» في الصحاح «سيل جحاف» بالضم: إذا جرف كل شيء وذهب به. (ع)
523

[سورة الرعد (١٣) : آية ١٨]

لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا اللام متعلقة بيضرب، أى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذين لم يستجيبوا، أى: هما مثلا الفريقين. والْحُسْنى صفة لمصدر استجابوا، أى: استجابوا الاستجابة الحسنى. وقوله لَوْ أَنَّ لَهُمْ كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين. وقيل: قد تم الكلام عند قوله كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ وما بعده كلام مستأنف. والحسنى: مبتدأ، خبره لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا والمعنى: لهم المثوبة الحسنى، وهي الجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا مبتدأ خبره. «لو» مع ما في حيزه وسُوءُ الْحِسابِ المناقشة فيه. وعن النخعي: أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٩]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩)
دخلت همزة الإنكار على الفاء في قوله أَفَمَنْ يَعْلَمُ لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أنّ حال من علم أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب: كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أى الذين عملوا على قضيات عقولهم، فنظروا واستبصروا.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)
524
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مبتدأ. وأُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ خبره كقوله: والذين ينقضون عهد الله أولئك لهم اللعنة. ويجوز أن يكون صفة لأولى الألباب، والأوّل أوجه.
وعهد الله: ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى. وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه: من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد، تعميم بعد تخصيص ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأرحام والقرابات، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم، وطرح التفرقة بين أنفسهم وبينهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم. ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر، وكل ما تعلق منهم بسبب، حتى الهرة والدجاجة. وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ قالوا: من أهل خراسان. قال: اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أنّ العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أى يخشون وعيده كله وَيَخافُونَ خصوصاً سُوءَ الْحِسابِ فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا صَبَرُوا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف ابْتِغاءَ وَجْهِ الله، لا ليقال: ما أصبره وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب بالجزع ولئلا يشمت به الأعداء كقوله:
وَتَجَلُّدِى لِلشّامِتِينَ أُرِيهِمُ «١»
ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا مردّ فيه للفائت، كقوله:
مَا إنْ جَزِعْتُ وَلَا هَلَعْ... تُ وَلَا يَرُدُّ بُكَاىَ زَنْدَا «٢»
(١).
وإذا المنية أنشبت أظفارها... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتجلدي للشامتين أريهم... أنى لريب الدهر لا أتضعضع
لأبى ذؤيب خويلد بن خالد المخزومي، يرثى بنيه. روى أن معاوية مرض، فعاده الحسن بن على رضى الله عنهما فقال: كحلونى وألبسونى عمامتي، وأظهر القوة وأنشد له البيت الثاني، فأجابه الحسن بغتة بالأول. وشبه المنية بالسبع على طريق المكنية. وإنشاب الأظفار: تخييل. ومنى له: قدر له. والمنية: الموت لأنه مقدر.
والانشاب: الغرز والتعليق. ألفيت: أى وجدت كل تميمة لا تنفع، وهي ما يعلق على الولدان خوف الجن والحسد. وتجلدي: أى تصبرى وتصلبي. مبتدأ. وأريهم: خبره، أى أظهر لهم به أنى لا أتضعضع وأتخشع وأضعف لأجل ريب الدهر، أى حدثانه الطارئ من حيث لا أشعر. [.....]
(٢).
ليس الجمال بمئزر... فاعلم وإن رديت برداً
إن الجمال معادن... ومناقب أورثن مجداً
أعددن للحدثان سا... بقة وعداء علندى
نهداً وذا شطب يقد... البيض والأبدان قدا
كم من أخ لي صالح... بوأته بيدي لحدا
ما إن هلعت ولا جز... عت ولا يرد بكاى زندا
لعمرو بن معد يكرب. يقول: ليس الجمال بفاخر الثياب. وفاعلم: اعتراض. والخطاب لغير معين، أى ليس كذلك وإن ألبستها والبرد، ثوب سابغ يرتدى به إن الجمال خصال حميدة أكسبت أصحابها الشرف. والحدثان: مكروه الدهر المنقلب. والسابغة الدرع، وكانت له درع من ذهب. والعداء: الفرس الكثير العدو. والعلندى- بالفتح-: الغليظ الشديد السريع. وشيء علند: صلب- واعلندى البعير: اشتد. والنهد: الضخم الطويل. والشطب- بالضم-:
طرائق السيف. والأبدان: الدروع القصيرة، وإذا قطع البيضة والبدن مع أنهما من الحديد، قطع غيرهما بالأولى:
مدح نفسه بالشجاعة، ثم بالصبر فقال: كثير من إخوانى أنزلتهم اللحود بيدي، ومع ذلك ما جزعت لا قليلا ولا كثيراً فان زائدة. والهلع: شدة الجزع. وفي الحديث «من شر ما أوتى العبد: شح هالع، وجبن خالع» أى يهلع فيه وكأنه يخلع فؤاده. وتزند فلان. ضاق بالجواب وغضب. والمزند: مثل في الشيء. ويقال للحقير: زندان في مرقعة، فالزند: الشيء الحقير. ويروى: زيدا: بالياء، على أنه زيد بن الخطاب أخو عمر رضى الله عنه، كان صديقا له في الجاهلية. ويروى: وهل يرد بكائي؟ أى: لم أجزع، لعلمي أنه لا ينفع.
525
وكل عمل له وجوه يعمل عليها، فعلى المؤمن أن ينوى منها ما به كان حسناً عند الله، وإلا لم يستحق به ثواباً، وكان فعل كلا فعل مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الحلال، لأنّ الحرام لا يكون رزقا «١» ولا يسند إلى الله «٢» سِرًّا وَعَلانِيَةً يتناول النوافل، لأنها في السر أفضل- والفرائض، لوجوب المجاهرة بها نفياً للتهمة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ويدفعونها. عن ابن عباس:
يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم. وعن الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن كيسان: إذا أذنبوا تابوا. وقيل: إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره عُقْبَى الدَّارِ عاقبة الدنيا وهي الجنة، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها «٣». وجَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عقبى الدار. وقرئ: فنعم، بفتح النون.
(١). قوله «لأن الحرام لا يكون رزقا» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فيكون رزقا كالحلال. (ع)
(٢). قال محمود: «المراد مما رزقناهم من الحلال، لأن الحرام لا يكون رزقا ولا يسند إلى الله تعالى» قال أحمد:
الحق أن لا رازق إلا الله إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ كما أنه لا خالق إلا الله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ فإذا اقتضى العقل والسمع جميعاً أن لا رازق إلا الله فأى مقال بعد ذلك يبقى للقدرى الزاعم أن أكثر العبيد يرزقون أنفسهم لأن الغالب الحرام وهو مع ذلك مصمم على معتقده الفاسد لا يدعه ولا تكفه القوارع السمعية والعقلية ولا تردعه فبأى حديث بعد الله وآياته يؤمنون.
(٣). قال محمود: «المراد عاقبة الدنيا ومرجع أهلها... الخ» قال أحمد: قد تكرر مجيء العاقبة المطلقة مثل وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ، مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ. وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ والمراد في جميع ذلك: عقبى الخير والسعادة، والزمخشري يستنبط من تكرار مجيء العاقبة المطلقة والمراد عاقبة الخير أنها هي التي أرادها الله فهي الأصل والعاقبة الأخرى لما لم تكن مرادة بل عارضة على خلاف المراد والأصل لم يكن من حقها أن يعبر عنها إلا بتقييد يفهمها كقوله وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ كل ذلك من الزمخشري تهالك على أن ينسب إلى الله إرادة ما لم يقع ومشيئة ما لم يكن مصادمة لما أنطق الله به ألسنة حملة الشريعة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وليس في مجيء ذلك على الإطلاق ما يعين أنه الأصل باعتبار الارادة، ففعله الأصل باعتبار الأمر، ونحن نقول: إن المؤدى إلى حمد العاقبة مأمور به، والمؤدى إلى سوئها منهى عنه، فمن ثم كانت عاقبة الخير هي الأصل، والله الموفق.
526
والأصل: نعم. فمن كسر النون فلنقل كسرة العين إليها، ومن فتح فقد سكن العين ولم ينقل وقرى:
يَدْخُلُونَها على البناء للمفعول. وقرأ ابن أبى عبلة صَلَحَ بضم اللام، والفتح أفصح، أعلم أنّ الأنساب لا تنفع إذا تجردت من الأعمال الصالحة. وآباؤهم جمع أبوى كل واحد منهم، فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ في موضع الحال، لأنّ المعنى: قائلين سلام عليكم، أو مسلمين. فإن قلت: بم تعلق قوله بِما صَبَرْتُمْ؟ قلت: بمحذوف تقديره: هذا بما صبرتم، يعنون هذا الثواب بسبب صبركم، أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه هذه الملاذ والنعم. والمعنى: لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة، كقوله:
بِمَا قَدْ أرَى فِيهَا أوَانِسَ بُدَّنَا «١»
وعن النبي ﷺ أنه كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» «٢» ويجوز أن يتعلق بسلام، أى نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٥]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)
مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول سُوءُ الدَّارِ يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا، لأنه في مقابلة عقبى الدار،. ويجوز أن يراد بالدار جهنم، وبسوئها عذابها.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٦]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ أى الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره، وهو الذي بسط
(١).
أرى الوحش ترعي اليوم في ساحة الحما بما قد أرى فيها أوانس بدنا
يقول: أرى الوحش ترعى في ساحة الحما في هذا الزمان، بدل ما كنت أرى فيها الأحبة، فقد أرى: حكاية حال ماضية، وقد لتقريبها. والأوانس: جمع آنسة. والبدن: جمع بادنة، أى سمينة البدن.
(٢). أخرجه عبد الرزاق والطبري من رواية سهيل بن أبى صالح عن محمد بن إبراهيم التيمي قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم- فذكره» وزاد «كان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك».
رزق أهل مكة ووسعه عليهم وَفَرِحُوا بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة، وخفى عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزرا يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
فإن قلت: كيف طابق قولهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ؟ قلت: هو كلام يجرى مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله ﷺ لم يؤتها نبىّ قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية، فإذا جحدوها ولم يعتدّوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه فط، كان موضعاً للتعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم: إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدّة الشكيمة في الكفر، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ كان على خلاف صفتكم أَنابَ أقبل إلى الحق، وحقيقته دخل في نوبة الخير، والَّذِينَ آمَنُوا بدل من مَنْ أَنابَ. وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته، كقوله ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أو تطمئن بذكر دلائله الدالة على وحدانيته، أو تطمئن بالقرآن لأنه معجزة بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها الَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ، وطُوبى لَهُمْ خبره. ويجوز أن يكون بدلا من القلوب، على تقدير حذف المضاف، أى: تطمئن القلوب قلوب الذين آمنوا، وطوبى مصدر من طاب، كبشرى وزلفى. ومعنى «طوبى لك» أصبت خيراً وطيبا، ومحلها النصب أو الرفع، كقولك:
طيبا لك، وطيب لك، وسلاما لك، وسلام لك. والقراءة في قوله وَحُسْنُ مَآبٍ بالرفع والنصب، تدلك على محليها. واللام في لَهُمْ للبيان مثلها في سقيا لك، والواو في طوبى منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها، كموقن وموسر. وقرأ مكوزة الأعرابى: طيبي لهم، فكسر الطاء لتسلم الياء، كما قيل: بيض ومعيشة.

[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٠]

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠)
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ مثل ذلك الإرسال أرسلناك، يعنى: أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات، ثم فسر كيف أرسله فقال فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أى أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك وَهُمْ يَكْفُرُونَ وحال هؤلاء أنهم يكافرون بِالرَّحْمنِ بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء، وما بهم من نعمة فمنه، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم قُلْ هُوَ رَبِّي الواحد المتعالي عن الشركاء عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي عليكم وَإِلَيْهِ مَتابِ فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣١]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً جوابه محذوف، كما تقول لغلامك: لو أنى قمت إليك، وتترك الجواب والمعنى: ولو أن قرآنا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ عن مقارّها، وزعزعت عن مضاجعها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ حتى تتصدع وتتزايل قطعاً أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف، كما قال لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هذا يعضد ما فسرت به قوله لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من إرادة تعظيم ما أوحى إلى رسول الله ﷺ من القرآن. وقيل: معناه ولو أن قرآنا وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى وتنبيههم، لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه كقوله وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الآية. وقيل: إن أبا جهل بن هشام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها البساتين والقطائع،
529
كما سخرت لداود عليه السلام إن كنت نبياً كما تزعم، فلست بأهون على الله من داود. وسخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام ثم نرجع في يومنا، فقد شق علينا قطع المسافة البعيدة كما سخرت لسليمان عليه السلام. أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا: منهم قصى بن كلاب «١» فنزلت. ومعنى تقطيع الأرض على هذا: قطعها بالسير ومجاوزتها. وعن الفراء: هو متعلق بما قبله. والمعنى: وهم يكافرون بالرحمن وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ وما بينهما اعتراض، وليس ببعيد من السداد. وقيل قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ شققت فجعلت أنهارا وعيونا بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً على معنيين، أحدهما: بل لله القدرة على كل شيء، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها، إلا أنّ علمه بأنّ إظهارها مفسدة يصرفه. والثاني: بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان، وهو قادر على الإلجاء لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار. ويعضده قوله أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ يعنى مشيئة الإلجاء والقسر «٢» لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ومعنى أَفَلَمْ يَيْأَسِ أفلم يعلم. قيل: هي لغة قوم من النخع. وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه، لأنّ اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك لتضمن ذلك. قال سحيم بن وثيل الرياحي:
أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِى أَلَمْ تَيْأَسُوا أنِّى ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ «٣»
ويدل عليه أن علياً وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرءوا: أفلم يتبين، وهو تفسير أَفَلَمْ يَيْأَسِ وقيل: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوى السينات، وهذا ونحوه مما لا يصدق
(١). لم أجده بهذا السياق، وقد روى ابن ربيعة عن أبى أسامة عن مجالد عن الشعبي قال قالت قريش النبي ﷺ «إن كنت نبياً كما تزعم فباعد بين جبلي مكة- أحسبها هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة حتى تزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرون أنك نبى، أو احملنا إلى الشام، أو إلى اليمن، أو إلى الحيرة، حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلت. فأنزل الله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً- الآية وروى ابن أبى حاتم وابن مردويه من طريق عطية بن أبى سعيد قال قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: «لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه الريح» وروى أبو يعلى من حديث الزبير بن العوام يقول «لما نزلت: وأنذر عشيرتك الأقربين صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا آل قريش، فجاءته قريش. فحذرهم وأنذرهم فقالوا: تزعم أنك نبى وأن سليمان سخر له الريح والجبال، وأن موسى سخر له البحر، وأن عيسى كان يحيى الموتى. فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال وتنفجر لنا الأرض أنهارا فنتخذها محارث فنزرع ونأكل أو ادع الله أن يحيى لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا أو ادع الله أن يصبر هذه الصخرة التي بجنبك ذهبا فننحت منها ويغنينا قال: فبينما نحن حوله إذ نزل عليه الوحى. فلما سرى عنه قال: والذي نفسي بيده، لقد أعطانى ما سألتم ولو شئت كان ولكن أخبرنى أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم يعذبكم. فنزلت».
(٢). قوله «أن لو يشاء الله يعنى مشيئة الإلجاء» هذا عند المعتزلة دون أهل السنة. (ع)
(٣). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢٦١ فراجعه إن شئت اه مصححه.
530
في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتا بين دفتي الإمام. وكان متقلبا في أيدى أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، وهذه والله فرية ما فيها مرية. ويجوز أن يتعلق أَنْ لَوْ يَشاءُ بآمنوا، على: أولم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولهداهم تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارِعَةٌ داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم أَوْ تَحُلُّ القارعة قَرِيباً منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارها، ويتعدى إليهم شرورها حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وهو موتهم، أو القيامة. وقيل: ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله ﷺ من العداوة والتكذيب قارعة، لأنّ رسول الله ﷺ كان لا يزال يبعث السرايا «١» فتغير حول مكة وتختطف منهم، وتصيب من مواشيهم. أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم بجيشك، كما حل بالحديبية، حتى يأتى وعد الله وهو فتح مكة، وكان الله قد وعده ذلك
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٢]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)
الإملاء: الإمهال، وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن، كالبهيمة يملى لها في المرعى وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم. استهزاء به وتسلية له.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤)
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ احتجاج عليهم في إشراكهم بالله، يعنى أفا الله الذي هو قائم رقيب عَلى كُلِّ نَفْسٍ صالحة أو طالحة بِما كَسَبَتْ يعلم خيره وشره، ويعدّ لكل جزاءه،
(١). قلت: هو موجود في المغازي لابن اسحق. والواقدي، وطبقات ابن سعد في عدة سرايا منها سرية زيد ابن حارثة ليلقى عير قريش، وسرية على الحر بن سعد بن بكر وغيرهما.
كمن ليس كذلك. ويجوز أن يقدّر ما يقع خبراً للمبتدإ ويعطف عليه وجعلوا، وتمثيله: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه وَجَعَلُوا له وهو الله الذي يستحق العبادة وحده شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أى جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم، ثم قال: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ على أم المنقطعة، كقولك للرجل: قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف، ومعناه: بل أتنبؤونه بشركاء «١» لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم، والمراد نفى أن يكون له شركاء. ونحوه: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، كقوله ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ، ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة «٢» التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق: أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه، فتبارك الله أحسن الخالقين. وقرئ «أتنبئونه» بالتخفيف مَكْرُهُمْ كيدهم للإسلام بشركهم وَصُدُّوا قرئ بالحركات الثلاث. وقرأ ابن أبى إسحاق:
وصدّ بالتنوين وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذله لعلمه أنه لا يهتدى فَما لَهُ مِنْ هادٍ فما له من أحد يقدر على هدايته لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وهو ما ينالهم من القتل والأسر وسائر المحن، ولا يلحقهم إلا عقوبة لهم على الكفر، ولذلك سماه عذابا وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
وما لهم من حافظ من عذابه. أو ما لهم من جهته واق من رحمته.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
مَثَلُ الْجَنَّةِ صفتها التي هي في غرابة المثل، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف على مذهب سيبويه، أى فيما قصصناه عليكم مثل الجنة. وقال غيره: الخبر تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كما تقول: صفة زيد أسمر. وقال الزجاج: معناه مثل الجنة تجرى من تحتها الأنهار، على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد. وقرأ على رضى الله عنه: أمثال الجنة، على
(١). قال محمود: «معناه بل أننبئونه بشركاء... الخ» قال أحمد: وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء، وأن الله لا يعلمهم كذلك، لأنهم ليسوا كذلك وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله، إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة معبودة، ولكن مجيء النفي على هذا السنن المتلو بديع، لا تكنه بلاغنه وبراعته، ولو أتى الكلام على الأصل غير محلى بهذا التصريف البديع لكان: وجعلوا لله شركاء وما هم بشركاء، فلم يكن بهذا الموقع التي اقتضته التلاوة.
(٢). عاد كلامه. قال: «وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها... الخ» قال أحمد: هذه الخاتمة كلمة حق أراد بها باطلا، لأنه يعرض فيها بخلق القرآن فتنبه لها، وما أسرع المطالع لهذا الفصل أن يمر على لسانه وقلبه ويستحسنه وهو غافل عما تحته، لولا هذا التنبيه والإيقاظ، والله أعلم.
الجمع، أى صفاتها أُكُلُها دائِمٌ كقوله لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَظِلُّها دائم لا ينسخ، كما ينسخ في الدنيا بالشمس.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٦]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦)
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريد من أسلم من اليهود، كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا: أربعون بنجران، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، وثمانية من أهل اليمن، هؤلاء يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ يعنى ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله ﷺ بالعداوة نحو كعب بن الأشرف وأصحابه، والسيد والعاقب أسقفى نجران وأشياعهما مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني هو ثابت في كتبهم غير محرف، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ونعت رسول الله ﷺ وغير ذلك مما حرّفوه وبدّلوه من الشرائع. فإن قلت: كيف اتصل قوله قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ بما قبله؟
قلت: هو جواب للمنكرين معناه: قل إنما أمرت فيما أنزل إلىّ بأن أعبد الله ولا أشرك به.
فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده فانظروا ماذا تنكرون مع ادعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وقرأ نافع في رواية أبى خليد: ولا أشرك بالرفع على الاستئناف كأنه قال: وأنا أشرك به ويجوز أن يكون في موضع الحال على معنى: أمرت أن أعبد الله غير مشرك به. إِلَيْهِ أَدْعُوا خصوصاً لا أدعو إلى غيره وَإِلَيْهِ لا إلى غيره مرجعي، وأنتم تقولون مثل ذلك، فلا معنى لإنكاركم.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٧]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه، والإنذار بدار الجزاء حُكْماً عَرَبِيًّا حكمة عربية مترجمة بلسان العرب، وانتصابه على الحال. كانوا يدعون رسول الله ﷺ إلى أمور يوافقهم عليها منها أن يصلى إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله عنها، فقيل له: لئن تابعتهم على دين ما هو إلا أهواء وشبه بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج القاطعة، خذلك الله فلا ينصرك ناصر، وأهلكك
فلا يقيك منه واق، وهذا من باب الإلهاب والتهييج، والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه، وأن لا يزلّ زالّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة، وإلا فكان رسول الله ﷺ من شدّة الشكيمة بمكان.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
كانوا يعيبونه بالزواج والولاد، كما كانوا يقولون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، وكانوا يقترحون عليه الآيات، وينكرون النسخ. فقيل: كان الرسل قبله بشراً مثله ذوى أزواج وذرية. وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ولا يأتون بما يقترح عليهم، والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فلكل وقت حكم يكتب على العباد، أى: يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ينسخ ما يستصوب نسخه، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته، أو يتركه غير منسوخ، وقيل: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل وَيُثْبِتُ عيره. وقيل. يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة، ويثبت إيمانهم وطاعتهم. وقيل: يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسى وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها، والكلام في نحو هذا واسع المجال وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه. وقرئ: ويثبت.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤٠]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠)
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم. أو توفيناك قبل ذلك، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم، فلا يهمنك إعراضهم، ولا تستعجل بعذابهم.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤١]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أرض الكفر نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بما نفتح على
المسلمين من بلادهم، فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام، وذلك من آيات النصرة والغلبة ونحوه أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها، أَفَهُمُ الْغالِبُونَ، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ والمعنى: عليك بالبلاغ الذي حملته، ولا تبهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر، ولا يضجرك تأخره، فإن ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر. وقرئ: ننقصها، بالتشديد لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ لا رادّ لحكمه. والمعقب: الذي يكرّ على الشيء فيبطله. وحقيقته: الذي يعقبه أى يقفيه بالردّ والإبطال. ومنه قيل لصاحب الحق: معقب، لأنه يقفى غريمه بالاقتضاء والطلب. قال لبيد:
طَلَبُ الْمُعَقِّبِ حَقّهُ الْمَظْلُومُ «١»
والمعنى: أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا. فإن قلت: ما محل قوله لا معقب لحكمه؟ قلت: هو جملة محلها النصب على الحال، كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه، كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة، تريد حاسراً.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤٢]
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وصفهم بالمكر، ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ثم فسر ذلك بقوله يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ لأنّ من علم ما تكسب كل نفس، وأعدّ لها جزاءها فهو المكر كله، لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون. وهم في غفلة مما يراد بهم. وقرئ: الكفار. والكافرون. والذين كفروا. والكفر:
أى أهله، والمراد بالكافر الجنس: وقرأ جناح بن حبيش، وسيعلم الكافر، من أعلمه أى سيخبر.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤٣]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
(١).
حتى تهجر في الرواح وهاجها طلب المعقب حقه المظلوم
للبيد بن ربيعة، يصف حمار وحش خرج في الهاجرة وراء أنانه، وهاجها: أى بعثها على السير ونشطها لسرعة سيره في طلبها، كما يطلب المعقب المظلوم حقه ودينه ممن هو عليه، فالمظلوم بالرفع صفة للمعقب، لأنه فاعل في المعنى.
ومعناه الذي رجع إلى حقه الذي كان أعطاه للدين، فكأنه رجع على عقبه، أو لأنه يعقب المدين ويتبعه.
535
كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً لما أظهر من الأدلة على رسالتي وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ والذي عنده علم القرآن «١» وما ألف عليه من النظم المعجز الفائت لقوى البشر. وقيل: ومن هو من علماء أهل الكتاب «٢» الذين أسلموا. لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم: وقيل هو الله عز وعلا «٣» والكتاب: اللوح المحفوظ. وعن الحسن: لا والله ما يعنى إلا الله. والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو، شهيداً بيني وبينكم. وتعضده قراءة من قرأ ومن عنده علم الكتاب، على من الجارّة، أى. ومن لدنه علم الكتاب، لأن علم من علمه من فضله ولطفه. وقرئ: ومن عنده علم الكتاب على من الجارّة. وعلم، على البناء للمفعول. وقرئ:
وبمن عنده علم الكتاب. فإن قلت: بم ارتفع علم الكتاب؟ قلت: في القراءة التي وقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالمقدّر في الظرف، فيكون فاعلا، لأنّ الظرف إذا وقع صلة أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول، فعمل عمل الفعل، كقولك: مررت بالذي في الدار أخوه، فأخوه فاعل، كما تقول: بالذي استقرّ في الدار أخوه. وفي القراءة التي لم يقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالابتداء.
عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة الرعد أعطى من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة، وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله «٤»
(١). قال محمود: «المراد والذي عنده علم القرآن... الخ» قال أحمد: فيكون المراد حينئذ: جنس المؤمنين. [.....]
(٢). قال محمود: «وقيل ومن هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم» قال أحمد: فالكتاب على التأويل الأول مراد به القرآن خاصة، وعلى الثاني جنس الكتب المتقدمة عليه.
(٣). قال محمود: «وقيل هو الله عز وجل، والكتاب، اللوح المحفوظ. وعن الحسن: لا والله ما يعنى إلا الله والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم ما في اللوح المحفوظ إلا هو، شهيداً بيني وبينكم. وتعضده قراءة من قرأ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ على من الجارة» قال أحمد: وإنما قدر الزمخشري في المعطوف عليه اسم الله بالذي يستحق العبادة، حذراً من عطف الصفة على الموصوف، وعدولا إلى أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى تقديراً وإنما أخذ الحصر حيث يقول: ومن لا يعلم علم الكتاب إلا هو من أنه قدم الخبر الذي هو عنده على مبتدئه، وشأن الزمخشري أخذ الحصر من التقديم، والله الموفق للصواب.
(٤). تقدم إسناده في آل عمران.
536
Icon