تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
المعروف بـالتحرير والتنوير
.
لمؤلفه
ابن عاشور
.
المتوفي سنة 1393 هـ
سماها السلف ( سورة الأنبياء ). ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، طه، والأنبياء، هن من العتاق الأول وهن من تلادي. ولا يعرف لها اسم غير هذا.
ووجه تسميتها سورة الأنبياء أنها ذكر فيها أسماء ستة عشر نبيا ومريم ولم يأت في سورة القرآن مثل هذا العدد من أسماء الأنبياء في سورة من سور القرآن عدا ما في سورة الأنعام. فقد ذكر فيها أسماء ثمانية عشر نبيا في قوله تعالى :﴿ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ﴾ إلى قوله :﴿ ويونس ولوطا ﴾ فإن كانت سورة الأنبياء هذه نزلت قبل سورة الأنعام فقد سبقت بالتسمية بالإضافة إلى الأنبياء، وإلا فاختصاص سورة الأنعام بذكر أحكام الأنعام أوجب تسميتها بذلك الاسم فكانت سورة الأنبياء أجدر من بقية سور القرآن بهذه التسمية، على أن من الحقائق المسلمة أن وجه التسمية لا يوجبها.
وهي مكية بالاتفاق. وحكي ابن عطية والقرطبي الإجماع على ذلك ونقل السيوطي في الإتقان استثناء قوله تعالى :﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ﴾، ولم يعزه إلى قائل. ولعله أخذه من رواية عن مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن المعنى ننقصها بفتح البلدان، أي بناء على أن المراد من الرؤية في الآية الرؤية البصرية، وأن المراد من الأرض أرض الحجاز، وأن المراد من النقص نقص سلطان الشرك منها. وكل ذلك ليس بالمتعين ولا بالراجح. وسيأتي بيانه في موضعه. وقد تقدم بيانه في نظيرها من سورة الرعد التي هي أيضا مكية بالأرجح أن سورة الأنبياء مكية كلها.
وهي السورة الحادية والسبعون في ترتيب النزول نزلت بعد حم السجدة وقبل سورة النحل، فتكون من أواخر السور النازلة قبل الهجرة. ولعلها نزلت بعد إسلام من أسلم من أهل المدينة كما يقتضيه قوله تعالى :﴿ وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ﴾، كما سيأتي بيانه، غير أن ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس أن قوله تعالى في سورة الزخرف :﴿ ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ﴾، أن المراد بضرب المثل هو المثل الذي ضربه ابن الزبعري لما نزل قوله تعالى :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾ كما يأتي يقتضي أن سورة الأنبياء نزلت قبل سورة الزخرف. وقد عدت الزخرف ثانية وستين في النزول.
وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة مائة وإحدى عشر وفي عد أهل الكوفة مائة واثنتا عشرة.
أغراض السورة
والأغراض التي ذكرت في هذه السور هي : الإنذار بالبعث، وتحقيق وقوعه وإنه لتحقق وقوعه كان قريبا.
وإقامة الحجة عليه بخلق السماوات والأرض عن عدم وخلق الموجودات من السماء.
التحذير من التكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله.
والتذكير بأن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو إلا كأمثاله من الرسل وما جاء إلا بمثل ما جاء به الرسل من قبله.
وذكر كثير من أخبار الرسل عليهم السلام.
والتنويه بشأن القرآن وأنه نعمة من الله على المخاطبين وشأن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وأنه رحمة للعالمين.
والتذكير بما أصاب الأمم السالفة من جراء تكذيبهم رسلهم وأن وعد الله للذين كذبوا واقع ولا يغرهم تأخيره فهو جاء لا محالة.
وحذرهم من أن يغتروا بتأخيره كما اغتر الذين من قبلهم حتى أصابهم بغتة، وذكر من أشراط الساعة فتح يأجوج ومأجوج.
وذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من الدلالة على الخالق.
ومن الإيماء إلى أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أتقن وأحكم لتجزي كل نفس بما كسبت وينتصر الحق على الباطل.
ثم ما في ذلك الخلق من الدلائل على وحدانية الخالق إذا لا يستقيم هذا النظام بتعدد الآلهة.
وتنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن الأولاد والاستدلال على وحدانية الله تعالى.
وما يكرهه على فعل ما لا يريد.
وأن جميع المخلوقات صائرون إلى الفناء.
وأعقب ذلك تذكيرهم بالنعمة الكبرى عليهم وهي نعمة الحفظ.
ثم عطف الكلام إلى ذكر الرسل والأنبياء.
وتنظير أحوالهم وأحوال أممهم بأحوال محمد صلى الله عليه وسلم وأحوال قومه.
وكيف نصر الله الرسل على أقوامهم واستجاب دعواتهم.
وأن الرسل كلهم جاءوا بدين الله وهو دين واحد في أصوله قطعه الضالون قطعا.
وأثنى على الرسل وعلى من آمنوا بهم.
وأن العاقبة للمؤمنين في خير الدنيا وخير الآخرة، وأن الله سيحكم بين الفريقين بالحق ويعين رسله على تبليغ شرعه.
ووجه تسميتها سورة الأنبياء أنها ذكر فيها أسماء ستة عشر نبيا ومريم ولم يأت في سورة القرآن مثل هذا العدد من أسماء الأنبياء في سورة من سور القرآن عدا ما في سورة الأنعام. فقد ذكر فيها أسماء ثمانية عشر نبيا في قوله تعالى :﴿ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ﴾ إلى قوله :﴿ ويونس ولوطا ﴾ فإن كانت سورة الأنبياء هذه نزلت قبل سورة الأنعام فقد سبقت بالتسمية بالإضافة إلى الأنبياء، وإلا فاختصاص سورة الأنعام بذكر أحكام الأنعام أوجب تسميتها بذلك الاسم فكانت سورة الأنبياء أجدر من بقية سور القرآن بهذه التسمية، على أن من الحقائق المسلمة أن وجه التسمية لا يوجبها.
وهي مكية بالاتفاق. وحكي ابن عطية والقرطبي الإجماع على ذلك ونقل السيوطي في الإتقان استثناء قوله تعالى :﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ﴾، ولم يعزه إلى قائل. ولعله أخذه من رواية عن مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن المعنى ننقصها بفتح البلدان، أي بناء على أن المراد من الرؤية في الآية الرؤية البصرية، وأن المراد من الأرض أرض الحجاز، وأن المراد من النقص نقص سلطان الشرك منها. وكل ذلك ليس بالمتعين ولا بالراجح. وسيأتي بيانه في موضعه. وقد تقدم بيانه في نظيرها من سورة الرعد التي هي أيضا مكية بالأرجح أن سورة الأنبياء مكية كلها.
وهي السورة الحادية والسبعون في ترتيب النزول نزلت بعد حم السجدة وقبل سورة النحل، فتكون من أواخر السور النازلة قبل الهجرة. ولعلها نزلت بعد إسلام من أسلم من أهل المدينة كما يقتضيه قوله تعالى :﴿ وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ﴾، كما سيأتي بيانه، غير أن ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس أن قوله تعالى في سورة الزخرف :﴿ ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ﴾، أن المراد بضرب المثل هو المثل الذي ضربه ابن الزبعري لما نزل قوله تعالى :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾ كما يأتي يقتضي أن سورة الأنبياء نزلت قبل سورة الزخرف. وقد عدت الزخرف ثانية وستين في النزول.
وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة مائة وإحدى عشر وفي عد أهل الكوفة مائة واثنتا عشرة.
أغراض السورة
والأغراض التي ذكرت في هذه السور هي : الإنذار بالبعث، وتحقيق وقوعه وإنه لتحقق وقوعه كان قريبا.
وإقامة الحجة عليه بخلق السماوات والأرض عن عدم وخلق الموجودات من السماء.
التحذير من التكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله.
والتذكير بأن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو إلا كأمثاله من الرسل وما جاء إلا بمثل ما جاء به الرسل من قبله.
وذكر كثير من أخبار الرسل عليهم السلام.
والتنويه بشأن القرآن وأنه نعمة من الله على المخاطبين وشأن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وأنه رحمة للعالمين.
والتذكير بما أصاب الأمم السالفة من جراء تكذيبهم رسلهم وأن وعد الله للذين كذبوا واقع ولا يغرهم تأخيره فهو جاء لا محالة.
وحذرهم من أن يغتروا بتأخيره كما اغتر الذين من قبلهم حتى أصابهم بغتة، وذكر من أشراط الساعة فتح يأجوج ومأجوج.
وذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من الدلالة على الخالق.
ومن الإيماء إلى أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أتقن وأحكم لتجزي كل نفس بما كسبت وينتصر الحق على الباطل.
ثم ما في ذلك الخلق من الدلائل على وحدانية الخالق إذا لا يستقيم هذا النظام بتعدد الآلهة.
وتنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن الأولاد والاستدلال على وحدانية الله تعالى.
وما يكرهه على فعل ما لا يريد.
وأن جميع المخلوقات صائرون إلى الفناء.
وأعقب ذلك تذكيرهم بالنعمة الكبرى عليهم وهي نعمة الحفظ.
ثم عطف الكلام إلى ذكر الرسل والأنبياء.
وتنظير أحوالهم وأحوال أممهم بأحوال محمد صلى الله عليه وسلم وأحوال قومه.
وكيف نصر الله الرسل على أقوامهم واستجاب دعواتهم.
وأن الرسل كلهم جاءوا بدين الله وهو دين واحد في أصوله قطعه الضالون قطعا.
وأثنى على الرسل وعلى من آمنوا بهم.
وأن العاقبة للمؤمنين في خير الدنيا وخير الآخرة، وأن الله سيحكم بين الفريقين بالحق ويعين رسله على تبليغ شرعه.
ﰡ
-وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَذْكِيرِهِمْ بِالنِّعْمَةِ الْكُبْرَى عَلَيْهِمْ وَهِيَ نِعْمَةُ الْحِفْظِ.
- ثُمَّ عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ.
- وَتَنْظِيرُ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ أُمَمِهِمْ بِأَحْوَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْوَالِ قَوْمِهِ.
- وَكَيْفَ نَصَرَ اللَّهُ الرُّسُلَ عَلَى أَقْوَامِهِمْ وَاسْتَجَابَ دَعَوَاتِهِمْ.
- وَأَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ جَاءُوا بِدِينِ اللَّهِ وَهُوَ دِينٌ وَاحِدٌ فِي أُصُولِهِ قَطَّعَهُ الضَّالُّونَ قَطْعًا.
- وَأَثْنَى عَلَى الرُّسُلِ وَعَلَى مَنْ آمَنُوا بِهِمْ.
- وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي خَيْرِ الدُّنْيَا وَخَيْرِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَحْكُمُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْحَقِّ وَيُعِينُ رُسُلَهُ عَلَى تَبْلِيغ شَرعه.
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ١]
افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أُسْلُوبٌ بَدِيعٌ فِي الِافْتِتَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ غَرَابَةِ الْأُسْلُوبِ وَإِدْخَالِ الرَّوْعِ عَلَى الْمُنْذَرِينَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ مُشْرِكُو مَكَّةَ، وَالِاقْتِرَابُ مُبَالَغَةٌ فِي الْقُرْبِ، فَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْمُطَاوَعَةِ مستعملة فِي تحقق الْفِعْلِ أَيِ اشْتَدَّ قُرْبُ وُقُوعِهِ بِهِمْ.
وَفِي إِسْنَادِ الِاقْتِرَابِ إِلَى الْحِسَابِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَ حَالَ إِظْلَالِ الْحِسَابِ لَهُمْ
بِحَالَةِ شَخْصٍ يَسْعَى لِيَقْرُبَ مِنْ دِيَارِ نَاسٍ، فَفِيهِ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْحِسَابِ الْمَعْقُولَةِ بِهَيْئَةٍ مَحْسُوسَةٍ، وَهِيَ هَيْئَةُ الْمُغِيرِ وَالْمُعَجِّلِ فِي الْإِغَارَةِ عَلَى الْقَوْمِ فَهُوَ يُلِحُّ فِي السَّيْرِ تَكَلُّفًا لِلْقُرْبِ مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ
- ثُمَّ عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ.
- وَتَنْظِيرُ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ أُمَمِهِمْ بِأَحْوَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْوَالِ قَوْمِهِ.
- وَكَيْفَ نَصَرَ اللَّهُ الرُّسُلَ عَلَى أَقْوَامِهِمْ وَاسْتَجَابَ دَعَوَاتِهِمْ.
- وَأَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ جَاءُوا بِدِينِ اللَّهِ وَهُوَ دِينٌ وَاحِدٌ فِي أُصُولِهِ قَطَّعَهُ الضَّالُّونَ قَطْعًا.
- وَأَثْنَى عَلَى الرُّسُلِ وَعَلَى مَنْ آمَنُوا بِهِمْ.
- وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي خَيْرِ الدُّنْيَا وَخَيْرِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَحْكُمُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْحَقِّ وَيُعِينُ رُسُلَهُ عَلَى تَبْلِيغ شَرعه.
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أُسْلُوبٌ بَدِيعٌ فِي الِافْتِتَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ غَرَابَةِ الْأُسْلُوبِ وَإِدْخَالِ الرَّوْعِ عَلَى الْمُنْذَرِينَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ مُشْرِكُو مَكَّةَ، وَالِاقْتِرَابُ مُبَالَغَةٌ فِي الْقُرْبِ، فَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْمُطَاوَعَةِ مستعملة فِي تحقق الْفِعْلِ أَيِ اشْتَدَّ قُرْبُ وُقُوعِهِ بِهِمْ.
وَفِي إِسْنَادِ الِاقْتِرَابِ إِلَى الْحِسَابِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَ حَالَ إِظْلَالِ الْحِسَابِ لَهُمْ
بِحَالَةِ شَخْصٍ يَسْعَى لِيَقْرُبَ مِنْ دِيَارِ نَاسٍ، فَفِيهِ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْحِسَابِ الْمَعْقُولَةِ بِهَيْئَةٍ مَحْسُوسَةٍ، وَهِيَ هَيْئَةُ الْمُغِيرِ وَالْمُعَجِّلِ فِي الْإِغَارَةِ عَلَى الْقَوْمِ فَهُوَ يُلِحُّ فِي السَّيْرِ تَكَلُّفًا لِلْقُرْبِ مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ
8
غَافِلُونَ عَنْ تَطَلُّبِ الْحِسَابِ إِيَّاهُمْ كَمَا يَكُونُ قَوْمٌ غَارِّينَ مُعْرِضِينَ عَنِ اقْتِرَابِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ.
وَالْمُرَادُ مِنَ الْحِسَابِ إِمَّا يَوْمُ الْحِسَابِ، وَمَعْنَى اقْتِرَابِهِ أَنَّهُ قَرِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ، أَوْ قَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ بَقَاءِ الدُّنْيَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ»
، أَوِ اقْتَرَبَ الْحِسَابُ كِنَايَةً عَنِ اقْتِرَابِ مَوْتِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا رَأَوْا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، وَذَلِكَ مِنَ الْحِسَابِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيض بالتهديد بِقرب هَلَاكِهِمْ وَذَلِكَ بِفَنَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
أَوِ الْمُرَادُ بِالْحِسَابِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالذَّنْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: ١١٣] وَعَلَيْهِ فَالِاقْتِرَابُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ أَيْضًا فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلنَّاسِ إِنْ أُبْقِيَتْ عَلَى مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ مِنَ الِاخْتِصَاصِ فَذِكْرُهَا تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى اللَّامِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ حِسابُهُمْ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: حِسَابٌ لَهُمْ.
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ فَصَارَ قَوْلُهُ لِلنَّاسِ مُسَاوِيًا لِلضَّمِيرِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ (حِسَابُ) فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اقْتَرَبَ حِسَابٌ لِلنَّاسِ لَهُمْ فَكَانَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا، وَكَمَا تَقُولُ: أَزِفَ لِلْحَيِّ رَحِيلُهُمْ، أَصْلُهُ أَزِفَ الرَّحِيلُ لِلْحَيِّ ثُمَّ صَارَ أَزِفَ لِلْحَيِّ رَحِيلُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ:
لَا أَبَا لَكَ، أَصْلُهُ لَا أَبَاكَ، فَكَانَتْ لَامُ (لَكَ) مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى الْإِضَافَةِ لِإِمْكَانِ إِغْنَاءِ الْإِضَافَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّامِ. قَالَ الشَّاعِر:
وَأَصْلُ النَّظْمِ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ الْحِسَابُ. وَإِنَّمَا نُظِمَ التَّرْكِيبُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ بِأَنْ قُدِّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَعُرِّفَ النَّاسُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ لِيَحْصُلَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِبْهَامِ ثُمَّ يَقَعُ بَعْدَهُ التَّبْيِينُ، وَلِمَا فِي تَقْدِيمِ الْجَارِ
وَالْمُرَادُ مِنَ الْحِسَابِ إِمَّا يَوْمُ الْحِسَابِ، وَمَعْنَى اقْتِرَابِهِ أَنَّهُ قَرِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ، أَوْ قَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ بَقَاءِ الدُّنْيَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ»
، أَوِ اقْتَرَبَ الْحِسَابُ كِنَايَةً عَنِ اقْتِرَابِ مَوْتِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا رَأَوْا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، وَذَلِكَ مِنَ الْحِسَابِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيض بالتهديد بِقرب هَلَاكِهِمْ وَذَلِكَ بِفَنَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
أَوِ الْمُرَادُ بِالْحِسَابِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالذَّنْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: ١١٣] وَعَلَيْهِ فَالِاقْتِرَابُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ أَيْضًا فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلنَّاسِ إِنْ أُبْقِيَتْ عَلَى مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ مِنَ الِاخْتِصَاصِ فَذِكْرُهَا تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى اللَّامِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ حِسابُهُمْ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: حِسَابٌ لَهُمْ.
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ فَصَارَ قَوْلُهُ لِلنَّاسِ مُسَاوِيًا لِلضَّمِيرِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ (حِسَابُ) فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اقْتَرَبَ حِسَابٌ لِلنَّاسِ لَهُمْ فَكَانَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا، وَكَمَا تَقُولُ: أَزِفَ لِلْحَيِّ رَحِيلُهُمْ، أَصْلُهُ أَزِفَ الرَّحِيلُ لِلْحَيِّ ثُمَّ صَارَ أَزِفَ لِلْحَيِّ رَحِيلُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ:
لَا أَبَا لَكَ، أَصْلُهُ لَا أَبَاكَ، فَكَانَتْ لَامُ (لَكَ) مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى الْإِضَافَةِ لِإِمْكَانِ إِغْنَاءِ الْإِضَافَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّامِ. قَالَ الشَّاعِر:
أَبَا لمَوْت الَّذِي لَا بُدَّ أَنِّي | مُلَاقٍ لَا أَبَاكِ تُخَوِّفِينِي |
9
وَالْمَجْرُورِ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِأَنَّ الِاقْتِرَابَ لِلنَّاسِ لِيَعْلَمَ السَّامِعُ أَنَّ الْمُرَادَ تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُكَنَّى عَنْهُمْ بِالنَّاسِ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ التَّقْدِيمِ احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ فَصَارَ مِثْلَ: اقْتَرَبَ حِسَابٌ لِلنَّاسِ الْحِسَابِ، وَحُذِفَ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ مُفَسِّرِهِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الْحِسَابُ حِسَابَ النَّاسِ الْمَذْكُورِينَ جِيءَ بِضَمِيرِ النَّاسِ لِيَعُودَ إِلَى لَفْظِ النَّاسِ فَيَحْصُلَ تَأْكِيدٌ آخَرُ وَهَذَا نَمَطٌ بَدِيعٌ مِنْ نَسْجِ الْكَلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (مِنْ) أَوْ بِمَعْنَى (إِلَى) مُتَعَلِّقَةٌ بِ اقْتَرَبَ فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ ظَرْفًا
لَغْوًا، وَعَنِ ابْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ مَثَّلَ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ بِقَوْلِهِمْ: «تَقَرَّبْتُ مِنْكَ».
وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ حَالٌ مِنَ النَّاسِ، أَيِ اقْتَرَبَ مِنْهُمُ الْحِسَابُ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ.
وَالْغَفْلَةُ: الذُّهُولُ عَنِ الشَّيْءِ وَعَنْ طُرُقِ عِلْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ فِي سُورَةِ [الْأَنْعَامِ: ١٥٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: ١٤٦].
وَالْإِعْرَاضُ: صَرْفُ الْعَقْلِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالشَّيْءِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ [النِّسَاءِ: ٦٣]، وَقَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فِي سُورَةِ [الْأَنْعَامِ: ٦٨].
وَدَلَّتْ (فِي) عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ شِدَّةُ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنْهُمْ، أَيْ وَهُمْ غَافِلُونَ أَشَدَّ الْغَفْلَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مُنْغَمِسُونَ فِيهَا أَوْ مَظْرُوفُونَ فِي مُحِيطِهَا، ذَلِكَ أَنَّ غَفْلَتَهُمْ عَنْ يَوْمِ الْحِسَابِ مُتَأَصِّلَةٌ فِيهِمْ بِسَبَبِ سَابِقِ كُفْرِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْحِسَابِ وَعَنِ اقْتِرَابِهِ.
وَإِعْرَاضُهُمْ هُوَ إِبَايَتُهُمُ التَّأَمُّلَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُذَكِّرُهُمْ بِالْبَعْثِ وَتَسْتَدِلُّ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَمُتَعَلِّقُ الْإِعْرَاضِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ الْغَفْلَةِ لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ
لَغْوًا، وَعَنِ ابْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ مَثَّلَ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ بِقَوْلِهِمْ: «تَقَرَّبْتُ مِنْكَ».
وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ حَالٌ مِنَ النَّاسِ، أَيِ اقْتَرَبَ مِنْهُمُ الْحِسَابُ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ.
وَالْغَفْلَةُ: الذُّهُولُ عَنِ الشَّيْءِ وَعَنْ طُرُقِ عِلْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ فِي سُورَةِ [الْأَنْعَامِ: ١٥٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: ١٤٦].
وَالْإِعْرَاضُ: صَرْفُ الْعَقْلِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالشَّيْءِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ [النِّسَاءِ: ٦٣]، وَقَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فِي سُورَةِ [الْأَنْعَامِ: ٦٨].
وَدَلَّتْ (فِي) عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ شِدَّةُ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنْهُمْ، أَيْ وَهُمْ غَافِلُونَ أَشَدَّ الْغَفْلَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مُنْغَمِسُونَ فِيهَا أَوْ مَظْرُوفُونَ فِي مُحِيطِهَا، ذَلِكَ أَنَّ غَفْلَتَهُمْ عَنْ يَوْمِ الْحِسَابِ مُتَأَصِّلَةٌ فِيهِمْ بِسَبَبِ سَابِقِ كُفْرِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْحِسَابِ وَعَنِ اقْتِرَابِهِ.
وَإِعْرَاضُهُمْ هُوَ إِبَايَتُهُمُ التَّأَمُّلَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُذَكِّرُهُمْ بِالْبَعْثِ وَتَسْتَدِلُّ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَمُتَعَلِّقُ الْإِعْرَاضِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ الْغَفْلَةِ لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ
10
لَا يُعَدُّ غَافِلًا عَنْهُ، أَيْ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَتْهُمْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِنْذَارِهِمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ اسْتَمَرُّوا عَلَى غَفْلَتِهِمْ عَنِ الْحِسَابِ بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَلَائِلِ التَّذْكِيرِ بِهِ. فَكَانَتِ الْغَفْلَةُ عَنِ الْحِسَابِ مِنْهُمْ غَيْرَ مَقْلُوعَةٍ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِسَبَبِ تَعْطِيلِهِمْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَقْلَعَ الْغَفْلَةَ عَنْهُمْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّلَائِلِ الْمُثْبِتَةِ لِلْبَعْثِ.
[٢، ٣]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٢ الى ٣]
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.
جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١] لِبَيَانِ تَمَكُّنِ الْغَفْلَةِ مِنْهُمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، بِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا فِي الْقُرْآنِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ اشْتَغَلُوا عَنْهُ بِاللَّعِبِ
وَاللَّهْوِ فَلَمْ يَفْقَهُوا مَعَانِيَهُ وَكَانَ حَظُّهُمْ مِنْهُ سَمَاعَ أَلْفَاظِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ: ١٧١].
وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ وَصْفِهِ بِالتَّذْكِيرِ.
وَالْمُحْدَثُ: الْجَدِيدُ. أَيِ الْجَدِيدُ نُزُولُهُ مُتَكَرِّرًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالذِّكْرِ كُلَّمَا جَاءَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَزَالُونَ بِحَاجَةٍ إِلَى إِعَادَةِ التَّذْكِيرِ وَإِحْدَاثِهِ مَعَ قَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانُوا سَمِعُوا ذِكْرًا وَاحِدًا فَلم يعبأوا بِهِ لَانْتَحَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عُذْرًا كَانُوا سَاعَتَئِذٍ فِي غَفْلَةٍ، فَلَمَّا تَكَرَّرَ حَدَثَانُ إِتْيَانِهِ تَبَيَّنَ لِكُلِّ مُنْصِفٍ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ صَدًّا.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فِي سُورَةِ [الشُّعَرَاءِ: ٥]، وَلَيْسَ المُرَاد بمحدث مَا قَابَلَ الْقَدِيمَ فِي اصْطِلَاحِ عِلْمِ الْكَلَامِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِسِيَاقِ النَّظْمِ.
[٢، ٣]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٢ الى ٣]
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.
جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١] لِبَيَانِ تَمَكُّنِ الْغَفْلَةِ مِنْهُمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، بِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا فِي الْقُرْآنِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ اشْتَغَلُوا عَنْهُ بِاللَّعِبِ
وَاللَّهْوِ فَلَمْ يَفْقَهُوا مَعَانِيَهُ وَكَانَ حَظُّهُمْ مِنْهُ سَمَاعَ أَلْفَاظِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ: ١٧١].
وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ وَصْفِهِ بِالتَّذْكِيرِ.
وَالْمُحْدَثُ: الْجَدِيدُ. أَيِ الْجَدِيدُ نُزُولُهُ مُتَكَرِّرًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالذِّكْرِ كُلَّمَا جَاءَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَزَالُونَ بِحَاجَةٍ إِلَى إِعَادَةِ التَّذْكِيرِ وَإِحْدَاثِهِ مَعَ قَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانُوا سَمِعُوا ذِكْرًا وَاحِدًا فَلم يعبأوا بِهِ لَانْتَحَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عُذْرًا كَانُوا سَاعَتَئِذٍ فِي غَفْلَةٍ، فَلَمَّا تَكَرَّرَ حَدَثَانُ إِتْيَانِهِ تَبَيَّنَ لِكُلِّ مُنْصِفٍ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ صَدًّا.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فِي سُورَةِ [الشُّعَرَاءِ: ٥]، وَلَيْسَ المُرَاد بمحدث مَا قَابَلَ الْقَدِيمَ فِي اصْطِلَاحِ عِلْمِ الْكَلَامِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِسِيَاقِ النَّظْمِ.
11
وَمَسْأَلَةُ صِفَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَقَدَّمَ الْخَوْضُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً فِي سُورَةِ [النِّسَاءِ: ١٦٤].
وَجُمْلَةُ اسْتَمَعُوهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي يَأْتِيهِمْ وَهَذَا الْحَالُ مُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ أَيْ مَا يَأْتِيهِمْ ذِكْرٌ فِي حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ اسْتِمَاعِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ حَالٌ لَازِمَةٌ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي اسْتَمَعُوهُ مُقَيِّدَةٌ لِجُمْلَةِ اسْتَمَعُوهُ لِأَنَّ جُمْلَةَ اسْتَمَعُوهُ حَالٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِحَالٍ أُخْرَى هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنَ التَّقْيِيدِ وَإِلَّا لَصَارَ الْكَلَامُ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ. وَفَائِدَةُ هَذَا التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْحَالِيَّتَيْنِ الزِّيَادَةُ لِقَطْعِ مَعْذِرَتِهِمُ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ مُحْدَثٍ كَمَا عَلِمْتَ.
ولاهِيَةً قُلُوبُهُمْ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ فِي جُمْلَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَهِيَ احْتِرَاسٌ لِجُمْلَةِ اسْتَمَعُوهُ أَيِ اسْتِمَاعًا لَا وَعْيَ مَعَهُ.
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ.
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: ١] إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مَسُوقَةٌ لِذِكْرِ أَحْوَالِ تَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لِدَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالتَّكْذِيبِ وَالْبُهْتَانِ وَالتَّآمُرِ عَلَى رَفْضِهَا. فَالَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَوَاوُ الْجَمَاعَةِ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الرَّاجِعَةُ إِلَى لِلنَّاسِ وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا لَيْسَ فِي مَعْنَى التَّقْيِيدِ لِمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ.
وَجُمْلَةُ اسْتَمَعُوهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي يَأْتِيهِمْ وَهَذَا الْحَالُ مُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ أَيْ مَا يَأْتِيهِمْ ذِكْرٌ فِي حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ اسْتِمَاعِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ حَالٌ لَازِمَةٌ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي اسْتَمَعُوهُ مُقَيِّدَةٌ لِجُمْلَةِ اسْتَمَعُوهُ لِأَنَّ جُمْلَةَ اسْتَمَعُوهُ حَالٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِحَالٍ أُخْرَى هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنَ التَّقْيِيدِ وَإِلَّا لَصَارَ الْكَلَامُ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ. وَفَائِدَةُ هَذَا التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْحَالِيَّتَيْنِ الزِّيَادَةُ لِقَطْعِ مَعْذِرَتِهِمُ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ مُحْدَثٍ كَمَا عَلِمْتَ.
ولاهِيَةً قُلُوبُهُمْ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ فِي جُمْلَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَهِيَ احْتِرَاسٌ لِجُمْلَةِ اسْتَمَعُوهُ أَيِ اسْتِمَاعًا لَا وَعْيَ مَعَهُ.
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ.
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: ١] إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مَسُوقَةٌ لِذِكْرِ أَحْوَالِ تَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لِدَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالتَّكْذِيبِ وَالْبُهْتَانِ وَالتَّآمُرِ عَلَى رَفْضِهَا. فَالَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَوَاوُ الْجَمَاعَةِ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الرَّاجِعَةُ إِلَى لِلنَّاسِ وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا لَيْسَ فِي مَعْنَى التَّقْيِيدِ لِمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ.
12
وَ (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْجَمَاعَةِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ أَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّجْوَى، وَلِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى سَبَبِ تَنَاجِيهِمْ بِمَا ذُكِرَ وَأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كُفْرُهُمْ وَظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ، وَلِلنِّدَاءِ عَلَى قُبْحِ مَا هُمْ مُتَّصِفُونَ بِهِ.
وَجُمْلَةُ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بَدَلٌ مِنَ النَّجْوَى لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَا تَنَاجَوْا بِهِ، فَهُوَ بَدَلٌ مُطَابِقٌ. وَلَيْسَتْ هِيَ كَجُمْلَةِ قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ مِنْ جُمْلَةِ فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى فِي سُورَةِ [طَهَ: ٦٢- ٦٣] فَإِنَّ تِلْكَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ هُوَ آخِرُ مَا أَسْفَرَتْ عَلَيْهِ النَّجْوَى.
وَوَجْهُ إِسْرَارِهِمْ بِذَلِكَ الْكَلَامِ قَصْدُهُمْ أَنْ لَا يَطَّلِعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا تَآمَرُوا بِهِ لِئَلَّا يَتَصَدَّى الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ حُجَّتَهُمْ فِي ذَلِكَ وَاهِيَةٌ يَرُومُونَ بِهَا أَنْ يُضَلِّلُوا الدَّهْمَاءَ، أَوْ أَنَّهُمْ أَسَرُّوا بِذَلِكَ لِفَرِيقٍ رَأَوْا مِنْهُمْ مَخَائِلَ التَّصْدِيقِ لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَكَاثَرَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَخَشَوْا أَنْ يَتَتَابَعَ دُخُولُ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ فَاخْتَلُوا بِقَوْمٍ مَا زَالُوا عَلَى الشِّرْكِ وَنَاجَوْهُمْ بِذَلِكَ لِيُدْخِلُوا الشَّكَّ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَالنَّجْوَى: الْمُحَادَثَةُ الْخَفِيَّةُ. وَالْإِسْرَارُ: هُوَ الْكِتْمَانُ وَالْكَلَامُ الْخَفِيُّ جِدًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ فِي سُورَةِ [بَرَاءَةَ:
٧٨]، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ جَعْلِ النَّجْوَى مَفْعُولًا لِ أَسَرُّوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَسَرُّوا النَّجْوَى فِي [سُورَةِ طَهَ: ٦٢]، أَيْ جَعَلُوا نَجْوَاهُمْ مَقْصُودَةً بِالْكِتْمَانِ وَبَالَغُوا فِي إِخْفَائِهَا لِأَنَّ شَأْنَ التَّشَاوُرِ فِي الْمُهِمِّ كِتْمَانُهُ كَيْلَا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الْمُخَالِفُ فَيُفْسِدَهُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إِنْكَارِيٌّ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ خَاطَبُوا مَنْ قَارَبَ أَنْ يُصَدِّقَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ بِنُبُوءَتِهِ وَهُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ.
وَجُمْلَةُ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بَدَلٌ مِنَ النَّجْوَى لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَا تَنَاجَوْا بِهِ، فَهُوَ بَدَلٌ مُطَابِقٌ. وَلَيْسَتْ هِيَ كَجُمْلَةِ قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ مِنْ جُمْلَةِ فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى فِي سُورَةِ [طَهَ: ٦٢- ٦٣] فَإِنَّ تِلْكَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ هُوَ آخِرُ مَا أَسْفَرَتْ عَلَيْهِ النَّجْوَى.
وَوَجْهُ إِسْرَارِهِمْ بِذَلِكَ الْكَلَامِ قَصْدُهُمْ أَنْ لَا يَطَّلِعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا تَآمَرُوا بِهِ لِئَلَّا يَتَصَدَّى الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ حُجَّتَهُمْ فِي ذَلِكَ وَاهِيَةٌ يَرُومُونَ بِهَا أَنْ يُضَلِّلُوا الدَّهْمَاءَ، أَوْ أَنَّهُمْ أَسَرُّوا بِذَلِكَ لِفَرِيقٍ رَأَوْا مِنْهُمْ مَخَائِلَ التَّصْدِيقِ لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَكَاثَرَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَخَشَوْا أَنْ يَتَتَابَعَ دُخُولُ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ فَاخْتَلُوا بِقَوْمٍ مَا زَالُوا عَلَى الشِّرْكِ وَنَاجَوْهُمْ بِذَلِكَ لِيُدْخِلُوا الشَّكَّ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَالنَّجْوَى: الْمُحَادَثَةُ الْخَفِيَّةُ. وَالْإِسْرَارُ: هُوَ الْكِتْمَانُ وَالْكَلَامُ الْخَفِيُّ جِدًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ فِي سُورَةِ [بَرَاءَةَ:
٧٨]، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ جَعْلِ النَّجْوَى مَفْعُولًا لِ أَسَرُّوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَسَرُّوا النَّجْوَى فِي [سُورَةِ طَهَ: ٦٢]، أَيْ جَعَلُوا نَجْوَاهُمْ مَقْصُودَةً بِالْكِتْمَانِ وَبَالَغُوا فِي إِخْفَائِهَا لِأَنَّ شَأْنَ التَّشَاوُرِ فِي الْمُهِمِّ كِتْمَانُهُ كَيْلَا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الْمُخَالِفُ فَيُفْسِدَهُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إِنْكَارِيٌّ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ خَاطَبُوا مَنْ قَارَبَ أَنْ يُصَدِّقَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ بِنُبُوءَتِهِ وَهُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ.
13
وَكَذَلِكَ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ إِنْكَارِيٌّ وَأَرَادَ بِالسِّحْرِ الْكَلَامَ الَّذِي يَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَشَرًا مِثْلَكُمْ فَمَا تَصْدِيقُكُمْ لِنُبُوءَتِهِ إِلَّا مِنْ أَثَرِ سِحْرٍ سَحَرَكُمْ بِهِ
فَتَأْتُونَ السِّحْرَ بِتَصْدِيقِكُمْ بِمَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ.
وَأُطْلِقَ الْإِتْيَانُ عَلَى الْقَبُولِ وَالْمُتَابَعَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ لِشَيْءٍ يَقْتَضِي الرَّغْبَةَ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِتْيَانِ هُنَا حُضُورُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَمَاعِ دَعْوَتِهِ فَجَعَلُوهُ إِتْيَانًا، لِأَنَّ غَالِبَ حُضُورِ الْمَجَالِسِ أَنْ يَكُونَ بِإِتْيَانٍ إِلَيْهَا، وَجَعَلُوا كَلَامَهُ سِحْرًا فَنَهَوْا مَنْ نَاجَوْهُمْ عَنِ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فِي سُورَةِ [فُصِّلَتْ: ٢٦].
وَقَوْلُهُ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ تَأْتُونَ السِّحْرَ وَبَصَرُكُمْ سَلِيمٌ، وَأَرَادُوا بِهِ الْعِلْمَ الْبَدِيهِيَّ، فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالْبَصَرِ لِأَنَّ الْمُبْصَرَاتِ لَا يَحْتَاجُ إِدْرَاكُهَا إِلَى تفكير.
[٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٤]
قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)
أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى نَجْوَاهُمْ فَلَمْ يَتِمَّ لَهُمْ مَا أَرَادُوا مِنَ الْإِسْرَارِ بِهَا فَبَعْدَ أَنْ حَكَى مَا تَنَاجَوْا بِهِ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي عَلِمَ نَجْوَاهُمْ يَعْلَمُ كُلَّ قَوْلٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ جَهْرٍ أَوْ سِرٍّ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَبِذَلِكَ كَانَ هَذَا تَذْيِيلًا، وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ الْمُتَّصِفُ بِتَمَامِ الْعِلْمِ لِلْمَسْمُوعَاتِ وَغَيْرِهَا بِقَوْلِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَشَرًا مِثْلَكُمْ فَمَا تَصْدِيقُكُمْ لِنُبُوءَتِهِ إِلَّا مِنْ أَثَرِ سِحْرٍ سَحَرَكُمْ بِهِ
فَتَأْتُونَ السِّحْرَ بِتَصْدِيقِكُمْ بِمَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ.
وَأُطْلِقَ الْإِتْيَانُ عَلَى الْقَبُولِ وَالْمُتَابَعَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ لِشَيْءٍ يَقْتَضِي الرَّغْبَةَ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِتْيَانِ هُنَا حُضُورُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَمَاعِ دَعْوَتِهِ فَجَعَلُوهُ إِتْيَانًا، لِأَنَّ غَالِبَ حُضُورِ الْمَجَالِسِ أَنْ يَكُونَ بِإِتْيَانٍ إِلَيْهَا، وَجَعَلُوا كَلَامَهُ سِحْرًا فَنَهَوْا مَنْ نَاجَوْهُمْ عَنِ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فِي سُورَةِ [فُصِّلَتْ: ٢٦].
وَقَوْلُهُ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ تَأْتُونَ السِّحْرَ وَبَصَرُكُمْ سَلِيمٌ، وَأَرَادُوا بِهِ الْعِلْمَ الْبَدِيهِيَّ، فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالْبَصَرِ لِأَنَّ الْمُبْصَرَاتِ لَا يَحْتَاجُ إِدْرَاكُهَا إِلَى تفكير.
[٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٤]
قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)
أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى نَجْوَاهُمْ فَلَمْ يَتِمَّ لَهُمْ مَا أَرَادُوا مِنَ الْإِسْرَارِ بِهَا فَبَعْدَ أَنْ حَكَى مَا تَنَاجَوْا بِهِ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي عَلِمَ نَجْوَاهُمْ يَعْلَمُ كُلَّ قَوْلٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ جَهْرٍ أَوْ سِرٍّ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَبِذَلِكَ كَانَ هَذَا تَذْيِيلًا، وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ الْمُتَّصِفُ بِتَمَامِ الْعِلْمِ لِلْمَسْمُوعَاتِ وَغَيْرِهَا بِقَوْلِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ قالَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَكَذَلِكَ هِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ الْكُوفِيِّ قَالَهُ أَبُو شَامَةَ، أَيْ قَالَ الرَّسُولُ لَهُمْ، حَكَى اللَّهُ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَهُ عَنْ وَحْيٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ لِأَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِأَنْ يَقَوْلَهُ فَقَدْ قَالَهُ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ يَعْلَمُ السِّرَّ لِمُرَاعَاةِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الَّذِي قَالُوهُ مِنْ قَبِيلِ السِّرِّ وَأَنَّ إِثْبَاتَ عِلْمِهِ بِكُلِّ قَوْلٍ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ عِلْمِهِ بِالسِّرِّ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى مُتَعَارَفِ النَّاسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ [الْفُرْقَانِ: ٦] قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهُ ذِكْرٌ لِلْإِسْرَارِ، وَكَانَ قَوْلُ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ [الْفرْقَان: ٤] صَادِرًا مِنْهُمْ تَارَةً جَهْرًا وَتَارَةً سِرًّا فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى سِرِّهِمْ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى جَهْرِهِمْ بطريقة الفحوى.
[٥]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٥]
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)
بَلْ الْأُولَى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِضْرَابُ انْتِقَالٍ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ الْأَنْبِيَاء: ٣] إِلَى حِكَايَةِ قَوْلٍ آخَرَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مَا يُخْبِرُ عَنْهُ وَيَحْكِيهِ هُوَ أَحْلَامٌ يَرَاهَا فَيَحْكِيهَا، فَضَمِيرُ قالُوا لِجَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ لَا لِخُصُوصِ الْقَائِلِينَ الْأَوَّلِينَ.
وبَلْ الثَّانِيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ وَهِيَ إِضْرَابُ انْتِقَالٍ فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ الْقُرْآنَ. وَالْمَعْنَى: بَلِ افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَحْلَامٍ، أَيْ هُوَ كَلَامٌ مَكْذُوبٌ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ يَعْلَمُ السِّرَّ لِمُرَاعَاةِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الَّذِي قَالُوهُ مِنْ قَبِيلِ السِّرِّ وَأَنَّ إِثْبَاتَ عِلْمِهِ بِكُلِّ قَوْلٍ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ عِلْمِهِ بِالسِّرِّ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى مُتَعَارَفِ النَّاسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ [الْفُرْقَانِ: ٦] قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهُ ذِكْرٌ لِلْإِسْرَارِ، وَكَانَ قَوْلُ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ [الْفرْقَان: ٤] صَادِرًا مِنْهُمْ تَارَةً جَهْرًا وَتَارَةً سِرًّا فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى سِرِّهِمْ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى جَهْرِهِمْ بطريقة الفحوى.
[٥]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٥]
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)
بَلْ الْأُولَى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِضْرَابُ انْتِقَالٍ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ الْأَنْبِيَاء: ٣] إِلَى حِكَايَةِ قَوْلٍ آخَرَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مَا يُخْبِرُ عَنْهُ وَيَحْكِيهِ هُوَ أَحْلَامٌ يَرَاهَا فَيَحْكِيهَا، فَضَمِيرُ قالُوا لِجَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ لَا لِخُصُوصِ الْقَائِلِينَ الْأَوَّلِينَ.
وبَلْ الثَّانِيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ وَهِيَ إِضْرَابُ انْتِقَالٍ فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ الْقُرْآنَ. وَالْمَعْنَى: بَلِ افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَحْلَامٍ، أَيْ هُوَ كَلَامٌ مَكْذُوبٌ.
15
ثُمَّ انْتَقَلُوا فَقَالُوا هُوَ شاعِرٌ أَيْ كَلَامُهُ شِعْرٌ، فَحَرْفُ (بَلْ) الثَّالِثَةِ إِضْرَابٌ مِنْهُمْ عَنْ كَلَامِهِمْ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِاضْطِرَابِهِمْ وَهَذَا الِاضْطِرَاب ناشىء عَنْ تَرَدُّدِهِمْ مِمَّا يَنْتَحِلُونَهُ مِنَ الِاعْتِلَالِ عَنِ الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ شَأْنُ الْمُبْطِلِ الْمُبَاهِتِ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي حُجَّتِهِ كَمَا قِيلَ: الْبَاطِلُ لَجْلَجٌ، أَيْ مُلْتَبِسٌ مُتَرَدَّدٌ فِيهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (بَلْ) الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ مِثْلَ (بَلْ) الْأُولَى لِلِانْتِقَالِ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ.
وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ قَالُوا افْتَرَاهُ بَلْ قَالُوا هُوَ شَاعِرٌ، وَحُذِفَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِدَلَالَةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ كَلَامَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انْتَحَلَتْ كُلُّ جَمَاعَةٍ اعْتِلَالًا.
وَالْأَضْغَاثُ: جَمْعُ ضِغْثٍ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَهُوَ الْحِزْمَةُ مِنْ أَعْوَادٍ أَوْ عُشْبٍ أَوْ حَشِيشٍ مُخْتَلِطٍ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْأَخْلَاطِ مُطْلَقًا كَمَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٤٤] قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أَرَادُوا أَنَّ مَا يُخْبِرُكُمْ بِهِ مِنْ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَمِنْ أَخْبَارِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ أَحْلَامٌ يَرَاهَا.
وَفَرَّعُوا عَلَى تَرَدُّدِهِمْ أَوْ فَرَّعَ كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى مَقَالَتِهِ نَتِيجَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْمُطَالَبَةُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ نَوْعِ مَا يُحْكَى عَنِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِهِ مِثْلَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً.
وَمِنَ الْبُهْتَانِ أَنْ يَسْأَلُوا الْإِتْيَانَ بِآيَةٍ يَكُونُ الِادِّعَاءُ بِأَنَّهَا سَحْرٌ أَرْوَجَ فِي مِثْلِهَا فَإِنَّ مِنْ أَشْهَرِ أَعْمَالِ السَّحَرَةِ إِظْهَارَ مَا يَبْدُو أَنَّهُ خَارِقٌ عَادَةً. وَقَدِيمًا قَالَ آلُ فِرْعَوْنَ فِي مُعْجِزَاتِ مُوسَى: إِنَّهَا سِحْرٌ، بِخِلَافِ آيَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
وَدَخَلَتْ لَامُ الْأَمْرِ عَلَى فِعْلِ الْغَائِبِ لِمَعْنَى إِبْلَاغِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، أَيْ فَقُولُوا لَهُ: ائْتِنَا بِآيَةٍ، وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من ضمير فَلْيَأْتِنا أَيْ
حَالَةُ كَوْنِ هَذَا الْبَشَرِ حِينَ يَأْتِي بِالْآيَةِ يُشْبِهُ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (بَلْ) الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ مِثْلَ (بَلْ) الْأُولَى لِلِانْتِقَالِ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ.
وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ قَالُوا افْتَرَاهُ بَلْ قَالُوا هُوَ شَاعِرٌ، وَحُذِفَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِدَلَالَةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ كَلَامَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انْتَحَلَتْ كُلُّ جَمَاعَةٍ اعْتِلَالًا.
وَالْأَضْغَاثُ: جَمْعُ ضِغْثٍ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَهُوَ الْحِزْمَةُ مِنْ أَعْوَادٍ أَوْ عُشْبٍ أَوْ حَشِيشٍ مُخْتَلِطٍ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْأَخْلَاطِ مُطْلَقًا كَمَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٤٤] قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أَرَادُوا أَنَّ مَا يُخْبِرُكُمْ بِهِ مِنْ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَمِنْ أَخْبَارِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ أَحْلَامٌ يَرَاهَا.
وَفَرَّعُوا عَلَى تَرَدُّدِهِمْ أَوْ فَرَّعَ كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى مَقَالَتِهِ نَتِيجَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْمُطَالَبَةُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ نَوْعِ مَا يُحْكَى عَنِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِهِ مِثْلَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً.
وَمِنَ الْبُهْتَانِ أَنْ يَسْأَلُوا الْإِتْيَانَ بِآيَةٍ يَكُونُ الِادِّعَاءُ بِأَنَّهَا سَحْرٌ أَرْوَجَ فِي مِثْلِهَا فَإِنَّ مِنْ أَشْهَرِ أَعْمَالِ السَّحَرَةِ إِظْهَارَ مَا يَبْدُو أَنَّهُ خَارِقٌ عَادَةً. وَقَدِيمًا قَالَ آلُ فِرْعَوْنَ فِي مُعْجِزَاتِ مُوسَى: إِنَّهَا سِحْرٌ، بِخِلَافِ آيَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
وَدَخَلَتْ لَامُ الْأَمْرِ عَلَى فِعْلِ الْغَائِبِ لِمَعْنَى إِبْلَاغِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، أَيْ فَقُولُوا لَهُ: ائْتِنَا بِآيَةٍ، وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من ضمير فَلْيَأْتِنا أَيْ
حَالَةُ كَوْنِ هَذَا الْبَشَرِ حِينَ يَأْتِي بِالْآيَةِ يُشْبِهُ
16
رِسَالَتَهُ رِسَالَةَ الْأَوَّلِينَ، وَالْمُشَبَّهُ ذَاتٌ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَذَلِكَ وَاسِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
أَيْ عَلَى مَخَافَةِ وَعِلٍ أَوْ حَالَةِ كَوْنِ الْآيَةِ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، أَي بِهِ.
[٦]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٦]
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَوَابًا عَلَى قَوْلِهِمْ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥]، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا الْأَوَّلُونَ مَا أَغْنَتْ فِيهِمُ الْآيَاتُ الَّتِي جَاءَتْهُمْ كَمَا وَدِدْتُمْ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ مِثْلُهَا فَمَا آمَنُوا، وَلِذَلِكَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِهْلَاكُ فَشَأْنُكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ كَشَأْنِهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ فِي سُورَةِ [الْإِسْرَاءِ:
٥٩].
وَإِنَّمَا أَمْسَكَ اللَّهُ الْآيَاتِ الْخَوَارِقَ عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِأَنَّهُ أَرَادَ اسْتِبْقَاءَهُمْ لِيَكُونَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَتَكُونَ ذُرِّيَّاتُهُمْ حَمَلَةَ هَذَا الدِّينِ فِي الْعَالَمِ، وَلَوْ أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَةُ لَكَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ أَنْ يَعْقُبَهَا عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا.
وَ (مَا) نَافِيةٌ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَرْيَةٍ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حَرْفِ (مَا).
وَمُتَعَلِّقُ آمَنَتْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ مَا آمَنَتْ بِالْآيَاتِ قَرْيَةٌ.
وَجُمْلَةُ أَهْلَكْناها صِفَةٌ لِ قَرْيَةٍ، وَرَدَتْ مُسْتَطْرَدَةً لِلتَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا يَتَرَقَّبُونَ الْإِهْلَاكَ.
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي | عَلَى وَعِلٍ مِنْ ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ |
[٦]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٦]
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَوَابًا عَلَى قَوْلِهِمْ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥]، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا الْأَوَّلُونَ مَا أَغْنَتْ فِيهِمُ الْآيَاتُ الَّتِي جَاءَتْهُمْ كَمَا وَدِدْتُمْ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ مِثْلُهَا فَمَا آمَنُوا، وَلِذَلِكَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِهْلَاكُ فَشَأْنُكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ كَشَأْنِهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ فِي سُورَةِ [الْإِسْرَاءِ:
٥٩].
وَإِنَّمَا أَمْسَكَ اللَّهُ الْآيَاتِ الْخَوَارِقَ عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِأَنَّهُ أَرَادَ اسْتِبْقَاءَهُمْ لِيَكُونَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَتَكُونَ ذُرِّيَّاتُهُمْ حَمَلَةَ هَذَا الدِّينِ فِي الْعَالَمِ، وَلَوْ أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَةُ لَكَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ أَنْ يَعْقُبَهَا عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا.
وَ (مَا) نَافِيةٌ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَرْيَةٍ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حَرْفِ (مَا).
وَمُتَعَلِّقُ آمَنَتْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ مَا آمَنَتْ بِالْآيَاتِ قَرْيَةٌ.
وَجُمْلَةُ أَهْلَكْناها صِفَةٌ لِ قَرْيَةٍ، وَرَدَتْ مُسْتَطْرَدَةً لِلتَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا يَتَرَقَّبُونَ الْإِهْلَاكَ.
وَذُكِرَتِ الْقَرْيَةُ هُنَا مُرَادًا بِهَا أَهْلُهَا لِيُبْنَى عَلَيْهَا الْوَصْفُ بِإِهْلَاكِهَا لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ أَصَابَ أَهْلَ الْقُرَى وَقُرَاهُمْ، فَلِذَلِكَ قِيلَ أَهْلَكْناها دُونَ (أَهْلَكْنَاهُمْ) كَمَا فِي سُورَةِ [الْكَهْفِ: ٥٩] وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ.
وَفُرِّعَتْ جُمْلَةُ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ عَلَى جُمْلَةِ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ مُقْتَرِنَةً بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، أَيْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لَوْ أَتَيْنَاهُمْ بِآيَةٍ كَمَا اقْتَرَحُوا كَمَا لَمْ يُؤَمِنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ مِثَالًا فِي قَوْلِهِمْ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥] وَهَذَا أَخْذٌ لَهُمْ بِلَازِم قَوْلهم.
[٧]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٧]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧)
عَطْفُ جَوَابٍ عَلَى جَوَابٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِبْطَالُ مَقْصُودِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣] إِذا أَرَادُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلِامْتِيَازِ عَنْهُمْ بِالرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَيَّنَ خَطَأَهُمْ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الرُّسُلَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِرِسَالَتِهِمْ مَا كَانُوا إِلَّا بَشَرًا وَأَنَّ الرِّسَالَةَ لَيْسَتْ إِلَّا وَحْيًا مِنَ اللَّهِ لِمَنِ اخْتَارَهُ مِنَ الْبَشَرِ.
وَقَوْلُهُ إِلَّا رِجالًا يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ رُسُلًا وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي نُبُوءَةِ النِّسَاءِ مِثْلِ مَرْيَمَ أُخْتِ مُوسَى وَمَرْيَمَ أُمِّ عِيسَى. ثُمَّ عَرَّضَ بِجَهْلِهِمْ وَفَضَحَ خَطَأَهُمْ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ، أَيِ الْعِلْمِ بِالْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ مِنَ الْأَحْبَارِ والرهبان.
وَجُمْلَة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ.
وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ لَهُمْ بَعْدَ كَوْنِ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتٌ، وَنُكْتَتُهُ أَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا كَانَ فِي بَيَانِ الْحَقَائِقِ الْوَاقِعَةِ أَعْرَضَ
وَفُرِّعَتْ جُمْلَةُ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ عَلَى جُمْلَةِ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ مُقْتَرِنَةً بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، أَيْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لَوْ أَتَيْنَاهُمْ بِآيَةٍ كَمَا اقْتَرَحُوا كَمَا لَمْ يُؤَمِنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ مِثَالًا فِي قَوْلِهِمْ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥] وَهَذَا أَخْذٌ لَهُمْ بِلَازِم قَوْلهم.
[٧]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٧]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧)
عَطْفُ جَوَابٍ عَلَى جَوَابٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِبْطَالُ مَقْصُودِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣] إِذا أَرَادُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلِامْتِيَازِ عَنْهُمْ بِالرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَيَّنَ خَطَأَهُمْ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الرُّسُلَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِرِسَالَتِهِمْ مَا كَانُوا إِلَّا بَشَرًا وَأَنَّ الرِّسَالَةَ لَيْسَتْ إِلَّا وَحْيًا مِنَ اللَّهِ لِمَنِ اخْتَارَهُ مِنَ الْبَشَرِ.
وَقَوْلُهُ إِلَّا رِجالًا يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ رُسُلًا وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي نُبُوءَةِ النِّسَاءِ مِثْلِ مَرْيَمَ أُخْتِ مُوسَى وَمَرْيَمَ أُمِّ عِيسَى. ثُمَّ عَرَّضَ بِجَهْلِهِمْ وَفَضَحَ خَطَأَهُمْ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ، أَيِ الْعِلْمِ بِالْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ مِنَ الْأَحْبَارِ والرهبان.
وَجُمْلَة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ.
وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ لَهُمْ بَعْدَ كَوْنِ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتٌ، وَنُكْتَتُهُ أَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا كَانَ فِي بَيَانِ الْحَقَائِقِ الْوَاقِعَةِ أَعْرَضَ
عَنْهُمْ فِي تَقْرِيرِهِ وَجُعِلَ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ إِلَى كُلِّ سَامِعٍ وَجُعِلُوا فِيهِ مُعَبَّرًا عَنْهُمْ بِضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ، وَلَمَّا أُرِيدَ تَجْهِيلُهُمْ وَإِلْجَاؤُهُمْ إِلَى الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ غُيِّرَ الْكَلَامُ إِلَى الْخِطَابِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيعًا لَهُم بتجهيلهم.
[٨]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٨]
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨)
الْجَسَدُ: الْجِسْمُ الَّذِي لَا حَيَاةَ فِيهِ، وَهُوَ يُرَادِفُ الْجُثَّةَ. هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقين من أيمة اللُّغَةِ مِثْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً [طه:
٨٨]. وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [ص: ٣٤]. قِيلَ هُوَ شِقُّ غُلَامٍ لَا رُوحَ فِيهِ وَلَدَتْهُ إِحْدَى نِسَائِهِ، أَيْ مَا جَعَلْنَاهُمْ أَجْرَامًا غَيْرَ مُنْبَثَّةٍ فِيهَا الْأَرْوَاحُ بِحَيْثُ تَنْتَفِي عَنْهُمْ صِفَاتُ الْبَشَرِ الَّتِي خَاصَّتُهَا أَكْلُ الطَّعَامِ، وَهَذَا رَدٌّ لما يَقُولُونَهُ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧] مَعَ قَوْلِهِمْ هُنَا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣].
وَذِكْرُ الْجَسَدِ يُفِيدُ التَّهَكُّمَ بِالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ لما قَالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧]، وَسَأَلُوا أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ الْأَوَّلُونَ كَانَ مُقْتَضَى أَقْوَالِهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ الْأَوَّلِينَ
كَانُوا فِي صُوَرِ الْآدَمِيِّينَ لَكِنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَأَكْلُ الطَّعَامِ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ، فَلَزِمَهُمْ لَمَّا قَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ أَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ بِأَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ أَنْ يَكُونُوا أَجْسَادًا بِلَا أَرْوَاحٍ، وَهَذَا مِنَ السَّخَافَةِ بِمَكَانَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانُوا خالِدِينَ فَهُوَ زِيَادَةُ اسْتِدْلَالٍ لِتَحْقِيقِ بَشَرِيَّتِهِمُ اسْتِدْلَالًا بِمَا هُوَ وَاقِعٌ مِنْ عَدَمِ كَفَاءَةِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، لِقَطْعِ مَعَاذِيرِ الضَّالِّينَ، فَإِنْ زَعَمُوا أَنْ قَدْ كَانَ الرُّسُلُ
[٨]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٨]
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨)
الْجَسَدُ: الْجِسْمُ الَّذِي لَا حَيَاةَ فِيهِ، وَهُوَ يُرَادِفُ الْجُثَّةَ. هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقين من أيمة اللُّغَةِ مِثْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً [طه:
٨٨]. وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [ص: ٣٤]. قِيلَ هُوَ شِقُّ غُلَامٍ لَا رُوحَ فِيهِ وَلَدَتْهُ إِحْدَى نِسَائِهِ، أَيْ مَا جَعَلْنَاهُمْ أَجْرَامًا غَيْرَ مُنْبَثَّةٍ فِيهَا الْأَرْوَاحُ بِحَيْثُ تَنْتَفِي عَنْهُمْ صِفَاتُ الْبَشَرِ الَّتِي خَاصَّتُهَا أَكْلُ الطَّعَامِ، وَهَذَا رَدٌّ لما يَقُولُونَهُ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧] مَعَ قَوْلِهِمْ هُنَا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣].
وَذِكْرُ الْجَسَدِ يُفِيدُ التَّهَكُّمَ بِالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ لما قَالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧]، وَسَأَلُوا أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ الْأَوَّلُونَ كَانَ مُقْتَضَى أَقْوَالِهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ الْأَوَّلِينَ
كَانُوا فِي صُوَرِ الْآدَمِيِّينَ لَكِنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَأَكْلُ الطَّعَامِ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ، فَلَزِمَهُمْ لَمَّا قَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ أَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ بِأَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ أَنْ يَكُونُوا أَجْسَادًا بِلَا أَرْوَاحٍ، وَهَذَا مِنَ السَّخَافَةِ بِمَكَانَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانُوا خالِدِينَ فَهُوَ زِيَادَةُ اسْتِدْلَالٍ لِتَحْقِيقِ بَشَرِيَّتِهِمُ اسْتِدْلَالًا بِمَا هُوَ وَاقِعٌ مِنْ عَدَمِ كَفَاءَةِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، لِقَطْعِ مَعَاذِيرِ الضَّالِّينَ، فَإِنْ زَعَمُوا أَنْ قَدْ كَانَ الرُّسُلُ
الْأَوَّلُونَ مُخَالِفِينَ لِلْبَشَرِ فَمَاذَا يَصْنَعُونَ فِي لَحَاقِ الْفَنَاءِ إِيَّاهُمْ.
فَهَذَا وَجْهُ زِيَادَةِ وَما كانُوا خالِدِينَ.
وَأُتِيَ فِي نَفْيِ الْخُلُودِ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ مَا كانُوا تَحْقِيقًا لِتَمَكُّنِ عَدَمِ الخلود مِنْهُم.
[٩]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٩]
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)
ثُمَّ عَاطِفَةُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ. وَالْمَعْنَى: وَأَهَمُّ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّا صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَأَهْلَكْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ. وَمَضْمُونُ هَذَا أَهَمُّ فِي الْغَرَضَيْنِ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ. فَالتَّبْشِيرُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللَّهَ صَادِقُهُ وَعْدَهُ مِنَ النَّصْرِ، وَالْإِنْذَارُ لِمَنْ مَاثَلَ أَقْوَامَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ.
وَالْمرَاد بالوعد وَعدم النَّصْرَ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَأَنْجَيْناهُمْ الْمُؤْذِنِ بِأَنَّهُ وَعْدُ عَذَابٍ لِأَقْوَامِهِمْ، فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّنْوِيهِ بِالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِوَعِيدِ الَّذِينَ قَالُوا فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥]. وَفِي هَذَا تَقْرِيعٌ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ إِنْ كَانَ أَعْجَبَكُمْ مَا أَتَى بِهِ الْأَوَّلُونَ فَسَأَلْتُمْ مِنْ رَسُولِكُمْ مِثْلَهُ فَإِنَّ حَالَكُمْ كَحَالِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ فَتَرَقَّبُوا مِثْلَ مَا نَزَلَ بِهِمْ وَيَتَرَقَّبُ رَسُولُكُمْ مِثْلَ مَا لَقِيَ سَلَفُهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فِي سُورَةِ [يُونُسَ: ١٠٢].
وَانْتُصِبَ الْوَعْدُ بِ صَدَقْناهُمُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِنَزْعِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَأَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُقَالَ: صَدَقْنَاهُمْ فِي الْوَعْدِ، لِأَنَّ (صَدَقَ) لَا يَتَعَدَّى
فَهَذَا وَجْهُ زِيَادَةِ وَما كانُوا خالِدِينَ.
وَأُتِيَ فِي نَفْيِ الْخُلُودِ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ مَا كانُوا تَحْقِيقًا لِتَمَكُّنِ عَدَمِ الخلود مِنْهُم.
[٩]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٩]
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)
ثُمَّ عَاطِفَةُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ. وَالْمَعْنَى: وَأَهَمُّ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّا صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَأَهْلَكْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ. وَمَضْمُونُ هَذَا أَهَمُّ فِي الْغَرَضَيْنِ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ. فَالتَّبْشِيرُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللَّهَ صَادِقُهُ وَعْدَهُ مِنَ النَّصْرِ، وَالْإِنْذَارُ لِمَنْ مَاثَلَ أَقْوَامَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ.
وَالْمرَاد بالوعد وَعدم النَّصْرَ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَأَنْجَيْناهُمْ الْمُؤْذِنِ بِأَنَّهُ وَعْدُ عَذَابٍ لِأَقْوَامِهِمْ، فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّنْوِيهِ بِالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِوَعِيدِ الَّذِينَ قَالُوا فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥]. وَفِي هَذَا تَقْرِيعٌ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ إِنْ كَانَ أَعْجَبَكُمْ مَا أَتَى بِهِ الْأَوَّلُونَ فَسَأَلْتُمْ مِنْ رَسُولِكُمْ مِثْلَهُ فَإِنَّ حَالَكُمْ كَحَالِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ فَتَرَقَّبُوا مِثْلَ مَا نَزَلَ بِهِمْ وَيَتَرَقَّبُ رَسُولُكُمْ مِثْلَ مَا لَقِيَ سَلَفُهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فِي سُورَةِ [يُونُسَ: ١٠٢].
وَانْتُصِبَ الْوَعْدُ بِ صَدَقْناهُمُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِنَزْعِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَأَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُقَالَ: صَدَقْنَاهُمْ فِي الْوَعْدِ، لِأَنَّ (صَدَقَ) لَا يَتَعَدَّى
إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا الْحَذْفُ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ وَمِنْهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَا فِي الْمَثَلِ «صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ» (١).
وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ نَشاءُ احْتِبَاكٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ شِئْنَا وَنُنْجِي رَسُولَنَا وَمَنْ نَشَاءُ مِنْكُمْ، وَهُوَ تَأْمِيلٌ لَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ فِي تَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَنُهْلِكُ الْمُسْرِفِينَ، بَلْ عَادَ إِلَى صِيغَةِ الْمُضِيِّ الَّذِي هُوَ حِكَايَةٌ لِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَبَقِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الَّذِينَ أُهْلِكُوا وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِالتَّهْدِيدِ وَالتَّحْذِيرِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ مَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْوَعِيدِ.
وَالْمُسْرِفُونَ: الْمُفْرِطُونَ فِي التَّكْذِيبِ بِالْإِصْرَارِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ حَتَّى حَلَّ بهم الْعَذَاب.
[١٠]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ١٠]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِهِمْ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥] بِإِيقَاظِهِمْ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي جَاءَتْهُمْ هِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا
_________
(١) فِي «مجمع الْأَمْثَال» للميداني يضْرب مثلا فِي الصدْق. وَأَصله أَن رجلا ساوم آخر فِي بكر وَهُوَ الْفَتى من الْإِبِل، وَقَالَ: مَا سنه؟ قَالَ: بازل، وَهُوَ الكهل من الْإِبِل فنفر الْبَعِير فَدَعَاهُ صَاحبه هدع هدع وَهُوَ صَوت تسكن بِهِ الصغار من الْإِبِل، فَقَالَ المساوم: «صدقني سنّ بكره».
وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ نَشاءُ احْتِبَاكٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ شِئْنَا وَنُنْجِي رَسُولَنَا وَمَنْ نَشَاءُ مِنْكُمْ، وَهُوَ تَأْمِيلٌ لَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ فِي تَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَنُهْلِكُ الْمُسْرِفِينَ، بَلْ عَادَ إِلَى صِيغَةِ الْمُضِيِّ الَّذِي هُوَ حِكَايَةٌ لِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَبَقِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الَّذِينَ أُهْلِكُوا وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِالتَّهْدِيدِ وَالتَّحْذِيرِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ مَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْوَعِيدِ.
وَالْمُسْرِفُونَ: الْمُفْرِطُونَ فِي التَّكْذِيبِ بِالْإِصْرَارِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ حَتَّى حَلَّ بهم الْعَذَاب.
[١٠]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ١٠]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِهِمْ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥] بِإِيقَاظِهِمْ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي جَاءَتْهُمْ هِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا
_________
(١) فِي «مجمع الْأَمْثَال» للميداني يضْرب مثلا فِي الصدْق. وَأَصله أَن رجلا ساوم آخر فِي بكر وَهُوَ الْفَتى من الْإِبِل، وَقَالَ: مَا سنه؟ قَالَ: بازل، وَهُوَ الكهل من الْإِبِل فنفر الْبَعِير فَدَعَاهُ صَاحبه هدع هدع وَهُوَ صَوت تسكن بِهِ الصغار من الْإِبِل، فَقَالَ المساوم: «صدقني سنّ بكره».
21
الْأَوَّلُونَ، وَتَجْهِيلًا لِأَلْبَابِهِمُ الَّتِي لَمْ تُدْرِكْ عِظَمَ الْآيَةِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ كَمَا أَنْبَأَ بِذَلِكَ مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ.
وَفِي ضَمِيرِ ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَتَذْكِيرٌ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي عَمُوا عَنْهَا فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ أَوَّلَ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٢- ٣] كَمَا أَنْبَأَ بِذَلِكَ ظَاهِرُ مَعْنَى الْآيَةِ.
وَلِقَصْدِ هَذَا الْإِيقَاظِ صُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ بِمَا يُفِيدُ التَّحْقِيقَ مِنْ لَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَجُعِلَ إِنْزَالُ الْكِتَابِ إِلَيْهِمْ كَمَا اقْتَضَتْهُ تَعْدِيَةُ فِعْلِ أَنْزَلْنا بِحَرْفِ (إِلَى) شَأْنَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِنْزَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ بِ «إِلَى» هُوَ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِ فَجُعِلَ الْإِنْزَالُ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْإِنْزَالَ كَانَ لِأَجْلِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ. وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: لَقَدْ أَنْزَلْنَا لَكُمْ.
وَتَنْكِيرُ كِتاباً لِلتَّعْظِيمِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ جَمَعَ خَصْلَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: كَوْنَهُ كِتَابَ هُدًى، وَكَوْنَهُ آيَةً وَمُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ أَوْ مُدَانِيهِ.
وَالذِّكْرُ يُطْلَقُ عَلَى التَّذْكِيرِ بِمَا فِيهِ الصَّلَاحُ، وَيُطْلَقُ عَلَى السُّمْعَةِ وَالصِّيتِ كَقَوْلِه ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّاء [مَرْيَم: ٢]. وَقَدْ أُوثِرَ هَذَا الْمَصْدَرُ هُنَا وَجُعِلَ مُعَرَّفًا
بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَكُونَ كَلَامًا مُوَجَّهًا فَيَصِحَّ قَصْدُ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا مِنْ كَلِمَةِ (الذِّكْرِ) بِأَنَّ مَجِيءَ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلًا عَلَى أَعْظَمِ الْهُدَى، وَهُوَ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمَا بِهِ نِهَايَةُ إِصْلَاحِهِمْ، وَمَجِيئُهُ بِلُغَتِهِمْ، وَفِي قَوْمِهِمْ، وَبِوَاسِطَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، سُمْعَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ١٩٥]- وَقَالَ- كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ [الْبَقَرَة: ١٥١].
وَفِي ضَمِيرِ ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَتَذْكِيرٌ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي عَمُوا عَنْهَا فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ أَوَّلَ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٢- ٣] كَمَا أَنْبَأَ بِذَلِكَ ظَاهِرُ مَعْنَى الْآيَةِ.
وَلِقَصْدِ هَذَا الْإِيقَاظِ صُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ بِمَا يُفِيدُ التَّحْقِيقَ مِنْ لَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَجُعِلَ إِنْزَالُ الْكِتَابِ إِلَيْهِمْ كَمَا اقْتَضَتْهُ تَعْدِيَةُ فِعْلِ أَنْزَلْنا بِحَرْفِ (إِلَى) شَأْنَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِنْزَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ بِ «إِلَى» هُوَ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِ فَجُعِلَ الْإِنْزَالُ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْإِنْزَالَ كَانَ لِأَجْلِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ. وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: لَقَدْ أَنْزَلْنَا لَكُمْ.
وَتَنْكِيرُ كِتاباً لِلتَّعْظِيمِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ جَمَعَ خَصْلَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: كَوْنَهُ كِتَابَ هُدًى، وَكَوْنَهُ آيَةً وَمُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ أَوْ مُدَانِيهِ.
وَالذِّكْرُ يُطْلَقُ عَلَى التَّذْكِيرِ بِمَا فِيهِ الصَّلَاحُ، وَيُطْلَقُ عَلَى السُّمْعَةِ وَالصِّيتِ كَقَوْلِه ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّاء [مَرْيَم: ٢]. وَقَدْ أُوثِرَ هَذَا الْمَصْدَرُ هُنَا وَجُعِلَ مُعَرَّفًا
بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَكُونَ كَلَامًا مُوَجَّهًا فَيَصِحَّ قَصْدُ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا مِنْ كَلِمَةِ (الذِّكْرِ) بِأَنَّ مَجِيءَ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلًا عَلَى أَعْظَمِ الْهُدَى، وَهُوَ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمَا بِهِ نِهَايَةُ إِصْلَاحِهِمْ، وَمَجِيئُهُ بِلُغَتِهِمْ، وَفِي قَوْمِهِمْ، وَبِوَاسِطَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، سُمْعَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ١٩٥]- وَقَالَ- كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ [الْبَقَرَة: ١٥١].
22
وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْمَعْنَيَيْنِ. وَفِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» هُنَا قَالَ جَمَاعَةٌ: مَعْنَى «فِيهِ ذِكْرُكُمْ» أَنَّهُ الشَّرَفُ، أَيْ فِيهِ شَرَفُكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ فِيهِ شَرَفُكُمْ وَذِكْرُكُمْ آخِرَ الدَّهْرِ كَمَا تُذْكَرُ عِظَامُ الْأُمُورِ، وَقَدْ فُسِّرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤].
وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ يَكُونُ لِتَفْرِيعِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَفَلا تَعْقِلُونَ أَحْسَنُ مَوْقِعٍ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ لِنَفْيِ عَقْلِهِمْ مُتَّجِهٌ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنَ فَإِنَّ مَنْ جَاءَهُ مَا بِهِ هَدْيُهُ فَلَمْ يَهْتَدِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ سُوءُ عَقْلِهِ، وَمَنْ جَاءَهُ مَا بِهِ مَجْدُهُ وَسُمْعَتُهُ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ سُوءُ قَدْرِهِ لِلْأُمُورِ حَقَّ قَدْرِهَا كَمَا يَكُونُ الْفَضْلُ فِي مِثْلِهِ مُضَاعَفًا.
وَأَيْضًا فَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْإِقْنَاعِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ آيَةً تَفُوقُ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوا مِثْلَهَا وَهُوَ الْمُفَادُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ وَمِنْ تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ بِالْقِسْمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥١]، وَذَلِكَ لِإِعْجَازِهِ اللَّفْظِيّ والمعنوي.
[١١- ١٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٤]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَنْبِيَاء: ٦] أَوْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ.
وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ يَكُونُ لِتَفْرِيعِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَفَلا تَعْقِلُونَ أَحْسَنُ مَوْقِعٍ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ لِنَفْيِ عَقْلِهِمْ مُتَّجِهٌ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنَ فَإِنَّ مَنْ جَاءَهُ مَا بِهِ هَدْيُهُ فَلَمْ يَهْتَدِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ سُوءُ عَقْلِهِ، وَمَنْ جَاءَهُ مَا بِهِ مَجْدُهُ وَسُمْعَتُهُ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ سُوءُ قَدْرِهِ لِلْأُمُورِ حَقَّ قَدْرِهَا كَمَا يَكُونُ الْفَضْلُ فِي مِثْلِهِ مُضَاعَفًا.
وَأَيْضًا فَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْإِقْنَاعِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ آيَةً تَفُوقُ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوا مِثْلَهَا وَهُوَ الْمُفَادُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ وَمِنْ تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ بِالْقِسْمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥١]، وَذَلِكَ لِإِعْجَازِهِ اللَّفْظِيّ والمعنوي.
[١١- ١٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٤]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَنْبِيَاء: ٦] أَوْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ.
23
وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهَا أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ صَدَقَ رُسُلَهُ وَعْدَهُ وَهُوَ خَبَرٌ يُفِيدُ ابْتِدَاءَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الرُّسُلِ وَنَصْرِهِمْ وَبِشَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِنَصْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ إِهْلَاكَ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ تَبَعًا لِذَلِكَ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ إِهْلَاكِ أُمَمٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الظَّالِمِينَ وَوَصْفِ مَا حَلَّ بِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ ابْتِدَاءً اهْتِمَامًا بِهِ لِيَقْرَعَ أَسْمَاعَهُمْ، فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِإِنْذَارِ
الْمُشْرِكِينَ بِالِانْقِرَاضِ بِقَاعِدَةِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، وَأَن الله ينشىء بَعْدَهُمْ أُمَّةً مُؤْمِنَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ فِي سُورَةِ [إِبْرَاهِيمَ: ١٩].
وَ (كَمْ) اسْمٌ، لَهُ حَقُّ صَدْرِ الْكَلَامِ لِأَنَّ أَصْلَهُ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْعَدَدِ، وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ لِلْإِخْبَارِ عَنْ كَثْرَةِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْتَفْهَمَ عَنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَصَمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى فَ (كَمْ) هُنَا خَبَرِيَّةٌ. وَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلِ قَصَمْنا.
وَفِي (كَمْ) الدَّالَّةِ عَلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَثْرَةَ تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَخَلُّفِ إِهْلَاكِ هَذِهِ الْقُرَى، وَبِضَمِيمَةِ وَصْفِ تِلْكَ الْأُمَمِ بِالظُّلْمِ أَيِ الشِّرْكِ إِيمَاءً إِلَى سَبَبِ الْإِهْلَاكِ فَحَصَلَ مِنْهُ وَمِنِ اسْمِ الْكَثْرَةِ مَعْنَى الْعُمُومِ، فَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ التَّهْدِيدَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَالٌّ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ بِحُكْمِ الْعُمُومِ، وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مُرَادًا بِهِ قَرْيَةٌ مُعَيَّنَةٌ، فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ (حَضُورَاءُ) - بِفَتْحِ الْحَاءِ- مَدِينَةٌ بِالْيَمَنِ قَتَلُوا نَبِيئًا اسْمُهُ شُعَيْبُ بْنُ ذِي مَهْدَمٍ فِي زَمَنِ أَرْمِيَاءَ نَبِيءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ فَأَفْنَاهُمْ». فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ مِمَّنْ شَمِلَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَصَمْنَا كَثِيرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فِي سُورَةِ [الْأَنْعَامِ: ٦].
وَأَطْلَقَ الْقَرْيَةَ عَلَى أَهْلِهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ.
الْمُشْرِكِينَ بِالِانْقِرَاضِ بِقَاعِدَةِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، وَأَن الله ينشىء بَعْدَهُمْ أُمَّةً مُؤْمِنَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ فِي سُورَةِ [إِبْرَاهِيمَ: ١٩].
وَ (كَمْ) اسْمٌ، لَهُ حَقُّ صَدْرِ الْكَلَامِ لِأَنَّ أَصْلَهُ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْعَدَدِ، وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ لِلْإِخْبَارِ عَنْ كَثْرَةِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْتَفْهَمَ عَنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَصَمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى فَ (كَمْ) هُنَا خَبَرِيَّةٌ. وَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلِ قَصَمْنا.
وَفِي (كَمْ) الدَّالَّةِ عَلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَثْرَةَ تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَخَلُّفِ إِهْلَاكِ هَذِهِ الْقُرَى، وَبِضَمِيمَةِ وَصْفِ تِلْكَ الْأُمَمِ بِالظُّلْمِ أَيِ الشِّرْكِ إِيمَاءً إِلَى سَبَبِ الْإِهْلَاكِ فَحَصَلَ مِنْهُ وَمِنِ اسْمِ الْكَثْرَةِ مَعْنَى الْعُمُومِ، فَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ التَّهْدِيدَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَالٌّ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ بِحُكْمِ الْعُمُومِ، وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مُرَادًا بِهِ قَرْيَةٌ مُعَيَّنَةٌ، فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ (حَضُورَاءُ) - بِفَتْحِ الْحَاءِ- مَدِينَةٌ بِالْيَمَنِ قَتَلُوا نَبِيئًا اسْمُهُ شُعَيْبُ بْنُ ذِي مَهْدَمٍ فِي زَمَنِ أَرْمِيَاءَ نَبِيءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ فَأَفْنَاهُمْ». فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ مِمَّنْ شَمِلَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَصَمْنَا كَثِيرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فِي سُورَةِ [الْأَنْعَامِ: ٦].
وَأَطْلَقَ الْقَرْيَةَ عَلَى أَهْلِهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ.
24
وَوَجْهُ اخْتِيَارِ لَفْظِ قَرْيَةٍ هَنَا نَظِيرُ مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَنْبِيَاء: ٦].
وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَرْيَةٍ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى مَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ وَهِيَ هُنَا تَمْيِيزٌ لِإِبْهَامِ (كَمْ).
وَالْقَصْمُ: الْكَسْرُ الشَّدِيدُ الَّذِي لَا يُرْجَى بَعْدَهُ الْتِئَامٌ وَلَا انْتِفَاع. واستعير للاستيصال وَالْإِهْلَاكِ الْقَوِيِّ كَإِهْلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ وَسَبَأٍ.
وَجُمْلَةُ وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ وَجُمْلَةِ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِلَخْ. فَجُمْلَةُ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِلَخْ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ.
وَضَمِيرُ مِنْها عَائِدٌ إِلَى قَرْيَةٍ.
وَالْإِحْسَاسُ: الْإِدْرَاكُ بِالْحِسِّ فَيَكُونُ بِرُؤْيَةِ مَا يُزْعِجُهُمْ أَوْ سَمَاعِ أَصْوَاتٍ مُؤْذِنَةٍ بِالْهَلَاكِ كَالصَّوَاعِقِ وَالرِّيَاحِ.
وَالْبَأْسُ: شِدَّةُ الْأَلَمِ وَالْعَذَابِ. وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْها يَرْكُضُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ خَارِجِينَ مِنْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ بِتَأْوِيلِ (يَرْكُضُونَ) مَعْنَى (يَهْرُبُونَ)، أَيْ مِنَ الْبَأْسِ الَّذِي أَحَسُّوا بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ بَأْسِنَا الَّذِي أَحَسُّوهُ فِي الْقَرْيَةِ. وَذَلِكَ بِحُصُولِ أَشْرَاطِ إِنْذَارٍ مِثْلَ الزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ.
وَالرَّكْضُ: سُرْعَةُ سَيْرِ الْفَرَسِ، وَأَصْلُهُ الضَّرْبُ بِالرِّجْلِ فَيُسَمَّى بِهِ الْعَدْوُ، لِأَنَّ الْعَدْوَ يَقْتَضِي قُوَّةَ الضَّرْبِ بِالرِّجِلِ وَأُطْلِقَ الرَّكْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سُرْعَةِ سَيْرِ النَّاسِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِسُرْعَةِ سَيْرِهِمْ بِرَكْضِ الْأَفْرَاسِ.
وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَرْيَةٍ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى مَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ وَهِيَ هُنَا تَمْيِيزٌ لِإِبْهَامِ (كَمْ).
وَالْقَصْمُ: الْكَسْرُ الشَّدِيدُ الَّذِي لَا يُرْجَى بَعْدَهُ الْتِئَامٌ وَلَا انْتِفَاع. واستعير للاستيصال وَالْإِهْلَاكِ الْقَوِيِّ كَإِهْلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ وَسَبَأٍ.
وَجُمْلَةُ وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ وَجُمْلَةِ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِلَخْ. فَجُمْلَةُ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِلَخْ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ.
وَضَمِيرُ مِنْها عَائِدٌ إِلَى قَرْيَةٍ.
وَالْإِحْسَاسُ: الْإِدْرَاكُ بِالْحِسِّ فَيَكُونُ بِرُؤْيَةِ مَا يُزْعِجُهُمْ أَوْ سَمَاعِ أَصْوَاتٍ مُؤْذِنَةٍ بِالْهَلَاكِ كَالصَّوَاعِقِ وَالرِّيَاحِ.
وَالْبَأْسُ: شِدَّةُ الْأَلَمِ وَالْعَذَابِ. وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْها يَرْكُضُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ خَارِجِينَ مِنْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ بِتَأْوِيلِ (يَرْكُضُونَ) مَعْنَى (يَهْرُبُونَ)، أَيْ مِنَ الْبَأْسِ الَّذِي أَحَسُّوا بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ بَأْسِنَا الَّذِي أَحَسُّوهُ فِي الْقَرْيَةِ. وَذَلِكَ بِحُصُولِ أَشْرَاطِ إِنْذَارٍ مِثْلَ الزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ.
وَالرَّكْضُ: سُرْعَةُ سَيْرِ الْفَرَسِ، وَأَصْلُهُ الضَّرْبُ بِالرِّجْلِ فَيُسَمَّى بِهِ الْعَدْوُ، لِأَنَّ الْعَدْوَ يَقْتَضِي قُوَّةَ الضَّرْبِ بِالرِّجِلِ وَأُطْلِقَ الرَّكْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سُرْعَةِ سَيْرِ النَّاسِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِسُرْعَةِ سَيْرِهِمْ بِرَكْضِ الْأَفْرَاسِ.
25
وَ (مِنْها) ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ الْمَرْفُوعِ.
وَدَخَلَتْ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ فِي جَوَابِ (لَمَّا) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمُ ابْتَدَرُوا الْهُرُوبَ مِنْ شِدَّةِ الْإِحْسَاسِ بِالْبَأْسِ تَصْوِيرًا لِشِدَّةِ الْفَزَعِ. وَلَيْسَتْ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ بِرَابِطَةٍ لِلْجَوَابِ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ، وَ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ قَدْ تَكُونُ رَابِطَةً لِلْجَوَابِ خَلَفًا مِنَ الْفَاءِ الرَّابِطَةِ حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى الرَّابِطِ لِأَنَّ مَعْنَى الْفُجَاءَةِ يَصْلُحُ لِلرَّبْطِ وَلَا يُلَازِمُهُ.
وَجُمْلَةُ لَا تَرْكُضُوا مُعْتَرِضَةٌ وَهِيَ خِطَابٌ لِلرَّاكِضِينَ بتخيل كَونهم الْحَاضِرين الْمُشَاهِدِينَ فِي وَقْتِ حِكَايَةِ قِصَّتِهِمْ، تَرْشِيحًا لِمَا اقْتَضَى اجْتِلَابَ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ وَهَذَا كَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ الرَّيْبِ:
أَيْ لَمَّا دَعَاهُ الْهَوَى، أَيْ ذَكَّرَهُ أَحْبَابَهُ وَهُوَ غَازٍ بِذِي الطَّبَسَيْنِ الْتَفَتَ وَرَاءَهُ كَالَّذِي يَدْعُوهُ دَاعٍ مِنْ خَلْفِهِ فَتَخَيَّلَ الْهَوَى دَاعِيًا وَرَاءَهُ.
وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا وَبَيْنَ جُمْلَةِ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ.
وَيَجُوزُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ مَقُولَ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ خُوطِبُوا بِهِ حِينَئِذٍ بِأَنْ سَمِعُوهُ بِخَلْقٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. وَهَذَا مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ وَيُبْعِدُهُ اسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاقِعًا عِنْدَ كُلِّ عَذَابٍ أُصِيبَتْ بِهِ كُلُّ قَرْيَةٍ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ.
وَالْإِتْرَافُ: إِعْطَاءُ التَّرَفِ، وَهُوَ النَّعِيمُ وَرَفَهِ الْعَيْشِ، أَيِ ارْجِعُوا إِلَى مَا أُعْطِيتُمْ مِنَ الرَّفَاهِيَةِ وَإِلَى مَسَاكِنِكُمْ.
وَدَخَلَتْ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ فِي جَوَابِ (لَمَّا) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمُ ابْتَدَرُوا الْهُرُوبَ مِنْ شِدَّةِ الْإِحْسَاسِ بِالْبَأْسِ تَصْوِيرًا لِشِدَّةِ الْفَزَعِ. وَلَيْسَتْ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ بِرَابِطَةٍ لِلْجَوَابِ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ، وَ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ قَدْ تَكُونُ رَابِطَةً لِلْجَوَابِ خَلَفًا مِنَ الْفَاءِ الرَّابِطَةِ حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى الرَّابِطِ لِأَنَّ مَعْنَى الْفُجَاءَةِ يَصْلُحُ لِلرَّبْطِ وَلَا يُلَازِمُهُ.
وَجُمْلَةُ لَا تَرْكُضُوا مُعْتَرِضَةٌ وَهِيَ خِطَابٌ لِلرَّاكِضِينَ بتخيل كَونهم الْحَاضِرين الْمُشَاهِدِينَ فِي وَقْتِ حِكَايَةِ قِصَّتِهِمْ، تَرْشِيحًا لِمَا اقْتَضَى اجْتِلَابَ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ وَهَذَا كَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ الرَّيْبِ:
دَعَانِي الْهَوَى مِنْ أَهْلِ وُدِّي وَجِيرَتِي | بِذِي الطَّبَسَيْنِ فَالْتَفَتُّ وَرَائِيًا |
وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا وَبَيْنَ جُمْلَةِ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ.
وَيَجُوزُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ مَقُولَ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ خُوطِبُوا بِهِ حِينَئِذٍ بِأَنْ سَمِعُوهُ بِخَلْقٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. وَهَذَا مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ وَيُبْعِدُهُ اسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاقِعًا عِنْدَ كُلِّ عَذَابٍ أُصِيبَتْ بِهِ كُلُّ قَرْيَةٍ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ.
وَالْإِتْرَافُ: إِعْطَاءُ التَّرَفِ، وَهُوَ النَّعِيمُ وَرَفَهِ الْعَيْشِ، أَيِ ارْجِعُوا إِلَى مَا أُعْطِيتُمْ مِنَ الرَّفَاهِيَةِ وَإِلَى مَسَاكِنِكُمْ.
26
وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ مِنْ جُمْلَةِ التَّهَكُّمِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي معنى تُسْئَلُونَ احْتِمَالَاتٍ سِتَّةٍ. أَظْهَرُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى: ارْجِعُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ لِتَرَوْا مَا آلَ إِلَيْهِ فَلَعَلَّكُمْ يَسْأَلُكُمْ سَائِلٌ عَنْ حَالِ مَا أَصَابَكُمْ فَتَعْلَمُوا كَيْفَ تُجِيبُونَ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُسَافِرِ أَنْ يَسْأَلَهُ الَّذِينَ يَقْدُمُ إِلَيْهِمْ عَنْ حَالِ الْبِلَادِ الَّتِي تَرَكَهَا مِنْ خِصْبٍ وَرَخَاءٍ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا تَكْمِلَةٌ لِلتَّهَكُّمِ.
وَجُمْلَةُ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنْ جَعَلْتَ جُمْلَةَ لَا تَرْكُضُوا مُعْتَرِضَةً عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ آنِفًا تَكُونُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَمَّا يَقُولُونَهُ حِينَ يُسْرِعُونَ هَارِبِينَ لِأَنَّ شَأْنَ الْهَارِبِ الْفَزِعِ أَنْ تَصْدُرَ مِنْهُ أَقْوَالٌ تَدُلُّ عَلَى الْفَزَعِ أَوِ النَّدَمِ عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَحَلَّتْ بِهِ الْمَخَاوِفَ فَيُجَابُ بِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ فَيُقِرُّونَ بِظُلْمِهِمْ وَيُنْشِئُونَ التَّلَهُّفَ وَالتَّنَدُّمَ بِقَوْلِهِمْ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ.
وَإِنْ جَعَلْتَ جُمْلَةَ لَا تَرْكُضُوا مَقُولَ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ كَانَتْ جُمْلَةُ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ جَوَابًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ لَهُمْ لَا تَرْكُضُوا عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَيَكُونُ فَصْلُ الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي مَوْقِعِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا بَيَّنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، أَيْ قَالُوا: قَدْ عَرَفْنَا ذَنْبَنَا وَحُقَّ التَّهَكُّمُ بِنَا. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ فِي سُورَة [الْملك: ١١].
[١٥]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ١٥]
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٤]، فَاسْمُ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى قالُوا يَا وَيْلَنا [الْأَنْبِيَاء: ١٤]، وَتَأْنِيثُهُ لِأَنَّهُ
وَجُمْلَةُ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنْ جَعَلْتَ جُمْلَةَ لَا تَرْكُضُوا مُعْتَرِضَةً عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ آنِفًا تَكُونُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَمَّا يَقُولُونَهُ حِينَ يُسْرِعُونَ هَارِبِينَ لِأَنَّ شَأْنَ الْهَارِبِ الْفَزِعِ أَنْ تَصْدُرَ مِنْهُ أَقْوَالٌ تَدُلُّ عَلَى الْفَزَعِ أَوِ النَّدَمِ عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَحَلَّتْ بِهِ الْمَخَاوِفَ فَيُجَابُ بِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ فَيُقِرُّونَ بِظُلْمِهِمْ وَيُنْشِئُونَ التَّلَهُّفَ وَالتَّنَدُّمَ بِقَوْلِهِمْ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ.
وَإِنْ جَعَلْتَ جُمْلَةَ لَا تَرْكُضُوا مَقُولَ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ كَانَتْ جُمْلَةُ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ جَوَابًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ لَهُمْ لَا تَرْكُضُوا عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَيَكُونُ فَصْلُ الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي مَوْقِعِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا بَيَّنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، أَيْ قَالُوا: قَدْ عَرَفْنَا ذَنْبَنَا وَحُقَّ التَّهَكُّمُ بِنَا. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ فِي سُورَة [الْملك: ١١].
[١٥]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ١٥]
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٤]، فَاسْمُ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى قالُوا يَا وَيْلَنا [الْأَنْبِيَاء: ١٤]، وَتَأْنِيثُهُ لِأَنَّهُ
27
اكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِدَعْوَاهُمْ، أَيْ مَا زَالُوا يُكَرِّرُونَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ يَدْعُونَ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَهَذَا الْوَجْهُ يُرَجِّحُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ لِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ [الْأَنْبِيَاء: ١٣] لِأَنَّ شَأْنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَقُولُهَا الْخَائِفُ أَنْ يُكَرِّرَهَا إِذْ يَغِيبُ رَأْيُهُ فَلَا يَهْتَدِي لِلْإِتْيَانِ بِكَلَامٍ آخَرَ، بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمَسُوقِ جَوَابًا فَإِنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَى إِعَادَتِهِ.
وَالْمَعْنَى: فَمَا زَالُوا يُكَرِّرُونَ مَقَالَتَهُمْ تِلْكَ حَتَّى هَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ.
وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْقَوْلُ دَعْوَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ هُوَ الدُّعَاءُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْوَيْلِ، وَالدُّعَاءُ يُسَمَّى دَعْوَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فِي [سُورَةِ يُونُسَ: ١٠]. أَيْ فَمَا زَالَ يُكَرَّرُ دُعَاؤُهُمْ بِذَلِكَ فَلَمْ يَكُفُّوا عَنْهُ إِلَى أَنْ صَيَّرْنَاهُمْ كَالْحَصِيدِ، أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ.
وَحَرْفُ حَتَّى مُؤْذِنٌ بِنِهَايَةِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ.
وَالْحَصِيدُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ الْمَحْصُودُ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ إِذَا جَرَتْ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِهَا كَمَا هُنَا.
وَالْحَصْدُ: جَزُّ الزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ بِالْمِنْجَلِ لَا بِالْيَدِ. وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ الْحَصِيدِ عَلَى الزَّرْعِ الْمَحْصُودِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْجَامِدِ.
وَالْخَامِدُ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ خَمَدَتِ النَّارُ تَخْمُدُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- إِذَا زَالَ لَهِيبُهَا.
شُبِّهُوا بِزَرْعٍ حُصِدَ، أَيْ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَائِمًا عَلَى سُوقِهِ خَضِرًا، فَهُوَ يَتَضَمَّنُ قَبْلَ هَلَاكِهِمْ بِزَرْعٍ فِي حُسْنِ الْمَنْظَرِ وَالطَّلْعَةِ،
وَهَذَا الْوَجْهُ يُرَجِّحُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ لِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ [الْأَنْبِيَاء: ١٣] لِأَنَّ شَأْنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَقُولُهَا الْخَائِفُ أَنْ يُكَرِّرَهَا إِذْ يَغِيبُ رَأْيُهُ فَلَا يَهْتَدِي لِلْإِتْيَانِ بِكَلَامٍ آخَرَ، بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمَسُوقِ جَوَابًا فَإِنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَى إِعَادَتِهِ.
وَالْمَعْنَى: فَمَا زَالُوا يُكَرِّرُونَ مَقَالَتَهُمْ تِلْكَ حَتَّى هَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ.
وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْقَوْلُ دَعْوَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ هُوَ الدُّعَاءُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْوَيْلِ، وَالدُّعَاءُ يُسَمَّى دَعْوَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فِي [سُورَةِ يُونُسَ: ١٠]. أَيْ فَمَا زَالَ يُكَرَّرُ دُعَاؤُهُمْ بِذَلِكَ فَلَمْ يَكُفُّوا عَنْهُ إِلَى أَنْ صَيَّرْنَاهُمْ كَالْحَصِيدِ، أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ.
وَحَرْفُ حَتَّى مُؤْذِنٌ بِنِهَايَةِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ.
وَالْحَصِيدُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ الْمَحْصُودُ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ إِذَا جَرَتْ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِهَا كَمَا هُنَا.
وَالْحَصْدُ: جَزُّ الزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ بِالْمِنْجَلِ لَا بِالْيَدِ. وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ الْحَصِيدِ عَلَى الزَّرْعِ الْمَحْصُودِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْجَامِدِ.
وَالْخَامِدُ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ خَمَدَتِ النَّارُ تَخْمُدُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- إِذَا زَالَ لَهِيبُهَا.
شُبِّهُوا بِزَرْعٍ حُصِدَ، أَيْ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَائِمًا عَلَى سُوقِهِ خَضِرًا، فَهُوَ يَتَضَمَّنُ قَبْلَ هَلَاكِهِمْ بِزَرْعٍ فِي حُسْنِ الْمَنْظَرِ وَالطَّلْعَةِ،
28
كَمَا شُبِّهَ بِالزَّرْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ فِي سُورَةِ [الْفَتْح: ٢٩]. وَيُقَال للناشىء: أَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، قَالَ تَعَالَى: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً فِي سُورَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٧].
فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّبَهَيْنِ شَبَهِ الْبَهْجَةِ وَشَبَهِ الْهَلْكِ أُوثِرَ تَشْبِيهُهُمْ حِينَ هَلَاكِهِمْ بِالْحَصِيدِ.
وَكَذَلِكَ شُبِّهُوا حِينَ هَلَاكِهِمْ بِالنَّارِ الْخَامِدَةِ فَتَضَمَّنَ تَشْبِيهَهَمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِالنَّارِ الْمَشْبُوبَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالْبَأْسِ كَمَا شُبِّهَ بِالنَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ فِي سُورَةِ [الْمَائِدَةِ: ٦٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ:
١٧]. فَحَصَلَ تَشْبِيهَانِ بَلِيغَانِ وَلَيْسَا بِاسْتِعَارَتَيْنِ مَكْنِيَّتَيْنِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُشَبَّهِ فِيهِمَا مَانِعٌ مِنْ تَقَوُّمِ حَقِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ خلافًا للعلّامتين التفتازانيّ وَالْجُرْجَانِيِّ فِي «شَرْحَيْهِمَا لِلْمِفْتَاحِ» مُتَمَسِّكِينَ بِصِيغَةِ جَمْعِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَعَلْناهُمْ، فَجَعَلَا ذَلِكَ اسْتِعَارَتَيْنِ مَكْنِيَّتَيْنِ إِذْ شُبِّهُوا بِزَرْعٍ حِينَ انعدامه ونار ذهب قُوَّتُهَا وَحُذِفَ الْمُشَبَّهُ بِهِمَا وَرُمِزَ إِلَيْهِمَا بِلَازِمِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ الْحَصْدُ وَالْخُمُودُ فَكَانَ حَصِيداً وَصْفًا فِي الْمَعْنَى لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي جَعَلْناهُمْ، فَالْحَصِيدُ هُنَا وَصْفٌ لَيْسَ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْجَامِدِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَحَبَّ الْحَصِيدِ [ق:
٩]، وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ تَعَالَى حَصِيداً مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ إِذْ لَمْ يُشَبَّهُوا بِحَصِيدِ زَرْعٍ بَلْ أُثْبِتَ لَهُمْ أَنَّهُمْ مَحْصُودُونَ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً مِثْلَ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى خامِدِينَ الَّذِي هُوَ اسْتِعَارَةٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَجِيئِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَمَبْنَى الِاسْتِعَارَةِ عَلَى
تَنَاسِي التَّشْبِيهِ. وَهَذَا تَكَلُّفٌ مِنْهُمَا وَلَمْ أَدْرِ مَاذَا دَعَاهُمَا إِلَى ارْتِكَابِ هَذَا التَّكَلُّفِ.
وَانْتَصَبَ حَصِيداً خامِدِينَ عَلَى أَنَّ كِلَيْهِمَا مَفْعُولٌ ثَانٍ مُكَرَّرٌ لِفِعْلِ الْجَعْلِ كَمَا يُخْبَرُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِخَبَرَيْنِ وَأَكْثَرَ، فَإِنَّ مَفْعُولَيْ (جَعَلَ) أَصْلُهُمَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ وَلَيْسَ ثَانِيهُمَا وَصْفًا لِأَوَّلِهِمَا كَمَا هُوَ ظَاهر.
فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّبَهَيْنِ شَبَهِ الْبَهْجَةِ وَشَبَهِ الْهَلْكِ أُوثِرَ تَشْبِيهُهُمْ حِينَ هَلَاكِهِمْ بِالْحَصِيدِ.
وَكَذَلِكَ شُبِّهُوا حِينَ هَلَاكِهِمْ بِالنَّارِ الْخَامِدَةِ فَتَضَمَّنَ تَشْبِيهَهَمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِالنَّارِ الْمَشْبُوبَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالْبَأْسِ كَمَا شُبِّهَ بِالنَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ فِي سُورَةِ [الْمَائِدَةِ: ٦٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ:
١٧]. فَحَصَلَ تَشْبِيهَانِ بَلِيغَانِ وَلَيْسَا بِاسْتِعَارَتَيْنِ مَكْنِيَّتَيْنِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُشَبَّهِ فِيهِمَا مَانِعٌ مِنْ تَقَوُّمِ حَقِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ خلافًا للعلّامتين التفتازانيّ وَالْجُرْجَانِيِّ فِي «شَرْحَيْهِمَا لِلْمِفْتَاحِ» مُتَمَسِّكِينَ بِصِيغَةِ جَمْعِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَعَلْناهُمْ، فَجَعَلَا ذَلِكَ اسْتِعَارَتَيْنِ مَكْنِيَّتَيْنِ إِذْ شُبِّهُوا بِزَرْعٍ حِينَ انعدامه ونار ذهب قُوَّتُهَا وَحُذِفَ الْمُشَبَّهُ بِهِمَا وَرُمِزَ إِلَيْهِمَا بِلَازِمِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ الْحَصْدُ وَالْخُمُودُ فَكَانَ حَصِيداً وَصْفًا فِي الْمَعْنَى لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي جَعَلْناهُمْ، فَالْحَصِيدُ هُنَا وَصْفٌ لَيْسَ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْجَامِدِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَحَبَّ الْحَصِيدِ [ق:
٩]، وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ تَعَالَى حَصِيداً مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ إِذْ لَمْ يُشَبَّهُوا بِحَصِيدِ زَرْعٍ بَلْ أُثْبِتَ لَهُمْ أَنَّهُمْ مَحْصُودُونَ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً مِثْلَ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى خامِدِينَ الَّذِي هُوَ اسْتِعَارَةٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَجِيئِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَمَبْنَى الِاسْتِعَارَةِ عَلَى
تَنَاسِي التَّشْبِيهِ. وَهَذَا تَكَلُّفٌ مِنْهُمَا وَلَمْ أَدْرِ مَاذَا دَعَاهُمَا إِلَى ارْتِكَابِ هَذَا التَّكَلُّفِ.
وَانْتَصَبَ حَصِيداً خامِدِينَ عَلَى أَنَّ كِلَيْهِمَا مَفْعُولٌ ثَانٍ مُكَرَّرٌ لِفِعْلِ الْجَعْلِ كَمَا يُخْبَرُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِخَبَرَيْنِ وَأَكْثَرَ، فَإِنَّ مَفْعُولَيْ (جَعَلَ) أَصْلُهُمَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ وَلَيْسَ ثَانِيهُمَا وَصْفًا لِأَوَّلِهِمَا كَمَا هُوَ ظَاهر.
29
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧)كثير فِي الْقُرْآنِ الِاسْتِدْلَالُ بِإِتْقَانِ نِظَامِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّ لِلَّهِ حِكْمَةً فِي خَلْقِ الْمَخْلُوقَات وَخلق نظمهما وَسُنَنِهَا وَفِطَرِهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ أَحْوَالُهَا وَآثَارُهَا وَعَلَاقَةُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَنَاسِبَةً مُجَارِيَةً لِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ [الْحِجْرِ: ٨٥] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ. وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَالِكَ كَيْفِيَّةَ مُلَابَسَةِ الْحَقِّ لِكُلِّ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنْوَاعِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَكَثُرَ أَنْ يُنَبِّهَ الْقُرْآنُ الْعُقُولَ إِلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضَت الْمُنَاسبَة بَيْنَ خَلْقِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، وَبَيْنَ جَزَاءِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ عَلَى الْقَانُونِ الَّذِي أَقَامَتْهُ الشَّرَائِعُ لَهُمْ فِي مُخْتَلَفِ أَجْيَالِهِمْ وَعُصُورِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ إِلَى أَنْ عَمَّتْهُمُ الشَّرِيعَةُ الْعَامَّةُ الْخَاتِمَةُ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ، وَإِلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ تَكْوِينَ حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ تَلْقَى فِيهَا النُّفُوسُ جَزَاءَ مَا قَدَّمَتْهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الزَّائِلَةِ جَزَاءً وِفَاقًا.
فَلِذَلِكَ كَثُرَ أَنْ تُعَقَّبَ الْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِمَا فِي الْخَلْقِ مِنَ الْحَقِّ بِالْآيَاتِ الَّتِي تُذَكِّرُ الْجَزَاءَ وَالْحِسَابَ، وَالْعَكْسُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فِي آخِرِ سُورَةِ [الْمُؤْمِنِينَ: ١١٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ آخِرِ [الْحِجْرِ: ٨٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
30
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ فِي سُورَةِ [ص: ٢٦- ٢٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ فِي سُورَةِ [الدُّخَانِ: ٣٧- ٤٠]، وَقَوْلِهِ
تَعَالَى: مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ [الْأَحْقَافِ: ٣] إِلَى غير هَذِه من الْآيَاتِ.
فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ عُقِّبَ بِهَا ذِكْرُ الْقَوْمِ الْمُهْلَكِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إِيقَاظُ الْعُقُولِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ دَقَائِقِ الْمُنَاسَبَاتِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مَا بِهِ قِوَامَهُ، فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ اللَّهِ فِي خَلْقِ الْعَوَالِمِ ظَرْفِهَا وَمَظْرُوفِهَا، اسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ لَا تَتَخَلَّفُ فِي تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا فِيمَا يَأْتِيهِ جِنْسُ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَإِذَا مَا لَاحَ لَهُمْ تَخَلُّفُ سَبَبٍ عَنْ سَبَبِهِ أَيْقَنُوا أَنَّهُ تَخَلُّفٌ مُؤَقّت فَإِذا علمهمْ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ شَرَائِعِهِ بِأَنَّهُ ادَّخَرَ الْجَزَاءَ الْكَامِلَ عَلَى الْأَعْمَالِ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ آمَنُوا بِهِ، وَإِذَا عَلَّمَهُمْ أَنهم لَا يفوتون ذَلِكَ بِالْمَوْتِ بَلْ إِنَّ لَهُمْ حَيَاةً آخِرَةً وَأَنَّ اللَّهَ بَاعِثُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْقَنُوا بهَا، وَإِذا علمهمْ أَنَّهُ رُبَّمَا عَجَّلَ لَهُمْ بَعْضَ الْجَزَاءِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيْقَنُوا بِهِ.
وَلِذَلِكَ كَثُرَ تَعْقِيبُ ذِكْرِ نِظَامِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ الْآجِلِ وَالْبَعْثِ وَإِهْلَاكِ بَعْضِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ، أَوْ تَعْقِيبُ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ الْآجِلِ وَالْعَاجِلِ بِذِكْرِ نِظَامِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
تَعَالَى: مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ [الْأَحْقَافِ: ٣] إِلَى غير هَذِه من الْآيَاتِ.
فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ عُقِّبَ بِهَا ذِكْرُ الْقَوْمِ الْمُهْلَكِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إِيقَاظُ الْعُقُولِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ دَقَائِقِ الْمُنَاسَبَاتِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مَا بِهِ قِوَامَهُ، فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ اللَّهِ فِي خَلْقِ الْعَوَالِمِ ظَرْفِهَا وَمَظْرُوفِهَا، اسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ لَا تَتَخَلَّفُ فِي تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا فِيمَا يَأْتِيهِ جِنْسُ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَإِذَا مَا لَاحَ لَهُمْ تَخَلُّفُ سَبَبٍ عَنْ سَبَبِهِ أَيْقَنُوا أَنَّهُ تَخَلُّفٌ مُؤَقّت فَإِذا علمهمْ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ شَرَائِعِهِ بِأَنَّهُ ادَّخَرَ الْجَزَاءَ الْكَامِلَ عَلَى الْأَعْمَالِ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ آمَنُوا بِهِ، وَإِذَا عَلَّمَهُمْ أَنهم لَا يفوتون ذَلِكَ بِالْمَوْتِ بَلْ إِنَّ لَهُمْ حَيَاةً آخِرَةً وَأَنَّ اللَّهَ بَاعِثُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْقَنُوا بهَا، وَإِذا علمهمْ أَنَّهُ رُبَّمَا عَجَّلَ لَهُمْ بَعْضَ الْجَزَاءِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيْقَنُوا بِهِ.
وَلِذَلِكَ كَثُرَ تَعْقِيبُ ذِكْرِ نِظَامِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ الْآجِلِ وَالْبَعْثِ وَإِهْلَاكِ بَعْضِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ، أَوْ تَعْقِيبُ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ الْآجِلِ وَالْعَاجِلِ بِذِكْرِ نِظَامِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
31
وَحَسْبُكَ تَعْقِيبُ ذَلِكَ بِالتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ الْآيَاتُ خِتَامُ سُورَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٠- ١٩١].
وَلِأَجْلِ هَذَا اطَّرَدَ أَوْ كَادَ أَنْ يَطَّرِدَ ذِكْرُ لَفْظِ وَما بَيْنَهُما بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ مَا بَيْنَهُمَا بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّ أشرفه هُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ الْمَقْصُودِ بِالْعِبْرَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَهُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ. فَلَيْسَ بِنَاءَ الْكَلَامِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ لَعِبًا مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى رَدِّ اعْتِقَادِ مُعْتَقَدِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ بُنِيَ عَلَى النَّفْيِ أَخْذًا لَهُمْ بِلَازِمِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ دَقَائِقِ حِكْمَةِ اللَّهِ بِحَيْثُ كَانُوا كَقَائِلِينَ بِكَوْنِ هَذَا الصُّنْعِ لَعِبًا.
وَاللَّعِبُ: الْعَمَلُ أَوِ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ فَائِدَةٍ مِنْ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ وَلَا تَحْصِيلُ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ. وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ إِرْضَاءُ النَّفْسِ حِينَ تَمِيلُ إِلَى الْعَبَثِ كَمَا قِيلَ:
«لَا بُدَّ لِلْعَاقِلِ مِنْ حَمْقَةٍ يَعِيشُ بِهَا». وَيُرَادِفُهُ الْعَبَثُ وَاللَّهْوُ، وَضِدُّهُ: الْجِدُّ. وَاللَّعِبُ مِنَ الْبَاطِلِ إِذْ لَيْسَ فِي عَمَلِهِ حِكْمَةٌ فَضِدُّهُ الْحَقُّ أَيْضًا.
وَانْتَصَبَ لاعِبِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ خَلَقْنَا وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِدُونِهَا.
وَجُمْلَةُ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى جُمْلَةِ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ تَقْرِيرًا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَتَعْلِيلًا لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَعِبًا، أَيْ عَبَثًا بِأَنَّ اللَّعِبَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا أَوْ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّنَازُلِ لَوْ أَرَدْنَا اللَّهْوَ
وَلِأَجْلِ هَذَا اطَّرَدَ أَوْ كَادَ أَنْ يَطَّرِدَ ذِكْرُ لَفْظِ وَما بَيْنَهُما بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ مَا بَيْنَهُمَا بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّ أشرفه هُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ الْمَقْصُودِ بِالْعِبْرَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَهُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ. فَلَيْسَ بِنَاءَ الْكَلَامِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ لَعِبًا مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى رَدِّ اعْتِقَادِ مُعْتَقَدِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ بُنِيَ عَلَى النَّفْيِ أَخْذًا لَهُمْ بِلَازِمِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ دَقَائِقِ حِكْمَةِ اللَّهِ بِحَيْثُ كَانُوا كَقَائِلِينَ بِكَوْنِ هَذَا الصُّنْعِ لَعِبًا.
وَاللَّعِبُ: الْعَمَلُ أَوِ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ فَائِدَةٍ مِنْ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ وَلَا تَحْصِيلُ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ. وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ إِرْضَاءُ النَّفْسِ حِينَ تَمِيلُ إِلَى الْعَبَثِ كَمَا قِيلَ:
«لَا بُدَّ لِلْعَاقِلِ مِنْ حَمْقَةٍ يَعِيشُ بِهَا». وَيُرَادِفُهُ الْعَبَثُ وَاللَّهْوُ، وَضِدُّهُ: الْجِدُّ. وَاللَّعِبُ مِنَ الْبَاطِلِ إِذْ لَيْسَ فِي عَمَلِهِ حِكْمَةٌ فَضِدُّهُ الْحَقُّ أَيْضًا.
وَانْتَصَبَ لاعِبِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ خَلَقْنَا وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِدُونِهَا.
وَجُمْلَةُ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى جُمْلَةِ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ تَقْرِيرًا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَتَعْلِيلًا لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَعِبًا، أَيْ عَبَثًا بِأَنَّ اللَّعِبَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا أَوْ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّنَازُلِ لَوْ أَرَدْنَا اللَّهْوَ
32
لَكَانَ مَا يَلْهُو بِهِ حَاصِلًا فِي أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ مِنَ السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهَا أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِاللَّهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ سُكَّانَهَا عِبَادًا لَهُ مُخْلِصِينَ، فَلِذَلِكَ عُبِّرَ عَنْهَا بَاسِمِ الظَّرْفِ الْمُخْتَصِّ وَهُوَ لَدُنْ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ لَدُنَّا، أَيْ غَيْرَ الْعَوَالِمِ الْمُخْتَصَّةِ بِكُمْ بَلْ لَكَانَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِنَا إِذْ هُوَ عَالَمُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ.
فَالظَّرْفِيَّةُ الْمُفَادَةُ مِنْ لَدُنْ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ. وَإِضَافَةُ لَدُنْ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ دَلَالَةُ عَلَى الرِّفْعَةِ وَالتَّفْضِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فِي سُورَةِ [الْقَصَصِ: ٥٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً فِي سُورَة [آلِ عِمْرَانَ: ٨]، أَيْ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نتَّخذ لهوا لما كَانَ اتِّخَاذُهُ فِي عَالَمِ شَهَادَتِكُمْ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِاللُّزُومِ الْعُرْفِيِّ لِأَنَّ شَأْنَ مَنْ يَتَّخِذُ شَيْئًا لِلتَّفَكُّهِ بِهِ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ وَلَا يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُتَعَارَفِ عُقُولِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ الْعَوَالِمَ الْعُلْيَا أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَجُمْلَةُ إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ إِنْ جَعَلْتَ (إِنْ) شَرْطِيَّةً فَارْتِبَاطُهَا بِالَّتِي قَبْلَهَا ارْتِبَاطُ الشَّرْطِ بِجَزَائِهِ الْمَحْذُوفِ الدَّالِّ عَلَيْهِ جَوَابُ (لَوْ) وَهُوَ جُمْلَةُ لَاتَّخَذْناهُ فَيَكُونُ تَكْرِيرًا لِلتَّلَازُمِ وَإِنْ جَعَلْتَ (إِنْ) حَرْفَ نَفْيٍ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لِتَقْرِيرِ الِامْتِنَاعِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (لَوْ)، أَيْ مَا كُنَّا فاعلين لهوا.
[١٨]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ١٨]
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)
(بَلْ) لِلْإِضْرَابِ عَنِ اتِّخَاذِ اللَّهْوِ وَعَنْ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ لَعِبًا إِضْرَابَ إِبْطَالٍ وَارْتِقَاءٍ، أَيْ بَلْ نَحْنُ نَعْمِدُ إِلَى بَاطِلِكُمْ فَنَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَيْهِ كَرَاهِيَةً لِلْبَاطِلِ بَلْهَ أَنْ نَعْمَلَ عَمَلًا هُوَ بَاطِلٌ وَلَعِبٌ.
فَالظَّرْفِيَّةُ الْمُفَادَةُ مِنْ لَدُنْ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ. وَإِضَافَةُ لَدُنْ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ دَلَالَةُ عَلَى الرِّفْعَةِ وَالتَّفْضِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فِي سُورَةِ [الْقَصَصِ: ٥٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً فِي سُورَة [آلِ عِمْرَانَ: ٨]، أَيْ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نتَّخذ لهوا لما كَانَ اتِّخَاذُهُ فِي عَالَمِ شَهَادَتِكُمْ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِاللُّزُومِ الْعُرْفِيِّ لِأَنَّ شَأْنَ مَنْ يَتَّخِذُ شَيْئًا لِلتَّفَكُّهِ بِهِ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ وَلَا يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُتَعَارَفِ عُقُولِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ الْعَوَالِمَ الْعُلْيَا أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَجُمْلَةُ إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ إِنْ جَعَلْتَ (إِنْ) شَرْطِيَّةً فَارْتِبَاطُهَا بِالَّتِي قَبْلَهَا ارْتِبَاطُ الشَّرْطِ بِجَزَائِهِ الْمَحْذُوفِ الدَّالِّ عَلَيْهِ جَوَابُ (لَوْ) وَهُوَ جُمْلَةُ لَاتَّخَذْناهُ فَيَكُونُ تَكْرِيرًا لِلتَّلَازُمِ وَإِنْ جَعَلْتَ (إِنْ) حَرْفَ نَفْيٍ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لِتَقْرِيرِ الِامْتِنَاعِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (لَوْ)، أَيْ مَا كُنَّا فاعلين لهوا.
[١٨]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ١٨]
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)
(بَلْ) لِلْإِضْرَابِ عَنِ اتِّخَاذِ اللَّهْوِ وَعَنْ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ لَعِبًا إِضْرَابَ إِبْطَالٍ وَارْتِقَاءٍ، أَيْ بَلْ نَحْنُ نَعْمِدُ إِلَى بَاطِلِكُمْ فَنَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَيْهِ كَرَاهِيَةً لِلْبَاطِلِ بَلْهَ أَنْ نَعْمَلَ عَمَلًا هُوَ بَاطِلٌ وَلَعِبٌ.
33
وَالْقَذْفُ، حَقِيقَتُهُ: رَمْيُ جِسْمٍ عَلَى جِسْمٍ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِيرَادِ مَا يُزِيلُ وَيُبْطِلُ الشَّيْءَ مِنْ دَلِيلٍ أَوْ زَجْرٍ أَوْ إِعْدَامٍ أَوْ تَكْوِينِ مَا يَغْلِبُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِثْلَ رَمْيِ الْجِسْمِ الْمُبْطَلِ بِشَيْءٍ
يَأْتِي عَلَيْهِ لِيُتْلِفَهُ أَوْ يُشَتِّتَهُ، فَاللَّهُ يُبْطِلُ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ بُطْلَانَ الْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَبِأَنْ أَوْجَدَ فِي عُقُولهمْ إدراكا للتمييز بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَبِأَنْ يُسَلِّطَ بَعْضَ عِبَادِهِ عَلَى الْمُبْطِلِينَ لِاسْتِئْصَالِ الْمُبْطِلِينَ، وَبِأَنْ يَخْلُقَ مَخْلُوقَاتٍ يُسَخِّرُهَا لِإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [١٢].
وَالدَّمْغُ: كَسْرُ الْجِسْمِ الصَّلْبِ الْأَجْوَفِ، وَهُوَ هُنَا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الْقَذْفِ لِإِيرَادِ مَا يُبْطِلُ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أَيْضًا حَيْثُ اسْتُعِيرَ الدَّمْغُ لِمَحْقِ الْبَاطِلِ وَإِزَالَتِهِ كَمَا يُزِيلُ الْقَذْفُ الْجِسْمَ الْمَقْذُوفَ، فَالِاسْتِعَارَتَانِ مِنِ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسَيْنِ لِلْمَعْقُولَيْنِ.
وَدَلَّ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ عَلَى سُرْعَةِ مَحْقِ الْحَقِّ الْبَاطِلَ عِنْدَ وُرُودِهِ لِأَنَّ لِلْحَقِّ صَوْلَةً فَهُوَ سَرِيعُ الْمَفْعُولِ إِذَا وَرَدَ وَوَضُحَ، قَالَ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٧].
وَالزَّاهِقُ: الْمُنْفَلِتُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَالْهَالِكُ، وَفِعْلُهُ كَسَمِعَ وَضَرَبَ، وَالْمَصْدَرُ الزُّهُوقُ.
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٥٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً فِي سُورَة الْإِسْرَاء [٨١].
وَعند مَا انْتَهَتْ مُقَارَعَتُهُمْ بِالْحُجَجِ السَّاطِعَةِ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ فِي الرَّسُولِ وَفِي الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣- ٥]. وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْقَوَارِعِ
يَأْتِي عَلَيْهِ لِيُتْلِفَهُ أَوْ يُشَتِّتَهُ، فَاللَّهُ يُبْطِلُ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ بُطْلَانَ الْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَبِأَنْ أَوْجَدَ فِي عُقُولهمْ إدراكا للتمييز بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَبِأَنْ يُسَلِّطَ بَعْضَ عِبَادِهِ عَلَى الْمُبْطِلِينَ لِاسْتِئْصَالِ الْمُبْطِلِينَ، وَبِأَنْ يَخْلُقَ مَخْلُوقَاتٍ يُسَخِّرُهَا لِإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [١٢].
وَالدَّمْغُ: كَسْرُ الْجِسْمِ الصَّلْبِ الْأَجْوَفِ، وَهُوَ هُنَا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الْقَذْفِ لِإِيرَادِ مَا يُبْطِلُ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أَيْضًا حَيْثُ اسْتُعِيرَ الدَّمْغُ لِمَحْقِ الْبَاطِلِ وَإِزَالَتِهِ كَمَا يُزِيلُ الْقَذْفُ الْجِسْمَ الْمَقْذُوفَ، فَالِاسْتِعَارَتَانِ مِنِ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسَيْنِ لِلْمَعْقُولَيْنِ.
وَدَلَّ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ عَلَى سُرْعَةِ مَحْقِ الْحَقِّ الْبَاطِلَ عِنْدَ وُرُودِهِ لِأَنَّ لِلْحَقِّ صَوْلَةً فَهُوَ سَرِيعُ الْمَفْعُولِ إِذَا وَرَدَ وَوَضُحَ، قَالَ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٧].
وَالزَّاهِقُ: الْمُنْفَلِتُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَالْهَالِكُ، وَفِعْلُهُ كَسَمِعَ وَضَرَبَ، وَالْمَصْدَرُ الزُّهُوقُ.
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٥٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً فِي سُورَة الْإِسْرَاء [٨١].
وَعند مَا انْتَهَتْ مُقَارَعَتُهُمْ بِالْحُجَجِ السَّاطِعَةِ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ فِي الرَّسُولِ وَفِي الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣- ٥]. وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْقَوَارِعِ
34
وَالْعِبَرِ. خُتِمَ الْكَلَامُ بِشَتْمِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ، أَيْ مِمَّا تَصِفُونَ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ.
وَالْوَيْلُ: كَلِمَةُ دُعَاءٍ بِسُوءٍ. وَفِيهَا فِي الْقُرْآنِ تَوْجِيهٌ لِأَنَّ الْوَيْلَ اسْم للعذاب.
[١٩، ٢٠]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ١٩ إِلَى ٢٠]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا [الْأَنْبِيَاء: ١٧] مُبَيِّنَةٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض عباد لله تَعَالَى مَخْلُوقُونَ لِقَبُولِ تَكْلِيفِهِ وَالْقِيَامِ بِمَا خُلِقُوا
لِأَجْلِهِ، وَهُوَ تَخَلُّصٌ إِلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ بِالْحُجَّةِ الدامغة بعد الْإِفَاضَة فِي إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُجِّيَّةِ الْقُرْآنِ.
فَاللَّامُ فِي وَلَهُ لِلْمِلْكِ، وَالْمَجْرُورُ بِاللَّامِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. ومَنْ فِي السَّماواتِ مُبْتَدَأٌ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا لِغَيْرِهِ وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
ومَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَعُمُّ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ وَغُلِّبَ اسْمُ الْمَوْصُولِ الْغَالِبُ فِي الْعُقَلَاءِ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ عِنْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَيَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ ظَاهِرٌ وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ حَالًا مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَالْوَيْلُ: كَلِمَةُ دُعَاءٍ بِسُوءٍ. وَفِيهَا فِي الْقُرْآنِ تَوْجِيهٌ لِأَنَّ الْوَيْلَ اسْم للعذاب.
[١٩، ٢٠]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ١٩ إِلَى ٢٠]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا [الْأَنْبِيَاء: ١٧] مُبَيِّنَةٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض عباد لله تَعَالَى مَخْلُوقُونَ لِقَبُولِ تَكْلِيفِهِ وَالْقِيَامِ بِمَا خُلِقُوا
لِأَجْلِهِ، وَهُوَ تَخَلُّصٌ إِلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ بِالْحُجَّةِ الدامغة بعد الْإِفَاضَة فِي إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُجِّيَّةِ الْقُرْآنِ.
فَاللَّامُ فِي وَلَهُ لِلْمِلْكِ، وَالْمَجْرُورُ بِاللَّامِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. ومَنْ فِي السَّماواتِ مُبْتَدَأٌ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا لِغَيْرِهِ وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
ومَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَعُمُّ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ وَغُلِّبَ اسْمُ الْمَوْصُولِ الْغَالِبُ فِي الْعُقَلَاءِ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ عِنْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَيَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ ظَاهِرٌ وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ حَالًا مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
35
وَيَجُوزُ أَنْ يكون مَنْ عِنْدَهُ مُبْتَدَأً وَجُمْلَةُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ خَبرا.
وَمَا صدق (مَنْ) جَمَاعَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْتَكْبِرُونَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
وَمَنْ عِنْدَهُ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ فِي الْعَوَالِمِ الْمُفَضَّلَةِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّعْرِيضَ بِالَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَيَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
وَالِاسْتِحْسَارُ: مَصْدَرٌ كَالْحُسُورِ وَهُوَ التَّعَبُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَالِاسْتِكْبَارِ وَالِاسْتِنْكَارِ وَالِاسْتِيخَارِ، أَيْ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمُ الِاسْتِحْسَارُ الَّذِي هُوَ التَّعَبُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ عَمَلُهُمُ الْعَظِيمُ، أَيْ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ مَا لَوْ قَامَ بِعَمَلِهِمْ غَيْرُهُمْ لَاسْتَحْسَرَ ثِقَلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَعُبِّرَ بِالِاسْتِحْسَارِ هُنَا الَّذِي هُوَ الْحُسُورُ الْقَوِيُّ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْعَمَلِ الشَّدِيدِ، وَنَفْيُهُ مِنْ قَبِيلِ نَفْيِ الْمُقَيَّدِ بِقَيْدٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي أَمْثَالِهِ. فَلَا يُفْهَمُ مِنْ نَفْيِ الْحُسُورِ الْقَوِيِّ أَنَّهُمْ قَدْ يَحْسُرُونَ حُسُورًا ضَعِيفًا. وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ يُعَبِّرُ عَنْهُ أَهِلُ الْمَعَانِي بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّفْيِ لَا فِي الْمَنْفِيِّ.
وَجُمْلَةُ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لِأَنَّ مَنْ لَا يَتْعَبُ مِنْ عَمَلٍ لَا يَتْرُكُهُ فَهُوَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ وَلَا يَعْيَا مِنْهُ.
وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ: ظَرْفَانِ. وَالْأَصْلُ فِي الظَّرْفِ أَنْ يَسْتَوْعِبَهُ الْوَاقِعُ فِيهِ، أَيْ يُسَبِّحُونَ
فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَتَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ بِأَصْوَاتٍ مَخْلُوقَةٍ فِيهِمْ لَا يُعَطِّلُهَا تَبْلِيغُ الْوَحْيِ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ.
وَالْفُتُورُ: الِانْقِطَاعُ عَن الْفِعْل.
وَمَا صدق (مَنْ) جَمَاعَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْتَكْبِرُونَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
وَمَنْ عِنْدَهُ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ فِي الْعَوَالِمِ الْمُفَضَّلَةِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّعْرِيضَ بِالَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَيَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
وَالِاسْتِحْسَارُ: مَصْدَرٌ كَالْحُسُورِ وَهُوَ التَّعَبُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَالِاسْتِكْبَارِ وَالِاسْتِنْكَارِ وَالِاسْتِيخَارِ، أَيْ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمُ الِاسْتِحْسَارُ الَّذِي هُوَ التَّعَبُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ عَمَلُهُمُ الْعَظِيمُ، أَيْ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ مَا لَوْ قَامَ بِعَمَلِهِمْ غَيْرُهُمْ لَاسْتَحْسَرَ ثِقَلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَعُبِّرَ بِالِاسْتِحْسَارِ هُنَا الَّذِي هُوَ الْحُسُورُ الْقَوِيُّ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْعَمَلِ الشَّدِيدِ، وَنَفْيُهُ مِنْ قَبِيلِ نَفْيِ الْمُقَيَّدِ بِقَيْدٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي أَمْثَالِهِ. فَلَا يُفْهَمُ مِنْ نَفْيِ الْحُسُورِ الْقَوِيِّ أَنَّهُمْ قَدْ يَحْسُرُونَ حُسُورًا ضَعِيفًا. وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ يُعَبِّرُ عَنْهُ أَهِلُ الْمَعَانِي بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّفْيِ لَا فِي الْمَنْفِيِّ.
وَجُمْلَةُ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لِأَنَّ مَنْ لَا يَتْعَبُ مِنْ عَمَلٍ لَا يَتْرُكُهُ فَهُوَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ وَلَا يَعْيَا مِنْهُ.
وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ: ظَرْفَانِ. وَالْأَصْلُ فِي الظَّرْفِ أَنْ يَسْتَوْعِبَهُ الْوَاقِعُ فِيهِ، أَيْ يُسَبِّحُونَ
فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَتَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ بِأَصْوَاتٍ مَخْلُوقَةٍ فِيهِمْ لَا يُعَطِّلُهَا تَبْلِيغُ الْوَحْيِ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ.
وَالْفُتُورُ: الِانْقِطَاعُ عَن الْفِعْل.
36
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٢١]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١)(أَمْ) هَذِهِ مُنْقَطِعَةٌ عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ عَطْفَ إِضْرَابٍ انْتِقَالِيٍّ هُوَ انْتِقَالٌ مِنْ إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُجِّيَّةِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ إِلَى إِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ، انْتِقَالًا مِنْ بَقِيَّةِ الْغَرَضِ السَّابِقِ الَّذِي تَهَيَّأَ السَّامِعُ لِلِانْتِقَالِ مِنْهُ بِمُقْتَضَى التَّخَلُّصِ، الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٩] كَمَا تَقَدَّمَ، إِلَى التَّمَحُّضِ لِغَرَضِ إِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ وَإِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. وَهَذَا الِانْتِقَالُ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٠] وَجُمْلَة لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: ٢٣]. وَلَيْسَ إِضْرَابُ الِانْتِقَالِ بِمُقْتَضٍ عَدَمَ الرُّجُوعِ إِلَى الْغَرَضِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ.
وَ (أَمْ) تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْكَلَامَ بَعْدَهَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إنكاري، أنكر عَلَيْهِ اتِّخَاذَهُمْ آلِهَةً.
وَضَمِيرُ اتَّخَذُوا عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُتَبَادَرِينَ مِنَ الْمَقَامِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الضَّمَائِرِ.
وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ جَعْلُهُ الْتِفَاتًا عَنْ ضَمِيرِ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٨]، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاسِقًا مَعَ ضَمَائِرِ بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ [الْأَنْبِيَاء: ٥] وَمَا بَعْدَهُ.
وَوَصْفُ الْآلِهَةِ بِأَنَّهَا مِنَ الْأَرْضِ تَهَكُّمٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِظْهَارٌ لِأَفَنِ رَأْيِهِمْ، أَيْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ آلِهَةً مِنْ عَالَمِ الْأَرْضِ أَوْ مَأْخُوذَةً مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ خَشَبٍ تَعْرِيضًا بِأَنَّ مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ فِي [الصَّافَّاتِ: ٩٥].
وَذِكْرُ الْأَرْضِ هُنَا مُقَابَلَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٩] لِأَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَجُمْلَةُ هُمْ يُنْشِرُونَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ آلِهَةً.
وَاقْتِرَانُهَا بِضَمِيرِ الْفَصْلِ يُفِيدُ التَّخْصِيصَ أَنْ لَا يَنْشُرَ غَيْرَ تِلْكَ الْآلِهَةِ. وَالْمُرَادُ: إِنْشَارُ
الْأَمْوَاتِ، أَيْ بَعْثُهُمْ. وَهَذَا مَسُوقٌ لِلتَّهَكُّمِ وَإِدْمَاجٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ بطريقة سوق الْمَعْلُوم مساق غَيْرِهِ الْمُسَمّى بتجاهل الْعَارِف، إِذْ أَبْرَزَ تَكْذِيبَهُمْ بِالْبَعْثِ الَّذِي أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ تَكْذِيبِهِمِ اسْتِطَاعَةَ اللَّهِ ذَلِكَ وَعَجْزَهُ عَنْهُ، أَيْ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ شُرَكَاؤُهُمْ فَكَانَ وُقُوعُ الْبَعْثِ أَمْرٌ لَا يَنْبَغِي النِّزَاعُ فِيهِ فَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْمُنَازِعُونَ فَإِنَّمَا يُنَازِعُونَ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ وَيَرُومُونَ بِذَلِكَ نِسْبَتَهُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ فَأُنْكِرَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّسْبَةُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْمُفْعَمَةِ بِالنُّكَتِ، وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَدَّعُوا لِآلِهَتِهِمْ أَنَّهَا تَبْعَثُ الْمَوْتَى وَلَا هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ وَلَكِنْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ إِبْدَاعًا فِي الْإِلْزَامِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ [النَّحْلِ: ٢١] فِي ذِكْرِ الْآلِهَةِ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ.
[٢٢]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٢٢]
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢)
جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً [الْأَنْبِيَاء: ٢١] وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ.
وَضَمِيرُ الْمُثَنَّى عَائِدٌ إِلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: ١٩] مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: ١٩] أَيْ لَوْ كَانَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ آلِهَةٌ أُخْرَى وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعُ مَنْ فِيهَا مِلْكًا لِلَّهِ وَعِبَادًا لَهُ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَاخْتَلَّ نِظَامَهُمَا الَّذِي خُلِقَتَا بِهِ.
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى بُطْلَانِ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ آلِهَةً شُرَكَاءَ لَهُ فِي تَدْبِيرِ الْخَلْقِ، أَيْ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
الْأَمْوَاتِ، أَيْ بَعْثُهُمْ. وَهَذَا مَسُوقٌ لِلتَّهَكُّمِ وَإِدْمَاجٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ بطريقة سوق الْمَعْلُوم مساق غَيْرِهِ الْمُسَمّى بتجاهل الْعَارِف، إِذْ أَبْرَزَ تَكْذِيبَهُمْ بِالْبَعْثِ الَّذِي أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ تَكْذِيبِهِمِ اسْتِطَاعَةَ اللَّهِ ذَلِكَ وَعَجْزَهُ عَنْهُ، أَيْ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ شُرَكَاؤُهُمْ فَكَانَ وُقُوعُ الْبَعْثِ أَمْرٌ لَا يَنْبَغِي النِّزَاعُ فِيهِ فَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْمُنَازِعُونَ فَإِنَّمَا يُنَازِعُونَ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ وَيَرُومُونَ بِذَلِكَ نِسْبَتَهُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ فَأُنْكِرَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّسْبَةُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْمُفْعَمَةِ بِالنُّكَتِ، وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَدَّعُوا لِآلِهَتِهِمْ أَنَّهَا تَبْعَثُ الْمَوْتَى وَلَا هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ وَلَكِنْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ إِبْدَاعًا فِي الْإِلْزَامِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ [النَّحْلِ: ٢١] فِي ذِكْرِ الْآلِهَةِ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ.
[٢٢]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٢٢]
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢)
جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً [الْأَنْبِيَاء: ٢١] وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ.
وَضَمِيرُ الْمُثَنَّى عَائِدٌ إِلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: ١٩] مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: ١٩] أَيْ لَوْ كَانَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ آلِهَةٌ أُخْرَى وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعُ مَنْ فِيهَا مِلْكًا لِلَّهِ وَعِبَادًا لَهُ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَاخْتَلَّ نِظَامَهُمَا الَّذِي خُلِقَتَا بِهِ.
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى بُطْلَانِ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ آلِهَةً شُرَكَاءَ لَهُ فِي تَدْبِيرِ الْخَلْقِ، أَيْ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
38
أَقَامَ فِي الْأَرْضِ شُرَكَاءَ لَهُ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي التَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» وَذَلِكَ مِنَ الضَّلَالِ الْمُضْطَرِبِ الَّذِي وَضعه لَهُم أيمة الْكُفْرِ بِجَهْلِهِمْ وَتَرْوِيجِ ضَلَالِهِمْ عَلَى عُقُولِ الدَّهْمَاءِ.
وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ وُجُودِ آلِهَةٍ غَيْرَ اللَّهِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ أَن الله هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فِي سُورَةِ [الزُّمَرِ: ٣٨]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٩]. فَهِيَ مُسُوقَةٌ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لَا لِإِثْبَاتِ وُجُودِ الصَّانِعِ إِذْ لَا نِزَاعَ فِيهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَا لِإِثْبَاتِ انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ إِذْ لَا نِزَاعَ فِيهِ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا
مُنْتَظِمَةٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُ اعْتِقَادَهُمُ الْبَاطِلَ لِكَشْفِ خَطَئِهِمْ وَإِعْلَانِ بَاطِلِهِمْ.
وَالْفَسَادُ: هُوَ اخْتِلَالُ النِّظَامِ وَانْتِفَاءُ النَّفْعِ مِنَ الْأَشْيَاءِ. فَفَسَادُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ هُوَ أَنْ تَصِيرَا غَيْرَ صَالِحَتَيْنِ وَلَا مُنْتَسِقَتَيِ النِّظَامِ بِأَنْ يُبْطَلَ الِانْتِفَاع بِمَا فيهمَا. فَمِنْ صَلَاحِ السَّمَاءِ نِظَامُ كَوَاكِبِهَا، وَانْضِبَاطُ مَوَاقِيتِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، وَنِظَامُ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَمِنْ صَلَاحِ الْأَرْضِ مَهْدُهَا لِلسَّيْرِ، وَإِنْبَاتُهَا الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ، وَاشْتِمَالُهَا عَلَى الْمَرْعَى وَالْحِجَارَةِ وَالْمَعَادِنِ وَالْأَخْشَابِ، وَفَسَادُ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ بِبُطْلَانِ نِظَامِهِ الصَّالِحِ.
وَوَجْهُ انْتِظَامِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَتِ الْآلِهَةُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِلَهٍ متصفا بِصِفَات الإلهية الْمَعْرُوفَةِ آثَارُهَا، وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ، ثُمَّ إِنَّ التَّعَدُّدَ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِرَادَاتِ وَالْقَدَرِ لِأَنَّ الْآلِهَةَ لَوِ اسْتَوَتْ فِي تعلقات إراداتها ذَلِكَ لَكَانَ تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ عَبَثًا لِلِاسْتِغْنَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ
وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ وُجُودِ آلِهَةٍ غَيْرَ اللَّهِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ أَن الله هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فِي سُورَةِ [الزُّمَرِ: ٣٨]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٩]. فَهِيَ مُسُوقَةٌ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لَا لِإِثْبَاتِ وُجُودِ الصَّانِعِ إِذْ لَا نِزَاعَ فِيهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَا لِإِثْبَاتِ انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ إِذْ لَا نِزَاعَ فِيهِ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا
مُنْتَظِمَةٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُ اعْتِقَادَهُمُ الْبَاطِلَ لِكَشْفِ خَطَئِهِمْ وَإِعْلَانِ بَاطِلِهِمْ.
وَالْفَسَادُ: هُوَ اخْتِلَالُ النِّظَامِ وَانْتِفَاءُ النَّفْعِ مِنَ الْأَشْيَاءِ. فَفَسَادُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ هُوَ أَنْ تَصِيرَا غَيْرَ صَالِحَتَيْنِ وَلَا مُنْتَسِقَتَيِ النِّظَامِ بِأَنْ يُبْطَلَ الِانْتِفَاع بِمَا فيهمَا. فَمِنْ صَلَاحِ السَّمَاءِ نِظَامُ كَوَاكِبِهَا، وَانْضِبَاطُ مَوَاقِيتِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، وَنِظَامُ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَمِنْ صَلَاحِ الْأَرْضِ مَهْدُهَا لِلسَّيْرِ، وَإِنْبَاتُهَا الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ، وَاشْتِمَالُهَا عَلَى الْمَرْعَى وَالْحِجَارَةِ وَالْمَعَادِنِ وَالْأَخْشَابِ، وَفَسَادُ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ بِبُطْلَانِ نِظَامِهِ الصَّالِحِ.
وَوَجْهُ انْتِظَامِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَتِ الْآلِهَةُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِلَهٍ متصفا بِصِفَات الإلهية الْمَعْرُوفَةِ آثَارُهَا، وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ، ثُمَّ إِنَّ التَّعَدُّدَ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِرَادَاتِ وَالْقَدَرِ لِأَنَّ الْآلِهَةَ لَوِ اسْتَوَتْ فِي تعلقات إراداتها ذَلِكَ لَكَانَ تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ عَبَثًا لِلِاسْتِغْنَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ
39
كَائِنٌ فَإِنْ كَانَ حُدُوثُهُ بِإِرَادَةِ مُتَعَدِّدِينَ لَزِمَ اجْتِمَاعُ مُؤَثِّرَيْنِ عَلَى مُؤَثِّرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ عِلَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ. فَلَا جَرَمَ أَنَّ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ مُتَعَلِّقَاتِ تَصَرُّفَاتِهَا اخْتِلَافًا بِالْأَنْوَاعِ، أَوْ بِالْأَحْوَالِ، أَوْ بِالْبِقَاعِ، فَالْإِلَهُ الَّذِي لَا تَنْفُذُ إِرَادَتُهُ فِي بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ لَيْسَ بِإِلَهٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي أَوْجَدَهَا غَيْرُهُ.
وَلَا جَرَمَ أَنْ تَخْتَلِفَ مُتَعَلِّقَاتُ إِرَادَاتِ الْآلِهَةِ بِاخْتِلَافِ مَصَالِحِ رَعَايَاهُمْ أَوْ مَوَاطِنِهِمْ أَوْ أَحْوَالُ تَصَرُّفَاتِهِمْ فَكَلٌّ يَغَارُ عَلَى مَا فِي سُلْطَانِهِ.
فَثَبَتَ أَنَّ التَّعَدُّدَ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ الْإِرَادَاتِ وَحُدُوثَ الْخِلَافِ.
وَلَمَّا كَانَ التَّمَاثُلُ فِي حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ يَقْتَضِي التَّسَاوِيَ فِي قُوَّةِ قُدْرَةِ كُلِّ إِلَهٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ مُقْتَضِيًا تَمَامَ الْمَقْدِرَةِ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْقَهْرِ لِلضِّدِّ بِأَنْ لَا يَصُدَّهُ شَيْءٌ عَنِ اسْتِئْصَالِ ضِدِّهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِغَزْوِ ضِدِّهِ وَإِفْسَادِ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، تَعَيَّنَ أَنَّهُ كُلَّمَا تَوَجَّهَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَى غَزْوِ ضِدِّهِ أَنْ يُهْلِكَ كُلَّ مَا هُوَ تَحْتَ سُلْطَانِهِ فَلَا يَزَالُ يَفْسُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ كُلِّ خِلَافٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [٩١].
فَلَا جَرَمَ دَلَّتْ مُشَاهَدَةُ دَوَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض على انتظامهما فِي مُتَعَدِّدِ الْعُصُورِ وَالْأَحْوَالِ عَلَى أَنَّ إِلَهَهَا وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ.
فَأَمَّا لَوْ فُرِضَ التَّفَاوُت فِي حَقِيقَة الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي رُجْحَانَ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى
بَعْضٍ، وَهُوَ أَدْخَلُ فِي اقْتِضَاءِ الْفَسَادِ إِذْ تَصِيرُ الْغَلَبَةُ لِلْأَقْوَى مِنْهُمْ فَيَجْعَلُ الْكل تَحت كلا كُله وَيُفْسِدُ عَلَى كُلِّ ضَعِيفٍ مِنْهُمْ مَا هُوَ فِي حَوْزَتِهِ فَيَكُونُ الْفَسَادُ أَسْرَعَ.
وَلَا جَرَمَ أَنْ تَخْتَلِفَ مُتَعَلِّقَاتُ إِرَادَاتِ الْآلِهَةِ بِاخْتِلَافِ مَصَالِحِ رَعَايَاهُمْ أَوْ مَوَاطِنِهِمْ أَوْ أَحْوَالُ تَصَرُّفَاتِهِمْ فَكَلٌّ يَغَارُ عَلَى مَا فِي سُلْطَانِهِ.
فَثَبَتَ أَنَّ التَّعَدُّدَ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ الْإِرَادَاتِ وَحُدُوثَ الْخِلَافِ.
وَلَمَّا كَانَ التَّمَاثُلُ فِي حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ يَقْتَضِي التَّسَاوِيَ فِي قُوَّةِ قُدْرَةِ كُلِّ إِلَهٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ مُقْتَضِيًا تَمَامَ الْمَقْدِرَةِ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْقَهْرِ لِلضِّدِّ بِأَنْ لَا يَصُدَّهُ شَيْءٌ عَنِ اسْتِئْصَالِ ضِدِّهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِغَزْوِ ضِدِّهِ وَإِفْسَادِ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، تَعَيَّنَ أَنَّهُ كُلَّمَا تَوَجَّهَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَى غَزْوِ ضِدِّهِ أَنْ يُهْلِكَ كُلَّ مَا هُوَ تَحْتَ سُلْطَانِهِ فَلَا يَزَالُ يَفْسُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ كُلِّ خِلَافٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [٩١].
فَلَا جَرَمَ دَلَّتْ مُشَاهَدَةُ دَوَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض على انتظامهما فِي مُتَعَدِّدِ الْعُصُورِ وَالْأَحْوَالِ عَلَى أَنَّ إِلَهَهَا وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ.
فَأَمَّا لَوْ فُرِضَ التَّفَاوُت فِي حَقِيقَة الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي رُجْحَانَ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى
بَعْضٍ، وَهُوَ أَدْخَلُ فِي اقْتِضَاءِ الْفَسَادِ إِذْ تَصِيرُ الْغَلَبَةُ لِلْأَقْوَى مِنْهُمْ فَيَجْعَلُ الْكل تَحت كلا كُله وَيُفْسِدُ عَلَى كُلِّ ضَعِيفٍ مِنْهُمْ مَا هُوَ فِي حَوْزَتِهِ فَيَكُونُ الْفَسَادُ أَسْرَعَ.
40
وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ- بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَسُوقًا لِإِبْطَالِ تَعَدُّدٍ خَاصٍّ، وَهُوَ التَّعَدُّدُ الَّذِي اعْتَقَدَهُ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْيُونَانِ الزَّاعِمِينَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ بِتَعَدُّدِ الْقَبَائِلِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَكَذَا مَا اعْتَقَدَهُ الْمَانَوِيَّةُ مِنَ الْفُرْسِ الْمُثْبِتِينَ إِلَهَيْنِ أَحَدِهِمَا لِلْخَيْرِ وَالْآخِرِ لِلشَّرِّ أَوْ أَحَدِهِمَا لِلنُّورِ وَالْآخِرِ لِلظُّلْمَةِ- هُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ.
وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ مَا نَحَاهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ مِنْ أَصْلِهِ بِالنِّسْبَةِ لِإِيجَادِ الْعَالَمِ وَسَمُّوهُ بُرْهَانَ التَّمَانُعِ، فَهُوَ دَلِيلٌ إِقْنَاعِيٌّ كَمَا قَالَ سعد الدَّين التفتازانيّ فِي «شَرْحِ النَّسَفِيَّةِ». وَقَالَ فِي «الْمَقَاصِدِ» :«وَفِي بَعْضِهَا ضَعْفٌ لَا يَخْفَى».
وَبَيَانُهُ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى إِيجَادِ الْعَالَمِ يُمْكِنُ صُدُورُهُ مِنَ الْحَكِيمَيْنِ أَوِ الْحُكَمَاءِ فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ إِلَّا بِقِيَاسِ الْآلِهَةِ عَلَى الْمُلُوكِ فِي الْعُرْفِ وَهُوَ قِيَاسٌ إِقْنَاعِيٌّ.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ بُرْهَانَ التَّمَانُعِ أَنَّ جَانِبَ الدَّلَالَةِ فِيهِ عَلَى اسْتِحَالَةِ تَعَدُّدِ الْإِلَهِ هُوَ فَرْضُ أَنْ يَتَمَانَعَ الْآلِهَةُ، أَيْ يَمْنَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ تَنْفِيذِ مُرَادِهِ، وَالْخَوْضُ فِيهِ مَقَامُنَا غَنِيٌّ عَنْهُ.
وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ هُنَا هُوَ لُزُومُ فَسَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ خَارِجَةٍ عَنْ لَفْظِ الْآيَةِ حَتَّى يَصِيرَ الدَّلِيلُ بِهَا دَلِيلًا قَطْعِيًّا لِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [٩١].
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ فَلِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَقْرِيرِهِ طَرِيقَتَانِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ «الْمَوَاقِفِ».
الْأُولَى: طَرِيقَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِلُزُومِ التَّمَانُعِ بِالْفِعْلِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ. وَتَقْرِيرُهَا:
أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ مُتَمَاثِلَانِ فِي الْقُدْرَةِ،
وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ مَا نَحَاهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ مِنْ أَصْلِهِ بِالنِّسْبَةِ لِإِيجَادِ الْعَالَمِ وَسَمُّوهُ بُرْهَانَ التَّمَانُعِ، فَهُوَ دَلِيلٌ إِقْنَاعِيٌّ كَمَا قَالَ سعد الدَّين التفتازانيّ فِي «شَرْحِ النَّسَفِيَّةِ». وَقَالَ فِي «الْمَقَاصِدِ» :«وَفِي بَعْضِهَا ضَعْفٌ لَا يَخْفَى».
وَبَيَانُهُ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى إِيجَادِ الْعَالَمِ يُمْكِنُ صُدُورُهُ مِنَ الْحَكِيمَيْنِ أَوِ الْحُكَمَاءِ فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ إِلَّا بِقِيَاسِ الْآلِهَةِ عَلَى الْمُلُوكِ فِي الْعُرْفِ وَهُوَ قِيَاسٌ إِقْنَاعِيٌّ.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ بُرْهَانَ التَّمَانُعِ أَنَّ جَانِبَ الدَّلَالَةِ فِيهِ عَلَى اسْتِحَالَةِ تَعَدُّدِ الْإِلَهِ هُوَ فَرْضُ أَنْ يَتَمَانَعَ الْآلِهَةُ، أَيْ يَمْنَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ تَنْفِيذِ مُرَادِهِ، وَالْخَوْضُ فِيهِ مَقَامُنَا غَنِيٌّ عَنْهُ.
وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ هُنَا هُوَ لُزُومُ فَسَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ خَارِجَةٍ عَنْ لَفْظِ الْآيَةِ حَتَّى يَصِيرَ الدَّلِيلُ بِهَا دَلِيلًا قَطْعِيًّا لِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [٩١].
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ فَلِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَقْرِيرِهِ طَرِيقَتَانِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ «الْمَوَاقِفِ».
الْأُولَى: طَرِيقَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِلُزُومِ التَّمَانُعِ بِالْفِعْلِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ. وَتَقْرِيرُهَا:
أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ مُتَمَاثِلَانِ فِي الْقُدْرَةِ،
41
فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَتَّفِقَ إرادتاهما وَحِينَئِذٍ فالفعل إِنْ كَانَ بِإِرَادَتَيْهِمَا لَزِمَ اجْتِمَاعُ مُؤَثِّرَيْنِ تَامَّيْنِ عَلَى مُؤَثَّرٍ- بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ- وَاحِدٍ وَهُوَ مُحَالٌ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْعِلَّتَيْنِ التَّامَّتَيْنِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ بِإِحْدَى الْإِرَادَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى لَزِمَ تَرْجِيحُ إِحْدَاهُمَا بِلَا مُرَجِّحٍ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَخْتَلِفَ إِرَادَتَاهُمَا فَيَلْزَمُ التَّمَانُعُ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَمْنَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ مِنَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْقُدْرَةِ.
وَيَرُدُّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَاتِهِ الطَّرِيقَةِ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَسَاوِي الْإِلَهَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ بَلْ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى قُدْرَةً مِنَ الْآخَرِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَجْزَ مُطْلَقًا مُنَافٍ لِلْأُلُوهِيَّةِ بَدَاهَةً. قَالَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «حَاشِيَةِ الْبَيْضَاوِيِّ».
الْأَمْرُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ الْإِلَهَانِ عَلَى أَنْ لَا يُرِيدَ أَحَدُهُمَا إِلَّا الْأَمْرَ الَّذِي لَمْ يُرِدْهُ الْآخَرُ فَلَا يَلْزَمُ عَجْزُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ الْإِلَهَانِ عَلَى إِيجَادِ الْأَمْرِ الْمُرَادِ بِالِاشْتِرَاكِ لَا بِالِاسْتِقْلَالِ.
الْأَمْرُ الرَّابِعُ: يَجُوزُ تَفْوِيضُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ أَنْ يَفْعَلَ فَلَا يَلْزَمُ عَجْزُ الْمُفَوِّضِ لِأَنَّ عَدَمَ إِيجَادِ الْمَقْدُورِ لِمَانِعٍ أَرَادَهُ الْقَادِرُ لَا يُسَمَّى عَجْزًا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ حَصَلَ مُرَادُهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ بِنَفْسِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ فِي جَمِيعِهَا نَقْصًا فِي الْأُلُوهِيَّةِ لِأَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ مِنْ شَأْنِهَا الْكَمَالُ فِي كُلِّ حَالٍ.
إِلَّا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَخْرِجُ الْبُرْهَانَ عَنْ حَدِّ الْإِقْنَاعِ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: عول عَلَيْهَا التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ» وَهِيَ أَنَّ تَعَدُّدَ الْإِلَهَيْنِ يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَ حُصُولِ التَّمَانُعِ بَيْنَهُمَا، أَيْ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدُهُمَا
وَيَرُدُّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَاتِهِ الطَّرِيقَةِ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَسَاوِي الْإِلَهَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ بَلْ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى قُدْرَةً مِنَ الْآخَرِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَجْزَ مُطْلَقًا مُنَافٍ لِلْأُلُوهِيَّةِ بَدَاهَةً. قَالَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «حَاشِيَةِ الْبَيْضَاوِيِّ».
الْأَمْرُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ الْإِلَهَانِ عَلَى أَنْ لَا يُرِيدَ أَحَدُهُمَا إِلَّا الْأَمْرَ الَّذِي لَمْ يُرِدْهُ الْآخَرُ فَلَا يَلْزَمُ عَجْزُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ الْإِلَهَانِ عَلَى إِيجَادِ الْأَمْرِ الْمُرَادِ بِالِاشْتِرَاكِ لَا بِالِاسْتِقْلَالِ.
الْأَمْرُ الرَّابِعُ: يَجُوزُ تَفْوِيضُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ أَنْ يَفْعَلَ فَلَا يَلْزَمُ عَجْزُ الْمُفَوِّضِ لِأَنَّ عَدَمَ إِيجَادِ الْمَقْدُورِ لِمَانِعٍ أَرَادَهُ الْقَادِرُ لَا يُسَمَّى عَجْزًا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ حَصَلَ مُرَادُهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ بِنَفْسِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ فِي جَمِيعِهَا نَقْصًا فِي الْأُلُوهِيَّةِ لِأَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ مِنْ شَأْنِهَا الْكَمَالُ فِي كُلِّ حَالٍ.
إِلَّا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَخْرِجُ الْبُرْهَانَ عَنْ حَدِّ الْإِقْنَاعِ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: عول عَلَيْهَا التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ» وَهِيَ أَنَّ تَعَدُّدَ الْإِلَهَيْنِ يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَ حُصُولِ التَّمَانُعِ بَيْنَهُمَا، أَيْ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدُهُمَا
42
مَا يُرِيدُهُ الْآخَرُ، لِأَنَّ الْمُتَعَدِّدِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الِاخْتِلَافُ فِي الْإِرَادَةِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْإِمْكَانُ لَازِمًا لِلتَّعَدُّدِ فَإِنْ حَصَلَ التمانع بَينهمَا إِذْ تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ أَحَدِهِمَا بِوُجُودِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَتَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ الْآخَرِ بِعَدَمِ وُجُودِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْصُلَ الْمُرَادَانِ مَعًا لِلُزُومِ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ، وَإِنْ حَصَلَ أَحَدُ الْمُرَادَيْنِ لَزِمَ عَجْزُ صَاحِبِ الْمُرَادِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلُ، وَالْعَجْزُ يَسْتَلْزِمُ الْحُدُوثَ وَهُوَ مُحَالٌ، فَاجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ أَوْ حُدُوثُ الْإِلَهِ لَازِمٌ لَازم لَازم لِلتَّعَدُّدِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَازِمُ اللَّازِمِ لَازِمٌ فَيَكُونُ الْمَلْزُومُ الْأَوَّلُ محالا، قَالَ التفتازانيّ: وَبِهِ تَنْدَفِعُ الْإِيرَادَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى بُرْهَانِ التَّمَانُعِ.
وَأَقُولُ يَرُدُّ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّ إِمْكَانَ التَّمَانُعِ لَا يُوجِبُ نُهُوضَ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ هَذَا الْإِمْكَانَ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ بِاسْتِحَالَةِ حُدُوثِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْإِلَهَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْإِرَادَةِ إِنَّمَا يَجِيءُ مِنْ تَفَاوُتِ الْعِلْمِ فِي الِانْكِشَافِ بِهِ، وَلِذَلِكَ يَقِلُّ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْحُكَمَاءِ. وَالْإِلَهَانِ نَفْرِضُهُمَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فَعِلْمُهُمَا وَحِكْمَتُهُمَا يَقْتَضِيَانِ
انْكِشَافًا مُتَمَاثِلًا فَلَا يُرِيدُ أَحَدُهُمَا إِلَّا مَا يُرِيدُهُ الْآخَرُ فَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا تَمَانُعٌ، وَلِذَلِكَ اسْتُدِلَّ فِي الْمَقَاصِدِ عَلَى لُزُومِ حُصُولِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ اللُّزُومِ الْعَادِيِّ.
بَقِيَ النَّظَرُ فِي كَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْفِعْلِ عَنْهُمَا فَذَلِكَ انْتِقَالٌ إِلَى مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى.
وَإِنَّ احْتِمَالَ اتِّفَاقِ الْإِلَهَيْنِ عَلَى إِرَادَةِ الْأَشْيَاءِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِلَهَيْنِ حَكِيمَانِ لَا تَخْتَلِفُ إِرَادَتُهُمَا، وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا صَحِيحًا لَكِنْ يَصِيرُ بِهِ تَعَدُّدُ الْإِلَهِ عَبَثًا لِأَنَّ تَعَدُّدَ وُلَاةِ الْأُمُورِ مَا كَانَ إِلَّا لِطَلَبِ ظُهُورِ الصَّوَابِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا، فَإِذَا كَانَا لَا يَخْتَلِفَانِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعَدُّدِ، وَمِنَ الْمُحَالِ بِنَاءَ صِفَةِ أَعْلَى الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَالْآيَةُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ.
وَأَقُولُ يَرُدُّ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّ إِمْكَانَ التَّمَانُعِ لَا يُوجِبُ نُهُوضَ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ هَذَا الْإِمْكَانَ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ بِاسْتِحَالَةِ حُدُوثِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْإِلَهَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْإِرَادَةِ إِنَّمَا يَجِيءُ مِنْ تَفَاوُتِ الْعِلْمِ فِي الِانْكِشَافِ بِهِ، وَلِذَلِكَ يَقِلُّ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْحُكَمَاءِ. وَالْإِلَهَانِ نَفْرِضُهُمَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فَعِلْمُهُمَا وَحِكْمَتُهُمَا يَقْتَضِيَانِ
انْكِشَافًا مُتَمَاثِلًا فَلَا يُرِيدُ أَحَدُهُمَا إِلَّا مَا يُرِيدُهُ الْآخَرُ فَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا تَمَانُعٌ، وَلِذَلِكَ اسْتُدِلَّ فِي الْمَقَاصِدِ عَلَى لُزُومِ حُصُولِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ اللُّزُومِ الْعَادِيِّ.
بَقِيَ النَّظَرُ فِي كَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْفِعْلِ عَنْهُمَا فَذَلِكَ انْتِقَالٌ إِلَى مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى.
وَإِنَّ احْتِمَالَ اتِّفَاقِ الْإِلَهَيْنِ عَلَى إِرَادَةِ الْأَشْيَاءِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِلَهَيْنِ حَكِيمَانِ لَا تَخْتَلِفُ إِرَادَتُهُمَا، وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا صَحِيحًا لَكِنْ يَصِيرُ بِهِ تَعَدُّدُ الْإِلَهِ عَبَثًا لِأَنَّ تَعَدُّدَ وُلَاةِ الْأُمُورِ مَا كَانَ إِلَّا لِطَلَبِ ظُهُورِ الصَّوَابِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا، فَإِذَا كَانَا لَا يَخْتَلِفَانِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعَدُّدِ، وَمِنَ الْمُحَالِ بِنَاءَ صِفَةِ أَعْلَى الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَالْآيَةُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ.
43
ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي «شَرْحِ النَّسَفِيَّةِ» فَحَقَّقَ أَنَّهَا دَلِيلٌ إِقْنَاعِيٌّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَقَالَ الْمُحَقَّقُ الْخَيَالِيُّ إِلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِما، وَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الظَّرْفِيَّةُ ظَرْفِيَّةَ التَّأْثِيرِ، أَيْ لَو كَانَ مُؤثر فِيهِمَا، أَيِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ غَيْرُ اللَّهِ تَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً قَطْعِيَّةً. وَقَدْ بَسَطَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى الْخَيَالِيِّ» وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى إِثْبَاتِ كَلَامِهِ هُنَا.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ لَا مِنَ النِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ، أَيْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لَا مِنَ الْحُكْمِ. وَذَلِكَ مِنْ مَوَاقِعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى بِاعْتِبَارِ تَسَلُّطِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ فِي الْمُفَرَّغِ وَفِي الْمَنْصُوبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِهِ قَبْلَ تَسَلُّطِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوبِ وَلَا الْمُفَرَّغِ فَيُقَالُ حِينَئِذٍ إِنَّ (إِلَّا) بِمَعْنَى غَيْرٍ وَالْمُسْتَثْنَى يُعْرَبُ بَدَلًا مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِنْشَاءُ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمَقَالَةِ الَّتِي أَبْطَلَهَا الدَّلِيلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أَيْ عَمَّا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ وُجُودِ الشَّرِيكِ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ.
وَوَصْفُهُ هُنَا بِرَبِّ الْعَرْشِ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ بَلْ هُوَ خَالِقُ أَعْظَمِ السَّمَاوَاتِ وَحَاوِيَهَا وَهُوَ الْعَرْشُ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِإِلْزَامِهِمْ لَازِمَ قَوْلِهِمْ بِانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ أَنْ يَلْزَمَ انْتِفَاءَ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ لَا مِنَ النِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ، أَيْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لَا مِنَ الْحُكْمِ. وَذَلِكَ مِنْ مَوَاقِعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى بِاعْتِبَارِ تَسَلُّطِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ فِي الْمُفَرَّغِ وَفِي الْمَنْصُوبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِهِ قَبْلَ تَسَلُّطِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوبِ وَلَا الْمُفَرَّغِ فَيُقَالُ حِينَئِذٍ إِنَّ (إِلَّا) بِمَعْنَى غَيْرٍ وَالْمُسْتَثْنَى يُعْرَبُ بَدَلًا مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِنْشَاءُ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمَقَالَةِ الَّتِي أَبْطَلَهَا الدَّلِيلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أَيْ عَمَّا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ وُجُودِ الشَّرِيكِ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ.
وَوَصْفُهُ هُنَا بِرَبِّ الْعَرْشِ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ بَلْ هُوَ خَالِقُ أَعْظَمِ السَّمَاوَاتِ وَحَاوِيَهَا وَهُوَ الْعَرْشُ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِإِلْزَامِهِمْ لَازِمَ قَوْلِهِمْ بِانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ أَنْ يَلْزَمَ انْتِفَاءَ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ.
44
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٢٣]
لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَالٌ مُكَمِّلَةٌ لِمَدْلُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٩- ٢٠] كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: ٢١] إِلَخْ.. فَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ هُمْ مَعَ قُرْبِهِمْ يُسْأَلُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ وَلَا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَفْعَلُ، أَيْ لَمْ يَبْلُغْ بِهِمْ قُرْبُهُمْ إِلَى حَدِّ الْإِدْلَالِ عَلَيْهِ وَانَتِصَابِهِمْ لِتَعَقُّبِ أَفْعَالِهِ. فَلَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ مُشْعِرًا بِفَاعِلٍ حُذِفَ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ لَا يَسْأَلُ سَائِلٌ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّا يَفْعَلُ. وَكَانَ مِمَّنْ يَشْمَلُهُمُ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ هُمْ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، صَحَّ كَوْنُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ حَالًا مِنْ مَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٩]، عَلَى أَنَّ جملَة لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ تَمْهِيدٌ لجملة وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَهُ عَلَى جملَة وَهُمْ يُسْئَلُونَ اقْتَضَتْهُ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ عَنْ تنزيهه تَعَالَى على الشُّرَكَاءِ فَكَانَ انْتِقَالًا بَدِيعًا بِالرُّجُوعِ إِلَى بَقِيَّةِ أَحْوَالِ الْمُقَرَّبِينَ.
فَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ مَعَ قُرْبِهِمْ وَرِفْعَةِ شَأْنِهِمْ يُحَاسِبُهُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَهُمْ يَخَافُونَ التَّقْصِيرَ فِيمَا كُلِّفُوا بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَلِذَلِكَ كَانُوا لَا يَسْتَحْسِرُونَ وَلَا يَفْتُرُونَ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ لَيْسَ ضمير وَهُمْ يُسْئَلُونَ بِرَاجِعٍ إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضمير يَصِفُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٢] لِأَنَّ أُولَئِكَ لَا جَدْوَى لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ إِذْ لَا يَتَرَدَّدُ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَلَا بِرَاجِعٍ إِلَى آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: ٢١] لِعَدَمِ صِحَّةِ سُؤَالِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ مَا دَعَانَا إِلَى اعْتِبَارِ جملَة لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ حَالًا مِنْ مَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٩].
وَالسُّؤَالُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُحَاسَبَةِ، وَطَلَبِ بَيَانِ سَبَبِ الْفِعْلِ، وَإِبْدَاءِ الْمَعْذِرَةِ عَنْ فِعْلِ بَعْضِ مَا يُفْعَلُ، وَتَخَلُّصٍ مِنْ مَلَامٍ أَوْ عِتَابٍ عَلَى مَا يُفْعَلُ. وَهُوَ مِثْلُ السُّؤَالِ
فِي الْحَدِيثِ «كُلُّكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ»
. فَكَوْنُهُمْ يُسْأَلُونَ كِنَايَةً عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِمَظِنَّةِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مَا يُفْعَلُ وَمَا لَا يفعل وبمظنة التَّعَرُّض لِلْخَطَأِ فِي بَعْضِ مَا يُفْعَلُ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا نَفْيَ سُؤَالِ الِاسْتِشَارَةِ أَوْ تَطَلُّبِ الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي [الْبَقَرَةِ: ٣٠]، وَلَا سُؤَالَ الدُّعَاءِ، وَلَا سُؤَالَ الِاسْتِفَادَةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِثْلَ أَسْئِلَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ أَوِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنِ الْحِكَمِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ فِي النُّظُمِ الْكَوْنِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِنْبَاطٌ وَتَتَبُّعٌ وَلَيْسَ مُبَاشَرَةً بِسُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا لِتَطُلُّبِ
مُخَلِّصٍ مِنْ مَلَامٍ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِإِلَهِيَّةِ الْمُقَرَّبِينَ الَّتِي زَعَمَهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَزَعَمُوهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، بِطَرِيقَةِ انْتِفَاءِ خَاصِّيَّةِ الْإِلَهِ الْحَقِّ عَنْهُمْ إِذْ هُمْ يُسْأَلُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ وَشَأْنُ الْإِلَهِ أَنْ لَا يُسْأَلَ. وَتُسْتَخْرَجُ مِنْ جملَة لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ كِنَايَةٌ عَنْ جَرَيَانِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ بِحَيْثُ إِنَّهَا لَا مَجَالَ فِيهَا لِانْتِقَادِ مُنْتَقِدٍ إِذَا أَتْقَنَ النَّاظِرُ التَّدَبُّرَ فِيهَا أَوْ كُشِفَ لَهُ عَمَّا خَفِي مِنْهَا.
[٢٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٢٤]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤)
جُمْلَةُ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء:
٢١]. أُكِّدَ ذَلِكَ الْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيُّ بِمِثْلِهِ اسْتِعْظَامًا
فِي الْحَدِيثِ «كُلُّكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ»
. فَكَوْنُهُمْ يُسْأَلُونَ كِنَايَةً عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِمَظِنَّةِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مَا يُفْعَلُ وَمَا لَا يفعل وبمظنة التَّعَرُّض لِلْخَطَأِ فِي بَعْضِ مَا يُفْعَلُ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا نَفْيَ سُؤَالِ الِاسْتِشَارَةِ أَوْ تَطَلُّبِ الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي [الْبَقَرَةِ: ٣٠]، وَلَا سُؤَالَ الدُّعَاءِ، وَلَا سُؤَالَ الِاسْتِفَادَةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِثْلَ أَسْئِلَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ أَوِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنِ الْحِكَمِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ فِي النُّظُمِ الْكَوْنِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِنْبَاطٌ وَتَتَبُّعٌ وَلَيْسَ مُبَاشَرَةً بِسُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا لِتَطُلُّبِ
مُخَلِّصٍ مِنْ مَلَامٍ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِإِلَهِيَّةِ الْمُقَرَّبِينَ الَّتِي زَعَمَهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَزَعَمُوهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، بِطَرِيقَةِ انْتِفَاءِ خَاصِّيَّةِ الْإِلَهِ الْحَقِّ عَنْهُمْ إِذْ هُمْ يُسْأَلُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ وَشَأْنُ الْإِلَهِ أَنْ لَا يُسْأَلَ. وَتُسْتَخْرَجُ مِنْ جملَة لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ كِنَايَةٌ عَنْ جَرَيَانِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ بِحَيْثُ إِنَّهَا لَا مَجَالَ فِيهَا لِانْتِقَادِ مُنْتَقِدٍ إِذَا أَتْقَنَ النَّاظِرُ التَّدَبُّرَ فِيهَا أَوْ كُشِفَ لَهُ عَمَّا خَفِي مِنْهَا.
[٢٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٢٤]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤)
جُمْلَةُ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء:
٢١]. أُكِّدَ ذَلِكَ الْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيُّ بِمِثْلِهِ اسْتِعْظَامًا
46
لِفَظَاعَتِهِ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ اسْتِدْلَالٌ آخَرُ كَمَا بُنِيَ عَلَى نَظِيرِهِ السَّابِقِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ بُنِيَ عَلَيْهِ دَلِيلُ اسْتِحَالَةٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ، وَهَذَا بُنِيَ عَلَيْهِ دَلِيلُ بُطْلَانٍ بِشَهَادَةِ الشَّرَائِع سابقها وَلَا حَقّهَا، فَلَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أَيْ، هَاتُوا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ مِنْ شَوَاهِدِ الشَّرَائِعِ وَالرُّسُلِ.
وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧٤].
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ إِلَى مُقَدَّرٍ فِي الذِّهْنِ يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِشَارَةِ تَمْيِيزُهُ وَإِعْلَانُهُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُخَاطَبُ الْمُغَالَطَةَ فِيهِ وَلَا فِي مَضْمُونِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [١١]، أَيْ أَنَّ كُتُبَ الذِّكْرِ أَيِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ فِي مُتَنَاوَلِ النَّاسِ فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ فِي أَحَدٍ مِنْهَا أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ بِاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً. وَإِضَافَةُ ذِكْرُ إِلَى مَنْ مَعِيَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ وَهُمُ الْمُذَكَّرُونَ- بِفَتْحِ الْكَافِ-.
وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ مَعِيَ مَعِيَّةُ الْمُتَابَعَةِ، أَيْ مَنْ مَعِيَ من الْمُسلمين، فَمَا صدق (مِنَ) الْمَوْصُولَةِ الْأُمَمُ، أَيْ هَذَا ذِكْرُ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ مَعِي، أَيِ الذِّكْرُ الْمُنَزَّلُ لِأَجْلِكُمْ. فَالْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ١٠]. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ الْقُرْآنُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي فَمَعْنَاهُ ذِكْرُ الْأُمَمِ الَّذِينَ هُمْ قَبْلِيَ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ الْمَعْرُوفَةِ: التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالْإِنْجِيلُ وَكِتَابُ لُقْمَانَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا
إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ
فِي [آلِ عِمْرَانَ: ١٨].
وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧٤].
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ إِلَى مُقَدَّرٍ فِي الذِّهْنِ يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِشَارَةِ تَمْيِيزُهُ وَإِعْلَانُهُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُخَاطَبُ الْمُغَالَطَةَ فِيهِ وَلَا فِي مَضْمُونِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [١١]، أَيْ أَنَّ كُتُبَ الذِّكْرِ أَيِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ فِي مُتَنَاوَلِ النَّاسِ فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ فِي أَحَدٍ مِنْهَا أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ بِاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً. وَإِضَافَةُ ذِكْرُ إِلَى مَنْ مَعِيَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ وَهُمُ الْمُذَكَّرُونَ- بِفَتْحِ الْكَافِ-.
وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ مَعِيَ مَعِيَّةُ الْمُتَابَعَةِ، أَيْ مَنْ مَعِيَ من الْمُسلمين، فَمَا صدق (مِنَ) الْمَوْصُولَةِ الْأُمَمُ، أَيْ هَذَا ذِكْرُ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ مَعِي، أَيِ الذِّكْرُ الْمُنَزَّلُ لِأَجْلِكُمْ. فَالْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ١٠]. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ الْقُرْآنُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي فَمَعْنَاهُ ذِكْرُ الْأُمَمِ الَّذِينَ هُمْ قَبْلِيَ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ الْمَعْرُوفَةِ: التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالْإِنْجِيلُ وَكِتَابُ لُقْمَانَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا
إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ
فِي [آلِ عِمْرَانَ: ١٨].
47
وَأُضْرِبَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ مُضَيَّعٌ فِيهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ، أَيْ لَا تَرْجُ مِنْهُمُ اعْتِرَافًا بِبُطْلَانِ شِرْكِهِمْ مِنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا مِنْ دَلِيلِ شَهَادَةِ الشَّرَائِعِ الْمَذْكُورِ ثَانِيًا، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَلَا يَكْتَسِبُونَ عِلْمَهُ.
وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أَنَّهُمْ لَا يَتَطَلَّبُونَ عِلْمَهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةُ التَّفْرِيعِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَهُمْ مُعْرِضُونَ، أَيْ مُعْرِضُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَدْعُوهُمْ أَنْتَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا وَالنَّظَرِ فِيهَا.
وَإِنَّمَا أُسْنِدَ هَذَا الْحُكْمُ إِلَى أَكْثَرِهِمْ لَا لِجَمِيعِهِمْ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَجْحَدُونَهُ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ تَهَيَّأَتْ نُفُوسُهُمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ. وَتِلْكَ هِيَ الْحَالَةُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ عِنْدَ هُبُوبِ نَسَمَاتِ التَّوْفِيقِ عَلَيْهَا مِثْلَ مَا عَرَضَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ وَجَدَ اللَّوْحَ عِنْدَ أُخْتِهِ مَكْتُوبًا فِيهِ سُورَةُ طه فَأقبل على قِرَاءَته بشراشره فَمَا أتمهَا حَتَّى عَزَمَ على الْإِسْلَام.
[٢٥]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٢٥]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)
لَمَّا أَظْهَرَ لِرَسُولِهِ أَنَّ الْمُعَانِدِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَلَقِّيهِ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَأْيِيدِ مَقَالِهِ الَّذِي لَقَّنَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي [الْأَنْبِيَاء: ٢٤]، فأفاده تَعْمِيمَهُ فِي شَرَائِعِ سَائِرِ الرُّسُلِ سَوَاءٌ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَمَنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتَابٌ، وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ كِتَابُهُ بَاقِيًا مِثْلَ مُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَمَنْ لَمْ يَبْقَ كِتَابُهُ مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ.
وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أَنَّهُمْ لَا يَتَطَلَّبُونَ عِلْمَهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةُ التَّفْرِيعِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَهُمْ مُعْرِضُونَ، أَيْ مُعْرِضُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَدْعُوهُمْ أَنْتَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا وَالنَّظَرِ فِيهَا.
وَإِنَّمَا أُسْنِدَ هَذَا الْحُكْمُ إِلَى أَكْثَرِهِمْ لَا لِجَمِيعِهِمْ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَجْحَدُونَهُ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ تَهَيَّأَتْ نُفُوسُهُمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ. وَتِلْكَ هِيَ الْحَالَةُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ عِنْدَ هُبُوبِ نَسَمَاتِ التَّوْفِيقِ عَلَيْهَا مِثْلَ مَا عَرَضَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ وَجَدَ اللَّوْحَ عِنْدَ أُخْتِهِ مَكْتُوبًا فِيهِ سُورَةُ طه فَأقبل على قِرَاءَته بشراشره فَمَا أتمهَا حَتَّى عَزَمَ على الْإِسْلَام.
[٢٥]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٢٥]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)
لَمَّا أَظْهَرَ لِرَسُولِهِ أَنَّ الْمُعَانِدِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَلَقِّيهِ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَأْيِيدِ مَقَالِهِ الَّذِي لَقَّنَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي [الْأَنْبِيَاء: ٢٤]، فأفاده تَعْمِيمَهُ فِي شَرَائِعِ سَائِرِ الرُّسُلِ سَوَاءٌ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَمَنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتَابٌ، وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ كِتَابُهُ بَاقِيًا مِثْلَ مُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَمَنْ لَمْ يَبْقَ كِتَابُهُ مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ.
وَلَيْسَ ذِكْرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِمُجَرَّدِ تَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيِ التَّوْحِيدِ وَإِنْ أَفَادَتِ التَّقْرِيرَ تَبَعًا لِفَائِدَتِهَا الْمَقْصُودَةِ. وَفِيهَا إِظْهَارٌ لِعِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِزَالَةِ الشِّرْكِ مِنْ نُفُوسِ الْبَشَرِ وَقَطْعِ دَابِرِهِ إِصْلَاحًا لِعُقُولِهِمْ بِأَنْ يُزَالَ مِنْهَا أَفْظَعُ خَطَلٍ وَأَسْخَفُ رَأْيٍ، وَلَمْ تَقْطَعْ دَابِرَ الشِّرْكِ شَرِيعَةٌ كَمَا قَطَعَهُ الْإِسْلَامُ بِحَيْثُ لَمْ يَحْدُثِ الْإِشْرَاكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ رَسُولٍ مَزِيدٌ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ.
وَفَرَّعَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ أَمْرَهُ إِيَّاهُمْ بِعِبَادَتِهِ عَلَى الْإِعْلَانِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْعِبَادَةِ خَاصًّا بِهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَّا يُوحَى إِلَيْهِ بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَقَرَأَهُ حَفْصُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّعُ فِي مَوضِع الْحَال.
[٢٦- ٢٩]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٩]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
عَطْفُ قِصَّةٍ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ عَلَى قِصَّةٍ أُخْرَى. فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ بَيَانِ بَاطِلِهِمْ فِيمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً انْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ بَاطِلٍ آخَرَ وَهُوَ
وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ رَسُولٍ مَزِيدٌ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ.
وَفَرَّعَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ أَمْرَهُ إِيَّاهُمْ بِعِبَادَتِهِ عَلَى الْإِعْلَانِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْعِبَادَةِ خَاصًّا بِهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَّا يُوحَى إِلَيْهِ بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَقَرَأَهُ حَفْصُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّعُ فِي مَوضِع الْحَال.
[٢٦- ٢٩]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٩]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
عَطْفُ قِصَّةٍ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ عَلَى قِصَّةٍ أُخْرَى. فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ بَيَانِ بَاطِلِهِمْ فِيمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً انْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ بَاطِلٍ آخَرَ وَهُوَ
49
اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ وَلَدًا. وَقَدْ كَانَتْ خُزَاعَةُ مِنْ سُكَّانِ ضَوَاحِي مَكَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ وَشَارَكَهُمْ فِي هَذَا الزَّعْمِ بَعْضٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٥٧].
وَالْوَلَدُ اسْمُ جَمْعٍ مُفْرَدُهُ مِثْلُهُ، أَيِ اتَّخَذَ أَوْلَادًا، وَالْوَلَدُ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا أَرَادُوا أَنَّهُ اتَّخَذَ بَنَاتٍ، قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ [النَّحْل: ٥٧].
وَلَمَّا كَانَ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ نَقْصًا فِي جَانِبٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَعْقَبَ مَقَالَتَهُمْ بِكَلِمَةِ سُبْحانَهُ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنِ الِافْتِقَارِ إِلَى إِكْمَالِ النَّقْصِ الْعَارِضِ بِفَقْدِ الْوَلَدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦٨] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: ١١٦] أَنَّهُمْ زَعَمُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أُعْقِبَ حَرْفُ الْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ عِبَادٌ دُونَ ذِكْرِ الْمُبْتَدَأِ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلِ الْمَلَائِكَةُ عِبَادٌ مُكَرَمُونَ، أَيْ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِرِضَاهُ عَنْهُمْ وَجَعَلَهُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ الصَّالِحِينَ.
وَالسَّبْقُ، حَقِيقَتُهُ: التَّقَدُّمُ فِي السَّيْرِ عَلَى سَائِرٍ آخَرَ. وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ مَجَازًا عَلَى
التَّقَدُّمِ فِي كُلِّ عَمَلٍ. وَمِنْهُ السَّبْقُ فِي الْقَوْلِ، أَيِ التَّكَلُّمُ قَبْلَ الْغَيْرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَنَفْيُهُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، أَيْ كِنَايَةً عَنِ التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ. وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ التَّقَدُّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: ١] فَإِنَّ التَّقَدُّمَ فِي مَعْنَى السَّبْقِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ مَعْنَاهُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَبْلَ قَوْلِهِ، أَيْ لَا يَقُولُونَ إِلَّا مَا أُذِنَ لَهُم أَن يَقُولُونَ. وَهَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ
وَالْوَلَدُ اسْمُ جَمْعٍ مُفْرَدُهُ مِثْلُهُ، أَيِ اتَّخَذَ أَوْلَادًا، وَالْوَلَدُ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا أَرَادُوا أَنَّهُ اتَّخَذَ بَنَاتٍ، قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ [النَّحْل: ٥٧].
وَلَمَّا كَانَ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ نَقْصًا فِي جَانِبٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَعْقَبَ مَقَالَتَهُمْ بِكَلِمَةِ سُبْحانَهُ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنِ الِافْتِقَارِ إِلَى إِكْمَالِ النَّقْصِ الْعَارِضِ بِفَقْدِ الْوَلَدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦٨] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: ١١٦] أَنَّهُمْ زَعَمُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أُعْقِبَ حَرْفُ الْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ عِبَادٌ دُونَ ذِكْرِ الْمُبْتَدَأِ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلِ الْمَلَائِكَةُ عِبَادٌ مُكَرَمُونَ، أَيْ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِرِضَاهُ عَنْهُمْ وَجَعَلَهُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ الصَّالِحِينَ.
وَالسَّبْقُ، حَقِيقَتُهُ: التَّقَدُّمُ فِي السَّيْرِ عَلَى سَائِرٍ آخَرَ. وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ مَجَازًا عَلَى
التَّقَدُّمِ فِي كُلِّ عَمَلٍ. وَمِنْهُ السَّبْقُ فِي الْقَوْلِ، أَيِ التَّكَلُّمُ قَبْلَ الْغَيْرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَنَفْيُهُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، أَيْ كِنَايَةً عَنِ التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ. وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ التَّقَدُّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: ١] فَإِنَّ التَّقَدُّمَ فِي مَعْنَى السَّبْقِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ مَعْنَاهُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَبْلَ قَوْلِهِ، أَيْ لَا يَقُولُونَ إِلَّا مَا أُذِنَ لَهُم أَن يَقُولُونَ. وَهَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ
50
الرَّدُّ عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عِقَابَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ.
وَتَقْدِيمُ بِأَمْرِهِ عَلَى يَعْمَلُونَ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَمَا أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ قَوْلًا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ كَذَلِكَ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا بِأَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٥].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى تَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ لِبَعْضِ مَا شَمِلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا كَفَرُوا بِسَبَبِهِ إِذْ جَعَلُوا الْآلِهَةَ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ ارْتَضى لِأَنَّهُ عَائِدُ صِلَةٍ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لِمَنِ ارْتَضَاهُ، أَيِ ارْتَضَى الشَّفَاعَةَ لَهُ بِأَنْ يَأْذَنَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ أَوِ اسْتِجَابَةً لِاسْتِغْفَارِهِمْ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٥]. وَذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ جُمْلَةِ مَا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ فَلَيْسَ هُوَ مِنَ التَّقَدُّمِ بِالْقَوْلِ.
ثُمَّ زَادَ تَعْظِيمَهُمْ رَبُّهُمْ تَقْرِيرًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، أَيْ هُمْ يُعَظِّمُونَهُ تَعْظِيمَ مَنْ يَخَافُ بِطَشْتَهُ وَيَحْذَرُ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ خَشْيَتِهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ. ومُشْفِقُونَ خَبَرٌ، أَيْ وَهُمْ لِأَجْلِ خَشْيَتِهِ، أَيْ خَشْيَتِهِمْ إِيَّاهُ.
وَتَقْدِيمُ بِأَمْرِهِ عَلَى يَعْمَلُونَ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَمَا أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ قَوْلًا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ كَذَلِكَ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا بِأَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٥].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى تَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ لِبَعْضِ مَا شَمِلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا كَفَرُوا بِسَبَبِهِ إِذْ جَعَلُوا الْآلِهَةَ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ ارْتَضى لِأَنَّهُ عَائِدُ صِلَةٍ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لِمَنِ ارْتَضَاهُ، أَيِ ارْتَضَى الشَّفَاعَةَ لَهُ بِأَنْ يَأْذَنَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ أَوِ اسْتِجَابَةً لِاسْتِغْفَارِهِمْ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٥]. وَذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ جُمْلَةِ مَا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ فَلَيْسَ هُوَ مِنَ التَّقَدُّمِ بِالْقَوْلِ.
ثُمَّ زَادَ تَعْظِيمَهُمْ رَبُّهُمْ تَقْرِيرًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، أَيْ هُمْ يُعَظِّمُونَهُ تَعْظِيمَ مَنْ يَخَافُ بِطَشْتَهُ وَيَحْذَرُ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ خَشْيَتِهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ. ومُشْفِقُونَ خَبَرٌ، أَيْ وَهُمْ لِأَجْلِ خَشْيَتِهِ، أَيْ خَشْيَتِهِمْ إِيَّاهُ.
51
وَالْإِشْفَاقُ: تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ وَالْحَذِرُ مِنْهُ.
وَالشَّرْطُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ إِلَخْ... شَرْطٌ
عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، أَيْ لَوْ قَالَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَهُ لِأَجْلِ مَا تَقَرَّرَ مِنْ شِدَّةِ خَشْيَتِهِمْ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ ادّعوا لَهُمُ الْإِلَهِيَّةَ بِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا لَهُمْ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ وَلَا يَقُولُونَهُ، وَأَنَّهُمْ ادعوا مَا يُوجِبُ لِقَائِلِهِ نَارَ جَهَنَّمَ عَلَى حَدِّ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥].
وَعُدِلَ عَنْ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ إِلَى (مَنْ) الشَّرْطِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الْإِيجَازِ. وَأُدْخِلَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لِتَحْقِيقِ التَّعْلِيقِ بِنِسْبَتِهِ الشَّرْطَ لِأَدَاتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى جَدَارَةِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ بِمَنْ ثَبُتَ لَهُ مَضْمُونُ الشَّرْطِ، وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِدَعْوَى عَامَّةِ النَّصَارَى إِلَهِيَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ. ثُمَّ صَرَّحَ بِمَا اقْتَضَاهُ التَّعْرِيضُ فَقَالَ تَعَالَى كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ وَهُوَ جَهَنَّمُ يَجْزِي الْمُثْبِتِينَ لِلَّهِ شَرِيكًا.
وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ.
[٣٠]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٠]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلَمْ- بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ- وَهِيَ وَاوُ الْعَطْفِ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَلْقِ الثَّانِي بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ أَلَمْ يَرَ بِدُونِ وَاوِ عَطْفٍ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَلَمْ تَثْبُتِ الْوَاوُ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ مَكَّةَ. قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ فَالْتَزَمَ قُرَّاءُ مَكَّةَ رِوَايَةَ عَدَمِ الْوَاوِ إِلَى أَنْ قَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأُهْمِلَتْ غَيْرُ قِرَاءَتِهِ.
وَالشَّرْطُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ إِلَخْ... شَرْطٌ
عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، أَيْ لَوْ قَالَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَهُ لِأَجْلِ مَا تَقَرَّرَ مِنْ شِدَّةِ خَشْيَتِهِمْ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ ادّعوا لَهُمُ الْإِلَهِيَّةَ بِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا لَهُمْ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ وَلَا يَقُولُونَهُ، وَأَنَّهُمْ ادعوا مَا يُوجِبُ لِقَائِلِهِ نَارَ جَهَنَّمَ عَلَى حَدِّ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥].
وَعُدِلَ عَنْ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ إِلَى (مَنْ) الشَّرْطِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الْإِيجَازِ. وَأُدْخِلَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لِتَحْقِيقِ التَّعْلِيقِ بِنِسْبَتِهِ الشَّرْطَ لِأَدَاتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى جَدَارَةِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ بِمَنْ ثَبُتَ لَهُ مَضْمُونُ الشَّرْطِ، وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِدَعْوَى عَامَّةِ النَّصَارَى إِلَهِيَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ. ثُمَّ صَرَّحَ بِمَا اقْتَضَاهُ التَّعْرِيضُ فَقَالَ تَعَالَى كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ وَهُوَ جَهَنَّمُ يَجْزِي الْمُثْبِتِينَ لِلَّهِ شَرِيكًا.
وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ.
[٣٠]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٠]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلَمْ- بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ- وَهِيَ وَاوُ الْعَطْفِ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَلْقِ الثَّانِي بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ أَلَمْ يَرَ بِدُونِ وَاوِ عَطْفٍ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَلَمْ تَثْبُتِ الْوَاوُ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ مَكَّةَ. قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ فَالْتَزَمَ قُرَّاءُ مَكَّةَ رِوَايَةَ عَدَمِ الْوَاوِ إِلَى أَنْ قَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأُهْمِلَتْ غَيْرُ قِرَاءَتِهِ.
52
وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ إِنْكَارِيٌّ، تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَى إِهْمَالِهِمْ لِلنَّظَرِ.
وَالرُّؤْيَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً. وَالِاسْتِفْهَامُ صَالِحٌ لِأَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَى كِلْتَيْهِمَا لِأَنَّ إِهْمَالَ النَّظَرِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِ مَا يُنْقِذُ عِلْمُهُ مِنَ التَّوَرُّطِ فِي الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ حَقِيقٌ بِالْإِنْكَارِ، وَإِنْكَارُ إِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي دَلَالَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى لَوَازِمِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ أَحَدٌ فِي الضَّلَالِ جَدِيرٌ أَيْضًا بِالْإِنْكَارِ أَوْ بِالتَّقْرِيرِ الْمَشُوبِ بِإِنْكَارٍ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ.
وَالرَّتْقُ: الِاتِّصَالُ وَالتَّلَاصُقُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ.
وَالْفَتْقُ: ضِدُّهُ، وَهُوَ الِانْفِصَالُ وَالتَّبَاعُدُ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ.
وَالْإِخْبَارُ عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَنَّهُمَا رَتْقٌ إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الصِّفَةِ.
ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى كانَتا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَا مَعًا رَتْقًا وَاحِدًا بِأَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ جِسْمًا مُلْتَئِمًا مُتَّصِلًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ سَمَاءٍ رَتْقًا عَلَى حِدَتِهَا، وَالْأَرْضُ رَتْقًا عَلَى حِدَتِهَا وَكَذَلِكَ الِاحْتِمَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَفَتَقْناهُما.
وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ نَحْوَ: فَصَارَتَا فَتْقًا، لِأَنَّ الرَّتْقَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمَا أَشَدَّ تَمَكُّنٍ كَمَا قُلْنَا لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ فِي فَتْقِهِمَا، وَلِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى حَدَثَانِ الْفَتْقِ إِيمَاءً إِلَى حُدُوثِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وَأَنْ لَيْسَ مِنْهَا أَزَلِيٌّ.
وَالرَّتْقُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعَانٍ تَنْشَأُ عَلَى مُحْتَمَلَاتِهَا مَعَانٍ فِي الْفَتْقِ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الرُّؤْيَةَ بَصْرِيَّةً فَالرَّتْقُ الْمُشَاهَدُ هُوَ مَا يُشَاهِدُهُ الرَّائِي مِنْ عَدَمِ تَخَلُّلِ شَيْءٍ بَيْنَ أَجْزَاءِ السَّمَاوَاتِ وَبَيْنَ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ،
وَالرُّؤْيَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً. وَالِاسْتِفْهَامُ صَالِحٌ لِأَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَى كِلْتَيْهِمَا لِأَنَّ إِهْمَالَ النَّظَرِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِ مَا يُنْقِذُ عِلْمُهُ مِنَ التَّوَرُّطِ فِي الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ حَقِيقٌ بِالْإِنْكَارِ، وَإِنْكَارُ إِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي دَلَالَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى لَوَازِمِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ أَحَدٌ فِي الضَّلَالِ جَدِيرٌ أَيْضًا بِالْإِنْكَارِ أَوْ بِالتَّقْرِيرِ الْمَشُوبِ بِإِنْكَارٍ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ.
وَالرَّتْقُ: الِاتِّصَالُ وَالتَّلَاصُقُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ.
وَالْفَتْقُ: ضِدُّهُ، وَهُوَ الِانْفِصَالُ وَالتَّبَاعُدُ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ.
وَالْإِخْبَارُ عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَنَّهُمَا رَتْقٌ إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الصِّفَةِ.
ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى كانَتا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَا مَعًا رَتْقًا وَاحِدًا بِأَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ جِسْمًا مُلْتَئِمًا مُتَّصِلًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ سَمَاءٍ رَتْقًا عَلَى حِدَتِهَا، وَالْأَرْضُ رَتْقًا عَلَى حِدَتِهَا وَكَذَلِكَ الِاحْتِمَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَفَتَقْناهُما.
وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ نَحْوَ: فَصَارَتَا فَتْقًا، لِأَنَّ الرَّتْقَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمَا أَشَدَّ تَمَكُّنٍ كَمَا قُلْنَا لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ فِي فَتْقِهِمَا، وَلِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى حَدَثَانِ الْفَتْقِ إِيمَاءً إِلَى حُدُوثِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وَأَنْ لَيْسَ مِنْهَا أَزَلِيٌّ.
وَالرَّتْقُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعَانٍ تَنْشَأُ عَلَى مُحْتَمَلَاتِهَا مَعَانٍ فِي الْفَتْقِ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الرُّؤْيَةَ بَصْرِيَّةً فَالرَّتْقُ الْمُشَاهَدُ هُوَ مَا يُشَاهِدُهُ الرَّائِي مِنْ عَدَمِ تَخَلُّلِ شَيْءٍ بَيْنَ أَجْزَاءِ السَّمَاوَاتِ وَبَيْنَ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ،
53
وَالْفَتْقُ هُوَ مَا يُشَاهِدُهُ الرَّائِي مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ حِينَ يَرَى الْمَطَرَ نَازِلًا مِنَ السَّمَاء وَيرى الْبَرْق يلعج مِنْهَا وَالصَّوَاعِقَ تَسْقُطُ مِنْهَا فَذَلِكَ فَتْقُهَا، وَحِينَ يَرَى انْشِقَاقَ الْأَرْضِ بِمَاءِ الْمَطَرِ وَانْبِثَاقَ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ مِنْهَا بَعْدَ جَفَافِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ دَالٌّ عَلَى تَصَرُّفِ الْخَالِقِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جُمِعَ بَيْنَ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْ هُوَ عِبْرَةُ دَلَالَةٍ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَتَقْرِيبٌ لِكَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [٩].
وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الرُّؤْيَةَ عِلْمِيَّةً احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ مِثْلَ مَا أُرِيدَ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الرُّؤْيَةِ بَصَرِيَّةً، وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ أَيْضًا إِنْكَارِيًّا مُتَوَجِّهًا إِلَى إِهْمَالِهِمُ التَّدَبُّرَ فِي الْمُشَاهَدَاتِ.
وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ مَعَانٍ غَيْرَ مُشَاهَدَةٍ وَلَكِنَّهَا مِمَّا يَنْبَغِي طَلَبُ الْعِلْمِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَعَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ حَقِيقَتَاهُمَا، أَيِ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ. ثُمَّ هَذَا الِاحْتِمَالُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ رَتْقًا وَاحِدًا، أَيْ كَانَتَا كُتْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ انْفَصَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الْأَرْضِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧].
وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّتْقُ وَالْفَتْقُ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ رَتْقًا فِي حَدِّ ذَاتِهَا وَكَانَتِ الْأَرْضُ رَتْقًا فِي حَدِّ ذَاتِهَا ثُمَّ فَتَقَ اللَّهُ السَّمَاوَات وفتق الله الْأَرْضَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ
لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ
فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [٩].
وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الرُّؤْيَةَ عِلْمِيَّةً احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ مِثْلَ مَا أُرِيدَ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الرُّؤْيَةِ بَصَرِيَّةً، وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ أَيْضًا إِنْكَارِيًّا مُتَوَجِّهًا إِلَى إِهْمَالِهِمُ التَّدَبُّرَ فِي الْمُشَاهَدَاتِ.
وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ مَعَانٍ غَيْرَ مُشَاهَدَةٍ وَلَكِنَّهَا مِمَّا يَنْبَغِي طَلَبُ الْعِلْمِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَعَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ حَقِيقَتَاهُمَا، أَيِ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ. ثُمَّ هَذَا الِاحْتِمَالُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ رَتْقًا وَاحِدًا، أَيْ كَانَتَا كُتْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ انْفَصَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الْأَرْضِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧].
وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّتْقُ وَالْفَتْقُ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ رَتْقًا فِي حَدِّ ذَاتِهَا وَكَانَتِ الْأَرْضُ رَتْقًا فِي حَدِّ ذَاتِهَا ثُمَّ فَتَقَ اللَّهُ السَّمَاوَات وفتق الله الْأَرْضَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ
لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ
54
وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اسْتِمَاعِ الْآيَاتِ الَّتِي وَصَفَتْ بَدْءَ الْخَلْقِ وَمَشُوبًا بِالْإِنْكَارِ عَلَى ذَلِكَ.
وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْشَأَهُمَا بَعْدَ الْعَدَمِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بَعْدَ انْعِدَامِهِ قَالَ تَعَالَى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [الْإِسْرَاء:
٩٩].
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ الْعَدَمُ وَبِالْفَتْقِ الْإِيجَادُ. وَإِطْلَاقُ الرُّؤْيَةِ عَلَى الْعِلْمِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ ظَاهِرٌ لِأَن الرتق والفتق بِهَذَا الْمَعْنَى مُحَقَّقٌ أَمْرُهُمَا عِنْدَهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: ٢٥].
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ الظُّلْمَةُ وَبِالْفَتْقِ النُّورُ، فَالْمَوْجُودَاتُ وُجِدَتْ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهَا النُّورَ بِأَنْ أَوْجَدَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ نُورًا أَضَاءَ الْمَوْجُودَاتِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ اتِّحَادُ الْمَوْجُودَاتِ حِينَ كَانَتْ مَادَّةً وَاحِدَةً أَوْ كَانَتْ أَثِيرًا أَوْ عَمَاءَ كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «كَانَ فِي عَمَاءَ»
، فَكَانَتْ جِنْسًا عَالِيًا مُتَّحِدًا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ حِينَئِذٍ كُلِّيٌّ انْحَصَرَ فِي فَرْدٍ. ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَبْعَاضًا وَجَعَلَ لِكُلِّ بَعْضٍ مُمَيِّزَاتٍ ذَاتِيَّةً فَصَيَّرَ كُلَّ مُتَمَيِّزٍ بِحَقِيقَةٍ جِنْسًا فَصَارَتْ أَجْنَاسًا. ثُمَّ خَلَقَ فِي الْأَجْنَاسِ مُمَيِّزَاتٍ بِالْعَوَارِضِ لِحَقَائِقِهَا فَصَارَتْ أَنْوَاعًا. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَسْعَدُ بِطَرِيقَةِ الْحُكَمَاءِ وَقَدِ اصْطَلَحُوا عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَا التَّمْيِيزِ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ، وَبَعْضٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ صَاحِبُ «مِرْآةِ الْعَارِفِينَ» جَعَلَ الرَّتْقَ عَلَمًا عَلَى الْعُنْصُرِ الْأَعْظَمِ يَعْنِي الْجِسْمَ الْكُلَّ، وَالْجِسْمُ الْكُلُّ هُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعَرْشِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَكِيمُ الصُّوفِيُّ لُطْفُ اللَّهِ الْأَرْضَرُومِيُّ صَاحِبُ «مَعَارِجِ النُّورِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ
وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْشَأَهُمَا بَعْدَ الْعَدَمِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بَعْدَ انْعِدَامِهِ قَالَ تَعَالَى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [الْإِسْرَاء:
٩٩].
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ الْعَدَمُ وَبِالْفَتْقِ الْإِيجَادُ. وَإِطْلَاقُ الرُّؤْيَةِ عَلَى الْعِلْمِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ ظَاهِرٌ لِأَن الرتق والفتق بِهَذَا الْمَعْنَى مُحَقَّقٌ أَمْرُهُمَا عِنْدَهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: ٢٥].
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ الظُّلْمَةُ وَبِالْفَتْقِ النُّورُ، فَالْمَوْجُودَاتُ وُجِدَتْ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهَا النُّورَ بِأَنْ أَوْجَدَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ نُورًا أَضَاءَ الْمَوْجُودَاتِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ اتِّحَادُ الْمَوْجُودَاتِ حِينَ كَانَتْ مَادَّةً وَاحِدَةً أَوْ كَانَتْ أَثِيرًا أَوْ عَمَاءَ كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «كَانَ فِي عَمَاءَ»
، فَكَانَتْ جِنْسًا عَالِيًا مُتَّحِدًا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ حِينَئِذٍ كُلِّيٌّ انْحَصَرَ فِي فَرْدٍ. ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَبْعَاضًا وَجَعَلَ لِكُلِّ بَعْضٍ مُمَيِّزَاتٍ ذَاتِيَّةً فَصَيَّرَ كُلَّ مُتَمَيِّزٍ بِحَقِيقَةٍ جِنْسًا فَصَارَتْ أَجْنَاسًا. ثُمَّ خَلَقَ فِي الْأَجْنَاسِ مُمَيِّزَاتٍ بِالْعَوَارِضِ لِحَقَائِقِهَا فَصَارَتْ أَنْوَاعًا. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَسْعَدُ بِطَرِيقَةِ الْحُكَمَاءِ وَقَدِ اصْطَلَحُوا عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَا التَّمْيِيزِ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ، وَبَعْضٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ صَاحِبُ «مِرْآةِ الْعَارِفِينَ» جَعَلَ الرَّتْقَ عَلَمًا عَلَى الْعُنْصُرِ الْأَعْظَمِ يَعْنِي الْجِسْمَ الْكُلَّ، وَالْجِسْمُ الْكُلُّ هُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعَرْشِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَكِيمُ الصُّوفِيُّ لُطْفُ اللَّهِ الْأَرْضَرُومِيُّ صَاحِبُ «مَعَارِجِ النُّورِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ
55
الْحُسْنَى» الْمُتَوَفَّى فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ الَّذِي دَخَلَ تُونُسَ عَامَ ١١٨٥ هـ فِي مُقَدِّمَاتِ كِتَابِهِ «مَعَارِجِ النُّورِ» وَفِي رِسَالَةٍ لَهُ سَمَّاهَا «رِسَالَةَ الْفَتْقِ وَالرَّتْقِ».
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعَانِي الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ إِذْ لَا مَانِعَ مِنِ اعْتِبَارِ مَعْنًى عَامٍّ يَجْمَعُهَا جَمِيعًا، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى عِبْرَةٍ تَعُمُّ كل النَّاس وكل عِبْرَةٍ خَاصَّةٍ بِأَهْلِ النَّظَرِ وَالْعِلْمِ فَتَكُونُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ زِيَادَةُ اسْتِدْلَالٍ بِمَا هُوَ أَظْهَرُ لِرُؤْيَةِ الْأَبْصَارِ وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِلنَّاسِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ. وَهُوَ عِبْرَةٌ لِلْمُتَأَمِّلِينَ فِي دَقَائِقِهِ فِي تَكْوِينِ الْحَيَوَانِ مِنَ الرُّطُوبَاتِ. وَهِيَ تَكْوِينُ التَّنَاسُلِ وَتَكْوِينُ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَتَكَوَّنُ إِلَّا مِنَ الرُّطُوبَةِ وَلَا يَعِيشُ إِلَّا مُلَابِسًا لَهَا فَإِذَا انْعَدَمَتْ مِنْهُ الرُّطُوبَةُ فَقَدَ الْحَيَاةَ، وَلِذَلِكَ كَانَ اسْتِمْرَارُ الْحُمَّى مُفْضِيًا إِلَى الْهُزَالِ ثُمَّ إِلَى الْمَوْتِ.
وَجعل هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ، مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهَا التَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.
ومِنَ الْماءِ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلْنا. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ أَفَلا يُؤْمِنُونَ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ عَدَمَ إِيمَانِهِمُ الْإِيمَانَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْإِيمَانُ بوحدانية الله.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعَانِي الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ إِذْ لَا مَانِعَ مِنِ اعْتِبَارِ مَعْنًى عَامٍّ يَجْمَعُهَا جَمِيعًا، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى عِبْرَةٍ تَعُمُّ كل النَّاس وكل عِبْرَةٍ خَاصَّةٍ بِأَهْلِ النَّظَرِ وَالْعِلْمِ فَتَكُونُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ زِيَادَةُ اسْتِدْلَالٍ بِمَا هُوَ أَظْهَرُ لِرُؤْيَةِ الْأَبْصَارِ وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِلنَّاسِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ. وَهُوَ عِبْرَةٌ لِلْمُتَأَمِّلِينَ فِي دَقَائِقِهِ فِي تَكْوِينِ الْحَيَوَانِ مِنَ الرُّطُوبَاتِ. وَهِيَ تَكْوِينُ التَّنَاسُلِ وَتَكْوِينُ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَتَكَوَّنُ إِلَّا مِنَ الرُّطُوبَةِ وَلَا يَعِيشُ إِلَّا مُلَابِسًا لَهَا فَإِذَا انْعَدَمَتْ مِنْهُ الرُّطُوبَةُ فَقَدَ الْحَيَاةَ، وَلِذَلِكَ كَانَ اسْتِمْرَارُ الْحُمَّى مُفْضِيًا إِلَى الْهُزَالِ ثُمَّ إِلَى الْمَوْتِ.
وَجعل هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ، مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهَا التَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.
ومِنَ الْماءِ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلْنا. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ أَفَلا يُؤْمِنُونَ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ عَدَمَ إِيمَانِهِمُ الْإِيمَانَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْإِيمَانُ بوحدانية الله.
56
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣١]
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١)هَذَا مِنْ آثَارِ فَتْقِ الْأَرْضِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا إِذْ أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهَا الْجِبَالَ وَذَلِكَ فَتْقُ تَكْوِينٍ، وَجَعَلَ فِيهَا الطُّرُقَ، أَيِ الْأَرَضِينَ السَّهْلَةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَشْيِ فِيهَا عَكْسَ الْجِبَالِ.
وَالرَّوَاسِي: الْجِبَالُ، لِأَنَّهَا رَسَتْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ رَسَخَتْ فِيهَا.
وَالْمَيْدُ: الِاضْطِرَابُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ.
وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ أَنَّ مَعْنَى أَنْ تَمِيدَ أَنْ لَا تَمِيدَ، أَوْ لِكَرَاهَةِ أَنْ تَمِيدَ.
وَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ فِجَاجًا. وَلَمَّا كَانَ فِجاجاً مَعْنَاهُ وَاسِعَةٌ كَانَ فِي الْمَعْنَى وَصْفًا لِلسَّبِيلِ، فَلَمَّا قُدِّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ انْتُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَقْصُودُ إِتْمَامُ الْمِنَّةِ بِتَسْخِيرِ سَطْحِ الْأَرْضِ لِيَسْلُكُوا مِنْهَا طُرُقًا وَاسِعَةً وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ مَسَالِكَ ضَيِّقَةٍ بَيْنَ الْجبَال كَأَنَّهَا الأودية.
وَالْفِجَاجُ: جَمْعُ فَجٍّ. وَالْفَجُّ: الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ.
وَالسُّبُلُ: جَمْعُ سَبِيلٍ، وَهُوَ: الطَّرِيقُ مُطْلَقًا.
وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ إِنْشَاءً رَجَاءَ اهْتِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ مُشَاهَدَةٌ لَهُمْ وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَاد بالاهتداء الاهتداء فِي السَّيْرِ، أَيْ جَعْلِنَا سُبُلًا وَاضِحَةً غَيْرَ مَحْجُوبَةٍ بِالضِّيقِ إِرَادَةَ اهْتِدَائِهِمْ فِي سَيْرِهِمْ، فَتَكُونُ هَذِهِ مِنَّةٌ أُخْرَى وَهُوَ تَدْبِيرُ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى نَحْوٍ مَا يُلَائِمُ الْإِنْسَانَ وَيُصْلِحُ أَحْوَالَهُ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ مِنَ الْكَلَام الموجه.
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٢]
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢)لَمَّا ذُكِرَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا نَاسَبَ بِحُكْمِ الطِّبَاقِ ذِكْرَ خَلْقِ السَّمَاءِ عَقِبَهُ، إِلَّا أَنَّ حَالَةَ خَلْقِ الْأَرْضِ فِيهَا مَنَافِعٌ لِلنَّاسِ. فَعَقَّبَ ذِكْرَهَا بِالِامْتِنَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣١] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣١].
وَأَمَّا حَالُ خَلْقِ السَّمَاءِ فَلَا تَظْهَرُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ امْتِنَانٌ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي آيَاتِ خَلْقِ السَّمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ فَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ. فَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَّةٌ وَهِيَ حِفْظُ السَّمَاءِ مِنْ أَنْ تَقَعَ بَعْضُ الْأَجْرَامِ الْكَائِنَةِ فِيهَا أَوْ بَعْضُ أَجْزَائِهَا عَلَى الْأَرْضِ فَتُهْلِكَ النَّاسَ أَوْ تُفْسِدَ الْأَرْضَ فَتُعَطِّلَ مَنَافِعَهَا، فَذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِلْمِنَّةِ فِي خِلَالِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنِ الْعِبْرَةِ بِهِ.
وَالسَّقْفُ، حَقِيقَتُهُ: غِطَاءُ فَضَاءِ الْبَيْتِ الْمَوْضُوعُ عَلَى جُدْرَانِهِ، وَلَا يُقَالُ السَّقْفُ عَلَى غِطَاءِ الْخِبَاءِ وَالْخَيْمَةِ. وَأُطْلِقَ السَّقْفُ عَلَى السَّمَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ جَعَلْنَاهَا كَالسَّقْفِ لِأَنَّ السَّمَاءَ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى عَمَدٍ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ [٢].
وَجُمْلَةُ وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَآيَاتُ السَّمَاءِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ السَّمَاءُ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالشُّهُبِ وَسَيْرِهَا وَشُرُوقِهَا وَغُرُوبِهَا وَظُهُورِهَا وَغَيْبَتِهَا، وَابْتِنَاءِ ذَلِكَ عَلَى حِسَابٍ قَوِيمٍ وَتَرْتِيبٍ عَجِيبٍ، وَكُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ
فَلِذَلِكَ سَمَّاهَا آيَاتٍ. وَكَذَلِكَ مَا يَبْدُو لَنَا مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ مِثْلَ السَّحَابِ والبرق والرعد.
[٣٣]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٣]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَمَّا كَانَتْ فِي إِيجَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ هُنَا مَنَافِعٌ لِلنَّاسِ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ بِصَوْغِهَا فِي صِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُعَرَّفَةِ الْجُزْأَيْنِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ إِضَافِيٍّ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ مُشَارَكَةٌ لِلَّهِ فِي خَلْقِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، وَالْعِبَادَةُ شُكْرٌ، لَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ يَشْكُرُونَهَا وَقَدْ جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فَلَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا شَرِيكَةٌ لِلَّهِ فِي خَلْقِ مَا خَلَقَ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِ إِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهَا فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَلِكَوْنِ الْمِنَّةِ وَالْعِبْرَةِ فِي إِيجَادِ نَفْسِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَنَفْسِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، لَا فِي إِيجَادِهَا عَلَى حَالَةٍ خَاصَّةٍ، جِيءَ هُنَا بِفِعْلِ الْخَلْقِ لَا بِفِعْلِ الْجَعْلِ.
وَخَلْقُ اللَّيْل هُوَ جزئي مِنْ جُزْئِيَّاتِ خَلْقِ الظُّلْمَةِ الَّتِي أَوْجَدَ اللَّهُ الْكَائِنَاتِ فِيهَا قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَامِ الَّتِي تُفِيضُ النُّورَ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ، فَإِنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ وَالنُّورَ وُجُودِيٌّ وَهُوَ ضِدُّ الظُّلْمَةِ، وَالْعَدَمُ سَابِقٌ لِلْوُجُودِ فَالْحَالَةُ السَّابِقَةُ لِوُجُودِ الْأَجْرَامِ النَّيِّرَةِ هِيَ الظُّلْمَةُ، وَاللَّيْلُ ظَلَمَةٌ تَرْجِعُ لِجُرْمِ الْأَرْضِ عِنْدَ انْصِرَافِ الْأَشِعَّةِ عَنِ الْأَرْضِ.
وَأَمَّا خَلْقُ النَّهَارِ فَهُوَ بِخَلْقِ الشَّمْسِ وَمَنْ تُوَجُّهِ أَشِعَّتِهَا إِلَى النِّصْفِ الْمُقَابِلِ لِلْأَشِعَّةِ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، فَخَلْقُ النَّهَارِ تَبَعٌ لِخَلْقِ الشَّمْسِ وَخَلْقِ الْأَرْضِ وَمُقَابَلَةِ الْأَرْضِ لِأَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِذِكْرِ خَلْقِ
[٣٣]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٣]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَمَّا كَانَتْ فِي إِيجَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ هُنَا مَنَافِعٌ لِلنَّاسِ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ بِصَوْغِهَا فِي صِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُعَرَّفَةِ الْجُزْأَيْنِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ إِضَافِيٍّ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ مُشَارَكَةٌ لِلَّهِ فِي خَلْقِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، وَالْعِبَادَةُ شُكْرٌ، لَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ يَشْكُرُونَهَا وَقَدْ جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فَلَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا شَرِيكَةٌ لِلَّهِ فِي خَلْقِ مَا خَلَقَ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِ إِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهَا فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَلِكَوْنِ الْمِنَّةِ وَالْعِبْرَةِ فِي إِيجَادِ نَفْسِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَنَفْسِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، لَا فِي إِيجَادِهَا عَلَى حَالَةٍ خَاصَّةٍ، جِيءَ هُنَا بِفِعْلِ الْخَلْقِ لَا بِفِعْلِ الْجَعْلِ.
وَخَلْقُ اللَّيْل هُوَ جزئي مِنْ جُزْئِيَّاتِ خَلْقِ الظُّلْمَةِ الَّتِي أَوْجَدَ اللَّهُ الْكَائِنَاتِ فِيهَا قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَامِ الَّتِي تُفِيضُ النُّورَ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ، فَإِنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ وَالنُّورَ وُجُودِيٌّ وَهُوَ ضِدُّ الظُّلْمَةِ، وَالْعَدَمُ سَابِقٌ لِلْوُجُودِ فَالْحَالَةُ السَّابِقَةُ لِوُجُودِ الْأَجْرَامِ النَّيِّرَةِ هِيَ الظُّلْمَةُ، وَاللَّيْلُ ظَلَمَةٌ تَرْجِعُ لِجُرْمِ الْأَرْضِ عِنْدَ انْصِرَافِ الْأَشِعَّةِ عَنِ الْأَرْضِ.
وَأَمَّا خَلْقُ النَّهَارِ فَهُوَ بِخَلْقِ الشَّمْسِ وَمَنْ تُوَجُّهِ أَشِعَّتِهَا إِلَى النِّصْفِ الْمُقَابِلِ لِلْأَشِعَّةِ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، فَخَلْقُ النَّهَارِ تَبَعٌ لِخَلْقِ الشَّمْسِ وَخَلْقِ الْأَرْضِ وَمُقَابَلَةِ الْأَرْضِ لِأَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِذِكْرِ خَلْقِ
59
الشَّمْسِ عَقِبَ ذِكْرِ خَلْقِ النَّهَارِ مُنَاسَبَةٌ قَوِيَّةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَنْشَأِ خَلْقِ النَّهَارِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَأَمَّا ذِكْرُ خَلْقِ الْقَمَرِ فَلِمُنَاسَبَةِ خَلْقِ الشَّمْسِ، وَلِلتَّذْكِيرِ بِمِنَّةِ إِيجَادِ مَا يُنِيرُ عَلَى النَّاسِ بَعْضَ النُّورِ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ الظُّلْمَةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمِنَنِ.
كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْأَشْيَاءَ الْمُتَضَادَّةَ بِالْحَقَائِقِ أَوْ بِالْأَوْقَاتِ ذِكْرًا مُجْمَلًا فِي بَعْضِهَا الَّذِي هُوَ آيَاتُ السَّمَاءِ، وَمُفَصَّلًا فِي بَعْضٍ آخَرَ وَهُوَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، كَانَ الْمَقَامُ مُثِيرًا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ كَيْفِيَّةِ سَيْرِهَا وَكَيْفَ لَا يَقَعُ لَهَا اصْطِدَامٌ أَوْ يَقَعُ مِنْهَا تَخَلُّفٌ عَنِ الظُّهُورِ فِي وَقْتِهِ الْمَعْلُومِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ كُلَّ الْمَذْكُورَاتِ لَهُ فَضَاءٌ يَسِيرُ
فِيهِ لَا يُلَاقِي فَضَاءَ سَيْرِ غَيْرِهِ.
وَضَمِيرُ يَسْبَحُونَ عَائِدٌ إِلَى عُمُومِ آيَاتِ السَّمَاءِ وَخُصُوصِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَأُجْرِيَ عَلَيْهَا ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الذُّكُورِ بِاعْتِبَارِ تَذْكِيرِ أَسْمَاءِ بَعْضِهَا مِثْلَ الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ.
وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«إِنَّهُ رُوعِيَ فِيهِ وَصَفُهَا بِالسِّبَاحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ فَأُجْرِيَ عَلَيْهَا أَيْضًا ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ، يَعْنِي فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي فَلَكٍ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَرٌ عَنْ كُلٌّ، وكُلٌّ مُبْتَدَأٌ وَتَنْوِينُهُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ تِلْكَ، فَهُوَ مَعْرِفَةٌ تَقْدِيرًا. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ بِأَنْ يُفَادَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَذْكُورَاتِ مُسْتَقِرٌّ
وَأَمَّا ذِكْرُ خَلْقِ الْقَمَرِ فَلِمُنَاسَبَةِ خَلْقِ الشَّمْسِ، وَلِلتَّذْكِيرِ بِمِنَّةِ إِيجَادِ مَا يُنِيرُ عَلَى النَّاسِ بَعْضَ النُّورِ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ الظُّلْمَةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمِنَنِ.
كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْأَشْيَاءَ الْمُتَضَادَّةَ بِالْحَقَائِقِ أَوْ بِالْأَوْقَاتِ ذِكْرًا مُجْمَلًا فِي بَعْضِهَا الَّذِي هُوَ آيَاتُ السَّمَاءِ، وَمُفَصَّلًا فِي بَعْضٍ آخَرَ وَهُوَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، كَانَ الْمَقَامُ مُثِيرًا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ كَيْفِيَّةِ سَيْرِهَا وَكَيْفَ لَا يَقَعُ لَهَا اصْطِدَامٌ أَوْ يَقَعُ مِنْهَا تَخَلُّفٌ عَنِ الظُّهُورِ فِي وَقْتِهِ الْمَعْلُومِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ كُلَّ الْمَذْكُورَاتِ لَهُ فَضَاءٌ يَسِيرُ
فِيهِ لَا يُلَاقِي فَضَاءَ سَيْرِ غَيْرِهِ.
وَضَمِيرُ يَسْبَحُونَ عَائِدٌ إِلَى عُمُومِ آيَاتِ السَّمَاءِ وَخُصُوصِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَأُجْرِيَ عَلَيْهَا ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الذُّكُورِ بِاعْتِبَارِ تَذْكِيرِ أَسْمَاءِ بَعْضِهَا مِثْلَ الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ.
وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«إِنَّهُ رُوعِيَ فِيهِ وَصَفُهَا بِالسِّبَاحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ فَأُجْرِيَ عَلَيْهَا أَيْضًا ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ، يَعْنِي فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي فَلَكٍ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَرٌ عَنْ كُلٌّ، وكُلٌّ مُبْتَدَأٌ وَتَنْوِينُهُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ تِلْكَ، فَهُوَ مَعْرِفَةٌ تَقْدِيرًا. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ بِأَنْ يُفَادَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَذْكُورَاتِ مُسْتَقِرٌّ
60
فِي فَلَكٍ لَا يُصَادِمُ فَلَكَ غَيْرِهِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ لَفْظِ (كُلٌّ) وَمِنْ ظَرْفِيَّةِ (فِي) أَنَّ لَفْظَ فَلَكٍ عَامٌّ، أَيْ لِكُلٍّ مِنْهَا فَلَكُهُ فَهِيَ أَفْلَاكٌ كَثِيرَةٌ.
وَجُمْلَةُ يَسْبَحُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَالسَّبْحُ: مُسْتَعَارٌ لِلسَّيْرِ فِي مُتَّسَعٍ لَا طَرَائِقَ فِيهِ مُتَلَاقِيَةً كَطَرَائِقَ الْأَرْضِ، وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِسِيَرِ الْكَوَاكِبِ فِي الْفَضَاءِ الْعَظِيمِ.
وَالْفَلَكُ فَسَّرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِأَنَّهُ مَدَارُ النُّجُومِ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ وَمِنْهُ أَخَذَهُ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ عَنِ الدَّوَائِرِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي يُضْبَطُ بِهَا سَيْرُ كَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَخَاصَّةً سَيْرُ الشَّمْسِ وَسَيْرَ الْقَمَرِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقُرْآنَ نَقَلَهُ مِنْ فَلَكِ الْبَحْرِ وَهُوَ الْمَوْجُ الْمُسْتَدِيرُ بِتَنْزِيلِ اسْمِ الْجَمْعِ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدِ. وَالْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَلْكَةُ الْمَغْزِلِ- بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ- وَهِيَ خَشَبَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ فِي أَعْلَاهَا مِسْمَارٌ مَثْنِيٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْغَزْلُ وَيُدَارُ لِيَنْفَتِلَ الْغَزْلُ.
وَمِنْ بَدَائِعِ الْإِعْجَازِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ فِيهِ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ فَإِنَّ حُرُوفَهُ تُقْرَأُ مِنْ آخِرِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ كَمَا تُقْرَأُ مَنْ أَوَّلِهَا مَعَ خِفَّةِ التَّرْكِيبِ وَوَفْرَةِ الْفَائِدَةِ وَجَرَيَانِهِ مُجْرَى الْمَثَلِ مِنْ غَيْرِ تَنَافُرٍ وَلَا غَرَابَةٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدّثر: ٣] بِطَرْحِ وَاوِ الْعَطْفِ، وَكِلْتَا الْآيَتَيْنِ بُنِيَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَهَذَا النَّوْعُ سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ «الْمَقْلُوبَ الْمُسْتَوِي» وَجَعَلَهُ مِنْ أَصْنَافِ نَوْعٍ سَمَّاهُ الْقَلْبَ.
وَخُصَّ هَذَا الصِّنْفُ بِمَا يَتَأَتَّى الْقَلْبُ فِي حُرُوف كَلِمَاته. وسمّاه الْحَرِيرِيُّ فِي
«الْمَقَامَاتِ» «مَا لَا يَسْتَحِيلُ بِالِانْعِكَاسِ» وَبَنَى عَلَيْهِ الْمَقَامَةَ السَّادِسَة عشرَة ووضح أَمْثِلَةً نَثْرًا وَنَظْمًا، وَفِي مُعْظَمِ مَا وَضَعَهُ مِنَ
وَجُمْلَةُ يَسْبَحُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَالسَّبْحُ: مُسْتَعَارٌ لِلسَّيْرِ فِي مُتَّسَعٍ لَا طَرَائِقَ فِيهِ مُتَلَاقِيَةً كَطَرَائِقَ الْأَرْضِ، وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِسِيَرِ الْكَوَاكِبِ فِي الْفَضَاءِ الْعَظِيمِ.
وَالْفَلَكُ فَسَّرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِأَنَّهُ مَدَارُ النُّجُومِ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ وَمِنْهُ أَخَذَهُ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ عَنِ الدَّوَائِرِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي يُضْبَطُ بِهَا سَيْرُ كَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَخَاصَّةً سَيْرُ الشَّمْسِ وَسَيْرَ الْقَمَرِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقُرْآنَ نَقَلَهُ مِنْ فَلَكِ الْبَحْرِ وَهُوَ الْمَوْجُ الْمُسْتَدِيرُ بِتَنْزِيلِ اسْمِ الْجَمْعِ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدِ. وَالْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَلْكَةُ الْمَغْزِلِ- بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ- وَهِيَ خَشَبَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ فِي أَعْلَاهَا مِسْمَارٌ مَثْنِيٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْغَزْلُ وَيُدَارُ لِيَنْفَتِلَ الْغَزْلُ.
وَمِنْ بَدَائِعِ الْإِعْجَازِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ فِيهِ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ فَإِنَّ حُرُوفَهُ تُقْرَأُ مِنْ آخِرِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ كَمَا تُقْرَأُ مَنْ أَوَّلِهَا مَعَ خِفَّةِ التَّرْكِيبِ وَوَفْرَةِ الْفَائِدَةِ وَجَرَيَانِهِ مُجْرَى الْمَثَلِ مِنْ غَيْرِ تَنَافُرٍ وَلَا غَرَابَةٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدّثر: ٣] بِطَرْحِ وَاوِ الْعَطْفِ، وَكِلْتَا الْآيَتَيْنِ بُنِيَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَهَذَا النَّوْعُ سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ «الْمَقْلُوبَ الْمُسْتَوِي» وَجَعَلَهُ مِنْ أَصْنَافِ نَوْعٍ سَمَّاهُ الْقَلْبَ.
وَخُصَّ هَذَا الصِّنْفُ بِمَا يَتَأَتَّى الْقَلْبُ فِي حُرُوف كَلِمَاته. وسمّاه الْحَرِيرِيُّ فِي
«الْمَقَامَاتِ» «مَا لَا يَسْتَحِيلُ بِالِانْعِكَاسِ» وَبَنَى عَلَيْهِ الْمَقَامَةَ السَّادِسَة عشرَة ووضح أَمْثِلَةً نَثْرًا وَنَظْمًا، وَفِي مُعْظَمِ مَا وَضَعَهُ مِنَ
61
الْأَمْثِلَةِ تَكَلُّفٌ وَتَنَافُرٌ وَغَرَابَةٌ، وَكَذَلِكَ مَا وَضَعَهُ غَيْرُهُ عَلَى تَفَاوُتِهَا فِي ذَلِكَ وَالشَّوَاهِدُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْبَدِيعِ فَعَلَيْكَ بِتَتَبُّعِهَا، وَكُلَّمَا زَادَتْ طُولًا زَادَتْ ثِقَلًا.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» : وَهُوَ نَوْعٌ صَعْبُ الْمَسْلَكِ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ. قُلْتُ: وَلَمْ يَذْكُرُوا مِنْهُ شَيْئًا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَهُوَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ.
ذَكَرَ أَهْلُ الْأَدَبِ أَنَّ الْقَاضِي الْفَاضِلَ الْبَيْسَانِيَّ زَارَ الْعِمَادَ الْكَاتِبَ فَلَمَّا رَكِبَ لِيَنْصَرِفَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ الْعِمَادُ: «سِرْ فَلَا كَبَا بِكَ الْفُرْسُ» فَفَطِنَ الْقَاضِي أَنَّ فِيهِ مُحَسِّنَ الْقَلْبِ فَأَجَابَهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ: «دَامَ عُلَا الْعِمَادِ» وَفِيهِ محسن الْقلب.
[٣٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٤]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤)
عُنِيَتِ الْآيَاتُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ بِاسْتِقْصَاءِ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ بِقَوْلِهِمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣]، وَقَوْلُهُمْ: أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الْأَنْبِيَاء: ٥] وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَمَانِيهِمْ لَمَّا أَعْيَاهُمُ اخْتِلَاقُ الْمَطَاعِنِ أَنْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَرْجُونَهُ أَوْ يُدَبِّرُونَهُ قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ فِي سُورَةِ الطُّورِ [٣٠]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ فِي [الْأَنْفَالِ: ٣٠].
وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ فَلَمَّا كَانَ تَمَنِّيهِمْ مَوْتَهَ وَتَرَبُّصُهُمْ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» : وَهُوَ نَوْعٌ صَعْبُ الْمَسْلَكِ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ. قُلْتُ: وَلَمْ يَذْكُرُوا مِنْهُ شَيْئًا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَهُوَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ.
ذَكَرَ أَهْلُ الْأَدَبِ أَنَّ الْقَاضِي الْفَاضِلَ الْبَيْسَانِيَّ زَارَ الْعِمَادَ الْكَاتِبَ فَلَمَّا رَكِبَ لِيَنْصَرِفَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ الْعِمَادُ: «سِرْ فَلَا كَبَا بِكَ الْفُرْسُ» فَفَطِنَ الْقَاضِي أَنَّ فِيهِ مُحَسِّنَ الْقَلْبِ فَأَجَابَهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ: «دَامَ عُلَا الْعِمَادِ» وَفِيهِ محسن الْقلب.
[٣٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٤]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤)
عُنِيَتِ الْآيَاتُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ بِاسْتِقْصَاءِ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ بِقَوْلِهِمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣]، وَقَوْلُهُمْ: أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الْأَنْبِيَاء: ٥] وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَمَانِيهِمْ لَمَّا أَعْيَاهُمُ اخْتِلَاقُ الْمَطَاعِنِ أَنْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَرْجُونَهُ أَوْ يُدَبِّرُونَهُ قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ فِي سُورَةِ الطُّورِ [٣٠]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ فِي [الْأَنْفَالِ: ٣٠].
وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ فَلَمَّا كَانَ تَمَنِّيهِمْ مَوْتَهَ وَتَرَبُّصُهُمْ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ
يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِينَ تَمَنَّوْا ذَلِكَ وَتَرَبَّصُوا بِهِ كَأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّهُمْ يَمُوتُونَ بَعْدَهُ فَتَتِمُّ شَمَاتَتُهُمْ، أَوْ كَأَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ أَبَدًا فَلَا يَشْمَتُ بِهِمْ أَحَدٌ، وُجِّهَ إِلَيْهِمِ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ خَالِدُونَ.
وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُمُ الْإِسْلَامَ مِمَّنْ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ سَيَمُوتُونَ قَبْلَ موت النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلَا يَشْمَتُونَ بِهِ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى أهلك الله رُؤُوس الَّذِينَ عَانَدُوهُ وَهَدَى بَقِيَّتَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.
فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ طَرِيقَةُ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ أَنَّكَ تَمُوتُ كَمَا قَالُوا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ وَهُمْ بِحَالِ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فَأَيْقَنُوا
بِأَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِكَ رَيْبَ الْمَنُونِ مِنْ فَرْطِ غُرُورِهِمْ، فَالتَّفْرِيعُ كَانَ عَلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ مَا هُمْ بِخَالِدِينَ حَتَّى يُوقِنُوا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَوْتَكَ. وَفِي الْإِنْكَارِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ إِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَرَى مَوْتَهُ مِنْهُم أحد.
[٣٥]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٥]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)
جُمَلٌ مُعْتَرِضَاتٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ.
وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَهِيَ وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الْأَنْبِيَاء: ٣٤]. وَوَجْهُ إِعَادَتِهَا اخْتِلَافُ الْقَصْدِ فَإِنَّ الْأُولَى لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهَذِهِ لِتَعْلِيمِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَاسْتُعِيرَ الذَّوْقُ لِمُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِيِّ لِأَنَّ الذَّوْقَ إِحْسَاسٌ بِاللِّسَانِ يُقَارِنُهُ ازْدِرَادٌ إِلَى بِالْبَاطِنِ.
وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُمُ الْإِسْلَامَ مِمَّنْ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ سَيَمُوتُونَ قَبْلَ موت النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلَا يَشْمَتُونَ بِهِ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى أهلك الله رُؤُوس الَّذِينَ عَانَدُوهُ وَهَدَى بَقِيَّتَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.
فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ طَرِيقَةُ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ أَنَّكَ تَمُوتُ كَمَا قَالُوا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ وَهُمْ بِحَالِ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فَأَيْقَنُوا
بِأَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِكَ رَيْبَ الْمَنُونِ مِنْ فَرْطِ غُرُورِهِمْ، فَالتَّفْرِيعُ كَانَ عَلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ مَا هُمْ بِخَالِدِينَ حَتَّى يُوقِنُوا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَوْتَكَ. وَفِي الْإِنْكَارِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ إِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَرَى مَوْتَهُ مِنْهُم أحد.
[٣٥]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٥]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)
جُمَلٌ مُعْتَرِضَاتٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ.
وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَهِيَ وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الْأَنْبِيَاء: ٣٤]. وَوَجْهُ إِعَادَتِهَا اخْتِلَافُ الْقَصْدِ فَإِنَّ الْأُولَى لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهَذِهِ لِتَعْلِيمِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَاسْتُعِيرَ الذَّوْقُ لِمُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِيِّ لِأَنَّ الذَّوْقَ إِحْسَاسٌ بِاللِّسَانِ يُقَارِنُهُ ازْدِرَادٌ إِلَى بِالْبَاطِنِ.
63
وَذَوْقُ الْمَوْتِ ذَوْقُ آلَامِ مُقَدِّمَاتِهِ وَأَمَّا بَعْدَ حُصُولِهِ فَلَا إِحْسَاسَ لِلْجَسَدِ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ النُّفُوسُ الْحَالَّةُ فِي الْأَجْسَادِ كَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّ إِطْلَاقَ النُّفُوسِ عَلَيْهِمْ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ بَلْ هُوَ اصْطِلَاحُ الْحُكَمَاءِ وَهُوَ لَا يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ إِلَّا مُقَيَّدًا بِوَصْفِ الْمُجَرَّدَاتِ، أَيِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي الْأَجْسَادِ وَلَا تُلَابِسُ الْمَادَّةَ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَمُشَاكَلَةٌ: إِمَّا لَفْظِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١١٦]. وَإِمَّا تَقْدِيرِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ [٢٨].
وَجُمْلَةُ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ ذَوْقَ الْمَوْتِ يَقْتَضِي سَبْقَ الْحَيَاةِ، وَالْحَيَاةُ مُدَّةٌ يَعْتَرِي فِيهَا الْخَيْرُ وَالشَّرُّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ، فَعَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَوْتَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ حَتَّى لَا يَحْسَبُوا أَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَلَّدٌ.
وَقَدْ عَرَضَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَارِضٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ يَوْمَ انْتِقَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى: «لِيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللَّهِ فَيُقَطِّعَ أَيْدِيَ قَوْمٍ وَأَرْجُلَهُمْ» حَتَّى حَضَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَثَبَّتَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْهَوْلِ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَّلَهُ وَقَالَ: «طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ». وَقَدْ قَالَ عَبَدُ بَنِي الْحَسْحَاسِ وَأَجَادَ:
وَأَعْقَبَ اللَّهُ ذَلِكَ بِتَعْلِيمِهِمْ أَنَّ الْحَيَاةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى خَيْرٍ وَشَرٍّ وَأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ ابْتِلَاءٍ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ النُّفُوسُ الْحَالَّةُ فِي الْأَجْسَادِ كَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّ إِطْلَاقَ النُّفُوسِ عَلَيْهِمْ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ بَلْ هُوَ اصْطِلَاحُ الْحُكَمَاءِ وَهُوَ لَا يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ إِلَّا مُقَيَّدًا بِوَصْفِ الْمُجَرَّدَاتِ، أَيِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي الْأَجْسَادِ وَلَا تُلَابِسُ الْمَادَّةَ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَمُشَاكَلَةٌ: إِمَّا لَفْظِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١١٦]. وَإِمَّا تَقْدِيرِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ [٢٨].
وَجُمْلَةُ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ ذَوْقَ الْمَوْتِ يَقْتَضِي سَبْقَ الْحَيَاةِ، وَالْحَيَاةُ مُدَّةٌ يَعْتَرِي فِيهَا الْخَيْرُ وَالشَّرُّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ، فَعَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَوْتَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ حَتَّى لَا يَحْسَبُوا أَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَلَّدٌ.
وَقَدْ عَرَضَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَارِضٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ يَوْمَ انْتِقَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى: «لِيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللَّهِ فَيُقَطِّعَ أَيْدِيَ قَوْمٍ وَأَرْجُلَهُمْ» حَتَّى حَضَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَثَبَّتَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْهَوْلِ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَّلَهُ وَقَالَ: «طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ». وَقَدْ قَالَ عَبَدُ بَنِي الْحَسْحَاسِ وَأَجَادَ:
رَأَيْتُ الْمَنَايَا لَمْ يَدَعْنَ مُحَمَّدًا | وَلَا بَاقِيًا إِلَّا لَهُ الْمَوْتُ مَرْصَدَا |
64
وَالْبَلْوَى: الِاخْتِبَارُ. وَتَقَدَّمُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَإِطْلَاقُ الْبَلْوَى عَلَى مَا يَبْدُو مِنَ النَّاسِ مِنْ تَجَلُّدٍ وَوَهْنٍ وَشُكْرٍ وَكُفْرٍ، عَلَى مَا يَنَالُهُمْ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ مِمَّا بَنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نِظَامَ الْحَيَاةِ، إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ، لِأَنَّ ابْتِنَاءَ النِّظَامِ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي تَصَرُّفِهِمْ فِيهِ وَتَلَقِّيهِمْ إِيَّاهُ. أَشْبَهَ اخْتِبَارَ الْمُخْتَبِرِ لِيَعْلَمَ أَحْوَالَ مَنْ يَخْتَبِرُهُمْ.
وفِتْنَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلِقَةِ تَوْكِيدًا لِفِعْلِ نَبْلُوكُمْ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ تُرَادِفُ الْبَلْوَى.
وَجُمْلَةُ وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ إِثْبَاتٌ لِلْبَعْثِ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ وَالنَّشْرَ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَإِفَادَةِ تَقَوِّي الْخَبَرِ. وَأَمَّا احْتِمَالُ الْقَصْرِ فَلَا يَقُومُ هُنَا إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِاعْتِقَادٍ لِلْمُخَاطَبِينَ كَيْفَمَا افترضتهم.
[٣٦]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٦]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦)
هَذَا وَصْفٌ آخَرُ لِمَا يُؤْذِي بِهِ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَرَوْنَهُ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ أَذَاهُمْ إِيَّاهُ فِي مَغِيبِهِ، فَإِذَا رَأَوْهُ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ.
وَالْهُزُؤُ- بِضَمِّ الْهَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ- مَصْدَرُ هَزَأَ بِهِ، إِذَا جَعَلَهُ لِلْعَبَثِ وَالتَّفَكُّهِ. وَمعنى اتّخاذه هزؤا أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مُسْتَهْزَأً بِهِ فَهَذَا مِنَ الْإِخْبَارِ
وفِتْنَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلِقَةِ تَوْكِيدًا لِفِعْلِ نَبْلُوكُمْ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ تُرَادِفُ الْبَلْوَى.
وَجُمْلَةُ وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ إِثْبَاتٌ لِلْبَعْثِ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ وَالنَّشْرَ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَإِفَادَةِ تَقَوِّي الْخَبَرِ. وَأَمَّا احْتِمَالُ الْقَصْرِ فَلَا يَقُومُ هُنَا إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِاعْتِقَادٍ لِلْمُخَاطَبِينَ كَيْفَمَا افترضتهم.
[٣٦]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٦]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦)
هَذَا وَصْفٌ آخَرُ لِمَا يُؤْذِي بِهِ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَرَوْنَهُ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ أَذَاهُمْ إِيَّاهُ فِي مَغِيبِهِ، فَإِذَا رَأَوْهُ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ.
وَالْهُزُؤُ- بِضَمِّ الْهَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ- مَصْدَرُ هَزَأَ بِهِ، إِذَا جَعَلَهُ لِلْعَبَثِ وَالتَّفَكُّهِ. وَمعنى اتّخاذه هزؤا أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مُسْتَهْزَأً بِهِ فَهَذَا مِنَ الْإِخْبَارِ
65
بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ [الْكَهْفِ: ١٠٦] قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً.
وَجُمْلَةُ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً فَهِيَ فِي مَعْنَى قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ يَكُونُ بِالْكَلَامِ. وَقَدِ انْحَصَرَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ دُونَ أَنْ يَخْلِطُوهُ بِحَدِيثٍ آخَرَ فِي شَأْنِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ، بِقَرِينَةِ الِاسْتِهْزَاءِ.
وَمَعْنَى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ يَذْكُرُهُمْ بِسُوءٍ، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا يَذْكُرُ بِهِ
آلِهَتَهُمْ مِمَّا يَسُوءُهُمْ، فَإِنَّ الذِّكْرَ يَكُونُ بِخَيْرٍ وَبِشَرٍّ فَإِذَا لَمْ يُصَرَّحْ بِمُتَعَلِّقِهِ يُصَارُ إِلَى الْقَرِينَةِ كَمَا هُنَا وكما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٦٠]. وَكَلَامُهُمْ مَسُوقٌ مَسَاقَ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِجُمْلَةِ الْحَالِ وَهِيَ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ، أَيْ يَغْضَبُونَ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ آلِهَتُهُمْ بِمَا هُوَ كَشْفٌ لِكُنْهِهَا الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ عَن ذكر الرحمان الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يَذْكُرُوهُ. فَالذِّكْرُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِي الذِّكْرِ بِالثَّنَاءِ وَالتَّمْجِيدِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ المُرَاد بِذكر الرحمان هُنَا الْقُرْآنُ، أَيِ الذِّكْرُ الْوَارِد من الرحمان. وَالْمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرٍ إِلَى ذِكْرٍ. وَمَعْنَى كفرهم بِذكر الرحمان إِنْكَارُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ آيَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥]. وَأَيْضًا كُفْرُهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ.
وَعَبَّرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بَاسِمِ الرَّحْمنِ تَوَرُّكًا عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا يَأْبَوْنَ أَن يكون الرحمان اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً
فِي سُورَةِ [الْفُرْقَانِ: ٦٠].
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً.
وَجُمْلَةُ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً فَهِيَ فِي مَعْنَى قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ يَكُونُ بِالْكَلَامِ. وَقَدِ انْحَصَرَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ دُونَ أَنْ يَخْلِطُوهُ بِحَدِيثٍ آخَرَ فِي شَأْنِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ، بِقَرِينَةِ الِاسْتِهْزَاءِ.
وَمَعْنَى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ يَذْكُرُهُمْ بِسُوءٍ، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا يَذْكُرُ بِهِ
آلِهَتَهُمْ مِمَّا يَسُوءُهُمْ، فَإِنَّ الذِّكْرَ يَكُونُ بِخَيْرٍ وَبِشَرٍّ فَإِذَا لَمْ يُصَرَّحْ بِمُتَعَلِّقِهِ يُصَارُ إِلَى الْقَرِينَةِ كَمَا هُنَا وكما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٦٠]. وَكَلَامُهُمْ مَسُوقٌ مَسَاقَ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِجُمْلَةِ الْحَالِ وَهِيَ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ، أَيْ يَغْضَبُونَ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ آلِهَتُهُمْ بِمَا هُوَ كَشْفٌ لِكُنْهِهَا الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ عَن ذكر الرحمان الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يَذْكُرُوهُ. فَالذِّكْرُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِي الذِّكْرِ بِالثَّنَاءِ وَالتَّمْجِيدِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ المُرَاد بِذكر الرحمان هُنَا الْقُرْآنُ، أَيِ الذِّكْرُ الْوَارِد من الرحمان. وَالْمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرٍ إِلَى ذِكْرٍ. وَمَعْنَى كفرهم بِذكر الرحمان إِنْكَارُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ آيَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥]. وَأَيْضًا كُفْرُهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ.
وَعَبَّرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بَاسِمِ الرَّحْمنِ تَوَرُّكًا عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا يَأْبَوْنَ أَن يكون الرحمان اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً
فِي سُورَةِ [الْفُرْقَانِ: ٦٠].
66
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمْ كافِرُونَ يَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ الْحَصْرَ، أَيْ هُمْ كَافِرُونَ بِالْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ بَاقُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ مَعَ تَوَفُّرِ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ تَحْقِيقًا لِدَوَامِ كُفْرِهِمْ مَعَ ظُهُورِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُقْلِعَهُمْ عَن الْكفْر.
[٣٧]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٧]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧)
جُمْلَةُ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْبِيَاء:
٣٦] وَبَيْنَ جُمْلَةِ سَأُرِيكُمْ آياتِي، جُعِلَتْ مُقَدِّمَةً لِجُمْلَةِ سَأُرِيكُمْ آياتِي. أَمَّا جُمْلَةُ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: ٣٦] وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [الْأَنْبِيَاء: ٣٨]، لِأَنَّ قَوْلَهَ تَعَالَى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: ٣٦] يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ تَسَاؤُلًا عَنْ مَدَى إِمْهَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَاءَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي تَحْكِي أَقْوَالَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا. فَالْخِطَابُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَبْطِئُونَ حُلُولَ الْوَعِيدِ الَّذِي توعد فَالله تَعَالَى بِهِ الْمُكَذِّبِينَ.
وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ ذِكْرَ اسْتِهْزَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهَيِّجُ حَنَقَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فَيَوَدُّوا أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُكَذِّبِينَ الْوَعِيدُ عَاجِلًا فَخُوطِبُوا بِالتَّرَيُّثِ وَأَنْ لَا يَسْتَعْجِلُوا رَبَّهُمْ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فِي تَوْقِيتِ حُلُولِ الْوَعِيدِ وَمَا فِي تَأْخِيرِ نُزُولِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ لِلدِّينِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ تَحْقِيقًا لِدَوَامِ كُفْرِهِمْ مَعَ ظُهُورِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُقْلِعَهُمْ عَن الْكفْر.
[٣٧]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٧]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧)
جُمْلَةُ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْبِيَاء:
٣٦] وَبَيْنَ جُمْلَةِ سَأُرِيكُمْ آياتِي، جُعِلَتْ مُقَدِّمَةً لِجُمْلَةِ سَأُرِيكُمْ آياتِي. أَمَّا جُمْلَةُ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: ٣٦] وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [الْأَنْبِيَاء: ٣٨]، لِأَنَّ قَوْلَهَ تَعَالَى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: ٣٦] يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ تَسَاؤُلًا عَنْ مَدَى إِمْهَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَاءَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي تَحْكِي أَقْوَالَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا. فَالْخِطَابُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَبْطِئُونَ حُلُولَ الْوَعِيدِ الَّذِي توعد فَالله تَعَالَى بِهِ الْمُكَذِّبِينَ.
وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ ذِكْرَ اسْتِهْزَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهَيِّجُ حَنَقَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فَيَوَدُّوا أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُكَذِّبِينَ الْوَعِيدُ عَاجِلًا فَخُوطِبُوا بِالتَّرَيُّثِ وَأَنْ لَا يَسْتَعْجِلُوا رَبَّهُمْ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فِي تَوْقِيتِ حُلُولِ الْوَعِيدِ وَمَا فِي تَأْخِيرِ نُزُولِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ لِلدِّينِ.
67
وَأَهَمُّهَا مَصْلَحَةُ إِمْهَالِ الْقَوْمِ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ فِي الْإِسْلَامِ. وَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى تَمْهِيدًا لِلثَّانِيَةِ.
وَالْعَجَلُ: السُّرْعَةُ. وَخَلْقُ الْإِنْسَانَ مِنْهُ اسْتِعَارَةٌ لِتَمَكُّنِ هَذَا الْوَصْفِ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. شُبِّهَتْ شِدَّةُ مُلَازمَة الْوَصْف بِكَوْنِهِ مَادَّة لتكوين مَوْصُوفَةً، لِأَنَّ ضَعْفَ صِفَةِ الصَّبْرِ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ مُقْتَضَى التَّفْكِيرِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهِيَةِ. فَإِذَا فَكَّرَ الْعَقْلُ فِي شَيْءٍ مَحْبُوبٍ اسْتَعْجَلَ حُصُولَهُ بِدَاعِي الْمَحَبَّةِ، وَإِذَا فَكَّرَ فِي شَيْءٍ مَكْرُوهٍ اسْتَعْجَلَ إِزَالَتَهُ بِدَاعِي الْكَرَاهِيَةِ، وَلَا تَخْلُو أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ عَنْ هَذَيْنِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا بِالطَّبْعِ فَكَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْعَجَلَةِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الْإِسْرَاء: ١١] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [المعارج: ١٩]. ثُمَّ إِنَّ أَفْرَادَ النَّاسِ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الِاسْتِعْجَالِ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي غور النّظر والفكر وَلَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَخْلُونَ عَنْهُ. وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْعَجَلَ بِالطِّينِ وَزَعَمَ أَنَّهَا كَلِمَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ فَقَدْ أَبْعَدَ وَمَا أَسْعَدَ.
وَجُمْلَةُ سَأُرِيكُمْ آياتِي هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ. وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَالْمَعْنَى: وَعْدٌ بِأَنَّهُمْ سَيَرَوْنَ آيَاتِ اللَّهِ فِي نَصْرِ الدِّينِ، وَذَلِكَ بِمَا حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ من النَّصْر وَهلك أيمة الشِّرْكِ وَمَا حَصَلَ بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَ النَّصْرُ فِيهَا عَاقِبَةَ الْمُسْلِمِينَ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْوَعْدِ نَهْيٌ عَنْ طَلَبِ التَّعْجِيلِ، أَيْ عَلَيْكُمْ أَنْ تَكِلُوا ذَلِكَ إِلَى مَا يُوَقِّتُهُ اللَّهُ وَيُؤَجِّلُهُ، وَلِكُلِّ أَجَلِ كِتَابٌ. فَهُوَ نَهْيٌ عَنِ التَّوَغُّلِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ وَعَنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الشَّكِّ فِي الْوَعِيدِ.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلِمَةِ تَسْتَعْجِلُونِ تَخْفِيفًا مَعَ بَقَاءِ حَرَكَتِهَا فَإِذَا وُقِفَ عَلَيْهِ حُذِفَتِ الْحَرَكَةُ من النُّون.
وَالْعَجَلُ: السُّرْعَةُ. وَخَلْقُ الْإِنْسَانَ مِنْهُ اسْتِعَارَةٌ لِتَمَكُّنِ هَذَا الْوَصْفِ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. شُبِّهَتْ شِدَّةُ مُلَازمَة الْوَصْف بِكَوْنِهِ مَادَّة لتكوين مَوْصُوفَةً، لِأَنَّ ضَعْفَ صِفَةِ الصَّبْرِ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ مُقْتَضَى التَّفْكِيرِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهِيَةِ. فَإِذَا فَكَّرَ الْعَقْلُ فِي شَيْءٍ مَحْبُوبٍ اسْتَعْجَلَ حُصُولَهُ بِدَاعِي الْمَحَبَّةِ، وَإِذَا فَكَّرَ فِي شَيْءٍ مَكْرُوهٍ اسْتَعْجَلَ إِزَالَتَهُ بِدَاعِي الْكَرَاهِيَةِ، وَلَا تَخْلُو أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ عَنْ هَذَيْنِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا بِالطَّبْعِ فَكَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْعَجَلَةِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الْإِسْرَاء: ١١] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [المعارج: ١٩]. ثُمَّ إِنَّ أَفْرَادَ النَّاسِ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الِاسْتِعْجَالِ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي غور النّظر والفكر وَلَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَخْلُونَ عَنْهُ. وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْعَجَلَ بِالطِّينِ وَزَعَمَ أَنَّهَا كَلِمَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ فَقَدْ أَبْعَدَ وَمَا أَسْعَدَ.
وَجُمْلَةُ سَأُرِيكُمْ آياتِي هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ. وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَالْمَعْنَى: وَعْدٌ بِأَنَّهُمْ سَيَرَوْنَ آيَاتِ اللَّهِ فِي نَصْرِ الدِّينِ، وَذَلِكَ بِمَا حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ من النَّصْر وَهلك أيمة الشِّرْكِ وَمَا حَصَلَ بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَ النَّصْرُ فِيهَا عَاقِبَةَ الْمُسْلِمِينَ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْوَعْدِ نَهْيٌ عَنْ طَلَبِ التَّعْجِيلِ، أَيْ عَلَيْكُمْ أَنْ تَكِلُوا ذَلِكَ إِلَى مَا يُوَقِّتُهُ اللَّهُ وَيُؤَجِّلُهُ، وَلِكُلِّ أَجَلِ كِتَابٌ. فَهُوَ نَهْيٌ عَنِ التَّوَغُّلِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ وَعَنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الشَّكِّ فِي الْوَعِيدِ.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلِمَةِ تَسْتَعْجِلُونِ تَخْفِيفًا مَعَ بَقَاءِ حَرَكَتِهَا فَإِذَا وُقِفَ عَلَيْهِ حُذِفَتِ الْحَرَكَةُ من النُّون.
68
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٤٠]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)نَشَأَ عَنْ ذِكْرِ اسْتِبْطَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعْدَ اللَّهِ بِنَصْرِهِمْ عَلَى الْكَافِرِينَ ذِكْرُ نَظِيرِهِ فِي جَانِبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ تَسَاءَلُوا عَنْ وَقْتِ هَذَا الْوَعْدِ تَهَكُّمًا، فَنَشَأَ بِهِ الْقَوْلَانِ وَاخْتَلَفَ الْحَالَانِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ سَأُرِيكُمْ آياتِي [الْأَنْبِيَاء:
٣٧]. وَهَذَا مُعَبِّرٌ عَنْ مَقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ مَقَالَاتِهِمُ الَّتِي يَتَلَقَّوْنَ بِهَا دَعْوَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً وَعِنَادًا.
وَذِكْرُ مَقَالَتِهِمْ هَذِه هُنَا مُنَاسِب لِاسْتِبْطَاءِ الْمُسْلِمِينَ النَّصْرَ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ مُتَّصِلَةً بِجُمْلَةِ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: ٣٦] فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا.
وَخَاطَبُوا بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَعْجِلُونَ وَعِيدَ الْمُشْرِكِينَ.
وَاسْتِفْهَامُهُمُ اسْتَعْمَلُوهُ فِي التَّهَكُّمِ مَجَازًا مُرْسَلًا بِقَرِينَةِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُوقِنِينَ بِعَدَمِ حُصُولِ الْوَعْدِ.
وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ نَصْرِ رَسُولِهِ وَاسْتِئْصَالِ مُعَانِدِيهِ. وَإِلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظِيرِهَا يَنْظُرُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ وَقَفَ عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي دُفِنَتْ فِيهِ جُثَثُ الْمُشْرِكِينَ وَنَادَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الْأَعْرَاف: ٤٤]
69
أَيْ مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا مِنَ النَّصْرِ وَمَا وَعَدَكُمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَعَذَابِ النَّارِ.
وَجُمْلَةُ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْبَيَانِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَرَقَّبُونَ مِنْ حِكَايَةِ جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. مَاذَا يَكُونُ جَوَابُهُمْ عَنْ تَهَكُّمِهِمْ.
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِهِ.
وَجَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَمَّا كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِرَسُولِكُمْ وَبِدِينِكُمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: ٣٦]. وَحَذْفُ جَوَابِ (لَوْ) كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَنُكْتَتُهُ تَهْوِيلُ جِنْسِهِ فَتَذْهَبُ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ.
وَ (حِينَ) هُنَا: اسْم زمَان مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ الْمُتَصَرِّفَةِ، أَيْ لَوْ عَلِمُوا وَقْتَهُ وَأَيْقَنُوا بِحُصُولِهِ لَمَا كَذَّبُوا بِهِ وَبِمَنْ أَنْذَرَهُمْ بِهِ وَلَمَا عَدُّوا تَأْخِيرَهُ دَلِيلًا عَلَى تَكْذِيبِهِ.
وَجُمْلَةُ لَا يَكُفُّونَ مُضَافٌ إِلَيْهَا (حِينَ). وَضَمِيرُ يَكُفُّونَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا بَدَا لِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ فَمُعَادُ الضَّمِيرِ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، وَنَظَائِرُ هَذَا الْمُعَادِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَمَعْنَى الْكَفِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: الْإِمْسَاكُ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ، أَيْ حِينَ لَا يُمْسِكُ الْمَلَائِكَةُ اللَّفْحَ بِالنَّارِ عَنْ وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ. وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: ٥٠] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ فَإِنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِسِيَاطٍ مِنْ نَارٍ وَيَكُونُ مَا هُنَا إنذار بِمَا سَيَلْقَوْنَهُ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ حِكَايَةٌ لِمَا لَقُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَجُمْلَةُ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْبَيَانِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَرَقَّبُونَ مِنْ حِكَايَةِ جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. مَاذَا يَكُونُ جَوَابُهُمْ عَنْ تَهَكُّمِهِمْ.
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِهِ.
وَجَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَمَّا كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِرَسُولِكُمْ وَبِدِينِكُمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: ٣٦]. وَحَذْفُ جَوَابِ (لَوْ) كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَنُكْتَتُهُ تَهْوِيلُ جِنْسِهِ فَتَذْهَبُ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ.
وَ (حِينَ) هُنَا: اسْم زمَان مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ الْمُتَصَرِّفَةِ، أَيْ لَوْ عَلِمُوا وَقْتَهُ وَأَيْقَنُوا بِحُصُولِهِ لَمَا كَذَّبُوا بِهِ وَبِمَنْ أَنْذَرَهُمْ بِهِ وَلَمَا عَدُّوا تَأْخِيرَهُ دَلِيلًا عَلَى تَكْذِيبِهِ.
وَجُمْلَةُ لَا يَكُفُّونَ مُضَافٌ إِلَيْهَا (حِينَ). وَضَمِيرُ يَكُفُّونَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا بَدَا لِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ فَمُعَادُ الضَّمِيرِ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، وَنَظَائِرُ هَذَا الْمُعَادِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَمَعْنَى الْكَفِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: الْإِمْسَاكُ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ، أَيْ حِينَ لَا يُمْسِكُ الْمَلَائِكَةُ اللَّفْحَ بِالنَّارِ عَنْ وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ. وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: ٥٠] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ فَإِنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِسِيَاطٍ مِنْ نَارٍ وَيَكُونُ مَا هُنَا إنذار بِمَا سَيَلْقَوْنَهُ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ حِكَايَةٌ لِمَا لَقُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ.
70
وَذِكْرُ الْوُجُوهَ وَالْأَدْبَارَ لِلتَّنْكِيلِ بِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ لِأَنَّ الْوُجُوهَ أَعَزُّ الْأَعْضَاءِ عَلَى النَّاسِ كَمَا قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
وَلِأَنَّ الْأَدْبَارَ يَأْنَفُ النَّاسُ مِنْ ضَرْبِهَا لِأَنَّ ضربهَا إهانة وهزي، وَيُسَمَّى الْكَسْعَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ يَكُفُّونَ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْكَفُّ بِمَعْنَى الدَّرْءِ وَالسَّتْرِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، أَيْ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَدْفَعُوا النَّارَ عَنْ وُجُوهِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ. أَيْ حِينَ تُحِيطُ بِهِمُ النَّارُ مُوَاجَهَةً وَمُدَابَرَةً. وَذِكْرُ الظُّهُورِ بَعْدَ ذِكْرِ الْوُجُوهِ عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِرَاسٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُمْ قَدْ يَكُفُّونَهَا عَنْ ظُهُورِهِمْ إِنْ لَمْ تَشْتَغِلْ أَيْدِيهِمْ بِكَفِّهَا عَنْ وُجُوهِهِمْ.
وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَنْ لَدَيْنَا كُتُبُهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ مَعْنًى، لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ مُنَاسَبَةً تَامَّةً لِلْكَافِرِينَ الْحَاضِرِينَ الْمُقَرَّعِينَ وَلِتَكْذِيبِهِمْ بِالْوَعِيدِ بِالْهَلَاكِ فِي قَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى سَأُرِيكُمْ آياتِي [الْأَنْبِيَاء: ٣٧] كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ عَطْفٌ عَلَى لَا يَكُفُّونَ أَيْ لَا يَكُفُّ عَنْهُمْ نَفْحُ النَّارِ، أَوْ لَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ نَفْحَ النَّارِ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ فَهُمْ وَاقِعُونَ فِي وَرْطَةِ الْعَذَابِ. وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ سَتَحُلُّ بِهِمْ هَزِيمَةُ بَدْرٍ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَلَاصًا مِنْهَا وَلَا يَجِدُونَ نَصِيرًا مِنْ أَحْلَافِهِمْ.
وَ (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ تَهْوِيلِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ، إِلَى التَّهْدِيدِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَحِلُّ بِهِمْ بَغْتَةً وَفَجْأَةً، وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى النُّفُوسِ لِعَدَمِ التَّهَيُّؤِ لَهُ وَالتَّوَطُّنِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ كُثَيِّرٌ:
نُعَرِّضُ لِلسُّيُوفِ إِذَا الْتَقَيْنَا | وُجُوهًا لَا تُعَرَّضُ لِلِّطَامِ |
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ يَكُفُّونَ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْكَفُّ بِمَعْنَى الدَّرْءِ وَالسَّتْرِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، أَيْ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَدْفَعُوا النَّارَ عَنْ وُجُوهِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ. أَيْ حِينَ تُحِيطُ بِهِمُ النَّارُ مُوَاجَهَةً وَمُدَابَرَةً. وَذِكْرُ الظُّهُورِ بَعْدَ ذِكْرِ الْوُجُوهِ عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِرَاسٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُمْ قَدْ يَكُفُّونَهَا عَنْ ظُهُورِهِمْ إِنْ لَمْ تَشْتَغِلْ أَيْدِيهِمْ بِكَفِّهَا عَنْ وُجُوهِهِمْ.
وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَنْ لَدَيْنَا كُتُبُهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ مَعْنًى، لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ مُنَاسَبَةً تَامَّةً لِلْكَافِرِينَ الْحَاضِرِينَ الْمُقَرَّعِينَ وَلِتَكْذِيبِهِمْ بِالْوَعِيدِ بِالْهَلَاكِ فِي قَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى سَأُرِيكُمْ آياتِي [الْأَنْبِيَاء: ٣٧] كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ عَطْفٌ عَلَى لَا يَكُفُّونَ أَيْ لَا يَكُفُّ عَنْهُمْ نَفْحُ النَّارِ، أَوْ لَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ نَفْحَ النَّارِ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ فَهُمْ وَاقِعُونَ فِي وَرْطَةِ الْعَذَابِ. وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ سَتَحُلُّ بِهِمْ هَزِيمَةُ بَدْرٍ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَلَاصًا مِنْهَا وَلَا يَجِدُونَ نَصِيرًا مِنْ أَحْلَافِهِمْ.
وَ (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ تَهْوِيلِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ، إِلَى التَّهْدِيدِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَحِلُّ بِهِمْ بَغْتَةً وَفَجْأَةً، وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى النُّفُوسِ لِعَدَمِ التَّهَيُّؤِ لَهُ وَالتَّوَطُّنِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ كُثَيِّرٌ: