تفسير سورة غافر

اللباب
تفسير سورة سورة غافر من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
( رب يسر برحمتك يا كريم وأغن يا رحيم )١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة غافر
مكية وتسمى سورة الطول، وسورة المؤمن، وهي خمس وثمانون آية، وألف ومائة وتسع وتسعون كلمة وأربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا.
١ ما بين القوسين زيادة من أ..

مكية وتسمى سورة الطول، وسورة المؤمن، وهي خمس وثمانون آية، وألف ومائة وتسع وتسعون كلمة وأربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿حم﴾ كقوله الَمَ وبابه، وقرأ الأخوان وأبو بكر وابن ذكوان بإمالة (حا) في السور السبع إمالة محضة، وورش، وأبو عمرو بالإمالة بين بين، والباقون بالفتح، والعامة على سكون الميم كسائر الحروف المقطعة. وقرأ الزهري برفع الميم على أنه خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ والخبر ما بعدها، وابن إسحاق وعيسى بفتحها وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أنها منصوبة بفعل مقدر أي اقرأ حم، وإنما منع من الصرف للعملية والتأنيث، أو العلمية وشبه العجمة وذلك أنه لس في الأوزان العربية وزن «فاعيل» بخلاف الأعجمية نحو قابيل وهابيل.
3
والثاني: أنها حركة بناء تخفيفاً كَأَيْنَ وكَيْفَ. وفي احتمال هذه الوجهين ولن الكميت:
٤٣١٤ - وَجَدْنَا لَكُمْ في آلِ حَامِيم آيَةً تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ ومُعْرِبُ
وقول شُرَيح بن أوفى:
٤٣١٥ - يُذَكِّرُنِي حَامِيم والرُّمْحُ شَاجِرٌ فَهَلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ
وقرأ أبو السَّمَّالِ بكسرها، وهل يجوز أن يجمع (حم) على «حواميم» ونقل ابن الجوزي عن شيخه الجواليقي أنه خطأ وليس بصواب بل الصواب أن تقول قرأت أل حم، وفي الحديث عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إذَا وَقَعْتُ فِي آلِ حمَ وَقَعْتُ في رَوْضَاتٍ أَتأَنَّقُ فيهن» وقال سعيد بن إبراهيم: كلّ آل حم يسمين العرائس، قال الكُمَيْتُ:
٤٣١٦ - وحدنا لكم في آل حاميم..................................................
4
ومنهم من جوزه، وروي في ذلك أحاديث منها قوله عليه (الصلاة و) السلام: «الحَوَامِيمُ دِيبَاجُ القرآن»، وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الحواميمُ سبعُ وأبوابٌ جهنَّمَ سبعُ: جهنمُ والحُطَمَةٌ ولَظَى والسعيرُ وسَقَرُ والهاويةُ والجحيمُ فتجيء كل جسم منهم يوم القيامة على باب من هذه الأبواب فتقول لا يدخل النار من كان يؤمن بي ويقرأني» وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لكل شيء ثمرةٌ وثمرةُ القرآن ذواتُ حم هن روضات حسان مخصبات متجاورات فمن أجب أن يَرْتَعَ في رِيَاضِ الجنة فليقرأ الحواميم»، وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الحواميم في القرآن كمثل الحِبَرَاتِ في الثياب» وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما لكل شيء لُباب ولُباب القرآن الحواميمُ.
فإن صحت هذه الأحاديث فهي الفصل في ذلك.
قوله «تَنْزِيلُ» إما خبرٌ ل «حمَ» إن كانت مبتدأ، وإما خبر لمبتدأ مضمر، أو مبتدأ وخبره الجار بعده. قال ابن الخطيب: قال «تنزيل» والمراد منه المنزل.

فصل


روي السُّدي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: حم اسم الله الأعظم، وروى عكرمة عنه قال: الم وحم ون حروف الرحمن مقطعة، وقاله سعيد بن جبير: (وقال) عطاء الخراساني: الحاء افتتاح أسمائه حكيم حميد حي حليم حنان، والميم افتتاح اسمائه ملك مجيد.
قال الضحاك والكسائيّ معناه قضى ما هو كائن كأنهما أشارا إلى أن معناه: حُمَّ، بضم الحاء وتشديد الميم.
قوله «مِنَ اللهِ» لما ذكر أن حم تنزيل الكتاب وجب بيان أن المنزل من هو؟ فقال: من الله، ثم بين أن الله تعالى موصوف بصفات الجلالة فقال «العَزِيزِ العَلِيمِ».
فبين أنه بقدرته وعلمه نزل القرآن الذي يتضمن المصالح والإعجاز، ولولا كونه عزيزاً عالماً لما صح ذَلك.
قوله تعالى: ﴿غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب﴾ في هذه الأوصاف ثلاثة أوجه:
5
أحدها: أنها كلها صفات الجلالة ك العزيز، والعليم. وإنما جاز وصف المعرفة بهذه وإن كانت إضافتها لفظية لأنه يجوز أن تجعل إضافتها (معنوية) فيتعرَّف بالإضافة نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن يجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة، ولم يستثن غيره شيئاً وهم الكوفيون يقولون في مثل «حَسَن الوَجْهِ» بأنه يجوز أن تصير إضافته محضة. وعلى هذا فقوله: «شَدِيدِ العِقَابِ» من باب الصفة المشبهة فكيف أجزت جعله صفة للمعرفة وهو لا يتعرف إلا بالإضافة؟
والجواب: إمّا بالتزام مذهب الكوفيين وهو أن الصفة المشبهة يجوز أن تتمخض إضافتها أيضاً فتكون معرفة وإما بأن «شديد» بمعنى مشدد كأَذِين بمعنى «مؤذن» فتتمحض إضافته.
والثاني: أن يكون الكلِ أبْدالاً لأن إضافتها غير محضة قاله الزمخشري، إلا أن هذا الإبدال بالمشتق قليل جداً إلا أن يهجر فيها جانب الوصفية.
الثالث: أن يكون «غَافِرِ» و «قَابِلِ» نعتَيْنِ و «شَدِيدِ» بدلاً لِمَا تقدم من أن الصفة المشبهة لا تتعرف بالإضافة قاله الزجاج إلا أن الزمخشري قال: جعل الزجاج «شديد العقاب» وحده بدلاً للصفات فيه نُبُوٌّ ظاهر. والوجه أن يقال: لما صُودِفَ بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة فقد آذنت بأنها كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على «مُسْتَفْعِلُن» فهي محكوم عليها بأنها من الرجز، فإن وقع فيها جزءٌ واحد على «مُتَفَاعِلُن» كانت من الكامل. وناقشه أبو حيان فقال: ولا نُبُوَّ في ذلك؛ لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت وهو الأصل. وقوله «فقد آذنت بأن كلها أبدال» تركيب غير عربي لأنه جعل فقد آذنت جواب لما، وليس من كلامهم: لَمَّا قَامَ زَيْدٌ فَقَدْ قَام عَمْرو. وقوله بأنّ كلها أبدال فيه تكرير للأبدال إمّا بدل البَدَاء عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال، وإما بدل كل من كل وبدل بعض من كل
6
وبدل اشتمال، فلا نص على أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر وذلك في قول الشاعر:
٤٣١٧ - فَإلَى ابْنِ أُمِّ أُنَاسَ أَرْحَلُ نَاقَتِي عَمْرٍو فَتُبْلِغُ حَاجَتِي أو تُزْحِفُ
مَلِكٍ إذَا نَزَلَ الوُفُودُ ببَابِهِ عَرَفُوا مَوَارِدَ مُزْبِدٍ لاَ يُنْزِفُ
قال: «فملك» بدل من «عمرو» بدل نكرة من معرفة، قال: فإن قلتَ: ألا يكون بدلاً من «أبن أم أناس» قلتُ: لأنه قد أبدل منه «عمراً» فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى لأنه قد طرح انتهى.
قال أبو حيان: فدل هذا على أن البدل لا يتكرر ويتحد المبدل منه، ودل على أن البدل من البدل جَائز. قال شهاب الدين: وهذا البحث قد تقدم في قوله ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم﴾ [الفاتحة: ٧] فلْيُلْتَفَتْ إليه.
قال: وقوله تفاعيلها هو جمع تِفْعال أو تُفْعُول أو تَفْعِيل وليس شيء منها معدوداً من أجزاء العروض، فإن أجزاءه مُنْحَصِرَة ليس فيها شيء من هذه الأوزان فصوابه أن يقول: جاءت أجزاؤها كلها مُسْتَفعِلُن.
وقال الزمخشري أيضاً: ولقائل أن يقول هي صفات وإنما حذفت الألف واللام من «شديد» لِيُزَاوجَ ماقبله وما بعده لفظاً فقد غيروا كثيراً من كلامهم عن قوانينه لأجل الإزاج، قالوا: ما يعرف سَحَادَلَيْهِ من عُنَادَلَيْهِ، فَثنَّوا ما هو «وَتر» لأجل ما هو «
7
شَفْعٌ». على أن الخليل قال في قولهم: ما يَحْسُنُ بالرجل (مِثْلِكَ أنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وما يَحْسُنُ بالرجل) خير منك أنه على نية الألف واللام كما كان الجَمَّاء الغفير على نية طرح الألف واللام، ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف. قال أبو حيان: ولا ضرورة إلى حذف «آل» من «شديد العقاب» وتشبيهه بنادر مغير وهو تثنية الوَتْر لأجل الشفع فيتنزه كتاب الله عن ذلك.
قال شهاب الدين: أما الازدواج وهو المشاكلة من حيث هو فإنه واقع في القرآن وقد مضى منه مواضع.
وقال الزمخشري أيضاً: ويجوز أن يقال: قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشِّدَّةِ على ما لا شيء أدْهَى منه وَأَمرّ لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال: هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريق الإبدال انتهى.
وقال مكي: يجوز في «غافر وقابل» البدل على أنهما نكرتان لا ستقبالهما والوصف على أنهما معرفتان لمُضِيِهِمَا. وقال ابن الخطيب لا نزال في جعل «غافر» صفة، وإنما كانا كذلك لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار فكذلك (شديد العقاب) يفيد ذلك لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد فمعناه كونه بحيث شديد عقابه، وهذا المعنى حاصل أبداً لا يصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن قال أبو حيان: وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ولا نظر فيه ويلزمه أن يكون «حَكيٍمٌ عَلِيمٌ» و «مَلِيكٌ مُقْتَدِرٌ» معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد، ولأنها صفاتٌ لم تَحْدُثْ لم تحصل بعد أن لم تكن ويكون تعريف صفاته بأل وتنكيرها سواء، وهذا لا يقوله مبتدىءٌ في علم النحو
8
بَلْه أن يًصَنّفَ فيه ويقدم على تفسير كتاب الله تعالى.
وقد سُرِدَتْ هذه الصفات كلياً من غير عاطف إلا «قابل التوت» قال بعضهم: وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر وقطع «شديد» عنهما فلم يعطف لانفراده.
قال أبو حيان: وفيه نزعة اعتزالية، ومذهب أهل السنة جواز الغفران للعاصي وإن لم يتب إلا الشرك. قال شهاب الدين: وما أبعده عن نزعة الاعتزالية. ثم أقول: التلازم لازم من جهة أنه تعالى متى قَبِلَ التوبة فقد غفر الذنبل وهو كَافٍ في التَّلاَزُم.
قال الزمخشري فإن قلتَ: ما بال الواو في قوله: «وَقَابِلِ التَّوْبِ» ؟ قلتُ: فيها نكتة جليلة وهي إفادة الجمع المذنب والتائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيقبلها فيكتبها له طاعة من الطاعات وإن لم يجعلها مَحَّاءَةً للذنبوب كمن لم يذنب كأنه قال: جامعُ المغفرة والقبول أنتهى.
وبعد هذا الكلام الأنيق وإبراز هذه المعاني الحسنة قال أبو حيان: وما أكثر تَهَجُّحَ هذا الرجل وشَقْشَقَتَه، والذي أفاد: أن الواو للجمع وهذا معروف من ظاهر علم النحو. قال شهاب الدين: وقد أنشدني بعضهم رَحِمَهُ اللَّهُ:
٤٣١٨ - وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
(وآخر) :
٤٣١٩ - قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ
والتَّوْبُ (يحتمل) أن يكون اسماً مفرداً مراداً به الجِنس كالذَّنْب، وأن يكون
9
جمعاً لتَوْبَةٍ كتَمْرٍ وتَمْرَةٍ و «ذِي الطَّوْلِ» نعت أو بدل كما تقدم، والطَّوْلُ سَعَةُ الفَضْل، و «لاَ إله إلاَّ هُوَ» يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً وحي حالٌ لازمةٌ، وقال أبو البقاء يجوز أن يكون صفة، وهذا على ظا هره فاسد؛ لأن الجُمَل لا تكون صفة للمعارف، ويمكن أن يريد أنه صفة لشديد العقاب، لأنه لم يتعرف بالإضافة.
والقول في «إلَيْهِ المَصِيرُ» كالقول في الجملة قبله ويجوز أن يكون حالاً من الجُمْلَةِ قبله.

فصل


قال المفسرون: غافر الذنب ساتر الذنب وقابل التوب أي التوبة، مصدر تَابَ يَتُوبُ تَوْباً، وقيل: التوب جمع توبة مثل: دَوْمَة ودَوْم، وعَوْمة وعَوْم، وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: غافر لمن قال لا إله إلا الله، وقال التوب لمن قال لا إله إلا الله، شديد العقاب لمن لا يقول لا إله إلا الله، «ذي الطول» ذي الغِنَى عمن لا يقول لا إله إلا الله.
قال مجاهد: ذي الطول ذي السَّعَةِ، والغِنَى، وقال الحسن: ذي الفضل، وقال قتادة: ذو النعم، وقيل: ذو القدرة، وأصل الطَّوْل الإنعام الذي تطولُ مُدَّتُهُ على صابحه، لا إله إلا هو إليه المصير. والمعنى أنه لما وصف نفسه بصفاتِ الرحمة والفضل فلو حصل معه إله آخر يشاركه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة فكان الترغيب والترهيب الكاملين حاصلين بسبب هذا التوحيد. وقوله «إلَيثْهِ المَصِيرُ» مما يقوِّي الرغبة في الإقرار بالعبودية.
قوله تعالى: ﴿مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ﴾ لما قرر أن القرآن كتابه أنزله ليهتدى به في الدين ذكر أقوال من يجادل لغرض إبطاله فقال ﴿ما يجادل في آيات الله﴾ أي في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار إلا الذين كفروا.
واعلم أن الجدالَ نوعان، جدالٌ في تقرير الحق، وجدالٌ في تقرير الباطل، أما الجدال في تقرير الحق فهو حِرْفة الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال تعالى لمحمد
10
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] وحكى عن قوم نوح قولهم: ﴿قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ [هود: ٢٣]. وأما الجدال في يتقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ جِدَالاً في القُرْآنِ كُفْرٌ» وروى عمرو بنُ شُعَيْبٍ عن أبيه عن جده قال: «سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قوماً يَتَمارَوْنَ فقال: إنما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلضكُمْ بهذا ضربوا كتابَ الله عزّ وجلّ بعضَه ببعض، وإنما نزمل كتاب الله يُصَدِّق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضَه ببعض فما علمتم منه فقُولُوه، وما جَهْلتم فكِلُوهُ إلى عالمه»، وقال تعال: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: ٥٨] وقال: ﴿وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق﴾ [غافر: ٥].
قوله «فَلاَ يَغْرُرْكَ» قرأ العامة بالفك وهي لغة الحِجَاز، وزيدُ بنُ عليّ وعُبَيْدُ بن عُمَيْرٍ فلا يَغُرَّكَ بالإدغام مفتوح الراء وهي لغة تَمِيمٍ.

فصل


جدالهم في آيات الله هو قولهم مخرة سحرٌ، ومرة هو شعرٌ، ومرة إنه قول الكهنة، ومرة إنه أساطير الأولين، ومرة إنه يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، وقولهم: ﴿مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ [يس: ١٥] أَأنْزِلَ عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ، وأشباه هذا.
ثم قال: ﴿فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد﴾ أي لا تغترَّ بأني أمْهَلْتُهُمْ وتركتهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتقلبون في البلاد أي يتصرفون فيها للتجارات وطلب المعاش فإني وإن أمهلتهم فإني سآخذهم وأنتقم كما فعلت بالأمم الماضية.
ثم كشف عن هذا المعنى فقال ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ﴾ وهم الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾، وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ليقتلوه ويُهلكوه وقيل: ليأسِرُوه.
وقرأ عبد الله بِرَسُولِها، أعاد الضمير على لفظ «الله» والجمهور على معناها، وفي قوله «
11
ليأخذوه» عبارة عن المُسَبَّبِ بالسَّبَبِ وذلك أن القتل مسبب عن الأخذ ومنه قيل لِلأسير: أخِيذٌ قال:
٤٣٢٠ - فَإمَّا تأْخُذُونِي تَقْتُلُونِي فكَمْ مِنْ واحدٍ يَهْوَى خُلُودِي
﴿وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق﴾ ليُبْتطِلُوا به الحق الذي جاءت به الرسلُ، ﴿فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ اجتزاءٌ بالكسرة عن ياء المتكلم وصلاً ووقفاً؛ لأنها رأ س فاصلة، والمعنى فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل، وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا فيكف كان عقابي إيَّاهُم؟ أليس كان مستأصلاً؟ فأنا أفعل بقومك ما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات الله.
قوله تعالى (تعالى) «وَكَذَلِكَ حَقَّتْ» يحتمل الكاف أن تكون مرفوعة المحل على خبر مبتدأ مضمر، أي والأمر كذلك: ثم أخبر بأنه حقت كلمة الله عليهم بالعذاب، وأن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة، والمعنى كما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت أيضاً على الذين كفروا من قومك.
قوله ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار﴾ يجوز أن يكون على حذف حرف الجِرّ أي لأَنَّهُم (فحذف) فيجري في محلها القولان (قال الأخفش لأَنَّهُمْ أو بأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار)، ويجوز أن يكون في محل رفع بدلاً من «كلمةٍ». وقد تقدم خلافهم في أفراد «كَلِمَة» وجمعها، وأن نافعاً وابن عامر قرأ «كلمات» على الجمع والباقون بالإفراد.
12
قوله «تَنْزِيلُ » إما خبرٌ ل «حمَ » إن كانت مبتدأ، وإما خبر لمبتدأ مضمر، أو مبتدأ وخبره الجار بعده١. قال ابن الخطيب : قال «تنزيل » والمراد منه المنزل.

فصل


روي السُّدي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حم اسم الله الأعظم، وروى عكرمة عنه قال : الم وحم ون حروف الرحمن مقطعة، وقاله سعيد بن جبير :( وقال ) عطاء الخراساني : الحاء افتتاح أسمائه حكيم حميد حي حليم حنان، والميم افتتاح أسمائه ملك مجيد.
قال الضحاك والكسائيّ معناه قضى ما هو كائن كأنهما أشارا إلى أن معناه : حُمَّ، بضم الحاء وتشديد الميم٢.
قوله «مِنَ اللهِ » لما ذكر أن حم تنزيل الكتاب وجب بيان أن المنزل من هو ؟ فقال : من الله، ثم بين أن الله تعالى موصوف بصفات الجلالة فقال «العَزِيزِ العَلِيمِ ».
فبين أنه بقدرته وعلمه نزل القرآن الذي يتضمن المصالح والإعجاز، ولولا كونه عزيزاً عالماً لما صح ذَلك.
١ ذكر هذه الإعرابات أبو حيان في البحر ٧/٤٤٧ والسمين في الدر ٤/٦٧٢..
٢ ذكر هذه الأقوال البغوي والخازن في لباب التأويل ومعالم التنزيل ٦/٨٧..
قوله تعالى :﴿ غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ﴾ في هذه الأوصاف ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها كلها صفات الجلالة١ كالعزيز، والعليم. وإنما جاز٢ وصف المعرفة بهذه وإن كانت إضافتها لفظية لأنه يجوز أن تجعل إضافتها ( معنوية )٣ فيتعرَّف بالإضافة نص٤ سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن يجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة٥، ولم يستثن غيره شيئاً وهم الكوفيون يقولون في مثل٦ «حَسَن الوَجْهِ » بأنه يجوز أن تصير إضافته محضة٧. وعلى هذا فقوله :«شَدِيدِ العِقَابِ » من باب الصفة المشبهة فكيف أجزت جعله صفة للمعرفة وهو لا يتعرف إلا بالإضافة ؟
والجواب : إمّا بالتزام مذهب الكوفيين وهو أن الصفة المشبهة يجوز أن تتمحض٨ إضافتها أيضاً فتكون معرفة وإما بأن «شديد » بمعنى مشدد كأَذِين بمعنى «مؤذن » فتتمحض إضافته٩.
والثاني : أن يكون الكلِ أبْدالاً لأن إضافتها غير محضة قاله الزمخشري١٠، إلا أن هذا الإبدال بالمشتق قليل جداً إلا أن يهجر فيها جانب الوصفية.
الثالث : أن يكون «غَافِرِ » و«قَابِلِ » نعتَيْنِ و«شَدِيدِ » بدلاً لِمَا تقدم من أن الصفة المشبهة لا تتعرف بالإضافة قاله الزجاج١١ إلا أن الزمخشري قال : جعل الزجاج «شديد العقاب » وحده بدلاً للصفات فيه نُبُوٌّ ظاهر. والوجه أن يقال : لما صُودِفَ بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة فقد آذنت بأنها١٢ كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على «مُسْتَفْعِلُن » فهي محكوم عليها بأنها من الرجز، فإن وقع فيها جزءٌ واحد على «مُتَفَاعِلُن » كانت من الكامل١٣. وناقشه أبو حيان فقال : ولا نُبُوَّ في ذلك ؛ لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت وهو الأصل١٤. وقوله «فقد آذنت بأن كلها أبدال » تركيب غير عربي لأنه جعل فقد آذنت جواب لما، وليس من كلامهم : لَمَّا قَامَ زَيْدٌ فَقَدْ قَام عَمْرو. وقوله بأنّ كلها أبدال فيه تكرير١٥ للأبدال إمّا بدل البَدَاء عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال، وإما بدل كل من كل وبدل بعض من كل وبدل اشتمال، فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر وذلك في قول الشاعر :
٤٣١٧ فَإلَى ابْنِ أُمِّ أُنَاسَ أَرْحَلُ نَاقَتِي عَمْرٍو فَتُبْلِغُ حَاجَتِي أو تُزْحِفُ
مَلِكٍ إذَا نَزَلَ الوُفُودُ ببَابِهِ عَرَفُوا مَوَارِدَ مُزْبِدٍ لاَ يُنْزِفُ١٦
قال :«فملك » بدل من «عمرو » بدل نكرة من معرفة، قال : فإن قلتَ : ألا يكون بدلاً من «أبن أم أناس » قلتُ : لأنه قد أبدل منه «عمراً » فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى لأنه قد طرح انتهى١٧.
قال أبو حيان : فدل هذا على أن البدل لا يتكرر ويتحد المبدل منه، ودل على أن البدل من البدل جَائز١٨. قال شهاب الدين : وهذا البحث قد تقدم في قوله ﴿ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم ﴾ [ الفاتحة : ٧ ] فلْيُلْتَفَتْ إليه١٩.
قال : وقوله تفاعيلها هو جمع تِفْعال أو تُفْعُول أو تَفْعِيل وليس شيء منها معدوداً من أجزاء العروض، فإن أجزاءه مُنْحَصِرَة ليس فيها شيء من هذه الأوزان فصوابه أن يقول : جاءت أجزاؤها كلها مُسْتَفعِلُن٢٠.
وقال الزمخشري أيضاً : ولقائل أن يقول هي صفات وإنما حذفت الألف واللام من «شديد » لِيُزَاوجَ ما قبله وما بعده لفظاً فقد غيروا كثيراً من كلامهم عن قوانينه لأجل الإزواج٢١، قالوا : ما يعرف سَحَادَلَيْهِ٢٢ من عُنَادَلَيْهِ، فَثنَّوا ما هو «وَتر » لأجل ما هو «شَفْعٌ ». على أن الخليل قال في قولهم : ما يَحْسُنُ بالرجل ( مِثْلِكَ٢٣ أنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وما يَحْسُنُ بالرجل ) خير منك أنه على نية الألف واللام كما كان الجَمَّاء٢٤ الغفير على نية طرح الألف٢٥ واللام، ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف٢٦. قال أبو حيان : ولا ضرورة إلى حذف «أل » من «شديد العقاب » وتشبيهه بنادر مغير وهو تثنية الوَتْر لأجل الشفع فيتنزه٢٧ كتاب الله عن ذلك٢٨.
قال شهاب الدين : أما الازدواج وهو المشاكلة من حيث٢٩ هو فإنه واقع في القرآن وقد مضى منه مواضع.
وقال الزمخشري أيضاً : ويجوز أن يقال : قد تعمد٣٠ تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشِّدَّةِ على ما لا شيء أدْهَى منه وَأَمرّ لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال : هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريق الإبدال٣١ انتهى.
وقال مكي : يجوز في «غافر وقابل » البدل على أنهما نكرتان لاستقبالهما٣٢ والوصف على أنهما معرفتان لمُضِيِهِمَا٣٣. وقال ابن الخطيب لا نزال في جعل «غافر » صفة، وإنما كانا كذلك لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار فكذلك ( شديد العقاب ) يفيد ذلك لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد فمعناه كونه بحيث شديد عقابه، وهذا المعنى حاصل أبداً لا يصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن٣٤ قال أبو حيان : وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ولا نظر فيه ويلزمه أن يكون «حَكيٍمٌ عَلِيمٌ » و«مَلِيكٌ مُقْتَدِرٌ » معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد، ولأنها صفاتٌ لم تَحْدُثْ لم تحصل بعد أن لم تكن ويكون تعريف صفاته بأل وتنكيرها سواء، وهذا لا يقوله مبتدىءٌ في علم النحو بَلْه أن يًصَنّفَ٣٥ فيه ويقدم على تفسير كتاب الله تعالى٣٦.
وقد سُرِدَتْ هذه الصفات كلياً من غير عاطف إلا «قابل التوت » قال بعضهم : وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر وقطع «شديد » عنهما فلم يعطف لانفراده٣٧.
قال أبو حيان : وفيه نزعة اعتزالية، ومذهب أهل السنة جواز الغفران للعاصي وإن لم يتب إلا الشرك٣٨. قال شهاب الدين : وما أبعده عن نزعة الاعتزالية. ثم أقول : التلازم لازم من جهة أنه تعالى متى قَبِلَ التوبة فقد غفر الذنب وهو كَافٍ في٣٩ التَّلاَزُم.
قال الزمخشري فإن قلتَ : ما بال الواو في قوله :«وَقَابِلِ التَّوْبِ » ؟ قلتُ : فيها نكتة جليلة٤٠ وهي إفادة الجمع المذنب والتائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيقبلها فيكتبها له طاعة من الطاعات وإن لم يجعلها مَحَّاءَةً للذنبوب كمن لم يذنب كأنه قال : جامعُ المغفرة والقبول أنتهى٤١.
وبعد هذا الكلام الأنيق وإبراز هذه المعاني الحسنة قال أبو حيان : وما أكثر تَهَجُّحَ٤٢ هذا الرجل وشَقْشَقَتَه، والذي أفاد : أن الواو للجمع وهذا معروف من ظاهر علم النحو. قال شهاب الدين : وقد أنشدني بعضهم رحمه الله٤٣ :
٤٣١٨ وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ٤٤
( وآخر )٤٥ :
٤٣١٩ قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ٤٦
والتَّوْبُ ( يحتمل )٤٧ أن يكون اسماً مفرداً مراداً به الجِنس كالذَّنْب، وأن يكون جمعاً لتَوْبَةٍ كتَمْرٍ وتَمْرَةٍ٤٨ و«ذِي الطَّوْلِ » نعت أو بدل كما تقدم، والطَّوْلُ سَعَةُ الفَضْل٤٩، و«لاَ إله إلاَّ هُوَ » يجوز أن يكون مستأنفاً٥٠، وأن يكون حالاً وحي حالٌ لازمةٌ، وقال أبو البقاء يجوز أن يكون٥١ صفة، وهذا على ظاهره فاسد ؛ لأن الجُمَل لا تكون صفة للمعارف، ويمكن أن يريد أنه صفة لشديد العقاب، لأنه لم يتعرف بالإضافة.
والقول في «إلَيْهِ المَصِيرُ » كالقول في الجملة قبله ويجوز أن يكون حالاً من الجُمْلَةِ قبله٥٢.

فصل


قال المفسرون : غافر الذنب ساتر الذنب وقابل التوب أي التوبة، مصدر تَابَ يَتُوبُ تَوْباً، وقيل : التوب جمع توبة مثل : دَوْمَة ودَوْم، وعَوْمة وعَوْم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : غافر لمن قال لا إله إلا الله، وقال التوب لمن قال لا إله إلا الله، شديد العقاب لمن لا يقول لا إله إلا الله، «ذي الطول » ذي الغِنَى عمن لا يقول لا إله إلا الله.
قال مجاهد : ذي الطول ذي السَّعَةِ والغِنَى، وقال الحسن : ذي الفضل، وقال قتادة : ذو النعم، وقيل : ذو القدرة، وأصل الطَّوْل الإنعام الذي تطولُ مُدَّتُهُ على صاحبه، لا إله إلا هو إليه المصير٥٣. والمعنى أنه لما وصف نفسه بصفاتِ الرحمة والفضل فلو حصل معه إله آخر يشاركه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة فكان الترغيب والترهيب الكاملين حاصلين بسبب هذا التوحيد. و قوله «إلَيهِ المَصِيرُ » مما يقوِّي الرغبة في الإقرار بالعبودية.
١ في ب بدل الجلالة للجلالة..
٢ في ب: جاوز..
٣ سقط ما بين القوسين من ب..
٤ في ب: قضى..
٥ انظر الكتاب ١/٤٢٨، ٤٢٩..
٦ في ب: نحو..
٧ نقل أبو حيان في البحر عن صاحب المقنع عن الكوفيين أنهم أجازوا في "حسن الوجه" وما أشبهه أن يكون صفة للمعرفة قال وذلك خطأ عند البصريين انظر البحر ٧/٤٤٧..
٨ في ب: يتمحض بالياء..
٩ ذكر هذا الوجه العكبري في التبيان ١١١٥..
١٠ الكشاف ٣/٤١٢، ٤١٣..
١١ معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٦٤ وانظر الكشاف المرجع السابق والقرطبي ١٥/٢٩٠ والبحر المحيط ٧/٤٤٧ وانظر هذا كله في الدر المصون لشهاب الدين السمين ٤/٦٧٢..
١٢ في ب: بأن بدون (هاء)..
١٣ انظر الكشاف ٣/٤١٣..
١٤ البحر المحيط ٧/٤٤٧..
١٥ في ب: كذلك وما في البحر تكرار..
١٦ البيتان من بحر البسيط لبشر بن أبي خازم ويروى الأول: وإلى ابن أم بالواو... تعمد ناقتي... لتنجح ناقتي أو تتلف وعمرو هو جد امرئ القيس وأم أناس بنت ذهل بن شيبان، وتزحف من الإزحاف وهو الإعياء، والموارد المناهل، والمزبد البحر يعلوه الزبد لتلاطم أمواجه وفي الديوان: عرفوا غوارب. وينزف: ينفد ماؤه. والبيت في مدح الممدوح ووصفه بالكرم كالبحر الفضفاض دوما. والشاهد في قوله: "ملك" ـ كما أخبر أعلى ـ فإنه بدل من "عمرو" بدل نكرة من معرفة، ولا يجوز أن يكون بدلا من "ابن أم أناس" لأنه قد أبدل منه "عمرو" فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى ورواية الديوان "ملك" ـ بالرفع ـ وعليه فلا شاهد. ومن رأيي أن تكرار البدل لا يمنع منه مانع ما دام ذلك في خدمة المعنى قياسا على الصفة التي من الجائز أن تتعدد وانظر الكتاب ٢/٩ والقصائد السبع لابن الأنباري ٥٠٠ والإنصاف ٤٩٦ والخزانة ١/١٤٩ عرضا والتصريح ٢/٣٢ وحاشية العليمي عليه والهمع ٢/١٢٧ واللسان (زحف) والبحر المحيط ٧/٤٤٨ والدر المصون ٤/٦٧٣ وديوانه ١٥٥..
١٧ البحر المحيط ٧/٤٤٨..
١٨ السابق..
١٩ الدر المصون ٤/٦٧٤..
٢٠ البحر المحيط المرجع السابق..
٢١ هو أن يزاوج بين الكلمات أو الجمل بكلام عذب وألفاظ حلوة وأمثلته أكثر من أن تحصى كقوله: ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ انظر الفوائد المشوق ٢٢٥..
٢٢ السحادل: الذكر، والعنادلان: الخصيتان. وشاهد المثال تثنية السحادل ـ مع أنه مفرد للفرد ـ تبعا للعنادلين مزواجة (انظر معجم الألفاظ المثناة ٢٢٥، ٣٢٩ والقاموس المحيط سحدل ٣/٤٠٦)..
٢٣ ما بين القوسين كله ساقط من نسخة ب بسبب انتقال النظر..
٢٤ في ب: الجم..
٢٥ ذكر إمام النحاة ذلك في الكتاب ٢/١٣ في باب مجرى نعت المعرفة عليها قال: ".. ومن المنقول ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذاك، وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل ذاك، وزعم الخليل ـ رحمه الله ـ أنه إنما جر هذا على نية الألف واللام ولكنه موضع لا تدخله الألف واللام كما كان الجماء الغفير منصوبا على نية إلقاء الألف واللام نحو طرا وقاطبة.."..
٢٦ الكشاف ٣/٤١٣..
٢٧ في ب: فتنزه..
٢٨ البحر ٧/٤٤٨ بالمعنى..
٢٩ الدر المصون ٤/٦٧٤..
٣٠ في النسختين تغير والتصحيح من الكشاف..
٣١ الكشاف المرجع السابق..
٣٢ في ب: لا استغناء عنهما..
٣٣ لم أجد هذا الرأي في كتاب مشكل الإعراب للإمام مكي وإنما هو لأبي جعفر النحاس في كتابه إعراب القرآن ٤/٢٦ قال: "وتحقيق الكلام في هذا وتلخيصه أن غافر الذنب وقابل التوب يجوز أن يكونا معرفتين على أنهما لما مضى فيكونا نعتين. ويجوز أين يكونا للمستقبل والحال فيكونا نكرتين" انظر الإعراب المرجع السابق..
٣٤ قاله في تفسيره الكبير ٢٧/٢٩..
٣٥ في ب: يضيف لا يصنف وقوله: "حكيم عليم" من الآية ٦ من سورة النمل، و ﴿مليك مقتدر﴾ من الآية ٥٥..
٣٦ وانظر البحر ٧/٤٤٨..
٣٧ نقله أبو حيان في مرجعه السابق عن صاحب الغنيان ولم أعرفه هو ولا مؤلفه..
٣٨ انظر البحر المرجع السابق وتحفة المريد على جوهرة التوحيد ٢/٥: ١٣ وانظر في هذا أيضا الدر المصون ٤/٦٧٥..
٣٩ المرجع السابق..
٤٠ كذا في الكشاف وفي النسختين حائلة..
٤١ الكشاف ٣/٤١٣..
٤٢ في البحر تلمح وانظر البحر المرجع السابق..
٤٣ في الدر المصون "والله القائل" انظر الدر ٤/٦٧٥..
٤٤ جاء المؤلف تبعا لشهاب الدين في رده على أبو حيان شيخه في تحامله على الزمخشري والبيت من تمام الوافر وهو لأبي الطيب المتنبي وانظر المحتسب ٢/١٩ والدر المصون ٣/٦٧٦ وديوانه ٣/٣٤٦..
٤٥ سقط من ب..
٤٦ شاهده كسابقه في رد شهاب الدين السمين مدافعا عن الزمخشري وهو من بردة المديح المشهورة للإمام البوصيري. وهو من البسيط. البردة ١٨ والدر المصون ٤/٦٧٦ والديوان ١٩٧..
٤٧ سقط من ب..
٤٨ المعروف أن اسم الجنس ما يفرق بينه وبين واحده فكان بالتاء فكان على المؤلف أن يتحرى الدقة في أسلوبه والمحققون من متأخري النحاة والكوفيون يرون أن مثل ذلك جمع تكسير مفرده بالتاء وهذا ما عليه الأخفش في معانيه ٦٧٤، قال: "والتوب جماعة التوبة"..
٤٩ وانظر مجاز القرآن ٢/١٩٤ واللسان طول ٢٧٢٨..
٥٠ التبيان ١١٣٥..
٥١ السابق..
٥٢ انظر الإعراب هذا كله في الدر المصون ٤/٦٧٦..
٥٣ وانظر هذا تفسير الإمام البغوي في معالم التنزيل ٦/٨٧ وتفسير الخازن في لباب التأويل نفس المرجع والموضع ذاته..
قوله تعالى :﴿ مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ ﴾ لما قرر أن القرآن كتابه أنزله ليهتدى به في الدين ذكر أقوال١ من يجادل لغرض إبطاله فقال ﴿ ما يجادل في آيات الله ﴾ أي في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار إلا الذين كفروا.
واعلم أن الجدالَ نوعان، جدالٌ في تقرير الحق، وجدالٌ في تقرير الباطل، أما الجدال في تقرير الحق فهو حِرْفة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام ﴿ وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ]. وحكى عن قوم نوح قولهم :﴿ قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾ [ هود : ٢٣ ]. وأما الجدال في تقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية، وقال - عليه الصلاة والسلام - :«إنَّ جِدَالاً في القُرْآنِ كُفْرٌ »٢ وروى عمرو بنُ شُعَيْبٍ٣ عن أبيه عن جده قال :«سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يَتَمارَوْنَ فقال : إنما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ بهذا ضربوا كتابَ الله عزّ وجلّ بعضَه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يُصَدِّق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضَه ببعض فما علمتم منه فقُولُوه، وما جَهْلتم فكِلُوهُ إلى عالمه »٤، وقال تعال :﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [ الزخرف : ٥٨ ] وقال :﴿ وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق ﴾ [ غافر : ٥ ].
قوله «فَلاَ يَغْرُرْكَ » قرأ العامة بالفك وهي لغة الحِجَاز، وزيدُ بنُ عليّ وعُبَيْدُ بن عُمَيْرٍ فلا يَغُرَّكَ بالإدغام مفتوح٥ الراء وهي لغة تَمِيمٍ.

فصل


جدالهم في آيات الله هو قولهم مرة سحرٌ، ومرة هو شعرٌ، ومرة إنه قول الكهنة، ومرة إنه أساطير الأولين، ومرة إنه يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، وقولهم :﴿ مَا أَنتُمْ٦ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ [ يس : ١٥ ] أَأنْزِلَ عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ٧، وأشباه هذا.
ثم قال :﴿ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد ﴾ أي لا تغترَّ بأني أمْهَلْتُهُمْ وتركتهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتقلبون في البلاد أي يتصرفون فيها للتجارات وطلب المعاش فإني وإن أمهلتهم فإني سآخذهم وأنتقم كما فعلت بالأمم الماضية.
١ في ب: أحوال..
٢ الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده ٢/٢٥٨، ٤٧٨، ٤٩٤..
٣ ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي أبو إبراهيم المدني نزيل الطائف عن أبيه عن جده وطاوس وعنه عمرو بن دينار وقتادة وخلق مات سنة ١١٨ هـ (انظر خلاصة الكمال ٢٩٠)..
٤ أخرجه البغوي هو وما قبله في تفسيره ٦/٨٨ وروى ما قبله عن أبي هريرة..
٥ ذكرها أبو حيان في البحر ٧/٤٤٩ والزمخشري في الكشاف بدون نسبة ٣/٤١٤، ٤١٥ وهي من الشواذ..
٦ في ب: ما أنت بالإفراد..
٧ وفيها: لولا أنزل علينا الملائكة وهي الموافقة لما في المصحف..
ثم كشف عن هذا المعنى فقال ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ ﴾ وهم الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح ﴿ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ﴾، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ليقتلوه ويُهلكوه وقيل : ليأسِرُوه١.
وقرأ عبد الله بِرَسُولِها٢، أعاد الضمير على لفظ «الله » والجمهور على معناها، وفي قوله «ليأخذوه » عبارة عن المُسَبَّبِ بالسَّبَبِ وذلك أن القتل مسبب عن الأخذ ومنه قيل لِلأسير : أخِيذٌ٣ قال :
٤٣٢٠ فَإمَّا تأْخُذُونِي تَقْتُلُونِي فكَمْ مِنْ واحدٍ يَهْوَى خُلُودِي٤
﴿ وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق ﴾ ليُبْطِلُوا به الحق الذي جاءت به الرسلُ، ﴿ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ اجتزاءٌ بالكسرة عن ياء المتكلم وصلاً ووقفاً٥ ؛ لأنها رأس فاصلة، والمعنى فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل، وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا فيكف كان عقابي إيَّاهُم ؟ أليس كان مستأصلاً ؟ فأنا أفعل بقومك ما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات الله٦.
١ ذكر ذلك البغوي في تفسيره ٦/٨٨..
٢ ذكرت في البحر ٧/٤٤٩ والدر المصون ٤/٦٧٦ ومعاني الفراء ٣/٥ وهي من الشواذ..
٣ اللسان أخذ ٣٦، ومعالم التنزيل ٦/٨٨، والكشاف ٣/٤١٥..
٤ من الوافر ويروى: فكم من آخذ. والاستشهاد في قوله "تأخذوني" فإن الأخذ بمعنى الأسر والدليل تقتلوني، وانظر البحر ٧/٤٤٩، والقرطبي ١٥/٢٩٣، برواية: فكم من آخذ، وانظر الدر ٤/٦٧٦..
٥ وقد قرأ بإثبات الياء في الوصل والوقف يعقوب انظر إتحاف فضلاء البشر ٣٧٧ والدر المصون ٤/٦٧٧..
٦ وانظر الكشاف ٣/٤١٥..
قوله تعالى ( تعالى )١ ﴿ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ ﴾ يحتمل الكاف أن تكون مرفوعة المحل على خبر مبتدأ مضمر، أي والأمر كذلك٢ : ثم أخبر بأنه حقت كلمة الله عليهم بالعذاب، وأن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة٣، والمعنى كما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت أيضاً على الذين كفروا من قومك.
قوله ﴿ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار ﴾ يجوز أن يكون على حذف حرف الجِرّ أي٤ لأَنَّهُم ( فحذف٥ ) فيجري في محلها القولان ( قال الأخفش٦ لأَنَّهُمْ أو بأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار )، ويجوز أن يكون في محل رفع بدلاً من «كلمةٍ ». وقد تقدم خلافهم في أفراد «كَلِمَة »٧ وجمعها، وأن نافعاً وابن عامر قرأ «كلمات » على الجمع والباقون بالإفراد٨.
١ زيادة من أ..
٢ قاله السمين في الدر ٤/٦٦٧..
٣ قاله أبو حيان في تفسيره ٧/٤٥٠ فضلا عن المرجع السابق..
٤ أحد قولي الزمخشري في الكشاف ٣/٤١٥ وانظر المرجعين السابقين أيضا..
٥ سقط من ب..
٦ ما بين القوسين كله زيادة من أ عن ب وانظر معاني القرآن للأخفش ٦٧٥..
٧ الكشاف والدر المراجع السابقة..
٨ قرأ أيضا بالجمعية ابن هرمز وشيبة وابن القعقاع وقرأ بالإفراد باقي السبعة وقتادة وأبو رجاء وانظر البحر ٧/٤٥٠، والإتحاف ٣٧٧ والسبعة ٥٦٧ والكشاف ٣/٤١٥ والدر المصون ٤/٦٧٧..
قوله: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ» مبتدأ و «يًسَبحُونَ» خبره، والعامة على فتح عين العَرش وابن عباس في آخرينَ بضَمَّها. فقيل: يحتمل أن يكون جمعاً لعَرْش كسُقُفٍ في سَقْفٍ وقوله «مِنْ حَوْلِهِ» يحتمل أن يكون مرفوع المحل عطفاً على «الذين يحملون العرش» أخبر عن الفريقين بأنهم يسبحون، وهذا هو الظاهر، وأن يكون منصوب المحل عطفاً على «العَرْشِِ» يعني أنهم يحملون أيضاً الملائكة الحافين بالعرش، وليس بظاهر.

فصل


لما بين أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين بين أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافّون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين، فكأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الأراذل يبالغون في العداوة فلا تلفت إليهم ولا تُقِمْ لهم وزناً فإن حملة العرش معك، والحافّون من حول العرش ينصرونك وهم الكُرُبِيُّونَ، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمِائةِ عام، وروى جعفرُ بْنُ محمد عن أبيه عن جده أنهن قال: بين القائمةِ من قوائم العرش والقائمة الثانية خَفَقان الطير المسرع ثلاثين ألف عامٍ. وقال مجاهد: بينَ السماءِ الثانية وبين العرش سبعونُ ألف حجاب: حجاب من نور، وحجاب من ظلمة، وقال وهب بن منبه: إن حول العرشِ سبعونَ ألف صفٍّ من الملائكة، صفّ خلف صفّ يطوفون بالعرش.
قوله ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ قال شهر بن حوشب: حملةُ العرش ثمانيةٌ، فأربعةٌ منهم يَقُولُون: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَكَ الحَمْدُ عَلَى حِلْمك بعد عِلْمك، وأربعةٌ منهم يقولون: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ لك الحمدُ على عَفْوِك بعْدَ قدْرَتِكَ؛ قال: وكأنهم يرون ذنوب بني آدَمَ.
13
وقوله: «ويُؤمِنُونَ بِهِ» فيه سؤال وهو أن يقال: ما الفائدة في قوله «ويؤمنون به» مع أن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا بعد سبق الإيمان بالله؟
وأجاب الزمخشري: بأن المقصودَ منه التنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضراً لكان حملة العرش والحافون بالعرش يشاهدونه ويعاينونه، ولو كان كذلك لما كان إيمانهم بوجود الله موجباً للمدْجِ والثناء لأن الإقرارَ بوُجُود شيءٍ مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء، ألا ترى أن الإقرار بوجود المشس وبكونها مضيئةً لا يوجب المدح والثناء؟ فلما ذكر الله سبحانه وتعالى إيمانهم بالله على سبيل المدح والثناء والتعظيم دل على أنهم إنما آمنوا به مع أنهم ما شاهدوه حاضراً جالساً هُنَاكَ.
قوله: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ اعلم أن كمال السعادة بأمرين:
أحدِهِمَا: التعظيم لأمر الله.
والثاني: الشفقة على خلق الله، ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدماً على الشفقة على خلق الله، فقوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ مشعر بالتعظيم لأمر الله، وقوله ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ مشعرٌ بالشفقة على خلق الله، واحتج كثير من العلماء بهذه الآية على أن المَلَكَ أفضلُ من البشر؛ لأنها دلت على أن الملائكة لما فرغوا من ذكر الله تعالى بالثناء والتقدير اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم وهم المؤمنون وهذا يدل على أنهم مستغنون بأنفسهم؛ إذ لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لاستغفروا لأنفسهم أولاً، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
«ابدأ بنفسك» ولقوله تعالى لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات﴾ [محمد: ١١] ٍ وقال عن نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات﴾ [نوح: ٢٨] وهذا يدل على أن من كان محتاجاً إلى الاستغفار (فإنه يقدم الاستغفار لنفسه على الاستغفار لغيره والملائكة لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار) لاستغفروا لأنفسهم أولاً ثم استغفروا لغيرهم، ولما لم يذكر الله تعالى استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم لم يكونوا محتاجين إلى الاستغفار، وأما الأنبياء عليهم الصلاة واسلام فهم كانوا محتاجين إلى الاستغفار لقوله تعالى لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» فظهر أن لملك أفضل من البشر والله أعلم.
قوله «رَبَّنَا» معمول لقول مضمر تقديره يقولون ربنا، والقول المضمر في محل
14
نصب على الحال من فاعل «يستغفرون» أو خبرٌ بعد خبر، و «رَحْمَةً وعِلْماً» تمييز منقول من الفاعلية أي وسع كل شيء رَحْمَتُكَ وعِلْمُكَ. واعلم أن الدعاء في أكثر الأمر مذكور بلفظ «الرب» ؛ لأن الملائكة قالوا في هذه الآية «ربنا»، وقال آدمُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الأعراف: ٢٣] وقال نوحٌ: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ [نوح: ٥] وقال ﴿رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ [نوح: ٢٧] وقال إبراهيم: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ [البقرة: ٢٦٠] وقال: ﴿رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] وقال يوسفُ ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك﴾ [يوسف: ١٠١] وقال مُوسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٤٣] وقال: ﴿ (رَبِّ) إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ﴾ [القصص: ١٦] وحكى عن داود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه استغفر ربه وخر راكعاً وقوله سلمانُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب﴾ [ص: ٣٥]، وحكى عن زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه ﴿نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾ [مريم: ٣] وقال عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء﴾ [المائدة: ١١٤] وقال تعالى لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين﴾ [المؤمنون: ٩٧] وحكى عن المؤمنين أنهم قالوا: ﴿رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً....﴾ [آل عمران: ١٩١].
فإن قيل: لفظ الله أعظم من لفظ الرب فلم خص لفظ الربِّ بالدعاء؟
فالجواب: بأن العبد يقول: كنتُ في العدم المحض والنفي الصِّرْفِ فأخرجتَنِي إلى الوجود وربَّيتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك في أن لا تُخَلِّينِي طرفة عين عن تربيتك وإحسانك (وفضلك)، لإجابة دعائي.
فإن قيل: قوله ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً فيه سؤال، لأن العلم وسعَ كل شيء وأما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء؛ لأن المضرورَ حال وقوعه في الضرر لا يكون ذلك في حقه رحمة وهذا السؤال أيضاً مذكور في قوله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦].
فالجواب: كل موجود فقد نال من رحمة الله نصيباً؛ لأن الوجود إما واجب وإما ممكن أما الواجب فليس إلا الله (سبحانه) وتعالى. وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده وذلك رحمة فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد حصل له نصيب من الرحمة
15
فلهذا قال: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً﴾ هذه الآية دلت على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات.
قوله: ﴿فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ﴾ دينك ﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم﴾.
فإن قيل: لا معنى للغُفْران إلا إسقاط العذاب وعلى هذا فلا فرق بين قوله «فاغْفِرْ لَهُمْ» وبين قوله ﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم﴾.
فالجواب: قولهم: فاغفر فيه رمز وإشارة لإسقاط العذاب، فلهذا أردفوه بذكره على سبيل التصريح تأكيداً ومبالغة.
واعلم أنهم لما طلوا من الله إزالة العذاب (عنهم) أردفوه بطلب إيصال الثواب إليهم فقالوا: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ﴾.
فإن قيل: أنتم زعمتم أن الشفاعة إنما جعلت للمذنبين وهو الآية تُبْطِلُ ذَلِك، لأنه تعالى ما وعد المذنبين بأن يدخلهم جنات عَدْن.
فالجواب: (لا نسلم أنه) ما وَعَدَهُمْ بذلك، لأن الدلائل الكثيرة دلت على أنه لا يخلد أهل «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» في النار، وإذا أخرجهم من النار وجب أن يدخلهم الجنة فكان هذا وعد من الله بأن يدخلهم جنات عدن إما من غير دخول النار، وإما بعد أن يدخلهم النار.
قوله: «وَمَنْ صَلَحَ» في محل نصب إما عطفاً على مفعول «أَدْخِلْهُمْ» وإما على مفعول «وَعَدتَهُمْ» وقال الفراءُ والزجاج نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في «أَدْخِلْهُمْ: وإن شئت على الضمير في» وَعَدتَهُمْ «. والعامة على فتح لام» صَلَحَ «يقال: صَلَحَ فهو صَالِحٌ، وابنُ أبي عبلة بضمها، يقال: صَلُحَ فَهُو صَلِيحٌ. والعامة على» ذرِّيّاتهم «جمعاً، وعيسى» ذُرِّيَّتهم «إفراداً. والمراد بقوله ومن صلح من أهل الإيمان.
ثم قالوا ﴿إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾. وإنما ذكروا في دعائهم هذين الوصفين، لأنه لو لم يكن عزيزاً بل كان بحيث يغلب ويمنع لما صح وقوع المطلوب منه ولو لم يكن
16
حكيماً لما حصل هذا المطلوب على وفق الحكمة والمصلحة.
ثم قالوا: بعد ذَلِكَ «وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ» (قال بعضُ المفسرين المراد منه عذاب السيئات.
فإن قيل: فعلى هذا التقدير لا فرق بين قوله: «وقهم السيئات» ) وبين قوله ﴿وقهم عذاب الجحيم﴾ وحينئذ يلزم التكرار الخالي من الفائدة وهو لا يجوز!
فالجواب: أنّ التفاوت حاصلٌ من وجهين:
الأول: أن يكون قوله ﴿وقهم عذاب الجحيم﴾، دعاء مذكوراً (للأصُولِ وقوله «وقهم السيئات» دعاء مذكوراً) للفروع وهم الآباء والأزواج والذريات.
الثاني: أن يكون قوله ﴿وقهم عذاب الجحيم﴾ مقصوراً على إزالة عذاب الجحيم، وقوله «وقهم السَّيِّئَات» يتناول عذاب الجحيم وعذاب موقف القيامة والحساب والسؤال.
وقال بعض المفسرين: المراد: «وَقِهِم السيئات» هو أن الملائكة طلبوا إزالة عذاب النار بقولهم: «عذاب الجحيم» وطلبوا إيصال الثواب (إليهم) بقولهم: ﴿وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ ثم طلبوا بعده ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا عن العقائد الفاسدة بقولهم: «وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ» ثم قالوا ﴿وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ يعني من تقِ السيئات في الدنيا فقد رحمته في يوم القيامة، ثم قالوا ﴿وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾ حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيماً لا ينقطع وبأفعالٍ حقيرة مُلْكاً لا تصل العقول إلى كُنْهِ جلالته والله أعلم.
قوله: «يَوْمَئِذٍ» التنوين عوض من جملة محذوفة، ولكن ليس في الكلام جملمة مصرحٌ بها عوض من هذه التنوين بخلاف قوله: ﴿وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ﴾ [الواقعة: ٨٤] أي حين إذْ بَلَغَتْ الحلقومَ لِتَقَدُّمِهَا في اللفظ فلا بدّ من تقدير جملة يكمون هذا عوضاً منهاتقديهر: يَوْمَ إذْ يُؤَاخَذُ بِهَا.
فَصْلٌ
قال مُطرفٌ: أنصحُ عباد الله للمؤمنين الملائكة وأغشُّ الخلقِ للمؤمنين هم
17
الشياطين، قال سعيد بن جبير في تفسير قوله ﴿من صلح من آبائهم﴾ يدخل المؤمن الجنة فيقول: ابن أبي؟ أين ولدي؟ أين زوجتي؟ فيقال لهم: إنهم لم يعملوا مثل عملك فيقول: إن كنت أعمل لي ولهم فيقال: أدخولهم الجنة.
18
قوله ﴿ رَبَّنَا ﴾ معمول لقول مضمر تقديره يقولون ربنا، والقول المضمر في محل نصب على الحال من فاعل ﴿ يستغفرون ﴾ أو خبرٌ بعد خبر، و﴿ رَحْمَةً وعِلْماً ﴾ تمييز منقول من الفاعلية أي وسع كل شيء رَحْمَتُكَ وعِلْمُكَ١. واعلم أن الدعاء في أكثر الأمر مذكور بلفظ «الرب » ؛ لأن الملائكة قالوا في هذه الآية ﴿ ربنا ﴾، وقال آدمُ عليه الصلاة والسلام :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا ﴾ [ الأعراف : ٢٣ ] وقال نوحٌ :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ﴾ [ نوح : ٥ ] وقال ﴿ رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ ﴾ [ نوح : ٢٨ ] وقال إبراهيم :﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ] وقال :﴿ رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾ [ البقرة : ١٢٨ ] وقال يوسفُ ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك ﴾ [ يوسف : ١٠١ ] وقال مُوسى عليه الصلاة والسلام :﴿ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] وقال :﴿ ( رَبِّ ) إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ ﴾ [ القصص : ١٦ ] وحكى عن داود عليه الصلاة والسلام أنه استغفر ربه وخر راكعاً٢ وقوله سلمانُ عليه الصلاة والسلام ﴿ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب ﴾ [ ص : ٣٥ ]، وحكى عن زَكَرِيَّا عليه الصلاة والسلام أنه ﴿ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً ﴾٣ [ مريم : ٣ ] وقال عيسى عليه الصلاة والسلام :﴿ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء ﴾ [ المائدة : ١١٤ ] وقال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام :﴿ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين ﴾ [ المؤمنون : ٩٧ ] وحكى عن المؤمنين أنهم قالوا :﴿ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً. . . . ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ].
فإن قيل : لفظ الله أعظم من لفظ الرب فلم خص لفظ الربِّ بالدعاء ؟
فالجواب : بأن العبد يقول : كنتُ في العدم المحض والنفي الصِّرْفِ فأخرجتَنِي إلى الوجود وربَّيتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك في أن لا تُخَلِّينِي طرفة عين عن تربيتك وإحسانك ( وفضلك )٤، لإجابة دعائي.
فإن قيل : قوله ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً فيه سؤال، لأن العلم وسعَ كل شيء وأما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء ؛ لأن المضرورَ حال وقوعه في الضرر لا يكون ذلك في حقه رحمة وهذا السؤال أيضاً مذكور في قوله :﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [ الأعراف : ١٥٦ ].
فالجواب : كل موجود فقد نال من رحمة الله نصيباً ؛ لأن الوجود إما واجب وإما ممكن أما الواجب فليس إلا الله ( سبحانه )٥ وتعالى. وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده وذلك رحمة فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد حصل له نصيب من الرحمة فلهذا قال :﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً ﴾ هذه الآية دلت على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات.
قوله :﴿ فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ ﴾ دينك ﴿ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم ﴾.
فإن قيل : لا معنى للغُفْران إلا إسقاط العذاب وعلى هذا فلا فرق بين قوله ﴿ فاغْفِرْ لَهُمْ ﴾ وبين قوله ﴿ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم ﴾.
فالجواب : قولهم : فاغفر فيه رمز وإشارة لإسقاط العذاب، فلهذا أردفوه بذكره على سبيل التصريح تأكيداً ومبالغة.
واعلم أنهم لما طلوا من الله إزالة العذاب ( عنهم )٦ أردفوه بطلب إيصال الثواب إليهم فقالوا :﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ ﴾.
فإن قيل : أنتم زعمتم أن الشفاعة إنما جعلت٧ للمذنبين وهو الآية تُبْطِلُ ذَلِك، لأنه تعالى ما وعد المذنبين بأن يدخلهم جنات عَدْن.
فالجواب :( لا نسلم أنه )٨ ما وَعَدَهُمْ بذلك، لأن الدلائل الكثيرة دلت على أنه لا يخلد أهل «لا إله إلا الله، محمد رسول الله » في النار، وإذا أخرجهم من النار وجب أن يدخلهم الجنة فكان هذا وعد من الله بأن يدخلهم جنات عدن إما من غير دخول النار، وإما بعد أن يدخلهم النار.
قوله :﴿ وَمَنْ صَلَحَ ﴾ في محل نصب إما عطفاً على مفعول ﴿ أَدْخِلْهُمْ ﴾ وإما على مفعول ﴿ وَعَدتَهُمْ ﴾ وقال الفراءُ٩ والزجاج١٠ نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في ﴿ أَدْخِلْهُمْ ﴾ : وإن شئت على الضمير في ﴿ وَعَدتَهُم ﴾. والعامة على فتح لام ﴿ صَلَحَ ﴾ يقال : صَلَحَ فهو صَالِحٌ، وابنُ أبي عبلة بضمها١١، يقال : صَلُحَ فَهُو صَلِيحٌ. والعامة على ﴿ ذرِّيّاتهم ﴾ جمعاً، وعيسى ﴿ ذُرِّيَّتهم ﴾١٢ إفراداً. والمراد بقوله ومن صلح من أهل الإيمان.
ثم قالوا ﴿ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾. وإنما ذكروا في دعائهم هذين الوصفين، لأنه لو لم يكن عزيزاً بل كان بحيث يغلب ويمنع لما صح وقوع المطلوب منه ولو لم يكن حكيماً لما حصل هذا المطلوب على وفق الحكمة والمصلحة.
١ قال بهذا الإعراب الإمام السمين في الدر المصون ٤/٦٧٧ وأبو البقاء في التبيان ١١١٥، ١١١٦..
٢ قال: ﴿فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب﴾ [ص: ٢٤]..
٣ قال: ﴿إذ نادى ربه نداء خفيا﴾ [مريم: ٣]..
٤ تكملة من الرازي عن النسختين..
٥ سقط من ب وانظر في هذا كله تفسير الإمام فخر الدين الرازي ٢٧/٣٤، ٣٥..
٦ سقط من ب..
٧ في ب بدل جعلت حصلت..
٨ ما بين القوسين زيادة من ب..
٩ قال في معاني الفراء له ٣/٥: "من نصب من مكانين إن شئت جعلت "ومن" مردودة على الهاء والميم في "وأدخلهم" وإن شئت على الياء والميم في وعدتهم"..
١٠ وقال الزجاج في معانيه ٤/٣٦٨: "من في موضع نصب عطف على الياء والميم في قوله: "ربنا وأدخلهم جنات عدن" أي وأدخل من أصلح، ويصلح أن يكون عطفا على الهاء والميم في قوله "وعدتهم" فيكون المعنى وعدتهم ووعدت من صلح من آبائهم"..
١١ قراءة شاذ ذكرها البحر المحيط ٧/٤٢٥ والزمخشري في الكشاف ٣/٤١٧ والسمين في الدر ٤/٦٧٨..
١٢ المراجع السابقة..
ثم قالوا : بعد ذَلِكَ ﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ﴾ ( قال بعضُ المفسرين١ المراد منه عذاب السيئات.
فإن قيل : فعلى هذا التقدير لا فرق بين قوله :﴿ وقهم السيئات ﴾ )٢ وبين قوله ﴿ وقهم عذاب الجحيم ﴾ وحينئذ يلزم التكرار الخالي من الفائدة وهو لا يجوز !
فالجواب : أنّ التفاوت حاصلٌ من وجهين :
الأول : أن يكون قوله ﴿ وقهم عذاب الجحيم ﴾، دعاء مذكوراً ( للأصُولِ وقوله ﴿ وقهم السيئات ﴾٣ دعاء مذكوراً ) للفروع وهم الآباء والأزواج والذريات.
الثاني : أن يكون قوله ﴿ وقهم عذاب الجحيم ﴾ مقصوراً على إزالة عذاب الجحيم، وقوله ﴿ وقهم السَّيِّئَات ﴾ يتناول عذاب الجحيم وعذاب موقف القيامة والحساب والسؤال.
وقال بعض المفسرين : المراد بقوله :﴿ وَقِهِم السيئات ﴾ هو أن الملائكة طلبوا إزالة عذاب النار بقولهم :«عذاب الجحيم » وطلبوا إيصال الثواب ( إليهم )٤ بقولهم :﴿ وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ ثم طلبوا بعده ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا عن العقائد الفاسدة بقولهم :﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ﴾ ثم قالوا ﴿ وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ﴾ يعني من تقِ السيئات في الدنيا فقد رحمته في يوم القيامة، ثم قالوا ﴿ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم ﴾ حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيماً لا ينقطع وبأفعالٍ حقيرة مُلْكاً لا تصل العقول إلى كُنْهِ جلالته و الله أعلم٥.
قوله :﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ التنوين عوض من جملة محذوفة، ولكن ليس في الكلام جملة مصرحٌ بها عوض من هذه التنوين بخلاف قوله :﴿ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ﴾ [ الواقعة : ٨٤ ] أي حين إذْ بَلَغَتْ الحلقومَ لِتَقَدُّمِهَا في اللفظ فلا بدّ من تقدير جملة يكون هذا عوضاً منها تقديهر : يَوْمَ إذْ يُؤَاخَذُ بِهَا٦.
فَصْلٌ
قال مُطرفٌ٧ : أنصحُ عباد الله للمؤمنين الملائكة وأغشُّ الخلقِ للمؤمنين هم الشياطين، قال سعيد بن جبير في تفسير قوله ﴿ من صلح من آبائهم ﴾ يدخل المؤمن الجنة فيقول : أين أبي ؟ أين ولدي ؟ أين زوجتي ؟ فيقال لهم : إنهم لم يعملوا مثل عملك فيقول : إن كنت أعمل لي ولهم فيقال : أدخلوهم الجنة.
١ أورده الرازي في تفسيره دون تعيين أيضا ٢٧/٣٧..
٢ ما بين القوسين كله سقط من ب..
٣ سقط كذلك من ب بسبب انتقال النظر..
٤ كذا في الرازي وأ وهي ساقطة من ب..
٥ انظر تفسير الإمام الرازي ٢٧/٣٧..
٦ هذا قول أبي حيان ومن بعد السمين في الدر المصون ٤/٦٧٨ فقد قال أبو حيان في البحر ٧/٤٥٧: "ولم يتعرض أحد من المفسرين الذين وقفنا على كلامهم في الآية للجملة التي عوض منها التنوين في يومئذ"..
٧ في ب: ابن مطرف وهو تحريف والصحيح ما عليه فهو مطرف بن عبد الله وقد ترجم له..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ﴾ أي يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفهسم حين عرض عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم: ﴿لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ﴾ أي لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم عند دُخُول العذاب قال البغوي.
واعلم أن الله تعالى عاد إلى شرح أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله، وهم المذكورون في قوله ﴿مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ﴾ [غافر: ٤] وبين أنهم في القيامة يعترفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط مِنْهُمْ.
قوله «إذْ تُدْعَوْنَ» منصوب بمقدر يدل عليه (هذا الظاهر، تقديره مقتكم إذ تدعون، وقدّره بعضهم: اذكروا إذ تدعون). وجوز الزمخشري أن يكون منصوباً بالمقت الأول. ورد عليه أبو حيان بأنه يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي وهو الخبر، وقال: هذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تَخْفَى على المُبْتَدِىءِ، فضلاً عن من يَدَّعِي من العجم أنه شيخ العرب والعجم، قال شهاب الدين: وَمِثْلُ هذها لا يفخى على أبع القاسم، وإنما أراد أنه دال على ناصبه، (و) على تقدير ذلك
18
فهو مذهب كوفي ق به. أو لأن الظَّرْفَ يُتَّسَحُ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيره، وأيُّ غموض في هذا محتى يُنْحي عليه هذا الإنحاء؟ ولله درّ القائل:
٤٣٢١ - حَسَدُوا الفَتَى إذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ فالقَوْمُ أعْتدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ
كَضَرَائِرِ الحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا كَذِباً وَزُوراً إنَّهُ لَذَمِيمُ
وهذا الرد سبقه إليه أبو البقاء فقال: ولا يجوز أن يعمل فيه مقت الله؛ لأنه مصدر أخبر عنه وهو قوله «أَكْبَرُ» فمن ثم أخذه أبو حيان، ولا يجوز أن ينتصب بالمقت الثاني لأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت دعائهم إلى الإيمان إنما مَقتُوهَا يَوْمَ القيامة. والظاهر أن «مقت الله» واقع في الدنيا كما تقدم في تفسير الآية. وجوز الحسن أن يكون في الآخرة وضعفه أبو حيان بأنه يبقى «إذْ تُدْعَوْنَ» مفلّتاً من الكلام لكونه ليس له عامل مقدم فلا يفسر قائلاً فإذا كان المقت في الدنيا أمكن أن يضمر له عامل تقديره (مقتكم). قال شهاب الدين: وهذا التجري على مثل الحسن يهون عليك تَجَرِّيه على الزمخشري ونحوه.
واللام في «لَمَقْتُ» لام اتبداء، أو قسم، ومفعوله محذوف أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم فهو مصدر مضاف لفاعله كالثاني. ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع في «أنفسكم» بين المقتين؛ لئلا يلزم الفصل بالخبر بين المقت الأول ومعموله على تقدير إعماله.
لكن قد اختلف النحاة في مسألة وهي التنازع في فِعْلَي التعجب فمن منع اعتل بما ذكرته لأنه لا يُفْصَلُ بين فعل التعجب ومعموله، ومن جوز فقال: يلتزم (إعمال) الثاني حتى لا يلزم الفصل فليكن هذا منه، والحق عدم الجواز فإنَّه على خلاف قاعدة التنازع.
19

فصل


ذكروا في تفسير مقتهم أنفسهم وجوهاً:
الأول: أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا.
الثاني: أن الأتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دَعَوْهُم إلى الكفر في الدنيا، والرؤساء أيضاً يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضاً بأنهم مقتوا أنفسهم كقوله تعالى: ﴿فاقتلوا أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤]، والمراد قتل بعضهم بعضاً.
الثالث: قال محمد بن كعب (القُرَظِيّ) : إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ إلى قوله: ﴿ولوموا أَنفُسَكُمْ﴾ [إبراهيم: ٢٢] ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم، وأما الذين ينادُون الكفار بهذا الكلام فهم خزنةُ جَهَنَّمَ.

فصل


المقت: أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال، فالمراد منه الإنكار والزجر، قال الفراء قوله ﴿يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله﴾ معناه ينادون أن مقت الله، يقال: ناديت إن زيداً قائمٌ، وناديت لَزَيْدٌ قائم.
ثم إنه تعالى بين أن الكفار إذا خوطبوا بهذا الخطابُ قالوا: ﴿ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين.....﴾ الآية: «اثنتين» نعت مصدر محذوف تقديره إمَاتَتَيْنِ اثْنَتَيْن. قال عباس وقتادة والضحاك: كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للعبث يوم القيامة فهما موتان وحياتان، وهو كقوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨]. وقال السديّ: أميتُوا في الدنيا ثم أُحْيُوا في قبورهم للسؤال ثم أميتُوا في قبورهم، ثم أُحْيُوا في الآخرة. وقوله ﴿فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾ أي من خروج من النار إلى الدنيا فنصلح ِأعمالنا ونعمل بطاعتك، وَمَّر نظيرُ: ﴿هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ﴾ [الشورى: ٤٤] والمعنى أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسداً باطلاً تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليشتغلوا بالأعمال الصالحة.
فإن قيل: الفاء في قوله: «فاعْتَرَفْنَا» يقتضي أن تكون الإماتةُ مرتين (والإحياءُ مرتين) سبباً لهذا الاعتراض فما وجه هذه السَّبَبِيَّةِ؟.
20
فالجواب: لأنهم كانوا منكرين البعث فلما شاهدوا هذا الأحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن تلك الإماتة والإحياء.
واعلم أنهم لما قالوا فهل إلى خروج من سبيل فالجواب الصريح عنه أن يقال: لا أن نعم وهو تعالى لم يَقُلْ ذلك بل قال كلاماً يدل على أنه لا سبيل لهم إلى الخروج وهو قوله ﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ﴾ أي ذلك الذي أنتم فيه من العذاب والخلود من النار وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط إنما وقع بسبب كفرهم بتوحيد الله، أي إذا قيل لا إله إلا الله كفرتم وقلتمْ
﴿أَجَعَلَ
الآلهة
إلها
وَاحِداً﴾
[ص: ٥] ﴿وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ﴾ أي تصدقوا ذلك الشرك.
قوله «وَحْدَهُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدر في موضع الحال، وجاز كونه معرفة لفظاً لكونة في قوة النكرة، كأنه قيل: منفرداً.
والثاني وهو قول يُونُسَ: أنه منصوب على الظرف والتقدير: دُعِيَ عَلَى حِيَالِهِ. وهو مصدر محذوف الزوائد، والأصل أوْحَدتُهُ إيحاداً.
قوله «فَالحُكْمُ للهِ» حيث حكم عليكم بالعذاب السَّرْمَدِ. وقوله: «العَلِيِّ الكِبِيرِ» يدل على الكبرياء والعظمة الذي لا أعلى منه ولا أكبر.
21
ثم إنه تعالى بين أن الكفار إذا خوطبوا بهذا الخطابُ قالوا :﴿ ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين. . . . . ﴾ الآية :«اثنتين » نعت مصدر محذوف تقديره إمَاتَتَيْنِ اثْنَتَيْن١. قال عباس وقتادة والضحاك : كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما موتان وحياتان، وهو كقوله :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ]. وقال السديّ : أميتُوا في الدنيا ثم أُحْيُوا في قبورهم للسؤال ثم أميتُوا في قبورهم، ثم أُحْيُوا في الآخرة. وقوله ﴿ فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴾ أي من خروج من النار إلى الدنيا فنصلح ِأعمالنا ونعمل بطاعتك، وَمَّر نظيرُ :﴿ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴾٢ [ الشورى : ٤٤ ] والمعنى أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسداً باطلاً تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليشتغلوا بالأعمال الصالحة.
فإن قيل : الفاء في قوله :«فاعْتَرَفْنَا » يقتضي أن تكون الإماتةُ مرتين ( والإحياءُ٣ مرتين ) سبباً لهذا الاعتراض فما وجه هذه السَّبَبِيَّةِ ؟.
فالجواب : لأنهم٤ كانوا منكرين البعث فلما شاهدوا هذا الأحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن تلك الإماتة والإحياء.
١ الرازي السابق..
٢ انظر هذه الأقوال كلها في تفسير البغوي ٦/٩٠، ٩١..
٣ سقط من ب..
٤ في ب: أنهم..
واعلم أنهم لما قالوا فهل إلى خروج من سبيل فالجواب الصريح عنه أن يقال : لا أن نعم وهو تعالى لم يَقُلْ ذلك بل قال كلاماً يدل على أنه لا سبيل لهم إلى الخروج وهو قوله ﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ﴾ أي ذلك الذي أنتم فيه من العذاب والخلود من النار وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط إنما وقع بسبب كفرهم بتوحيد الله، أي إذا قيل لا إله إلا الله كفرتم وقلتمْ ﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً ﴾ [ ص : ٥ ] ﴿ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ ﴾ أي تصدقوا ذلك الشرك١.
قوله «وَحْدَهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر في موضع الحال، وجاز كونه معرفة لفظاً لكونه في قوة النكرة، كأنه قيل : منفرداً٢.
والثاني وهو قول يُونُسَ : أنه منصوب على الظرف والتقدير : دُعِيَ عَلَى حِيَالِهِ٣. وهو٤ مصدر محذوف الزوائد، والأصل أوْحَدتُهُ إيحاداً.
قوله «فَالحُكْمُ للهِ » حيث حكم عليكم بالعذاب السَّرْمَدِ. وقوله :«العَلِيِّ الكِبِيرِ » يدل على الكبرياء والعظمة الذي لا أعلى منه ولا أكبر.
١ انظر الرازي ٢٧/٣٩، ٤١..
٢ هذا قول إمام النحاة قال: جعلوا ما أضيف ونصب نحو: خمستهم بمنزلة طاقته وجهده ووحده، وجعلوا الجماء الغفير بمنزلة العراك. انظر الكتاب ١/٣٧٧ وشرح ابن يعيش ٢/٦٣..
٣ وفي الكتاب أيضا: "وزعم يونس أن وحده بمنزلة عنده جعل يونس نصب وحدة كأنك قلت: مررت برجل على حياله فطرحت "على" فمن ثم قال: هو مثل عنده". المرجع السابق ١/٣٧٨، ٣٧٧ وفيه ثالث للخليل، وهو النصب على المصدر وقال سيبويه: وزعم الخليل ـ رحمه الله ـ أنه لم يستعمل الكتاب ١/٣٧٤ وانظر في هذا أيضا الدر المصون ٤/٦٨٠..
٤ في ب وهي بالتأنيث..
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ ليدل على كمال قدرته وحكمته وأنه لا يجوز
21
جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصور شركاء لله تعالى في المعبودية، ثم قال ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً﴾ يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرٍ «ينزل» خفيفة والباقون بالتشديد.
واعلم أن أهم المُهّمات رعايةُ مصالح الأديان ومصالح الأبدان، فالله تالى يراعي مصالح أديان العباد بإظهار البَيِّنات والآيات وراعى مصالح العباد بأبدانهم بإنزال الرزق من السماء فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان وعند حصولها يحصل الإنعام الكامل.
ثم قال: ﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ﴾ أي ما يتعظ بهذه الآيات إلا من يرجع إلى الله في جميع أموره فيعرض عن غير الله ويقبل الكليّة على الله تعالى ولهذا قال ﴿فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ عن الشرك وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ.
قوله تعالى: «رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ» فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مبتدأ والخبر «ذو العرش» و «يُلْقِي الروح» يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً، ويجوز أن يكونَ الثلاثة أخباراً لمبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون الثلاثة أخباراً لقوله ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمْ﴾ قال الزمخشري: ثلاثة أخبار يجوز أن تكون مترتبة على قوله ﴿هو الذي يريكم﴾ أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً، قال شهاب الدِّين: أما الأول ففيه طول الفصل وتعدد الأخبار، وليست في معنى خبر واحد، (وأما الثاني ففيه تعدد الأخبار وليس في معنى واحد) وهي مسألة خلاف ولا يجوز أن كيون «ذُو العَرْشِ» صفة «لِرَفيعِ الدرجات» إن جعلناه صفة مشهبة، أما إذا جعلناه مثال مبالغة أي يرفع درجات المؤمنين فيجوز ذلك على أن يجعل إضافته محضة، وكذلك عند من يُجَوِّزُ تَمَحُّضَ إضافة الصفة المشبهة أيضاً. وقد تقدم، وقرىء «رَفِيعَ» بالنصب على المدح.

فصل


لما ذرك من صفات كبريائه كونه مظهراً للآيات منزلاً للأرزاق ذكر في هذه الآية
22
ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله رفيع الدرجات وهذا يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع، فإن حملناهُ على الأول ففيه وجوه:
الأول: أن الله يرفع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة.
والثاني: يرفع درجات الخلق في العلوم والأخلاق الفاضلة فجعل لكل أحد من الملائكة درجةً معيّنة كما قال: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ الصافات: ١٦٤]، وجعل لكل أحد من العلماء درجة معينة فقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١] وعين لكل جسم درجةً معينة فجعل بعضها سُفْليّة كدرة، وبعضها فلكية كوكبية، وبعضها من جواهر العرش والكرسي، وأيضاً جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخَلْقِ والخُلُقِ والرزق والأجل فقال:
﴿وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الأنعام: ١٦٥] وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة وفي الآخرة تظهر تلك الآثار. وإن جعلنا «الرفيع» على «المرتفع» فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال. وقوله «ذُو العرْشِ» أي خالقه ومالكه ومدبره، و «يُلْقِي الرُّوح» أي ينزل الوحي من السماء روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح وقوله «مِنْ أَمْرِهِ» متعلق ب «يُلْقِي»، و «مِنْ» لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حَالٌ من «الروح».

فصل


قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما معنى من أمره أي من قضائه، وقيل: من قوله. وقال مقاتل بأمره على من يشاء من عباده. وقلوه: ﴿لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق﴾ العامة على بنائه للفاعل، ونصب اليوم والفاعل هو الله تعالى أو الروح أو «مَنْ يَشَاءُ: أو الرسول، ونصب» اليوم «إما على الظرفية والمُنْذَرُ به محذوف تقديره لينذر العذابُ يوم التلاقي، وإما المفعول به اتساعاً في الظرف وقرأ ابيّ وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم على الفاعلية مجازاً أي لينذر الناس العذاب يوم التلاق. وقرأ الحسن واليمانيّ» لتنذر «بالتاء من فوق وفيه وجهان:
أحدهما: أن الفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
23
والثاني: أن الفاعل ضمير الروح فِإنها مؤنثة على رأيٍ.
وقرأ اليماني أيضاً» لينذر «مبنياً للمفعول» يوم «بالرفع وهي تؤيد نصبه في قراءة الجمهور على المفعول به اتساعاً. وأثبت ياء» التلاق «وصلاً ووقفاً ابن كثير، وأثبتها في الوقف دون الوصل من غيلا خلاف ورشٌ، وحذفهنا الباقون وصلاً ووقفاً إلا قَالُونُ، فإنه روي عنه وجهان، وجهٌ كورشٍ، ووجه كالباقين، وكذلك هذا الخلاف بعينه جارٍ في» يَوْم التَّنَادِ «. وقد تقدم توجيه هنذه الوجيهن في الرَّعْد في قوله: ﴿الكبير المتعال﴾ [الرعد: ٩].
قوله»
﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ﴾ في «يوم» أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه بدل من «يوم التلاق» بدل كل من كل.
الثاني: أن ينتصب بالتلاق أي يقع التلاق في يوم بُرُوزِهمْ.
الثالث: أن ينتصب بقوله لا يَخْفَى عَلَى اللهِ (مِنْهُمْ شَيْءٌ) ذكره ابن عطية. وهذا على أحد الأقوال الثللاثة في «لا» هل يعمل ما بعدها فيما قبلها؟ ثالثها التفصيل بين أن تقع جواب قسم فيمتنع أو لا فيجوز هذا على قولين من هذه الأقوال.
الرابع: أن ينتصب بإضمار «اذكر» و «يوم» ظرف مستقبل «كإذا».
وسيبويه لا يرى إضافة الظرف المستقبل إلى الجمل الاسمية والأخفش يراه ولذلك قدر سيبويه في قوله ﴿إِذَا السمآء انشقت﴾ [الإنشقاق: ١] ونحوه فعلاً قبل الاسم، والأخفش لم يقدرْه، وعلى هذا فظاهر الآية مع الأخفش. ويجاب عن سيبويه بأن «هُمْ» ليس مبتدأ بل مرفوعاً بفعل محذوف
24
يفسره اسمُ الفاعل، أي يوم برزوا ويكون «بارزون» خبرَ مبتدأ مضمر، فلما حذف الفعل انفصل الضمير فَبَقِيَ كما ترى، وهذا كما قالوا في قوله (رَحِمَهُ اللهُ) :
٤٣٢٢ - لَوْ بغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ كُنْتُ كالغَصَّانِ بِالمَاءِ اعْتِصَارِي
في أَنَّ «حَلْقِي» مرفوعٌ بفعل يفسره «شَرِقٌ» ؛ لأنَّ «لَوْ» لا يليها إلا الأفعال، وكذا قوله (شعرا)
٤٣٢٣ -......................... إليَّ فَهَلاَّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِيعُها
لأنَّ «هَلاَّ» لا يليها إلا الأفعال، فالمفسَّر في هذه المواضع ِأسماء مشتقة وهو نظير: أنا زَيْداً أضَارِبُهُ من حين التفسير، وحركة «يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ» حركة إعراب على المشهور، ومنهم من جوز بناء الظرف وإن أضيف إلى فعلٍ مضارع أو جملة اسمية هعي وهم الكوفيون، وقد وَهَمَ بعضُهم فَحَتَّم بناء الظرف المضاف للجمل الاسمية وقد تقدم أنه لا يبنى عند البصريين إلا ما أضيف إلى (فعل) ما نُصضَّ كقوله:
٤٣٢٤ - عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ......................................
25
وتقدم هذا مُسْتَوْفًى في آخر المائدة.
وكتبوا «يَوْمَ» هنا وفي الذاريات منفصلاً، وهو الأصل.
قوله: ﴿لاَ يخفى عَلَى الله﴾ يجوز أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً من ضمير «بَارِزُونَ»، وأن تكومن خبراً ثانياً.

فصل


قال بعض المفسرين: يوم التلاق هو يوم يلتقي أهلُ السماء وأهل الأرض. وقال قتادة ومقاتل: يلتقي الخلق والخالق. وقال بن زيد: يتلاقى العباد. وقال مَيْمُونُ بْنُ مَهْرَانَ: يلتقي الظالم والمظلوم، وقيل: يلتقي العابد والمعبود، وقيل: يلتقي فيه المرء مع عمله، وقيل: يلتقي الأرواح مع الأجساد، بعد مفارقتها إياها يوم هم بارزون، كناية عن ظهور أعمالهم وانكشاف أسرارهم كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تبلى السرآئر﴾ [الطارق: ٩].
﴿لا يخفى على الله منهم﴾ أي من أحوالهم شيء ويقول الله سبحانه بعد فناء الخلق «لمن الملك اليوم» فلا يجيبه أحد فيتجيب نفسه فيقول ﴿لِلَّهِ الواحد القهار﴾ الذي قهر الخلق بالموت.
فإن قيل: الله تعالى لا يخفى عليه شيء منهم في جميع الأيام فما معنى تقييد هذا العلم بذلك اليوم؟.
فالجواب: أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحِيطَان والحُجُب أن الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حالة لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمونه في الدنيا، كما قال تعالى: ﴿ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾
[فصلت: ٢٢]، وقال تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ [النساء: ١٠٨] وهو معنى قوله: ﴿وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم: ٤٨].

فصل


قال المفسرون: إذا هلك كل من في السموات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى: لِمن الملك اليوم؟ يعني يوم القيامة، فلا يجيبه أحد، فهو تعالى يجيب نفسه فيقول: لله الواحد القهار، قال ابن الخطيب: قال أهل الأصول هذا القول ضعيف من وجوه:
26
الأول: أنه تعالى بين أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق يوم هم بارزون، ويوم تجزى كل نفس ما كسبت، والناس في ذلك الوقت أحياء فبطل قولهم إنما ينادى هذا النداء حين يَهْلِكُ كُلُّ من في السموات ومن في الأرض.
الثاني: أن الكلام لا بد فيه من فائدة؛ لأن الكلام إما أن يذكر حالَ حُضُور الغير أو حالَ ما لا يَحْضُرُ الغير، والأول باطل ههنا؛ لأن القوم قالوا: إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل. والثاني أيضاً باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأن يحفظ به شيئاً كتكريره على الدرس وذلك على الله تعالى محال أو لأجل أن يعدي الله بذلك الذكر وهذا ايضاً على الله تعالى محال فثبت (أن) قولهم: إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات باطل، وقال بعض المفسرين: إنه في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا لله نادى منادٍ: لمن الملك اليوم؟ فيقول كل الحاضرين في محفل القيامة: لله الواحد القهار، فالمؤمنون يقولونه تلذذاً بهذا اللكلام حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة، والكفار يقولونه تحسراً وصَغَاراً وندامةً على تفويتهم هذا الذكر في الدنيا، وقال القائلون بهذا القول الأول عن ابن عباس وغير إن هذا النداء بعد هلاك البشر لم يمنع أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء ويجيبون بقولهم: لله الواحد القهار. وقال ابن الخطيب: أيضاً على هذا القول لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى، ولا يعبد أيضاً أن يكون السائل جمعاً من الملائكة والمجيب جمع آخرون وليس على التعهيين دليل.
قوله: ﴿اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ يجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته ﴿لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾.
27
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ ليدل على كمال قدرته وحكمته وأنه لا يجوز جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصور شركاء لله تعالى في المعبودية، ثم قال ﴿ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً ﴾ يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرٍ «ينزل » خفيفة والباقون بالتشديد١.
واعلم أن أهم المُهّمات رعايةُ مصالح الأديان ومصالح الأبدان، فالله تعالى يراعي مصالح أديان العباد بإظهار البَيِّنات والآيات وراعى مصالح العباد بأبدانهم بإنزال الرزق من السماء فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان وعند حصولها يحصل الإنعام الكامل.
ثم قال :﴿ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ ﴾ أي ما يتعظ بهذه الآيات إلا من يرجع إلى الله في جميع أموره فيعرض عن غير الله ويقبل الكليّة على الله تعالى ولهذا قال ﴿ فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ عن الشرك وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ٢.
١ الإتحاف ٣٧٨..
٢ وانظر تفسير الفخر ٢٧/٤٢..

قوله تعالى :«رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ » فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مبتدأ والخبر «ذو العرش » و«يُلْقِي الروح » يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً، ويجوز أن يكونَ الثلاثة أخباراً لمبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون الثلاثة أخباراً لقوله ﴿ هُوَ الذي يُرِيكُمْ ﴾١ قال الزمخشري : ثلاثة أخبار يجوز أن تكون مترتبة على قوله ﴿ هو الذي يريكم ﴾ أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً٢، قال شهاب الدِّين : أما الأول ففيه طول الفصل وتعدد الأخبار، وليست في معنى خبر واحد، ( وأما٣ الثاني ففيه تعدد الأخبار وليس في معنى واحد ) وهي مسألة خلاف ولا يجوز أن يكون «ذُو العَرْشِ » صفة «لِرَفيعِ الدرجات » إن جعلناه صفة مشبهة، أما إذا جعلناه مثال مبالغة أي يرفع درجات المؤمنين فيجوز ذلك على أن يجعل إضافته محضة، وكذلك عند من يُجَوِّزُ تَمَحُّضَ إضافة الصفة المشبهة أيضاً٤. وقد تقدم، وقرئ «رَفِيعَ »٥ بالنصب على المدح.

فصل


لما ذكر من صفات كبريائه كونه مظهراً للآيات منزلاً للأرزاق ذكر في هذه الآية ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله رفيع الدرجات وهذا يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع، فإن حملناهُ على الأول ففيه وجوه :
الأول : أن الله يرفع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة.
والثاني : يرفع درجات الخلق في العلوم والأخلاق الفاضلة فجعل لكل أحد من الملائكة درجةً معيّنة كما قال :﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ [ الصافات : ١٦٤ ]، وجعل لكل أحد من العلماء درجة معينة فقال تعالى :﴿ يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ ﴾ [ المجادلة : ١١ ] وعين لكل جسم درجةً معينة فجعل بعضها سُفْليّة كدرة، وبعضها فلكية كوكبية، وبعضها من جواهر العرش والكرسي، وأيضاً جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخَلْقِ والخُلُقِ والرزق والأجل فقال :﴿ وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾ [ الأنعام : ١٦٥ ] وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة وفي الآخرة تظهر تلك الآثار. وإن جعلنا «الرفيع » على «المرتفع » فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال. وقوله «ذُو العرْشِ » أي خالقه ومالكه ومدبره، و «يُلْقِي الرُّوح » أي ينزل الوحي من السماء روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح٦ وقوله «مِنْ أَمْرِهِ » متعلق ب «يُلْقِي »، و«مِنْ » لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حَالٌ من «الروح »٧.

فصل


قال ابن عباس رضي الله عنهما : معنى من أمره أي من قضائه، وقيل : من قوله. وقال مقاتل بأمره على من يشاء من عباده٨. وقوله :﴿ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق ﴾ العامة على بنائه للفاعل، ونصب اليوم والفاعل هو الله تعالى أو الروح أو «مَنْ يَشَاءٍَُ » : أو الرسول، ونصب » «اليوم » «إما على الظرفية والمُنْذَرُ به محذوف تقديره لينذر العذابُ يوم التلاقي، وإما المفعول به اتساعاً في الظرف٩ وقرأ أبيّ وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم١٠ على الفاعلية مجازاً أي لينذر الناس العذاب يوم التلاق. وقرأ الحسن واليمانيّ «لتنذر » بالتاء من فوق١١ وفيه وجهان :
أحدهما : أن الفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
والثاني : أن الفاعل ضمير الروح فِإنها مؤنثة على رأيٍ.
وقرأ اليماني أيضاً «لينذر١٢ » مبنياً للمفعول «يوم » بالرفع وهي تؤيد نصبه في قراءة الجمهور على المفعول به اتساعاً. وأثبت ياء «التلاق » وصلاً ووقفاً ابن كثير، وأثبتها في الوقف دون الوصل من غير خلاف ورشٌ، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً إلا قَالُونُ، فإنه روي عنه وجهان، وجهٌ كورشٍ، ووجه كالباقين، وكذلك هذا الخلاف بعينه جارٍ في «يَوْم التَّنَادِ١٣ ». وقد تقدم توجيه هنذه الوجهين في الرَّعْد في قوله :﴿ الكبير المتعال ﴾١٤ [ الرعد : ٩ ].
١ انظر هذه الإعرابات في الدر المصون ٤/٦٨١ والتبيان ١١١٧ واختار النحاس في الإعراب ٤/٢٨ أن يكون "رفيع" خبر مبتدأ محذوف فقط..
٢ كشاف الزمخشري ٣/٤١٩..
٣ ما بين القوسين كله سقط من ب بسبب انتقال النظر والفقرة بكاملها في الدر المصون ٤/٦٨٠، ٦٨١..
٤ الدر المصون ٤/٦٨١..
٥ نقلت في البحر والكشاف بدون نسبة لمن قرأ بها وأجازها الأخفش في معانيه عربية ولم يحكها قراءة انظر البحر ٧/٤٥٤ والكشاف ٣/٤١٧ ومعاني الأخفش، وانظر أيضا الجامع لأحكام القرآن ١٥/٢٢٩ وإعراب القرآن للنحاس ٤/٢٨ والدر المصون ٤/٦٨١..
٦ الرازي ٢٧/٤٢، ٤٣..
٧ الدر المصون ٤/٦٨١ والتبيان ١١١٦..
٨ البغوي والخازن في تفسيريهما ٦/٩١..
٩ أورد هذه الإعرابات شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤/٦٨١..
١٠ نقلها الزمخشري في الكشاف ٣/٤١٩ وأبو حيان في البحر ٧/٤٥٥..
١١ السابقين وانظر مختصر ابن خالويه ١٣٢ وانظر هذه القراءات أيضا كلها في الدر المصون ٤/٦٨١، وانظر قراءة الخطاب في معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٣٦٩..
١٢ ذكرها البحر المحيط في ٧/٤٥٥ نقلا عن صاحب اللوامح أبي الفضل الرازي كما ذكرها السمين في الدر المصون ٤/٦٨١..
١٣ ذكر صاحب الإتحاف والسبعة هذه التفصيلات فهي قراءات متواترة. انظر الإتحاف ٣٧٨ والسبعة ٥٦٨ وانظر الدر المصون المرجع السابق..
١٤ وبين هناك: وقف ابن كثير وأبو عمرو في رواية على ياء "المتعال" وصلا ووقفا بينما حذفها الباقون وصلا ووقفا لحذفها في الرسم. وانظر اللباب ٤/١٢٧ ب..
قوله » ﴿ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ﴾ في «يوم » أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه بدل من «يوم التلاق » بدل كل من كل١.
الثاني : أن ينتصب بالتلاق أي يقع التلاق في يوم بُرُوزِهمْ٢.
الثالث : أن ينتصب بقوله لا يَخْفَى عَلَى اللهِ ( مِنْهُمْ شَيْءٌ ) ذكره ابن عطية٣. وهذا على أحد الأقوال الثلاثة في «لا » هل يعمل ما بعدها فيما قبلها ؟ ثالثها التفصيل بين أن تقع جواب قسم فيمتنع أو لا فيجوز هذا على قولين من هذه الأقوال٤.
الرابع : أن ينتصب بإضمار «اذكر »٥ و«يوم » ظرف مستقبل «كإذا ».
وسيبويه لا يرى إضافة الظرف المستقبل إلى الجمل الاسمية والأخفش يراه ولذلك قدر سيبويه في قوله ﴿ إِذَا السمآء انشقت ﴾ [ الإنشقاق : ١ ] ونحوه فعلاً قبل الاسم، والأخفش لم يقدرْه، وعلى هذا فظاهر الآية مع الأخفش. ويجاب عن سيبويه بأن «هُمْ » ليس مبتدأ بل مرفوعاً بفعل محذوف يفسره اسمُ الفاعل، أي يوم برزوا ويكون «بارزون » خبرَ مبتدأ مضمر، فلما حذف الفعل انفصل الضمير فَبَقِيَ كما ترى، وهذا كما قالوا في قوله ( رَحِمَهُ٦ اللهُ ) :
٤٣٢٢ لَوْ بغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ كُنْتُ كالغَصَّانِ بِالمَاءِ اعْتِصَارِي٧
في أَنَّ «حَلْقِي » مرفوعٌ بفعل يفسره «شَرِقٌ » ؛ لأنَّ «لَوْ » لا يليها إلا الأفعال، وكذا قوله ( شعرا )٨
٤٣٢٣. . . . . . . . . . . . . . إليَّ فَهَلاَّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِيعُها٩
لأنَّ «هَلاَّ » لا يليها إلا الأفعال، فالمفسَّر في هذه المواضع ِأسماء مشتقة وهو نظير : أنا زَيْداً أضَارِبُهُ من حيث التفسير، وحركة «يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ » حركة إعراب على المشهور، ومنهم من جوز بناء الظرف وإن أضيف إلى فعلٍ مضارع أو جملة اسمية وهم الكوفيون، وقد وَهَمَ بعضُهم فَحَتَّم بناء الظرف المضاف للجمل الاسمية وقد تقدم أنه لا يبنى عند البصريين إلا ما أضيف إلى ( فعل١٠ ) ما نُصضَّ كقوله :
٤٣٢٤ عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ١١
وتقدم هذا مُسْتَوْفًى في آخر المائدة١٢.
وكتبوا «يَوْمَ » هنا وفي الذاريات١٣ منفصلاً، وهو الأصل.
قوله :﴿ لاَ يخفى عَلَى الله ﴾ يجوز أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً من ضمير «بَارِزُونَ »، وأن تكون خبراً ثانياً١٤.

فصل


قال بعض المفسرين : يوم التلاق هو يوم يلتقي أهلُ السماء وأهل الأرض. وقال قتادة ومقاتل : يلتقي الخلق والخالق. وقال بن زيد : يتلاقى العباد. وقال مَيْمُونُ بْنُ مَهْرَانَ : يلتقي الظالم والمظلوم، وقيل : يلتقي العابد والمعبود، وقيل : يلتقي فيه المرء مع عمله، وقيل : يلتقي الأرواح مع الأجساد، بعد مفارقتها إياها يوم هم بارزون، كناية عن ظهور أعمالهم وانكشاف أسرارهم كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ تبلى السرآئر ﴾ [ الطارق : ٩ ].
﴿ لا يخفى على الله منهم ﴾ أي من أحوالهم شيء ويقول الله سبحانه بعد فناء الخلق «لمن الملك اليوم » فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه فيقول ﴿ لِلَّهِ الواحد القهار ﴾ الذي قهر الخلق بالموت١٥.
فإن قيل : الله تعالى لا يخفى عليه شيء منهم في جميع الأيام فما معنى تقييد هذا العلم بذلك اليوم ؟.
فالجواب : أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحِيطَان والحُجُب أن الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حالة لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمونه١٦ في الدنيا، كما قال تعالى :﴿ ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ فصلت : ٢٢ ]، وقال تعالى :﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٠٨ ] وهو معنى قوله :﴿ وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ ﴾ [ إبراهيم : ٤٨ ].

فصل


قال المفسرون : إذا هلك كل من في السموات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى : لِمن الملك اليوم ؟ يعني يوم القيامة، فلا يجيبه أحد، فهو تعالى يجيب نفسه فيقول : لله الواحد القهار، قال ابن الخطيب : قال أهل الأصول هذا القول ضعيف من وجوه :
الأول : أنه تعالى بين أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق يوم هم بارزون، ويوم تجزى كل نفس ما كسبت، والناس في ذلك الوقت أحياء فبطل قولهم إنما ينادى هذا النداء حين يَهْلِكُ كُلُّ من في السموات ومن في الأرض.
الثاني : أن الكلام لا بد فيه من فائدة ؛ لأن الكلام إما أن يذكر حالَ حُضُور الغير أو حالَ ما لا يَحْضُرُ الغير، والأول باطل ههنا ؛ لأن القوم قالوا : إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل. والثاني أيضاً باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأن يحفظ به شيئاً كتكريره على الدرس وذلك على الله تعالى محال أو لأجل أن يعدي الله بذلك الذكر وهذا أيضاً على الله تعالى محال فثبت ( أن١٧ ) قولهم : إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات باطل، وقال بعض المفسرين : إنه في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا لله نادى منادٍ : لمن الملك اليوم ؟ فيقول كل الحاضرين١٨ في محفل القيامة : لله الواحد القهار، فالمؤمنون يقولونه تلذذاً بهذا الكلام حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة، والكفار يقولونه تحسراً وصَغَاراً وندامةً على تفويتهم هذا الذكر في الدنيا، وقال القائلون بهذا القول الأول عن ابن عباس وغير إن هذا النداء بعد هلاك البشر لم يمنع أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء ويجيبون بقولهم : لله الواحد القهار. وقال ابن الخطيب : أيضاً على هذا القول لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى، ولا يعبد أيضاً أن يكون السائل جمعاً من الملائكة والمجيب جمع آخرون وليس على التعيين دليل١٩.
١ البيان لابن الأنباري ٢/٣٢٩ والدر المصون ٤/٦٨٢..
٢ السابق وانظر التبيان ١١١٦، ١١١٧..
٣ البحر المحيط ٧/٤٥٥..
٤ ذكر الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر ١/١٤٠، ١٤١ والهمع ٢/٧٨ أن في "لا" النافية أقوال، أولها: أن لها الصدر مثل "ما" النافية وعليه فلا يجوز أن يتقدم معمول ما بعدها عليها لامتناع تقدم ما بعدها عليها. وثانيها وثالثها وهو الأصح لها الصدارة إذا كانت في مثل قوله تعالى: ﴿لئن أخرجوا لا يخرجون معهم﴾ ومثل: رب رجل لا يفعل هذا. أما إذا كانت على نفي الفعل في الاستقبال فليس لها الصدارة وقول ابن عطية يجوز على أحد هذه الأقوال..
٥ التبيان ١١١٧..
٦ سقطت من ب..
٧ بيت من الرمل لعدي بن زيد، والشرق الذي يغص بالماء فلا يقدر على بلعه. والاعتصار أن يغص الإنسان بالطعام فيعتصر بالماء فيشربه قليلا ليسيغه وشاهده: "حلقي" فإنه فاعل لفعل محذوف دل عليه الوصف المذكور بعده وهو "شرق" كما أخبر هو أعلى فوق، ومجيء الاسمية بعد "لو" هو قول إمام النحاة سيبويه ٣/١٢١، وقد تقدم..
٨ زيادة من ب..
٩ عجز بيت من الطويل للصمة القشيري، وينسب إلى قيس بن الملوح وإلى ابن الدمينة وإلى إبراهيم الصولي، وتمامه:
يقولون ليلى أرسلت بشفاعة إلي فهلا نفس ليلى شفيعها
ويروى: ونبئت ليلى، وشاهده كسابقه من رفع نفس بفعل محذوف يفسره ما بعده لأن "هلا" لا تدخل إلا على فعل، وانظر الخزانة ٣/٦٠، ٦١، ٨/١٣ والدر المصون هو وسابقه ٤/٦٨٣ وشرح المفصل لابن يعيش وابن الناظم ٢٧٩ وتوضيح المقاصد ٤/٢٩٠ والمغني ٧٤ وحاشية الأمير ١/٢١٣ والهمع ٢/٦٧ والأشموني ٢/٢٥٩، ٤/٥٢ والتصريح ٢/٤١، ٢٦٣..

١٠ سقط من ب..
١١ هذا بعض بيت من الطويل للنابغة الذبياني وهو بتمامه:
................. على الصبا وقلت: ألما أصح والشيب وازع
وشاهده في "حين عاتبت" حيث بني على الفتح لإضافته إلى فعل بناؤه لازم، ويجوز كسره للإعراب وعلى الأول ظرف كما في "ودخل المدينة على حين غفلة" أي في وقت غفلة، وانظر الكتاب ٢/٣٣١ والمنصف ١/٥٨ وأمالي الشجري ١/٤٦ و٢/١٣٢، وشرح ابن يعيش ٣/١٦، ٨٢، ٤/٩١، ٨/١٤٦ والإنصاف ٢٩٢ وشذور الذهب ١١٢ والمغني ٥١٧ والتصريح ٢/٤٢ والهمع ١/٢١٨، والأشموني ٢/٢٥٦، ٣/٢٢٦، ٤/٨..

١٢ عند قوله: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" من الآية ١١٩..
١٣ وهو قوله: ﴿يوم هم على النار يفتنون﴾..
١٤ ذكر هذه الأوجه العكبري في التبيان ١١١٧ والسمين في الدر ٤/٦٨٤..
١٥ ذكر هذه الأقوال البغوي والخازن في تفسيريهما ٦/٩٠..
١٦ كذا في الرازي وفي ب بتوهمون..
١٧ سقط من ب فقط..
١٨ في النسختين الحاضرون لحن وخطأ وانظر تفسير الرازي ٢٧/٤٦..
١٩ المرجع السابق..
قوله :﴿ اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ يجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته ﴿ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة... ﴾ والمقصود بها وصف يوم القيامة، ويوم الآزفة يجوز أن يكون مفعولاً به اتساعاً، وأن يكون ظرفاً، والمفعول محذوف، والآزفة فاعلة من أَزِفَ الأمْرُ إذا دنا وحضر، كقوله في صفة القيامة ﴿أَزِفَتِ الآزفة﴾ [
27
النجم: ٥٧]. أي قربت، قال النابغة الشاعر (رحمة الله عليه) :
٤٣٢٥ - أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنا لَمَّا تَزَلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ
وقال كعب بن زهير:
٤٣٢٦ - بانَ الشَّبَابُ وهذا الشَّيْبُ قَدْ أَزِفَا وَلاَ أَرَى لِشَبَابٍ بَائِنٍ خَلَفَا
وقال الراغب: وأَزِفَ، وأَفِدَ يَتَعَاقَبَانِ، ولكن أَزِفَ يقال اعتباراً بضيق وقتها، ويقال أزف الشخوص، والأَزْفُ ضيقُ الوقت. قال شهاب الدين، فجعل بينهما فَرْقاً، ويروى بيت النابغة أَفِدَ والآزفة صفة لموصوف محذوف، فيجوز أن يكون التقدير الساعة الآزفة، أو الظلمة الآزفة، وقوله: «إذِ القُلُوبُ» بدل من «يوم الآزفة» أو من «هُمْ» في «أَنْذِرْهُمْ» بدل اشتمال.

فصل


المقصود من الآية التنبيه على أن يوم القيامة قريب، ونظيره قوله تعالى: ﴿اقتربت الساعة﴾ [القمر: ١] قال الزجاج: إنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها وما هو كائنٌ فهو قريب.
واعلم أن الآزفة نعت لمحذوف مؤنث فقيل: يوم القيامة الآزفة، أو يوم المجازاة الآزفة، قال القفال: وأسماء القيامة تجري على التأنيث كالطامة والحاقة ونحوها، كأنها يرجع معناها على الداهية.
وقيل: المراد بيوم الآزفة مُشَارَفَتُهُمْ دخول النار، فإن عند ذلك ترتفع قلوبهم
28
عن مقارِّها من شدة الخوف، وقال أبو مسلم: يوم الآزفة يوم حضور الأجل لأنه تعالى وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق ويوم هم بارزون، ثم قال بعنده: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة﴾ فوجب أن يكن ذلك اليوم غير ذلك اليوم وأيضاً فهذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات بيوم الموت قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم﴾ [الواقعة: ٨٣]، وقال ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي﴾ [القيامة: ٢٦] وأيضاً فوصف يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب، وأيضاً فالصفات المذكمورة بعد قوله: «يوم الآزفة» لائقة بيوم حضور المنية؛ لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب يَعْظُمُ خَوْفُهُ، فكأنّ قلوبهم تبلغ حناجرهم من شدة الخوف وبَقُوا كَاظِمِينَ ساكتين عن ذكر ما في قلوبهم من شدة الخوف، ولايكون لهم من حميم ولا شفيع يطاع ويدفع ما به من أنواع الخوف والقلق.
قوله: «كَاظِمينَ» نَصْبٌ على الحال، واختلفوا في صاحبها والعامل فيها، فقال «كاظمين» وهو أن يكون لما أسند إليهم ما يسند للعقلاء جمعت جمعه كقوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] و ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤] ويُعَضِّدُهُ قراءة من قرأ: «كَاظِمُونَ».
الثاني: أنها حال من «القلوب» وفيه السؤال والجواب المتقدمانِ، والمعنى أن القلوب كاظمة عن كَرْبٍ وغَمٍّ مع بلوغها الحناجر.
والثالث: أنه حال من أصحاب القلوب قال الزمخشري: هو حال من أصحاب القلوب على المعنى؛ إذ المعنى إذ قلوبهم لدى الحناجر كاظمينَ عليها. اقل شهابُ الدين: فكأنه في قوة أن جعل «أل» عوضاً من الضمير في حناجرهم.
الرابع: أن يكون حالاص من «هم» في «انذرهم» ويكون حالاً مقدرة لأنهم وقت
29
الإنذار غير كاظمين، وقال ابن عطية: كاظمين حال مما أبدل منه «إذ القُلُوب» أو مما يضاف إليه القلوب؛ إذ المراد إذ قُلُوب الناس لدى حناجرهم، وهذا كقوله ﴿تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار مُهْطِعِينَ﴾ [إبراهيم: ٤٢، ٤٣] أراد تشخيص فيه أباصرهم قال شهاب الدين: ظاهر قوله أنه حال مما أبدل منه قوله: «إذ القلوب» مشكل؛ لأنه أبدل من قوله: «يَوْم الآزفة» وهذا لا يصح البتَّة، وإنما يريد على الوجه الثاني وهو أن يكون بدلاً من «هُمْ» في أَنْذِرْهُمْ بدل اشتمال وحينئذ يصح، وقد تقدم الكلام على الكظم والحناجر في آل عمران والأحزاب.

فصل


قيل: المراد بقوله ﴿إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ﴾ شدة الخوف والفزع ونظيره قوله ﴿وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر﴾ [الأحزاب: ١٠] وقال: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ﴾ [الواقعة: ٨٣ و٨٤]. وقال الحسن: القلوب تنتزع من الصدور لشدة الخوف وبلغت القلوب الحناجر فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواقعها فيتنفّسوا ويَتَرَّوَحُوا، وقوله: (كاظمين) أي مكروبين، والكاظم الساكت حال امتلائه غماً وغيضاً والمعنى أنهم لا يمكنهم أن ينطقوا وأن يشرحوا ما عندهم من الخوف والحزن وذلك يوجب مزيد القلق والاضطراب.
قوله: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ﴾ قريب ينفعهم ﴿وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ فيشفع لهم. وقوله «يُطَاعُ» يجوز أن يحكم على موضعه بالجر نعتاً على اللفظ، وبالرَّفع نعتاً على المحل لأنه معطوف على المجرور بمن المزيدة، وقوله ﴿ولا شفيع يطاع﴾ من باب:
٤٣٢٧ - عَلَى لاَ حِبٍ لا يُهْتَدَى بمَنَارِهِ.................................
30
أي لا شفيع فلا طاعة، أو ثم شفيع ولكن لا يطاع.

فصل


احتجت المتعزلة بهذه الآية في نفي الشفاعة عن المذنبين فقالوا نفى حصول شفيع لهم يطاع فوجب أن لا يحصل لهم هذا الشفيع وأجيبوا بوجوه:
الأول: أنه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع وهذا لا يدل على نفي الشفيع، كقولك: ما عندي كتاب يباع فيقتضي نفي كتاب يباع ولا يقتضي نفي الكتاب، قال الشاعر:
٤٣٢٨ -............................ وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
أو لفظ الطاعة بمعنى حصول المرتبة فهذا يدل على أنه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه الله، لأن ليس في الوجود أحد أعلى حالاً من الله سبحانه وتعالى حتى يقال: إن الله تعالى يطيعه.
والثاني: أن المراد بالظالمين ههنا: الكفار، لأن هذه الآية وردت في زجر الكفار وقال تعالى:
﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣].
الثالث: أن لفظ الظالمين إما أن يفيد الاستغراق أو لا يفيد الاستغراق فإن كان المراد من الظالمين مجموعهم فيدخل في هذا المجموع هم الكفار وليس لهم شفيعٌ فحنيئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع، وإن لم يفد الاستغراقَ كان المراد من الظالمين بعضَ الموصوفين بهذه الصفة وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيعٌ وهم الكفار.
وأجاب (بعض] المعتزلة عن الأول فقالوا: يجب حمل كلام الله تعالى على محملٍ مفيد وكل أحد يعلم أنه ليس في الوجود شيء يطيعه الله لأن المطيع أدون حالاً من المطاع وليس في الوجود أعلى درجة من الله حتى يقال: إن الله يطيعه، وإذا كان هذا المعنى معلوماً بالضرورة كان حمل الآية عليه إخراجاً لها عن الفائدة، فوجب حمل الطاعة على الإجابة ويدل على أن لفظ الطاعة بمعنى الإجابة قولُ الشاعر:
31
وعن الثاني: بأن لفظ «الظالمين» صيغة جمع دخل عليها حرف التعريف فيفيد العموم، أَقْصَى ما في الباب أن هذه الآية وردت لذم الكافر، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعن الثالث أن قوله: ﴿ما للظالمين من حميم﴾ يفيد أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع يطاع.
وأجيبوا عن الأول بأن القوم كانوا يقولون في الأصنام: إنها شفعاؤهم عند الله، وكانوا يقولون: إنها تشفع لهم عند الله من غير حاجة إلى إذن فلهذا السبب رد الله تعالى عليهم ذلك بقوله: ﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فهذا يدل على أن القوم اعتقدوا أنه يجب على الله تعالى إجابة تلك الأصنام في الشفاعة وهذا نوع طاعة فالله تعالى نفى تلك الطاعة بقوله: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾. وعن الثاني بأن قالوا: الأصل في حرف التعريف أن ينصرف إلى المعهود السابق فإذا دخل حرف التعريف على صيغة الجمع وكان هناك معهود سابق انصرف إليه، وقد حصل في هذه الآية معهود سابق وهم الكفار الذين يجادلون في آيات الله فوجب أن ينصرف إليهم. وعن الثالث بأن قالوا قوله: ﴿ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع﴾ يحتمل عموم السلب، ويحتمل سلب العموم، أما الأول: فعلى تقدير أن يكون المعنى أنّ كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم، ولا شفيع. وأما الثاني: فعلى تقدير أن يكون مجموع الظالمين ليس لهم حميم ولا شفيع، ولا يلزم من نفي الحكم عن المجموع نفيه عن كل واحد من آحاد ذلك المجموع، ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾
[البقرة: ٦] وقوله: ﴿إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ٩٦] فإن حملناه على أن كل واحد منهم محكوم عليه بأنه لايؤمن لزم وقوع الخُلْفِ في كلام الله تعالى؛ لأن كثيراً ممن كفر قد آمن بعد ذلك، أما لو حملناه على أنّ مجموع الذين كفروا لا يؤمنون سواء آمن بعضهم أو لم يؤمن صدق وتخلص عن الخُلف، فلا جَرَمَ حلمنا هذه الآية على سلب العموم لا على عموم السلب وحينئذ يسقط استدلال المعتزلة بهذه الآية.
قوله «يَعْلَمُ» فيه أربعة أوجه:
أظهرها: أنه خبر آخر عن «هو» في قوله ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ [غافر: ١٣]، قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: بم اتصل قوله ﴿يعلم خائنة الأعين﴾ قلتُ: هو خبر من أخبار «
32
هو» في قوله ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ [غافر: ١٣] مثل «يُلْقِي الرُّوْحطَ» ولكن «يلقي الروح» قد علل بقوله «لِيُنْذِرَ» ثم استطرد لذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله «ولا شفيع يطاع» فبعد لذلك عن أخواته.
الثاني: أنه متصل بقوله «وأنْذِرْهُمْ» لما أمر بإنذاره يوم الآزمة وما يعرض فيه من شدة الغمِّ والكَرْبِ وأن الظالم لا يجد من يحميه ولا شفيع له، ذكر اطِّلاعَهُ على جميع ما يصدر من الخلق سِرًّا وجهراً إذ المعنى أنه تعالى عالم لا يخفى عليه مثقالُ ذرة في السموات والأرض، والحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحد كان خوف المذنب شديداً جداً وعلى هذا فهذه الجملة لا محل لها لأنها في قوة التعليل للأمر بالإنذار.
الثالث: ِأنها متصلة بقوله: «سَرِيع الحِسَابِ».
الرابع: أنها متصلة بقوله: ﴿لاَ يخفى عَلَى الله﴾ [غافر: ١٦] وعلى هذين الوجهين فيحتمل أن تكون جارية مجرى العلة، وأن تكون في محل نصب على الحال.
و «خَائِنَة الأَعْيُنِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنها مصدر بمعنى الخيانة كالعافية بمعنى المعافاة (والعافية) أي يعلم خيانة الأعين أي استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب.
والثاني: أنها صفة على بابها وهو من باب إضافة الصفة للموصوف والأصل الأعينُ الخائنة كقوله:
٤٣٣٠ -.............................. وإنْ سَقَيْتِ كِرَامَ النَّاسِ فاسْقِِينَا
وقد رده الزمخشري وقال: لا يحسن أن يراد الخائنةَ من الأعين لأن قوله: ﴿وَمَا تُخْفِي الصدور﴾ لا يساعد عليه يعنهي أنه لا يناسب أن يقابل المعنى إلا بالمعنى.
33
وفيه نظر؛ أذ لقائل أن يقول لا نسلم أن «ما» في قوله ﴿وما تخفي الصدور﴾ مصدرية حتى يلزم ما ذكره، بل يجوز أن يكون بمعنى الذي وهو عبارة عن نفس ذلك الشيء المخفي فيكون قد قابل الاسم غير المصدر بمثله، والمراد بقوله: ﴿وما تخفي الصدور﴾ أي تضمر القلوب.
واعلم أن الأفعال قسمان: أفعال الجوارح، وأفعال القلوب، وأما أفعال الجوارح فأخفاها خائنة الأعين والله بهات فكيف الحال في سائر الأعمال، وأما أفعال القلوب فهي معلومة لله تعالى لقوله ﴿وَمَا تُخْفِي الصدور﴾ فدل هذا على كونه عالماً بجميع أفعالهم.
قوله ﴿والله يَقْضِي بالحق﴾ وهذا أيضاً يوجب عظم الخوف لأن الحاكم إذا كان عالماً بجميع الأحوال وثبت أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل كان خوف المذنب منه في الغاية القُصْوَى.
قوله: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ»، قرأ نافعٌ وهشامٌ تَدْعَونَ بالخطاب للمُشْرِكِين والباقون بالغيبة، إخباراً عنهم بذلك.
واعلم أن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام فبين الله تعالى أنه لا فائدة فيها البتة، فقال: ﴿الذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾ ثم قال: ﴿إِنَّ الله هُوَ السميع البصير﴾ أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام، ولا يسمع ثناءهم على الله ويبصر خضوعهم وسجودهم، ولا يبصر خضوعهم وتواضعهم لله.
34
و«خَائِنَة الأَعْيُنِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنها مصدر بمعنى الخيانة كالعافية بمعنى المعافاة ( والعافية )١ أي يعلم خيانة الأعين أي استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب.
والثاني : أنها صفة على٢ بابها وهو من باب إضافة الصفة للموصوف والأصل الأعينُ الخائنة كقوله :
٤٣٢٩ - رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً صَدْرَهُ قَدْ تَمَنَّى لِيَ موتاً لَمْ يُطَعْ
٤٣٣٠. . . . . . . . . . . . . وإنْ سَقَيْتِ كِرَامَ النَّاسِ فاسْقِِينَا٣
وقد رده الزمخشري وقال : لا يحسن أن يراد الخائنةَ من الأعين لأن قوله :﴿ وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ لا يساعد عليه٤ يعني أنه لا يناسب أن يقابل المعنى إلا بالمعنى٥.
وفيه نظر ؛ إذ لقائل أن يقول لا نسلم أن «ما » في قوله ﴿ وما تخفي الصدور ﴾ مصدرية حتى يلزم ما ذكره، بل يجوز أن يكون بمعنى الذي وهو عبارة عن نفس ذلك الشيء المخفي فيكون قد قابل الاسم غير المصدر بمثله، والمراد بقوله :﴿ وما تخفي الصدور ﴾ أي تضمر القلوب٦.
واعلم أن الأفعال قسمان : أفعال الجوارح، وأفعال القلوب، وأما أفعال الجوارح فأخفاها خائنة الأعين والله عالم بها فكيف الحال في سائر الأعمال، وأما أفعال القلوب فهي معلومة لله تعالى لقوله ﴿ وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ فدل هذا على كونه عالماً بجميع أفعالهم.
١ زيادة من النسختين عن الكشاف مصدر الكلام..
٢ وقد ذكر هذين الوجهين الزمخشري في الكشاف ٢/٤٢١..
٣ من بحر البسيط لبشامة بن حزن النهشلي صدره: إنا محيوك يا سلمى فحيينا. وشاهده كرام الناس من إضافة الصفة للموصوف، فالأصل الناس الكرم، وانظر توضيح المقاصد ٢/٢٤٦ والبحر المحيط ٧/٤٥٧ والخزانة ٨/٣٠٢، وعجزه في ملحقات ديوان المفضليات ٨٨٦..
٤ الكشاف ٣/٤٢١..
٥ هذا رد أو توضيح أبي حيان لكلام الزمخشري في البحر ٧/٤٥٧ حيث يريد الزمخشري المصدر مع المصدر..
٦ هذا رد السمين على الزمخشري نقله المؤلف عنه وهو رأي وجيه حيث لا داعي لهذا الإلزام الذي فرضه الزمخشري انظر الدر ٤/٦٨٦..
قوله ﴿ والله يَقْضِي بالحق ﴾ وهذا أيضاً يوجب عظم الخوف لأن الحاكم إذا كان عالماً بجميع الأحوال وثبت أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل كان خوف المذنب منه في الغاية القُصْوَى.
قوله :«وَالَّذِينَ يَدْعُونَ »، قرأ نافعٌ وهشامٌ تَدْعَونَ بالخطاب للمُشْرِكِين والباقون بالغيبة، إخباراً عنهم بذلك١.
واعلم أن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام فبين الله تعالى أنه لا فائدة فيها البتة، فقال :﴿ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ﴾ ثم قال :﴿ إِنَّ الله هُوَ السميع البصير ﴾ أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام، ولا يسمع ثناءهم على الله ويبصر خضوعهم وسجودهم، ولا يبصر خضوعهم وتواضعهم لله.
١ في السبعة ٥٦٧ وإبراز المعاني ٦٧١..
ولما بالغ في تخويفهم بأحوال أهل الآخرة أردفه بيان تخويفهم بأحوال أهل الدنيا فقال ﴿أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ﴾ والمعنى أن العال من اعتبر بغيره، فإن الذين مَضَوْا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من الكفار، وأقوى آثاراً في الأرض أي حصونهم وقصورهم وعساكرهمخ، فملا كذبوا رسلهم أهلكهم الله عاجلاً حتى إن هؤلاء الجاحدين من الكفار شاهدوا تلك الآثار
34
فحذرهم الله من مثل ذلك وقال ﴿وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ﴾ [الرعد: ٣٤] أي لما نزل العذاب بهم لم يجدوا مُعِيناً يخلصهم.
قوله «فَيَنْظُرُوا» يجوز أن يكون منصوباً في جواب الاستفهام، وأن يكون مجزوماً نَسَقاً على ماقبله كقوله:
٤٣٣١ - أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الرُّسُومُ..........................
رواه بعضهم بالجزم، والنصب.
قوله «مِنْهُمْ» قُوَّةً «قرأ ابن عامر» مِنْكُمْ «على سبيل الالتفات، وكذلك هو في مصاحفهم، والباقون» منهم «بمضير الغيبة جرياً على ما سبق من الضمائر الغائبة.
قوله:»
وَآثاراً «عطف على» قوة «وهو في قوة قوله» وَتَنْحتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ «. وجعله الزمخشري منصوباً بمقدر، قال: أو أراد أكثر آثاراً كقوله:» مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً « (يعني وَمُعْتَقِلاً رُمْحاً) ؟ ولا حاجة إلى هذا مع الاستغناء عنه.
قوله»
ذَلِكَ «أي ذلك العذاب الذي نزل بهم ﴿بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب﴾ وهو مبالغة في التخويف والتحذير.
35
قوله ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ذلك العذاب الذي نزل بهم ﴿ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب ﴾ وهو مبالغة في التخويف والتحذير.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا... ﴾ الآيات. لما سلى رسوله بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم سلاه أيضاً بذكر قصة موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأنه مع قوته ومعجزته بعثه إلى فِرْعَوْنَ وهامانَ وقارونَ فكذبوه، وقالوا: ساحر كذاب، فلما جاءهم بالحق من عندنا أي بتلك الآيات الباهرة والسلطان المبين وهو المعجزات القاهرة قالوا يعني فرعون وقومه اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه، قال قتادة: هذا غير القتل الأول؛ لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الوِلْدَانِ فلما بعث موسى دعا بالقتل عليهم لئلا ينشأوا على دين موسى فيقوَى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات فلهذا أمر بقتل الأبناء واسْتَحْيُوا نِساءهم ليصدوهم بذلك عن متابعة موسى ومظاهرته ثم قال: ﴿وَمَا كَيْدُ الكافرين﴾ أي وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم إلا في ضلال.
قوله ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذروني أَقْتُلْ موسى﴾ أي وقال فرعون لِمَلئِهِ ﴿ذروني أَقْتُلْ موسى﴾ فتح ابن كثير ياء «ذروني» وسكنها الباقون. وإنما قال فرعون ذلك؛ لأنه كان في خاصة قوم فرعون من يمنعه من قتل موسى وفي منعهم من قتله احتمالان:
الأول: أنهم منعوه من قتله لوجوه:
الأول: لعله كان فيه من يعتقد بقلبه كون موسى صادقاً فيتحيل في منع فرعون من قتله.
وثانيهما: قال الحسن: إن أصحابه قالوا له: لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا
36
يمكن أن يغلب سَحَرَتَنَا وإن قَتَلْتَهُ أدخلتَ الشبهةَ على الناس ويقولوا: إنه كان محقاً وعجزا عن جوابه فقتلوه.
وثالثها: أنهم كانوا يحتالون في منعه من قتله لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب أولئك الأقوام؛ لأن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكِهِم بخصمٍ خارجي حتى يصيروا آمنين من قلب ذلك الملك.
الاحتمال الثاني: أن أحداً ما منع فرع من قتل موسى وأنه كان يريد قتله، إلا إنه كان خائفاً من أنه لو حاول قتله لظهرت معجزات قاهرات تمنعه من قتله فيفتضح إلا أنه ق ذروني أقتل موسى وغرضه منه إخفاء خوفه.
قوله: «ولْيَدْعُ رَبَّهُ» أي وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله فيمنعه منا؛ ذكر ذلك استهزاءًا.
قوله ﴿إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد﴾ قرأ الكوفيون ويعقوبُ (أو أن) بأو التي للإبهام ومعناه أنه لابد من وقوع أحد الأمرين والباقون بواو النسق على تسلط الخوف من التبديل وظهور الفاسد معاً. وفتح نافع وابن كثير وابو عمرو الياء من «إِنِّي أخاف» ؛ وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص «يُظْهر» بضم الياء وكسر الهاء من أظهر، وفاعله ضمير موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «الفَسَادَ» نصباً على المفعول به والباقون بفتح الياء والهاء من ظَهَرَ الفسادُ، «الفَسَادُ» رفعاً، وزيد بن علي يُظْهَرُ مبنياً للمفعول الفَسَاد مرفوع لقيامه مقام الفاعل ومجاهد «يَظَّهَّر» بتشديد الظاء والهاء، وأصلها يَتَظَهَّر من تَظَهَّر بتشديد الهاء فأدغم التاء في الظاء، «الفسادُ» رفع على الفاعلية.

فصل


ذكر فرعونُ النسبَ الموجبَ لقتل موسى وهو أن المُوجِبَ لقتله إما فساد الدين أو فساد الدنيا، أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو دينهم الذي كانوا عليه، فلما كان موسى ساعياً في إفساده اعتقدوا أنه ساع في إفساد الدين الحق، وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد وأن يجتمع عليه قوم ويصير ذلك سبباً لوقوع الخصومات وإثارة الفتن، ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبّهم لأمالهم لا جَرَمَ بدأ فرعونُ بذكر الدين فقال: {إني أخاف أن يبدل
37
دينكم} ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال أو أن يظهر في الأرض الفاسد.
قوله: ﴿وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة واكسائي عُدتّ بإدغام الذال، والباقون بالإظهار. وقوله «لاَ يُؤْمِنُ» صفة «لِمُتَكَبِّرٍ».

فصل


لما توعد فرعونُ موسى بالقتل لم يأت في دفع شره إلا بأن استعاذ بالله واعتمد على فضل الله فلا جَرَمَ صانه الله وحفظه منه. واعلم أن الموجب للإقدام على أيذاء الناء أمران:
أحدهما: كون الإنسان متكبراً قاسِيَ القلب.
والثاني: كونه منكراً للعبث والقيامة.
لأن المتكبر القاسي القلب قد يحمله طبعه على إيذاء الناس إلا أنه إذا كان مقرّاً بالبعث والحساب صار خوفه من الحساب مانعاً له من الجري على موجب تكبّره فإذا لم يحصل له الإيمان بالبعث والقيامة كان طبعه داعياً له إلى الإيذاء، لأن المانع وهو الخوف من السؤال والحساب زائلٌ فلا جَرَمَ تعظيم القَسْوةُ والإيذاء.
وقوله: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ اختلفوا في هذا المؤمن، قال مقاتل والسدي: كان قبطياً. (وقيل) ابن فرعون، وهو الذي حكى الله عنه ﴿وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى﴾ [القصص: ٢٠] وقيل: كان إسرائيلياً، روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: الصديقون حبيب النجار مؤمن آل ياسين ومؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، والثالث أبو بكر الصديق وهو أفضلهم، وعن جعفر بن محمد أنه قال: كان أبو بكر خيرا من مؤمن آل فرعون، لأنه كان يكتم إيمانه، وقال أبو بكر جهاراً أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وكان ذلك سراً، وهذا جهراً. روى عروةُ بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنعهُ المشركون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «بَيْنَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عبقةُ بن أبي مُعَيْط فأخذ يمنكب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً وأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟».
قال بان عباس وأكثر العلماء كان اسم الجرل خزييل. وقال ابن إسحاق جبريل، وقيل حبيب.
38
قوله: «رَجُلٌ مُؤْمِنٌ» الأكثرون قرأُوا بضم الجيم، وقرىء رَجِلَ بكسر الجيم كما يقال: عَضِدٌ في عَضُدٍ. وقرأ الأعمش وعبد الوارث بتسكينها وهي لغة تميمٍ ونجد والأولى هي الفصحى.
قوله «من آل» يحتمل أن يكون متعلقاً «بيكْتُمُ» بعده أي يكتم إيمانه من آل فرعون.
قيل: هذا الاحتمال غير جائز؛ لأنه لا يقال: كتمتُ من فلانٍ كذا، إنما يقال: كتمته كذا، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢] بل الظاهر تعلقه بمحذوف صفةً لرجل.
قال ابن الخطيب: يجوز أن يكون متعلقاً بقوله: «مؤمن» وإن كان ذلك المؤمن شخصاً من آل فرعون.
قال شهاب الدين: وجاء هنا على أحسن ترتيب حيث قدم المفرد ثم ما يقرب منه وهو حرف الجر ثم الجملة وقد تقدم أيضاً هذه المسألة في المائدة وغيرها ويترتب على الوجهين هل كان هذا الرجل من قرابة فرعون فعلى الأولى لا دليل فيه، وقد رد بعضهم الأول بما تقدم، وأنه لا يقال: ك تمت من فلان كذا إنما يقال: كتمت فلاناً كذا فيتعدى لاثنين بنفسه، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢] وقال الشاعر:
٤٣٣٢ - كَتَمْتُكَ هَمًّا بالجَمُومَيْنِ سَاهِراً وَهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنّاً وَظَاهِرَا
أَحَادِيثَ نَفْسٍ تَشْتَكِي مَا يَرِيبُها وَوِرْدَ هُمُومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصَادِرَا
أي كتمتك أحاديث نفس وهمين، فقدم المعطوف على المعطوف عليه ومحلّه الشعر.
39
قوله ﴿أَن يَقُولَ رَبِّيَ﴾ أي كراهة أن يقول، أو لأن يقول. قال الزمخشري: ولك أن تقدر مضافاً محذوفاً أي وقت أن يقول والمعنى أتقتلونه ساعة سمتعم منه هذا القول من غير روية ولا فكر (في أمره) وهذا الذي أجازه رده أبو حيان بأن تقدير هذا الوقت لا يجوز إلا مع المصدر المصرّح به، تقول: صِيَاحَ الدِّيكِ أي وقت صياحه، ولو قلت: أجيئك أَنْ صَاحَ الديك أو أَنْ يَصِيحَ لم يصح نص عليه النحويون
قوله: «وقد جاءكم» جملة حالية، يجوز أن تكون من المفعول.
فإن قيل: هو نكرة.
فالجواب: أنه في حيِّز الاستفهام وكل ما سوغ الابتداء بالنكرة سوغ انتصاب الحال عنها، ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل.

فصل


لما حكى الله تعالى عن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه ما زاد في دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله بين أنه تعالى قَيَّضَ له إنساناً أجنبياً حتى ذب عنه بأحسن الوجوه وبالغ في تسكين تلك الفتنة فقال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله﴾ وهذا استفهام على سبيل الإنكار، وذكر في هذا الكلام ما يدل على حسن ذلك الإنكار، وذلك لأنه ما زاد على أن قال: ربي الله وجاء بالبينات، وذلك لا يوجب القتل البتةَ فقوله: ﴿وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
الأول: أن قوله «ربي الله» إشارة إلى تعزيز النبوة بإظهار المعجزة.
الثاني: أن قوله «رَبِّي اللهُ» إشار إلى التوحيد.
وقوله: ﴿وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ﴾ إشارة إلى الدلائل الدالة على التوحيد، ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية على أن الإقدام على قتلِهِ غير جائز، وهي حجة مذكورة على طريق التقسيم فقال: إن كان هذا الرجل كاذباً كان وبال كذبه عائداً عليه فاتركوه وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم فعلى كلا التقديرين الأولى إبقاؤه حيًّا.
فإن قيل: الإشكال على هذا الدليل من وجهين:
40
الأول: أن قوله ﴿يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ معناه أن (ضرر) كذبه مقصور عليه ولا يتعداه، وهذا كلام فاسد لوجوه:
أولها: أنا لا نسلم أن بتقدير كونه كاذباً يكون ضرر كذبه مقصوراً عليه لأنه يدعو الناس إلى ذلك الدين الباطل ويغتر به جماعة ويقعون في المذهب الباطل والاعتقاد السيّىء ثم يقع بينهم وبين غيرهم الخصوماتُ الكثيرة فثبت أن بتقدير كونه كاذباً لم يكن ضرر كذبه مقصوراً عليه بل يكون متعدياً إلى الكل، ولهذا أجمع العلماء علىأن الزِّنْدِيقَ الذي يدعو الناس إلى زَنْدَقَتِهِ يجب قتله.
وثانيها: أنه إن كان هذا الكلام حجة فلا كذاب إلا ويمكنه أن يتمسك بهذه الطريقة فيمكن جميع الزنادقة والمُبْطِلَة من أديانهم الباطلة.
وثالثها: أن الكفار الذين انكروا موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يجب أن لا يجوز الإنكار عليهم لأنه يقال إن كان ذلك المنكر كاذباً في ذلك الإنكار فعليه كذبه وإن يك صادقاً فما انتفعتم بصدقه، فثبت أن هذه الطريق صَوَّبَتْ صدقه وما أفضى ثُبُوتُه إلى عدم صدقه كان فاسداً.
الوجه الثاني: كان من الواجب أن يقال: وإنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ كُلُّ الَّذِي يَعِدُكُمْ؛ لأن الذي يصيب من بعض الذي يَعِدُ دون البعض هو الكفار والمنجمون. أما الرسول الصادق الذي لا يتكلم إلا بالوحي فإنه يجب أن يكون صادقاً في كل ما يقول فكان قوله: ﴿يصيبكم بعض الذي يعدكم﴾ غير لائق بهذا المقام.
والجواب عن الأسئلة الثلاثة بأن تقدير الكلام (أنه) لا حاجة لكم في دفع شره إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه من إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذباً فحينئذ لا يعود ضرره إلا إليه وإن كان صادقاً فما انتفعتم به.
والمقصود من ذلك التقسيم أنه لا حاجة بكم إلى قتله بل يكفيكم أن تُعْرِضُوا عنه وأن تمنعوه من إظهار دينه. وأما الجواب عن الوجه الثاني: وهو قوله كان الأولى أن يقال: «يصيبكم كل الذي يعدكم» فهو من وجوه:
الأول: أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللَّجَاجِ؛ لأَنَّ المقصود منه وإن كان كاذباً كان ضرر كذبه مقصوراً عليه وِإن كان صادقاً فلا أقلَّ من أن يصيبكُم بعض ما يعدكم وإن كان المقصود من الكلام هذا صح، ونظيره قوله ﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [سبا: ٢٤].
41
والثاني: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يتوعّدهم بهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة، فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصبهم بعض الذي وعدهم به.
الثالث: قال الزمخشري: «بعض» على بابها وإنما قال ذلك ليهضم موسى بعضَ حَقِّهِ في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً فضلاً عن أن يتعصب له. وهذا أحسن من قول أبي عبيدة وغيره أن بعض بمعنى كل، وأَنْشَدَ قَوْلَ لَبيدٍ:
٤٣٣٣ - تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضُ النُّفُوسِ حِمَامُها
وأنشد أيضاً قول عمرو بن شُيَيْمٍ:
٤٣٣٤ - قَدْ يُدْرِكُ المُتأنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مع المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
وقول الآخر:
٤٣٣٥ - إنَّ الأُمُورَ إذَا الأَحْدَاثُ دَبَّرهَا دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ
قال شهاب الدين: ولا أدري كيف فهموا «الكل» من البيتين الأخيرين، وأما الأول ففيه بعض دليل لأن الموت يأتي على الكل. قال ابن الخطيب: والجمهور على أن هذا القول خطأ قالوا: وأراد لبيدٌ ببعض النفوس نفسه، ومعنى البيت أنه وصف نفسه
42
أنه نَزَّالُ أمكنةٍ أي كثيرُ المنزول في أماكن لا يرضاها إلا أن يربط نفسه الحِمام وهو الموت، وقال اللَّيْثُ: بعض ههنا صلة يُريد يصبكم الذي يعدكم. لما حكى الزمخشري قول أبي عبيدة أن «بعض» بمعنى «الكل» وأنشد عنه بيت لبيد قال: إن صحت الرواية عنه فقد حق فيه قولُ المَازِنِيِّ في مسألة العَلْقَى: كان أجْفَى من أن يفقه ما أقول له. قال شهاب الدين: ومسألة المازني معه: هي أن أبا عبيدة قال للمازني: ما أكذب النحويين يقولون هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث، فإن الألف في عَلْقَى ملحقة، قال: فقلت له وما أنكرت من ذلك؟ فقال: سمعت رؤبة يُنْشِدُ:
٤٣٣٦ - يَنْحَطُّ فِي عَلْقَى....................................................
فمل ينونهنا، فقلت: ما واحد علقى؟ قال: عَلْقَاة، قال المازني: فأَسِفْتُ ولم أفسر له لأنه كان أغلظمن أن يفهم مثل هذا. قال شهاب الدين: وإنما استغلظه المازني؛ لأن الألف التي للإلحاق قد تدخل عليها تاء التأنيث (دالة على الوحدة فيقال: أَرْطَى، وأَرْطَامة، وإنما الممتنع دخولها على ألف التأنيث) نحو: دَعْوَى، وصَرْعَى.
وأما عدم تنوين «علقى» فلأنه سمَّى بها شيئاً بعينه، وألف الإلحاق المقصورة حال العلمية تجري مجرى تاء التأنيث فيمتنع الاسم الذي هو فيه كما يمتنع فاطمةُ وينصرفُ قَائِمة.
قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ وفيه احتمالان:
الأول: أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ والمعنى أن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة، ومن هداه إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذَّاباً فدل على أن موسى لي من الكذابينَ.
الاحتمال الثاني: أن يكون المراد أن فرعون مسرفٌ في عزمه على قتل موسى كذابٌ في ادعائه الإلَهيَّة وةالله لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يُبْطِلُهُ ويَهْدِمُ ِأمره.
43
قوله: ﴿يا قوم لَكُمُ الملك اليوم﴾ اعلم أن مؤمن آل فرعون لما استدل على أنه لا يجوز قتل موسى خوف فرعون وقومه ذلك العقاب الذي توعّدهم به فيوقوله ﴿يصبكم بعض الذي يعدكم﴾ فقال: يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض. أي أرض مصر يعني قد علوتم الناس وقَهَرْتُمُوهُمْ فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب وقتل النبي فإنه لا مانع من عذاب الله إن حلَّ بكم، وإنما قال «يَنْصُرُنَا وَجَاءَنَا» ؛ لأنه كان يظهر أنه منهم وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه.
قوله «ظَاهِرينَ» حال من الضمير «لكم» والعامل فيها وفي اليوم ما تعلق به «لكم».
ولما قال المؤمن هذا الكلام قال فرعون: ﴿مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى﴾ هي من رؤية الاعتقاد فيتعدى لمفعولين ثانيهما: «إلاَّ مَا أرَى» أي إلا ما أرى لنفسي. وقال الضحاك: ما أعلمكم إلا ما أعلم. قوله ﴿وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد﴾ العامة على تخفيف الشين، مصدر رَشَدَ يَرْشُدُ. وقرِأ معاذ بن جبل بتشديدها، وخرجها أبو الفتح وغيره على أنها صفة مبالغة، نحو ضَرَبَ فهو ضَرَّاب، وقال النحاس: هو لحن، وتوهمه من الرباعي يعني أرشد، ورد على النحاس قوله: بأنه يحتمل أن يكون من «رشد» الثلاثي، وهو الظاهر، وقد جاء فعال أيضاً من أفعل وإن كان لا ينقاس، قالوا: أدْرَكَ فَهُوَ دَرَّاك وأجْبَرَ فهو جَبَّار، وأَقْصَرَ فهو قَصَّار، وأَسْأرَ فهو سَئَّار. ويدل على أنه صفة مبالغة أن معاذاً كان يفسرها بسبيل الله.
قال ابن عطية: ويبعد عندي على معاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وهل كان فرعون يدعي إلا الإلَهيَّةَ؟ ويعلق بناء اللفظ على هذا التركيب. قال شهاب الدين يعني ابن عطية أنهن
44
كيف يقول فرعون ذلك فيقر بأنَّ ثمَّ من يهدي إلى الرشاد غيره مع أنه يدعي أنه إله.
وهذا الذي عزاه ابن عطية والزمخشري وابن جبارة صاحب الكامل إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس هو في «الرَّشَادِ» الذي هو في كلام فرعون كما توهموا، وإنما هو في «الرَّشَادِ» الثاني الذي هو من قول المؤمن بعد ذلك. ويدل على ذلك ما روى أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح: وقرأ معاذ بن جبل سبيل الرشاد الحرف الثاني بالتشديد وكذلك الحسن وهو سبيل الله تعالى أوضحه لعباده كذلك فسره معاذ (بن جبل) وهو منقول من مُرْشِد كدَرَّاك من مدرك، وجبار من مجبر، وقصَّار من مقصِر عن الأمر، ولها نظائر معدودة فأما قصّار الثوب فهو من قصرت الثوب قِصَارَةً. مفعلى هخذا يزول إشكال ابن عطية المتقدم ويتضح القراءة والتفسير. وقال أبو البقاء وهو الذي يكثر منه الإرشاد أو الرشد يعني أنه يحتمل أن يكون من «أَرْشَدَ» الرباعي، أو «رَشَدَ» الثلاثي، والأولى أن يكون من الثلاثي لما عرفت أنه ينقاس دون دو الأول.
قوله: ﴿ياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب﴾ اعلم أنه تعالى (لما) حكى عن ذلك المؤمن أنه (كان) يكتم إيمانه والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون فلهذا السبب حصل ههنا قولان:
الأول: أن فرعون لما قال ذروني أقْتُلْ موسى لم يصرِّح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى بل أوهم أنه على دين فرعنون إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي إبقاء موسى؛ لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله والإتيان بالمعجزات القاهرة، وهذا لا يوجب القتل، فالإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بقبح الكلمات بل الأولى تأخير قتله ومنعه من إظهار دينه لأنه إن كان كاذباً فَوَبَالُ كَذِبِهِ عليه، وإن كان صادقاً حصل الانتفاع به من بعض الوجوه. ثم أكد ذلك بقوله ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ يعنى أنه إن صدق فيما يدعيه من إثبات الإله القادر الحكيم فهو لا يهدي المسرف الكذاب،
45
فأوهم بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ أنه يريد موسى، وإنما كان يقصد به فرعون؛ لأن المسرف الكذاب هو فرعون.
والقول الثاني: أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أولاً فلما قال فرعون ذروني أقتل موسى أزال الكتمان وأظهر أنه على دين موسى وشَاقَّ فرعون بالحق وقال: يا قوم إنِّي أخاف عليكم مثلَ يوم الأحزاب أي مثل أيام الأحزاب إلا أنه لما أضاف اليومَ إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، وكان لكل حزب يوم في العذاب اقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس.
قوله: «مِثْلَ دأبِ» يجوز أن يكون «مثل» بدلاً، وأن يكون عطف بيان والمعنى مثل دأبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي دائماً لا يفترون عنه.
ولا بدّ من حذف مضاف يريد م ثل جزاء دأبهم. والحاصل أنه خوفهم الهلاك في الدنيا ثم خوفهم هلاك الآخرة ﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ﴾ أي لا يُهْلِكُهُمْ قبل إقامة الحجة عليهم، والمقصود التنبيه على عذاب الآخرة يعنى أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلاً بأنهم استوجبوه بتكذيبهم الأنبياء، وتلك العلة قائمة هنا فوجب حصول الحكم هنا.
قالت المعتزلة: وما الله يريد ظلماً للعباد يدل على أنه لا يريد أن يظلم العباد، ولا يريد الظلم من أحد العباد التبة، ولو خلق الكفر فيهم ثم عذبهم على ذلك الكفر لكان ظالماً، وإذا ثبت أنه لا يريد الظلم ألبتة ثبت أنه غير خالق لأفعال العباد، لأنه لو خلقها لأرادها، وثبت أيضاً أنه قادر على الظلم إذ لو لم يقدر عليه لما حصل التمدح بترك الظلم، وهذا الاستدلا ل قد تقدم مراراً مع الجواب.
قوله (تعالى) :﴿وياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد﴾ التناد تفاعل من النداء يقال: تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضاً، والأصل: الياء، وقد تقدم الخلاف في يائه كيف تحذف والأصل تَنَادُياً بضم الدال ولكنهم كسروها؛ لِتَصحذَ الياءُ. وقرأت طائفة بسكون الدال إجراء للوصل مجرى الوقف، وتنادى القوم أي نادى بعضهُم بَعْضاً، قال (الشَّاعِرُ رَحِمَهُ الله) :
46
٤٣٣٧ - تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارِساً فَقُلْنَا عُبَيْدَ اللهِ ذَلِكُمُ الرَّدِي
وقال آخر:
٤٣٣٨ - تَنَادَوْا بَالرَّحِيلِ غَداً وَفِي تَرْحَالِهِمْ نَفْسِ
وقرأ ابن عباس والضحاك والكلبي وأبو صالح وابن مقسم والزعفراني في آخرين بتشديدها مصدر تَنَادَّ من: نَدَّ البَعِيرُ إذَا هَرَبَ ونَفَرَ، وهو في معنى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس: ٣٤] الآيات ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى بعد ذلك: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾. قال أبو علي: التَّنادي مخففاً من التناد من قولهم نَدَّ فلانٌ إذا هرب. وفي الحديث: «جَوْلَةً يَنِدُّونَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ مَهْرَباً» وقال أميةُ بنُ أبي الصَّلْتِ:
٤٣٣٩ - وَبَثَّ الخَلْقَ فِيهَا إذْ دَحَاهَا فَهُمْ سُكَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِي
قوله: «يَوْمَ تُوَلُّونَ» يجوز أن يكون بدلاً من «يوم التناد» وأن يكون منصوباً بإضمار «أعني». ولا يجوز أن يكون عطف بيان، لأنه نكرة وما قبله معرفة، وقد تقدم في قوله ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧] أن الزمخشري جعله بياناً مع تخالفهما
47
تعريفاً وتنكيراً وهو عكس هذا، فإن الذي نحن فيه الثاني نكرة، والأول معرفة.
قوله ﴿مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾ يجوز في «من عاصم» أن يكون فاعلا بالجار، لاعتماده على النفي، وأن يكون مبتدأ أو من مزيدة على كلا التقديرين، ومن الله متعلق بعَاصِمٍ.

فصل


أجمع المفسرون على أن يوم التنادي (هو) يوم القيامة وفي تسميته بهذا الاسم وجوه:
قيل: لأن أهل النار ينادون أصحابَ الجنة، وأصحاب الجنة ينادون أصحابَ النار كما حكى الله عنهم.
وقال الزجاج: هو قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء: ٧١].
وقيل: ينادي بعضُ الظالمينَ بعضاً بالويْل والثُّبُور، فيقولون: يَا وَيْلَنَا. وقيل: يُنَادَوْنَ إلى المحشر وقيل ينادي المؤمن: هَاؤُم اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ، والكافر: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وقيل: ينادى باللَّعَنةِ على الظالمين، وقيل: يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادى يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، وقيل: ينادى بالسعادة والشقاوة ألا إنَّ فلان بان فلان سِعِدَ سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وفلان بان فلان شقي شقاوة فلا يسعد بعدها أبداً.
وقوله: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾. قال الضحاك: إذا سمعوا زفيرَ النار نَدُّوا هرباً فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً فيرجعون إلى مكانهم فذلك قوله: ﴿والملك على أَرْجَآئِهَآ﴾ [الحاقة: ١٧] وقوله: ﴿يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا﴾ [الرحمن: ٣٣]. قال مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: فارِّينَ عن النار غير معجزين، ثم أكد التهديد فقال: ﴿مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾ يعصمكم من عذابه، ثم نبه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم فقال ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾.
48
قَوْلُهُ (تَعَالَى) :﴿وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات﴾ يعني يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالبينات، ونقل الزمخشري أنه قبل يوسف بن إبراهيمخ بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نيفاً وعشرين سنة وقيل: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف بَقِيَ حيًّا إلى زمانه، وقيل: هو فرعون آخر. والمقصود من الكل شيء واحد هو أن يوسف حاء قومه بالبينات هي قوله تعالى: ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار﴾ [يوسف: ٣٩] والأولى أن يُراد بها المعجزات.
واعلم أن مؤمن آل فرعنونه لما قال لهم: ومن يضلل الله فما له من هاد ذكر هذا المثال وهو أن يوسف جاءهم بالبينات الباهرة فأصروا على التكذيب ولم ينتفعوا بتلك الدلائل، وهذا يدل على (أن) من أضله الله فما له من هاد، ثم قال: ﴿فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ﴾ قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) : من عبادة الله وحده لا شريك له، فلم ينتفعوا ألبتة بتلك البينات.
قوله «حَتَّى إذَا» غاية لقوله ﴿فما زلتم في شك﴾، فَلَمَا هَلَك ﴿قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً﴾ أي أقمتم على كفركم، وظننتم أن الله تعالى لا يجدد عليكم الحجة، وقرىء ألن يبعث الله بإدخال همزة التقرير يقرّر بعضهم بعضاً.
قوله: «كَذَلِكَ» أي الأمر كذلك، أو مثل هذا الضلال يضل الله كل مسرف كذاب في عصيانه مرتاب في دينه، فقوله «يضل الله» مستأنف، أو نعت مصدر أي مثل إضلال الله إياكم حين لم تقبلوا من يوسف يضل الله من هو مسرف.
ثم بين تعالى ما لأجله بقُوا في ذلك الشك والإسراف فقال: ﴿الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ أي بغير حجة إما بناء على التقليد، وأما بناء على شبهات خسيسة.
قوله: «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ» يجوز فيه عشرة أوجه:
أحدها: أنه بدل من قوله «من هو مسرف» وإنما جمع اعتباراً بمعنى «من».
49
الثاني: أن يكون بياناً له.
الثالث: أن يكون صفة له وإنما جمع على معنى «من» أيضاً.
الرابع: أن ينتصب بإضمار أعني.
الخامس: أن يرتفع خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين.
السادس: أن يرتفع مبتدأ خبره «يَطْبَعُ اللهُ»، و «كذلك» خبر مبتدأ مضمر أيضاً أي الأمر كذلك، والعائد من الجملة وهي يطبع على المبتدأ محذوف أي على كل متكبر منهم.
السابع: أن يكون مبتدأ، والخبر «كَبُرَ مَقْتاً» ولكن لا بُدّ من حذف مضاف ليعود الضمير من «كبر» عليه والتقدير: قال الذين يجادلون كَبُرَ مقتاً، ويكون «مَقْتاً» تمييزاً، وهو منقول من الفاعلية؛ إذ التقدير كبر مَقْتُ حالهم أي جادل المجادلين.
الثامن: أن يكون «الَّذِينَ» مبتدأ أيضاً، ولكن لا يقدر حذف مضاف، ويكون فاعل كبر ضميراً عائداً على ما تقدم أي كبر مقت جدالهم.
التاسع: أن يكون «الذين» مبتدأ أيضاً، والخبر ﴿بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ قاله الزمخشري. ورده أبو حيان بأن فيه تفكيك الكلام بضعه من بعض؛ لأن الظاهر تعلق «بغَيْرِ سُلْطَانٍ» «بِيُجَادِلُونَ» ولا يتعلق جعله خبراً «للذين» لأنه جار ومجرور فيصير التقدير: الذي يجادلون كائنونَ أو مستقرونَ بغير سلطان أي في غير سلطان؛ لأن الباء إذْ ذَاكَ ظرفية خبرٌ عن الجثث.
العاشر: أنه مبتدأ وخبره محذوف أي معاندون ونحوه قاله ِأبو البقاء.
قوله: «كَبُرَ مَقْتاً» يحتمل أن يراد به التعجب والاستفهام، وأن يراد به الذم «كبئس» وذلك أنه يجوز أن يبنى (فَعُلَ) بضم العين مما يجوز فيه التعجب منه، ويَجْرِي مَجْرَى نِعْمَ وَبِئْسَ في جميع الأحكام، وفي فاعله ستة أوجه:
50
الأول: أنه ضمير عائد على حال المضاف إلى الذين، كما تقدم تقريره.
الثاني: أنه ضمير يعود على جدالهم المفهوم من «يُجَادِلُونَ» كما تقدم تقريره أيضاً.
الثالث: أنه الكاف في «كَذَلِكَ». قال الزمخشري: وفاعل «كَبُرَ» قوله: كذلك، أي كَبُرَ مقْتاً مِثْل ذَلِكَ الجِدال، و «يَطْبَعُ اللهُ» كلام مستأنف.
ورده أبو حيان: بأ، فيه تفكيكاً للكلام وارتكابَ مذهب ليس بصحيح، أما التفكيك فلأن ما جاء في القرآن من «كَذَلِكَ يطبع أو تطبع» إنما جاء مربوطاً بعضه ببعض، وكذلك هذا وأما ارتكاب مذهب غير صحيح فِإنه جعل الكاف اسماً، ولا يكون اسماً إلا في ضرورة خلافاً للأخفش.
الرابع: أن الفاعل محذوف نقله الزمخشري، قال: ومن قال كبر مقتاً عند الله جِدَالهُم فقد حذف الفاعل والفاعل لا يصح حذفه. قال شهاب الدين: القائل بذلك هو الحَوْفِيُّ لكنه لا يريد بذلك تفسير الإعراب إنما يريد به تفسير المعنى، وهو معنى ما تقدم من أنّ الفاعل ضمير يعود على جدالهم المفهوم من فعله، فصرح به الحوفي بالأصل، وهو الاسم الظاهر، ومراده ضمير يعود عليه.
الخامس: أن الفاعل ضمير يعود على ما بعده، وهو التمييز، نحو: نعم رجلاً زيد، وبئس غلاماً عَمْرو.
السادس: أنه ضمير يعود على من في قوله: «من هو مسرف» وأعاد الضمير من كبر مقتاً اعتباراً بلفظها وحينئذ يكون قد راعى لفظ من أولاً في قوله كبر مقتاً.
وهذا كله إذا أعربت «الذين» تابعاً ل ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾ نعتاً أو بياناً، أو بدلا. وقد تقدم أن الجملة من قوله «كبر مقتاً» فيها وجهان:
أحدهما: الرفع، إذا جعلناها خبر المبتدأ.
والثاني: أنها لا محل لها، إذا لم نجعلها خبراً، بل هي جملة استئنافية.
وقوله: «عِنْدَ الله» متعلق «بكَبُرَ»، فكذلك قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً وأن يكون فاعلاً وهم ضعيفان.
والثالث وهو الصحيح: أنه معمول ل «يَطْبَعُ» أي مثل ذلك الطبع يطبع الله، و «يطبع الله» فيه وجهان:
51
أظهرهها: أنه مستأنف.
والثاني: أنه خبر للموصول كما تقدم.
قوله: «قَلْبِ متكبّر» قرأ أبو عمرو، وابن ذَكْوَانَ بتنوين «قَلْبٍ»، وصف القلب بالتكبر والجبروت لأنهما ناشئان منه، وإن كان المراد الجملة، كما وصف بالإثم في قوله: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣] وفي قوله: ﴿إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ﴾ [غافر: ٥٦] قال بان الخطيب: «وأيضاً قال قوم: الإنسان الحقيقي هو القلب» والباقون بإضافة «قلب» إلى ما بعده، أي كُلِّ قَلْبِ شخصٍ متكبرٍ. قال أبو عبيد: الاختيار الإضافة، لوجوه:
الأول: أن عبد الله قرأ: «على قلب كمل متكبر» وهو شاهد لهذه القراءة.
الثاني: أن وصف الإنسان بالتكبر والجبروت أولى من وصف القلب بهما. وقد قدر الزمخشري مضافاً في القراءة الأولى، أي على كُلّ ذِي قلبٍ متكبر، فجعل الصفة لصاحبِ القلب. قال أبو حيان: «ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد الحذف». قال شهاب الدين: بل ثَمَّ ضرورة إلى ذلك، وهو توافقُ القراءتين واحداً وهو صاحب القلب بخلاف عدم التقدير، فإنه يصير الموصوف في إحداهما القلب وفي الأخرى صاحبه.

فصل


قال الزَّجَّاجُ: قوله: «الذين» تفسير ل «المسرف المرتاب»، يعني هم الذين يجادلون في آيات الله أي في إبطالها بالتكذيب «بغير سلطان» حجة، «أتاهم»، «كبر مقتاً» أي كبر ذلك الجدال مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا. ودلت الآية على أنه يجوز وصف الله تعالى بأنه قد مقت بعض عباده، إلا أنها صفة التأويل في حق الله، كالغضب، والحياء، والعجب.
ثم بين أن هذا المقت كما حصل عند الله فكذلك حصل عند الذين آمنوا، قال القاضي: مقت الله إياهم يدل على أن كل فعل ليس بخلق لا أنّ كونه فاعلاً للفعل، وما قاله محال.
52

فصل


قد تقدم الكلام في الطبع، والرَّيْنِ، والقَسوة، قال أهل السنة: قوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله﴾ يدل على أن الكل مِنْ عند الله. وقالت المعتزلة: الآية تدل على أن هذا الطبع إنما حصل، لأنه كان في نفسه متكبراً جباراً. قال ابن الخطيب: وعند هذا تصيِرُ الآية حجة لكل واحد من الفريقين من وجه، وعليه من وجه آخر، والقول الثاني يخرج عليه رُجْحَانُ مذهبنا، وهو أنه تعالى يخلق دواعي الكبر والرياسة في القلب فتصير تلك الدواعي مانعة من حصول ما يدعو إلى الطاعة، والانقياد لأمر الله، فيكون القول بالقضاء والقدر حقاً، فيكون تعليل القلب بكونه متكبراً متجبراً باقياً، فثبت أن القول بالقضاء والقدر هو ما ينطبق عليه لفظ القرآن من أوله لي آخره.

فصل


قال مقاتل: الفرق بين المتكبر، والجبار، أن المتكبر عن قبول التوحيد، والجبار في غير حق. قال ابن الخطيب: كما السعادة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله فعلى قول مقاتل المتكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله، والجبروت كالمضاد للشفقة على خلق الله.
53
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٣:قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا... ﴾ الآيات. لما سلى رسوله بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم سلاه أيضاً بذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام وأنه مع قوته ومعجزته بعثه إلى فِرْعَوْنَ وهامانَ وقارونَ فكذبوه، وقالوا : ساحر كذاب، فلما جاءهم بالحق من عندنا أي بتلك الآيات الباهرة والسلطان المبين وهو المعجزات القاهرة قالوا يعني فرعون وقومه اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه، قال قتادة : هذا غير القتل الأول ؛ لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الوِلْدَانِ فلما بعث موسى دعا بالقتل عليهم لئلا ينشأوا على دين موسى فيقوَى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات فلهذا أمر بقتل الأبناء واسْتَحْيُوا نِساءهم ليصدوهم بذلك عن متابعة موسى ومظاهرته١ ثم قال :﴿ وَمَا كَيْدُ الكافرين ﴾ أي وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم إلا في ضلال.
١ وانظر البغوي ٩٢ و٩٣ والرازي ٢٧/٥٤..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٣:قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا... ﴾ الآيات. لما سلى رسوله بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم سلاه أيضاً بذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام وأنه مع قوته ومعجزته بعثه إلى فِرْعَوْنَ وهامانَ وقارونَ فكذبوه، وقالوا : ساحر كذاب، فلما جاءهم بالحق من عندنا أي بتلك الآيات الباهرة والسلطان المبين وهو المعجزات القاهرة قالوا يعني فرعون وقومه اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه، قال قتادة : هذا غير القتل الأول ؛ لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الوِلْدَانِ فلما بعث موسى دعا بالقتل عليهم لئلا ينشأوا على دين موسى فيقوَى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات فلهذا أمر بقتل الأبناء واسْتَحْيُوا نِساءهم ليصدوهم بذلك عن متابعة موسى ومظاهرته١ ثم قال :﴿ وَمَا كَيْدُ الكافرين ﴾ أي وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم إلا في ضلال.
١ وانظر البغوي ٩٢ و٩٣ والرازي ٢٧/٥٤..

قوله ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذروني أَقْتُلْ موسى ﴾ أي وقال فرعون لِمَلأِهِ ﴿ ذروني أَقْتُلْ موسى ﴾ فتح ابن كثير ياء «ذروني »١ وسكنها الباقون. وإنما قال فرعون ذلك ؛ لأنه كان في خاصة قوم فرعون من يمنعه من قتل موسى وفي منعهم من قتله احتمالان :
الأول : أنهم منعوه من قتله لوجوه :
الأول : لعله كان فيه من يعتقد بقلبه كون موسى صادقاً فيتحيل في منع فرعون من قتله.
وثانيهما : قال الحسن : إن أصحابه قالوا له : لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكن أن يغلب سَحَرَتَنَا وإن قَتَلْتَهُ أدخلتَ الشبهةَ على الناس ويقولوا : إنه كان محقاً وعجزا عن جوابه فقتلوه.
وثالثها : أنهم كانوا يحتالون في منعه من قتله لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب أولئك الأقوام ؛ لأن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكِهِم بخصمٍ خارجي حتى يصيروا آمنين من قلب ذلك الملك.
الاحتمال الثاني : أن أحداً ما منع فرعون من قتل موسى وأنه كان يريد قتله، إلا أنه كان خائفاً من أنه لو حاول قتله لظهرت معجزات قاهرات٢ تمنعه من قتله فيفتضح إلا أنه قال ذروني أقتل موسى وغرضه منه إخفاء خوفه.
قوله :«ولْيَدْعُ رَبَّهُ » أي وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا ؛ ذكر ذلك استهزاءًا.
قوله ﴿ إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد ﴾ قرأ الكوفيون ويعقوبُ ( أو أن ) بأو التي للإبهام ومعناه أنه لابد من وقوع أحد الأمرين والباقون بواو النسق على تسلط الخوف من التبديل وظهور الفساد معاً٣. وفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو الياء من «إِنِّي أخاف » ؛ وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص «يُظْهر » بضم الياء وكسر الهاء من أظهر، وفاعله ضمير موسى عليه الصلاة والسلام «الفَسَادَ » نصباً على المفعول به والباقون بفتح الياء والهاء٤ من ظَهَرَ الفسادُ، «الفَسَادُ » رفعاً، وزيد بن علي يُظْهَرُ مبنياً للمفعول الفَسَاد٥ مرفوع لقيامه مقام الفاعل ومجاهد «يَظَّهَّر » بتشديد٦ الظاء والهاء، وأصلها يَتَظَهَّر من تَظَهَّر بتشديد الهاء فأدغم التاء في الظاء، «الفسادُ » رفع على الفاعلية.

فصل


ذكر فرعونُ النسبَ الموجبَ لقتل موسى وهو أن المُوجِبَ لقتله إما فساد الدين أو فساد الدنيا، أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو دينهم الذي كانوا عليه، فلما كان موسى ساعياً في إفساده اعتقدوا أنه ساع في إفساد الدين الحق، وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد وأن يجتمع عليه قوم ويصير ذلك سبباً لوقوع الخصومات وإثارة الفتن، ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبّهم لأمالهم لا جَرَمَ بدأ فرعونُ بذكر الدين فقال :﴿ إني أخاف أن يبدل دينكم ﴾ ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال أو أن يظهر في الأرض الفاسد.
١ ورواها أيضا ورش من طريق الأصبهاني ولم ترو هذه القراءة في المتواتر، انظرها في الإتحاف ٣٧٨ فهي من الأربع فوق العشر..
٢ في (ب) ظاهرات وفي الرازي قاهرة والتصحيح من الرازي و (أ) وانظر الرازي ٢٧/٥٤..
٣ من القراءة المتواترة ذكرها الرازي في المرجع السابق ومكي في الكشف ٢/١٤٣ وانظر أيضا السبعة ٥٦٩ والإتحاف ٣٧٨ والدر المصون ٤/٦٨٧ و٦٨٨..
٤ الكشف ٢/٢٤٣ والسبعة ٥٦٩ والإتحاف ٣٧٨ ومعاني الفراء ٣/٧..
٥ قراءة شاذة غير متواترة ذكرها صاحب البحر ٧/٤٦٠ وصاحب شواذ القرآن ٢١٣..
٦ ذكرها شاذة أيضا انظر مختصر ابن خالويه ١٣٢ والبحر المرجع السابق والكشاف ٣/٤٢٣..
قوله :﴿ وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو و حمزة والكسائي عُدتّ بإدغام الذال، والباقون بالإظهار١. وقوله «لاَ يُؤْمِنُ » صفة «لِمُتَكَبِّرٍ ».

فصل


لما توعد فرعونُ موسى بالقتل لم يأت في دفع شره إلا بأن استعاذ بالله واعتمد على فضل الله فلا جَرَمَ صانه الله وحفظه منه. واعلم أن الموجب للإقدام على إيذاء الناس أمران :
أحدهما : كون الإنسان متكبراً قاسِيَ القلب.
والثاني : كونه منكراً للعبث والقيامة.
لأن المتكبر القاسي القلب قد يحمله طبعه على إيذاء الناس إلا أنه إذا كان مقرّاً بالبعث والحساب صار خوفه من الحساب مانعاً له من الجري على موجب تكبّره فإذا لم يحصل له الإيمان بالبعث والقيامة كان طبعه داعياً له إلى الإيذاء، لأن المانع وهو الخوف من السؤال والحساب زائلٌ فلا جَرَمَ تعظيم القَسْوةُ والإيذاء٢.
١ ذكرها صاحب السبعة ٥٧٠ والدر المصون ٤/٦٨٨ والنشر ٢/٣٦٥ وهي قراءة متواترة..
٢ وانظر هذين الفصلين في تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٧/٥٥، ٥٦..
وقوله :﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ اختلفوا في هذا المؤمن، قال مقاتل والسدي : كان قبطياً. ( وقيل )١ ابن عم فرعون، وهو الذي حكى الله عنه ﴿ وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى ﴾ [ القصص : ٢٠ ] وقيل : كان إسرائيلياً، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الصديقون حبيب النجار مؤمن آل ياسين ومؤمن آل فرعون الذي قال : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، والثالث أبو بكر الصديق٢ وهو أفضلهم، وعن جعفر بن محمد أنه قال : كان أبو بكر خيرا من مؤمن آل فرعون، لأنه كان يكتم إيمانه، وقال أبو بكر جهاراً أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وكان ذلك سراً، وهذا جهراً. روى عروةُ بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنعهُ المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«بَيْنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبةُ بن أبي مُعَيْط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً وأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ ».
قال ابن عباس وأكثر العلماء كان اسم الجرل خزييل. وقال ابن إسحاق جبريل، وقيل حبيب٣.
قوله :«رَجُلٌ مُؤْمِنٌ » الأكثرون قرأُوا بضم الجيم، وقرئ رَجِلَ بكسر الجيم كما يقال : عَضِدٌ في عَضُدٍ٤. وقرأ الأعمش وعبد الوارث بتسكينها وهي لغة تميمٍ ونجد٥ والأولى هي الفصحى.
قوله «من آل » يحتمل أن يكون متعلقاً «بيكْتُمُ » بعده أي يكتم إيمانه من آل فرعون٦.
قيل : هذا الاحتمال غير جائز ؛ لأنه لا يقال : كتمتُ من فلانٍ كذا، إنما يقال : كتمته كذا، قال تعالى :﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً ﴾ [ النساء : ٤٢ ] بل الظاهر تعلقه بمحذوف صفةً لرجل٧.
قال ابن الخطيب : يجوز أن يكون متعلقاً بقوله :«مؤمن » وإن كان ذلك المؤمن شخصاً من آل فرعون٨.
قال شهاب الدين : وجاء هنا على أحسن ترتيب حيث قدم المفرد ثم ما يقرب منه وهو حرف الجر ثم الجملة٩ وقد تقدم أيضاً هذه المسألة في المائدة وغيرها ويترتب على الوجهين هل كان هذا الرجل من قرابة فرعون فعلى الأولى لا دليل فيه، وقد رد بعضهم الأول١٠ بما تقدم، وأنه لا يقال : كتمت من فلان كذا إنما يقال : كتمت فلاناً كذا فيتعدى لاثنين بنفسه، قال تعالى :﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً ﴾ [ النساء : ٤٢ ] وقال الشاعر :
٤٣٣٢ كَتَمْتُكَ هَمًّا بالجَمُومَيْنِ سَاهِراً وَهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنّاً وَظَاهِرَا
أَحَادِيثَ نَفْسٍ تَشْتَكِي مَا يَرِيبُها وَوِرْدَ هُمُومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصَادِرَا١١
أي كتمتك أحاديث نفس وهمين، فقدم المعطوف على المعطوف عليه ومحلّه الشعر١٢.
قوله ﴿ أَن يَقُولَ رَبِّيَ ﴾ أي كراهة أن يقول، أو لأن يقول١٣. قال الزمخشري : ولك أن تقدر مضافاً محذوفاً أي وقت أن يقول والمعنى أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر ( في أمره )١٤ وهذا الذي أجازه رده أبو حيان بأن تقدير هذا الوقت لا يجوز إلا مع المصدر المصرّح به، تقول : صِيَاحَ الدِّيكِ أي وقت صياحه، ولو قلت : أجيئك أَنْ صَاحَ الديك أو أَنْ يَصِيحَ لم يصح نص عليه النحويون١٥
قوله :«وقد جاءكم » جملة حالية، يجوز أن تكون من المفعول.
فإن قيل : هو١٦ نكرة.
فالجواب : أنه في حيِّز الاستفهام وكل ما سوغ الابتداء بالنكرة سوغ انتصاب الحال عنها، ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل١٧.

فصل


لما حكى الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه ما زاد في دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله بين أنه تعالى قَيَّضَ له إنساناً أجنبياً حتى ذب عنه بأحسن الوجوه وبالغ في تسكين تلك الفتنة فقال :﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله ﴾ وهذا استفهام على سبيل الإنكار، وذكر في هذا الكلام ما يدل على حسن ذلك الإنكار، وذلك لأنه ما زاد على أن قال : ربي الله وجاء بالبينات، وذلك لا يوجب القتل البتةَ فقوله :﴿ وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ ﴾ يحتمل وجهين :
الأول : أن قوله «ربي الله » إشارة إلى تعزيز النبوة بإظهار المعجزة.
الثاني : أن قوله «رَبِّي اللهُ » إشارة إلى التوحيد.
وقوله :﴿ وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ ﴾ إشارة إلى الدلائل الدالة على التوحيد، ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية على أن الإقدام على قتلِهِ غير جائز، وهي حجة مذكورة على طريق التقسيم فقال : إن كان هذا الرجل كاذباً كان وبال كذبه عائداً عليه فاتركوه وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم فعلى كلا التقديرين الأولى إبقاؤه حيًّا.
فإن قيل : الإشكال على هذا الدليل من وجهين :
الأول : أن قوله ﴿ وإن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ﴾ معناه أن ( ضرر )١٨ كذبه مقصور عليه ولا يتعداه، وهذا كلام فاسد لوجوه :
أولها : أنا لا نسلم أن بتقدير كونه كاذباً يكون ضرر كذبه مقصوراً عليه لأنه يدعو الناس إلى ذلك الدين الباطل ويغتر به جماعة ويقعون في المذهب الباطل والاعتقاد السيئ ثم يقع بينهم وبين غيرهم الخصوماتُ الكثيرة فثبت أن بتقدير كونه كاذباً لم يكن ضرر كذبه مقصوراً عليه بل يكون متعدياً إلى الكل، ولهذا أجمع العلماء على أن الزِّنْدِيقَ الذي يدعو الناس إلى زَنْدَقَتِهِ يجب قتله.
وثانيها : أنه إن كان هذا الكلام حجة فلا كذاب إلا ويمكنه أن يتمسك بهذه الطريقة فيمكن جميع الزنادقة والمُبْطِلَة من أديانهم١٩ الباطلة.
وثالثها : أن الكفار الذين انكروا موسى عليه الصلاة والسلام يجب أن لا يجوز الإنكار عليهم لأنه يقال إن كان ذلك المنكر كاذباً في ذلك الإنكار فعليه كذبه وإن يك صادقاً فما انتفعتم بصدقه، فثبت أن هذه الطريق٢٠ صَوَّبَتْ صدقه وما أفضى ثُبُوتُه إلى عدم صدقه كان فاسداً.
الوجه الثاني : كان من الواجب أن يقال : وإنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ كُلُّ الَّذِي يَعِدُكُمْ ؛ لأن الذي يصيب من بعض الذي٢١ يَعِدُ دون البعض هو الكفار والمنجمون. أما الرسول الصادق الذي لا يتكلم إلا بالوحي فإنه يجب أن يكون صادقاً في كل ما يقول فكان قوله :﴿ يصيبكم بعض الذي يعدكم ﴾ غير لائق بهذا المقام.
والجواب عن الأسئلة الثلاثة بأن تقدير الكلام ( أنه )٢٢ لا حاجة لكم في دفع شره إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه من إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذباً فحينئذ لا يعود ضرره إلا إليه وإن كان صادقاً فما انتفعتم به.
والمقصود من ذلك التقسيم أنه لا حاجة بكم إلى قتله بل يكفيكم أن تُعْرِضُوا عنه وأن تمنعوه من إظهار دينه. وأما الجواب عن الوجه الثاني : وهو قوله كان الأولى أن يقال :«يصيبكم كل الذي يعدكم » فهو من وجوه :
الأول : أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللَّجَاجِ ؛ لأَنَّ المقصود منه وإن كان كاذباً كان ضرر كذبه مقصوراً عليه وِإن كان صادقاً فلا أقلَّ من أن يصيبكُم بعض ما يعدكم وإن كان المقصود من الكلام هذا صح، ونظيره قوله ﴿ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [ سبا : ٢٤ ].
والثاني : أنه عليه الصلاة والسلام كان يتوعّدهم بهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة، فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصابهم بعض الذي وعدهم به.
الثالث : قال الزمخشري :«بعض » على بابها وإنما قال ذلك ليهضم موسى بعضَ حَقِّهِ في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً فضلاً عن أن يتعصب له٢٣. وهذا أحسن من قول أبي عبيدة٢٤ وغيره أن بعض بمعنى كل، وأَنْشَدَ قَوْلَ لَبيدٍ :
٤٣٣٣ تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضُ النُّفُوسِ حِمَامُها٢٥
وأنشد أيضاً قول عمرو بن شُيَيْمٍ :
٤٣٣٤ قَدْ يُدْرِكُ المُتأنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مع المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ٢٦
وقول الآخر :
٤٣٣٥ إنَّ الأُمُورَ إذَا الأَحْدَاثُ دَبَّرهَا دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ٢٧
قال شهاب الدين : ولا أدري كيف فهموا «الكل » من البيتين الأخيرين، وأما الأول ففيه بعض دليل لأن الموت يأتي على الكل٢٨. قال ابن الخطيب : والجمهور على أن هذا القول خطأ قالوا : وأراد لبيدٌ ببعض النفوس نفسه٢٩، ومعنى البيت أنه وصف نفسه أنه نَزَّالُ أمكنةٍ أي كثيرُ النزول في أماكن لا يرضاها إلا أن يربط نفسه الحِمام وهو الموت، وقال اللَّيْثُ : بعض ههنا صلة يُريد يصبكم الذي يعدكم٣٠. ولما حكى الزمخشري قول أبي عبيدة أن «بعض » بمعنى «الكل » وأنشد عنه بيت لبيد قال : إن صحت الرواية عنه فقد حق فيه قولُ المَازِنِيِّ في مسألة العَلْقَى : كان أجْفَى من أن يفقه ما أقول له٣١. قال شهاب الدين : ومسألة المازني معه : هي أن أبا عبيدة قال للمازني : ما أكذب النحويين يقولون هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث، فإن الألف في عَلْقَى ملحقة، قال : فقلت له وما أنكرت من ذلك ؟ فقال : سمعت رؤبة يُنْشِدُ :
٤٣٣٦ يَنْحَطُّ فِي عَلْقَى. . . . . . ***. . . . . . . . . . . . . . . . ٣٢ فمل ينونها، فقلت : ما واحد علقى ؟ قال : عَلْقَاة، قال المازني : فأَسِفْتُ ولم أفسر له لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا. قال شهاب الدين٣٣ : وإنما استغلظه المازني ؛ لأن الألف التي للإلحاق قد تدخل عليها تاء التأنيث ( دالة٣٤ الممتنع دخولها على ألف التأنيث ) نحو : دَعْوَى، وصَرْعَى.
وأما عدم تنوين «علقى » فلأنه سمَّى بها شيئاً بعينه، وألف الإلحاق المقصورة حال العلمية تجري٣٥ مجرى تاء التأنيث فيمتنع الاسم الذي هو فيه كما يمتنع فاطمةُ وينصرفُ قَائِمة٣٦.
قوله :﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ وفيه احتمالان :
الأول : أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى عليه الصلاة والسلام والمعنى أن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة، ومن هداه إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذَّاباً فدل على أن موسى ليس من الكذابينَ.
الاحتمال الثاني : أن يكون المراد أن فرعون مسرفٌ في عزمه على قتل موسى كذابٌ في ادعائه الإلَهيَّة والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يُبْطِلُهُ ويَهْدِمُ ِأمره.
١ زيادة عن النسختين يقتضيها السياق..
٢ في الحديث الذي رواه الإمام الرازي علي بن طالب وليس أبو بكر وهو الأصح..
٣ انظر تفسيري البغوي والخازن ٦/٩٣ وتفسير الرازي ٢٧/٥٧ والكشاف ٣/٤٢٣..
٤ ذكرها صاحب الكشاف في المرجع السابق والإمام الفخر في ٢٧/٥٧ ولم يحدد كل منهما القارئ وهي شاذة لم ترو في المتواتر..
٥ البحر المحيط ٧/٤٦٠ والكشاف ٣/٤٢٣..
٦ ذكره الرازي في المرجع السابق والسمين في الدر ٤/٦٨٨. وقال الزمخشري: "من آل فرعون" صفة لرجل أو صلة ليكتم أي يكتم إيمانه، من آل فرعون..
٧ انظر الدر المصون ٤/٦٨٨..
٨ تفسيره ٢٧/٥٧..
٩ الدر المصون المرجع السابق..
١٠ أي كون هذا الرجل من بني إسرائيل وهو ما قاله الإمام القشيري فيما نقله عنه الإمام القرطبي في الجامع ١٥/٣٠٧..
١١ بيتان من الطويل لنابغة ذبيان، والرواية: كتمتك ليلا، والجمومين اسم ماء، وساهرا: نعت لليل أو للهم على كلتا الروايتين. والشاهد: نصب "أحاديث" بكتم مفعولا ثانيا، ويجوز أن تنصب على البدل من قوله "همين". وعلى ذلك الإعراب لا شاهد فدل من مواطن الشاهد أن "كتم" لا يتعدى بحرف الجر بل بنفسه. وقد تقدم..
١٢ شرح ديوان النابغة للأعلم ٦٧ وانظر البيت في البحر المحيط ٧/٤٦٠ والدر المصون ٤/٦٨٨، والدر اللقيط على البحر ذاته والديوان ٦٧..
١٣ هذا قول أبي البقاء في تبيانه ١١١٨ والزمخشري في الكشاف ٣/٤٣٤ وأبي حيان في البحر ٧/٤٦٠ ومعاني القرآن وإعرابه ٤/٣٧١..
١٤ زيادة من الكشاف وانظر الكشاف المرجع السابق..
١٥ قاله في بحره ٧/٤٦٠ بالمعنى..
١٦ تصحيح من السمين والمقام وفي النسختين "هي" وهو يتكلم عن المفعول وهو مذكو وهو "رجلا"..
١٧ وقد أعربها أبو البقاء حالا في تبيانه ١١١٨ دون تحديد صاحب الحال وقد فصل القول السمين في الدر ٤/٦٨٩..
١٨ سقط من ب فقط دون الرازي و (أ)..
١٩ في الرازي: والمبطلين من تقرير أديانهم الباطلة..
٢٠ كذا في النسختين وفي الرازي أن هذا الطريق يوجب تصويب ضده..
٢١ في الرازي: لأن الذي يصيب في بعض ما يعد دون البعض..
٢٢ سقط من ب..
٢٣ الكشاف ٣/٤٢٥..
٢٤ لم أجد في المجاز عند هذه الآية تعليقا لأبي عبيدة وقد ذكر في [آل عمران: ٥٠] وهي قوله ﴿ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم﴾ وفي الآية ٦٣ من سورة الزخرف ﴿ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه﴾ أن البعض بمعنى الكل. المجاز له ١/٩٤ و٢/٢٠٥. وقد ذكر الإمام القرطبي في الجامع ١٥/٣٠٧ رأي أبي عبيدة هذا ورأي الماوردي في أن البعض بمعنى الكل..
٢٥ بيت من الكامل من المعلقة المشهورة له والرواية كما ذكرت أعلى، ويروى: أو يرضها بالياء، كما يروى "أو يعتلق" بدل قوله "أو يرتبط" والشاهد: بعض النفوس فقد ذهب أبو عبيدة إلى أن بعض بمعنى كل وهذا خلاف ما عليه أهل اللغة؛ لأن المراد بها نفسه كما أخبر الإمام الرازي أعلى. وانظر شرح القصائد السبع ٥٧٣، ومجالس ثعلب ٥٠، والخصائص ١/٧٤ و٢/٣١٧ و٣٣١ ومحتسب ابن جني أيضا ١/١١١ وشرح شواهد الشافية للبغدادي ٤١٥، والجامع لأحكام القرآن ١٥/٣٠٧ وفتح القدير للشوكاني ٤/٤٨٨ والطبري ٢٥/٥٥ والديوان ٤/٦٨٩ واللسان "ح م م"..
٢٦ الشهير بالقطامي لقبا. وهو من البسيط ووجه الاستشهاد بت كسابقه حيث ذهب بعضهم إلى أن "بعض" بمعنى "كل" وهو خلاف ما عليه أهل اللغة فإن ذكر البعض يوجب الكل وانظر البحر المحيط ٧/٤٦١ والدر المصون ٤/٦٩٠ واللسان بعض ٣١٢، ٣١٣ والقرطبي ١٥/٣٠٧ ومجالس ثعلب ١٦٩ وفتح القدير ٤/٤٨٨ وديوانه ٣..
٢٧ مجهول قائله وهو من البسيط أيضا، وشاهده كسابقيه من استعمال البعض بمعنى الكل عند البعض ومعنى البيت واضح، وقد تقدم..
٢٨ الدر المصون السابق..
٢٩ التفسير الكبير له ٢٧/٥٨..
٣٠ ذكره عنه الخازن والبغوي ٦/٩٣ وقد ذكر الزجاج في معاني القرآن وإعرابه في بيت القطامي: إنما ذكر البعض ليوجب له الكل إلا أن البعض هو الكل ولكن للقائل إذا قال أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض حاجته وأقل ما يكون للمستعجل الزلل ٤/٣٧٢..
٣١ انظر كشافه ٣/٤٢٥..
٣٢ من بيت من الرجز، تمامه: ينحط في علقي وفي مكور. وبعده: بين تواري الشمس والذرور. كما في ديوانه والمكور: نبتة من نبات الصحراء غير المزهرة، ومثلها العلقى انظر الديوان ٢٣٣ وإنباه الرواة للقفطي ١/٢٥٤ والكتاب ٣/٢١٢، واسان العرب "مكر وعلق" وهو في النسب للعجاج بلفظ "فحط" ماضيا وانظره أيضا في الدر المصون ٤/٦٩٠..
٣٣ المرجع السابق..
٣٤ ما بين القوسين كله سقط من ب فقط بسبب انتقال النظر..
٣٥ في ب يجري..
٣٦ السابق..
قوله :﴿ ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ﴾ اعلم أن مؤمن آل فرعون لما استدل على أنه لا يجوز قتل موسى خوف فرعون وقومه ذلك العقاب١ الذي توعّدهم به في قوله ﴿ يصبكم بعض الذي يعدكم ﴾ فقال : يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض. أي أرض مصر يعني قد علوتم الناس وقَهَرْتُمُوهُمْ فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب وقتل النبي فإنه لا مانع من عذاب الله إن حلَّ بكم، وإنما قال «يَنْصُرُنَا وَجَاءَنَا » ؛ لأنه كان يظهر أنه منهم وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه٢.
قوله «ظَاهِرينَ » حال من الضمير «لكم » والعامل فيها وفي اليوم ما تعلق به «لكم »٣.
ولما قال المؤمن هذا الكلام قال فرعون :﴿ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى ﴾ هي من رؤية الاعتقاد٤ فيتعدى لمفعولين ثانيهما :«إلاَّ مَا أرَى » أي إلا ما أرى لنفسي٥. وقال الضحاك : ما أعلمكم إلا ما أعلم٦. قوله ﴿ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد ﴾ العامة على تخفيف الشين، مصدر رَشَدَ يَرْشُدُ. وقرِأ معاذ بن جبل بتشديدها٧، وخرجها أبو الفتح وغيره على أنها صفة مبالغة، نحو ضَرَبَ فهو ضَرَّاب٨، وقال النحاس : هو لحن، وتوهمه من٩ الرباعي يعني أرشد، ورد على النحاس قوله : بأنه يحتمل أن يكون من «رشد » الثلاثي، وهو الظاهر١٠، وقد جاء فعال أيضاً من أفعل وإن كان لا ينقاس، قالوا : أدْرَكَ فَهُوَ دَرَّاك وأجْبَرَ فهو جَبَّار، وأَقْصَرَ فهو قَصَّار، وأَسْأرَ١١ فهو سَئَّار. ويدل على أنه صفة مبالغة أن معاذاً كان يفسرها بسبيل الله.
قال ابن عطية : ويبعد عندي على معاذ رضي الله عنه وهل كان فرعون يدعي إلا الإلَهيَّةَ ؟ ويعلق بناء اللفظ على هذا التركيب١٢. قال شهاب الدين يعني ابن عطية أنهن كيف يقول فرعون ذلك فيقر بأنَّ ثمَّ من يهدي إلى الرشاد غيره مع أنه يدعي أنه إله١٣.
وهذا الذي عزاه ابن عطية والزمخشري وابن جبارة١٤ صاحب الكامل إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس هو في «الرَّشَادِ » الذي هو في كلام فرعون كما توهموا، وإنما هو في «الرَّشَادِ » الثاني الذي هو من قول المؤمن بعد ذلك١٥. ويدل على ذلك ما روى أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح : وقرأ معاذ بن جبل سبيل الرشاد الحرف الثاني١٦ بالتشديد وكذلك الحسن وهو سبيل الله تعالى أوضحه لعباده كذلك فسره معاذ ( بن جبل ) وهو منقول من مُرْشِد كدَرَّاك من مدرك، وجبار من مجبر، وقصَّار من مقصِر عن الأمر، ولها نظائر معدودة فأما قصّار الثوب فهو من قصرت الثوب قِصَارَةً. فعلى هذا يزول إشكال ابن عطية المتقدم ويتضح القراءة والتفسير١٧. وقال أبو البقاء وهو الذي يكثر منه الإرشاد أو الرشد يعني أنه يحتمل أن يكون من «أَرْشَدَ » الرباعي، أو«رَشَدَ » الثلاثي، والأولى أن يكون من الثلاثي لما عرفت أنه ينقاس دون دو الأول١٨.
١ في ب: العذاب بدل العقاب..
٢ التفسير الكبير للرازي ٢٧/٥٨، ٥٩..
٣ وهو "الملك" وانظر الإعراب في التبيان ١١١٨..
٤ أي الرواية العلمية التي تحتاج مفعولين..
٥ المرجع السابق..
٦ نقله البغوي ٦/٩٤..
٧ شاذة غير متواترة ذكرها العكبري في التبيان ١١١٨ والكشاف ٣/٤٢٥ والمختصر لابن خالويه ١٣٢، والمحتسب لابن جني ٢/٢٤١ و٢٤٢..
٨ المراجع السابقة..
٩ إعراب القرآن له ٤/٣٤ بدون تعليق..
١٠ قال أبو الفتح بن جني في المحتسب المرجع السابق وينبغي أن يكون هذا من قولهم رشد يرشد كعلام من علم يعلم، أو من رشد يرشد كعباد من عبد يعبد ولا ينبغي أن يحمل على أنه من أرشد يرشد لأن فعالا لم يأت إلا في حروف محفوظة..
١١ أي أبقى في الكأس بقية وقد ذكر هذه الألفاظ ابن جني في محتسبه المرجع السابق ٢/٢٤١ و٢٤٢، والزمخشري في الكشاف ٣/٤٢٥ والسمين في الدر ٤/٦٩١ وابن خالويه في حجة القراءات السبع ذكر ثلاثة فقط دراك وقصار وسآر، الحجة له ٣١٥..
١٢ البحر المحيط ٧/٤٦٢..
١٣ الدر المصون ٤/٦٩١..
١٤ هو أبو القاسم الهذلي صاحب القراءات الخمسين الكتاب الشهير وقد مر ترجمته وانظر البحر ٧/٤٦٢ والكشف ٤/٤٢٥ والكامل في القراءات الخمسين (خ) ٢/ق ٢٣٤ ب وفيه الرشاد بتشديد الشين الحسن والباقون بتخفيف الشين، والأحسن التشديد يعني الله فهم قد فهموا من خلال تلك الآية فهما ناقص المعنى والمقام وإنما ما قالوه في الآية الآتية كما أوضع المؤلف أعلى تبعا لأبي حيان ومن حذا حذوه..
١٥ وهي "وقال الذي آمن قوم اتبعوه أهدكم سبيل الرشاد" الآية ٣٨ من نفس السورة..
١٦ يقصد الشين..
١٧ انظر البحر المحيط ٧/٤٦٢ والدر المصون ٤/٦٩١..
١٨ بالمعنى من التبيان ١١٨ وقد جعله اسما للمصدر فقال: "الجمهور على التخفيف وهو اسم للمصدر، إما الرشد أو الإرشاد"..
قوله :﴿ ياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب ﴾ اعلم أنه تعالى ( لما )١ حكى عن ذلك المؤمن أنه ( كان )٢ يكتم إيمانه والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون فلهذا السبب حصل ههنا قولان :
الأول : أن فرعون لما قال ذروني أقْتُلْ موسى لم يصرِّح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى بل أوهم أنه على دين فرعون إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي إبقاء موسى ؛ لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله والإتيان بالمعجزات القاهرة، وهذا لا يوجب القتل، فالإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بقبح الكلمات بل الأولى تأخير قتله ومنعه من إظهار دينه لأنه إن كان كاذباً فَوَبَالُ كَذِبِهِ عليه، وإن كان صادقاً حصل الانتفاع به من بعض الوجوه. ثم أكد ذلك بقوله ﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ يعنى أنه إن صدق فيما يدعيه من إثبات الإله القادر الحكيم فهو لا يهدي المسرف الكذاب، فأوهم بقوله :﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ أنه يريد موسى، وإنما كان يقصد به فرعون ؛ لأن المسرف الكذاب هو فرعون.
والقول الثاني : أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أولاً فلما قال فرعون ذروني أقتل موسى أزال الكتمان وأظهر أنه على دين موسى وشَاقَّ٣ فرعون بالحق وقال : يا قوم إنِّي أخاف عليكم مثلَ يوم الأحزاب أي مثل أيام الأحزاب إلا أنه لما أضاف اليومَ إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، وكان لكل حزب يوم في العذاب اقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس.
١ سقط من ب..
٢ كذلك..
٣ بزنة فاعل من شاق يشاقق إذا جاهر وخالف..
قوله :«مِثْلَ دأبِ » يجوز أن يكون «مثل » بدلاً، وأن يكون عطف بيان١ والمعنى مثل دأبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي دائماً لا يفترون عنه.
ولا بدّ من حذف مضاف يريد مثل جزاء دأبهم. والحاصل أنه خوفهم الهلاك في الدنيا ثم خوفهم هلاك الآخرة ﴿ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ ﴾ أي لا يُهْلِكُهُمْ قبل إقامة الحجة عليهم، والمقصود التنبيه على عذاب الآخرة يعنى أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلاً بأنهم استوجبوه بتكذيبهم الأنبياء، وتلك العلة قائمة هنا فوجب حصول الحكم هنا.
قالت المعتزلة : وما الله يريد ظلماً للعباد يدل على أنه لا يريد أن يظلم العباد، ولا يريد الظلم من أحد العباد التبة، ولو خلق الكفر فيهم ثم عذبهم على ذلك الكفر لكان ظالماً، وإذا ثبت أنه لا يريد الظلم ألبتة ثبت أنه غير خالق لأفعال العباد، لأنه لو خلقها لأرادها، وثبت أيضاً أنه قادر على الظلم إذ لو لم يقدر عليه لما حصل التمدح بترك الظلم، وهذا الاستدلال قد تقدم مراراً مع الجواب٢.
١ البيان ٢/٣٣١ والدر المصون ٤/٦٩٢..
٢ وانظر تفسير الإمام فخر الدين ٢٧/٦٠، ٦١..
قوله ( تعالى )١ :﴿ وياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد ﴾ التناد تفاعل من النداء يقال : تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضاً٢، والأصل : الياء، وقد تقدم الخلاف في يائه كيف تحذف والأصل٣ تَنَادُياً بضم الدال ولكنهم كسروها ؛ لِتَصح الياءُ. وقرأت طائفة بسكون الدال إجراء للوصل مجرى الوقف٤، وتنادى القوم أي نادى بعضهُم بَعْضاً، قال ( الشَّاعِرُ٥ رَحِمَهُ الله ) :
٤٣٣٧ تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارِساً فَقُلْنَا عُبَيْدَ اللهِ ذَلِكُمُ الرَّدِي٦
وقال آخر :
٤٣٣٨ تَنَادَوْا بَالرَّحِيلِ غَداً وَفِي تَرْحَالِهِمْ نَفْسِ٧
وقرأ ابن عباس والضحاك والكلبي وأبو صالح وابن مقسم والزعفراني٨ في آخرين بتشديدها٩ مصدر تَنَادَّ من : نَدَّ البَعِيرُ إذَا هَرَبَ ونَفَرَ، وهو في معنى قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٤ ] الآيات ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى بعد ذلك :﴿ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ﴾. قال أبو علي : التَّنادي مخففاً من التناد من قولهم نَدَّ فلانٌ إذا هرب١٠. وفي الحديث :«إن للناس جَوْلَةً يَنِدُّونَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ مَهْرَباً »١١ وقال أميةُ بنُ أبي الصَّلْتِ :
٤٣٣٩ وَبَثَّ الخَلْقَ فِيهَا إذْ دَحَاهَا فَهُمْ سُكَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِي١٢
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
أجمع المفسرون على أن يوم التنادي ( هو ) يوم القيامة وفي تسميته بهذا الاسم وجوه :
قيل : لأن أهل النار ينادون أصحابَ الجنة، وأصحاب الجنة ينادون أصحابَ النار كما حكى الله عنهم.
وقال الزجاج : هو قوله تعالى :﴿ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾٧ [ الإسراء : ٧١ ].
وقيل : ينادي بعضُ الظالمينَ بعضاً بالويْل والثُّبُور، فيقولون : يَا وَيْلَنَا. وقيل : يُنَادَوْنَ إلى المحشر وقيل ينادي المؤمن : هَاؤُم اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ، والكافر : يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وقيل : ينادى باللَّعَنةِ على الظالمين، وقيل : يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادى يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، وقيل : ينادى بالسعادة والشقاوة ألا إنَّ فلان بان فلان سِعِدَ سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وفلان بان فلان شقي شقاوة فلا يسعد٨ بعدها أبداً.


١ سقط من ب..
٢ بين في الرعد عند قوله: "مآب" و "متاب" و "عقاب" من الآيات ٢٩، ٣٠، ٣٢، ٣٣، ٣٤ أن إثبات الياء الوجه والحذف حسن جميل؛ لأن الكسرة تدل عليها وهو رأس آية وانظر اللباب ٤/٩٧ ب..
٣ انظر غريب القرآن لابن قتيبة ٣٨٦..
٤ لم أجد تحديد من قرأ بها انظر البحر ٧/٤٦٤ والدر المصون ٤/٦٩٢..
٥ زيادة من (أ) عن (ب)..
٦ من الطويل لدريد بن الصمة والرواية: فقلت أعبد اله بالاستفهام. والردي الهالك من الردى وهو الهلاك. وشاهده تنادوا أي نادى بعضهم بعضا، وانظر الأصمعيات ١٠٨ والبحر ٧/٤٦٤، والدر المصون ٤/٦٩٢..
٧ شاهده كسابقه من أن "تنادوا" بمعنى نادى بعضهم البعض ومعنى البيت كسابقه في التحسر على الفراق وهو من مجزوء الوافر ولم أعلم قائله؛ وانظر المحتسب ٢/٣٢٥، وسر صناعة ١/٢٣٦ والخزانة ٩/١٨٦ والأشباه والنظائر ٤/٢٠٠ ودرة الغواص ١٧٦ والدر المصون ٤/٦٩٢..
٨ الحسين بن مالك أبو عبد الله الزعفراني مقرئ شهير، له اختيار في القراءة قرأ عليه أبو نصر عبد الملك بن حاشد وقرأ اختيار العباس بن الفضل على عبد الله بن عبد الرحمن انظر غاية النهاية ١/٢٤٩..
٩ من القراءة الشاذة غير المتواترة وإن كانت اللغة تبيحا انظر مختصر ابن خالويه ١٣٢، والمحتسب ٢/٢٤٣ و٢٤٤، واللسان ندد ٤٣٨١، ومعاني الفراء ٣/٧ والكشاف ٣/٤٢٦ ومعاني الزجاج ٤/٤٧٣..
١٠ الرازي ٢٧/٦١..
١١ الحديث رواه أبو حيان بدون سند عن الرسول ٧/٤٦٤، وهو بالمعنى من حديث طويل رواه العلامة السيوطي في الدر المنثور ٢٤/٢٨٦..
١٢ من الوافر له ودحاها أي بسطها أي الأرض وهو مثل: "والأرض بعد ذلك دحاها" وشاهده في كلمة التنادي حيث ينادي بعضهم بعضا يوم القيامة وانظر البحر ٧/٤٦٤، والدر المصون ٤/٦٩٣ والقرطبي ١٥/٣١٠..
قوله :«يَوْمَ تُوَلُّونَ » يجوز أن يكون بدلاً من «يوم التناد »١ وأن يكون منصوباً بإضمار «أعني »٢. ولا يجوز أن يكون عطف بيان، لأنه نكرة وما قبله معرفة، وقد تقدم٣ في قوله ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] أن الزمخشري جعله بياناً مع تخالفهما تعريفاً وتنكيراً وهو عكس هذا، فإن الذي نحن فيه الثاني نكرة، والأول معرفة.
قوله ﴿ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ ﴾ يجوز في «من عاصم » أن يكون فاعلا٤ بالجار، لاعتماده على النفي، وأن يكون مبتدأ٥ أو من مزيدة على كلا التقديرين، ومن الله متعلق بعَاصِمٍ٦.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
أجمع المفسرون على أن يوم التنادي ( هو ) يوم القيامة وفي تسميته بهذا الاسم وجوه :
قيل : لأن أهل النار ينادون أصحابَ الجنة، وأصحاب الجنة ينادون أصحابَ النار كما حكى الله عنهم.
وقال الزجاج : هو قوله تعالى :﴿ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾٧ [ الإسراء : ٧١ ].
وقيل : ينادي بعضُ الظالمينَ بعضاً بالويْل والثُّبُور، فيقولون : يَا وَيْلَنَا. وقيل : يُنَادَوْنَ إلى المحشر وقيل ينادي المؤمن : هَاؤُم اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ، والكافر : يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وقيل : ينادى باللَّعَنةِ على الظالمين، وقيل : يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادى يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، وقيل : ينادى بالسعادة والشقاوة ألا إنَّ فلان بان فلان سِعِدَ سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وفلان بان فلان شقي شقاوة فلا يسعد٨ بعدها أبداً.


وقوله :﴿ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ﴾. قال الضحاك : إذا سمعوا زفيرَ النار نَدُّوا هرباً فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً فيرجعون٩ إلى مكانهم فذلك قوله :﴿ والملك على أَرْجَآئِهَآ ﴾١٠ [ الحاقة : ١٧ ] وقوله :﴿ يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا ﴾١١ [ الرحمن : ٣٣ ]. قال مجاهد رضي الله عنه : فارِّينَ عن النار غير معجزين١٢، ثم أكد التهديد فقال :﴿ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ ﴾ يعصمكم من عذابه، ثم نبه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم فقال ﴿ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.
١ التبيان ١١١٨، ١١١٩ والدر المصون السابق والبيان ٢/٣٣١..
٢ الدر المرجع السابق..
٣ وقد سبق رأي الزمخشري في هذه الآية وانظر الكشاف ١/٤٤٧..
٤ سد مسد الخبر لاعتماده على نفي وهو "ما"..
٥ فيكون مرفوعا بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد والخبر "لكم"..
٦ انظر الدر ٤/٦٩٣..
٩ في ب فيرجعوا..
١٠ ١٨ من الحاقة..
١١ ٢٣ من الرحمن عز وجل..
١٢ وانظر فيما سبق كله من أقوال في تفسير البغوي ٦/٩٤ و٩٥ والقرطبي ١٥/٣١٠ و٣١١..
قَوْلُهُ ( تَعَالَى )١ :﴿ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات ﴾ يعني يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالبينات، ونقل الزمخشري أنه قبل يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نيفاً وعشرين سنة وقيل : إن فرعون موسى هو فرعون يوسف بَقِيَ حيًّا إلى زمانه، وقيل : هو فرعون آخر٢. والمقصود من الكل شيء واحد هو أن يوسف حاء قومه بالبينات وهي قوله تعالى :﴿ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار ﴾٣ [ يوسف : ٣٩ ] والأولى أن يُراد بها المعجزات.
واعلم أن مؤمن آل فرعون لما قال لهم : ومن يضلل الله فما له من هاد ذكر هذا المثال وهو أن يوسف جاءهم بالبينات الباهرة فأصروا على التكذيب ولم ينتفعوا بتلك الدلائل، وهذا يدل على ( أن )٤ من أضله الله فما له من هاد، ثم قال :﴿ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ ﴾ قال ابن عباس ( رضي الله عنه )٥ : من عبادة الله وحده لا شريك له، فلم ينتفعوا ألبتة بتلك البينات.
قوله «حَتَّى إذَا » غاية لقوله ﴿ فما زلتم في شك ﴾، فَلَمَا هَلَك ﴿ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً ﴾ أي أقمتم على كفركم، وظننتم أن الله تعالى لا يجدد عليكم الحجة، وقرئ ألن٦ يبعث الله بإدخال همزة التقرير يقرّر بعضهم بعضاً.
قوله :«كَذَلِكَ » أي الأمر كذلك٧، أو مثل هذا الضلال يضل الله كل مسرف كذاب في عصيانه مرتاب في دينه، فقوله «يضل الله » مستأنف، أو نعت مصدر أي مثل إضلال الله إياكم حين لم تقبلوا من يوسف يضل الله من هو مسرف٨.
١ زيادة من (أ)..
٢ ذكر هذه الأقوال الزمخشري في الكشاف ٣/٤٢٦ والرازي تبعا في تفسيره ٢٧/٦٢..
٣ رأي الرازي السابق..
٤ سقط من (أ)..
٥ زيادة من (أ)..
٦ قراءة شاذة غير متواترة لم يحددها أبو حيان في البحر ٧/٤٦٤ وكذلك الزمخشري في الكشاف ٣/٤٢٧..
٧ التبيان ١١١٩..
٨ الدر المصون ٤/٦٩٣..
ثم بين تعالى ما لأجله بقُوا في ذلك الشك والإسراف فقال :﴿ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾ أي بغير حجة إما بناء على التقليد، وأما بناء على شبهات خسيسة.
قوله :«الَّذِينَ يُجَادِلُونَ » يجوز فيه عشرة أوجه :
أحدها : أنه بدل من١ قوله «من هو مسرف » وإنما جمع اعتباراً بمعنى «من »٢.
الثاني : أن يكون٣ بياناً له.
الثالث : أن يكون صفة له وإنما جمع على معنى «من » أيضاً٤.
الرابع : أن ينتصب بإضمار أعني٥.
الخامس : أن يرتفع خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين٦.
السادس : أن يرتفع مبتدأ خبره «يَطْبَعُ اللهُ »، و«كذلك » خبر مبتدأ مضمر أيضاً أي الأمر كذلك، والعائد من الجملة وهي يطبع على المبتدأ محذوف أي على كل متكبر منهم٧.
السابع : أن يكون مبتدأ، والخبر «كَبُرَ مَقْتاً » ولكن لا بُدّ من حذف مضاف ليعود الضمير من «كبر » عليه والتقدير : قال الذين يجادلون كَبُرَ مقتاً، ويكون «مَقْتاً » تمييزاً، وهو منقول من الفاعلية ؛ إذ التقدير كبر مَقْتُ حالهم أي جادل المجادلين٨.
الثامن : أن يكون «الَّذِينَ » مبتدأ أيضاً، ولكن لا يقدر حذف مضاف، ويكون فاعل كبر ضميراً عائداً على ما تقدم أي كبر مقت٩ جدالهم.
التاسع : أن يكون «الذين » مبتدأ أيضاً، والخبر ﴿ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾ قاله الزمخشري١٠. ورده أبو حيان بأن فيه تفكيك الكلام بضعه من بعض ؛ لأن الظاهر تعلق «بغَيْرِ سُلْطَانٍ » «بِيُجَادِلُونَ » ولا يتعلق جعله خبراً «للذين » لأنه جار ومجرور فيصير التقدير : الذي يجادلون كائنونَ أو مستقرونَ بغير سلطان أي في غير سلطان ؛ لأن الباء إذْ ذَاكَ ظرفية خبرٌ عن الجثث١١.
العاشر : أنه مبتدأ وخبره محذوف أي معاندون ونحوه قاله ِأبو البقاء١٢.
قوله :«كَبُرَ مَقْتاً » يحتمل أن يراد به التعجب١٣ والاستفهام، وأن يراد به الذم «كبئس » وذلك أنه يجوز أن يبنى ( فَعُلَ ) - بضم العين - مما يجوز فيه التعجب منه، ويَجْرِي مَجْرَى نِعْمَ وَبِئْسَ في جميع الأحكام، وفي فاعله ستة أوجه :
الأول : أنه ضمير عائد على حال المضاف إلى الذين، كما تقدم تقريره١٤.
الثاني : أنه ضمير يعود على جدالهم المفهوم من «يُجَادِلُونَ » كما تقدم تقريره أيضاً١٥.
الثالث : أنه الكاف في «كَذَلِكَ ». قال الزمخشري : وفاعل «كَبُرَ » قوله : كذلك، أي كَبُرَ مقْتاً مِثْل ذَلِكَ الجِدال، و«يَطْبَعُ اللهُ » كلام مستأنف١٦.
ورده أبو حيان : بأن فيه تفكيكاً للكلام وارتكابَ مذهب ليس بصحيح، أما التفكيك فلأن ما جاء في القرآن من «كَذَلِكَ يطبع أو تطبع » إنما جاء مربوطاً بعضه ببعض، وكذلك هذا١٧ وأما ارتكاب مذهب غير صحيح فِإنه جعل الكاف اسماً، ولا يكون اسماً إلا في ضرورة خلافاً للأخفش١٨.
الرابع : أن الفاعل محذوف نقله الزمخشري، قال : ومن قال كبر مقتاً عند الله جِدَالهُم فقد حذف الفاعل والفاعل لا يصح حذفه. قال شهاب الدين : القائل بذلك هو الحَوْفِيُّ لكنه لا يريد بذلك تفسير الإعراب إنما يريد به تفسير المعنى، وهو معنى ما تقدم من أنّ الفاعل ضمير يعود على جدالهم المفهوم من فعله، فصرح به الحوفي بالأصل، وهو الاسم الظاهر، ومراده ضمير يعود عليه١٩.
الخامس : أن الفاعل ضمير يعود على ما بعده، وهو التمييز، نحو : نعم رجلاً زيد، وبئس غلاماً عَمْرو٢٠.
السادس : أنه ضمير يعود على من في قوله :«من هو مسرف » وأعاد الضمير من كبر مقتاً اعتباراً بلفظها وحينئذ يكون قد راعى لفظ من أولاً في قوله كبر مقتاً٢١.
وهذا كله إذا أعربت «الذين » تابعاً ل ﴿ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ ﴾ نعتاً أو بياناً، أو بدلا. وقد تقدم أن الجملة من قوله «كبر مقتاً » فيها وجهان :
أحدهما : الرفع، إذا جعلناها خبر المبتدأ.
والثاني : أنها لا محل لها، إذا لم نجعلها خبراً، بل هي جملة استئنافية.
وقوله :«عِنْدَ الله » متعلق «بكَبُرَ »، فكذلك قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً وأن يكون فاعلاً وهم ضعيفان.
والثالث - وهو الصحيح - : أنه معمول ل «يَطْبَعُ » أي مثل ذلك الطبع يطبع الله٢٢، و«يطبع الله » فيه وجهان :
أظهرهها : أنه مستأنف٢٣.
والثاني : أنه خبر للموصول كما تقدم.
قوله :«قَلْبِ متكبّر » قرأ أبو عمرو، وابن ذَكْوَانَ بتنوين «قَلْبٍ »٢٤، وصف القلب بالتكبر والجبروت لأنهما ناشئان منه، وإن كان المراد الجملة، كما وصف بالإثم في قوله :﴿ فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ] وفي قوله :﴿ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ﴾ [ غافر : ٥٦ ] قال ابن الخطيب :«وأيضاً قال قوم : الإنسان الحقيقي هو القلب »٢٥ والباقون بإضافة «قلب » إلى ما بعده، أي كُلِّ قَلْبِ شخصٍ متكبرٍ. قال أبو عبيد : الاختيار الإضافة، لوجوه :
الأول : أن عبد الله قرأ :«على قلب كمل متكبر »٢٦ وهو شاهد لهذه القراءة.
الثاني : أن وصف الإنسان بالتكبر والجبروت أولى من وصف القلب بهما٢٧. وقد قدر الزمخشري مضافاً في القراءة الأولى، أي على كُلّ ذِي قلبٍ متكبر، فجعل الصفة لصاحبِ٢٨ القلب. قال أبو حيان :«ولا ضرورة تدعو إلى٢٩ اعتقاد الحذف ». قال شهاب الدين : بل ثَمَّ ضرورة إلى ذلك، وهو توافقُ القراءتين واحداً وهو صاحب القلب بخلاف عدم التقدير، فإنه يصير الموصوف في إحداهما القلب وفي الأخرى صاحبه٣٠.

فصل


قال الزَّجَّاجُ : قوله :«الذين » تفسير ل «المسرف المرتاب »، يعني٣١ هم الذين يجادلون في آيات الله أي في إبطالها بالتكذيب «بغير سلطان » حجة، «أتاهم »، «كبر مقتاً » أي كبر ذلك الجدال مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا. ودلت الآية على أنه يجوز وصف الله تعالى بأنه قد مقت بعض عباده، إلا أنها صفة التأويل في حق الله، كالغضب، والحياء، والعجب.
ثم بين أن هذا المقت كما حصل عند الله فكذلك حصل عند الذين آمنوا، قال القاضي : مقت الله إياهم يدل على أن كل فعل ليس بخلق لا أنّ كونه فاعلاً للفعل، وما قاله محال٣٢.

فصل


قد تقدم الكلام في الطبع٣٣، والرَّيْنِ٣٤، والقَسوة٣٥، قال أهل السنة : قوله :﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله ﴾ يدل على أن الكل مِنْ عند الله. وقالت المعتزلة : الآية تدل على أن هذا الطبع إنما حصل، لأنه كان في نفسه متكبراً جباراً. قال ابن الخطيب : وعند هذا تصيِرُ الآية حجة لكل واحد من الفريقين من وجه، وعليه من وجه آخر، والقول الثاني يخرج عليه رُجْحَانُ مذهبنا، وهو أنه تعالى يخلق دواعي الكبر والرياسة في القلب فتصير تلك الدواعي مانعة من حصول ما يدعو إلى الطاعة، والانقياد لأمر الله، فيكون القول بالقضاء والقدر حقاً٣٦، فيكون تعليل القلب بكونه متكبراً متجبراً باقياً، فثبت أن القول بالقضاء والقدر هو ما ينطبق عليه لفظ القرآن من أوله لي آخره٣٧.

فصل


قال مقاتل : الفرق بين المتكبر، والجبار، أن المتكبر عن قبول التوحيد، والجبار في غير حق. قال ابن الخطيب : كمال السعادة في أمرين : التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله فعلى قول مقاتل المتكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله، والجبروت كالمضاد للشفقة على خلق الله٣٨.
١ وهو قول الزمخشري في الكشاف المرجع السابق، ومكي في المشكل ٢/٢٦٦، وأبو البقاء في التبيان لم يذكره بل ذكر أوجها أخر، كما قال بالبدلية ابن الأنباري في البيان ٢/٣٣١، والنحاس في الإعراب ٤/٣٣ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٣/٣٨٤..
٢ الكشاف ٣/٤٢٧..
٣ الدر المصون ٤/٦٩٢..
٤ المرجع السابق..
٥ التبيان ١١١٩..
٦ البيان والتبيان والمشكل وإعراب النحاس ومعاني الزجاج السابقة..
٧ قاله أبو البقاء من المرجع السابق..
٨ مفهوم كلام الزمخشري في الكشاف ٣/٤٢٧ وباللفظ في الدر المصون ٤/٦٩٤..
٩ البحر المحيط ٧/٤٦٥..
١٠ الكشاف ٣/٤٢٧..
١١ في البحر "الجثة" وانظر بحر أبي حيان ٧/٤٦٥..
١٢ التبيان ١١١٩..
١٣ قاله العلامة الرضي في شرح الكافية ٢/٣٠٧، ٣٠٨..
١٤ قاله السمين في الدر المصون ٤/٦٩٥..
١٥ ذكره أبو حيان في بحره ٧/٤٦٥..
١٦ الكشاف ٣/٤٢٧..
١٧ في البحر: فكذلك هنا..
١٨ في البحر لا يجوز على مذهب البصريين إلا الأخفش وانظر البحر ٧/٤٦٤ و٤٦٥..
١٩ انظر معاني الفراء ٣/٨ والكشاف ٣/٤٢٧ والدر ٤/٤٩٨..
٢٠ الدر المصون ٤/٦٩٨ السابق بإيضاح لكلام أبي حيان في البحر ٤/٤٦٥..
٢١ الدر المصون ٤/٦٩٨ السابق بإيضاح لكلام أبي حيان في البحر ٤/٤٦٥..
٢٢ الدر المصون ٤/٦٩٨ السابق بإيضاح لكلام أبي حيان في البحر ٤/٤٦٥..
٢٣ قال بهذا الإمام الزمخشري في الكشاف ٣/٤٢٧ قال: "ويطبع الله كلام مستأنف"..
٢٤ من القراءة المتواترة ذكرها صاحب السبعة ٥٧٠، والإتحاف ٣٧٨ والنشر ٢/٣٦٥..
٢٥ كذا في تفسيره، وفي النسختين جزء القلب وانظر تفسيره ٢٧/٦٣..
٢٦ المختصر لابن خالويه ١٣٣..
٢٧ لم أعثر على رأي أبي عبيد بعلته هذه..
٢٨ قال: ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أي على كل ذي قلب متكبر تجعل الصفة لصاحب القلب. الكشاف ٣/٤٢٧ و٤٢٨..
٢٩ البحر ٧/٤٦٥..
٣٠ الدر المصون ٤/٦٩٦..
٣١ قال: "ويجوز أن يكون موضع الذين رفعا على معنى من هو مسرف مرتاب هم الذين يجادلون" معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٧٤..
٣٢ انظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٧/٦٣..
٣٣ من قوله" ﴿بل طبع عليها بكفرهم﴾ [النساء: ١٥٥]..
٣٤ من نفس السورة فقد قيل: إن الرين هو الطبع وقال مجاهد: الرين أسهل من الطبع والطبع أيسر من الإقفال والإقفال أشد من ذلك كله..
٣٥ والقسوة الغلظة قال: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك"..
٣٦ في الرازي حيا..
٣٧ الرازي ٢٧/٧٣..
٣٨ السابق..
قوله: ﴿وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً﴾... الآية. قال المفسرون: إن فرعون قال لوزيره هامان: ابْنِ لي صرحاً، والصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر، وإن بعُدَ. وأصله من التَّصريح، وهو الإظهار ﴿لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات﴾ طُرُقها.
فإن قيل: ما فائدة هذا التكرير؟ ولو قيل: لَعَلِّي أبلغ أسباب السموات كان كافياً؟
فاجاب الزمخشري عنه فقال: «إنه إذا أبهم الشيء، ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه، فلما أراد تفخيم السموات أبهمها ثم أوضْحَهَا».
53

فصل


اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السموات أم لا؟
قال ابن الخطيب: أما الظَّاهِرِيُّونَ من المفسرين فقد قطعوا بذلك، وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء الصرح. والذي عندي أن هذا بعيدٌ، والدليل عليه أن فرعون لا يخلو إما أن يقال: إنه كان مجنوناً أو عاقلاً، فإن كان مجنوناً لم يجز من الله عزّ وجلّ أن يذكر حكاية كلامه في القرآن، وإن كان عاقلاً فنقول: إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء يكون أرفع من الجبل العالِي ويعلم أيضاَ ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر من حال السماء بين أن ينظر إليها من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليها من أعلى الجبال، وإذا كان هذان العلمان بديهيَّان امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء، وإذا كان فاسداً معلوماً بالضرورة امتنع إسْنَادُهُ إلَى فِرْعَوْنَ. والذي عندي في تفسير هذه الآية، أنَّ فِرْعَونَ كان من الدهرية، وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال: إنّا لا نرى شيئاً نحكم عليه أنه إله العالم، فإنه لو كان موجوداً لكان في السماء، ونحن لا سبيلَ لنا إلى صعود السموات فكيف يمكننا أن نراه، ثم إنه لأجل المبالغة لبيان أنه لا يمكن الصعود إلى السماء قال: ﴿ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب﴾ والمقصود أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحِسِّ ممتنعاً. ونظيره قوله تعالى: ﴿فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾ [الأنعام: ٣٥] وليس المراد منه أن محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ طلبَ نفقاً في الأرض، أو وضع سُلَّماً إلى السماء بل المعنى أنه لما عرف أن هذا المعنى ممتنع فقد عرف أنه لا سبيلَ لك إلى تحصيل ذلك المقصود، كذا ههنا غرض فرعون من قوله: ﴿يا هامان ابن لي صرحاً﴾ يعني أن الاطلاع إلى إله موسى لما كان لا سبيل إليه إلا بهذا الطريق، وكان هذا الطريق ممتنعاً، فحينئذ يظهر منه أنه لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى.
واعلم أن هذه الشبهة فاسدةٌ؛ لأن طرق العلم ثلاثة: الحِسّ، والخَبَر، النَّظَر، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد وهو الحِسَّ انتفاء المطلوب؛ وذلك لأن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان قد بين لفرعون أن الطريقَ في معرفة الله تعالى إنما هو الحُجَّة، والدليل كما قال: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾ [الشعراء: ٢٦] ﴿رَبُّ المشرق والمغرب﴾ [
54
المزمل: ٩] إلا أن فرعونَ بِخُبْثِهِ ومَكْرهِ تغافل عن ذلك الدليل، وألقى إلى الجُهّال أنه لما كان لا طريق إلى الإحساس بهذه الإله وجب نفيه.
قوله: «أسْبَابَ السَّمَواتِ»، فيه وجهان:
أحدهما: أنه تابع «للأسباب» قبله، بدلاً أو عطف بيان.
والثاني: أنه منصوب بإضمار أعني. والأول أولى؛ إذ الأصْلُ عدمُ الإضمار.
قوله: «فَأَطَّلِعَ» العامة عنلى رفعه عطفاً على أبلغ فهو داخل في حيز الترجي؛ وقرأ حفص في آخرين بنصبه وفيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه جواب الأمر في قوله «ابن لي» فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه على قاعدة البصريين كقوله:
٤٣٤٠ - يا نَاقُ سِيرِي عَنَقاً فَسِيحا إلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا
وهو أوفق لمذهب البصريين
الثاني: أنه منصوب، قال أبو حيان: عطفاً على التوهم؛ لأن خبر «لعل» جاء مقروناً «بأن» كثيراً في النظم، وقليلاً في النثر، فمن نصب توهم أن الفعل المضارع الواقع خبراً منصوب «بأن» والعطف على التوهم كثير وإن كان لا ينقاس.
الثالث: أن ينتصب على جواب الترجي في لعل، وهو مذهب كوفي استهشد أصحابه بهذه القراءة وبقراءة نافع ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى﴾ [عبس: ٣٤] بنصب «فتنفعه» جواباً ل «لعله». وإلى هذا نحا الزمخشري، قال: «تشبيهاً للترجي بالتمني». والبصريون يأبون ذلك ويخرجون القراءتين على ما تقدم.
وفي سورة عبس يجوز أن يكون جواباً للاستفهام في قوله: «وَمَا يُدْرِيكَ» فإنه
55
مترتبٌ عليه معنًى. وقال ابن عطية وابن جبارة الهذلي على جواب التمني، وفيه نظر؛ إذ ليس في اللفظ تمن، إنما فيه ترجٍّ، وقد فرق الناس بين التَّمنِّي والتَّرجِّي، بأن الترجي لا يكون إلا في الممكن عكس التمني فإنه يكون فيه وفي المستحيل كقوله:
٤٣٤١ - لَيْتَ الشَّبابَ هُوَ الرَّجِيعُ عَلَى الفَتَى والشَّيْبُ كَانَ هَوَ البَدِيءَ الأَوَّلُ
قوله: ﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ﴾، قرىء: «زَيَّنَ» مبنياً للفاعل، وهو الشيطان، وتقدم الخلاف في «صد عن السبيل» في الرعد، فمن بناه للفاعل حذف المفعول أي صد قومه عن السبيل، (وهو الإيمان). قالوا: ومِنْ صَدِّه قوله: ﴿فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ﴾ [طه: ٧١]، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾
[محمد: ١] وقوله: ﴿هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام﴾ [الفتنح: ٢٥] وابن وثاب: «وصِدَّ» بكسر الصاد، كأنه نقل حركة الدال الأولى إلى فاء الكلمة بنعد توهم سلب حركتها، وقد تقدم ذلك في نحو: ردَّ، وأنه يجوز فيه ثلاث لغات الجائزة في قِيلَ وبِيعَ، وابن إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة: وَصَدٌّ بفتح الصاد، ورفع الدال منونة جعله مصدراً منسوقاً على «سُوءُ عَمَلِهِ»، أي زين له الشيطان سُوءَ العَمَلِ والصَّدَّ، ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ﴾ أي وما كيده في إبطال ما جاء به موسى إلا في خسارة وَلاَكٍ. والتَّبَابُ الخِسَارة، وعقد تقدم في قَوْلِهِ «غَيْرَ تَتْبِيبٍ».
56
قوله :«أسْبَابَ السَّمَواتِ »، فيه وجهان :
أحدهما : أنه تابع «للأسباب » قبله، بدلاً أو عطف بيان.
والثاني : أنه منصوب١ بإضمار أعني. والأول أولى٢ ؛ إذ الأصْلُ عدمُ الإضمار.
قوله :«فَأَطَّلِعَ » العامة على رفعه عطفاً على أبلغ فهو داخل في حيز الترجي ؛ وقرأ حفص في آخرين بنصبه٣ وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه جواب الأمر في قوله «ابن لي » فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه على قاعدة البصريين كقوله :
٤٣٤٠ يا نَاقُ سِيرِي عَنَقاً فَسِيحا إلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا٤
وهو أوفق لمذهب البصريين
الثاني : أنه منصوب، قال أبو حيان : عطفاً على التوهم ؛ لأن خبر «لعل » جاء مقروناً «بأن » كثيراً في النظم، وقليلاً في النثر، فمن نصب توهم أن الفعل المضارع الواقع خبراً منصوب «بأن » والعطف على التوهم كثير وإن كان لا ينقاس٥.
الثالث : أن ينتصب على جواب الترجي في لعل، وهو مذهب كوفي استشهد أصحابه بهذه القراءة وبقراءة نافع ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى ﴾ [ عبس : ٣٤ ] بنصب «فتنفعه » جواباً ل «لعله ». وإلى هذا نحا الزمخشري، قال :«تشبيهاً للترجي بالتمني »٦. والبصريون يأبون ذلك ويخرجون القراءتين على ما تقدم.
وفي سورة عبس٧ يجوز أن يكون جواباً للاستفهام في قوله :«وَمَا يُدْرِيكَ » فإنه مترتبٌ عليه معنًى. وقال ابن عطية وابن جبارة الهذلي على جواب التمني٨، وفيه نظر ؛ إذ ليس في اللفظ تمن، إنما فيه ترجٍّ، وقد فرق الناس بين التَّمنِّي والتَّرجِّي، بأن الترجي لا يكون إلا في الممكن عكس التمني فإنه يكون فيه وفي المستحيل كقوله :
٤٣٤١ لَيْتَ الشَّبابَ هُوَ الرَّجِيعُ عَلَى الفَتَى والشَّيْبُ كَانَ هَوَ البَدِيءَ الأَوَّلُ٩
قوله :﴿ وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ ﴾، قرئ :«زَيَّنَ » مبنياً للفاعل١٠، وهو الشيطان، وتقدم الخلاف في «صد عن السبيل » في الرعد١١، فمن بناه للفاعل حذف المفعول أي صد قومه عن السبيل، ( وهو١٢ الإيمان ). قالوا : ومِنْ صَدِّه قوله :﴿ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ﴾ [ طه : ٧١ ]، ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ﴾ [ محمد : ١ ] وقوله :﴿ هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام ﴾ [ الفتنح : ٢٥ ] وابن وثاب :«وصِدَّ » بكسر الصاد١٣، كأنه نقل حركة الدال الأولى إلى فاء الكلمة بعد توهم سلب حركتها، وقد تقدم ذلك في نحو : ردَّ١٤، وأنه يجوز فيه ثلاث لغات الجائزة في قِيلَ وبِيعَ، وابن إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة : وَصَدٌّ١٥ بفتح الصاد، ورفع الدال منونة جعله مصدراً منسوقاً١٦ على «سُوءُ عَمَلِهِ »، أي زين له الشيطان سُوءَ العَمَلِ والصَّدَّ، ﴿ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ﴾ أي وما كيده في إبطال ما جاء به موسى إلا في خسارة وَهلاَكٍ. والتَّبَابُ الخِسَارة، وعقد تقدم في قَوْلِهِ «غَيْرَ تَتْبِيبٍ »١٧.
١ في ب منسوب بالسين..
٢ قال بالأول ابن الأنباري في البيان ٢/٣٣١ والعكبري في التبيان ١١٢٠ والسمين في الدر ٤/٦٩٦ وبالثاني السمين في مرجعه السابق..
٣ من القراءة المتواترة وممن قرأ بها أيضا الأعرج وأبو حيوة، وزيد بن علي، والزعفراني ذكره أبو حيان في البحر ٧/٤٦٥..
٤ من الأبيات المشهورة في عالم النحو وهو من الرجز لأبي النجم العجلي. والعنق محركة ضرب من السير والفسيح الواسع، وسليمان هو سليمان بن عبد الله الخليفة. والشاهد: "فنستريحا" حيث نصب المضارع بعد الفاء على جواب الأمر وهو "سيري". وانظر معاني الفراء ١/٤٧٨ و٢/٧٩، والكتاب ٣/٣٥، والمقتضب ٢/١٣، وشرح ابن يعيش على المفصل ٧/٢٦، والهمع ١/١٨٢، ٢/١٠، والتصريح ٢/٢٣٩، والأشموني ٣/٣٠٢، والمقتصد ١٠٦٩، والرد على النحاة ١١٥، والدر المصون ٤/٥٩٦..
٥ قاله في البحر ٧/٤٦٦..
٦ الكشاف ٣/٤٢٧ و٤٢٨..
٧ الآيتان ٣و٤ السابقتان..
٨ البحر المحيط ٧/٤٦٥..
٩ من تمام الكامل، ولم أعرف قائله، والرجيع: العرق، سمي رجيعا لأنه كان ماء فصار عرقا. والبيت تدور فكرته في تمني الشباب بعد زواله وبعد حلول الكبر. وشاهده: أن "ليت" لا تستعمل إلا في الأمر المستحيل والممكن معا وهي هنا في المستحيل. وقد تقدم..
١٠ من القراءة الشاذة، وقد نقلها الزمخشري في الكشاف ٣/٤٢٨ وأبو حيان في البحر المحيط ٧/٤٦٦..
١١ من الآية ٣٣ ﴿بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل﴾ فقرأ هنا وفي الرعد حفص عن عاصم وحمزة والكسائي بالبناء للمجهول والباقون بفتح الصاد والدال مشددة وهي متواترة، وانظر النشر ١/٣٦٥، ٣٦١ وحجة ابن خالويه ٣١٥..
١٢ ما بين القوسين سقط من ب وهو كلام من الرازي ٢٧/٦٧..
١٣ نقلها أبو حيان في بحره ٧/٤٦٦..
١٤ من إخلاص الضم وإخلاص الكسر والإشمام..
١٥ قراءة شاذة غير متواترة ذكرها ابن خالويه في مختصره ١٣٠..
١٦ أي معطوفا..
١٧ من الآية ١٠٣ ﴿وما تزويدونني غير تتبيب﴾. والتتبيب هو التخسير. وانظر اللباب ميكروفيلم..
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد﴾ أي طريق الهدى ﴿ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ﴾ أي متعةٌ تنتفعون بهنا مرة ثم تنقطع ﴿وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار﴾ التي لا تزول، ثم قال: ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ تقدم الخلاف في قوله: «يدخلون الجنة» في سورة النساء. وقال مقاتل: لا تبعة عليهم فيما يُعْطَوْنَ في الجنة من الخيرات.
واختلفوا في تفسير قوله: «بِغَيْرِ حِسَابٍ» فقيل: لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل: بغير حساب، وقيل: لأنه تعالى معطيهم ثواب آبائِهِمْ، ويضم إلى ذلك الثواب من التفضيل ما يخرج من الحساب واقع في مقابلة: «إلاّ مثلها» يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير، لئلا يزيد على الاستحقاق فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وغير حساب، وهذا يدل على أن جانب الرحمة والفضل راجحٌ على جانب العقاب، فإذا عارضنا عُمُومَاتِ الوَعِيدِ بعُمُومَاتِ الوَعْد وجب أن يكون الترجيحُ لجانبِ عُمُومَاتِ الوعد، وذلك يهدم قواعد المعتزلة.

فصل


احتج أهل السنة بهذه الآية، فقالوا: قوله: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً﴾ نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات فجَرَى مَجْرَى أن يقال: «من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا» فإنه يدخل فيه أنّ من آمن بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة فكذلك ها هنا
57
وجب أن يقال: كُلُّ من عمل صالحاً واحداً من الصالحات فإنه يدخل الجنة، ويُرْزَقُ فيها بغير حساب، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتنزيه والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الطاعات، وبأحسن الطاعات، فوجب أن يدخل الجنة، والخصم يقول: إنه يَخْلُدُ في النار أَبَدَ الآباد، وذلك مخالف لهذا النص الصريح. قالت المعتزلة: إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمناً، ومرتكب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن، فلا يدخل في هذا الوعد والجواب ما تقدم في قوله: «يُؤْمِنُون بالغَيْبِ» فإن صاحب الكبيرة مؤمن فَسَقَطَ كلامُهُمْ.

فصل


دلت هذه الآية على اعتبار المماثلة في الشريعة، وأن الزائد على المِثْلِ غير مشروع، وليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرةٌ في أي الأمور، فلو حملناها على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عامةً خاصة. وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال والتخصيص كان الأول أولى، فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا ما خَصّهُ الدليل وإذا ثبت ذلك بني عليه أحكامٌ كثيرة من الجنايات على النفوس والأعظاء والأموال؛ لأنه تعالى بين أنَّ جزاءَ السيئة مقصورٌ على المِثْلِ، وبين أن جزاء الحسنة ليس مقصوراً على المِثْلِ بل هو خارج عن الحساب.
قوله
تعالى
: ﴿وياقوم
مَا
لي
أَدْعُوكُمْ
إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار﴾
. قوله تعالى: ﴿وياقوم﴾ قال الزمخشري: فَإن قُلْتَ: لِمَ جاء بالواو في الناداء الثالث دون الثاني؟
قلت: لأن الثانيَ داخل على كلام هو بيان للمجمل، وتفسير له، فأعطي الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو. وأما الثالث فداخلٌ على كلام ليس بتلك المَثَابَةِ، أي كلام مباين للأول والثاني، فَحَسُنَ إيرادُ الواو العاطفة فيه. وكرر النداء لأن فيه زيادةَ تنبيه له وإيقاضاً من سنة الغفلة، وأظهر أن له بهذا مزيدَ اهتمامٍ، وعلى أُولئك الأقوام فرط شفقة.
قوله: ﴿وتدعونني إِلَى النار﴾ هذه الجلة مستأنفة، أخبر عنهم بذلك بعد استفهام عن دعاء نفسه ويجوز أن يكون التقدير: وما لكم تدعونني إلى النار، وهو الظاهر، ويضعف أن تكون الجملة حالاً، أي مالكم أدعوكم إلى النجاة حال دعائكم إياي إلَى النار.
58
قوله: «تَدْعُونني» هذه الجملة بدل من «تَدْعُونَنِي» الأولى على جهة البيان لها. وأتى في قوله «تَدْعُونَنِي» بجلمة فعلية؛ ليدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، وفي قوله: «وَأَنَا أَدْعُوكُمْ» بجلمة إسميَّة؛ ليلد على ثُبُوتِ دعوته وتَقْوِيَتِهَا.

فصل


معنى قوله: «مَالَكُمْ» كقولك: ما لي أراك حزنياً، أي مالك، يقول: أخبروني عنك، كيف هَذِهِ الحال؟ أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان بالله، وتدعونني إلى النار بالشرك الذي يُوجِبُ النار، ثم فصر فقال ﴿تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾. والمراد بنفي العلم نفي الإلهة كأنه قال: وَأُشْرك به ما ليس لي بإله، وما ليس إله كيف يُعْقَلُ جَعْلُهُ شريكاً للإله؟
ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بيَّنَ أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغَفَّارِ، «العزيز» في انتقامه ممن كفر، «الغفار» لذنوب أهل التوحيد. فقوله: «العَزِيزِ» إشارة إلى كونه كامل القدرة، وأما فرعون فهو في غاية العجز، فكيف يكون إلهاً؟ وأما الأصنام فهي حجارة منحوتة فيكف يعقل كونها آلهة؟ قوله: «الغَفَّار» إشارة إلى أنهم يجب أن لا يَيْأَسُوا من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مُدّةً مَدِيدَة فَإنَّ إله العَالَم، وإن كان عَزِيزاً لا يُغْلبُ، قادراً لا يعارض، لكنه غافار يغفر كفر سبيعنَ سنة بإيمان ساعةٍ واحدةٍ.
قوله: «لاَ جَرَمَ» تقدم الخلاف في «لاَ جَرَمَ» في سورة هود في قوله: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون﴾ [هود: ٢٢]، وقال الزمخشري هنا: «ورُوِيَ عن بعض العرب: لا جُرْمَ أنه يفعل كذا بضم الجيم وسكون الراء بمعنى: لا بُدَّ. وَفَعَلٌ وَفُعْلٌ أخوان كَرَشَدٍ، وَرُشْدٍ، وعَدَمٍ، وَعُدْمٍ».
وشأنه على مذهب البصريين أن يجعل رداً على دعاه إليه قَوْمُهُ.
و «جَرَمَ» فَعَلٌ بمعنى حَق، و «أَنَّ» مع ما في حيّزها فاعله، أي وَجَبَ بُطْلانُ دَعْوَتِهِ، أو بمعنى كَسَبَ من قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ﴾ [المائدة: ٢] أي بسبب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته.
59
ويجوز أن يقال إنّ «لاَ جَرَمَ» نظير «لاَ بُدَّ» فَعَلَ من الجَرْم وهو القطع كما أن «بُدًّا» فعل من التبديد وهو التفريق، وكما أن معنى: لاَ بُدَّ أنكَ تَفْعَلُ كذا بمعنى لاَ بُدَّ لك من فِعْلِهِ، فكذلك ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار﴾ [النحل: ٦٢] أي لاَ قَطْعَ لذلك بمعنى أنهم أبداً يستحقون (العقاب) النار لا انقطاع لاسْتِحْقَاقِهِمْ، ولا قطع لبُطْلاَن دعوة الأصنام أي لا تزال باطلةً لا ينقطع ذلك فينقلب حقًّا.

فصل


قال البغوي: «لاَ جَرَمَ» حقاً ﴿أَنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ﴾ أي للدين دعوة في الآخرة قال السدي (رَحِمَهُ اللَّهُ) لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة يعني ليست له استجابة دعوة، فسمى استجابة الدعوة دعوة، إطلاقًاً لاسم أحد المضافين على الآخر، كقوله: وجزاء سيئة سيئة مثلها. وقيل: ليستْ له دعوة أي عبادة في الدنيا؛ لأن الأوثانَ لا تَدَّعِي الربوبية، ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة تتبرأ من عابديها.
ثم قال: «وأَنَّ مَرَدَّنَا» أي مرجعنا «إلَى اللهِ» فيجازي كُلاًّ بما يَسْتَحِقُّهُ، «وَأَنَّ المُسْرِفِينَ» المشركين ﴿هُمْ أَصْحَابُ النار﴾. قاله قتادة. وقال مجاهد: السفاكين الدماء.
ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذا البيان ختم كلامه بخاتِمَةٍ لطيفة فقال: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ﴾ وهذا كلام مبهم يوجب التخويف، وهذا يحتمل أن يكون المراد منه أن هذا الذكر يحصل في الدنيا أي عند الموت، وأن يكون في القيامة عند مشاهدة العذاب حين لا ينفعكم الذكر.
قوله: «وَأُفَوِّضُ» هذه مستأنفة. وجواز أبو البقاء أن تكون حالاً من فعال «أقولُ».
وفَتَحَ نافعٌ وأبُوا عَمْروا الياء من: أمري، والباقون بالإسكان.

فصل


لما خوفهم بقوله: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ﴾ توعدوه وخوفوه فعول في دفع
60
تخويفهم وكيدهم ومكرهم على الله بقوله: ﴿وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله﴾ وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين خوّفة فرعون بالقتل فرجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله تعالى فقال: ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب﴾ [غافر: ٢٧]. ثم قال: ﴿إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد﴾. أي عالم بأحوالهم يعلم المحقَّ من المُبطل.
قوله: ﴿فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ﴾. قال مقاتال: لما قال هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه، فلم يهتدوا عليه. وقيل: المراد بقوله: فوقاه الله سيئات ما مكروا أنه قصدوا إدخاله في الكفر، وصرفه عن الإسلام، فوقاه الله من ذلك. والأول أولى، لأن قوله بعد ذلك: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب﴾ لا يليق إلا بالوجْهِ الأول.
وقرأ حمزة وَحِيقَ بكسر الحاء وكذلك في كل القرآن والباقون بفالتح.
قال قتادة: نجا مع مُوسَى، وكان قِبْطِيًّا. «وَحَاقَ» نزل «بآل فرعون سواء العذاب» الغرق في الدنيا، والنار في الآخرة.
قوله: «النَّارُ» الجمهور على رفعها، وفيه ثلاثةُ أوجهُ:
أحدهما: أنه بدل من: «سوء العذاب» قاله الزجاج.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي سُوء العذابِ النارُ، لأنه جواب لسؤال مقدر؛ و «يُعْرَضَونَ» على هذين الوجهين يجوز أن يكون حالاً من «النار»، ويجوز أن يكون حالاً من «آل فرعون».
الثالث: أنه مبتدأ، وخره: «يُعْرََضُونَ».
وقُرِىءَ النَّارَ منصوباً، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب بفعل مضمر يفسره يعرضون من حيث المعنى أي يصلونَ النارَ يُعْرَضُونَ عليها كقوله: ﴿والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ﴾ [الإنسان: ٣٢].
61
الثاني: أن ينتصب على الاختصاص، قال الزمخشري: فعلى الأول لا محل «لِيُعْرَضُونَ» ؛ لكنه مفسراً، وعلى الثاني هو حال كما تقدم.

فصل


دلت هذه الآية على إثبات عذاب القبر؛ لأن الآية تقتضي عرض النار عليهم غُدُوًّا وعَشِيًّا، وليس المراد منه يوم القيامة، لقوله بعده ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب﴾، وليس المراد منه أيضاً الدنيا؛ لأن عرض النار عليهم غدوًّا وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت، وقبل القيامة. وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء، وإذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم لأنه لا قائل بالفَرْقِ.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدواً وعشياً عرض القبائح عليهم في الدنيا لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب، وخوّفهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار. ثم في الآية ما يمنع حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائماً غير منقطع. وقوله: ﴿عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾ يقتضي أن لا يحصُلَ ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر.
الثاني: أن الغدوةَ والعشيةَ إنما يحصلان في الدنيا، أما في القيامة فلا وجود لهما، فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر.
والجواب على الأول: أن في الدنيا عرض عليهم الكلمات التي تذكرهم أمر النار، ولم يعرض عليهم نفس الناس، وهذا الظاهر الآية، وارتكاب المجاز، وأما قولهم: الآية تدل على حصول العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز فالجواب لِمَ لا يجوز أن يكتفى في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين، ثم عند قيام يُلْقَى في النار، فيدوم عذاب حينئذٍ، واأيضاً لا يمتنع أن يكون ذكر الغَدْوَةِ والعشية كناية عن الدوام، كقوله تعالى:
﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم: ٦٢] وأما قولهم: إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية قلنا: لِمَ لا يجوز أن يقال: إن (عند) حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب.
62

فصل


قال ابنُ مَسعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أرواح آل فرعون في أجْوَاف طيرٍ سُودٍ يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدوا وتروح إلى النار، يقال: يا آل فرعونن هذه منازلكم. وقال قتادة، والسدي والكلبي: تعرض روح كل كافر على النار بُكْرَةً وعَشِيًّا ما دامتْ الدنيا.
وروى ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: إن أحَدَكُم إذَا مَاتَ عُرِضَ عليه مَقْعَدُهُ بالغَدَامةِ والْعَشِيِّ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وإنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّار؟ ِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فيقال: هذا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ القِيَامةَ».
قوله: «وَيَوْمَ تَقُومُ» فيه ثلاثة أوجهٍ:
أظهرها: أنه معمول لقول مضمر، وذلك القوم المضمر محكي به الجملة الأمرية من قوله: «أَدْخِلُوا، والتقدير: يقال لهم يوم تقوم الساعة: أَدْخِلُوا.
الثاني: أنه منصوب»
بأدْخِلُوا «أي أدخلوا يوم تقوم، وعلى هذه الوجهين، فَالْوقَفُ تامٌّ على قوله:» وَعَشِيًّا «.
الثالث: أنه معطوف على الظرفين قبله، فيكون معمولاً ليُعْرَضَونَ، والوقف على هذا قوله:»
الساعة «. و» ادخلوا «معمول لقول مضمر، أي يقال لهم كذا. وقرأ الكسائيُّ وحمزةٌ ونافعٌ وحفصٌ أدْخِلُوا بقط الهمزة وكسر الخاء، أي يقال للملائكة أدخلوا، أَمْراً من» أَدْخَلَ «» فآل فرعون «مفعولٌ أول، و» أشد العذاب «مفعول ثانٍ، والباقون بهمزة وصل، من دَخَلَ يَدْخُلُ، فآل فِرْعونَ منادَى حذف حرف الناء منه و» أَشَدّ «منصوب به، إما ظرفاً، وإما مفعولاً به. أي ادخلوا يا آل فِرْعَون في أشد العذاب. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يريد ألوان العذاب، غير العذاب الذي كانوا يعذبون به منذ غرقوا.
63
﴿ ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ ﴾ أي متعةٌ تنتفعون بها مرة ثم تنقطع ﴿ وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار ﴾ التي لا تزول،
ثم قال :﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ تقدم الخلاف في قوله :«يدخلون الجنة » في سورة النساء١. وقال مقاتل : لا تبعة عليهم فيما يُعْطَوْنَ في الجنة من الخيرات.
واختلفوا في تفسير قوله :«بِغَيْرِ حِسَابٍ » فقيل : لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل : بغير حساب، وقيل : لأنه تعالى معطيهم ثواب آبائِهِمْ، ويضم إلى ذلك الثواب من التفضيل ما يخرج من الحساب واقع في مقابلة :«إلاّ مثلها » يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير، لئلا يزيد على الاستحقاق فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وغير حساب، وهذا يدل على أن جانب الرحمة والفضل راجحٌ على جانب العقاب، فإذا عارضنا عُمُومَاتِ الوَعِيدِ بعُمُومَاتِ الوَعْد وجب أن يكون الترجيحُ لجانبِ عُمُومَاتِ الوعد، وذلك يهدم قواعد المعتزلة٢.

فصل


احتج أهل السنة بهذه الآية، فقالوا : قوله :﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً ﴾ نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات٣ فجَرَى مَجْرَى أن يقال :«من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا » فإنه يدخل فيه أنّ من آمن بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة فكذلك هاهنا وجب أن يقال : كُلُّ من عمل صالحاً واحداً من الصالحات فإنه يدخل الجنة، ويُرْزَقُ فيها بغير حساب، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتنزيه والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الطاعات٤، وبأحسن الطاعات، فوجب أن يدخل الجنة، والخصم يقول : إنه يَخْلُدُ في النار أَبَدَ الآباد، وذلك مخالف لهذا النص الصريح. قالت المعتزلة : إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمناً، ومرتكب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن، فلا يدخل في هذا الوعد والجواب ما تقدم في قوله :«يُؤْمِنُون بالغَيْبِ » فإن صاحب الكبيرة مؤمن فَسَقَطَ كلامُهُمْ٥.

فصل


دلت هذه الآية على اعتبار المماثلة في الشريعة، وأن الزائد على المِثْلِ غير مشروع، وليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرةٌ في أي الأمور، فلو حملناها على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عامةً خاصة. وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال والتخصيص كان الأول أولى، فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا ما خَصّهُ الدليل وإذا ثبت ذلك بني عليه أحكامٌ كثيرة من الجنايات على النفوس والأعضاء والأموال ؛ لأنه تعالى بين أنَّ جزاءَ السيئة مقصورٌ على المِثْلِ، وبين أن جزاء الحسنة ليس مقصوراً على المِثْلِ بل هو خارج عن الحساب٦.
١ يشير إلى قوله عز وعلا من تلك السورة: ﴿ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أثنى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا﴾. الآية ١٢٤، فقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة والكسائي بالبناء للفاعل في هذه السورة وفي النساء والباقون بضم الياء على البناء للمجهول بخلاف عن البعض في بعض المواقع وهي قراءة تواترية انظر السبعة لابن مجاهد ٢٣٧، ٢٣٨ و٥٧١ والنشر ٢/٣٦٥..
٢ الرازي في تفسيره ٢٧/٦٩..
٣ وتدل على العموم والشمول..
٤ كذا في النسختين وفي الرازي: "الصالحات"..
٥ انظر الرازي المرجع السابق..
٦ قاله الإمام الرازي بالمعنى في تفسيره ٢٧/٦٩..
قوله تعالى :﴿ وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار ﴾. قوله تعالى :﴿ وياقوم ﴾ قال الزمخشري : فَإن قُلْتَ : لِمَ جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني ؟
قلت : لأن الثانيَ داخل على كلام هو بيان للمجمل، وتفسير له، فأعطي الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو. وأما الثالث فداخلٌ على كلام ليس بتلك المَثَابَةِ، أي كلام مباين للأول والثاني، فَحَسُنَ إيرادُ الواو العاطفة فيه١. وكرر النداء لأن فيه زيادةَ تنبيه له وإيقاضاً من سنة الغفلة، وأظهر أن له بهذا مزيدَ اهتمامٍ، وعلى أُولئك الأقوام فرط شفقة.
قوله :﴿ وتدعونني إِلَى النار ﴾ هذه الجملة مستأنفة، أخبر عنهم بذلك بعد استفهام عن دعاء نفسه ويجوز أن يكون التقدير : وما لكم تدعونني إلى النار، وهو الظاهر، ويضعف أن تكون الجملة حالاً، أي مالكم أدعوكم إلى النجاة حال دعائكم إياي إلَى النار٢.
قوله :«تَدْعُونني » هذه الجملة بدل من «تَدْعُونَنِي » الأولى على جهة البيان لها٣. وأتى في قوله «تَدْعُونَنِي » بجملة فعلية ؛ ليدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، وفي قوله :«وَأَنَا أَدْعُوكُمْ » بجملة إسميَّة ؛ ليدل على ثُبُوتِ دعوته وتَقْوِيَتِهَا٤.

فصل


معنى قوله :«مَالَكُمْ » كقولك : ما لي أراك حزيناً، أي مالك، يقول : أخبروني عنك، كيف هَذِهِ الحال ؟ أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان بالله، وتدعونني إلى النار بالشرك الذي يُوجِبُ النار،
١ الكشاف ٣/٤٢٩..
٢ قال بهذه الإعرابات السمين في الدر المصون ٤/٦٩٨..
٣ قاله العكبري في التبيان ١١٢٠..
٤ بالمعنى من البحر المحيط ٧/٤٦٧، وباللفظ من الدر المصون ٤/٦٩٨..
ثم فسر فقال ﴿ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾. والمراد بنفي العلم١ نفي الإلهة كأنه قال : وَأُشْرك به ما ليس لي بإله، وما ليس إله كيف يُعْقَلُ جَعْلُهُ شريكاً للإله ؟
ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بيَّنَ أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغَفَّارِ، «العزيز » في انتقامه ممن كفر، «الغفار » لذنوب أهل التوحيد. فقوله :«العَزِيزِ » إشارة إلى كونه كامل القدرة، وأما فرعون فهو في غاية العجز، فكيف يكون إلهاً ؟ وأما الأصنام فهي حجارة منحوتة فكيف يعقل كونها آلهة ؟ وقوله :«الغَفَّار » إشارة إلى أنهم يجب أن لا يَيْأَسُوا من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مُدّةً مَدِيدَة فَإنَّ إله العَالَم، وإن كان عَزِيزاً لا يُغْلبُ، قادراً لا يعارض، لكنه غفار يغفر كفر سبعينَ سنة بإيمان ساعةٍ واحدةٍ٢.
١ في الرازي ينفي المعلوم..
٢ انظر تفسير الإمام الفخري الرازي ٢٧/٧٠ والكشاف للعلامة الزمخشري ٣/٢٤٩..
قوله :«لاَ جَرَمَ » تقدم الخلاف في «لاَ جَرَمَ » في سورة هود في قوله :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون ﴾ [ هود : ٢٢ ]، وقال الزمخشري هنا :«ورُوِيَ عن بعض العرب : لا جُرْمَ أنه يفعل كذا بضم الجيم وسكون الراء بمعنى : لا بُدَّ. وَفَعَلٌ وَفُعْلٌ أخوان كَرَشَدٍ، وَرُشْدٍ، وعَدَمٍ، وَعُدْمٍ »١.
وشأنه على مذهب البصريين أن يجعل رداً على دعاه إليه قَوْمُهُ٢.
و«جَرَمَ » فَعَلٌ بمعنى حَق، و«أَنَّ » مع ما في حيّزها فاعله، أي وَجَبَ بُطْلانُ دَعْوَتِهِ، أو بمعنى كَسَبَ من قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ ﴾ [ المائدة : ٢ ] أي بسبب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته٣.
ويجوز أن يقال إنّ «لاَ جَرَمَ » نظير «لاَ بُدَّ » فَعَلَ من الجَرْم وهو القطع كما أن «بُدًّا » فعل من التبديد وهو التفريق، وكما أن معنى : لاَ بُدَّ أنكَ تَفْعَلُ كذا بمعنى لاَ بُدَّ لك من فِعْلِهِ، فكذلك ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار ﴾ [ النحل : ٦٢ ] أي لاَ قَطْعَ لذلك بمعنى أنهم أبداً يستحقون ( العقاب )٤ النار لا انقطاع لاسْتِحْقَاقِهِمْ، ولا قطع لبُطْلاَن دعوة الأصنام أي لا تزال باطلةً لا ينقطع ذلك فينقلب حقًّا٥.

فصل


قال البغوي :«لاَ جَرَمَ » حقاً ﴿ أَنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ ﴾ أي للدين دعوة في الآخرة قال السدي ( رحمه الله )٦ لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة يعني ليست٧ له استجابة دعوة، فسمى٨ استجابة الدعوة دعوة، إطلاقًاً لاسم أحد المضافين على الآخر، كقوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها. وقيل٩ : ليستْ له دعوة أي عبادة في الدنيا ؛ لأن الأوثانَ لا تَدَّعِي الربوبية، ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة تتبرأ من عابديها.
ثم قال :«وأَنَّ مَرَدَّنَا » أي مرجعنا «إلَى اللهِ » فيجازي كُلاًّ بما يَسْتَحِقُّهُ، «وَأَنَّ المُسْرِفِينَ » المشركين ﴿ هُمْ أَصْحَابُ النار ﴾. قاله قتادة. وقال مجاهد : السفاكين الدماء١٠.
١ الكشاف ٣/٤٢٩..
٢ أي ليس الأمر كما تصفون ثم يبتدئ ما بعده..
٣ هذا رأي الرازي في تفسيره ٢٧/٧٠ آخذا إياه من الكشاف ٣/٤٢٩..
٤ زيادة من الأصل عن ب والكشاف والرازي..
٥ قال بهذا الرأي أيضا صاحب الكشاف وتبعه الرازي انظر المرجعين السابقين..
٦ زيادة من (أ) فقط..
٧ في ب ليس وانظر البغوي ٦/٩٦..
٨ قاله الرازي ٢٧/٧١..
٩ نقله البغوي في مرجعه السابق..
١٠ الرازي السابق..
ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذا البيان ختم كلامه بخاتِمَةٍ لطيفة فقال :﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ ﴾ وهذا كلام مبهم يوجب التخويف، وهذا يحتمل أن يكون المراد منه أن هذا الذكر يحصل في الدنيا أي عند الموت، وأن يكون في القيامة عند مشاهدة العذاب حين لا ينفعكم الذكر١.
قوله :«وَأُفَوِّضُ » هذه مستأنفة. وجوز أبو البقاء أن تكون حالاً من فعال «أقولُ »٢.
وفَتَحَ نافعٌ وأبُوا عَمْروا الياء من : أمري، والباقون بالإسكان٣.

فصل


لما خوفهم بقوله :﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ ﴾ توعدوه وخوفوه فعول في دفع تخويفهم وكيدهم ومكرهم على الله بقوله :﴿ وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله ﴾ وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه الصلاة والسلام حين خوّفه فرعون بالقتل فرجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله تعالى فقال :﴿ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب ﴾ [ غافر : ٢٧ ]. ثم قال :﴿ إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد ﴾. أي عالم بأحوالهم يعلم المحقَّ من المُبطل٤.
١ السابق..
٢ التبيان ١١٢٠..
٣ قراءة نافع وأبي عمرو ولم أجدها في المتواتر من كتب القراءات، فهي من الأربع فوق العشر المتواترة فقد ذكرها صاحب الإتحاف ٣٧٩ قال: "وفتح ياء "أمري إلى الله" نافع وأبو عمرو وأبو جعفر" كما ذكرها الإمام الرازي في تفسيره ٢٧٥/٧١..
٤ السابق..
قوله :﴿ فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ ﴾. قال مقاتل : لما قال هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه، فلم يهتدوا عليه. وقيل : المراد بقوله : فوقاه الله سيئات ما مكروا أنه قصدوا إدخاله في الكفر، وصرفه عن الإسلام، فوقاه الله من ذلك. والأول أولى، لأن قوله بعد ذلك :﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب ﴾ لا يليق إلا بالوجْهِ الأول١.
وقرأ حمزة وَحِيقَ بكسر الحاء٢ وكذلك في كل القرآن والباقون بالفتح.
قال قتادة : نجا مع مُوسَى، وكان قِبْطِيًّا. «وَحَاقَ » نزل «بآل فرعون سواء العذاب » الغرق في الدنيا، والنار في الآخرة٣.
١ الرازي ٢٧/٧٣..
٢ لم أجد هذه القراءة عن حمزة في المتواتر ولا في الشواذ إلا ما حكاه الإمام الرازي في مرجعه السابق..
٣ انظر البغوي ٦/٩٦ والبحر ٧/٤٦٨..
قوله :«النَّارُ » الجمهور على رفعها، وفيه ثلاثةُ أوجهُ :
أحدهما : أنه بدل من :«سوء العذاب » قاله الزجاج١.
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي سُوء العذابِ النارُ٢، لأنه جواب لسؤال مقدر ؛ و «يُعْرَضَونَ » على هذين الوجهين يجوز أن يكون حالاً من «النار »، ويجوز أن يكون حالاً من «آل فرعون ».
الثالث : أنه مبتدأ، وخبره :«يُعْرََضُونَ »٣.
وقرئ النَّارَ٤ منصوباً، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب بفعل مضمر يفسره يعرضون من حيث المعنى أي يصلونَ النارَ يُعْرَضُونَ عليها كقوله :﴿ والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ ﴾٥ [ الإنسان : ٣٢ ].
الثاني : أن ينتصب على الاختصاص، قال الزمخشري٦ : فعلى الأول لا محل «لِيُعْرَضُونَ » ؛ لكنه مفسراً، وعلى الثاني هو حال كما تقدم.

فصل


دلت هذه الآية على إثبات عذاب القبر ؛ لأن الآية تقتضي عرض النار عليهم غُدُوًّا وعَشِيًّا، وليس المراد منه يوم القيامة، لقوله بعده ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب ﴾، وليس المراد منه أيضاً الدنيا ؛ لأن عرض النار عليهم غدوًّا وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت، وقبل القيامة٧. وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء، وإذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم لأنه لا قائل بالفَرْقِ.
فإن قيل : لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدواً وعشياً عرض القبائح٨ عليهم في الدنيا لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب، وخوّفهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار. ثم في الآية ما يمنع حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين :
أحدهما : أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائماً غير منقطع. وقوله :﴿ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾ يقتضي أن لا يحصُلَ ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر.
الثاني : أن الغدوةَ والعشيةَ إنما يحصلان في الدنيا، أما في القيامة٩ فلا وجود لهما، فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر.
والجواب على الأول : أن في الدنيا عرض عليهم الكلمات التي تذكرهم أمر النار، ولم يعرض عليهم نفس الناس، وهذا لظاهر الآية، وارتكاب المجاز، وأما قولهم : الآية تدل على حصول العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز فالجواب لِمَ لا يجوز أن يكتفى في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين، ثم عند قيام يُلْقَى في النار، فيدوم عذاب حينئذٍ١٠، وأيضاً لا يمتنع أن يكون ذكر الغَدْوَةِ والعشية كناية عن الدوام، كقوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٢ ] وأما قولهم : إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية قلنا : لِمَ لا يجوز أن يقال : إن ( عند ) حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب١١.

فصل


قال ابنُ مَسعُود رضي الله عنه أرواح آل فرعون في أجْوَاف طيرٍ سُودٍ يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدوا وتروح إلى النار، يقال : يا آل فرعون هذه منازلكم. وقال قتادة، والسدي والكلبي : تعرض روح كل كافر على النار بُكْرَةً وعَشِيًّا ما دامتْ الدنيا١٢.
وروى ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن أحَدَكُم إذَا مَاتَ عُرِضَ عليه مَقْعَدُهُ بالغَدَاةِ والْعَشِيِّ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وإنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّار فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فيقال : هذا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ القِيَامةَ »١٣.
قوله :«وَيَوْمَ تَقُومُ » فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنه معمول لقول مضمر، وذلك القول المضمر محكي به الجملة الأمرية من قوله :«أَدْخِلُوا، والتقدير : يقال لهم يوم تقوم الساعة : أَدْخِلُوا١٤.
الثاني : أنه منصوب «بأدْخِلُوا١٥ » أي أدخلوا يوم تقوم، وعلى هذه الوجهين، فَالْوقَفُ تامٌّ على قوله :«وَعَشِيًّا ».
الثالث : أنه معطوف على الظرفين قبله، فيكون معمولاً ليُعْرَضَونَ، والوقف على هذا قوله :«الساعة ». و«أدخلوا » معمول لقول مضمر، أي يقال لهم كذا١٦. وقرأ الكسائيُّ وحمزةٌ ونافعٌ وحفصٌ أدْخِلُوا بقطع الهمزة وكسر الخاء، أي يقال للملائكة أدخلوا، أَمْراً من «أَدْخَلَ » «فآل فرعون » مفعولٌ أول، و «أشد العذاب » مفعول ثانٍ، والباقون بهمزة وصل، من دَخَلَ يَدْخُلُ، فآل فِرْعونَ منادَى حذف حرف النداء منه و«أَشَدّ » منصوب به، إما ظرفاً، وإما مفعولاً به١٧. أي ادخلوا يا آل فِرْعَون في أشد العذاب. قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد ألوان العذاب، غير العذاب الذي كانوا يعذبون به منذ غرقوا.
١ معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٧٦ وهو أحد وجهين قال بهما أبو إسحاق..
٢ السابق. وانظر أيضا البيان لابن الأنباري ٢/٣٣، ومعاني الأخفش ٦٧٧، وقد قال هو وابن الأنباري بالأول أيضا..
٣ البيان ٢/٣٣٢ والدر المصون ٤/٦٩٩، وقال بت أبو البقاء هو والأول ١١٢٠ أيضا..
٤ شاذة قراءة، قياسية عربية ولم تعز في البحر ٧/٤٦٨ ولا في الكشاف ٣/٤٣٠..
٥ وانظر التبيان ١١٢٠..
٦ الكشاف ٢/٤٣٠..
٧ كذا في الرازي و (ب). وفي (أ) وقيل بدل وذلك..
٨ كذا في النسختين وفي ب والرازي: النصائح..
٩ في الرازي بدل القيامة القبر..
١٠ في الرازي بعد ذلك..
١١ وانظر في هذا الفصل كله تفسير الرازي ٢٧/٧٨ مع تغيير طفيف في العبارة..
١٢ البغوي ٦/٩٦..
١٣ أخرجه الإمام مالك في الموطأ باب الجنائز رقم ٤٨ والإمام البغوي في المرجع السابق، وأحمد في مسنده ٢/١٦، ٥١، ١١٣، ١٢٣..
١٤ قاله السمين في الدر ٤/٦٩٩ والأخفش في المعاني ٦٧٨ والعكبري في التبيان ١٠٢١..
١٥ قاله ابن الأنباري في البيان ٢/٣٣٢..
١٦ السمين في الدر ٤/٦٩٩..
١٧ السابق وانظر إتحاف ٣٧٩ ومشكل إعراب القرآن لمكي ٢/٢٦٦ والكشف له أيضا ٢/٢٤٥ وانظر أيضا الحجة في القراءات السبعة لابن خالويه ٣١٥..
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ﴾ في العامل في «إذْ» ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه معطوف على «غُدُوًّا» فيكون معمولاً ليُعْرَضُونَ أي يعرضون على النار في هذه الأوقات كلها قاله أبو البقاء.
الثاني: أنه معطوف على قوله «إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ» قاله الطبري. وفيه نظر؛ لبُعْد مابينهما، ولأن الظاهر عودُ الضمير من «يَتَحَاجُّونَ» إلى آل فرعون.
الثالث: أنه منصوب بإضمار اذكر.
قوله: «تبعاً» فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه اسم جَمْع لِتَابع، ونحوه: خَادِم وخَدَمٌ، وغَائبٌ وغَيَبٌ وآدمٌ وأَدَمٌ.
قال البغوي: والتَّبَعُ يكون واحداً وجَمعاً في قولن أهل البَصْرة، واحده تابع. وقال الكوفيون: هو جمع لا واحد له وجمعه أتباع.
والثاني: أنه مصدر واقع موقع اسم الفاعل أي تابعين.
والثالث: أنه مصدر أيضاً ولكن على حذف مضاف أي ذَوِي تَبَعٍ.
قوله: «نَصِيباً» فيه ثلاثةُ أوجه:
أحدهما: أن ينتصب بفعل مقدر به عليه قوله: «مُغْنُونَ» تقديره: هل أنتم دَافِعُونَ عَنَّا.
الثاني: أن يُضَمَّن مُغْنُونَ معنى حَامِلينَ.
الثالث: أن ينتصب على المصدر، قال أبو البقاء: كَما كَانَ «شَيءٌ» كذلك، ألا ترى إلى قوله: ﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً﴾ [آل عمران: ١٠] «فَشَيْئاً» في موضع «غِنًى» فكذلك «نصيباً» و «من النار» صفة ل «نصيباً».
64
قوله: ﴿إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ﴾ العامة على رفع «كُلٌّ» ورفعه على الابتداء و «فِيهَا» خبره والجملة خبر «إنَّ»، وهذا كقوله في آل عمران: ﴿قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٤]، في قراءة أبي عمرو. وقرأ ابن السّميْقَع وعيسى بْنُ عُمَرَ بالنصب، وفيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أن يكون تأكيداً لاسم إن، قال الزمخشري: توكيد لاسم إن، وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه، يريد: إنا كًُلَّنَا فيها انتهى، يعني فيكون «فيها» هو الخبر، وإلى كونه توكيداً ذهب ابْنُ عطيةَ أيضاً.
ورد ابن مالك هذا المذهب فقال في تَسْهِيلِهِ: «ولا يستغني بنية إضافته خلافاً للزمخشري».
قال شهاب الدين: «وليس هذا مذهباً للزمخشري وحده بل هو منقول عن الكوفيين أيضاً».
والثاني: أن تكون منصوبة على الحال، قال ابن مالك: والقول المَرْضِيُّ عندي أنّ «كُلاًّ» في القراءة المذكورة منصوبة على الحال من الضمير المرفوع في «فِيهَا» و «فيها» هو العامل؛ وقد قدمت عليه مع عدم تصرفه، كما قدمت في قراءة مَنْ قَرَأَ: ﴿والسماوات مَطْوِيَّاتٌ﴾ [الزمر: ٦٧].
وفي قول النَّابِغَةِ:
٤٣٤٢ - رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبِي أدْرَاعِهِمْ فِيهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَة بْنِ حُذَارِ
وقال بعض الطائيين:
65
يعني بنصب «بادي». وهذا هو مذهب الأخفش، إلا أن الزمخشري منع من ذلك، قال رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإن قُلْتَ: هل يجوز أن يكون «كلاًّ» حالاً، قد عمل فيهِ «فيها» ؟ قُلْتُ: لا؛ لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمةً كما يعمل في الظرف متقدماً، تقول: كُلَّ يَوْمٍ لَكَ ثَوْبٌ، ولا تقول: قائماً في الدَّارِ زَيْدٌ، قال أبو حيان: وهذا الذي منعه أجازه الأخفش، إذا توسعت الحال، نحو: زيدٌ قائماً في الدار، وزيد قائماً عندك.
والمثال الذي ذكره ليس مطابقاً لما في الآية؛ لأن الآية تقدم فيها المسند إليه الحكم وهو اسم إن، وتوسطت الحال إذا قلنا: إنها حال، وتأخر العامل فيها. وأما تمثيله بقوله: «ولا تقول قائماً في الدَّارِ زيْد» فقد تأخر فيه المسند والمسند إليه، وقد ذكر بعضهم: أن المنع في ذلك إجماع من النحاة.
قال شهاب الدين: الزمخشري منعه صحيح؛ لأنه ماشٍ على مذهب الجمهور وأما تمثيله بما ذكر فلا يضره؛ لأنه في محل المنع، فعدم تجويزه صحيح.
الثالث: أن «كُلاًّ» بدل من «نَا» في «إنَّا» ؛ لأن «كُلاًّ» قد وَليَت العَوامِلَ فكأنه قيل: إنّ كُلاًّ فيها وإذا كانوا قد تأولوا قوله:
٤٣٤٤ -............................................. حَوْلاً أَكْتَعَا
و «حَوْلاً أجْمَعَا» على البدل مع تصرف أكْتَعَ وأجْمَعَ؛ فلأن ذلك في «كّلّ» أولى وأجدى. وأيضاً فإن المشهور تعريف «كُلّ» حال قطعها، حكي في الكثير الفَاشِي: مررت بكُلِّ قائماً وبِبَعْضٍ جالساً، وعزاه بعضهم لسيبويه.
وتنكير «كل» ونصبها حالاً في غاية الشذوذ، نحو: «مَرَرْتُ بِهِمْ كُلاًّ» أي جميعاً.
فإن قيل: فيه بدل الكل من الكل في ضمير الحاضر وهو لا يجوز.
66
أجيبَ بوجهين:
أحدهما: أن الكوفيين والأخفش يرون ذلك وأنشدوا قوله:
٤٣٤٣ - دَعَا فَأَجَبْنَا وَهْوَ بَادِيَ ذِلَّة لَدَيْكُمْ وَكَانَ النَّصْرُ غَيْرَ بَعِيدِ
٤٣٤٥ - أَنَا سَيْفُ العِشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي حميداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السِّنَامَا
«فحميداً» بدل من ياء «فاعرفوني». وقد تأوله البصريون على نصبه على الاختصاص.
والثاني: أن هذا الذي نحن فيه ليس محل الخلاف «؛ لأن دال على الإحاطة والشمول، وقد قالوا: إنه متى كان البدل دالاً على ذلك جاز، وأنشدوا:
٤٣٤٦ - فَمَا بَرِحَتْ أَقْدَامُنَا فِي مَكَانِنَا ثَلاَثتِنَا حَتَّى أُزِيرُوا المَنَائِيَا
ومثله قوله تعالى: ﴿لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾ [المائدة: ١١٤] قالو:»
ثلاثتنا «بدل من» ن «في» مكاننا «؛ لدلالتها على الإحاطة، وكذلك» لأولنا وآخرنا «بدل من» ن «ف» لنا «، فلأن يجوز ذلك في كل التي هي أصل في الشمول والإحاطة بطريق الأولى، هذا كلام أبي حيان في الوجه الثالث.
وفيه نظر لأن المبرد ومكِيًّا نصا على أن البدل في هذه الآية لا يجوز فكيف يدعى أنه لا خلاف في البدل والحالة هذه؟ لا يقال: إن في الآية قولاً رابعاً، وهو أن «كُلاًّ»
نعت لاسم إنَّ، وقد صرح الكسائيُّ والفراء بذلك فقالا: هو نعت لاسم إن؛ لأن الكوفيين يطلقون اسم النعت على التأكيد، ولا يريدون حقيقة النعت.
وممن نص على هذه التأويل مكي رَحِمَهُ اللَّهُ؛ ولأن الكسائي إنما جوز نعت ضمير الغائب فقط دون المتكلم والمخاطب.
67

فصل


معنى الآية واذكر يا محمد القومكم إذ يَتَحاجُّون أي يُحَاجُّ بعضُهم بعضاً. ثم شرح خصومتهم وهي أن الضعفاء يقولون للرؤساء: إنا كنا لكم تبعاً في الدنيا فهل أنتم مغنون عنا نصباً من النار أي فهل تقدرون على أن تدفعوا عنا أيها الرُّؤسَاء نصيباً من العذاب؟
ومقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تعجيز أولئك الرؤساءَ وإيلام قلوبهم؛ لأنهم يعلمون أن أولئك الرؤساء لا قدرةَ لهم على ذلك التخفيف فعند ذلك يقول الرؤساء إنا كل فيها أي إنا كُلُّنَا واقعون في هذا العذاب، فلو قدرنا على إزالة العذاب لدفعناه عن أنفسنا. ثم يقولون: ﴿إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد﴾ يعنى فَأَوْصَلَ إلى شكل أحد حقه من النعيم أو من العذاب، فعند هذا يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين، فيرجعون إلى خَزَنَةِ جهنم ويقولون لهم: ﴿ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب﴾.
فإن قيل: لم لم يقل: وقال الذين في النار لخزنتها؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن يكون المقصود من ذكر جهنم التهويل والتفظيع.
والثاني: أن تكون جهنم اسماً لموضع من أشد المواضع بعيدِ القرار من قولهم: بِئْرٌ جِهِنَّامٌ أي بعيدة القَعْر وفيها أعظم أقسام كفار عقوبة، وخزنة ذلك الموضع تكون أعظم خزنة جهنم عند الله درجة، فإذْ عرف الكافر أن الأمر كذلك استغاثوا بهم فيقولون لهم: ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات﴾ ؟.
قوله: ﴿يَوْماً مِّنَ العذاب﴾ في يومايً وَجْهَانِ:
أحدهما: أنه ظرف لِيُخَفِّفْ، ومفعول «يخفف» محذوف، أي يخفف عنا شيئاً من العذاب في يوم. ويجوز على رأي الأخفش أن تكون «مِنْ» مزيدة فيكون العذاب هو المفعول، أي يخفف عنا في يوم العذابَ.
الثاني: أن يكون مفعولاً به، واليوم لا يخفف، وإنما يخفف مظروفه، والتقدير يخفف عذاب يوم، وهو قلق لقوله: «مِنَ العَذَابِ» والقول بأنه صفة كالحال أقلق منه.
والظاهر أن «مِنَ العََذَابِ» هو المفعول ليخفف، ومِنْ تَبْعِيضِيَّة، و «يَوْماً» ظرف، سألوا أن يخفف عنهم بعض العذاب لا كله في يوم ما، لا في كل يوم ولا في يوم معين.
68

فصل


لما أجابوهم الخزنة بقولهم: ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات﴾ ؟ قالوا: بلى والمعنى أن لولا إرسال الرسل كان للقوم أن يقولوا ما جاءنا من نذير. وهذه الآية تدل على أن الجواب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشَّرْعِ. ثم إن أولئك الملائكة يقولون لهم: ادْعُوا أنتم فإنا لا نَتَجَرأ على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين:
أحدهما: أن يكون المشفع له مؤمناً.
والثاني: حصول الإذن في الشفاعة، ولم يوجد شيء من هذين الشرطين لكن ادعوا أنتم.
وليس قولهم فادعوا لرجاء المنفعة، ولكن لِلدلالة على الخيبة، وأن المَلكَ المقرب إذا لم يسمعْ دعاؤه فيكف يسمع دعاء الكافر؟ ثم صرحوا لهم بأنه لا أثر لدعائهم فقالوا: ﴿دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ أي يبطل ويَضِلّ ولا ينفعهم.
فإن قيل: إنه تعالى يمتنع عليه أن يتأذى من المجرمين يسبب جُرْأَتِهِمْ، وإذا كان التَّأَذِّي محالاً كانت شهوة الانتقام ممتنعةً في حقه، وإذا ثبت هذا فنقول إيصال هذه المضارّ العظيمة إلى أولئك الكفار إضرار خالٍ عن جميع جهات المنفعة فكيف يليق بالرحيم الكريم أن يعذب بترك الآلام أبَدَ الآبادِ ودَهْرَ الدَّاهرِينَ من غير أن يَرْحم حاجتهم، ومن غير أن يسمع دعاءهم، ومن غير أن يلتفت إلى تضرعهم وانكسارهم، ولو أن أقسى الناس قلباً فعل مثل هذا التعذيب ببعض عَبِيدِهِ لأداء كَرَمُهُ ورحمته إلى العفو عنه مع أن هذا السيِّد في محل الحاجة والنفع والضرر فأكرم الأكرمين كيف يليق به هذا الإضرار؟
فالجواب: أن أفعال الله لا تُعَلَّل، ولا يُسْأَلُ عما يَفْعَلُ وهم يُسْأَلُونَ فلما جاء الحكم الحق به في الكتاب الحق وجب الإقرار به والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا....﴾ الآية. في كيفية النظم وجوه:
الأول: أنه تعالى لما ذكر وقاية الله موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وذلك المؤمن من مكر فرعون مَنَّ في هذه الآية بأنه ينصر رسله والذين آمنوا معه.
الثاني: لما بين من قبل تَخَاصُم أهلِ النار، وأنهم عند الفزع إلى خزنة جهنم يقولون: ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات أتبع ذلك الرسل وأنه ينصرهم في الدنيا والآخرة.
69
الثالث: قال ابن الخطيب: وهو الأقرب عندي أن الكلام في أول السورة إنما وقع من قوله: إنما يُجَادِلُ في آيَات اللهِ الذين كفروا فلا يغرنك تقلّبهم في البلاد. وأصل الكلام في الرد على أولئك المجادلين وعلى أن المحقين أبداً مشغولين بدفع كيد المبطلين، وكل ذلك إنما ذكره الله تعالى تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتصبيراً له على تحمل الأذى من قومه.
ولما بلغ الكلام في تقرير هذا المطلوب إلى الغاية القصوى وعد تعالى بأن ينصر رسوله على أعدائه تعالى فقال: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا﴾. قال ابنُ عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: بالغلبة والقهر، وقال الضَّحَّاحُ: بالحُجَّة، وفي الآخرة بالانتقام من الأعداء وبإعلاء درجاتهم في مراتب الثواب، وكل ذلك قد كان للأنبياء والمؤمنين، فهم منصورون بالحجة على من خالفهم، وأهلك أعداءهم بعد أن قتلوا بالانتقام من أعدائهم، كما نصر يحيى بن زكريا لما قُتِلَ فقَتَلَ به سبعين ألفاً.
قوله: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد﴾ قرأ الجمهور يَقُوم بالياء من أسفلَ، وأبو عمرو في رواية المنقريّ عنه وابن هُرْمز وإسماعيل بالتاء من فوق لتأنيث الجماعة.
والأشهاد يجوز أن يكون جمع «شَهيدٍ» كشَرِيفٍ وأشْرَافٍ، وهو مطابق لقوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: ٤١] وأن يكون جمع «شاهد» كصَاحِب، وأصْحاب، وطَائر، وأطيار، قال المبرد وهو مطابق لقوله: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً﴾ [الأحزاب: ٤٥].
واعلم أن قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد﴾ فيه دقيقة لطيفة، وهي أن السلطان العظيم إذا آثر بعض خواصه بالإكرام العظيم عند حضور الجمع من أهل المشرق والمغرب كان ذلك أتمّ وأبهج. وعنى بالأشهاد كل من شهد بأعمال العباد يوم القيامة
70
من ملك ونبي ومؤمن. أما الملائكة فهو الكرام الكاتبون يشهدون على الرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب. وأما الأنبياء فقال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً﴾ [النساء: ٤١] وأما المؤمنون فقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ [البقرة: ١٤٣]
قوله «يَوْمَ» بدل من «يوم» قبله، أو بيان له، أو نصب بإضمار أَعْنِي.
وتقدم الخلاف في قوله ِ «يَنْفَع الظَّالِمِينَ» بالياء والتاء آخر الروم. والمعنى لا ينفع الظالمين معذرتهم إن اعتذروا «ولهم اللعنة» البعد من الرحمة، وهذا يفيد الحصر يعني أن اللعنة مقصورة عليهم، وهي الإهانة والإذلال ﴿وَلَهُمْ سواء الدار﴾ يعني جهنم.
فإن قيل: قوله: ﴿لا ينفع الظالمين معذرتهم﴾ يدل على أنهم يذكرون الأعذار، ولكن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف الجمع بين هذا وبين قوله: ﴿وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦] ؟
فالجواب: قوله ﴿لا ينفع الظالمين معذرتهم﴾ لا يدل على أنهم ذكروا الأعذار بل ليس فيه إلا أنه ليس عندهم عذر مقبول، وهذا لا يدل على أنهم ذكروه أم لا وأيضاً فيوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يتعذرون في وقت آخر.
71
قوله :﴿ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ ﴾ العامة على رفع «كُلٌّ » ورفعه على الابتداء و «فِيهَا » خبره والجملة خبر «إنَّ »، وهذا كقوله في آل عمران :﴿ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ ﴾١ [ آل عمران : ١٥٤ ]، في قراءة أبي عمرو. وقرأ ابن السّميْقَع وعيسى بْنُ عُمَرَ بالنصب، وفيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن يكون تأكيداً لاسم إن، قال الزمخشري : توكيد لاسم إن، وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه، يريد : إنا كًُلَّنَا فيها٢ انتهى، يعني فيكون «فيها » هو الخبر، وإلى كونه توكيداً ذهب ابْنُ عطيةَ أيضاً٣.
ورد ابن مالك هذا المذهب فقال في تَسْهِيلِهِ :«ولا يستغني بنية إضافته خلافاً للزمخشري »٤.
قال شهاب الدين :«وليس هذا مذهباً للزمخشري وحده بل هو منقول عن الكوفيين أيضاً »٥.
والثاني : أن تكون منصوبة على الحال، قال ابن مالك : والقول المَرْضِيُّ عندي أنّ «كُلاًّ » في القراءة المذكورة منصوبة على الحال من الضمير المرفوع في «فِيهَا » و «فيها » هو العامل ؛ وقد قدمت عليه مع عدم تصرفه، كما قدمت في قراءة مَنْ قَرَأَ :﴿ والسماوات مَطْوِيَّاتٌ ﴾٦ [ الزمر : ٦٧ ].
وفي قول النَّابِغَةِ :
٤٣٤٢ رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبِي أدْرَاعِهِمْ فِيهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَة بْنِ حُذَارِ٧
وقال بعض الطائيين :
٤٣٤٣ دَعَا فَأَجَبْنَا وَهْوَ بَادِيَ ذِلَّة لَدَيْكُمْ وَكَانَ النَّصْرُ غَيْرَ بَعِيدِ٨
يعني بنصب «بادي ». وهذا هو مذهب الأخفش، إلا أن الزمخشري منع من ذلك، قال رحمه الله : فَإن قُلْتَ : هل يجوز أن يكون «كلاًّ » حالاً، قد عمل فيهِ «فيها » ؟ قُلْتُ : لا ؛ لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمةً كما يعمل في الظرف متقدماً، تقول : كُلَّ يَوْمٍ لَكَ ثَوْبٌ، ولا تقول : قائماً في الدَّارِ زَيْدٌ٩، قال أبو حيان : وهذا الذي منعه أجازه الأخفش، إذا توسعت الحال، نحو : زيدٌ قائماً في الدار، وزيد قائماً عندك.
والمثال الذي ذكره ليس مطابقاً لما في الآية ؛ لأن الآية تقدم فيها المسند إليه الحكم وهو اسم إن، وتوسطت الحال إذا قلنا : إنها حال، وتأخر العامل فيها. وأما تمثيله بقوله :«ولا تقول قائماً في الدَّارِ زيْد »١٠ فقد تأخر فيه المسند والمسند إليه، وقد ذكر بعضهم : أن المنع في ذلك إجماع من النحاة١١.
قال شهاب الدين : الزمخشري منعه صحيح ؛ لأنه ماشٍ على مذهب الجمهور وأما تمثيله بما ذكر فلا يضره١٢ ؛ لأنه في محل المنع، فعدم تجويزه صحيح١٣.
الثالث : أن «كُلاًّ » بدل من «نَا » في «إنَّا » ؛ لأن «كُلاًّ » قد وَليَت العَوامِلَ فكأنه قيل : إنّ كُلاًّ فيها وإذا كانوا قد تأولوا قوله :
٤٣٤٤. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . حَوْلاً أَكْتَعَا١٤
و«حَوْلاً أجْمَعَا » على البدل مع تصرف أكْتَعَ وأجْمَعَ ؛ فلأن ذلك في «كّلّ » أولى وأجدى. وأيضاً فإن المشهور تعريف «كُلّ » حال قطعها، حكي في الكثير الفَاشِي : مررت بكُلِّ قائماً وبِبَعْضٍ جالساً، وعزاه بعضهم لسيبويه١٥.
وتنكير «كل » ونصبها حالاً في غاية الشذوذ، نحو :«مَرَرْتُ بِهِمْ كُلاًّ » أي جميعاً.
فإن قيل : فيه بدل الكل من الكل في ضمير الحاضر وهو لا يجوز.
أجيبَ بوجهين :
أحدهما : أن الكوفيين والأخفش يرون ذلك وأنشدوا قوله :
٤٣٤٥ أَنَا سَيْفُ العِشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي حميداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السِّنَامَا١٦
«فحميداً » بدل من ياء «فاعرفوني ». وقد تأوله البصريون على نصبه على الاختصاص.
والثاني : أن هذا الذي نحن فيه ليس محل الخلاف « ؛ لأن دال على الإحاطة والشمول، وقد قالوا : إنه متى كان البدل دالاً على ذلك جاز، وأنشدوا :
٤٣٤٦ فَمَا بَرِحَتْ أَقْدَامُنَا فِي مَكَانِنَا ثَلاَثتِنَا حَتَّى أُزِيرُوا المَنَائِيَا١٧
ومثله قوله تعالى :﴿ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا ﴾ [ المائدة : ١١٤ ] قالو :«ثلاثتنا » بدل من «نا » في «مكاننا » ؛ لدلالتها على الإحاطة، وكذلك «لأولنا وآخرنا » بدل من «نا » في «لنا »، فلأن يجوز ذلك في كل التي هي أصل في الشمول والإحاطة بطريق الأولى، هذا كلام أبي حيان في الوجه الثالث١٨.
وفيه نظر لأن المبرد١٩ ومكِيًّا٢٠ نصا على أن البدل في هذه الآية لا يجوز فكيف يدعى أنه لا خلاف في البدل والحالة هذه ؟ لا يقال : إن في الآية قولاً رابعاً، وهو أن «كُلاًّ » نعت لاسم إنَّ، وقد صرح الكسائيُّ٢١ والفراء بذلك فقالا : هو نعت لاسم٢٢ إن ؛ لأن الكوفيين يطلقون اسم النعت على التأكيد، ولا يريدون حقيقة النعت٢٣.
وممن نص على هذه التأويل مكي٢٤ رحمه الله ؛ ولأن الكسائي إنما جوز نعت ضمير الغائب فقط دون المتكلم والمخاطب.

فصل


جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:معنى الآية واذكر يا محمدا لقومكم إذ يَتَحاجُّون أي يُحَاجُّ بعضُهم بعضاً. ثم شرح خصومتهم وهي أن الضعفاء يقولون للرؤساء : إنا كنا لكم تبعاً في الدنيا فهل أنتم مغنون عنا نصباً من النار أي فهل تقدرون على أن تدفعوا عنا أيها الرُّؤسَاء نصيباً من العذاب ؟
ومقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تعجيز أولئك الرؤساءَ وإيلام قلوبهم ؛ لأنهم يعلمون أن أولئك الرؤساء لا قدرةَ لهم على ذلك التخفيف


فعند ذلك يقول الرؤساء إنا كل فيها أي إنا كُلُّنَا واقعون في هذا العذاب، فلو قدرنا على إزالة العذاب لدفعناه عن أنفسنا. ثم يقولون :﴿ إِنَّ الله قَدْ٢٥ حَكَمَ بَيْنَ العباد ﴾ يعنى فَأَوْصَلَ إلى شكل أحد حقه من النعيم أو من العذاب،
١ وانظر السبعة ٢١٨ وحجة ابن خالويه ١١٥..
٢ في الكشاف: إنا كلنا أو كنا باللفظين وانظر الكشاف ٣/٤٣٠..
٣ البحر المحيط ٧/٤٦٩..
٤ التسهيل ١٦٤..
٥ الدر المصون ٤/٧٠١..
٦ وانظر البحر المحيط ٧/٤٦٩..
٧ من تام الكامل له. والشاهد: نصب "محبقي" على الحال من الجار والمجرور في "فيهم"، وقد تقدمت الحال على عاملها وصاحبها المجرور بذلك العامل والعامل في الحال الجار والمجرور وما يتعلق بت وقد تقدم..
٨ من الطويل مجهول القائل، رواه في البحر: "غير قريب" وفي الأشموني:
بنا عاذ عوف وهو بادي ذلة لديكم فلم يعدم ولاء ولا نصرا
وشاهده: تقدم الحال وهو قوله: "بادي" على صاحبها المجرور بإضافة الظرف وهو "كم" في "لديكم". وانظر البحر المحيط ٧/٤٦٩، والأشموني ٢/١٨٢، والتصريح ١/٣٨٥ وشرح ابن الناظم بدر الدين ١٣١، وأوضح المسالك ١٢٠ والدر المصون ٤/٧٠٢..

٩ الكشاف ٤/٤٣١..
١٠ أبو حيان في البحر ٧/٤٦٩..
١١ أبو حيان في البحر ٧/٤٦٩..
١٢ في الدر المصون: يضيره..
١٣ المرجع السابق ٤/٧٠٢..
١٤ رجز مجهول القائل والبيت بتمامه:
يا ليتني كنت صبيا مرضعا تحملني الذلفاء حولا أكتعا
والذلفاء: اسم امرأة. واستشهد بالبيت على توكيد "حول" وهو نكرة بأكتع، وشرط تأكيد أكتع أن يكون مسبوقا بأجمع، وتوكيد النكرة منعها البصريون، وأجازها الأخفش لأن النكرة محدودة وصححه ابن مالك وقد أعرب البصريون هذا على البدل أو النعت أو المجيء على الضرورة الشعرية وانظر الإنصاف ٤٥١ ـ ٤٥٦ وشرح الأشموني على الألفية ٣/٧٨، والهمع ٢/١٢٤، وابن يعيش ٤/٥٤ وابن عقيل ١٣١، وابن الناظم ١٩٨، وتوضيح المقاصد ٣/١٦٧..

١٥ قال: "هذا باب ما ينتصب خبره لأنه معرفة، وهي معرفة لا توصف ولا تكون وصفا، وذلك قولك: مررت بكل قائما، ومررت ببعض قائما، وببعض جالسا". الكتاب ٢/١١٤، ثم قال: "وصار معرفة لأنه مضاف إلى معرفة كأنك قلت: مررت بكلهم وببعضهم، ولكنك حذفت ذلك المضاف إليه". الكتاب ٢/١١٥..
١٦ من تمام الوافر وهو لحميد بن بجدلة الكلبي واستشهد بت الكوفيون والأخفس على جواز إبدال الظاهر وهو حميد من ضمير المتكلم وهو الياء من اعرفوني، وقد أوله البصريون على الاختصاص كما أوضح أعلى وقد تقدم..
١٧ من الطويل لعبيدة بن الحارث المطلبي ويروى في مقامنا بدل مكاننا، وحتى للغاية بمعنى إلى وأزيروا: فعل مجهول والواو نائب فاعل والمنائيا أصلها المنايا، ولكن أظهرت فيه الياء المحذوفة للضرورة، وقلبت همزة. وقد تقدم..
١٨ البحر المحيط ٤٧٠/٧ يتقديم وتأخير في عبارته..
١٩ قال ولا يبدل من المخاطب ولا المخاطب لأنهما لا يشكلان فيبدل منهما انظر إعراب القرآن للنحاس ٤/٣٦..
٢٠ قال مكي: ولا يجوز البدل لأن المخبر عن نفسه لا يبدل منه غيره مشكل إعراب القرآن ٢/٣٦٧..
٢١ نقله عنه القرطبي في الجامع ١٥/٣٢١..
٢٢ معاني الفراء ٣/١٠..
٢٣ القرطبي المرجع السابق والدر المصون ٤/٧٠٤..
٢٤ مشكل إعراب القرآن المرجع السابق..
٢٥ سقط من ب..
فعند هذا يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين، فيرجعون إلى خَزَنَةِ جهنم ويقولون لهم :﴿ ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب ﴾.
فإن قيل : لم لم يقل : وقال الذين في النار لخزنتها ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن يكون المقصود من ذكر جهنم التهويل والتفظيع.
والثاني : أن تكون جهنم اسماً لموضع من أشد المواضع بعيدِ القرار من قولهم : بِئْرٌ جِهِنَّامٌ أي بعيدة القَعْر١ وفيها أعظم أقسام كفار عقوبة، وخزنة ذلك الموضع تكون أعظم خزنة جهنم عند الله درجة، فإذْ عرف الكافر٢ أن الأمر كذلك استغاثوا بهم فيقولون لهم :﴿ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات ﴾ ؟.
قوله :﴿ يَوْماً مِّنَ العذاب ﴾ في يومايً وَجْهَانِ :
أحدهما : أنه ظرف لِيُخَفِّفْ، ومفعول «يخفف » محذوف، أي يخفف عنا شيئاً من العذاب في يوم. ويجوز على رأي الأخفش أن تكون «مِنْ » مزيدة فيكون العذاب هو المفعول، أي يخفف عنا في يوم العذابَ.
الثاني : أن يكون مفعولاً به، واليوم لا يخفف، وإنما يخفف مظروفه، والتقدير يخفف عذاب يوم، وهو قلق لقوله :«مِنَ العَذَابِ » والقول بأنه صفة كالحال أقلق منه.
والظاهر أن «مِنَ العََذَابِ » هو المفعول ليخفف، ومِنْ تَبْعِيضِيَّة، و «يَوْماً » ظرف٣، سألوا أن يخفف عنهم بعض العذاب لا كله في يوم ما، لا في كل يوم ولا في يوم معين.
١ انظر لسان العب جهنم ٧١٥ بكسر الجيم والياء وقال اللحياني: جهنام اسم أعجمي..
٢ الأصح كما في الرازي الكفار. وانظر تفسير الرازي ٢٧/٧٤..
٣ قال بهذا الإعراب أبو البقاء في التبيان ١٠٢١، والسمين في الدر ٤/٧٠٤..

فصل


لما أجابوهم الخزنة بقولهم :﴿ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات ﴾ ؟ قالوا : بلى والمعنى أن لولا إرسال الرسل كان للقوم أن يقولوا ما جاءنا من نذير. وهذه الآية تدل على أن الجواب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشَّرْعِ. ثم إن أولئك الملائكة يقولون لهم : ادْعُوا أنتم فإنا لا نَتَجَرأ على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين :
أحدهما : أن يكون المشفوع له مؤمناً.
والثاني : حصول الإذن في الشفاعة، ولم يوجد شيء من هذين الشرطين لكن ادعوا أنتم.
وليس قولهم فادعوا لرجاء المنفعة، ولكن لِلدلالة على الخيبة، وأن المَلكَ المقرب إذا لم يسمعْ دعاؤه فيكف يسمع دعاء الكافر ؟ ثم صرحوا لهم بأنه لا أثر لدعائهم فقالوا :﴿ دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ أي يبطل ويَضِلّ ولا ينفعهم.
فإن قيل : إنه تعالى يمتنع عليه أن يتأذى من المجرمين يسبب جُرْأَتِهِمْ، وإذا كان التَّأَذِّي محالاً كانت شهوة الانتقام ممتنعةً في حقه، وإذا ثبت هذا فنقول إيصال هذه المضارّ العظيمة إلى أولئك الكفار إضرار خالٍ عن جميع جهات المنفعة فكيف يليق بالرحيم الكريم أن يعذب١ بترك الآلام أبَدَ الآبادِ ودَهْرَ الدَّاهرِينَ من غير أن يَرْحم حاجتهم، ومن غير أن يسمع دعاءهم، ومن غير أن يلتفت إلى تضرعهم وانكسارهم، ولو أن أقسى الناس قلباً فعل مثل هذا التعذيب ببعض عَبِيدِهِ لأداء كَرَمُهُ ورحمته إلى العفو عنه مع أن هذا السيِّد في محل الحاجة والنفع و الضرر فأكرم الأكرمين كيف يليق به هذا الإضرار ؟
فالجواب : أن أفعال الله لا تُعَلَّل، ولا يُسْأَلُ عما يَفْعَلُ وهم يُسْأَلُونَ فلما جاء الحكم الحق به في الكتاب الحق وجب الإقرار به والله أعلم.
١ كذا في النسختين وفي الرازي أن يبقي على ذلك الإيلام..
قوله تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا. . . . ﴾ الآية. في كيفية النظم وجوه :
الأول : أنه تعالى لما ذكر وقاية الله موسى عليه الصلاة والسلام١، وذلك المؤمن من مكر فرعون مَنَّ٢ في هذه الآية بأنه ينصر رسله والذين آمنوا معه.
الثاني : لما بين من قبل تَخَاصُم أهلِ النار، وأنهم عند الفزع إلى خزنة جهنم يقولون : ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات أتبع ذلك الرسل وأنه ينصرهم في الدنيا والآخرة.
الثالث : قال ابن الخطيب : وهو الأقرب عندي أن الكلام في أول السورة إنما وقع من قوله : إنما يُجَادِلُ في آيَات اللهِ الذين كفروا فلا يغرنك تقلّبهم في البلاد. وأصل الكلام في الرد على أولئك المجادلين وعلى أن المحقين أبداً مشغولين بدفع كيد المبطلين، وكل ذلك إنما ذكره الله تعالى تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتصبيراً له على تحمل الأذى من قومه٣.
ولما بلغ الكلام في تقرير هذا المطلوب إلى الغاية القصوى وعد تعالى بأن ينصر رسوله على أعدائه تعالى فقال :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا ﴾. قال ابنُ عباس رضي الله عنهما : بالغلبة والقهر، وقال الضَّحَّاك : بالحُجَّة، وفي الآخرة بالانتقام من الأعداء وبإعلاء درجاتهم في مراتب الثواب، وكل ذلك قد كان للأنبياء والمؤمنين، فهم منصورون بالحجة على من خالفهم، وأهلك أعداءهم٤ بعد أن قتلوا بالانتقام من أعدائهم، كما نصر يحيى بن زكريا لما قُتِلَ فقَتَلَ به سبعين ألفاً.
قوله :﴿ وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد ﴾ قرأ الجمهور يَقُوم بالياء من أسفلَ، وأبو عمرو في رواية المنقريّ٥ عنه وابن هُرْمز وإسماعيل٦ بالتاء من فوق لتأنيث الجماعة٧.
والأشهاد يجوز أن يكون جمع «شَهيدٍ » كشَرِيفٍ وأشْرَافٍ، وهو مطابق لقوله :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾ [ النساء : ٤١ ] وأن يكون جمع «شاهد » كصَاحِب، وأصْحاب، وطَائر، وأطيار، قال المبرد وهو مطابق لقوله :﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ﴾ [ الأحزاب : ٤٥ ].
واعلم أن قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد ﴾ فيه دقيقة لطيفة، وهي أن السلطان العظيم إذا آثر بعض خواصه بالإكرام العظيم عند حضور الجمع من أهل المشرق والمغرب كان ذلك٨ أتمّ وأبهج. وعنى بالأشهاد كل من شهد بأعمال العباد يوم القيامة من ملك ونبي ومؤمن. أما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون على الرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب. وأما الأنبياء فقال تعالى :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً ﴾ [ النساء : ٤١ ]، وأما المؤمنون فقال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
١ في ب صلوات الله وسلامه عليه..
٢ كذا في النسختين ولعل مقصوده بين كما في الرازي وانظر تفسير الرازي ٢٧/٧٤، ٧٥..
٣ الرازي ٢٧/٧٥..
٤ في البغوي منصورون بالحجة على من خالفهم وقد نصرهم اله بالقهر على من ناوأهم وإهلاك أعدائهم ونصرهم بعد أن قتلوا بالانتقام، البغوي ٦/٩٧..
٥ هو عبد الله بن عمرو بن الحجاج أبو معمر المنقري التميمي اهتم بحرف أبي عمرو ضابط له، روى القراءة عن عبد الوارث وعنه أحمد بن علي بن هاشم، وأحمد بن يزيد الحلواني وغيرهما مات سنة ٢٢٤. انظر غاية النهاية ١/٤٣٩.
٦ إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد أبو إسحاق الأزدي البغدادي ثقة مشهور كبير، روى القراءة عن قالون وعبد الرحمن بن سهل وعنه ابن مجاهد، وابن الأنباري مات سنة ٢٨٢ هـ. انظر غاية النهاية ١/١٦٢..
٧ وانظر معاني الفراء ٣/١٠ والكشاف ٢/٤٣٢ ولم أجدها في المتواتر وهي شاذة نسبها صاحب شواذ القرآن إلى الأعرج ٢١٣..
٨ كذا في الرازي وفي النسختين: آكد..
قوله «يَوْمَ » بدل من «يوم » قبله، أو بيان له، أو نصب بإضمار أَعْنِي١.
وتقدم الخلاف في قوله «يَنْفَع الظَّالِمِينَ » بالياء والتاء آخر الروم. والمعنى لا ينفع الظالمين معذرتهم إن اعتذروا «ولهم اللعنة » البعد من الرحمة، وهذا يفيد الحصر٢ ٣ يعني أن اللعنة مقصورة عليهم، وهي الإهانة والإذلال ﴿ وَلَهُمْ سواء الدار ﴾ يعني جهنم.
فإن قيل : قوله :﴿ لا ينفع الظالمين معذرتهم ﴾ يدل على أنهم يذكرون الأعذار، ولكن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف الجمع بين هذا وبين قوله :﴿ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٦ ] ؟
فالجواب : قوله ﴿ لا ينفع الظالمين معذرتهم ﴾ لا يدل على أنهم ذكروا الأعذار بل ليس فيه إلا أنه ليس عندهم عذر مقبول، وهذا لا يدل على أنهم ذكروه أم لا وأيضاً فيوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يعتذرون في وقت آخر.
١ قال بالبدلية الزمخشري في كشافه ٣/٤٣٢ والعكبري في التبيان ١٠٢١ وقال بالثلاثة السمين ٤/٧٠٥..
٢ قاله الرازي في مرجعه السابق..
٣ نقله الإمام الكبير البغوي ٦/٩٧..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب... ﴾ الآية لما بين أنه تعالى ينصر الأنبياء والمؤمنين في الدنيا والآخرة ذكر نوعاً من أنواع تلك النصرة في الدنيا فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى﴾.
قال مقاتل: هُدًى من الضلالة، يعني التوراة، ويجوز أن يكون المراد الدلائل القاهرة التي أوردها على فرْعَون وأتباعهِ وكادهم بها، ويجوز أن يكون المراد بالهدى النبوة التي هي أعظم المناصب الإنسانية ﴿وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب﴾ وهو التوراة ﴿هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب﴾ يعنى أنه تعالى لمنا أنزل التوراة على موسى بقي ذلك العِلْمُ فيهم وتَوارَثُوهُ خَلَفاًس عن سَلَفٍ.
وقيل: المراد سائر الكتب أنزلها الله عليهم، وهي كتب أنبياء بني إسرائيل كالتوراة والإنجيل والزَّبُور.
71
قوله: «هُدًى وَذِكْرَى» فيهما وجهان:
أحدهما: أنهما مفعول من أجْلِهِمَا أي لأجل الهُدَى والذكر.
والثاني: أنهما مصدران في موضع الحال.
والفرق بين الهدى والذكرى، أن الهدى ما يكون دليلاً على الشيء وليس من شرطه أن يذكر شيئاً آخر كان معلوماً ثم صار مَنْسِيًّا، وأما الذكرى فهو الذي يكون كذلك، فكتب أنبياء الله تعالى مشتملة على هذين القسمين بعضها دلائل في أنفسها، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المقتدمة.
ولما بين تعالى أنه ينصر رسله وينصر المؤمنين في الدنيا والآخرة وضرب المثال في ذلك بحال مُوسى خاطب بعد ذلك محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ﴿فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي فاصبر يا محمد على أذَاهُمْ، إن وعد الله حق في إظهار دينك وهلاك أعدائك. وقال الكلبي: نسخت آية القتل آية الصَّبْر.
قوله: ﴿واستغفر لِذَنبِكَ﴾ قيل: المصدر مضاف للمفعول أي لذنب أمتك في حقك. والظاهر أن الله تعالى يقول ما أراد وإن لم يجز لنا نحن أن نضيف إليه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ذنباً، قال المفسرون: هذا تعبد من الله تعالى ليزيده به درحة، وليصير سنة لمن بعده.
قوله: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ صَلِّ شكراً لربك بالعَشِيِّ والإبْكَارِ، قال الحسن: يعني صلاة العصر وصلاة الفجر، وقال ابن عباس: الصلوات الخمس.
72
﴿ هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب ﴾ يعنى أنه تعالى لما أنزل التوراة على موسى بقي ذلك العِلْمُ فيهم وتَوارَثُوهُ خَلَفاً عن سَلَفٍ.
وقيل : المراد سائر١ الكتب التي أنزلها الله عليهم، وهي كتب أنبياء بني إسرائيل كالتوراة والإنجيل والزَّبُور.
قوله :«هُدًى وَذِكْرَى » فيهما وجهان :
أحدهما : أنهما مفعول من أجْلِهِمَا أي لأجل الهُدَى والذكر.
والثاني : أنهما مصدران في موضع الحال٢.
والفرق بين الهدى والذكرى، أن الهدى ما يكون دليلاً على الشيء وليس من شرطه أن يذكر شيئاً آخر كان معلوماً ثم صار مَنْسِيًّا، وأما الذكرى فهو الذي يكون كذلك، فكتب أنبياء الله تعالى مشتملة على هذين القسمين بعضها دلائل في أنفسها، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المقتدمة٣.
١ الفخر الرازي ٢٧/٧٧ فقد نقل هذه الأقوال مجتمعة..
٢ ذكر هذين الإعرابين الزمخشري في الكشاف ٣/٤٣٢ والسمين في الدر ٤/٧٠٥..
٣ الرازي المرجع السابق..
ولما بين تعالى أنه ينصر رسله وينصر المؤمنين في الدنيا والآخرة وضرب المثال في ذلك بحال مُوسى خاطب بعد ذلك محمداً صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ﴾ أي فاصبر يا محمد على أذَاهُمْ، إن وعد الله حق في إظهار دينك وهلاك أعدائك. وقال الكلبي : نسخت آية القتل آية الصَّبْر.
قوله :﴿ واستغفر لِذَنبِكَ ﴾ قيل : المصدر مضاف للمفعول أي لذنب أمتك في حقك١. والظاهر أن الله تعالى يقول ما أراد وإن لم يجز لنا نحن أن نضيف إليه عليه الصلاة والسلام ذنباً، قال المفسرون : هذا تعبد من الله تعالى ليزيده به درجة، وليصير سنة لمن بعده.
قوله :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ صَلِّ شكراً لربك بالعَشِيِّ والإبْكَارِ، قال الحسن : يعني صلاة العصر وصلاة الفجر، وقال ابن عباس : الصلوات الخمس.
١ قاله أبو حيان في البحر ٧/٤٧١ والرازي في تفسيره أيضا المرجع السابق..
قوله (تعالى) :﴿إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ... ﴾ الآية لما ابتدأ بالرد على الذين يُجادلون في آيات الله واتصل الكلام بعضه ببعض على الترتيب المقتدم إلى هنا نبه تعالى على الداعية التي تحمل أولئك الكفار على تلك المجادلة، فقال: ﴿إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ﴾ أي ما يحملهم على هذا العمل الباطل إلا الكبر الذي في صدروهم. قال ابن عباس: والمراد ما في قلوبهم، والصدر موضع القلب فكني به عن القلب لمجاورته.
قوله: ﴿مَّا هُم بِبَالِغِيهِ﴾ قال مجاهد: ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر؛ لأن الله عزّ
72
وجلّ مذلّهم. قال ابن قتيبة: «إن في صدورهم إلا تكبر على محمد، وطمع أن يغلبوه، وما هم ببالغي ذلك».
وقوله ﴿فاستعذ بالله﴾ قال المفسرون: نزلت في اليهودِ، وذلك أنهم قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنا صاحبنا المسيحُ بنُ داود يعنون الدّجّال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر ويرد المُلْكَ إلينا، قال الله تعالى: فاستعذ بالله من فتنة الدجال إنه هو السميع البصير. وقال ابن الخطيب: يعنى بقوله ﴿مَّا هُم بِبَالِغِيهِ﴾ يعنى أنهم يريدون أذاك، ولايصلون إلى هذا المراد بل لا بد وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك. ثم قال تعالى: ﴿فاستعذ بالله﴾ أي فالتجىء إليه من كيد من يجادلك إنه هو السَّمِيعُ بما يقولون أو تقول «البَصِيرُ» بما يعملون وتعمل فهو يجعلك نَافِذَ الحكم عليهم ويصونك عن مكرهم وكيدهم.
73
قوله تعالى: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس﴾ المصدران مضافان لمفعولهما، والفاعل محذوف، وهو الله تعالى.
ويجوز أن يكون الثاني مضافاً للفاعل أي أكبر مما يخلقه الناسُ، أي يصنعونه.
ويجوز أن يكون المصدران واقعين موقع المخلوق، أي مخلوقهما أكبر من مخولقهم، أي جرمهما أ: بر من جرمهم.

فصل


اعلم أنه تعالى لما وصف جدالهم في الآيات بأن بغير سلطان ولا حجة، ذكر لهذا مثلاً، فقال: لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس والقادر على الأكبر قادر على الأقلّ لا محالة. وتقرير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يقال: لما قدر على الأضعف، وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد.
(وثانيها: أن يُقَال: لما قدر على الشيء قدر على مِثْلِهِ، فهذا استدلال صحيح لما ثبت في الأصول: أن حكم الشيء حكم مثله).
73
وثالثها: أن يُقَالَ: لما قدر على الأقوى الأكمل (فَبِأَنْ) يقدر على الأقل الأرذل كان أولى. وهذا استدلال في غاية الصحة والقوة، ولا يرتاب فيه عاقل البتةَ. ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السمواتِ والأرضِ هو الله سبحانه وتعالى ويعملون بالضرورة أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وكان من حقهمخ أن يقروا بأن القادر على خلق السموات والأرض يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه اولاً فهذا برهان كلي في إفادة هذا المطلوب.
ثم إن هذا البرهان على قوته صار بحيث لا يعرفه أكثر الناس، والمراد منه الذين ينكرون الحشر والنشر. فظهر بهذا المثال أنَّ هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا حجة بل بمجرد الحَسَدِ والكِبْر والغَضَب.
ثم لما بين الله تعالى أن الجِدَال المقرونَ بالكِبر والحسد، والجَهْل كيف يكون؟ وأن الجدال بالحجة والبرهان كيف يكون؟ نبه تعالى على الفرق بين البيانين فقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾ يعني: وما يستي المستدل والجاهل فالمقلد، ثم قال تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسياء قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ﴾ فالمراد بالأول: التفاوت بين العالم والجاهل والمراد بالثاني: التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال السيئة الباطلة، ثم قال: ﴿قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ﴾ يعني أنهم وإن كانوا (يعلمون) أن العلمَ خير من الجهل، وأن العمل الصالح خيرٌ من العمل الفاسد إلا أنه قليلاً ما يتذكرون. فبين في النوع الأول المعنى من الاعتقاد أنه علم أو جهل، وفي النوع الثاني المعنى من العمل أنه عملٌ صالح أو فاسدٌ.

فصل


قوله: (وَالْبَصير) اعلم أن التقابلَ يجيء على ثَلاَثِ طُرُقٍ:
أحدهما: أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية.
والثانية: أن يتأخر المتقالابن كقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع﴾ [هود: ٢٤].
والثالثة: أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر كقوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور﴾ [فاطر: ١٩٢٠]. وكل ذلك تفنن في البلاغة.
وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
74
قوله: ﴿وَلاَ المسيء﴾ لاَ زائدة للتوكيد؛ لأنه لما طال الكلام بالصلة بعد تقسيم المؤمنين، فأعاد معه «لا» توكيداً، وإنما قدم المؤمنين لمجاورتهم.
قوله: «تتذكرون» قرأ الكوفيون بتاء الخطاب، والباقون بياء الغيبة، والخطاب على الالتفات للمذكورين بعد الإخبار عنهم. والغيبة نظراً لقوله: «إنَّ الَّذِين يُجَادِلُونَ» وهم الذين التفت إليهم في قراءة الخطاب.
75
ثم لما بين الله تعالى أن الجِدَال المقرونَ بالكِبر والحسد، والجَهْل كيف يكون ؟ وأن الجدال بالحجة والبرهان كيف يكون ؟ نبه تعالى على الفرق بين البيانين فقال :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير ﴾ يعني : وما يستوي المستدل والجاهل المقلد، ثم قال تعالى :﴿ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسيء قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ ﴾ فالمراد بالأول : التفاوت بين العالم والجاهل والمراد بالثاني : التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال السيئة الباطلة، ثم قال :﴿ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ ﴾ يعني أنهم وإن كانوا ( يعلمون ) أن العلمَ خير من الجهل، وأن العمل الصالح خيرٌ من العمل الفاسد إلا أنه قليلاً ما يتذكرون. فبين في النوع الأول المعنى من الاعتقاد أنه علم أو جهل، وفي النوع الثاني المعنى من العمل أنه عملٌ صالح أو فاسدٌ.

فصل


قوله :( وَالْبَصير ) اعلم أن التقابلَ يجيء على ثَلاَثِ طُرُقٍ :
أحدهما : أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية.
والثانية : أن يتأخر المتقالابن كقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ﴾ [ هود : ٢٤ ].
والثالثة : أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر كقوله تعالى :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور ﴾ [ فاطر : ١٩ - ٢٠ ]. وكل ذلك تفنن في البلاغة١.
وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله :﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾٢.
قوله :﴿ وَلاَ المسيء ﴾ لاَ زائدة للتوكيد ؛ لأنه لما طال الكلام بالصلة بعد تقسيم المؤمنين، فأعاد معه «لا » توكيداً، وإنما قدم المؤمنين لمجاورتهم٣.
قوله :«تتذكرون » قرأ الكوفيون بتاء الخطاب، والباقون بياء الغيبة، والخطاب على الالتفات للمذكورين بعد الإخبار عنهم. والغيبة نظراً لقوله :«إنَّ الَّذِين يُجَادِلُونَ » وهم الذين التفت إليهم في قراءة الخطاب٤.
١ وهو ما يسمى بالمقابلة كقوله عز من قائل أيضا: ﴿فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا﴾ وانظر بغية الإيضاح للسكاكي ٤/١٤، ١٦ والفوائد المشوق ١٤٧، ١٥١..
٢ البحر المحيط ٧/٢٧٢..
٣ المرجع السابق نفسه..
٤ انظر حجة ابن خالويه ٣١٦ والسبعة ٢٧٥ وهي سبعية متواترة..
قوله: ﴿إِنَّ الساعة﴾ يعني القيامة ﴿لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة لما قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة أردفه بالإخبار عن وقوعها.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ... ﴾ الآية لما بين أن القولَ بالقيامة حق وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى أو التضرع عليه لا جَرَمَ كان الاشتغال بالطاعة من أهم المُهِمّات، ولما كان أشرفَ أنواع الطاعات الدعاءُ والتضررعُ لا جَرَمَ أمر الله تعالى به فقال: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.
واختلفوا في المراد بقوله «ادعوني» فقيل: المراد منه الأمر بالدعاء، وقيل: الأمر بالعبادة بدليل قوله بعده: ﴿إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾، وأيضاً الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله: ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً﴾ [النساء: ١١٧]. وأجاب الأوّلونَ بأن هذا ترك للظاهر فلا يُصَار إلا بدليل.
فإن قيل: كيف قال: «ادعوني أستجب لكم»، وقد يُدْعَى كثيراً فلا يستجاب؟
وأجاب الكَعْبِيُّ بأن الدعاء إنما يصح بشرط، ومن دعا كذلك يستجيب له، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة.
ثم سأل نفسه فقال: إن الله تعالى يفعل ما هو الأصلح بغير دعاء فما الفائدة في الدعاء؟
وأجاب عنه بوجهين:
75
الأول: أن فيه الفزعَ والانقطاعَ إلى الله تعالى.
الثاني: أن هذا أيضاً وارد على الكل لأنه إن علم أنه يفعله فلا بدّ وأن يفعله، فلا فائدة في الدعاء وإن علم أنه لا يفعله فإنه البتة لا يفعله، فلا فائدة في الدعاء أيضاً، فكل ما يقولونه ههنا فهو جوابنا.
قال ابن الخطيب: وعندي وجه آخر وهو أنه قال: ادعوني أستجيب لكم، وكل من دعا الله وفي قلبه ذَرّة من الاعتماد على ماله وجاهه وأصدقائه واجتهاده فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان وأما القلب فإنه يعول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله، فهذا اللسان ما دعا ربه، أما إذا في وقت لا يكون القلبُ فيه متلفتاً إلى غير الله فالظاهر أن يستجاب له.
قوله: ﴿إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ وهذا إحسانٌ عظيمٌ من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء. وروى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ لَمْ يَدْعُ اللهَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ».
فإن قيل: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال حكاية عن ربه عزّ وجلّ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أعْطِي السَّائِلينَ».
فهذا يقتضي أن ترك الدعاء أفضل، وهذه الآية تدل على أن ترك الدعاء يوجب الوعيد الشديد فكيف الجمع بينهما؟
فالجواب: لا شك أن العقلَ إذا كان مستغرقاً في الثناء كان ذلك أفضلَ في الدعاء لأن الدعاء طلب الجنة، والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من طلب الجنة، أما إذا لم يحصل الاستغراق كان الاشتغال بالدُّعَاء أولى؛ لأن الدعاء يشتمل على معرفة الربوبية وذُلّ العبودية.
قوله: «سَيَدْخُلُونَ» قرأ ابن كثير وأبو جعفر «سَيُدْخَلُونَ» بضم الياء وفتح الخاء، والآخرون بفتح الياء وضم الخاء «دَاخِرِينَ» صاغرين ذَلِيلِينَ.
76
قوله تعالى: ﴿الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ اعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين:
الأول: كأنه تعالى قال: إني أنعمت عليك قبل طلبك هذه النعم العظيمة، ومن أنعم عليك قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال؟!.
والثاني: أنه تعالى لماأمر بالدعاء فكأنه قيل: الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة فما الدليل على وجود الإله القدر؟ فذكر تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته، وقد تقدم ذِكْرُ الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وهي إما فلكيّة، وإما عُنْصُرِيَّة وأن الفلكيات أقسامٌ كثيرة، أحدُها الليلًُ والنهارُ، وأن أكثرَ مصالح العالم مربوطةٌ بهما فذكرهما الله تعالى ههنا، وبين أن الحكمة في خلق الليل حصولُ الراحة بالنوم والسكون، والحكمة في خلق النهار إبصار الأشياء؛ لِيُمْكِنَ التصرفُ فيها على الوجه الأنفع.
فإن قيل: هلاَّ قِيلَ بحسب رِعاية النظم هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه أو يقال: جعل لكم الليلَ ساكناً والنهار مبصراً ولكنه لم يقل ذلك، فما الفائدة؟ وما الحكمة في تقدم ذكر الليل؟.
فالجواب عن الأول: هو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عَدَمِيَّة فهو غير مقصود بالذات، وأما اليقظة فأمور وجودية، وهي مقصودة بالذات. وقد بيّن الشيخ عَبْدُ القَاهِر النَّحوِيُّ في دلائل الإعْجَازِ أن دلالة صيغة الاسم على الكمال والتمام أقوى من دلالة صيغة الفعل عليها فهذا هو السبب في الفَرْق.
وأما الجواب عن الثاني: فهو أن الظلمة طَبِيعَةٌ عدمِيَّة، والنورُ طبيعةٌ وجودية، والعدم في المُحْدَثَاتِ مقدَّمٌ على الوجود؛ فلهذا السبب قال في أول سورة الأنعام: ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١].
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ﴾ والمعنى أن فضل الله تعالى على الخلق كثيرٌ جداً، ولكنه لا يشكرونه.
77
واعلم أن ترك الشكر لوجوه:
الأول: أن يَعْتَقِدَ الرجل أنّ هذه النعم ليست من الله، مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها، واجبة الدوران (لذواتها) فيعتقد أن هذه النعم منها.
الثاني: أن يَعْتَقِدَ أن كلَّ هذا العالم إنما حصل بتخليق الله وتكوينه إلا أن نعمةَ تَعَاقُبِ الليل والنهار لما دامت واستمرت نَسِيها الإنسان، فإذا ابْتُلِيَ الإنسان بفِقْدانِ شيء منها عرف قدرها مثل أن يحبس في بئر عميق مظلمةٍ مًُدَّةً مديدةً، فحينئذ يعرف ذلك الإنسان قَدْرَ نعمةِ الهواء الصافي وقَدْر نعمة الضوء، وقد كان بعض الملوك يعذب بعض خدمه بأن يأمر أقواماً يمنعونه من النوم وعن الاستناد إلى الجدار.
والثالث: أن الإنسان وإن كان عارفاً بهذه النعم إلا أنه يكون حريصاً على الدنيا، محبًّا المالَ والجاهَ، فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كُفْران هذه النعم العظيمة، ولما كان أكثر الخلق واقعون في أحد هذه الأودية الثلاثة لا جرم قال تعالى: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ﴾.
ونظيره قوله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾ [سبأ: ١٣] وقول إبليس: ﴿وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الاعراف: ١٧].
ولما بين الله تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر قال: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ﴾. قال الزمخشري: ذَلِكُمُ المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو اللهُ رَبُّكُمْ، خالق كمل شيء «لا إله إلا هو» أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وأنه لا ثانيَ له. ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ أي فأنى تُصْرَفُونَ أي ولِمَ تَعْدِلُونَ عن هذه الدلائل وتكذبون بها؟.
قوله: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ العام على الرفع، وزيْدُ بْنُ عليِّ بالنصب. قال الزَّمخشريُّ: «على الاختصاص». وقرأ طلحة يُؤْفَكُونَ بياء الغيبة. وقوله: «وكذلك يُؤْفَكُ» أي مثل ذلك الإفك بمعنى كما أَفِكْتُمْ عن الحق مع قيام الأدلة ﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ﴾ يعنى كلّ من جحد بآيات الله ولم يَتَأَملْهَا ولم يكن فيه عزمُ طَلَبِ الحقِّ وخَوْفِ العاقبة أفِكَ كما أَفِكُوا.
78
قوله تعالى: ﴿الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً... ﴾ لما تقدم أن دلائل وجود الله تعالى وقدرته إما أن يكون من دلائل الآفاق وهي غير الإنسان وهي أقسام، وذكر منها أحوالَ الليل والنهار كما تقدم، وذكر منها أيضاً ههنا الأرض والسماء فقال: ﴿الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً﴾ قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قراراً أي منزلاً في حال الحرارة وبعد المَمَات والسماء بناء أي قائماً ثابتاً وإلا وَقَعَتْ علينا. وقيل: سَقْفاً كالقُبَّة، ثم ذكر دلائل الأنفس، وهي دلالة أحوال بَدَن الإنسان على وجود الصانع القادر الحكيم، وهو قوله: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾. قوله: ﴿فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ قرأ أبو رَزِين والأعْمَشُ صِوَركُمْ بكسر الصاد فراراً من الضمة قبل الواو. وقرأت فِرْقَةٌ بضم الصاد وسكون الواو، وجعلوه اسم جنس لصُورَةٍ، كبُسْر وبُسْرَةٍ.

فصل


قال مقاتل: خلقكم فأحسن خَلْقكم. قال ابن عباس رَضِي اللهُ عَنْهُمَا خُلِقَ ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده، وغَيْرُ بن آدم يتناول بفيه. ﴿وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات﴾، قيل: من غير رقز الدوابِّ. ثم قال: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين﴾، ومعنى تبارك إمّا الدوام والتبيان وإماكثرة الخيرات. ثم قال: «هُوَ الحَيُّ» وهذا يفيد الحَصْر؛ ولأن لا حيَّ إلا هو. ثم نبّه على الوحدانية فقال: لا إله إلا هو ثم أمر العباد بالإخلاص في الدعاء فقال: ﴿فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾. ثم قال: ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾.
والمراد أنه لما كان موصوفاً بصفات الجَلال والعِزة استحق لذاته أن يقال له: الحمد لله رب العالمين وقال الفراء هو خبر، وفيه إضمار الأمر ومجازه فادعوه واحْمدُوهُ. وروى مجاهد عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما من قال: لا إله إلا الله فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين، فذلك قوله: فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين.
79
ولما بين الله تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر قال :﴿ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ﴾. قال الزمخشري : ذَلِكُمُ المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو اللهُ رَبُّكُمْ، خالق كل شيء «لا إله إلا هو » أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وأنه لا ثانيَ له١. ﴿ فأنى تُؤْفَكُونَ ﴾ أي فأنى تُصْرَفُونَ أي ولِمَ تَعْدِلُونَ عن هذه الدلائل وتكذبون بها ؟٢.
قوله :﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ العامة على الرفع، وزيْدُ بْنُ عليِّ بالنصب٣. قال الزَّمخشريُّ :«على الاختصاص »٤. وقرأ طلحة يُؤْفَكُونَ بياء٥ الغيبة.
١ ذكره جار الله الزمخشري في الكشاف ٣/٤٣٤..
٢ ذكره الرازي في تفسيره ٢٧/٨٣..
٣ من القراءة الشاذة غير المتواترة انظرها في الكشاف ٣/٤٣٤ والبحر المحيط ٧/٤٧٣..
٤ الكشاف المرجع السابق..
٥ انظر الكشاف والبحر المرجعين السابقين وذكر هذه القراءة أيضا هي وسابقتها السمين في الدر ٤/٧٠٦..
وقوله :«وكذلك يُؤْفَكُ » أي مثل ذلك الإفك بمعنى١ كما أَفِكْتُمْ عن الحق مع قيام الأدلة ﴿ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾ يعنى كلّ من٢ جحد بآيات الله ولم يَتَأَملْهَا ولم يكن فيه عزمُ طَلَبِ الحقِّ وخَوْفِ العاقبة أفِكَ كما أَفِكُوا.
١ قاله البغوي في معالم التنزيل ٦/١٠١، ١٠٢..
٢ نقله الرازي في المرجع السابق..
قوله تعالى :﴿ الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً. . . ﴾ لما تقدم أن دلائل وجود الله تعالى وقدرته إما أن يكون من دلائل الآفاق وهي غير الإنسان وهي أقسام، وذكر منها أحوالَ الليل والنهار كما تقدم، وذكر منها أيضاً ههنا الأرض والسماء فقال :﴿ الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما قراراً أي منزلاً في حال الحرارة وبعد المَمَات والسماء بناء أي قائماً ثابتاً وإلا وَقَعَتْ علينا. وقيل١ : سَقْفاً كالقُبَّة، ثم ذكر دلائل الأنفس، وهي دلالة أحوال بَدَن الإنسان على وجود الصانع القادر الحكيم، وهو قوله :﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾. قوله :﴿ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ قرأ أبو رَزِين والأعْمَشُ صِوَركُمْ بكسر٢ الصاد فراراً من الضمة قبل الواو. وقرأت فِرْقَةٌ بضم الصاد وسكون الواو، وجعلوه اسم جنس لصُورَةٍ، كبُسْر وبُسْرَةٍ٣.

فصل


قال مقاتل : خلقكم فأحسن خَلْقكم. قال ابن عباس رَضِي اللهُ عَنْهُمَا خُلِقَ ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده، وغَيْرُ بن آدم يتناول بفيه. ﴿ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات ﴾، قيل : من غير٤ رزق الدوابِّ. ثم قال :﴿ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين ﴾، ومعنى تبارك إمّا الدوام والتبيان وإما كثرة الخيرات.
١ ذكر هذه الآراء الرازي والبغوي في مرجعيهما السابقين..
٢ من الشواذ غير المتواترات رواها أبو حيان في البحر ٧/٤٦٣، ومختصر ابن خالويه ١٣٢..
٣ شاذة أيضا وذكرها أبو حيان في مرجعه السابق والسمين في الدر ٤/٧٠٦..
٤ وانظر البغوي ٦/١٠٢..
ثم قال :«هُوَ الحَيُّ » وهذا يفيد الحَصْر ؛ ولأن لا حيَّ إلا هو. ثم نبّه على الوحدانية فقال : لا إله إلا هو ثم أمر العباد بالإخلاص في الدعاء فقال :﴿ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾. ثم قال :﴿ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾.
والمراد أنه لما كان موصوفاً بصفات الجَلال والعِزة استحق لذاته أن يقال له : الحمد لله رب العالمين١ وقال الفراء هو خبر، وفيه إضمار الأمر ومجازه فادعوه واحْمدُوهُ٢. وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما من قال : لا إله إلا الله فليقل على أثرها : الحمد لله رب العالمين، فذلك قوله : فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين٣.
١ الرازي ٢٧/٨٤..
٢ معاني الفراء ٣/١٢، ١١..
٣ القرطبي ١٥/٣٢٩..
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ لما أورد على المشركين تلك الأدلة الدالة على إثبات إله العالم أمره بهذا القول؛ ليصرفهم عن عبادة الأوثان، وبين وجه النهي ف يذلك وهو ما جاءه من البينات، وهو ما تقدم من الدلائل على أن إله العالم قد ثَبَتَ كونُهُ موصوفاً بصفات الجَلاَل والعظمة على ماتقدم وصريحُ العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا به، والأحجار المنحوتة والأخشاب المُصوَّرة لا تصلح أن تكون شريكاً له فقال: وأمرت أَنْ أُسْلِمَ لرب العالمين، وذلك حين دُعِيَ إلى الكفر.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ... ﴾ لما استدل على إثبات الإليهة بدليل الآفاق وذكر منها الليل والنهنار والأرض والسماء، ثم ذكر الدليل على إثبات الإله القادر بخلق الأنفس وهو نوعان: أحدهما: حسن العودة ورزق الطيّبات؛ ذكر النوع الثاني وهو: تكوين البدن من ابتداء كونه نُطفةً وجَنيناً إلى آخر الشَّيْخُوخَة والموت فقال: ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾، قيل: المراد آدم. قال ابن الخطيب: وعندي لا حاجة إلى ذلك لأن كل غنسان فهو مخلوق من المَنِي ومن دَم الطَّمْثِ والمَنِي مخلوق من دم فالإنسان مخلوق من الدّم، والدم إنما يتولد من الأغذية والأغذية إما حيواينة وإما نباتية، والحال في ذلك الحيوان كالحال في تكوين الإنسان فكانت الأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحال في ذلك الحيوان كالحال في تكموين الإنسان فكانت الإذية كلها منتهية إلى النبات ولانبات إنما يكون من التراب والماء فثبت أن كل إنسان مُتَكَوِّن من التراب، ثم إن ذلك التراب يصير نطفةً ثم علقةً، ثم بعد كونه علقة مراتب إلى أن ينفصل من بطن ألأم. وا لله تعالى ترك ذكرها ههنا لأنه ذكرها في آيات أُخَر، قال: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ أي أطفالاً ﴿ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ﴾. (قال الزمخشري: قوله: لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) متعلق بفعل محذوف، تقديره ثم يبعثُكم لِتبلغُوا أَشُدَّكُمْ، ﴿ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ﴾ أي: أن يصير شَيْخاً، أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سَقْطاً ثم قال: ﴿ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى﴾ أي ولتبغلوا جميعاً ﴿أَجَلاً مُّسَمًّى﴾ وقتاً محدوداً لا تُجَاوِزُونَه وهو وقت الموت. وقيل: يوم القيامة، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته وتستدلوا بهذه الأحوال العجيبة على وحدانية الله تعالى.
80
ثم قال: ﴿هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ﴾ والمعنى أنه تعالى لما ذكر انتقال الأجسام من كونها تراباً إلى أن بلغت الشيخوخة، واستدل بهذه التغييرات على وجود الإله القادر قال بعده: ﴿هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي كما أن الانتقال من الحياةِ إلى الموت وبالعكس، يدل على الإله القادر.
(و) قوله: ﴿فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ﴾ فيه وجوه:
الأول: معناه أنه لم ينقل هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى بآلةٍ تعينه إنما يقول له كن فيكون.
الثاني: أنه عبر عن الإحياء والإماتة بقوله: ﴿كُن فيَكُونُ﴾ فكأنه قيل: الانتقال من كونه تراباً إلى كونه نطفةً إلى كونه علقةً انتقالاتٌ تَحْصُل على التدريج قليلاً. وأما صَيْرُورَتُهُ حَيَّا فهي إنما تحصل بتعليق جَوْهَر الرُّوح، وذلك يحدث دفعة واحدة فلهذا عبر عنه بقوله: «كن فيكون».
الثالث: أنَّ من الناس من يقول: إن الإنسان إنما يتكون من المَنِي والدَّم في الرحم في مدة معينة بحسب الانتقالات من حال إلى حال، فكأنه قيل: إنه يمتنع أن يكون كل إنسان عن إنسان آخرَ؛ لأن التسلسل محالٌ، ووقوع الحادث في الأزل محال فلا بد من الاعتراف بإنسان هو الناس وحينئذ يكون حدوث ذلك الإنسان لا بواسطة المَنِي والدم بل بإيجاد الله تعالى، ابتداءً، فعبر الله تعالى عن هذه المعنى بقوله: ﴿كُن فيَكُونُ﴾.
81
قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ. . . ﴾ لما استدل على إثبات الإليهة بدليل الآفاق وذكر منها الليل والنهار والأرض والسماء، ثم ذكر الدليل على إثبات الإله القادر بخلق الأنفس وهو نوعان : أحدهما : حسن العودة ورزق الطيّبات ؛ ذكر النوع الثاني وهو : تكوين البدن من ابتداء كونه نُطفةً وجَنيناً إلى آخر الشَّيْخُوخَة والموت فقال :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾، قيل : المراد آدم١. قال ابن الخطيب : وعندي لا حاجة إلى ذلك لأن كل إنسان فهو مخلوق من المَنِي ومن دَم الطَّمْثِ والمَنِي مخلوق من دم فالإنسان مخلوق من الدّم، والدم إنما يتولد من الأغذية والأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحال في ذلك الحيوان كالحال في تكوين الإنسان فكانت الأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحال في ذلك الحيوان كالحال في تكوين الإنسان فكانت الأغذية كلها منتهية إلى النبات ولا نبات إنما يكون من التراب والماء فثبت أن كل إنسان مُتَكَوِّن من التراب، ثم إن ذلك التراب يصير نطفةً ثم علقةً، ثم بعد كونه علقة مراتب إلى أن ينفصل من بطن الأم. والله تعالى ترك ذكرها ههنا لأنه ذكرها في آيات أُخَر، قال :﴿ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ﴾ أي أطفالاً ﴿ ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ ﴾٢. ( قال الزمخشري٣ : قوله : لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) متعلق بفعل محذوف، تقديره ثم يبعثُكم لِتبلغُوا أَشُدَّكُمْ٤، ﴿ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ ﴾ أي : أن يصير شَيْخاً، أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سَقْطاً ثم قال :﴿ ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى ﴾ أي ولتبغلوا جميعاً ﴿ أَجَلاً مُّسَمًّى ﴾ وقتاً محدوداً لا تُجَاوِزُونَه وهو وقت الموت. وقيل : يوم القيامة، ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أي لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته وتستدلوا بهذه الأحوال العجيبة على وحدانية الله تعالى٥.
١ ذكره الرازي في تفسيره ٢٧/٨٥..
٢ ذكره في تفسيره المرجع السابق..
٣ ما بين القوسين سقط من ب..
٤ قال: "لتبلغوا أشدكم، متعلق بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك لتكونوا. وأما "ولتبلغوا أجلا مسمى" فمعناه ونفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى وهو وقت الموت" الكشاف ٣/٤٣٦..
٥ السابق وانظر البغوي ٦/١٠٢..
ثم قال :﴿ هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ ﴾ والمعنى أنه تعالى لما ذكر انتقال الأجسام من كونها تراباً إلى أن بلغت الشيخوخة، واستدل بهذه التغييرات على وجود الإله القادر قال بعده :﴿ هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ أي كما أن الانتقال من صفة إلى صفة أخرى من الصفات يدل على الإله القادر فكذلك الانتقال من الحياةِ إلى الموت وبالعكس، يدل على الإله القادر.
( و )١ قوله :﴿ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ ﴾ فيه وجوه :
الأول : معناه أنه لم ينقل هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى بآلةٍ تعينه إنما يقول له كن فيكون.
الثاني : أنه عبر عن الإحياء والإماتة بقوله :﴿ كُن فيَكُونُ ﴾ فكأنه قيل : الانتقال من كونه تراباً إلى كونه نطفةً إلى كونه علقةً انتقالاتٌ تَحْصُل على التدريج قليلاً قليلا. وأما صَيْرُورَتُهُ حَيَّا فهي إنما تحصل بتعليق جَوْهَر الرُّوح، وذلك يحدث دفعة واحدة فلهذا عبر عنه بقوله :«كن فيكون ».
الثالث : أنَّ من الناس من يقول : إن الإنسان إنما يتكون من المَنِي والدَّم في الرحم في مدة معينة بحسب الانتقالات من حال إلى حال، فكأنه قيل : إنه٢ يمتنع أن يكون٣ كل إنسان عن إنسان آخرَ ؛ لأن التسلسل محالٌ، ووقوع الحادث في الأزل محال فلا بد من الاعتراف بإنسان هو الناس وحينئذ يكون حدوث ذلك الإنسان لا بواسطة المَنِي والدم بل بإيجاد الله تعالى، ابتداءً، فعبر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله :﴿ كُن فيَكُونُ ﴾.
١ زيادة من ب..
٢ تصحيح من الرازي عن النسختين ففيهما: له..
٣ كذا في الرازي، وفي ب يقول. وانظر تفسير الإمام الرازي ٢٧/٨٦، ٨٧..
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله﴾ الآيات. اعلم أنه تعالى عادَ إلى ذَمِّ الذين يجادلون في آيات الله، أي في إنكار آيات الله ودفعها والتكذيب بها، فعَجَّبَ تعالى منهم بقوله: ﴿أنى يُصْرَفُونَ﴾ ؟ كيف صُرِفُوا عن دين الحق وهذا كما
81
يقول الرجل لمن لا يسمع نصحه: إلى أين يُذْهَبُ بك؟! تعجباً من غفلته.
قوله: «الذين كذبوا»، يجوز فيه أوجه، أن يكون بدلاً من الموصول قبله، أو بياناً له أو نعتاً أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوباً على الذم، وعلى هذه الأوجه، فقوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ جملة مستأنفة، سيقت للتهديد.
ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر الجملة من قوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ ودخول الفاء فيه واضح.

فصل


المعنى هم الذي كذبوا بالكتاب أي بالقرآن وبما أرسلنا به رسلنا من سائر الكتب؛ قيل: هم المشركون. وعن محمد بن سِيرِين وجماعة: أنها نزلت في القَدَرِيَّة.
قوله: ﴿إِذِ الأغلال﴾ فيه سؤال، هو أن «سوفَ» للاستقبال، و «إِذْ» للماضي، فقوله: ﴿فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم﴾ مثل قولك: سَوْفَ أَصُمُ أَمْسِ، والجواب: جوزوا في «إذ» هذه أن تكمون بمعنى «إذا» ؛ لأن العامل فيها محقق الاستقابل وهو فسوف يعلمون.
قالوا: وكما تقع «إذَا» موضع إِذْ في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: ١١] كذلك تقع إِذْ مَوْقِعَهَا.
وقد مضى نَحْوٌ من هذا في البقرة عند قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب﴾ [البقرة: ١٦٥] قالوا: والذي حسن هذا تيقن وقوع الفعل، فأخرج في صورة الماضي.
قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى إخْراج «إِذْ: عن موضوعها؛ بل هي باقية على دَلاَلتِهَا على المعنى، وهي منصوبة بقوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ نصب المفعول به، أي فسوف يعلمون يوم القيامة وقت الأغلال في أعناقهم أيْ وقتَ سببِ الأغلال، وهي المعاصي التي كانوا يفعلونها في الدنيا، كأنه قيل: سيعرفون وقت معاصيهم التي تَجْعَلُ الأغلال في أعناقهم وهو وجه واضح غاية ما فيه التصرفُ في إذ يجعلها. وهو وجه واضح غاية في ما فيه التصرف في إذ يجعلها مفعولاً بها. ولا يضر ذلك، فإن المعربين
82
غالب أوقاتهم يقولون: منصوب» باذْكُرْ «مقُقَدَّراً، أو لا يكون حينئذ إلا مفعولاً به لاستحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي.
وجوز أن يكون منصوباً باذْكُرْ مقدراً، أي اذكر لهم وَقْتَ الإِغلال؛ ليخالفوا ويَنْزَجِرُوا، فهذه ثلاثة أوجه خيرها أوسطها.
قوله:»
والسَّلاَسِلُ «العامة على رفعها، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه معطوف على الأغْلاَلِ. وأخبر عن النوعين بالجار، فالجال في نية التأخير والتقدير: إذ الأَغْلاَلُ والسَّلاَسِلُ في أعنقاهم.
الثاني: أنه مبتدأ، والخبر محذوف لدلالة خبر الأول عليه.
الثالث: أنه مبتدأ أيضاً، وخبره الجملة من قوله: «يُسْحَبُونَ»
ولا بُدَّ مِن ذكر ضمير يعود عليه منها، والتقدير: والسلاسل يُسْحَبُونَ بِهَا، حذف لِقُوَّة الدَّلالةِ عليه.
«فَيُسْحَبُونَ» مرفوع المحل على هذا الوجه. وأما الوجهيه المقتدمين فيجوز فيه النصب على الحال من الضمير المنويّ في الجار، ويجوز أن يكون مستأنفاً.
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مسعُودٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وابْنُ وَثَّابٍ، والحسن في اختياره «والسَّلاَسِلَ» نصباً يَسْحَبُونَ بفتح الياء، مبنياً للفاعل، فيكون السلاسل مفعولاً مقدماً، ويكون قد عطف جملة فعلية على جملة اسمية.
قال ابن عباس في معنى هذه القراءة: إذا كانوا يَجُرُّونَهَا فهو أشد عليهم يكلفون ذلك ولا يطيقونه.
وقرأ ابن عباس وجماعة «والسَّلاَسِل» بالجر يُسْحَبُونَ مبنياً للمفعول وفيها ثلاثةُ تأويلاتٍ:
أحدها: الحمل على المعنى وتقديره إِذْ أَعْنَاقُهُم في الأغلالِ والسلاسلٍ فلما كان
83
معنى الكلام على ذلك حمل عليه في العطف.
قال الزمخري: ووجه إنه لو قيل: «إِذْ أَعْنَاقُهُمْ في الأغلال مكان قوله: إِذ الأَغْلاَلُ في أعناقهم» لكان صحيحاً مستقيماً، فلما كانتا عبارتين مُعْتَقِبَتَيْنِ، حمل قوله: «والسلاسل» (عليه) على العبارة الأخرى. ونظيره:
٤٣٤٧ - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرةً وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
كأنه قيل: بمصليحن.
وقرىء: بالسَّلاَسلِ. وقال ابن عطية: تقديره: إذا أعناقهم في الأغعلال والسلاسلِ فعطف على المراد من لكلام لا على ترتيب اللفظ؛ إذ ترتيبه فيه قل، وهو على حد قول العرب: أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي.
وفي مصحف أًُبيِّ: وفي السلاسِل يَسْحَبُونها. قال أبو حيان بعد قول ابن عطية والزمخشري المتقدم: ويمسى هذا العطف على التوهم، إلا أن قولهم: إدخال حرف الجر على مصلحين أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها، ونظير ذلك قوله:
٤٣٤٨ - أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بثُعَيْلبَاتٍ وَلاَ بَيْدَاءَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدارِكٍ واللَّيْلُ طِفْلٌ بِبعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُصًُولاً
التقدير: لَسْتَ براءٍ ولا بمتداركٍ.
84
وهذا الذي قالاه سبقهما إليه الفَرَّاءُ فإِنه قال: «من جر السلاسل حمله على المعنى»، إذ المعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل.
الوجه الثاني: أنه عطف على «الحميم»، فقدم على المعطوف عليه وسيأتي تقرير ذلك.
الثالث: أن الجر على تقدير إضمار الخافض ويؤيده قراءة أُبَيٍّ: «وفِي السَّلاَسِلِ» وقرأ غيره: وبالسَّلاَسِلِ وإلى هذا نحا الزجاج، إلاَّ أنَّ الأنباريِّ ردَّه وقال: لو قلت: «زيد في الدار» لم يحسن أن تضمر «في» فتقول: زيد (في) الدار ثم ذكر تأويل الفراء وخرج القراءة عليه. ثم قال: كما تقول: «خَاصَمَ عَبْد اللهِ زَيْداً العَاقِليْنِ»، بنصب «العاقلين» ورفعه؛ لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصمه الآخر.
وهذه المسألة ليست جارية على أصول البصريين، ونصّوا على منعها وإنما قال بها من الكوفيين ابْنُ (سَ) عْدَانَ.
وقال مَكيّ: وقد قرىء: والسَّلاَسلِ بالخفض على العطف على الأعناق، وهو غلط؛ لأنه يصير الأغلال في الأعناق وفي السلاسل ولا معنى للأغلال في السَّلاَسل؟
قال شهاب الدين: وقوله: على العطف على الأعناق ممنونع بل خفضه على ما تقدم. وقال أيضاً: وقيل: هو معطوف على «الحميم» وهو أيضاً لا يجوز؛ لأن المعطوف المخفوض، لا يتقدم على المعطوف عليه لو قلت: «مَرَرْتُ وَزَيْدٍ بِعَمْرو» لم يجز، وفي المرفوع يجوز، نحو: قَام وَزَيْدٌ عَمْرٌ، ويبعد في المنصوب لا يحسن رأيتُ وَزَيْداً عَمْراً، ولم يُجِزْهُ في المخفوض أحدٌ.
قال شهاب الدين: وظاهر كلامه أنهن يجوز في المرفوع منعه، وقد نصوا أنه لا يجوز إلا ضرورة بثلاثة شروط:
85
أن لا يقع حرف العطف صدراً، وأن يكون العامل متصرفاً، وأن لا يكون المعطوف عليه مجروراً وأنشدوا:
٤٣٤٩ -........................... عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ السَّلاَمُ
إلى غير ذلك من الشواهد مع تنصيصهم على أنه مختص بالضرورة. و «السَّلاَسِلُ» معروفة، قال الراغب: «وتَسَلْسَلَ الشيءُ اضطرب كأنه تُصُوِّر منه تسلسلٌ متردد فتردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه. وماء سلسل متردد في مقره».
والسَّحْبُ: الجر بمعنف، والسَّحابُ من ذلك لأن الريح تَجُرُّوهُ، أو لأنه يجر الماء، وسجرت التَّنُّورَ أي ملأته ناراً وهيجتها، ومنه البحر المسجور، أي المملوء، وقيل: المضطرب ناراً، وقال الشاعر (رحمة الله عليه) :
٤٣٥٠ - إِذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورةً تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ والشَّوْحَطَا
فمعشنى قوله تعالى هنا: ﴿ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ﴾ أي يوقد بهم، كقوله تعالى: ﴿وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ [التحريم: ٦] والسَّجِيرةُ: الخليلُ الذي يَسْجُرُ في مَوَدَّة خليله، كقولهم: فُلاَنٌ يَحْتَرِقُ فِي مَوَدَّةِ فُلاَنٍ.
86

فصل


هذه كيفية عقابهم، والمعنى أنه يكون في أعناقهم أغلال وسلاسل ثم يسحبون بتلك السلاسل في الماء المُسَخَّنِ بنار جهنم، ثم تُوقَدُ بهم النار ﴿قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله﴾ يعني الأصنام ﴿قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا﴾ أي فقدناهم وغابوا عن عيوننا فلا نراهم، ثم قالوا: ﴿بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً﴾ أنكروا، كقولهم في سورة الأنعام: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] وقيل: معناه لم نكن ندعو من قبل شيئاً يضر وينفع. وقال الحسين بن الفضل: أي لم نكن نصنع من قبل شيئاً أي ضاعت عبادتنا لها كما يقول من ضاع عمله: «ما كنت أعمل شَيْئاً».
ثم قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين﴾ قال القاضي: معناه أنه يُضِلُّهم عن طريق الجنة، ولا يجوز أن يقال: بضلهم عن الحجة، وقد هداهم في الدنيا، وقال ﴿يُضِلُّ الله الكافرين﴾ مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى أنهم لو نطلبوا الآلهة، أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر.
قوله تعالى: ﴿بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ﴾ أي ذلكم العذابُ الذي نزل بكم ﴿بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ﴾ تَبْطُرون وتَأشِرُنَ ﴿فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ تفرحون وتختالون. وقيل: تفرحون من باب التجنيس المحرف، وهو أن يقع الفرق بين اللفظين بحرف.
قوله: ﴿ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾ أي السبعة المقسومة لكم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾ المخصوص بالذم محذوف؛ أي جهنمُ أو مَثْوَاكُمْ، ولم يقل: فبئس مدخل؛ لأن الدخول لا يدوم وإنما يدوم الثّواء، فلذلك خصه بالذم، وإن كان أيضاً مذموماً.
87
قوله :«الذين كذبوا »، يجوز فيه أوجه، أن يكون بدلاً من الموصول قبله، أو بياناً له أو نعتاً أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوباً على الذم، وعلى هذه الأوجه، فقوله :﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ جملة مستأنفة، سيقت للتهديد.
ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر الجملة من قوله :﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾١ ودخول الفاء فيه واضح٢.

فصل


المعنى هم الذي كذبوا بالكتاب أي بالقرآن وبما أرسلنا به رسلنا من سائر الكتب ؛ قيل : هم المشركون. وعن محمد بن سِيرِين٣ وجماعة : أنها نزلت في القَدَرِيَّة٤.
١ قال بهذه الإعرابات أبو حيان في البحر ٧/٤٧٣ والسمين في الدر المصون ٤/٧٠٦..
٢ فالفاء هنا رابطة للجواب حيث اقترنت بحرف استقبال، ويجوز أن تكون للسببية..
٣ هو محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم أبو بكر البصري إمام وقته عن مولاه أنس، وزيد بن ثابت، وعنه الشعبي، وثابت وقتادة وأيوب، وابن دينار. مات سنة ١١٠ هـ. وانظر خلاصة الكمال ٣٤٠..
٤ البغوي ٦/١٠٢..
قوله :﴿ إِذِ الأغلال ﴾ فيه سؤال، هو أن «سوفَ » للاستقبال، و «إِذْ » للماضي، فقوله :﴿ فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم ﴾ مثل قولك : سَوْفَ أَصُمُ أَمْسِ، والجواب : جوزوا في «إذ » هذه أن تكون بمعنى «إذا » ؛ لأن العامل فيها محقق الاستقبال وهو فسوف يعلمون.
قالوا : وكما تقع «إذَا » موضع إِذْ في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا ﴾ [ الجمعة : ١١ ] كذلك تقع إِذْ مَوْقِعَهَا.
وقد مضى نَحْوٌ من هذا في البقرة عند قوله تعالى :﴿ وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب ﴾ [ البقرة : ١٦٥ ] قالوا : والذي حسن هذا تيقن وقوع الفعل، فأخرج في صورة الماضي١.
قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى إخْراج «إِذْ : عن موضوعها ؛ بل هي باقية على دَلاَلتِهَا على المعنى، وهي منصوبة بقوله :﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ نصب المفعول به، أي فسوف يعلمون يوم القيامة وقت الأغلال في أعناقهم أيْ وقتَ سببِ الأغلال، وهي المعاصي التي كانوا يفعلونها في الدنيا، كأنه قيل : سيعرفون وقت معاصيهم التي تَجْعَلُ الأغلال في أعناقهم وهو وجه واضح غاية ما فيه التصرفُ في إذ يجعلها. وهو وجه واضح غاية ما فيه التصرف في إذ يجعلها مفعولاً بها٢. ولا يضر ذلك، فإن المعربين غالب أوقاتهم يقولون : منصوب «باذْكُرْ » مقُدَّراً، أو لا يكون حينئذ إلا مفعولاً به لاستحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي.
وجوز أن يكون منصوباً باذْكُرْ مقدراً، أي اذكر لهم وَقْتَ الإِغلال ؛ ليخالفوا ويَنْزَجِرُوا، فهذه ثلاثة أوجه خيرها أوسطها٣.
قوله :«والسَّلاَسِلُ » العامة على رفعها، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه معطوف على الأغْلاَلِ. وأخبر عن النوعين بالجار، فالجار في نية التأخير والتقدير : إذ الأَغْلاَلُ والسَّلاَسِلُ في أعناقهم٤.
الثاني : أنه مبتدأ، والخبر محذوف لدلالة خبر الأول عليه٥.
الثالث : أنه مبتدأ أيضاً، وخبره الجملة٦ من قوله :«يُسْحَبُونَ » ولا بُدَّ مِن ذكر ضمير يعود عليه منها، والتقدير : والسلاسل يُسْحَبُونَ بِهَا، حذف لِقُوَّة الدَّلالةِ عليه.
«فَيُسْحَبُونَ » مرفوع المحل على هذا الوجه. وأما الوجهين المتقدمين فيجوز فيه النصب على الحال من الضمير المنويّ في الجار، ويجوز أن يكون مستأنفاً٧.
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مسعُودٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وابْنُ وَثَّابٍ، والحسن في اختياره «والسَّلاَسِلَ » نصباً يَسْحَبُونَ بفتح الياء٨، مبنياً للفاعل، فيكون السلاسل مفعولاً مقدماً، ويكون قد عطف جملة فعلية على جملة اسمية٩.
قال ابن عباس في معنى هذه القراءة : إذا كانوا يَجُرُّونَهَا فهو أشد عليهم يكلفون ذلك ولا يطيقونه١٠.
وقرأ ابن عباس وجماعة «والسَّلاَسِل » بالجر١١ يُسْحَبُونَ مبنياً للمفعول وفيها ثلاثةُ تأويلاتٍ :
أحدها : الحمل على المعنى وتقديره إِذْ أَعْنَاقُهُم في الأغلالِ والسلاسلٍ فلما كان معنى الكلام على ذلك حمل عليه في العطف١٢.
قال الزمخشري : ووجهه إنه لو قيل :«إِذْ أَعْنَاقُهُمْ في الأغلال مكان قوله : إِذ الأَغْلاَلُ في أعناقهم » لكان صحيحاً مستقيماً، فلما كانتا عبارتين مُعْتَقِبَتَيْنِ١٣، حمل قوله :«والسلاسل » ( عليه ) على العبارة الأخرى١٤. ونظيره :
٤٣٤٧ مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرةً وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا١٥
كأنه قيل : بمصليحن.
وقرئ : بالسَّلاَسلِ١٦. وقال ابن عطية : تقديره : إذا أعناقهم في الأغلال والسلاسلِ فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ ؛ إذ ترتيبه فيه قلب، وهو على حد قول العرب : أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي١٧.
وفي مصحف أًُبيِّ : وفي السلاسِل يَسْحَبُونها. قال أبو حيان بعد قول ابن عطية والزمخشري المتقدم : ويمسى هذا العطف على التوهم، إلا أن قولهم : إدخال حرف الجر على مصلحين أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها١٨، ونظير ذلك قوله :
٤٣٤٨ أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بثُعَيْلبَاتٍ وَلاَ بَيْدَاءَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدارِكٍ واللَّيْلُ طِفْلٌ بِبعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُصًُولاً١٩
التقدير : لَسْتَ براءٍ ولا بمتداركٍ.
وهذا الذي قالاه سبقهما إليه الفَرَّاءُ فإِنه قال :«من جر السلاسل حمله على المعنى »٢٠، إذ المعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل.
الوجه الثاني : أنه عطف على «الحميم »٢١، فقدم على المعطوف عليه وسيأتي تقرير ذلك.
الثالث : أن الجر على تقدير إضمار الخافض ويؤيده قراءة أُبَيٍّ :«وفِي السَّلاَسِلِ » وقرأ غيره : وبالسَّلاَسِلِ وإلى هذا نحا الزجاج٢٢، إلاَّ أنَّ الأنباريِّ٢٣ ردَّه وقال : لو قلت :«زيد في الدار » لم يحسن أن تضمر «في » فتقول : زيد ( في )٢٤ الدار ثم ذكر تأويل الفراء وخرج القراءة عليه. ثم قال : كما تقول :«خَاصَمَ عَبْد اللهِ زَيْداً العَاقِليْنِ »، بنصب «العاقلين » ورفعه٢٥ ؛ لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصمه الآخر٢٦.
وهذه المسألة ليست جارية على أصول البصريين، ونصّوا على منعها وإنما قال بها من الكوفيين ابْنُ ( سَ )٢٧ عْدَانَ.
وقال مَكيّ : وقد قرئ : والسَّلاَسلِ بالخفض على العطف على الأعناق، وهو غلط ؛ لأنه يصير الأغلال في الأعناق وفي السلاسل ولا معنى للأغلال في السَّلاَسل٢٨.
قال شهاب الدين : وقوله : على العطف على الأعناق ممنوع بل خفضه على ما تقدم٢٩. وقال أيضاً : وقيل : هو معطوف على «الحميم » وهو أيضاً لا يجوز ؛ لأن المعطوف المخفوض، لا يتقدم على المعطوف عليه لو قلت :«مَرَرْتُ وَزَيْدٍ بِعَمْرو » لم يجز، وفي المرفوع يجوز، نحو : قَام وَزَيْدٌ عَمْرٌ، ويبعد في المنصوب لا يحسن رأيتُ وَزَيْداً عَمْراً، ولم يُجِزْهُ في المخفوض أحدٌ٣٠.
قال شهاب الدين : وظاهر كلامه أنه يجوز في المرفوع منعه٣١، وقد نصوا أنه لا يجوز إلا ضرورة بثلاثة شروط :
أن لا يقع حرف العطف صدراً، وأن يكون العامل متصرفاً، وأن لا يكون المعطوف عليه مجروراً٣٢ وأنشدوا :
٤٣٤٩. . . . . . . . . . . . . . عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ السَّلاَمُ٣٣
إلى غير ذلك من الشواهد مع تنصيصهم على أنه مختص٣٤ بالضرورة. و «السَّلاَسِلُ » معروفة، قال الراغب :«وتَسَلْسَلَ الشيءُ اضطرب كأنه تُصُوِّر منه تسلسلٌ متردد فتردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه. وماء سلسل متردد في مقره »٣٥.
والسَّحْبُ : الجر بعنف، والسَّحابُ من ذلك لأن الريح تَجُرُّوهُ، أو لأنه يجر الماء٣٦، وسجرت التَّنُّورَ أي ملأته ناراً وهيجتها، ومنه البحر المسجور، أي المملوء، وقيل : المضطرب ناراً٣٧، وقال الشاعر ( رحمة الله عليه٣٨ ) :
٤٣٥٠ إِذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورةً تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ والشَّوْحَطَا٣٩
١ البحر المحيط ٧/٤٧٤ والكشاف ٣/٤٣٦، والتبيان ١٠٢٢، ١٣٥..
٢ كذا في الدر المصون والأقرب مفعولا به..
٣ قاله الإمام شهاب الدين في الدر المصون ٤/٧٠٧..
٤ قاله ابن الأنباري في البيان ٢/٣٣٤ والسمين في الدر ٤/٧٠٧ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٧٨، وأبو البقاء في التبيان ١٠٢٢ والنحاس في الإعراب ٤/٤٢..
٥ قاله العكبري في تبيانه السابق ١٠٢٢ وكذلك السمين في الدر..
٦ البيان لابن الأنباري المرجع السابق قال: "ومنهم من وقف على أعناقهم وابتدأ: والسلاسل يسحبون في الجحيم"..
٧ التبيان لأبي البقاء والدر المصون للسمين المرجعين السابقين..
٨ من الشاذات غير المتواترات ذكرها الزمخشري في الكشاف ٣/٤٣٦ وأبو الفتح في المحتسب ٢/٢٤٢ وابن خالويه في المختصر ٢٣٣..
٩ الكشاف السابق..
١٠ القرطبي ١٥/٣٣٢ والبحر المحيط ٧/٤٧٥..
١١ البحر والكشاف السابقين..
١٢ وهو ما يسمى بالعطف على المعنى مع القرآن تأدبا ومع غيره بالعطف على التوهم..
١٣ في الكشاف متعقبتين..
١٤ الكشاف ٣/٤٣٦..
١٥ من الأبيات المشهورة في شواهد النحو وهو من الطويل، ونسبه سيبويه في الكتاب إلى الأحوص الرياحي مرة، وإلى الفرزدق مرة أخرى، وشاهده: عطف ولا ناعب ـ بالجر ـ على توهم دخول الباء في خبر ليس كأنه قيل: بمصلحين، والباء تدخل في خبر "ليس وما" كثيرا، وهو ما يسمى بالعطف على التوهم. وانظر الكتاب ١/١٦٥، ٣٠٦، ٣/٢٩، والخصائص ٢/٣٥٤، والإنصاف ١٩٣، ٣٩٥، وابن يعيش ٧/٥٧، ٨/٦٩ والرضي على الكافية ٢/٢٦٩، والخزانة ٢/١٥٨، والكشاف ٣/٤٣٦، والمغني ٥٥٣ والأشموني ٢/٢٣٥، والبحر المحيط ٧/٤٧٥، والإفصاح ١٥٩، والدر المصون ٤/٧٠٨..
١٦ هي قراءة شاذة لم ينسبها جار الله الزمخشري وكذلك السمين إلى من قرأ بها. انظر الكشاف ٣/٤٣٦، والدر المصون ٤/٧٠٨..
١٧ البحر المحيط ٧/٤٧٥ وهو رأي وجيه..
١٨ وأبو حيان في هذا يرد على ابن عطية مفضلا إطلاق عطف التوهم في القرآن عن قلب الكلام كما قال ابن عطية بذلك..
١٩ من تمام الوافر، للمرار الفقعسي، وقد تقدم..
٢٠ معاني الفراء ٣/١١..
٢١ الدر المصون ٤/٧٠٨..
٢٢ معاني الفراء وإعرابه ٤/٣٧٨..
٢٣ يبدو أنه ابن الأنباري الكوفي أبو بكر العالم الكبير الذي تبحر في علوم جمة، وكان من أعلم الناس وأفضلهم في نحو الكوفيين. من مؤلفاته الأضداد وغيرها مات سنة ٣٣٦ وانظر نزهة الألباء ١٧٨ ـ ١٨٦..
٢٤ سقط حرف (في) في القرطبي وهو المناسب للسياق..
٢٥ في القرطبي ويجوز رفعهما..
٢٦ وانظر القرطبي ١٥/٣٣٢ والبحر المحيط ٧/٤٧٥، والدر المصون ٤/٧٠٩..
٢٧ زيادة عن النسختين وتصحيح لهما ففيهما ابن معدان ولكن الأصح أنه ابن سعدان أبو جعفر الضرير كان من أكابر الكوفيين، محمد بن سعدان، نشأ بالكوفة، وأخذ عن أبي معاوية الضرير، وغيره، مات سنة ٢٣١ هـ وانظر إنباه الرواة للقفطي ٢/٣٥٨، ٣/١٠٢..
٢٨ مشكل إعراب القرآن ٢/٢٦٨..
٢٩ الدر المصون ٤/٧٠٩..
٣٠ مشكل الإعراب المرجع السابق..
٣١ كذا في النسختين وفي الدر المصون له "يبعد" بدل "منعه"..
٣٢ المرجع السابق وقد قال ابن الأنباري في البيان: "وقد يجيء التقديم للضرورة قليلا في المرفوع وفي المنصوب أقل منه، ولم يجئ ذلك في المجرور ولم يجزه أحد البتة" البيان ٢/٣٣٤..
٣٣ من تمام الوافر وينسب للأحوص، وصدره:
ألا يا نخلة من ذات عرق ....................................
و "ذات عرق": مكان بين نجد وتهامة، والنخلة يكنى بها عن المرأة. وشاهده: تقديم المعطوف (رحمه الله) على المعطوف عليه (السلام) للضرورة الشعرية وينسب هذا للكوفيين ويروى الشطر الثاني:
برود الظل شاعكم السلام
وعلى ذلك فلا شاهد حينئذ.
وانظر الخصائص ٢/٣٨٦، والخزانة ١/٣٩٩ ـ ٤٠١ والتصريح ١/٣٤٤، ٣٧٦ ومجالس ثعلب ٢٣٩ والرضي ٢/٩٣، والهمع ١/١٧٣، ٢٢٠، ٢/١٣٠، ١٤٠، وأمالي الزجاجي ٨١، والمغني ٧/٣٥، ٤٥٩، وشرح شواهده للسيوطي ٧٧٧ والدر المصون ٧١٠/٤..

٣٤ انظر السيوطي في همعه ٢/١٤٠، ١٤١..
٣٥ نقله في المفردات ٢٣٧..
٣٦ السابق..
٣٧ اللسان سحر ١٩٤٢..
٣٨ ما بين القوسين زيادة من أ..
٣٩ من المتقارب وقائله النمر بن تولب، وصواب القافية كما في المرجع السابق: الساسما. والمسجورة: الروضة المملوءة عشبا. والنبع والساسم من شجر الجبال. والشوحط: نوع من التبغ والاستشهاد بالبيت على أن السجورة المملوءة وانظر ابن يعش ٨/١٠٢، ومجاز القرآن ٢/٢٣٠، ٣١، والدر المصون ٤/٧١٠ وغريب القرآن ٤٢٣، ٤٢٤..
فمعنى قوله تعالى هنا :﴿ ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ ﴾ أي يوقد بهم، كقوله تعالى :﴿ وَقُودُهَا الناس والحجارة ﴾ [ التحريم : ٦ ] والسَّجِير : الخليلُ الذي يَسْجُرُ في مَوَدَّة خليله، كقولهم : فُلاَنٌ يَحْتَرِقُ فِي مَوَدَّةِ فُلاَنٍ١.

فصل


هذه كيفية عقابهم، والمعنى أنه يكون في أعناقهم أغلال وسلاسل ثم يسحبون بتلك السلاسل في الماء المُسَخَّنِ بنار جهنم،
١ انظر اللسان السابق والدر المصون ٤/٧١٠..
ثم تُوقَدُ بهم النار ﴿ ثم قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله ﴾ يعني الأصنام ﴿ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا ﴾ أي فقدناهم وغابوا عن عيوننا فلا نراهم، ثم قالوا :﴿ بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً ﴾ أنكروا، كقولهم في سورة الأنعام :﴿ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] وقيل : معناه لم نكن ندعو من قبل شيئاً يضر وينفع. وقال الحسين بن الفضل١ : أي لم نكن نصنع من قبل شيئاً أي ضاعت عبادتنا لها كما يقول من ضاع عمله :«ما كنت أعمل شَيْئاً »٢.
ثم قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين ﴾ قال القاضي : معناه أنه يُضِلُّهم عن طريق الجنة، ولا يجوز أن يقال : يضلهم عن الحجة، وقد هداهم في الدنيا، وقال ﴿ يُضِلُّ الله الكافرين ﴾ مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى أنهم لو طلبوا الآلهة، أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر٣.
١ هو الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي ثم النيسابوري أبو علي المفسر، الأديب، إمام عصره في معاني القرآن سمع يزيد بن هارون وغيره وروى عنه محمد بن صالح وآخرون، مات سنة ٢٨٢ هـ ينظر طبقات المفسرين للداودي ١/١٥٩، ١٦٠..
٢ نقله البغوي ٦/١٠٣..
٣ الرازي ٢٧/٨٧، ٨٨..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٣:ثم تُوقَدُ بهم النار ﴿ ثم قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله ﴾ يعني الأصنام ﴿ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا ﴾ أي فقدناهم وغابوا عن عيوننا فلا نراهم، ثم قالوا :﴿ بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً ﴾ أنكروا، كقولهم في سورة الأنعام :﴿ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] وقيل : معناه لم نكن ندعو من قبل شيئاً يضر وينفع. وقال الحسين بن الفضل١ : أي لم نكن نصنع من قبل شيئاً أي ضاعت عبادتنا لها كما يقول من ضاع عمله :«ما كنت أعمل شَيْئاً »٢.
ثم قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين ﴾ قال القاضي : معناه أنه يُضِلُّهم عن طريق الجنة، ولا يجوز أن يقال : يضلهم عن الحجة، وقد هداهم في الدنيا، وقال ﴿ يُضِلُّ الله الكافرين ﴾ مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى أنهم لو طلبوا الآلهة، أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر٣.
١ هو الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي ثم النيسابوري أبو علي المفسر، الأديب، إمام عصره في معاني القرآن سمع يزيد بن هارون وغيره وروى عنه محمد بن صالح وآخرون، مات سنة ٢٨٢ هـ ينظر طبقات المفسرين للداودي ١/١٥٩، ١٦٠..
٢ نقله البغوي ٦/١٠٣..
٣ الرازي ٢٧/٨٧، ٨٨..

قوله تعالى :﴿ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ أي ذلكم العذابُ الذي نزل بكم ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ تَبْطُرون وتَأشِرُونَ ﴿ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ﴾ تفرحون وتختالون١. وقيل٢ : تفرحون من باب التجنيس المحرف، وهو أن يقع الفرق بين اللفظين بحرف٣.
١ البغوي في المرجع السابق..
٢ في ب: وقوله..
٣ انظر بغية الإيضاح ٨٠، والإيضاح ٢٧٢، والمثل السائر ١٠١..
قوله :﴿ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ ﴾ أي السبعة المقسومة لكم ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين ﴾ المخصوص بالذم محذوف ؛ أي جهنمُ أو مَثْوَاكُمْ، ولم يقل : فبئس مدخل ؛ لأن الدخول لا يدوم وإنما يدوم الثّواء، فلذلك خصه بالذم، وإن كان أيضاً مذموماً١.
١ قاله السمين في الدر ٤/٧١١..
قوله تعالى: ﴿فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ لما زَيَّفَ طريقة المجادلين في آيات الله تعالى أمر في هذه الآية رسوله بأن يصبرَ على أذاهم بسبب جدالهم، ثم قال: ﴿إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾. والمراد ما وعد الرسول نُصْرته، ومن إنزال العذاب على أعدائه.
قوله: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ قال الزمخشري: أصله: فَإِن نُرِكَ و «ما» مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل، ألا ترَاك تقول: «إنْ تُكرِمَنِّي أكْرِمْكَ، ولكن إِمَّا تُكْرِمَنِّي أُكْرِمْكَ» قال أبو حيان: «وما ذكره من تَلاَزُمِ النون، ما الزائدة، ليس مذهب سيبويه، إنما هو مذهب المبرد، والزجاج.
ونص سيبويه على التخيير، وقد تقدمت هذه القواعدُ مستوفاةً.
قوله: ﴿فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ ليس جواباً للشرط الأول، بل جواباً لما عطف عليه.
وجواب الأول محذوف. (قال الزمخشري:»
فَإِلَيْنَا «متعلق بقوله» نَتَوفَّينَّكَ «وجواب نرينك محذوف) تقديره: فإن نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب والقتل يوم بدر، فذاك؛ وإنْ» نَتَوَفَّيَنَّكَ «قبل يوم بدر» فَإِلَيْنَا يُرجَعُونَ «فننتقم منهم أشدُّ الانتقام. وقد تقدم مثلُ هذا في سورة يونس. وبحثُ أبي حَيَّانَ مَعَهُ.
وقال أبو حيان هَهُنَا: وقال: جواب»
إما نُرِيَنَّكَ «محذوف؛ لدلالة
88
المعنى عليه أي فتقرّ عينك، ولا يصح أن يكون» فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ «جواباً للمعطوف عليه والمعطوف، لأن تركيبَ» فإما نُرينك بعض الذي نعدهم في حياتك فإلينا يرجعون «ليس بظاهر، وهو يصحُّ أن يكون جواب» أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ «أي فإِلينا يرجعون فننتقم منهم ونعذبهم، لكونهم يَتَّبِعُوكَ.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ﴾ [الزخرف: ٤١ و٤٢]. إلا أنه هنا صرح بجواب الشرط، قال شهاب الدين: وَهَذَا بعَيْنِهِ هو قولن الزمخشري. وقرأ السُّلَمِيُّ ويَعْقُوبُ: يَرْجِعُونَ بفتح ياء الغيبة مبنياً للفاعل، وابْنُ مِصْرِفٍ ويعقوبُ أيضاً بفتح الخطاب.
قوله: ﴿مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا﴾ يجوز أن يكون»
مِنْهُمْ «صفة» لِرُسُولاً «فيكون» مَنْ قَصَصْنَا «فاعلاً لاعتماده ويجوز أن يكون خبراً مقدماً، و» مَنْ «مبتدأ مؤخر.
ثم في الجملة وجهان:
أحدهما: الوصف»
لِرُسُلاً «وهو الظاهر.
والثاني: الاستئناف.

فصل


معنى الآية قال لمحمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ)، أنت كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين وليس فيهم أحد أعطاه الله آياتٍ ومعجزاتٍ، إلا وقد جادله قومُه فيها وكَذَّبُوه فصبروا، وكانوا أبداً يقترحون على الأنبياء إظاهر المعجزات الزائدة علكى الحاجة عِناداً وعبثاً، ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾، والله تعالى علم الصلاح في إظهار ما أظهروه، فلم يَقْدَحْ ذلك في نُبُوَّتِهِمْ، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحاً لا جَرَمَ ما أظهرناها.
ثم قال: ﴿جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق﴾ أي فإذا جاء قضاءُ الله بين الأنبياء والأمم قضي بالحق ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون﴾ وهم المعاندون الذين يجادلون في آيات الله فيقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة تعنتاً وعبَثاً.
قوله تعالى:
89
ما يدل على وجود الإِلَهِ القَادِرِ الحَكِيمِ، وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعاماً على العباد.
قال الزجاج: «الأَنْعَامُ الإِبل (خاصة) َ»، وقال القاضي: هي الأزواج الثمانية. وقوله: «مِنْهَا.... وَمِنْهَا».
«من» الأولى يجوز أن تكونَ لِلتَّبْعِيض، إذ ليس كُلُّها تُرْكَبُ، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية إذ المرادُ بالأنعام شيءٌ خاصٌّ هي الإبل، قال الزجاج: لأنه لم يُعْهد المركوبُ غيرها «.
وأما الثانية فكالأولى. وقال ابن عطية: هي لبيان الجنس قال: لأن الخيل منها ولا تُؤْكَلُ.
فإن قيل: ما السَّبَبُ في إدخال لام العِوَض على قوله:»
لِتَرْكَبُوا «وعلى قوله:» لِتَبْلُغُوا «ولم يدخل على البَوَاقِي؟.
فالجواب: قال الزمخشري: الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجباً أو مندوباً، وأيضاً ركوبها لأجل حاجتهم، وهي الانتقال من بلدٍ إلى بلد آخر لطلب علم أو إقامة دين يكون إما واجباً أو مندوباً فهذان القسمان أغراض دينيةٍ، فلا جَرَمَ أدخل عليها حرف التعليل نظيره قوله تعالى: ﴿والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل: ٨] فأدخل حرف التعليل على»
الرُّكُوبِ «ولم يدخله على الزِّينَةِ.
قوله ﴿لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا﴾ أي بعضها ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ أي في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها ﴿وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ﴾ لحمل أثقالكم من بلد إلى بلد. قوله: ﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ﴾ أي على الإبل في البرِّ، وعلى السفن في البَحْرِ.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: في الفلك، كما قال: ﴿قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين﴾ [هود: ٤٠] ؟.
فالجواب: كلمة على للاستِعْلاَء، فالشيء يُوضَع على الفلك كما صح أن يقال: وضع فيه صح أن يقال: وضع عليه ولما صح الوجهان كانت لفظةُ»
عَلَى «أولى حتى يتم المزاوجة في قوله: ﴿وعليها وعلى الفلك تحملون﴾.
90
وقال بعضهم: إن لفظة» فِي «هناك ألْيَقُ؛ لأن سفينة نُوحٍ على ما قيل كانت مُطْبِقَةً عليهم وهي محيطة بهم كالوعاء، وأما غيرها فالاستعلاء فيه واضح، لان الناس على ظهرها.
قوله: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ دلائل قدرته، وقوله: ﴿فَأَيَّ آيَاتِ الله﴾ منصوب ب»
تُنْكِرُونَ «وقدم وجوباً لأن له صدر الكلام. قال مكيّ: ولو كان مع الفعل هاءٌ لكان الاختيار الرفع في أي بخلافِ ألف الاستفهام تدخل على الاسم، وبعدها فعلٌ واقعٌ على ضمير الاسم فالاختيار النصب نحو قولك: أَزَيْداً ضَرَبْتَهُ، هذا مذهب سيبويه فرق بين الألف وبين» أي «يعني أنك إذا قُلْت: أَيّهُمْ ضَرَبْتَ؟ كان الاختيار الرفع؛ لأنه لا يُحْوجُ إلى إضمار مع أن الاستفهام موجود وفي» «أَزَيْداً ضَرَبْتَهُ» يختار النصب لأجل الاستفهام فكان مقتضاه اختيار النصب أيضاً فيما إذا كان الاستفهام بنفس الاسم، والفرقب عَسِرٌ.
وقال الزمخشري: «فأَيَّ آيَاتِ» جاءت على اللغة المسفيضة وقولك: فأيه آياتِ الله قليلةٌ؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات، نحو: حِمَار، وحِمَارة غريب، وهو في أي أغرب (لإبهامه) قال أبو حيانَ (رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ) : وِمن قلة تأنيث أيَّ قولُه:
﴿الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام ﴾ الآية. لما ذكر الوعيدَ عاد إلى ذِكر
٤٣٥١ - بأيِّ كتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وتَحْسِبُ
وقوله: وهو في «أي» أغرب إن عَنَى «أيًّا» على الإطلاق فليس بصحيح؛ لأن المستفيضَ في النِّداء أن يؤنث في نداء المؤنث كقوله تعالى: ﴿ياأيتها النفس المطمئنة﴾ [الفجر: ٢٧] ولا نعلم أحداً ذكر تذكيرها فيه فيقول: يأَيُّها المرأَةُ، إلا صاحب البَدِيع في النَّحْوِ. وإن
91
عنَى غير المناداة فكلامه صحيح يقل تأنيثها في الاستفهام، وموصولة شرطية.
قال شهاب الدين: أما إذا وقعت صفةً لنكرة أو حالاً لمعرفة فالذي ينبغي أن يجُوزَ الوجهان كالموصولة ويكون التأنيث أقلّ نحو: مررتُ بامرأةٍ أَيَّةِ امرأة، وجَاءَتْ هِنْدٌ أَيَّةُ امْرَأَةٍ وكان ينبغي لأبي حَيَّانَ أن ينبه على هذين الفَرْعَيْنِ.

فصل


معنى قوله ﴿فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ﴾ أَيْ هذه الآيات التي عددناها كلها ظاهرة باهرة ليس في شيء منها ما يمكن إنكاره.
92
قوله :﴿ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا ﴾ يجوز أن يكون «مِنْهُمْ » صفة «لِرُسُلاً » فيكون «مَنْ قَصَصْنَا » فاعلاً لاعتماده ويجوز أن يكون خبراً مقدماً، و «مَنْ » مبتدأ مؤخر.
ثم في الجملة وجهان :
أحدهما : الوصف «لِرُسُلاً » وهو الظاهر.
والثاني : الاستئناف١.

فصل


معنى الآية قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم٢ )، أنت كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين وليس فيهم أحد أعطاه الله آياتٍ ومعجزاتٍ، إلا وقد جادله قومُه فيها وكَذَّبُوه فصبروا، وكانوا أبداً يقترحون على الأنبياء إظهار المعجزات الزائدة على الحاجة عِناداً وعبثاً، ﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾، والله تعالى علم الصلاح في إظهار ما أظهروه، فلم يَقْدَحْ ذلك في نُبُوَّتِهِمْ، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحاً لا جَرَمَ ما أظهرناها٣.
ثم قال :﴿ جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق ﴾ أي فإذا جاء قضاءُ الله بين الأنبياء والأمم قضي بالحق ﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون ﴾ وهم المعاندون الذين يجادلون في آيات الله فيقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة تعنتاً وعبَثاً.
١ ذكر هذه الإعرابات العكبري في التبيان ١١٢٢ والسمين في الدر ٤/٧١٢..
٢ زيادة من أ..
٣ الرازي ٢٧/٨٨، ٨٩..
قوله تعالى :﴿ الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام. . . ﴾ الآية. لما ذكر الوعيدَ عاد إلى ذِكر ما يدل على وجود الإِلَهِ القَادِرِ الحَكِيمِ، وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعاماً على العباد.
قال الزجاج :«الأَنْعَامُ الإِبل١ ( خاصة ) »، وقال القاضي : هي الأزواج الثمانية٢. وقوله :«مِنْهَا. . . . وَمِنْهَا ».
«من » الأولى يجوز أن تكونَ لِلتَّبْعِيض٣، إذ ليس كُلُّها تُرْكَبُ، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية إذ المرادُ بالأنعام شيءٌ خاصٌّ هي الإبل، قال الزجاج :«لأنه لم يُعْهد المركوبُ غيرها »٤.
وأما الثانية فكالأولى. وقال ابن عطية : هي لبيان الجنس قال : لأن الخيل منها ولا تُؤْكَلُ٥.
فإن قيل : ما السَّبَبُ في إدخال لام العِوَض على قوله :«لِتَرْكَبُوا » وعلى قوله :«لِتَبْلُغُوا » ولم يدخل على البَوَاقِي ؟.
فالجواب : قال الزمخشري : الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجباً أو مندوباً، وأيضاً ركوبها لأجل حاجتهم، وهي الانتقال من بلدٍ إلى بلد آخر لطلب علم أو إقامة دين يكون إما واجباً أو مندوباً فهذان القسمان أغراض دينيةٍ، فلا جَرَمَ أدخل عليها حرف التعليل نظيره قوله تعالى :﴿ والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ [ النحل : ٨ ] فأدخل حرف التعليل على «الرُّكُوبِ » ولم يدخله على الزِّينَةِ٦.
قوله ﴿ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا ﴾ أي بعضها ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ﴾ أي في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها ﴿ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ﴾ لحمل أثقالكم من بلد إلى بلد. قوله :﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ ﴾ أي على الإبل في البرِّ، وعلى السفن في البَحْرِ.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : في الفلك، كما قال :﴿ قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين ﴾ [ هود : ٤٠ ] ؟.
فالجواب : كلمة على للاستِعْلاَء، فالشيء يُوضَع على الفلك كما صح أن يقال : وضع فيه صح أن يقال : وضع عليه ولما صح الوجهان كانت لفظةُ » عَلَى «أولى حتى يتم المزاوجة في قوله :﴿ وعليها وعلى الفلك تحملون ﴾٧.
وقال بعضهم٨ : إن لفظة «فِي » هناك ألْيَقُ ؛ لأن سفينة نُوحٍ على ما قيل كانت مُطْبِقَةً عليهم وهي محيطة بهم كالوعاء، وأما غيرها فالاستعلاء فيه واضح، لان الناس على ظهرها.
١ معاني القرآن وإعرابه له ٤/٣٧٨..
٢ الرازي ٢٧/٨٩..
٣ ذكره أبو حيان في البحر المحيط ٧/٤٧٨..
٤ لم أجد في معاني القرآن له هذا، بل نقله عنه القرطبي في الجامع ١٥/٣٣٣٥ وأبو حيان في البحر ٧/٤٧٨..
٥ البحر المحيط المرجع السابق وفيه أيضا "لأن الجمل منها يؤكل"..
٦ المعنى من الكشاف لجار الله الزمخشري ٣/٤٣٨، ٤٣٩، وباللفظ من تفسير الإمام الرازي ٢٧/٨٩ والآية ٨ من النحل..
٧ الزمخشري في الكشاف المرجع السابق والرازي السابق أيضا. والآية ٤٠ من هود..
٨ هو السمين في الدر المصون ٤/٧١٢ قال: "ويظهر أن في هناك أليق... الخ"..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٩:قوله تعالى :﴿ الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام... ﴾ الآية. لما ذكر الوعيدَ عاد إلى ذِكر ما يدل على وجود الإِلَهِ القَادِرِ الحَكِيمِ، وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعاماً على العباد.
قال الزجاج :«الأَنْعَامُ الإِبل١ ( خاصة ) »، وقال القاضي : هي الأزواج الثمانية٢. وقوله :«مِنْهَا.... وَمِنْهَا ».
«من » الأولى يجوز أن تكونَ لِلتَّبْعِيض٣، إذ ليس كُلُّها تُرْكَبُ، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية إذ المرادُ بالأنعام شيءٌ خاصٌّ هي الإبل، قال الزجاج :«لأنه لم يُعْهد المركوبُ غيرها »٤.
وأما الثانية فكالأولى. وقال ابن عطية : هي لبيان الجنس قال : لأن الخيل منها ولا تُؤْكَلُ٥.
فإن قيل : ما السَّبَبُ في إدخال لام العِوَض على قوله :«لِتَرْكَبُوا » وعلى قوله :«لِتَبْلُغُوا » ولم يدخل على البَوَاقِي ؟.
فالجواب : قال الزمخشري : الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجباً أو مندوباً، وأيضاً ركوبها لأجل حاجتهم، وهي الانتقال من بلدٍ إلى بلد آخر لطلب علم أو إقامة دين يكون إما واجباً أو مندوباً فهذان القسمان أغراض دينيةٍ، فلا جَرَمَ أدخل عليها حرف التعليل نظيره قوله تعالى :﴿ والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ [ النحل : ٨ ] فأدخل حرف التعليل على «الرُّكُوبِ » ولم يدخله على الزِّينَةِ٦.
قوله ﴿ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا ﴾ أي بعضها ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ﴾ أي في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها ﴿ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ﴾ لحمل أثقالكم من بلد إلى بلد. قوله :﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ ﴾ أي على الإبل في البرِّ، وعلى السفن في البَحْرِ.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : في الفلك، كما قال :﴿ قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين ﴾ [ هود : ٤٠ ] ؟.
فالجواب : كلمة على للاستِعْلاَء، فالشيء يُوضَع على الفلك كما صح أن يقال : وضع فيه صح أن يقال : وضع عليه ولما صح الوجهان كانت لفظةُ » عَلَى «أولى حتى يتم المزاوجة في قوله :﴿ وعليها وعلى الفلك تحملون ﴾٧.
وقال بعضهم٨ : إن لفظة «فِي » هناك ألْيَقُ ؛ لأن سفينة نُوحٍ على ما قيل كانت مُطْبِقَةً عليهم وهي محيطة بهم كالوعاء، وأما غيرها فالاستعلاء فيه واضح، لان الناس على ظهرها.
١ معاني القرآن وإعرابه له ٤/٣٧٨..
٢ الرازي ٢٧/٨٩..
٣ ذكره أبو حيان في البحر المحيط ٧/٤٧٨..
٤ لم أجد في معاني القرآن له هذا، بل نقله عنه القرطبي في الجامع ١٥/٣٣٣٥ وأبو حيان في البحر ٧/٤٧٨..
٥ البحر المحيط المرجع السابق وفيه أيضا "لأن الجمل منها يؤكل"..
٦ المعنى من الكشاف لجار الله الزمخشري ٣/٤٣٨، ٤٣٩، وباللفظ من تفسير الإمام الرازي ٢٧/٨٩ والآية ٨ من النحل..
٧ الزمخشري في الكشاف المرجع السابق والرازي السابق أيضا. والآية ٤٠ من هود..
٨ هو السمين في الدر المصون ٤/٧١٢ قال: "ويظهر أن في هناك أليق... الخ"..

قوله :﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ دلائل قدرته، وقوله :﴿ فَأَيَّ آيَاتِ الله ﴾ منصوب ب » تُنْكِرُونَ «وقدم وجوباً لأن له صدر الكلام. قال مكيّ : ولو كان مع الفعل هاءٌ لكان الاختيار الرفع في أي بخلافِ ألف الاستفهام تدخل على الاسم، وبعدها فعلٌ واقعٌ على ضمير الاسم فالاختيار١ النصب نحو قولك : أَزَيْداً ضَرَبْتَهُ، هذا مذهب سيبويه فرق بين الألف وبين٢ «أي » يعني أنك إذا قُلْت : أَيّهُمْ ضَرَبْتَ ؟ كان الاختيار الرفع ؛ لأنه لا يُحْوجُ إلى إضمار مع أن الاستفهام موجود وفي :«أَزَيْداً ضَرَبْتَهُ » يختار النصب لأجل الاستفهام فكان مقتضاه اختيار النصب أيضاً فيما إذا كان الاستفهام بنفس الاسم، والفرق عَسِرٌ٣.
وقال الزمخشري :«فأَيَّ آيَاتِ » جاءت على اللغة المستفيضة وقولك : فأية آياتِ الله قليلةٌ ؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات، نحو : حِمَار، وحِمَارة غريب، وهو في أي أغرب ( لإبهامه٤ ) قال أبو حيانَ ( رَحْمَةُ٥ اللهِ عَلَيْهِ ) : وِمن قلة تأنيث أيَّ قولُه :
٤٣٥١ بأيِّ كتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وتَحْسِبُ٦
وقوله : وهو في «أي » أغرب إن عَنَى «أيًّا » على الإطلاق فليس بصحيح ؛ لأن المستفيضَ في النِّداء أن يؤنث في نداء المؤنث كقوله تعالى :﴿ ياأيتها النفس المطمئنة ﴾ [ الفجر : ٢٧ ] ولا نعلم أحداً ذكر تذكيرها فيه فيقول : يأَيُّها المرأَةُ، إلا صاحب٧ البَدِيع في النَّحْوِ. وإن عنَى غير المناداة فكلامه صحيح يقل تأنيثها في الاستفهام، وموصولة شرطية.
قال شهاب الدين : أما إذا وقعت صفةً لنكرة أو حالاً لمعرفة فالذي ينبغي أن يجُوزَ الوجهان كالموصولة٨ ويكون التأنيث أقلّ نحو : مررتُ بامرأةٍ أَيَّةِ امرأة، وجَاءَتْ هِنْدٌ أَيَّةُ امْرَأَةٍ وكان ينبغي لأبي حَيَّانَ٩ أن ينبه على هذين الفَرْعَيْنِ١٠.

فصل


معنى قوله ﴿ فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ ﴾ أَيْ هذه الآيات التي عددناها كلها ظاهرة باهرة ليس في شيء منها ما يمكن إنكاره.
١ في المشكل: "هذا يختار فيها"..
٢ نقله في مشكل إعراب القرآن ٢/٢٦٨، وقد قال سيبويه في الكتاب: "وسألته (يقصد أبا الخطاب) عن أيهم، لم لم يقولوا: أيهم مررت به، فقال: لأن أيهم هو حرف استفهام لا تدخل عليه الألف، وإنما تركت الألف استغناء فصار بمنزلة الابتداء، ألا ترى أن حد الكلام أن تؤخر الفعل، فتقول: أيهم رأيت كما تفعل ذلك بالألف فهي نفسها بمنزلة الابتداء". الكتاب ١/١٢٦..
٣ هذا شرح وتعقيب السمين على كلام مكي في الدر ٤/٧١٣..
٤ سقطت من أ وانظر الكشاف ٣/٤٣٩..
٥ زيادة من أ الأصل..
٦ من الطويل، للكميت بن زيد في مدح آل البيت. والشاهد: "أم بأية سنة" حيث أنث "أيا" في الاستفهام وهو قليل كما قال أبو حيان وهي مضافة أيضا، وقد ورد عن الأخفش جواز التأنيث لا على وجه القلة. وانظر البحر المحيط ٧/٤٧٨، وحاشية يس ١/٢٦١ وشرح الكافية للرضي ٢/٢٧٩، والخزانة ٩/١٣٧، والهمع ١/١٥٢ وتمهيد القواعد ٢/٢٨٩، ٢٩٨، وتوضيح المقاصد ١/٣٨٨ والأشموني ٢/٣٥ وديوانه ١٦..
٧ هو محمد بن مسعود الغزني، ذكره ابن هشام في المغني وسماه ابن الزكي وقال: خالف النحاة وأكثر أبو حيان من النقل عنه، مات سنة ٤٢١ هـ وانظر كشف الظنون ١/٢٢٤. وقال صاحب البديع: الاختيار إثبات ولا تثنى ولا تجمع. انظر شرح المرادي على الألفية ٣/٣١٠ والبحر المحيط ٧/٤٨٧..
٨ في ب: الموصول..
٩ وفيها: على أبي حيان..
١٠ وانظر الدر المصون ٤/٧١٣..
قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ... ﴾ معناه أن هؤلاء الكفار الذين يجادلون في آيات الله وحصل الكِبْر العظيم في صدورهم، إنما كان السبب في ذلك طلب الرياسة والتقديم على الغير في المال والجاه ومن ترك الانقياد على الحق طلباً لهذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا وهذه طريقة فاسدة؛ لأن الدنيا ذاهبة واحتج بقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض... ﴾ يعني لو ساروا في أطراف الارض لعرفوا أن عاقبة المتكبرين والمتمردين ليس إلا الهلاك والبَوَار مع أنهم كانوا أكثر عَدَداً وعِدَداً ومالاً من هؤلاء المتأخرين، فلما لم تُفِدْهُمْ تلك المُكْنَةُ العظيمة إلا الخَيْبَة والخَسَار فكيف حال هؤلاء الفقراء المساكين؟!.
قوله: ﴿فما أغنى عنهم﴾ يجوز في «ما» أن تكون نافية واستفهامية بمعنى النفي، ولا حاجة إليه وقوله «مَا كَانُوا» يجوز أن يكون «ما» مصدرية، ومحلها الرفع أي مَكْسُوبُهُمْ أو كَسْبُهُمْ ويجوز أن يكون بمعنى الذي فلا عائد على الأول وعلى الثاني هو محذوف أي يكسبونه وهي فاعل «بأَغْنَى» على التقديرين.
92
قوله: ﴿عِندَهُمْ مِّنَ العلم﴾ فيه أوجه:
أحدهما: أنه تهكم بهم، والمعنى ليْسَ عندهم عِلْم.
الثاني: أن ذلك جاء على زَعْمِهِمْ أنَّ عندهم علماً ينتفعون به.
الثالث: أن «مِنْ» بمعنى بدل أي بما عندهم من الدنيا بدل العلم.
الرابع: أن يكون الضمير للرسل، أي فَرِحَ الرسل بما عندهم من العلم.
الخامس: أن الأول للكفار، وأما الثاني لِلرسل، ومعناه فرح الكفار فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاءٍ بماعند الرسل من العلم؛ إذ لم يأخذوه بقبول ويمتثلوا أوامر الوحي ونواهيه. وقال الزمخشري: وَمِنْهَا أي من والوجوه أن يوضع قوله: ﴿فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم﴾ مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة مع تهكم بفَرْطِ خُلُوِّهم من العلم وجهلهم.
قال أبو حيان: ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام، نحو: «شَرٌّ أهَرَّ ذا ناب» على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز. وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل لأن في ذلك تخليطاً لمعاني الجمل المتباينة.

فصل


قال المفسرون: الضمير في قوله: «فَرِحُوا» يحتمل أن يكون عائداً على الكفار وأن يكون عائداً إلى الرسل فإن عاد إلى الكفار، فذلك العلم الذي فرحوا به قيل: هو الأشياء التي كانوا يسمونها علماً، وهي الشبهات المحكيّة عنهم في القرآن، كقولهم: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر﴾ [الجاثية: ٢٤] وقولهم: ﴿لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: ١٨٤] وقولهم: ﴿مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] ﴿وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً﴾
[الكهف: ٣٦] وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء، كما قال ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٣] و [الروم: ٣٢] وقيل: المراد علوم الفلاسفة فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغَّروا علوم الأنبياء عن علومهم كما روي عن سقراط أن سمع بمجيء أحد الأنبياء علهيم الصلاة والسلام فقيل له: لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهتدون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا. وقيل: المراد علمهم
93
بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٧] ﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم﴾ [النجم: ٣٠] فلما جاءت الرسل بعلوم الديانات ومعرفة الله تعالى، ومعرفة المعاد وتطهير النفس من الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزأوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفائدة من علمهم ففرحوا به.
وإن عاد الضمير إلى الأنبياء ففيه وجهان:
الأول: أن يفرح الرُّسُلُ إِذَا رَأوا من قومهم جهلاً كاملاً وإعراضاً عن الحقِّ وعلموا سوء غَفْلَتِهِمْ وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم يفرحوا بما أوتوا من العلم، ويشركوا الله عليه «وَحَاقَ» بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.
الثاني: أن المراد أن الرسل فرحوا بما عندهم من العلم فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاء.
قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ أي عذابنا ﴿قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ أي تبرأنا مما كنا نعدل بالله، البأسُ: شدة العذاب، ومنه قوله تعالى: ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف: ١٦٥]. قوله: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ﴾ يجوز رفع «إيمانهم» اسماً لكان، و «ويَنْفَعُهُمْ» جملة خبراً مقدماً، ويجوز أن يرتفع بأنهن فاعل ينفعهم، وفي كان ضمير الشأن.
وقد تقدم هذا محققاً في قوله: ﴿مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ﴾ [الأعراف: ١٣٧] وأنه ليس من باب التنازع. ودخل حرف النفي على الكون لا على النفي؛ لأنه بمعنى لا يصح ولا ينبغي، كقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ [مريم: ٣٥].
واعلم أن المراد بالوقت الذي لا ينفع الإيمان فيه هو وقت مُعَاينَة نزول ملائكة الرحمة وملائكة العذاب لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان فذلك الإيمان لاَ يَنْفَعُ.
قوله: ﴿سُنَّةَ الله﴾ يجوز انتصابها على المصدر المؤكد لمضمون الجملة يعني إن الذي فعل الله بهم سنة سابقة من الله، ويجوز انتصابها على التحذير، أي احذَرُوا سنة الله في المكذبين ﴿التي قد خلت في عباده﴾، وتلك السنة أنهم إذا عاينوا العذاب آمنوا
94
ولا ينفعهم إيمانهم ﴿هُنَالِكَ الكافرون﴾ «هُنَالِكَ» في الأصل مكان. قيل: واستعير هنا للزمان، ولا حاجة فالمكانيةُ فيه ظاهرة، أي وخسر هُنَالِكَ الكافرون بذهاب الدارين.
قال الزَّجَّاجُ: «الكافر خاسر في كل وقت، وإنما يُبَيِّنُ لهم خسرانهم إذا رأوا العَذَاب».

فصل


قال بن سيرين: رأى رجل في المنام سَبْعَ جوارٍ حِسَانٍ في مكان واحد لم ير أحْسَنَ منْهُنَّ فقال لهُنَّ: لِمَنْ أنتُنَّ؟ فقُلْنَ: لِمَنْ قَرَأَ آلَ حمَ.
(اللَّهم وفِّقنا لكتابك) (والله سبحانه وتعالى أعلم).
95
سورة فصلت
96
قوله :﴿ عِندَهُمْ مِّنَ العلم ﴾ فيه أوجه :
أحدهما : أنه تهكم بهم، والمعنى ليْسَ عندهم عِلْم١.
الثاني : أن ذلك جاء على زَعْمِهِمْ أنَّ عندهم علماً ينتفعون٢ به.
الثالث : أن «مِنْ » بمعنى بدل أي بما عندهم من الدنيا بدل العلم.
الرابع : أن يكون الضمير للرسل، أي فَرِحَ الرسل بما عندهم من العلم.
الخامس : أن الأول للكفار، وأما الثاني لِلرسل، ومعناه فرح الكفار فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاءٍ بما عند الرسل من العلم ؛ إذ لم يأخذوه بقبول ويمتثلوا أوامر الوحي ونواهيه٣. وقال الزمخشري : وَمِنْهَا أي من والوجوه أن يوضع قوله :﴿ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم ﴾ مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة مع تهكم بفَرْطِ خُلُوِّهم من العلم٤ وجهلهم.
قال أبو حيان : ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام، نحو :«شَرٌّ أهَرَّ ذا ناب » على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز. وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل لأن في ذلك تخليطاً لمعاني الجمل المتباينة٥.

فصل


قال المفسرون٦ : الضمير في قوله :«فَرِحُوا » يحتمل أن يكون عائداً على الكفار وأن يكون عائداً إلى الرسل فإن عاد إلى الكفار، فذلك العلم الذي فرحوا به قيل : هو الأشياء التي كانوا يسمونها علماً، وهي الشبهات المحكيّة عنهم في القرآن، كقولهم :﴿ وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر ﴾ [ الجاثية : ٢٤ ] وقولهم :﴿ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾ [ الأنعام : ١٨٤ ] وقولهم :﴿ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ] ﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ [ الكهف : ٣٦ ] وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء، كما قال ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٣ ] و [ الروم : ٣٢ ] وقيل : المراد٧ علوم الفلاسفة فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغَّروا علوم الأنبياء عن علومهم كما روي عن سقراط أن سمع بمجيء أحد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهتدون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا. وقيل : المراد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها٨، كقوله تعالى :﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [ الروم : ٧ ] ﴿ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم ﴾ [ النجم : ٣٠ ] فلما جاءت الرسل بعلوم الديانات ومعرفة الله تعالى، ومعرفة المعاد وتطهير النفس من الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزأوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفائدة من علمهم ففرحوا به.
وإن عاد الضمير إلى الأنبياء ففيه وجهان :
الأول : أن يفرح الرُّسُلُ إِذَا رَأوا من قومهم جهلاً كاملاً وإعراضاً عن الحقِّ وعلموا سوء غَفْلَتِهِمْ وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم يفرحوا بما أوتوا من العلم، ويشركوا الله عليه «وَحَاقَ » بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.
الثاني : أن المراد أن الرسل فرحوا بما عندهم من العلم فَرَحَ ضَحِكٍ٩ واستهزاء.
١ السابقين أيضا والأسبقية للزمخشري وعنه أخذ أبو حيان..
٢ قال السمين في الدر ٤/٧١٤..
٣ قال بهذين الوجهين أبو حيان في البحر ٧/٤٧٩..
٤ في الكشاف العلماء وانظر الكشاف ٣/٤٣٩..
٥ البحر المرجع السابق..
٦ يعني بهم الرازي..
٧ هذا هو رأي الزمخشري وممن نقله عنه الرازي في تفسيره، انظر الكشاف ٣/٤٣٩ والرازي ٢٧/٩١..
٨ المرجعين السابقين..
٩ الرازي في مرجعه السابق..
قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾ أي عذابنا ﴿ قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ﴾ أي تبرأنا مما كنا نعدل بالله، البأسُ : شدة العذاب، ومنه قوله تعالى :﴿ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ﴾ [ الأعراف : ١٦٥ ].
قوله :﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ ﴾ يجوز رفع «إيمانهم » اسماً لكان، و «يَنْفَعُهُمْ » جملة خبراً مقدماً، ويجوز أن يرتفع بأنه فاعل ينفعهم، وفي كان ضمير الشأن١.
وقد تقدم هذا محققاً في قوله :﴿ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ] وأنه ليس من باب التنازع٢. ودخل حرف النفي على الكون لا على النفي ؛ لأنه بمعنى لا يصح ولا ينبغي، كقوله تعالى :﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾٣ [ مريم : ٣٥ ].
واعلم أن المراد بالوقت الذي لا ينفع الإيمان فيه هو وقت مُعَاينَة نزول ملائكة الرحمة وملائكة العذاب لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان فذلك الإيمان لاَ يَنْفَعُ.
قوله :﴿ سُنَّةَ الله ﴾ يجوز انتصابها على المصدر المؤكد لمضمون الجملة يعني إن الذي فعل الله بهم سنة سابقة من الله٤، ويجوز انتصابها على التحذير، أي احذَرُوا٥ سنة الله في المكذبين ﴿ التي قد خلت في عباده ﴾، وتلك السنة أنهم إذا عاينوا العذاب آمنوا ولا ينفعهم إيمانهم ﴿ هُنَالِكَ الكافرون ﴾ «هُنَالِكَ » في الأصل مكان. قيل : واستعير هنا للزمان٦، ولا حاجة فالمكانيةُ فيه ظاهرة٧، أي وخسر هُنَالِكَ الكافرون بذهاب الدارين٨.
قال الزَّجَّاجُ :«الكافر خاسر في كل وقت، وإنما يُبَيِّنُ لهم خسرانهم إذا رأوا العَذَاب »٩.

فصل


قال بن سيرين : رأى رجل في المنام سَبْعَ جوارٍ حِسَانٍ في مكان واحد لم ير أحْسَنَ منْهُنَّ فقال لهُنَّ : لِمَنْ أنتُنَّ ؟ فقُلْنَ : لِمَنْ قَرَأَ آلَ حمَ.
( اللَّهم وفِّقنا لكتابك )١٠ ( والله سبحانه وتعالى أعلم )١١.
١ قاله أبو حيان في البحر المحيط ٧/٤٧٩..
٢ والتنازع هنا في الآية الذي يقصده تنازع فرعون "لكان" على أنه اسمها مؤخر، و "ليصنع" على أنه فاعل، فالتنازع هنا معمول لعاملين..
٣ الآية ٣٥ من مريم. وانظر البحر المحيط ٧/٤٧٩ والكشاف ٣/٤٤٠..
٤ قاله الزمخشري في الكشاف المرجع السابق ونقله عنه أبو حيان في بحره ٧/٤٧٩..
٥ حكاه أبو حيان في البحر بدون نسبة..
٦ سبق إلى هذا القول الزمخشري في كشافه ونفله عنه أبو حيان في بحره، وانظر هذا في الدر المصون ٤/٧١٥..
٧ هذا قول شهاب الدين السمين في الدر ٤/٧١٥..
٨ قاله البغوي في معالم التنزيل ٦/١٠٤..
٩ قال في معاني القرآن وإعرابه: "والكافرون والمبطلون خاسرون في ذلك الوقت وفي كل وقت خاسرون ولكنه تعالى بين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب". معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٧٨..
١٠ زيادة من أ الأصل..
١١ زيادة من ب..
Icon