ﰡ
مصدر القرآن الكريم
لقد أدرك الكافرون من العرب والمؤمنون أن القرآن العظيم كلام الله تعالى، لاختلافه التام عن كلام البشر من أدب وشعر، ونثر وخطابة، ولتفوقة في البلاغة والفصاحة، ولسموه في النظم والمعنى والانسجام، إلا أن من لم يؤمن به عائد وتحدى، حفاظا على المراكز والمصالح، ومن بادر إلى الإيمان به، استجاب لنداء العقل والحكمة، واختار لنفسه طريق السعادة والنجاة، وحمى نفسه من التردي والضياع والخسران. وهذا ما قررته الآيات الشريفة الآتية بكل ثقة وبداهة في أول سورة غافر أو المؤمن التي هي مكية:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤)كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)
«١» «٢» [غافر: ٤٠/ ١- ٦]
(٢) أي ليبطلوا ويزيلوا به الحق. [.....]
حم: حروف مقطعة للاستفتاح والتنبيه لخطر ما بعدها، وللتحدي بالإتيان بمثل آي القرآن في الفصاحة والبلاغة، والإحكام في النظم والمعنى، لأنه لم يخرج تركيبه عن الحروف العربية، مثل هذين الحرفين: حم، ثم إن تنزيل القرآن الكريم على قلب النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم من الله الغالب القوي القاهر، الواسع العلم بخلقه وبكل أقوالهم وأفعالهم، فأنت أيها النبي صادق في قولك: إنك رسول الله، وإن القرآن من عند الله. والله منزّل القرآن: هو غافر الذنب الصادر من الإنسان، وقابل التوبة الخالصة منه، وشديد العقاب لمن عاداه، وذو الفضل والسعة والنعمة والمن بكل نعمة، ينعم بمحض إحسانه، وهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا نظير، وإليه مرجع الخلائق كلهم. هذه ست صفات لله عز وجل تضمنت وعيدا بين وعدين، وعيدا بالعقاب، ووعدا بمغفرة الذنب وبالإمداد بالنعم، وهكذا رحمة الله تعالى تغلب غضبه. قال عمر رضي الله عنه: «لن يغلب عسر يسرين» مشيرا لقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) [الشرح: ٩٤/ ٥- ٦].
ولا يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا بالله، فهم يجادلون بالباطل، أي جدالا باطلا، فلا تغتر أيها النبي أو تظن أن وراء تقلبهم وإمهالهم خيرا لهم، ولا يغتروا بإملاء الله تعالى لهم، أي ولا تنخدع بتصرفهم وتمتعهم بالمساكن والمزارع والأسفار، وتنقلهم في بلاد الله للتجارة وتحقيق الأرباح، وجمع الأموال، فإنهم معاقبون عما قليل، وعاقبتهم في النهاية: الدمار والهلاك.
ثم ذكر الله تعالى أن لهم مثلا بمن تقدمهم من الأمم السابقة، فكما حل العقاب بأولئك، كذلك ينزل بهؤلاء، فلقد كذبت قبل جماعة قريش قوم نوح والأحزاب
وعزمت كل أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم المرسل إليهم على أخذه، لحبسه وتعذيبه، أو قتله، أو طرده، وجادلوا الرسل بالشبهة المزيفة، وبباطل القول وزخرف الكلام، لرد الحق، وإبطال الإيمان الصحيح.
وقوله تعالى: لِيَأْخُذُوهُ معناه: ليهلكوه، والأخيذ: القتيل أو الأسير، فأخذهم الله، أو أهلكم ودمرهم.
فانظر كيف كان عقابي الذي عاقبتهم به؟ فإنه كان مهلكا مستأصلا. فيكون قوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ تعجيب وتعظيم، وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر.
ثم أكد الله تعالى هذا المعنى بقوله: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ.. أي وكما أخذت أولئك المذكورين وأهلكتهم، فكذلك حقت كلماتي، ووجب عذابي على جميع الكفار، من تقدّم منهم ومن تأخر، أنهم أهل النار وسكانها. وهذه كلها عبارة عن تحتم القضاء عليهم، فما دام السبب واحدا أو العلة واحدة، فإن الجزاء أو العذاب واحد، وهو استحقاقهم النار.
إن عدالة القرآن الكريم، وبيانه البديع، وقانونه الحق المبرم يتطلب كل ذلك الإذعان لدعوته وامتثال أمر الله وطاعته، والحذر من مخالفته وعصيانه، ولو لم يكن ذلك منهج القرآن الذي يسوّي بين جميع البشر في الحساب والجزاء، لما أيقن أهل الإيمان بقدسيته، ولما جعلوه بمثابة الروح والقلب والدم في نفوسهم، بل الذي لا يعلوه شيء ولا يتقدم عليه شيء.
كرّم الله تعالى أهل الإيمان بأنواع متعددة من التكريم والتشريف، سواء في الدنيا أو في الآخرة، ومن ذلك أن الملائكة حملة العرش والذين هم حول العرش وهم أفضل الملائكة يستغفرون للمؤمنين، ويسألون الله تبارك وتعالى لهم الجنة والرحمة.
وما أحوج الإنسان إلى رحمة الله وفضله!! وما أكرم المؤمن الذي يحظى بدعاء الملائكة، وبقبول الله لهذا الدعاء المخلص المجاب من رب العزة، كما جاء في بعض الآيات: كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا [الفرقان: ٢٥/ ١٦]. أي سألته الملائكة فأجيبوا.
وجاء تفسير مجمل هذا الدعاء في آية أخرى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى:
٤٢/ ٥]. وهذا الدعاء والتكريم الملائكي للمؤمنين: هو مضمون الآيات الآتية:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧ الى ٩]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
[غافر: ٤٠/ ٧- ٩].
المعنى: إن الملائكة حملة العرش ومن حول العرش وهم الكروبيون أفضل الملائكة ينزهون الله تعالى عن جميع النقائص، ويحمدونه على نعمه البالغة، ويصدّقون بوجود الله ووحدانيته، ولا يتكبرون إطلاقا عن عبادته، ويطلبون المغفرة السابغة للذين آمنوا بالله وبالغيب، لا للذين كفروا بالله ومغيباته، إذ لا يجوز الاستغفار للكفار إلا بمعنى طلب هدايتهم والمغفرة لهم بعد ذلك، كاستغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه.
واستغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمنافقين: معناه أن يهديهم الله ثم يستقيموا.
ومضمون دعاء الملائكة بالاستغفار هو:
يا ربنا الذي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، اغفر واستر واصفح عن المؤمنين الذين تابوا عن الذنوب، واتبعوا سبيلك ودينك في القرآن، واحفظهم من عذاب الجحيم- عذاب النار.
ربنا وأدخل المؤمنين جنات عدن، أي جنات الإقامة الدائمة التي وعدتهم بها على ألسن الرسل، وأدخل معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم المؤمنين الصالحين، اجمع بينهم وبينهم، تكميلا لنعمتك وفضلك، إنك أنت القوي الغالب الذي لا يقهر، الحكيم في أقوالك وأفعالك من شرعك وقدرك.
روي عن سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية: أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته، فيقول: أين أبي؟ أين أمي؟ أين زوجتي؟ فيلحقون به لصلاحهم، ولتنبيهه عليهم وطلبه إياهم، وهذه دعوة الملائكة.
ولم يقتصر دعاء المؤمنين على طلب إدخال الجنان، وإنما شمل طلب الحماية من العذاب أو العقاب، فيا ربنا احفظ المؤمنين من ألوان العقاب والعذاب وجزاء المعاصي التي ارتكبوها، بأن تغفر لهم، ولا تؤاخذهم بشيء منها، واحمهم من آثار السيئات، فمن وقيته من السيئات يوم القيامة، فقد شملته برحمتك، وأنجيته من عذابك، وذلك هو الفوز الأكبر الذي لا فوز أفضل منه. وقوله تعالى: وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ يحتمل معنيين:
الأول: يحتمل أن يكون الدعاء في أن يدفع الله عنهم السيئات نفسها حتى لا ينالهم عذاب من أجلها.
إن فائدة استغفار الملائكة للمؤمنين التائبين الصالحين هي زيادة الكرامة والثواب، وتحقق الإجابة لهذا الدعاء، لأن دعاءهم وسؤالهم بوعد من الله تعالى، لا خلف فيه.
ومن مزيد فضل الله وتكريمه: إخباره في قرآنه المجيد عن هذا العون والمدد: بأن الملائكة تستغفر لأهل الإيمان، كما تستغفر أيضا لطلاب العلم، كما
جاء في الحديث النبوي الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحة والبيهقي عن أبي الدرداء الذي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهّل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء..».
أهوال الحساب يوم القيامة
لا يتصور إنسان تصورا واعيا مدى المخاطر والأهوال والمخاوف التي يتعرض لها الكفرة في عالم الحساب يوم القيامة، ولولا القرآن الكريم الذي رسم صورة مرعبة لحال الكفار في ذلك اليوم الرهيب، لما أدركنا تلك الأهوال أو تصورناها، وإشفاقا على هذا الإنسان المتمرد في الدنيا عن الإيمان بربه والعمل بأوامر الله، كيف يتحمل تلك الأهوال وألوان العذاب والهزات والآلام الشديدة؟! ولكن العلاج سهل وتفادي الويلات المرتقبة أمر يسير جدا، وهذه مهمة القرآن الكريم في الإنذار والتحذير، كما ترسم هذه الآيات:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٠ الى ١٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤)رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)
«١» «٢» «٣» «٤» [غافر: ٤٠/ ١٠- ١٧].
هذه أحوال الكافرين، ذكرت عقب بيان أحوال المؤمنين من التكريم بدعاء الملائكة لهم، ليتبين الفرق، وتتبين المعادلة أو الموازنة بين الفريقين على نحو واضح كالشمس، وهذه الفوارق هي ما يلي:
- تنادي الملائكة الكفار يوم القيامة، وهم يعذبون في نار جهنم: بأن تعذيب الله وغضبه عليهم في الآخرة أشد وأكبر من مقت أنفسهم ولومها على ما قدموا من سوء الأعمال في الدنيا حين أعرضوا عن الإيمان بالله تعالى، ودعوا إليه، فكفروا وتمردوا.
- فيجيب الكفرة مستغيثين مستنجدين قائلين: يا رب، لقد أمتنا مرتين حين كنا نطفا في الأصلاب، وذرأت في عالم الذر، وحين صرنا أمواتا بعد حياة الدنيا، وأحييتنا مرتين أيضا: حياة الدنيا، وحياة البعث والنشور من القبور، فاعترفنا
(٢) مرتفع الصفات، منزه عن مشابهة المخلوقات.
(٣) أي الوحي الإلهي.
(٤) يوم اجتماع الخلائق للحساب بين يدي الله تعالى.
ومن كمال عظمة الله وقدرته: أنه سبحانه هو الذي يظهر لكم دلائل توحيده، وعلامات قدرته في آيات الكون العظيمة، الدالة على مبدعها وخالقها، وينزل لكم من السماء المطر، يكون سببا في الرزق والنماء، ونتاج الزروع والثمار، ولكن لا يتعظ بتلك الآيات إلا الراجع إلى ربه، الخاشع المطيع، فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء، ولو كره الجاحدون المنكرون منهجكم ذلك.
ومن صفات الله العالية: أنه رفيع الصفات، منزه عن مشابهة المخلوقات، صاحب العرش والسلطان المطلق، ينزل الوحي على من يريد من عباده ويصطفيه، لينذر بهذا الوحي الناس من العذاب، يوم اجتماع الخلائق للحساب في محشر القيامة.
ومن صفات القيامة: أن يوم التلاق أو اجتماع الناس للحساب هو اليوم الذي يكونون فيه ظاهرين للعيان، أي مرئيين بالعين المجردة، لا يسترهم شيء لاستواء الأرض وهم خارجون من قبورهم، ويكون فيه الملك المطلق والسلطان الشامل لله
إن يوم القيامة: هو يوم الجزاء والحساب والعقاب والثواب بحسب عمل كل عامل، من خير أو شر، صالح أو سيئ، ولا ظلم في الحكم فيه على أحد، فلا زيادة في العقاب، ولا نقص من الثواب، وإن الله في هذا الموقف سريع الحساب لعباده على أعمالهم في الدنيا، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا واحدة، كما جاء في آية أخرى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: ٣١/ ٢٨]. وهذا نص واضح على أن الثواب أو العقاب على اكتساب العبد وعمله، وعلى إحاطة الله بالأشياء علما.
إنذارات من مخاوف القيامة
حرص الحق سبحانه وتعالى في قرآنه على تقويم الإنسان وضمان حياة السعادة والنجاة له، فقدّم له الإنذارات المتتالية، والتحذيرات المتعاقبة، ولا سيما من أهوال القيامة ومخاطرها، وهو يوم الآزفة، ليبادر الناس جميعا للإيمان، ويتجنبوا الشرك والعصيان، فإن فعلوا حققوا الخير لأنفسهم، وإن تمردوا وعصوا، جلبوا الدمار والهلاك لذواتهم، ولا يغنيهم أي شيء قدموه أو يقدمونه عن الجزاء العادل، والحساب الرهيب عن سوء أعمالهم، وفحش منكراتهم. وإذا كان الأمر خطيرا تفادينا أسبابه، والسبب النافع يحقق ثمرة طيبة، والسبب العقيم يؤدي إلى نتيجة وخيمة، قال الله تعالى واصفا إنذاراته:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)
«١» «٢»
(٢) أي ممتلئين غما شديدا، والحناجر: جمع حنجرة وهي الحلقوم.
المعنى: خوّف أيها الرسول أهل الكفر من يوم القيامة، ليؤمنوا ويتركوا الشرك والضلال، حيث تكون القلوب في ذلك اليوم كأنها زائلة عن مواضعها من الخوف، وترتفع حتى تصير إلى الحلوق، ويكون أصحابها ممتلئين كربا وغما شديدا، ولا يكون للظالمين الكافرين قريب ينفعهم، ولا شفيع يشفع لهم، أو تقبل شفاعته بهم.
وقوله تعالى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ معناه عند الحناجر، قد صعدت من شدة الهول والجزع.
وهذا يصور حال الرعب والخوف أو الذعر الذي يكون عليه الكفار يوم القيامة، والله تعالى يعلم النظرة الخائنة، التي ينظرها الإنسان إلى ما حرّم الله عليه، أي يعلم الاختلاسة التي تختلس النظر إلى المحرّم وتسارقه، ويعلم الله أيضا كل ما تسرّه الضمائر من أمور خيّرة أو شريرة،. وما تخفيه الصدور من الرغبات والنوايا والخواطر.
والنظرة الخائنة: هي النظرة الثانية، وما تخفي الصدور: أي عند النظرة الأولى التي لا يمكن للمرء دفعها. وقوله تعالى: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ متصل بقوله: سَرِيعُ الْحِسابِ لأن سرعة حسابه تعالى للخلق، إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى رؤية وفكرة، ولا لشيء مما يحتاجه الحاسبون. والله يحكم بالحكم العادل، ويجازي كل
ثم أنذر الله تعالى الكافرين، وخوّفهم من عقاب الدنيا، بعد أن حذّرهم من عذاب الآخرة، فأرشدهم إلى الاعتبار والاتعاظ بغيرهم، أفلم يمش هؤلاء المكذبون برسالتك أيها النبي محمد، فينظروا مآل الغابرين المكذبين أنبياءهم، وما حلّ بهم من عذاب الاستئصال والانتقام، مع أنهم كانوا أشد قوة من قومك أهل مكة وأمثالهم، وأبقى آثارا، بما عمروا في دنياهم من حصون وقصور، وأشادوا من مدن وقلاع، فأهلكهم الله بذنوبهم ومنكراتهم، ولم يكن لهم من الله من واق، أي ساتر مانع يقيهم السوء، ويدفع عنهم العذاب. وهذا تحذير شامل للكافرين في كل زمان، حيث يجب عليهم أن ينظروا بما حل بالأقوام الغابرين.
وعلّة هلاكهم وتدميرهم أو أخذهم وإماتتهم: بسبب أن رسلهم كانوا يأتونهم بالحجج الواضحة على الإيمان الحق، فكفروا بما جاءوهم به، فأهلكهم الله، ودمر ديارهم عليهم، إن الله ذو قوة شديدة، وبطش كبير، وذو عقاب مؤلم جدا، يفعل كل ما يريد، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل من متعظ؟
وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى أخذ الله الكفار بذنوبهم، وإن لم يكن لهم منه واق أو حافظ مانع. وسبب إهلاك الماضين هو ما عليه قريش في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث جاءهم رسول من الله تعالى، مؤيد بالمعجزات والبراهين، فكفروا به، فأهلكهم الله، وقد وصف الله نفسه بالقوة وشدة العقاب، وكل ذلك وعيد لقريش وأمثالهم.
إن الصراع الحاد بين الخير والشر، وبين دعوة الإصلاح ومعارضيها أمر قديم في الإنسان، ولكن مهما كانت المقاومة شديدة، فإنه لا يأس ولا قنوط، فقد يهتدي بعض الراشدين العقلاء، ويظل أولو النفوذ والسلطة والمصلحة على غيهم وضلالهم وتمسكهم بمواقفهم، على الرغم من معرفة الحق وقوته، وضعف الباطل وجهالته، وهذا موقف من هذه المواقف التي تتصادم فيها دعوة المصلحين مع مصالح المتسلطين، وهو موقف فرعون من رسالة موسى عليه السّلام، وصف الله تعالى هذا الموقف بقوله:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
«١» «٢» [غافر: ٤٠/ ٢٣- ٢٧].
هذه قصة عجيبة في تاريخ الدعوة إلى الله تعالى، فيها للنبي صلّى الله عليه وسلّم إيناس وتثبيت وأسوة، وفيها لقريش والكفار وعيد وتخويف وإرهاب أن يحل بهم ما حلّ بأولئك من النقمة، وفيها للمؤمنين وعد، ورجاء بالنصر والظفر وإدراك عاقبة الصبر.
تبدأ القصة بقسم الله تعالى أننا: لقد أرسلنا موسى بالمعجزات الدالة على صدقه، وأيدناه بحجة بينة واضحة، مضمونها تحدي فرعون بالعصا واليد وغيرهما من الآيات
(٢) أي استجرت واستعنت واستعذت.
فلما أتى موسى عليه السّلام بالحق، أي بالبرهان القاطع الدال على أن الله أرسله إلى فرعون وقومه، بمعجزاته الظاهرة، قال الطغاة: عودوا إلى قتل الذكور. وترك النساء أحياء، لئلا يكثر جمعهم، ويضعف شأنهم، وما مكر الكافرين وقصدهم تقليل خصومهم إلا في ضياع وذهاب سدى، لا فائدة منه.
وقال فرعون لقومه: دعوني أقتل موسى، وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله إليهم، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك.
وسبب القتل: أني أخشى عليكم يا شعب مصر أن يغير منهاج دينكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام، ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده، أو أن يوقع بين الناس الخلاف والفتنة والإفساد، فتكثر الخصومات والمنازعات.
والظاهر من هذا الموقف لفرعون: أنه بهر بآيات موسى ومعجزاته، وانهدّ ركنه، واضطربت معتقدات أصحابه، فلجأ إلى التهديد بالقتل. وهذا سلاح الجبّارين المتمكنين من إنفاذ أوامرهم. فإذا اعتز فرعون بجبروته وبطشه وقوته، فإن موسى عليه السّلام اعتصم بالله تعالى، وقال داعيا ربه لما سمع قول فرعون وتهديده له بالقتل لأنه كان معه في مجلس واحد: إني استجرت بالله، وعذت به من شره وشر أمثاله من كل متعاظم متعال مستكبر عن الإذعان للحق، كافر مجرم لا يؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء.
وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا خاف قوما قال: «اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم».
إن هذه المواجهة الكلامية الساخنة غير متكافئة في عرف الناس، فإن فرعون الملك الحاكم الجبار يعتمد على قوى كثيرة، وجند مدججين بالسلاح، وأما موسى بمفرده أو مع أخيه هارون لا يملكان مثل تلك القوى الظاهرة المادية، ويحكم الناس عادة على الضعيف بالهزيمة، ويغيب عنهم أن الضعيف يتقوى بقوة الله تعالى، فيتغلب على جميع القوى بتأييد الله تعالى.
دفاع مؤمن آل فرعون عن موسى عليه السّلام
لقد طاش عقل فرعون وصوابه أمام معجزات موسى عليه السّلام، فلجأ إلى التهديد بقتل موسى عليه السّلام، وزاد من ارتباكه واضطرابه مقالة رجل مؤمن من قومه وما صدع به، فدافع عن موسى بأوجه ثلاثة:
الأول- استنكار قتل موسى المؤمن بربه.
الثاني- تحذير القوم بأس الله في الدنيا والآخرة بتكذيب الرسل.
الثالث- تذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف عليه السّلام، من تكذيب رسالته ورسالة من جاء بعده.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [غافر: ٤٠/ ٢٨- ٣٥].
هذا موقف خالد لرجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، أثبته الله في المصاحف، لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر، وأثنى عليه إلى الأبد، لقد قال هذا الرجل:
كيف تقتلون رجلا لا ذنب له إلا أنه قال: الله ربي؟ والحال أنه قد جاءكم
(٢) غالبين متفوقين على بني إسرائيل.
(٣) مثل أيام الأمم الماضية أي وقائعهم.
(٤) مثل عادة وجزاء ما كانوا عليه من الكفر.
(٥) يوم القيامة، ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة. [.....]
(٦) حجة قوية.
وأضاف الرجل حججا ستا أخرى لتأييد كلامه وهي:
١- إن كان هذا الرجل، أي موسى كاذبا في دعوته، كان وبال كذبه عليه، فاتركوه، وإن كان صادقا في دعواه يصبكم بعض الذي يعدكم به إن خالفتموه من العقاب الدنيوي والأخروي، فاتركوه أيضا في دعوته.
٢- لو كان موسى مسرفا متجاوزا الحد في قوله، كذابا في ادعائه النبوة، لما هداه الله إلى المعجزات المؤيدة له، ولخذله الله وأهلكه.
٣- يا قومي، قد أنعم الله عليكم بهذا الملك الواسع، وأنتم الغالبون على بني إسرائيل في مصر، فمن الذي يمنعنا من عذاب الله إن حل بنا؟! فقال فرعون مجيبا الرجل المؤمن: ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي، وما أدلكم إلا طريق الصواب الذي يحقق الفوز والغلبة، وهو قتل موسى.
٤- وقال المؤمن: إني أخشى عليكم إن كذبتم موسى أن يصيبكم مثل ما أصاب الأقوام الذين تحزّبوا على أنبيائهم، وكذبوا رسلهم من الماضين، مثل عادة قوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم كقوم لوط، فقد حل بهم عذاب الله تعالى، ولم يجدوا ناصرا لهم ينصرهم، ولا عاصما يحميهم، ولا يريد الله إلحاق ظلم بعباده، فلم يهلكهم بغير جرم شديد أو كبير. وهذا تخويف بالعذاب الدنيوي.
٥- ثم خوفهم العذاب الأخروي بقوله: يا قومي، إني أخشى عليكم عذاب يوم القيامة، حين ينادي الناس بعضهم بعضا للاستعانة والاستنجاد، وحين تفرّون هاربين من النار، لا تجدون واقيا ولا عاصما مانعا يعصمكم من عذاب الله ويحميكم منه، ومن يضلّه الله، فلم يوفقه للرشد والصواب، فلا مرشد له غيره.
وكما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين بالباطل المسرفين، فكذلك يطبع أو يختم على جميع قلوب المتكبرين الجبارين.
تحديات فرعون وإصرار الرجل المؤمن في الدفاع عن موسى
احتدم الجدال بين فرعون والرجل المؤمن من قومه وأتباعه حول شأن موسى عليه السّلام، فلجأ فرعون إلى التحدي الحسي، وإقامة برج شاهق في السماء للاطلاع على إله موسى، مقرا به أولا، ثم مكذبا به ثانيا، وصمم الرجل المؤمن على موقفه المدافع عن موسى عليه السّلام، ونصح قومه ودعاهم إلى الإيمان بالله وحذّرهم من الاغترار بالدنيا، وحثهم على العمل للآخرة لدوامها، وقارن بين دعوته لهم إلى الإيمان بالله تعالى طريق النجاة، وبين دعوتهم إياه لعبادة الأصنام طريق الهلاك والعذاب، وهذا في الآيات الآتية:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٦]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠)وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
«١» «٢» «٣» «٤» [غافر: ٤٠/ ٣٦- ٤٦].
المعنى: نادى فرعون وزيره هامان والناظر في أموره قائلا: يا هامان ابن لي قصرا مشيدا عاليا، لعلي أصل إلى طريق السماء، فأبحث عن إله موسى، وهو لا يريد بذلك إلا الاستهزاء منه وإنكار رسالته، وإني لأظن موسى كاذبا في ادعائه بأن له إلها غيري.
ومثل ذلك التزيين المفرط في الحماقة والبلادة، زين لفرعون الجبار سوء عمله وقبح صنعه، من الشرك والتكذيب، فتمادى في الغي والطغيان، وحجب عن طريق الهدى والعدل والصواب، ولم يكن كيده أو مكره إلا في خسار وضياع، ثم تابع
(٢) أي الطرق.
(٣) خسار وهلاك.
(٤) أي حقا، أو لا جرم:
بمعنى ثبت ووجب.
من ارتكب معصية، فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها، عدلا من الله، ومن عمل العمل الصالح: وهو اتباع أمر الله واجتناب نهي الله، وهو مصدق بالله وبرسله، فهؤلاء هم لا غيرهم أهل الجنة التي يرزقون فيها رزقا وفيرا بغير عدّ وتقدير، ولا مقصور على حجم العمل، فضلا من الله ونعمة، أي إن جزاء السيئة مثلها فقط، وجزاء الحسنة لا يقتصر على المثل، بل يتجاوزه لما شاء الله.
ويا قومي، أخبروني عنكم، ما بالي أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة، بالإيمان بالله تعالى وعبادته وطاعته وتصديق رسله، وتدعونني إلى عمل أهل النار، وهو الشرك وعبادة الأصنام؟! أي إن الدعاء إلى طاعة الله وعبادته وتوحيده: هو الدعاء إلى سبب النجاة، ودعاؤهم إياه دعاء إلى سبب دخول النار. ثم فسر الفرق بين الدعوتين في أن الواحدة كفر وشرك، والأخرى دعوة إلى الاعتزاز بالله تعالى وغفرانه.
إنكم تدعونني لأمر خطير: وهو الكفر بالله والإشراك به، مما لم يقم أي دليل على صحته وقبوله، وأنا أدعوكم إلى الإيمان بالمتصف بصفات الألوهية الحقة، من العزة الكاملة، والعلم الشامل، والإرادة التامة، والمغفرة الواسعة، والتعذيب الشديد، فآمنوا به يغفر لكم ويعزكم. وحقا إن دعاءكم لعبادة الأصنام والأنداد ليس لها أي دعوة مستجابة، فلا تجيب الداعي، سواء في الدنيا والآخرة، والواقع المتحقق أن مرجعنا ومصيرنا إلى الله بالموت، ثم بالبعث في الآخرة، فيجازى كل إنسان
وسوف تتذكرون وتدركون صدق قولي لكم من الالتزام بأوامر الله ونواهيه وثمرة نصحي وإرشادي، حين ينزل بكم العذاب، وإني أفوض أمري إلى الله وأستعين به ليعصمني من كل سوء، فإن الله مطلع على أمور عباده، خبير بهم، فيهدي مستحق الهداية المستعد لها، ويضل مستحق الضلالة الحريص عليها.
وأما مصير الرجل المؤمن من آل فرعون: النجاة، حيث حفظه الله، وحماه في الدنيا، من سوء مكرهم، وتآمرهم على قتله، وأحاط سوء العذاب بآل فرعون في الدنيا بالغرق في البحر، وسيعذبون في الآخرة.
ويعرض آل فرعون بأرواحهم في قبورهم على النار في الصباح والمساء من أيام الدنيا إلى قيام القيامة، أي إنهم يعذبون في القبور، ويقال للملائكة يوم القيامة:
أدخلوا آل فرعون في جهنم، حيث يكون العذاب فيها أشد وأعظم، قال الهذيل بن شرحبيل والسدي: إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، تروح بهم، وتغدو إلى النار.
الجدل بين أهل النار
يبادر الإنسان حينما يقع في فخ الحقيقة والجزاء إلى تقاذف المسؤولية ولوم الآخرين، وينسى نفسه وتقصيره، وذلك في الدنيا، أو في حال العذاب في نار الآخرة، وهذا واقع قائم بين السادة والأتباع، حيث يشتد الجدل بينهم في ذلك المقر، ويحاول كل فريق إلصاق التهمة بغيره والتملص من المؤاخذة، ولكن لا جدوى ولا فائدة من هذا الجدال، ولا يقبل عذر من المقصرين والظلمة، ويكون الفوز
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٧ الى ٥٥]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)
«١» «٢» «٣» «٤» [غافر: ٤٠/ ٤٧- ٥٥].
المعنى: اذكر أيها النبي لقومك على سبيل العظة والعبرة وقت تخاصم وتجادل الكفار في النار، ومنهم فرعون وقومه، فيقول الأدنياء والأتباع للرؤساء والأشراف والكبراء: إنا كنا تابعين لكم، وقد أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، فهل أنتم تدفعون عنا جزءا من العذاب أو تتحملون عنا بعضه! فأجابهم المستكبرون: إننا جميعا في جهنم، وإن الأمر قد انجزم بحصول الكل منا ومنكم فيها، وإن حكم الله تعالى قد نفذ واستمر بذلك، فكيف نغني عنكم؟ فلو قدرنا على دفع شي من العذاب، لدفعناه عن أنفسنا، إن الله قضى قضاءه العادل المبرم بين العباد، بأن فريقا في الجنة، وفريقا في السعير.
(٢) أي في القدر والمنزلة في الدنيا.
(٣) أي أشراف الكفار وكبراؤهم.
(٤) جمع شاهد.
فرد خزنة جهنم عليهم على سبيل التوبيخ والإلزام بالحجة: أما جاءتكم الرسل في الدنيا بالحجج والأدلة القاطعة على توحيد الله تعالى، والتحذير من سوء العاقبة؟! قالوا: بلى قد جاءتنا الرسل، فكذبناهم، ولم نؤمن بهم، ولا بما جاؤوا به من الأدلة والمعجزات على صدقهم.
فقالت لهم الخزنة تهكما: إذا كان الأمر كما ذكرتم، فادعوا أنتم لأنفسكم، فنحن لا ندعو لمن كفر بالله، وكذّب رسله، بعد مجيئهم بالحجج القاطعة، وليس دعاء الكافرين بالله ورسله إلا في ضياع وبطلان، لا يقبل ولا يستجاب. والمراد: فادعوا أيها الكافرون الذين لا معنى لدعائكم، وليس دعاؤنا إلا لأهل الحق والإيمان والطاعة.
ثم أخبر الله تعالى أن ينصر رسله عليهم السّلام والمؤمنين في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويوم يقوم الشهود من الملائكة والنبيين وصالحي المؤمنين، للشهادة بأن الرسل قد بلّغوا الرسالة، وأدّوا الأمانة.
وقيام الشهود يكون حين تقوم القيامة، حيث لا تنفع معذرة الظالمين المشركين، ولا تقبل منهم فدية، لأن عذرهم واه، وشبهتهم زائفة، وهم مطرودون مبعدون من رحمة الله، ولهم شر ما في الآخرة: وهو النار والعذاب فيها.
ثم أخبر الله تعالى عن إرسال الرسل، فليس محمد صلّى الله عليه وسلّم وحده مرسلا، وليس هو ببدع من الرسل، فلقد أرسل الله موسى عليه السّلام بالتوراة والنبوة، تأنيسا لمحمد عليه السّلام، وتذكيرا بما كانت العرب تعرفه من أمر موسى عليه السّلام. وكانت
وإذا كان النصر مقررا في النهاية للرسل وأتباعهم، فاصبر أيها الرسول محمد على أذى المشركين، كما صبر الذين من قبلك من المرسلين، فإن عاقبة الصبر خير، ووعد الله بالنصر حق ثابت لا يخلفه أبدا، ودوام على الاستغفار لذنبك، من ترك الأولى والأفضل، أو أن المراد أمته، أي إنه إذا أمر هو بالاستغفار فغيره أولى، وستكون عاقبة أمرك كعاقبة أمر موسى، ونزّه الله تعالى عن كل شريك ونقص، مقترنا تسبيحك بحمد الله وشكره، على الدوام، في أوائل النهار وأواخره.
أسباب المجادلة في آيات الله وتفنيدها
يلجأ بعض المتشككين إلى الجدل في آيات الله، بقصد التشكيك ومحاولة الدفاع عن الباطل، بغير حجة مقبولة، ولا برهان سليم، وقد يكون الجدل حول إنكار البعث والقيامة، كشأن الماديين الملحدين، ويتعامى هؤلاء جميعا عن حقائق الأشياء وأسباب وجودها، وعن الأدلة الكونية الدالة على ضرورة الإيمان بوجود الله وقدرته وحكمته، وقد ذكر الله تعالى في الآيات الآتية عشرة أدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته، لإثبات وجود القيامة، منها: خلق السماوات والأرض، فلا يوجد شيء بالصدفة بدون موجد، ومنها تعاقب الليل والنهار، وجعل الأرض قرارا والسماء بناء، وخلق الإنسان في أحسن صورة، ورزقه من الطيبات، واتصاف الله تعالى بالحياة الأبدية الذاتية والوحدانية، وهذا ما تضمنته الآيات الآتية بمناسبة الأمر بعبادة الله وطاعته:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥٦ الى ٦٥]
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠)اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)
«١» «٢» «٣» [غافر: ٤٠/ ٥٦- ٦٥].
أخبر الله تعالى عن أولئك المشركين الكفرة الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان، وهم يريدون بذلك طمسها، أنهم ليسوا على شيء فلا حجة لهم ولا سلطان أو برهان مقبولا لهم، ليس في صدورهم وضمائرهم إلا التكبر والتعاظم عن قبول الحق، وحسد النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم على ما آتاه الله من الفضل والنبوة، ولا يستطيعون بلوغ آمالهم بسبب ذلك الكبر، ولا محققي إرادتهم في أن تكون لهم الرياسة والنبوة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستعذ بالله أيها النبي والتجأ إليه في كل أمورك، من كل
(٢) صاغرين أذلاء.
(٣) أي تصرفون.
ثم وبخ الله تعالى هؤلاء الكفار المتكبرين على ضلالهم، وذكّرهم بعظمته وقدرته، بأدلة كثيرة، منها أن خلق السماوات والأرض وما فيهما أكبر بكثير من خلق الناس، بدءا وإعادة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون بعظيم قدرة الله، ولا يتأملون بهذه الحجة الدامغة الدالة على قدرة الله تعالى.
ومثل المجادل بالباطل في مواجهة المحق والمتفكر والمتعظ كمثل الأعمى والبصير، ولا يتساوى الاثنان، فلا يتساوى المجادل بالباطل أو الكافر الذي لا يتأمل بآيات الله الكونية، ولا المجادل بالحق أو المؤمن الذي يتفكر في آيات الله ويتعظ بها.
وكذلك لا يستوي المحسن بالإيمان والذي يعمل الصالحات من أداء الفرائض والطاعات، والمسيء بالكفر والعاصي الذي يغفل دور الآيات ويتنكر للطاعات، فما أقل ما يتذكر كثير من الناس ويتعظ بهذه الأمثال! ثم أخبر الله تعالى عن وقوع القيامة حتما، فإن يوم القيامة آت لا ريب في مجيئه ووقوعه، فآمنوا أيها الناس به إيمانا قاطعا، لا شك فيه، ولكن مع الأسف أكثر الناس لا يؤمنون ولا يصدقون بالآخرة.
وطريق النجاة في الآخرة واضح وهو طاعة الله وعبادته، وقال الله: من دعاه أجابه، فالدعاء مخ العبادة، وإن الذين يتكبرون ويتعاظمون عن دعاء الله وعبادته وحده، سيدخلون حتما جهنم صاغرين أذلاء.
ومن أدلة قدرة الله على البعث وغيره: أنه سبحانه أوجد تعاقب الليل والنهار وجعل الليل للسكن والهدوء والراحة، وجعل النهار مضيئا منوّرا لإبصار الحوائج، وطلب المعايش، ومزاولة الصناعة والتجارة والزراعة وغيرها من الحرف والمهارات
والله وحده هو الرب المتصرف في كل شيء المدبر لكل أمر، خالق الأشياء كلها، لا إله ولا معبود في الوجود غيره، فكيف تصرفون أيها المشركون عن عبادته؟! ومثل هذا الانصراف عن عبادة الله، يصرف الجاحدون بآيات الله، المنكرون توحيده.
والله هو الذي جعل الأرض محل استقرار وثبات، والسماء مبنية بناء محكما لا خلل فيه، ولا يتهدم ولا يتصدع، وخلق الناس في أحسن صورة، وأجمل نظام وتقويم، ورزقهم من طيبات الرزق ولذائذه، ذلكم المتصف بهذه الصفات الجليلة:
هو الله رب العالمين من الإنس والجن، المنزه عن جميع النقائص. والله هو الحي الباقي الدائم الذي لا إله غيره، فاعبدوه مخلصين له الطاعة والعبادة، موحدين له، صاحب الحمد، المستحق للشكر والثناء، رب العالمين من الملائكة والإنس والجن.
النهي عن عبادة غير الله
حاول المشركون الوثنيون في مكة استمالة النبي صلّى الله عليه وسلّم لمنهاجهم، وتخفيف حملاته على دين الآباء والأجداد، والتوصل إلى أوساط الحلول.
فقال الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة- فيما رواه جويبر عن ابن عباس-: يا محمد، ارجع عما تقول بدين آبائك، فأنزل الله تعالى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية.
قررت هذه الآية الكريمة النهي الشديد عن عبادة الأصنام والأوثان، وبيّنت الآيات الآتية بعدها سبب النهي: وهو البينات التي جاءت النبي صلّى الله عليه وسلّم من ربه، من دلائل الآفاق والأنفس، قال الله تعالى واصفا ذلك:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)«١» [غافر: ٤٠/ ٦٦- ٦٨].
جاءت هذه الآيات الشريفة بعد بيان صفات الله تعالى، بأنه الحي القيوم، وذلك يقتضي فساد حال الأصنام، وأنها موات جماد هامدة، ليس فيها شيء من صفات الله تعالى، التي منها صدور الأمر من لدنه، وإيجاد الأشياء، وتدبير الأمر كله، وعلمه بالكل، مما يدل دلالة قاطعة على أنه حي لا إله إلا هو.
أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بعد هذا: أن يصدع بأنه نهي عن عبادة الأصنام التي عبدها الكفار من دون الله سبحانه وتعالى، وأمر بعدها بالإسلام الذي هو الإيمان والأعمال.
قل أيها الرسول لمشركي قومك المكيين: إن الله تعالى ينهاني عن عبادة أحد من غير الله تعالى من الأصنام والأنداد والأوثان، حين جاءتني الأدلة القاطعة من آي القرآن والبراهين العقلية الدالة على التوحيد، وأمرت بالإسلام لله والانقياد لأوامره، وإخلاص الدين له، وإعلان الإيمان وأداء الأعمال المفروضة، والاستسلام لرب العالمين من إنس وجن، والخضوع له بالطاعة، والرضا بما أمر ونهى.
ثم ذكر الله تعالى أربعة أدلة من دلائل الآفاق والأنفس تدل على وحدانية الله وهي:
وقوله تعالى بعد سرد مراحل أو أطوار الخلق الإنساني: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى يراد به: هذه الأصناف كلها مخلوقة ميسرة من الله، ليبلغ كل واحد منها أجلا مسمى لا يتعداه ولا يتخطاه، وليكون معتبرا متعظا، ولعلكم أيها البشر تعقلون الحقائق إذا نظرتم في هذا، وتدبرتم حكمة الله فيه، ففي هذا الانتقال والتدرج أو التطور في الخلق دلالة على وجود الله تعالى.
ثانيا- أي الدليل الثاني- أن الله هو القادر على الإحياء والإماتة، فالله وحده هو الذي يحيي المخلوقات ويميتها، وهو المتفرد بذلك، فإذا قضى وقدر أمرا يريد إنفاذه وإيجاده، وإخراج المخلوق من العدم، فإنما يقول له كُنْ فيكون ويوجد، من غير توقف على شيء آخر، ولا معاناة ولا كلفة، أي إن كل مخلوق يوجد بإرادة الله وحده، مما يدل على وجوده سبحانه.
جزاء المجادلين بالباطل
الحياة الإنسانية إما أن تزدان وتسمو بمواقف الحق والجرأة والإيمان، وإما أن تهبط وتنحدر بمواقف الباطل والكفر والخذلان، والناس بين هذين الموقفين في مرصد التاريخ، فإن كانوا من أصحاب الموقف الأول، خلّد التاريخ ذكرهم، وكانوا أسوة الأجيال، وإن كانوا من أصحاب الموقف الثاني طواهم التاريخ، ولم يذكروا إلا للعبرة والشماتة، وهكذا كان المعارضون لدعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورسالته عبرة للتاريخ، فإنهم جادلوا بالباطل في شأن الرسالة النبوية والكتاب الذي جاء به، وكذبوا بهما، فاستحقوا ويلات العذاب، كما تصف هذه الآيات الشريفة:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٩ الى ٧٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)
«١» «٢» «٣»
(٢) أي القيود الموضوعة في الأعناق.
(٣) أي يجرون بعنف بالسلاسل إلى النار ويحرقون فيها
هذا موقف المعاندين أهل الباطل، فانظر إلى هؤلاء المجادلين في آيات الله الواضحة والدالة على الإيمان، والإقرار بالوحدانية والبعث، كيف يصرفون عنها ويتركون الهدى إلى الضلال؟
إنهم هم الذين كذّبوا بالقرآن، وبرسالات الرسل الداعية إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لله، والشرائع الصالحة لحياة الإنسان، فسوف يعلمون مصائرهم الوخيمة وعواقب السوء المترتبة على مواقفهم.
إنهم سوف يعلمون حين تجعل القيود في أعناقهم، ويسحبون بالسلاسل في الحميم: وهو الماء المتناهي في الحرارة، فيحرقون ظاهرا وباطنا.
ثم يقال لهم من الملائكة توبيخا وتقريعا: أين الأصنام والشركاء التي كنتم تعبدونها من دون الله؟ قالوا مجيبين: لقد غابوا عنا وذهبوا فلم ينفعونا، بل في الواقع تبينا أننا لم نكن نعبد شيئا له قيمة وجدوى أو نفع، ومثل ذلك الضلال، يضل الله الكافرين على ممر الزمان، حيث أوصلتهم إلى النار، بضلالهم وتركهم سادرين في هذا الضلال، وعلى هذا اللون من الاختلاط وبيان فساد الذهن والنظر، وهذا
وذلكم العذاب اللاحق بهم، والإضلال بتركهم في ضلالهم، بسبب ما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله، والابتهاج بمخالفة الرسل والكتب الإلهية، وبسبب موقف البطر والأشر والتكبر، فهذا جزاء الشرك والوثنية. وجزاؤكم أيها المشركون الإدخال في أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم، المؤدية إلى طبقاتها ودركاتها، كما جاء في آية أخرى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) [الحجر: ١٥/ ٤٤].
فبئس موضع الإقامة والمأوى الذي فيه الهوان والتعذيب لمن تكبر عن آيات الله وبراهينه القاطعة. ثم آنس الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم ووعده بالنصر بقوله: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي اصبر أيها النبي على تكذيب قومك، فإن وعد الله بالنصر عليهم وإظهار أمرك ودعوتك والانتقام منهم كائن واقع لا محالة، إما في حياتك حيث تراه وتقرّ به عينك، وإما بعد موتك، حيث يصيرون ويرجعون إلى أمرنا وتعذيبنا.
أي إما أن نرينك في حال حياتك بعض ما وعدناهم به من العذاب، كالقتل، والأسر يوم بدر وغيره، وذلك بعض ما يستحقونه، وإما أن نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم، فإلينا مصيرهم يوم القيامة. وهذا كما جاء في آية أخرى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) [الزخوف:
٤٣/ ٤١- ٤٢].
ثم رد الله على العرب الذين قالوا: إن الله تعالى لا يبعث بشرا رسولا، واستبعدوا ذلك، فلقد أرسلنا رسلا وأنبياء كثيرين، من قبلك أيها النبي الرسول، إلى أقوامهم، منهم من أخبرناك بأخبارهم، وهم أربعة وعشرون، ومنهم من لم
نعم الله وتهديد أهل الجدل بالباطل
لا يمكن لأحد في العالم عنده مسكة من عقل أن ينكر فضل الله ونعمه على الناس، لأن الواقع المشاهد حجة دامغة، ولا يستطيع أحد إنكاره أو تجاوزه، وما أكثر الأدلة الحسية الميدانية من التاريخ في تعذيب المبطلين المكابرين بالمجادلين في آيات الله تعالى، لذا كان تحدي الواقع سببا موجبا للتهديد بالعذاب، وإيقاعه على أولئك المعاندين المغترين بدنياهم، المستهزئين بآيات الله، وإذا وقع العذاب، حدث الندم الشديد، ولم ينفع الإيمان والاعتذار في ذلك الوقت، كما تصور هذه الآيات:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧٩ الى ٨٥]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
«١» «٢» «٣»
(٢) نزل وثبت وأحاط، وهي مستعملة في الشر.
(٣) شدة عذابنا.
هذه آيات للعبر، وتعداد النعم، والاحتكام للواقع المشاهد، فالله تعالى جعل لكم أيها البشر الأنعام وهي الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والغنم والمعز. فبعضها في الغالب للركوب كالإبل، وبعضها للأكل وحرث الأرض عليها كالبقر، وبعضها للأكل وشرب اللبن كالغنم، وكلها تتكاثر وتتوالد، ويستفاد من أصوافها وأوبارها.
فكلمة (منها) الأولى في قوله لِتَرْكَبُوا مِنْها للتبعيض لأن المركوب منها هو الإبل خاصة، وكلمة (منها) الثانية وَمِنْها تَأْكُلُونَ لبيان الجنس، لأن الجميع منها يؤكل، ولكم أيها البشر في الأنعام منافع أخرى غير الركوب والأكل من صوف وشعر ووبر، وزبد وسمن، وجبن وغير ذلك، ولحمل الأثقال على بعضها إلى البلاد النائية بيسر وسهولة، وعلى الإبل وغيرها في البر، وعلى السفن في البحر، تحملون وتنقلون من بلد إلى آخر.
والله تعالى يريكم أيها الناس عيانا هذه الآيات والبراهين في الآفاق والأنفس، والتي هي كلها ظاهرة دالة على كمال قدرته ووحدانيته، مما لا سبيل لإنكاره، فأي آية من آياته الباهرة تنكرون؟ إنها كلها مشاهدة مرئية، لا تستطيعون إنكارها، ففي كل شيء له آية تدل على وحدانيته، لذا فإنكم على سبيل التوبيخ كيف تنكرون آية منها؟
ثم احتج الله تعالى على قريش بما يظهر في الأمم السالفة من نقمات الله، مع أنهم كانوا أكثر عددا، وأشد قوة أبدان وممالك، وأعظم آثارا في المباني والأفعال من قريش والعرب. أفلم يسر هؤلاء المشركون المجادلون بالباطل في آيات الله، فينظروا في أسفارهم كيف كان مصير الأمم السابقة التي عصت الله تعالى، وكذّبت رسلها،
فلما جاءت الرسل بالحجج والبراهين الواضحة الدالة على صدق نبوتهم ورسالتهم، أعرضوا عنهم، ولم يلتفتوا إليهم، وفرحوا بما لديهم من العلوم والمعارف، وهي الشبهات والضلالات الزائفة التي ظنوها علما نافعا، وأحاط بهم العذاب من كل جانب، ونزل بهم من العذاب الذي كذبوا به ما كانوا يستبعدون وقوعه، استهزاء وسخرية. وهذا كقوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم: ٣٠/ ٧].
ثم أخبر الله تعالى عن حالة بعض أولئك المعذبين الذين آمنوا بعد تلبّس العذاب بهم فلم ينفعهم ذلك. إنهم حينما عاينوا وقوع العذاب بهم، صدقوا بالله ووحّدوه، وكفروا بمعبوداتهم الباطلة التي اتخذوها شركاء لله، وهي الأصنام، فلم ينفعهم إيمانهم شيئا عند معاينة العذاب وشدة الانتقام، لأنه إيمان اليأس والإلجاء والقهر، فهو إيمان قسري عن إكراه فلا يقبل، لأنه في تلك الحال لا يبقى مجال للتكليف وقبول الإيمان.
ثم ذكر الله تعالى حكمه العام في الأمم، وهو أن هذا العذاب هو حكم الله وطريقته في جميع من تاب عند معاينة العذاب بأنه لا يقبل، وخسر الكافرون وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه، والكافر خاسر في كل وقت، ولكن يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.