هذه السورة مكية، وهي في جلال شأنها وعظيم قدرها، فياضة بالمعاني والأخبار والعبر، حافلة بألوان الترهيب والتحذير والتذكير مما فيه موعظة بالغة ومزدَجَر. ويأتي في طليعة ذلك كله بيان كريم بصفة الله جل وعلا على أنه ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو ﴾.
وفي السورة إخبار عن الأمم السابقة الذين نكلوا عن دين الله، وآذوا النبيين الذين أرسلوا إليهم وهمّوا بقتلهم.
وفي السورة تذكير بأهوال يوم القيامة، يوم التلاق ؛ إذ تتلاقى الخلائق في يوم عصيب بئيس، فظيع الكرب، شديد الزحام ؛ إذ الناس فيه مضطربون وجلون مذعورون.
وتتضمن السورة إنباءً عن قصة فرعون وظلمه وطغيانه وتجبره وفساده في الأرض. إن ذلكم شقي أثيم أسرف في الكفر والعتو وهَمَّ بقتل موسى عليه السلام لولا أن تجرجر ذلك الطاغوت خاسئا مدحورا غريقا وقومه المجرمون في البحر.
وفي السورة لون من ألوان التخاصم والتلاوم في النار بين الكبراء المضلين والأتباع الضالين. وثمة إعلان رباني داوٍ بأن الله ينصر رسله والذين آمنوا معهم في هذه الحياة ويوم يقوم الأشهاد.
وفيها تحضيض كريم من الله على الدعاء. لا جرم أن الدعاء ضرب عظيم من ضروب العبادة التي تكشف عن شديد الإخلاص لله وصادق الإنابة إليه.
إلى غير ذلك من البراهين والعبر وألوان الإنذار والترهيب والتخويف والذكر ما فيه موعظة لكل متدبِّر مدَّكر.
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى :﴿ حم ( ١ ) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( ٢ ) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( ٣ ) مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ﴾.﴿ حم ﴾، من فواتح السور. وهي وأمثالها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم ما يراد بها.
قوله :﴿ ذِي الطَّوْلِ ﴾ أي ذي النعم. واصل الطول : الإنعام والتفضّل. وقيل : المن.
قوله :﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ الله وحده المعبود، لا شريك له. إليه تصير الأمور كلها فإليه يرجع المآب.
قوله :﴿ فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ﴾ ينهى الله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن الاغترار بتصرف هؤلاء في البلاد فيما يفعلون من التجارب وتحصيل الأرباح وجمع الأموال الكثيرة وما هم فيه من الخير وسعة الحظوظ الدنيوية، فذلك كله متاع صائر إلى زوال١.
يبين الله في ذلك حال المشركين السابقين من الأمم الغابرة. وأن هؤلاء المشركين الذين جاءوا من بعدهم قد سلكوا طريقهم في الكفر والزيغ عن منهج الله والصَّدِّ عن دينه. وفي ذلك تسلية من الله لرسوله في تكذيب المشركين من قومه له، بأن له أسوة في الذين سلفوا من النبيين ؛ فقد كذبتهم أممهم وتحزّبوا عليهم بالصدِّ والجحود وهو قوله :﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ والأحزاب من بعد نوح، كقوم عاد وثمود وغيرهم من المكذبين الذين جحدوا ما جاءهم به المرسلون ﴿ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ﴾ أي همت كل أمة من هذه الأمم الجاحدة برسولهم المبعوث فيهم لهدايتهم ﴿ لِيَأْخُذُوهُ ﴾ أي ليأسروه أو ليحبسوه ويعذبوه أو ليقتلوه.
قوله :﴿ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ أي خاصموا رسولهم بغير حق ؛ بل خاصموه بالشرك والضلال والتكذيب ﴿ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ أي ليزيلوه. وذلك هو ديدن المشركين المكذبين في كل زمان، إذ يصطنعون الحجج الفاسدة والمخاصمة الشريرة ليبددوا دعوة الحق والهدى وليزيلوا منهج الله من الأرض أو ليُلْبِسوه على الناس إلباسا فيظل في أذهانهم مشوّها مستهجنا.
قوله :﴿ فَأَخَذْتُهُمْ ﴾ أي أهلكت هؤلاء المخاصمين المبطلين بالعذاب ﴿ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ أي فكيف كان عقابي الذي عاقبتهم به. ألم يروا أنه حق وأنه شديد. وأنتم تمرون على مساكنهم وأرضهم فتعاينون أثر التدمير والعقاب.
والمعنى : وكما وجب إهلاكهم في الدنيا بالاستئصال بسبب كفرهم وجدالهم بالباطل وجب إهلاكهم وتعذيبهم بالنار يوم القيامة.
ثم يبين الله كيفية استغفار الملائكة للمؤمنين ؛ فإنهم يستغفرون لهم قائلين ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ ﴿ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ منصوبان على التمييز ؛ أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء١.
قوله :﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ﴾ يسألون التوبة للتائبين من الشرك والمعاصي والمتبعين سبيل الحق وهو الإسلام ﴿ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ يسألون الله أن يصرف عن المؤمنين المتقين عذاب الجحيم. والمراد بالجحيم، النار الشديدة التأجّج. وكل نار بعضها فوق بعض٢.
٢ القاموس المحيط ص ١٤٠٣.
قوله :﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ يعني القوي القاهر الذي لا يُغْلَب، والحكيم في أقواله وأفعاله وتدبيره.
قوله :﴿ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ﴾ يعني من تصرف عنه جزاء السيئات يوم القيامة أو تحفظه من العذاب ﴿ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ﴾ غشيته برحمتك الواسعة ونجيته من العذاب وجزيته الجنة ﴿ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ الإشارة إلى ما تقدم من تنجيتهم من العذاب وإدخالهم الجنة ؛ فإنه هو الجزاء الكريم الذي لا يعدله في الحسن والكمال جزاء١.
المقْتُ : أشد الغضب. وهنا يبين الله حال الخاسرين في النار وما يغشاهم من التعْس والتعنيف والتوبيخ ومقت الله إياهم، حتى إنهم أنفسهم يمقتون أنفسهم. فقد قال المفسرون : لما رأى الكافرون أعمالهم يوم القيامة ونظروا في كتاب أعمالهم وأدخلوا النار فعاينوا العذاب الشديد مقتوا أنفسهم بما أسلفوه من سوء الفعال وقبيح الأعمال.
وحينئذ ينادون وهم في النار : لَمَقْتُ الله إياكُم في الدنيا أشدُّ من مقتكم أنفسَكم اليوم. وهذه زيادة في التنكيل بالمكذبين الخاسرين وقد طرحوا في النار جزاء نكولهم عن دين الله. وقيل : معناه، لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض.
قوله :﴿ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ ﴾ منصوب بمقدر، وتقديره : اذكروا حين تدعون١ وذلك تعليل لمقتهم بما قدموه من الكفر وسوء الفعال ؛ أي واذكروا حين دعائكم إلى الإيمان بالله فتجحدون وتكذبون وتأبون إلا الشرك والباطل.
قوله :﴿ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ﴾ ذلك اعتراف منهم بذنوبهم بعد أن عاينوا عذاب النار وأيقنوا أنهم مكبكبون في الجحيم، فقالوا : اعترفنا بما أسلفنا من الذنوب والسيئات في الدنيا من تكذيب وإشراك وتلبُّس بالسيئات والمعاصي. يقولون ذلك وقد غشيهم من الندامة والحسرة ما غشيهم وهم حينئذ موقنون أنهم لا ينفعهم الاعتراف أو الندم.
قوله :﴿ فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ يعني هل من سبيل إلى خروج لنا من النار ورجوع إلى الدنيا. ذلك هو تمنِّي الخاسرين يوم القيامة عند معاينة العذاب ؛ وذلك لفرط ما يصيبهم من الذعر، وفرط ما يحيط بهم من شدة البأس والقنوط.
وهو قوله :﴿ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ﴾ وقوله :﴿ وحده ﴾ منصوب على أنه مصدر في موضع الحال١.
قوله :﴿ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ﴾ الحكم حينئذ لله وحده دون غيره ؛ فهو وحده الذي حكم عليكم بالخلود في النار، وأنكم في العذاب السَّرْمد ماكثون لا تخرجون وهو سبحانه ﴿ الْعَلِيِّ ﴾ المتعالي عن الشركاء والأنداد. وهو الكبير، له الكبرياء في عظمته وجبروته وبالغ قدرته وسلطانه٢.
٢ فتح القدير ج ٤ ص ٤٨٣-٤٨٤ والكشاف ج ٣ ص ٤١٨-٤١٩ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٧٢-٧٣.
يبين الله للناس علامات قدرته البالغة وأنه الصانع المقتدر الحكيم. ومن آياته الدالة على ذلك : الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحو ذلك.
قوله :﴿ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ﴾ المراد بالرزق ههنا، المطر ؛ فالله يأتي بالرزق بسبب المطر.
قوله :﴿ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ ﴾ أي ما يتعظ وما يعتبر بآيات الله الكثيرة الدالة على عظمته وتوحيده وتفرِّده في الخلْق إلا من خشع قلبه لله ورجع عن الشرك والعصيان إلى الإيمان بالله وتوحيده وطاعته.
قوله :﴿ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ المراد بالروح : الوحي. وقد سمي روحا بما يتنزل به من آيات الله التي تثير في الناس الهداية والنور وحسن التوجه إلى الله بعد أن كانوا موتى لا خير فيهم ولا حياة. أو لأن الناس يَحيَوْنَ بالوحي من موت الكفر كما تحيى الأبدان بالأرواح ؛ فالله يُلقي ذلك ﴿ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ يُلْقي الله وحيه بقضائه وحكمه – على النبيين المصطفين الذين يختارهم من عباده.
قوله :﴿ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ﴾ وذلك يوم القيامة ؛ إذْ تتلاقى فيه الخلائق كافة. وقيل : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض في المحشر.
قوله :﴿ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ﴾ ذلك بيان من الله لعباده أن الناس بارزون يوم القيامة لا يحجبهم ولا يسترهم شيء ولا يخفى منهم على الله شيء ؛ بل هم ظاهرون مكشوفون، مستبينون لله في أقوالهم وأعمالهم.
قوله :﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ﴾ ينادي يوم القيامة منادٍ بذلك. وذلك إذا هلك أهل السماوات والأرض فليس حينئذ من حيِّ موجود إلا الله الخالق الموجد. وقيل : قائل ذلك هو الرب سبحانه وليس حينئذ من مجيب ؛ بل الله وحده يجيب نفسه فيقول :﴿ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ الملك لله وحده ؛ فهو سبحانه له ملكوت كل شيء وليس له في ذلك شريك ولا نديد. وهو سبحانه القوي الغالب الذي لا يقهره أحد بل هو القاهر الجبار، المنتقم من الظالمين والخاسرين والأشرار.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ الله سبحانه يقضي بين العباد في الآخرة سريعا وهو يحاسب الخلق كلهم في وقت واحد من غير إبطاء في ذلك ولا إنظار ؛ إذ لا يشغله حساب عن حساب. وهو سبحانه لا يحتاج إلى تفكُّر في القضاء بين الخلْق أو تدبُّر كالذي يحتاج إليه القضاء من العباد. بل الله خبير مقتدر لا يعزّ عليه فعل ما يشاء وهو أسرع الحاسبين.
ويأتي وصف الرحمن للساعة على أكمل وأروع ما يكون عليه البيان المؤثر النافذ إلى أعماق القلوب وذلك في قوله :﴿ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ﴾ ﴿ كَاظِمِينَ ﴾، منصوب على الحال ؛ أي مغمومين مكروبين ممتلئين غمّا. والمعنى : أن قلوب الظالمين الخاسرين يوم القيامة تزول عن مواضعها من شدة الخوف ومن فظاعة المشهد المرعب حتى تصير إلى الحناجر. ومفردها حنجرة. وقيل : إن ذلك إخبار عن فظاعة الخوف ونهاية الشدة والذعر.
قوله :﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾ الحميم، القريب المحب أي ليس للخاسرين يوم القيامة حيث الفزع والإياس واشتداد الهول، من قريب مشفق محب ينفعهم، ولا ذو شفاعة يطاع في شفاعته لهم.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ﴾ يعني ما تعبدونه من آلهة مصطنعة مفتراة لا تقضي بشيء. وذلك من باب التهكم بهم لفرط سفاهتهم وجهالتهم ؛ فإن ما يعبدونه من أصنام صماء لا يوصف بالقدرة وليس من شأن هذه المعبودات المفتراة أن تقضي. قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ ذلك تقدير لوصفه سبحانه بأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؛ فالله عز وجل يسمع ما تنطق به الألسن من كلام مسموع أو خفي. وهو سبحانه بصير يرى ويعلم ما يجري في الوجود من أحداث وأشياء. وفي ذلك من الوعيد والتهديد ما لا يخفى١.
الاستفهام للتوبيخ والتعنيف لهؤلاء المشركين الخاسرين. والمعنى : أو لم ير هؤلاء المشركون في أسفارهم للتجارات ما حلَّ بالأمم الظالمة المكذبة من قبلهم من سوء العاقبة. فقد أتاهم من الله العذاب والتدمير والاستئصال. وتلك مساكنهم الخاوية وآثارهم الدوارس تدل على ما نزل بهم من الإهلاك والإبادة. وقد كانوا أشد من هؤلاء المشركين قوة وذلك في كثرة الأعداد والأموال وشدة البأس. وكانوا كذلك أشد منهم آثارا. والمراد بالآثار، الحصون المنيعة، والقصور الحصينة وغير ذلك من وجوه الآثار التي تدل على قوة الأمم السابقة وأنهم أشد بأسا من هؤلاء المشركين. وهم مع شديد قوتهم وبأسهم وظاهر منعتهم ؛ فقد أخذهم الله بعقابه بسبب كفرهم بالله ورسله وصدهم عن دين الله. وهو قوله :﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ﴾ دمَّر اللهُ عليهم وأهلكهم بشركهم وما تلبسوا به من الذنوب والمعاصي. وما كان لهم من أحد يدفع عنهم البلاء أو يقيهم مما حلَّ بهم من عقاب الله.
ذلك بيان من الله عن المستكبر الخاسر فرعون. هذا الطاغوت العاتي الذي طغى في البلاد وأكثر في الأرض الفساد وزعم لنفسه من الصفة المفتراة ما يزلزل القلوب لفظاعته وشدة إجرامه ونكره ؛ إذ ادعى لنفسه الإلهية. وذلكم غاية الطغيان والعتوِّ والكفران، وأشنع ما يصخ الأسماع من شنيع الاجتراء والظلم.
يُبيّن الله حال هذا المتجبِّر العُتُلِّ الذي عتا عن أمر الله واستكبر عن دينه وكذَّب رسوله وآذى المؤمنين من بني إسرائيل أفظع إيذاء من غير ذنب ولا جريرة. وهو قوله سبحانه :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ أرسل الله رسوله موسى عليه السلام بالآيات البينات من عنده إلى فرعون وهامان وقارون وجنودهم لهدايتهم وتبليغهم ﴿ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ وهو الحجة الظاهرة والمراد به هنا المعجزات الحسبة المنظورة التي لا ينكرها إلا مكابر جهول أو مستكبر غاشم.
فكذب بها فرعون وقومه الطغاة ﴿ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ سموا الحجة الصادقة والمعجزة الباهرة سحرا وكذبا، ورموا النبي وكليمه موسى بأنه ساحر كذاب.
ذلك بيان من الله عن المستكبر الخاسر فرعون. هذا الطاغوت العاتي الذي طغى في البلاد وأكثر في الأرض الفساد وزعم لنفسه من الصفة المفتراة ما يزلزل القلوب لفظاعته وشدة إجرامه ونكره ؛ إذ ادعى لنفسه الإلهية. وذلكم غاية الطغيان والعتوِّ والكفران، وأشنع ما يصخ الأسماع من شنيع الاجتراء والظلم.
يُبيّن الله حال هذا المتجبِّر العُتُلِّ الذي عتا عن أمر الله واستكبر عن دينه وكذَّب رسوله وآذى المؤمنين من بني إسرائيل أفظع إيذاء من غير ذنب ولا جريرة. وهو قوله سبحانه :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ أرسل الله رسوله موسى عليه السلام بالآيات البينات من عنده إلى فرعون وهامان وقارون وجنودهم لهدايتهم وتبليغهم ﴿ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ وهو الحجة الظاهرة والمراد به هنا المعجزات الحسبة المنظورة التي لا ينكرها إلا مكابر جهول أو مستكبر غاشم.
فكذب بها فرعون وقومه الطغاة ﴿ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ سموا الحجة الصادقة والمعجزة الباهرة سحرا وكذبا، ورموا النبي وكليمه موسى بأنه ساحر كذاب.
قوله :﴿ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ﴾ أي أن كيد هؤلاء الطغاة المجرمين ومكرهم الظالم ببني إسرائيل ؛ إذْ قتلوا أولادهم الذكور واستحيوا نساءهم، إنْ هو إلا عبث لا يغنيهم وهو باطل لم يُجْدهم نفعا ولم يدفع عنهم قدر الله بهلاكهم مغرقين في البحر. وبذلك قد ذهب كيد فرعون وانقضى فكان ضربا من المكر الخبيث الضائع الذي لا يغيِّر قدرا لله مسطورا في علمه القديم. ومضت سنة الله بتدمير الباطل وأهله واستعلاء الفئة المؤمنة المستضعفة من بني إسرائيل.
قوله :﴿ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ﴾ يدل على خوف فرعون من موسى لكونه نبيّا، وهذا من تمويهاته ؛ إذ يُظهر لقومه قلة احتفاله به فيوهمهم أنهم هم الذين يكفونه. والصواب أنه ما كان يكفّه إلا ما في نفسه من شديد الفزع.
قوله :﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ﴾ ذلك تعليل فاسد لقتل موسى وهو زعْم فرعون : إني أخاف أن يغيِّر ما أنتم عليه من دين، وقد كانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام.
قوله :﴿ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ أي أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه أو يفسد عليكم دنياكم بإشاعة الفتن بينكم وبين والاقتتال الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المعايش ويهلك الناس.
وكذلك غيره من الطغاة والعتاة والمتجبرين في كل زمان. أولئك الذين يكفرون بدين الله الحق، ويصدون عن منهجه القويم ويثيرون في الأرض الخراب والفساد بإشاعة الكفر والإلحاد والإباحية وتدمير القيم والأخلاق ومقتضيات الفطرة السليمة.
أولئك هم شياطين البشرية في كل زمان. وأولئك هم الأخسرون الأذلون الأشقياء حَصَبُ جهنم ووقود النار١.
الظاهر أن الرجل المؤمن كان قبطيّا من آل فرعون وقد آمن بموسى سرّا. وقيل إنه من بني إسرائيل وكونه قبطيّا أولى بالصواب.
وقوله :﴿ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ ﴾ صفة لرجل.
قوله :﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ الاستفهام للإنكار والتعنيف الشديد وأن يقول، يعني كراهية أن يقول ربي الله ؛ فقد أنكر عليهم الرجل المؤمن عزمهم على قتل موسى لقوله :﴿ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ والمعنى : أتفعلون هذه الفعلة الفظيعة الشنعاء وهي قتل نفس مؤمنة محرمة دون على أو سبب إلا قول كلمة الحق ودعوتكم إلى توحيد الله وعبادته وحده. وقد استدرجهم هذا المؤمن إلى الاعتراف بنبوة موسى عليه السلام لتليين قلوبهم القاسية وكسر سَوْرَتهم الجامحة وترغيبا لهم في الإيمان بالله ورسوله.
قوله :﴿ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ بيَّن لقومه جملة البراهين من المعجزات الظاهرة التي جاءهم بها موسى فشاهدوها وعاينوها. وهي تشهد بصدق رسالته وأنه مبعوث أمين قد جاءهم برسالة الحق واليقين من عند الله.
قوله :﴿ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ﴾ احتج عليهم بأن هذا الذي جاءكم يدعوكم إلى دين الله، لا يخلو من كونه كاذبا أو صادقا، فإن كان كاذبا فإنما يعود ضرر كذبه عليه ﴿ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ﴾ يعني إن تعرضتم له بالسوء يصبكم بعض الذي يعدكم ؛ فقد ذكر ﴿ بعضُ ﴾ مع تقديره أنه نبي صادق في كل ما يقوله، وهو يبتغي بذلك أن يسلك معهم سبيل المناصحة والبرهان بما يبين لهم أنه لا يتعصب لهذا الرجل فيكون ذلك أقرب إلى تسليمهم له وقبولهم به.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ لا يجعل الله الهداية والتوفيق للذي يشتط ويفتري الكذب، ومن كان كذلك لا يستقيم أمره بل إن الله خاذله ومهلكه. أو لو كان ذا إسراف وكذب فيما يقول لما عضده الله بالبينات الظاهرة والمعجزات العجاب. وكذلك قال لهم :﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ ﴾.
قال الرجل المؤمن لقومه ناصحا محذرا إياهم ﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴾ أي مثل أيامهم التي غشيهم فيها من الانتقام ما غشيهم. وفي ذلك إشعار لهم بأنه يحب لهم الخير والنجاة ويخشى عليهم مما يسيئهم أو يكرهونه. والمراد بالأحزاب : قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من الأمم الكافرة الضالة ؛ فقد كان لكل حزب منهم يوم دمار أهلكهم الله فيه ؛ فمرة هلك قوم نوح بالطوفان، ومرة أهلك عادا بالريح العاتية، وكذلك أهل ثمود بالصيحة، وأهلك الذين من بعدهم من الضالين الخاسرين. وهو بذلك يحذر قوم فرعون مما حاق بأولئك السابقين ويخوفهم نزوله بهم لكي ينزجروا عن طغيانهم وباطلهم، فيفيئوا إلى الحق والصواب بعبادة الله وحده لا شريك له.
قوله :﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾ أي أن تدمير أولئك الظالمين، وأخْذَهم بالعقاب والانتقام كان عدلا من الله ؛ لأنهم استوجبوا ما نزل بهم من الانتقام الشديد بسبب كفرهم وعتوهم وإيغالهم في الضلال والباطل وصدهم عن دين الله.
وما يريد الله سبحانه ظلما لعباده.
قال الرجل المؤمن لقومه ناصحا محذرا إياهم ﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴾ أي مثل أيامهم التي غشيهم فيها من الانتقام ما غشيهم. وفي ذلك إشعار لهم بأنه يحب لهم الخير والنجاة ويخشى عليهم مما يسيئهم أو يكرهونه. والمراد بالأحزاب : قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من الأمم الكافرة الضالة ؛ فقد كان لكل حزب منهم يوم دمار أهلكهم الله فيه ؛ فمرة هلك قوم نوح بالطوفان، ومرة أهلك عادا بالريح العاتية، وكذلك أهل ثمود بالصيحة، وأهلك الذين من بعدهم من الضالين الخاسرين. وهو بذلك يحذر قوم فرعون مما حاق بأولئك السابقين ويخوفهم نزوله بهم لكي ينزجروا عن طغيانهم وباطلهم، فيفيئوا إلى الحق والصواب بعبادة الله وحده لا شريك له.
قوله :﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾ أي أن تدمير أولئك الظالمين، وأخْذَهم بالعقاب والانتقام كان عدلا من الله ؛ لأنهم استوجبوا ما نزل بهم من الانتقام الشديد بسبب كفرهم وعتوهم وإيغالهم في الضلال والباطل وصدهم عن دين الله.
وما يريد الله سبحانه ظلما لعباده.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ الكاف في اسم الإشارة في موضع نصب صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل هذا الإضلال أو الخذلان يخذلُ الله كل مسرف في عصيانه وعتوه، مرتاب في دينه لحق المنزل عليه من عند الله.
والمعنى أن جدال المكذبين الجاحدين الذين يخاصمون في آيات الله بغير حجة ولا برهان ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ فاعل ﴿ كَبُرَ ﴾، هو الضمير العائد على ﴿ من هو مسرف ﴾ وقيل : راجع إلى مصدر الفعل المتقدم وهو قوله :﴿ يجادلون ﴾ وتقديره : كبر جدالهم مقتا عند الله وعند الذين آمنوا أي يمقته الله ويبغضه أشد البغض وكذلك الذين آمنوا يمقتونه ويبغضونه. ويراد بذلك التعجب ولاستعظام لجدالهم بغير حق ولا برهان إلا العناد والرغبة في الباطل.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ أي مثل ذلك الختم على قلوب المسرفين المرتابين والذين يجادلون في آيات الله بالباطل والهوى، يختم الله على كل ذي قلب مستكبر عن الحق، متجبِّر لا يلين بحجج الله وآياته.
وقرئ ( قلبٍ )، بالتنوين، فوصف بالتكبر والتجبر ؛ لأنه مركزهما ومنبعهما٢.
٢ الكشاف ج ٣ ص ٤٢٦-٤٢٧ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٧٧-٧٨.
يخبر الله فرعون، هذا الطاغوت المتجبر العاتي ؛ إذ قال لوزيره الأثيم هامان على سبيل التجبر والتكبر والغرور ﴿ ابْنِ لِي صَرْحًا ﴾ والصرح معناه القصر العالي المنيف من الآجر المضروب من الطين المشوي.
والفائدة من تكرير الأسباب تفخيم شأنها، والتأكيد على أنه قصد أمرا عظيما.
قوله :﴿ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ جواب الأمر في قوله :﴿ ابْنِ لِي ﴾ فنصب بأمن مضمرة بعد الفاء٢ والمعنى : فأنظر إلى إله موسى. وهذا من فرط طغيانه وبالغ عتوه وتمرده ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ أي في كونه نبيا وفي زعمه الإلهية لغيري.
قوله :﴿ وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ الكاف صفة لمصدر محذوف ؛ أي ومثل ذلك التزيين والصد عن سبيل الله ﴿ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ فقد زيّن له الشيطان بوسوسته سوء فِعاله من الكفر والاستكبار وفرط الغرور وزعمه أنه إله. فقد كان عاتيا متجبرا مضلاًّ ؛ إذ صد عن سبيل الحق، سبيل الله المستقيم.
قوله :﴿ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ﴾ التباب، الهلاك والخسران أي ما يكيده فرعون لدين الله بالصد وللمستضعفين بالقهر والإذلال، إنما مصيره الخسران ولن يدفع عنه ذلك من ينتظره من سوء المصير، في الدنيا حيث التغريق الشنيع، وكذلك في الآخرة حيث النار وبئس القرار.
٢ الدر المصون ج ٩ ص ٤٨٢.
دعا الرجل المؤمن قوم فرعون إلى استماع نصحه لهم وإلى طاعته فيما دلَّهم عليه ﴿ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ أي أسلككم في طريق الحق ولهداية والنجاة.
قوله :﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ﴾ ذلك ثناء من الله على عباده المؤمنين، وفيه تحريض لهم على الإيمان وفعل الطاعات والصالحات التي تفضي بهم إلى الجنة. فما يبادر المرء للإيمان والطاعة إلا جوزي خير الجزاء من الله سواء كان المبادر ذكرا أو أنثى. على أنه يشترط لصحة العمل وقبوله أن يكون العامل مؤمنا، وهو قوله :﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ فإنما الإيمان الصحيح سبيل القبول والنجاة ولن تغني العاملين أعمالهم إن لم يكونوا مؤمنين.
على أن جزاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات ﴿ الجَنَّة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ بغير تقدير، لفرط كثرته وزيادته. بخلاف السيئة فإن جزاءها مثلها بغير زيادة.
والمراد بنفي العلم، نفي المعلوم، كأنه قال : وأشرك به ما ليس بإله. وما ليس بإله كيف يصح أن يُعلم إلها ؟.
قوله :﴿ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ﴾ أدعوكم إلى عبادة الله وحده وهو القوي القاهر الذي يغفر الذنوب ويسترها وإنْ كانت كثيرة، فهو وحده الإله المقتدر المستحق للعبادة والإذعان دون غيره من الشركاء والأنداد١
قوله :﴿ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ ﴾ نحن جميعا صائرون إلى الله يوم القيامة، محشورون بين يديه لملاقاة الحساب والجزاء ﴿ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ المراد بالمسرفين، المشركون المكذبون بيوم الدين. وقيل : هم الذين غلب شرهم خيرهم. فأولئك يصار بهم إلى النار لتكون لهم مستقرا ومقاما.
قوله :﴿ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ الله سبحانه مطلع على أفعال العباد وأقوالهم وأسرارهم وما تخفيه صدروهم ؛ فهو سبحانه لا تخفى عليه الخوافي ولا تعزب عن علمه الغيوب والأسرار.
قوله :﴿ وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾
﴿ النَّارُ ﴾ بدل من سوء العذاب. أو خبر لمبتدأ محذوف. تقديره : هو النار ؛ فهم يعرضون عليها. وعرضهم عليها معناه إحراقهم بها ﴿ غُدُوًّا وَعَشِيًّا ﴾ أي يعرضون على النار بحرقهم ما دامت الدنيا ؛ فإذا قامت الساعة قال لهم خزنة جهنم ﴿ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ يعني عذاب جهنم. وهذه الآية مما استدل به أهل السنة على عذاب القبر، ويعزز هذه الحقيقة من السنة ما أخرجه الإمام أحمد عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر ؛ فإن عذاب القبر حق " ١.
﴿ إذْ ﴾ منصوب بإضمار فعل تقديره اذكر١ يعني : واذكر وقت يتحاجّون في النار ؛ أي يتخاصمون ويتجادلون وتُنْحِي كل فئة باللائمة على الأخرى أنهم هم الذين أضلوهم وفتنوهم عن الحق فيقول الضعفاء الأتباع وهم المقلدون الخائرون من الناس – للسادة والكبراء الذين كانوا متبوعين في الدنيا ﴿ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ﴾ جمع تابع، أي كنا لكم أتباعا أو خدما فتتبع خطاكم في الأقوال والأفعال، إذ نعبد ما تعبدون ونصنع ما تصنعون ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ﴾ أي هل أنتم دافعون عنا جزءا من عذاب النار. يقولون ذلك في حال من الهوان الكامل والاستيئاس المطبق.
أي كلنا في النار فنحن وإياكم معذبون ولا يغني أحد منا عن أحد شيئا. يقولون ذلك وهم آيسون من الرحمة أو تخفيف العذاب، موقنون بأنهم ماكثون في النار لا يبرحون. وذلك هو حكم الله وقضاؤه. وهو قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ﴾ أي قضى بينهم وبينهم وفصل بأن أدخل المؤمنين الجنة، والخاسرين النار.
قوله :﴿ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا ﴾ أقروا بتفريطهم وخطيئتهم ؛ إذ جحدوا نبوة المرسلين وكذبوا بما جاءوهم به. فقالت لهم الملائكة على سبيل التهكم والتيئيس زيادة في التنكيل بهم ﴿ فَادْعُوا ﴾ أي ادعوا أنتم أن يخفف عنكم شيئا من العذاب فإن لا نجترئ على مثل هذا الدعاء ﴿ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ﴾ لا يستجاب للكافرين في النار دعاء. وأيما دعاء لهم حينئذ إنما هو ضرب من اليأس والعبث وهو صائر إلى البطلان والخيبة١.
ذلك إخبار من الله ووعد صِدْق، ووعدُهُ حق ولن يخلف الله وعده ؛ فإنه جل وعلا ينصر عباده المرسلين الذين أرسلهم للناس هداةً منذرين، وينصر الذين آمنوا معهم من عباده الطيبين المتقين. ينصرهم الله جميعا في الدنيا ؛ إذ يجعل لهم الغلبة والاستعلاء والهيمنة. أو يكتب الله لدينه الظهور والشيوع والانتشار. وذلك نصر من الله، إذ يوفق الله عباده للإقبال على دينه الحق. الدين المبرأ من الشرك والزيف والضلال. وهو الذي بني على التوحيد وإفراد الله وحده بالإلهية والربوبية والحاكمية والإذعان لجلاله بالخضوع والاستسلام، وذلكم هو الإسلام الذي اجتمعت على أركانه وقواعده الثوابت كلمة النبيين والمرسلين جميعا. أولئك الذين اجتمعوا على التوحيد وعبادة الله وحده دون غيره من الأرباب والأوثان والأنداد على اختلاف صورها ومسمياتها.
فإذا كتب الله لدينه الظهور والشيوع والانتشار فلا جرم أن يكون ذلك نصرا عظيما من الله كتبه لرسله والذين آمنوا معهم، وذلك في الحياة الدنيا، سواء كان هذا النصر في حياتهم أو عقب مماتهم وغيابهم عن هذه الدنيا. وبذلك لا ينبغي أن يقال : إن بعض النبيين عليهم الصلاة والسلام قتله قومه كيحيى وزكريا وشعيبا.
ومنهم من خرج من بين أظهرهم : إما مهاجرا كإبراهيم، وإما إلى السماء كعيسى ابن مريم، فأين النصرة في الدنيا ؟ فالمراد بالنصر هو الانتصار لهم ممن أذاهم سواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم فإن الله منتقم لعباده المؤمنين ممن آذاهم وظلمهم فيأخذهم بالنوازل والنقم جزاء اعتدائهم على أنبياء الله والمؤمنين. وإذا أخذ الله قوما بسبب ظلمهم وطغيانهم وعدوانهم على المسلمين فلا جرم أن يكو أخْذُه أليما شديدا، وأن ينتقم من الطغاة والمستبدين والمجرمين أفظع انتقام، فضلا عما يكتبه الله لدينه الحق، دين التوحيد – من الشيوع والظهور والانتشار.
قوله :﴿ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ ﴿ الأشهاد ﴾ يجوز أن يكون جمع شهيد. وأن يكون جمع شاهد١ والمراد بهم الأنبياء والحفظة ؛ فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب ؛ وأما الحفظة فيشهدون على بني آدم بما عملوا من الأعمال في الدنيا. وحينئذ تكون النصرة من الله لرسله والمؤمنين أجلَّ وأعظم.
قوله :﴿ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ يلحق المجرمين يوم القيامة اللعنُ من الله وهو الإبعاد والطرد من رحمته وفضله ﴿ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ أي لهم بئس المنزل والمقام في النار.
والأظهر المعنى الأول ويعززه قوله :﴿ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
قوله :﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ استغفر الله لذنب أمتك ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ أمره الله بالديمومة على عبادته والثناء عليه. أو أن يقول : سبحان الله وبحمده. وذلك بالعشي أي أواخر النهار وأوائل الليل. ﴿ والإبكار ﴾ أي أوائل النهار وأواخر الليل. وقيل : عبّر بالطرفين وأريد جميع الأوقات.
قوله :﴿ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ﴾ أي ما هم ببالغي موجب كبرهم وما يقتضيه وهو متعلق إرادتهم من دفع الآيات أو من طمع في الرياسة أو النبوة. وقيل : المعنى ما يحملهم على تكذيبك يا محمد إلا ما في صدورهم من الكبر عليك، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر ؛ لأن الله قد أذلهم وأخزاهم.
قوله :﴿ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ أي احْتَم بالله والتجئ إليه من كيد الذين يحسدونك ويبغون عليك. والله جل وعلا يسمع ما تقولون ويقولون. وهو كذلك بصير بكم وبما تفعلون ويفعلون، لا يخفى عليه من ذلك شيء. والله جل جلاله ناصرك ومؤيدك وعاصمك من كيد الظالمين والمتربصين والحاقدين ومكرهم١.
ذلك تنبيه من الله على حقيقة كونية مذهلة، وهي زوال الدنيا وفناء العالمين وقيام الساعة ليقوم الناس للحساب والجزاء. وهذه حقيقة أساسية مركوزة في صميم العقيدة الإسلامية ؛ بل هي ركن أساسي ركين أجمعت عليه الأديان السماوية كافة وجاء بها النبيون والمرسلون. فما يكذِّب بهذه الحقيقة الركينة الكبرى إلا كل خاسر ظلوم أو غافل تائهٍ جهول قد أودى بنفسه في الأذلين الأخسرين والله جل وعلا يؤكد على حقيقة القامة تأكيدا ؛ إذ يبين للناس أن بعث العالمين وإحياء الموتى للحساب أمر هين يسر على الله، بل ذلك أهون على الله م خلق هذا الكون الهائل المثير. وهو قوله سبحانه :﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ كلا المصدري وهما : خلق السماوات والأرض، وخلق الناس، مضاف لمفعوله، والفاعل محذوف وهو لفظ الجلالة١ والمعنى : أن خَلْقَ الله تعالى السماوات والأرض أعظم من خَلْقِهِ الناس ؛ لأن الناس بالنسبة إلى السماوات والأرض وما فيهما من الخلائق والأجرام العظام كأنهم لا شيء. والمراد من ذلك : أن من قدر على خلق الخلائق العظام والأجرام الهائلة الجسام لهو أقدر على خلق ما هو دو ذلك مما هو بالغ الهوان والبساطة.
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أكثر الناس ضالون غافلون عن هذه الحقيقة المبيَّنة في الآية فهم سادرون في الغفلة والعِماية، لاهون عن التفكر في جلال الله وفي عظيم شأه وجبروته.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ولاَ الْمُسِيءُ ﴾ لا : زائدة للتوكيد ؛ لأنه لما طال الكلام بالصلة أعاد معه ﴿ وَلاَ ﴾ توكيدا١ والمعنى : أن المؤمنين الذين يعملون الصالحات محسنون، وخلافهم الكافرون الفجار وهم مسيئون، ولا يستوي الفريقان ﴿ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾ ﴿ قليلا ﴾ صفة لمصدر محذوف ؛ أي تذكُّرًا قليلا تتذكرون. و ﴿ مَّا ﴾ صلة زائدة. وذلك هو دأب الإنسان في طول غفلت وكثرة إعراضه عن الحق وسرعة إقباله على الشهوات ومتاع الدنيا.
اختلف المفسرون في تأويل قوله :﴿ ادْعُونِي ﴾ وفي المراد بالاستجابة. فقد قيل : ادعوني بمعنى اعبدوني فيكون معنى الآية : اعبدوني أثبكم وأغفر لكم ؛ فالدعاء معناه العبادة ويؤيد هذا التأويل ورود الدعاء في كثير من الآيات بمعنى العبادة. وكذلك سياق الآية هنا وهو قوله بعد ذكر الدعاء ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ﴾ وفي ذلك روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الدعاء هو العبادة ".
وقيل : المعنى اسألوني أعطكم. فالدعاء معناه السؤال والطلب.
والصواب : شمول الدعاء للعبادة والسؤال. على أن التوجه إلى الله بالسؤال والطلب لهو ضرب من العبادة، بل إنه أعظم العبادة وأجلُّها. وفي الحديث الصحيح " الدعاء مخ العبادة " ولا يستنكف عن التضرع إلى الله بالطلب أو يستكبر عن السؤال لدفع الشر وتحقيق الخير إلا خاسر أثيم. وهو قوله سبحانه :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ أي صاغرين ذليلين. وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يسأل الله يغضب عليه " ١.
والمؤمن مدعُوٌّ في كل الأوقات أن يستعين بالله فيرتجيه ويسأله مستغيثا به، طالبا منه العون والصون والتوفيق لدفع المكاره والشرور واستجلاب الحسنات والخيرات والمسرات. وليس للمرء أيُّما غنى عن التضرع إلى الله بالدعاء وهو الطلب المكرور المتواصل في كل الأحيان، ليدعوه بقلبه الخاضع الخاشع، ولسانه الذاكر الشاكر من غير أن يستشعر في ذلك ملالة ولا سأما بل يدعو الله ويُلحُّ عليه في الدعاء والرجاء حتى يقضي له بُغيته إن شاء سبحانه. والله جل جلاله يفيض على عباده المؤمنين المخبتين المتضرعين من واسع ملكوته وعظيم فضله ورحمته ما يقضي به حاجات عباده المكروبين ويكفكف عنهم المكاره والنائبات ويُجنِّبهم المزالق والعثرات.
يبين الله نعمته على خلقه. وأنعهم كثيرة ومختلفة ومبسوطة في سائر أنحاء السماء والأرض ؛ فهو سبحانه ﴿ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ﴾ أي خلق الله الليل لعباده من أجل السكينة والاستقرار ؛ إذ يهجعون فيه فيجدون فيه الراحة والطمأنينة عقب السعي والكد والنصب طلبا للأرزاق والمعايش في النهار.
قوله :﴿ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾ أي جعله مضيئا لتبصروا فيه حوائجكم وتسعوا في طلب معايشكم.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ الله المتفضل على العباد بما أسبغ عليهم من جزيل النعم وعظيم الآلاء ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ أكثر الناس يجحدون نعمة الله عليهم فلا يشكرونه بالطاعة والخضوع وإفراده بالعبادة والإذعان وذلك إما بسبب كفرهم وجحودهم، أو لطول غفلتهم عن ذكر الله وشكره.
قوله :﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ أي كيف تنقلبون عن دين الله الحق، وتنصرفون عن عبادة الله وحده إلى غيره من الشركاء والأنداد المصطنعين بعد أن تبين لكم من الدلائل أن الله هو الخالق المنعم المقتدر.
قوله :﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ أي خلقكم في أحسن خلقة وجعلكم في أحسن هيئة من جمال الشكل والمنظر، وبديع السمت والتناسق في الأجزاء والأعضاء والقسمات والمركبات ﴿ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ رزقكم من مختلف المطاعم والمشارب ما تتنعمون وتتلذذون.
قوله :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ﴾ الذي لا تنبغي الإلهية والعبادة والإذعان إلا لجلاله ؛ فهو الخالق المالك المقتدر المنّان.
قوله :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ تعظم الله وتقدس في عليائه فهو خالق كل شيء وهو مالك ما في العالمين من إنس وجن وغيرهم من أجناس الخَلْق.
قوله :﴿ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ أي أفردوه وحده في الإلهية ولا تتخذوا من دونه شركاء وأندادا. فاعبدوه مخلصين له الطاعة والعبادة ؛ فإنه الإله الخالق المالك رب كل شيء وإليه المآب.
قوله :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ لله الثناء الحسن وله وحده الشكر الكامل على ما أنعم به وتفضل ؛ فله الحمد والمنّةُ دائمين لا ينقطعان. وفي ذلك روي عن ابن عباس أنه قال : من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها : الحمد لله رب العالمين. ١
يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس : إنني نهاني ربي أن أشرك به شيئا أو أتخذ معه أندادا آلهة مما تعبدونهم أنتم من مختلف الأوثان ﴿ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي ﴾ أي جاءني من الله آيات واضحات وهي آيات الكتاب الحكيم، أو دلائل وحجج على وحدانية الله، وأنه المتفرِّد بالخلْق والإلهية.
قوله :﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ أمرني ربي، وهو رب كل شيء ومالكه والمتصرف بتدبيره – أن أخضع له وحده وأذعن لجلاله بالطاعة والعبادة والإخبات. وهو سبحانه الجدير بالإذعان والاستسلام دون غيره ؛
قوله :﴿ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى ﴾ أي لتبلغوا أجلا محدودا لا تجاوزنه ولا تسبقونه وهو الموت ؛ فهو مصير كل واحد، لا يستأخر عنه ولا يستقدم.
قوله :﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أي بيَّن الله لكم هذه الأخبار عن خَلْقكم ؛ إذْ تصيرون خلقا من بعد خلْق سواء في الأرحام أو خارجها، لتتعظوا بذلك وتعتبروا فتوقنوا أن الله حق، وأنه وحده خَليقٌ بالعبادة والطاعة.
قوله :﴿ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾ إذا أراد أن يخلق شيئا أو يفعل أمرا من الأمور ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي يقول للذي يريد تكوينه أو خلْقه ﴿ كُنْ ﴾ فإنه يكون دون تردد أو تخلف. ودون نَصَب من الله أو معاناة. ١
يندّد الله بالظالمين الذين يُمارون في آيات الله الباطل. وهو قوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ﴾ استفهام تعجيب من هؤلاء المشركين المكذبين الذين يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في آيات الله وحججه ودلائله الواضحة. وعن شرعه السديد. وقيل : المراد بهم القدرية. وهم أهل القدر. وهذه فرقة من الفرق الإسلامية كانوا يزعمون أن الإنسان قادر على إتيان ما يفعله.
والصواب أنها في المشركين المكذبين بآيات الله. ويستدل على هذه الآية التي بعدها وهي قوله :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ ﴾
قوله :﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ وذلك وعيد وتهديد من الله لهؤلاء المشركين الذين يجادلون في آيات الله بغير حق ويكذبون بما جاء به المرسلون.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴾ أي مثل ذلك الإضلال يضل الله كل كافر به، مكذب بآياته ورسله.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴾ أي مثل ذلك الإضلال يضل الله كل كافر به، مكذب بآياته ورسله.
قوله :﴿ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ أي بئس منزل المتكبرين عن دين الله ومقامهم في جهنم١.
يدعو الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يصبروا. فما من مؤمن إلا هو مدعوٌّ للصبر على البلاء والمكاره. والصبر خصلة عظيمة حميدة من خصال المؤمنين الذين يدعون الناس إلى منهج الإسلام الحق. وهو عدة المؤمنين المتقين ؛ إذ تنزل بهم النوائب وتجتاحهم المحن ويعتدي عليهم الظالمون والمجرمون. وههنا يخاطب الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم آمرا إياه بالصبر وهو قوله :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ أي اصبر يا محمد على خصومة المشركين وإيذائهم لك وعلى تكذيبهم إياك فإن الله منجز لك ما وعدك من الغلبة والظهور عليهم وإنزال العقاب بهم في الدنيا والآخرة، ووعد الله حق وصدق ولن يخلف الله وعده.
قوله :﴿ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ﴾ يعني إما ﴿ نُرِيَنَّكَ ﴾ في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من الانتقام أن يحل بهم. وما، في قوله :﴿ فَإِمَّا ﴾ زائدة على الشرط للتأكيد. والأصل : فإن نرك ولحقت بالفعل نون التوكيد ﴿ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ﴾ معطوف على ﴿ نُرِيَنَّكَ ﴾ أي نتوفينك قبل إنزال العقاب بهم ﴿ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ أي مصيرهم إلينا يوم القيامة وحينئذ نحكم بينك وبينهم بالحق ؛ إذ يكبكبون في النار ويكرمك الله في جنات النعيم.
قوله :﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي ليس لرسول من المرسلين أن يأتي قومه بمعجزة من المعجزات أو خارق من الخوارق إلا أن يأذن الله له في ذلك فيتبين أنه صادق ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ﴾ أي إذا جاء الوقت المسمى لإهلاكهم قضى الله حينئذ بالعدل وهو أن ينجي رسله والذين آمنوا معهم ﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ وهم أهل الباطل من الظالمين والجاحدين والمكذبين، فإنهم يبوءون بالهلاك وسوء المصير١.
يمنُّ الله على عباده أنه خلق لهم الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ﴿ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا ﴾ أي لتركبوا بعضا منها مما يصلح للركوب ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ أي ولتأكلوا من بعضها مما يصلح للأكل. فالإبل تركب ويؤكل لحما ويحمل عليها الأثقال في الأسفار البعيدة وقطع المسافات النائية. والبقر يؤكل لحمها ويشرب لبنها ويحرث عليها الأرض. والغنم يؤكل لحمها ويشرب لبنها.
قوله :﴿ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ﴾ أي لتبلغوا بالحمولة على بعضها وهي الإبل ما لا تستطيعون بلوغه من دونها إلا بشق النفس.
قوله :﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ أي وعلى هذه الإبل وغيرها من الأنعام الحوامل وعلى الفلك وهي السفائن تُحملون أنتم وأمتعتكم وحاجاتكم.
قوله :﴿ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ﴾ أيَّ، استفهام منصوب بقوله :﴿ تُنْكِرُونَ ﴾ ١.
ذلك توبيخ وتعنيف لهؤلاء المشركين المكذبين الذين كانوا يخاصمون في دين الله بالباطل وكانوا يكذبون بيوم القيامة، فيقول الله لهم :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾
يعني أفلم يسر هؤلاء المشركون الذين يحادون في آيات الله من مشركي قومك – في البلاد، فهم أهل سفر وتجارات وتجوال ﴿ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ أي فيروا ما حل بالجاحدين من سوء العاقبة حيث البلاء والنكال بسبب كفرهم وتكذيبهم، مع أنهم ﴿ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ ﴾ كان المشركون الأقدمون أكثر من هؤلاء عددا وتنفيرا وكانوا أعظم منهم بأسا وقوة في الأجساد والأموال وقد أثاروا الأرض وعمروها ؛ إذْ شادوا فيها المصانع والعمائر والبنيان ﴿ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ ﴿ مَّا ﴾، نافية ؛ أي لم يغن عنهم ما اكتسبوه شيئا ولا دفع عنهم من بأس الله وانتقامه مثقال ذرة. وقد تكون ﴿ مَّا ﴾ استفهامية. فيكون المعنى : ماذا أغنى عنهم ما كسبوه من الأموال والخيرات والعمران والقوة حين نزل بهم الهلاك ؟ !
والمراد بالذين فرحوا، الكافرون من الأمم السابقة، فقد أخذهم الغرور والجهالة وظنوا أنهم أولو علم يستغنون به عما جاءهم به النبيون، فلم يلتفتوا إليهم بل كذبوهم وأذوهم وتولوا عنهم مدبرين. وظنوا – واهمين – أنهم مستغنون بعلمهم عنهم. من أجل ذلك أخذهم الله بالعذب والنكال. وهو قوله :﴿ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي نزل بهم، أو أحاط بهم ما كانوا يستهزئون به ويستبعدون وقوعه وهو العذاب.
والمعنى : أن الله قد سنّ في الكافرين، أو حكم فيهم أنه لا ينفعهم الإيمان إذا عاينوا العذاب. وبذلك فإن التوبة عقب رؤية العذاب لا تقبل. وفي الحديث : " إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " وذلكم هو حكم الله في الذي يتوب عند معاينة العذاب، فإن توبته لا قيمة لها.
وقيل :﴿ سُنَّةَ ﴾ منصوب على التحذير ؛ أي احذروا سنة الله في إهلاك الكافرين.
قوله :﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ إذا نزل العذاب بالكافرين فرأوه وعاينوه أيقنوا حينئذ أنهم خاسرون هلكى وأنهم صائرون إلى العذاب المقيم في النار، فبئس النُّزُلُ والقرار. ١