ﰡ
روي عن ابن عباس قال :﴿ طه ﴾ يا رجل، وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة والضحّاك، وأسند القاضي عياض في كتابه « الشفاء » عن الربيع بن أنَس، قال : كان النبي ﷺ إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله تعالى :﴿ طه ﴾ يعني طأ الأرض يا محمد ﴿ مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى ﴾ ثم قال : ولا يخفى ما في هذا من الإكرام وحسن المعاملة، وقوله :﴿ مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى ﴾ قال الضحّاك : لما أنزل الله القرآن على رسوله ﷺ قام به هو وأصحابه، فقال المشركون من قريش : ما أنزل هذا القرآن على محمد إلاّ ليشقى، فأنزل الله تعالى :﴿ طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى ﴾ فليس الأمر كما زعمه المبطلون، بل من آتاه العلم فقد أراد به خيراً كثيراً، كما ثبت في « الصحيحين » عن معاوية قال، قال رسول الله ﷺ :« من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين » وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ الطبراني، عن ثعلبة بن الحكم، قال، قال رسول الله ﷺ :« يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده، إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلاّ وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي » وقال مجاهد في قوله ﴿ مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى ﴾ هي كقوله :﴿ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة. وقال قتادة : لا والله ما جعله شقاء ولن جعله رحمة ونوراً، ودليلاً إلى الجنة ﴿ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى ﴾ أن الله أنزل كتابه وبعث رسوله رحمة رحم بها عباده ليتذكر ذاكر، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله، وهو ذكر أنزل الله في حلاله وحرامه، وقوله :﴿ تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى ﴾ أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد هو تنزيل من ربك، الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها، وخلق السماوات العلى في ارتفاعها ولطافتها، وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره، أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبعد ما بينها، والتي تليها مسيرة خمسمائة عام.
وقوله تعالى :﴿ الرحمن عَلَى العرش استوى ﴾ المسلك الأسلم طريقة السلف، وهو إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنّة من غير تكييف ولا تحريف، ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، وقوله :﴿ لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى ﴾ أي الجميع ملكه وفي قبضته، وتحت تصرفه ومشيئته وإرادته وحكمه، وهو خالق ذلك ومالكه، وإلهه لا إله سواه، وقوله ﴿ وَمَا تَحْتَ الثرى ﴾ قال محمد بن كعب : أي ما تحت الأرض السابعة، ﴿ وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى ﴾ أي أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسماوات العلى الذي يعلم السر وأخفى، كما قال تعالى :
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الساعة آتِيَةٌ ﴾ : أي قائمة لا محالة وكائنة لا بد منها. وقوله ﴿ أَكَادُ أُخْفِيهَا ﴾ قال ابن عباس : أي لا أطلع عليها أحداً غيري، وقال السدي : ليس أحد من أهل السماوات والأرض إلاّ قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة، وهي في قراءة ابن مسعود : إني أكاد أخفيها من نفسي، يقول : كتمتها من الخلائق، حتى لو استطعت أن أكتمها من نفس لفعلت. قال قتادة : لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين، قلت وهذا كقوله تعالى :﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله ﴾ [ النمل : ٦٥ ]، وقال :﴿ ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] أي ثقل علمها على أهل السماوات والأرض. وقوله سبحانه وتعالى :﴿ لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى ﴾ أي أقيمها لا محالة؛ لأجزي كل عامل بعمله ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧-٨ ]، ﴿ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الطور : ١٦ ]، وقوله :﴿ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا ﴾ الآية. المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين، أي لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة، وأقبل على ملاذه في دنياه وعصى مولاه، واتبع هواه، فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر ﴿ فتردى ﴾ : أي تهلك وتعطب، قال الله تعالى :﴿ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى ﴾ [ الليل : ١١ ].
وقوله تعالى :﴿ أَلْقِهَا ياموسى ﴾ أي هذه العصا التي في يدك يا موسى ألقها، ﴿ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى ﴾ أي صارت في الحال حية عظيمة : ثعباناً طويلاً يتحرك حركة سريعة، فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو أسرع الحيات حركة، ولكنه صغير، فهه في غاية الكبر، وفي غاية سرعة الحركة، ﴿ تسعى ﴾ أي تمشي وتضطرب عن ابن عباس ﴿ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى ﴾، ولم تكن قبل ذلك حية. فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها، فولى مدبراً، ونودي أن يا موسى خذها، ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف، فقيل له في الثالثة إنك من الآمنين، فأخذها. وقال وهب بن منبه : ألقاها على وجه الأرض، ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، يدب يلتمس كأنه يبغي شيئاً يريد أخذه، يمر بالصخرة فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه تتقدان ناراً، وقد عاد المحجن منها عرفاً، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً ولم يعقب، فذهب حتى أمعن، ورأى أنه قد أعجز الحية، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه، ثم نودي يا موسى أن ارجع حيث كنت، فرجع موسى وهو شديد الخوف فقال ﴿ خُذْهَا ﴾ بيمينك ﴿ وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى ﴾ وعلى موسى حينئذٍ مدرعة من صوف، فدخلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها لف طرف المدرعة على يده، ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها، إذا توكأ بين الشعبتين ولهذا قال تعالى ﴿ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى ﴾ أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك.
﴿ قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي ﴾ هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عزّ وجل، أن يشرح له صدره فيما بعثه به، فإنه قد أمره بأمر عظيم، وخطب جسيم، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك، وأجبرهم وأشدهم كفراً وأكثرهم جنوداً، وأبلغهم تمرداً، هذا وقد مكث موسى في داره وليداً عندهم في حجر فرعون على فراشه، ثم قتل منهم نفساً فخافهم أن يقتلوه فهرب منهم، هذه المدة بكمالها، ثم بعد هذا بعثه ربه عزّ وجلّ إليهم نذيراً يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولهذا قال :﴿ قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي ﴾ أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري وإلاّ فلا طاقة لي بذلك ﴿ واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي ﴾.
وقوله تعالى :﴿ واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي ﴾، وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه، وهو مساعدة أخيه هارون له، قال ابن عباس : نبئ هارون ساعتئذ وحين نبئ موسى عليهما السلام. روي عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر، فنزلت بعض الأعراب فسمعت رجلاً يقول : أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا : لا ندري، قال أنا والله أدري! قالت، فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني، إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه، قال :( موسى ) حين سأل لأخيه النبوة، فقلت : صدق والله. وقوله ﴿ اشدد بِهِ أَزْرِي ﴾ قال مجاهد : ظهري، ﴿ وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي ﴾ أي في مشاورتي، ﴿ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ﴾ قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً، وقوله :﴿ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً ﴾ أي في اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون، فلك الحمد على ذلك.
( حديث الفتون ) : روى الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعي النسائي في سننه، عن سعيد بن جبير، قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عزَّ وجلَّ لموسى عليه السلام :﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ﴾، فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال : استأنف النهار يا أبا جبير، فإن لها حديثاً طويلاً، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أبناء وملوكاً، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام، فقال فرعون : كيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلاّ ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا : ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر واتركوا بناتهم، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً.
فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان، فقالت في نفسها : ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إليَّ من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتى أوفى به عند مرفعة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه فأردن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن إن في هذا مالا، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً، حتى دفعنه إليها، فملا فتحته رأت فيه غلاماً، فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط، وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلاّ من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير، فقالت لهم : أقروه، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، حتى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت : قرة عين لي ولك، فقال فرعون : يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله ﷺ :« والذي يُحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك » فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها، لأن تختار له ظئراً، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها، فلم يقبل، وأصبحت أم موسى والهاً فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكراً، حي ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون، والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد، وهو إلى جنبه، وهو لا يشعر به، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فأخذوها فقالوا : ما يدريك ما نصحهم له، هل تعرفينه؟ حتى شكوا في ذلك، وذلك من الفتون يا ابن جبير.
فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى : أزيريني ابني، فوعدتها يوماً تزيرها إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلاّ استقبل ابني اليوم بهديه وكرامة، لأرى ذلك، وأنا باعثة أميناً يحصي ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها بجلته وأكرمته وفرحت به، ونحلت أمه لحسن أثرها عليه، ثم قالت : لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه أنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير. بعد كل بلاء ابتلي به. وأريد به فتوناً، فجاءت امرأة فرعون فقالت : ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال : ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني، فقالت : اجعل بيني وبينك أمراً يعرف الحق به، ائت بجمرتين، ولؤلؤتين، فقدمهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين، وهو يعقل، فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة : ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به، وكان الله بالغاً فيه أمره.
فخرج موسى متوجهاً نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له بالطريق علم إلاّ حسن ظنه بربه عزّ وجلّ، فإنه قال :
فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن، فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً يتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه، وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السلام، فانطلقا جميعاً إلى فرعون فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فقالا :
قال سعيد بن جبير : فحدثني ابن عباس : أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء. لما اجتمعوا في صعيد واحد، قال الناس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر هذا الأمر ﴿ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين ﴾ [ الشعراء : ٤٠ ] يعنون موسى وهارون، استهزاء بهما ﴿ قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى ﴾ [ طه : ٦٥ ]، ﴿ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون ﴾ [ الشعراء : ٤٤ ]، فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك، فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيماً فاغراً فاه فجعلت العصي تلتبس بالحيال حتى صارت جرزاً إلى الثعبان تدخل فيه، حتى ما أبقت عصا ولا حبلاً إلاّ ابتلعته، فلما عرف السحرة ذلك قالوا : لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكن هذا أمر من الله عزَّ وجلَّ، آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله ونتوب إلى الله مما كنا عليه، فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه، وظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون ﴿ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١١٩ ]، وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه وإنما كان حزنها وهمها لموسى.
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم ﴿ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ [ الأعراف : ١٣٨-١٣٩ ] الآية : قد رأيتم من العبر، وسمعتم ما يكفيكم، ومضى فأنزلهم موسى منزلاً، وقال : أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم فإني ذاهب إلى ربي، وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه ثلاثين يوماً وقد صامهن ليلهن ونهارهن، وكره أن يكلم ربه وريح فيه، ريح فم الصائم، فتناول موسى من نبات الأرض شيئاً فمضغه، فقالله ربه حين أتاه : لم أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان! قال : يا رب إني كرهت أن أكلمك إلاّ وفمي طيب الريح، قال : أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، ارجع فصم عشراً. ثم ائتني. ففعل موسى عليه السلام ما أمر به، فلما رأى قومه أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم، وقال : إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوار وودائع ولكم فيهم مثل ذلك، فإني أرى أنكم تحتسبون مالكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا.
فلما كلم الله موسى وقال له ما قال، أخبره بما لقي قومه من بعده، ﴿ فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ﴾ [ طه : ٨٦ ]، فقال لهم : ما سمعتم في القرآن، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وألقى الألواح من الغضب، ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له وانصرف إلى السامري، فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم ﴿ فَنَبَذْتُهَا وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً ﴾ [ طه : ٩٦-٩٧ ]. ولو كان إلهاً لم يخلص إلى ذلك منه، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالو لجماعتهم : يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها، فيكفر عنا ما عملنا، فاختار موسى قومه سبعين رجلاً لذلك لا يألو الخير، خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة، فرجفت بهم الأرض فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل، فقال :
ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي به أن يبلغهم من الوظائف. فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها، فنتق الله عليهم البجل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون، ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون، خلقهم خلق منكر، وذكروا من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها، فقالوا : يا موسى! إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنا بهم ولا ندخلها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون : قيل ليزيد هكذا قرأت؟ قال : نعم من الجبارين آمنا بموسى، وخرجا إليه، قالوا : نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. ويقول أناس : إنهم من قوم موسى، فقال الذين يخافون بنو إسرائيل :﴿ قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [ المائدة : ٢٤ ]، فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتى كان يومئذٍ، فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، وظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، وظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجراً مربعاً وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها فلا يرتحلون من مكان إلاّ وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس.
وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه، وتضطرب وتميد بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وإنما كانت حيلة، وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كثيراً، فألقى كل منهم عصاً وحبلاً حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضهاً بعضاً، وقوله :﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى ﴾ أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم، ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه، فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة، أن ألق ما في يمينك يعني عصاك فإذا هي تلقف ما صنعوا، وذلك أنها صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئاً إلاّ تلقفته وابتلعته، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عياناً جهرة نهاراً ضحوة، فقامت المعجزة واتضح البرهان ووقع الحق وبطل السحر، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى ﴾، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه، ولهم خبرة بفنون السحر ورطقه ووجوهه، علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل، وأنه حق لا مرية فيه، ولا يقدر على هذا إلاّ الذي يقول للشيء كن فيكون، فعند ذلك وقعوا سجداً لله، وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون، ولهذا قال ابن عباس : كانوا أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء بررة، قال محمد بن كعب : كانوا ثمانين ألفاً، وقال السدي : بضعة وثلاثين ألفاً، وقال محمد بن إسحاق : كانوا خمسة عشر ألفاً، وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر ألفاً. قال الأوزاعي : لما خر السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها. قال وذكر عن سعيد بن جبير قوله ﴿ فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً ﴾ قال : رأوا منازلهم تبين لهم وهم في سجودهم.
عن ابن عباس، أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل، فقال له : ما تصنع؟ فقال : أصنع ما يضر ولا ينفع، فقال هارون : اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، ومضى هارون وقال السامري : اللهم إني أسألك أن يخور، فخار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رؤوسهم، وقال السدي : كان يخور ويمشي، فقالوا : أي الضُلاّل منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه ﴿ هاذآ إلهكم وإله موسى ﴾ أي نسيه هاهنا وذهب يتطلبه، وعن ابن عباس ﴿ فَنَسِيَ ﴾ أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم، فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط، قال الله تعالى رداً عليهم وتقريعاً لهم وبياناً لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه :﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ﴾ أي العجل، فلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه، ولا إذا خاطبوه، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، أي في دنياهم ولا في أخراهم، قال ابن عباس : لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج من فمه فيسمع له صوت، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر، أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب، يعني هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما : انظروا إلى أهل العراق! قتلوا ابن بنت رسول الله ﷺ، يعني الحسين، وهم يسألون عن دم البعوضة!.
وقوله تعالى :﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة ﴾، قال مجاهد : يرقعان كهيئة الثوب، وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس : ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما، وقوله :﴿ وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى * ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى ﴾، روى البخاري، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« حاجَّ موسى آدم فقال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؟ أتلومني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن يخلقني، أو قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله ﷺ : فحج آدم موسى »، وفي رواية لابن أبي حاتم :« احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى. قال موسى : أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك! قال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى : بأربعين عاماً، قال آدم : فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى؟ قال : نعم، قال : أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله ﷺ : فحجَّ آدمُ موسى ».
عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال :« المؤمن في قبره في روضة خضراء ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له قبره، كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيم أنزلت هذه الآية ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ ؟ أتدرون ما المعيشة الضنك؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :« عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنبناً، أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية، لكل حية سبعة رؤوس ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون » وروى البزار، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ في قول الله عزَّ وجلَّ ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ قال :« المعيشة الضنك الذي قال الله إنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمة حتى تقوم الساعة » وقوله :﴿ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى ﴾ قال مجاهد والسدي : لا حجة له، وقال عكرمة : عمي عليه كل شيء إلاّ جهنم، ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضاً كما قال تعالى :﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ] الآية، ولهذا يقول :﴿ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ﴾ ؟ أي في الدنيا ﴿ قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى ﴾ أي لما أعرضت عن آيات الله وتناسيتها وأعرضت عنها، كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك، ﴿ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا ﴾ [ الأعراف : ٥١ ] فإن الجزاء من جنس العمل، فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه، فليس داخلاً في هذا الوعيد الخاص، وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى، عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« ما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلاّ لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم ».
عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال :» إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا «، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال :» بركات الأرض « وقال قتادة والسدي ﴿ زَهْرَةَ الحياة ﴾ : يعني زينة الحياة الدنيا : وقال قتادة ﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ لنبتليهم، وقوله :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا ﴾ أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة واصبر أنت على فعلها، كما قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ﴾ [ التحريم : ٦ ]. وقوله :﴿ لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾ يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢-٣ ]، ولهذا قال :﴿ لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾، وقال الثوري : لا نسألك رزقاً : أي لا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم، عن ثابت قال : كان النبي ﷺ إذا أصابه خصاصة نادى أهله يا أهلاه صلوا، صلوا. قال ثابت : وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة. وقال رسول الله ﷺ :» يقول الله تعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك « وعن زيد بن ثابت قال، سمعت رسول الله ﷺ سيقول :» من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلاّ ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة «، وقوله ﴿ والعاقبة للتقوى ﴾ : أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة لمن التقى الله، وفي » الصحيح « أن رسول الله ﷺ قال :» رأيت الليلة كأنا في دار ( عقبة بن رافع ) وأنا أتينا برطب من رطب ابن طاب، فأوّلت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة، وأن ديننا قد طاب «.