تفسير سورة الأحقاف

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

وتفكر في برهانها وَبالجملة ما سبب استهزائكم وعدم مبالاتكم بها الا انه قد غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ولذاتها وشهواتها الوهمية الفانية الدنية بحيث لا تلتفتون الى العقبى ولذاتها الباقية الابدية بل تنكرون عليها عنادا ومكابرة فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها اى من النار المترتبة على ذلك الاتخاذ والغرور أصلا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ اى لا يمكنهم ان يعتذروا عند الله ويتداركوا ما فوتوا على أنفسهم بالتوبة والانابة إذ قد انقرض ومضى زمانه وبعد ان ثبت ان مرجع الكل الى الله ومحياه ومماته بيده وله ان يثيب ويعاقب عباده بمقتضى فضله وعدله
فَلِلَّهِ على سبيل الاختصاص والتمليك لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية الْحَمْدُ المستوعب بجميع الاثنية والمحامد الصادرة من ألسنة ذرائر مظاهره رَبِّ السَّماواتِ اى العلويات وَرَبِّ الْأَرْضِ اى السفليات وكذا رب ما يتركب بينهما من الممتزجات وبالجملة رَبِّ الْعالَمِينَ اى مربى الكل هو بذاته علوا وسفلا بسيطا ومركبا غيبا وشهادة
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ والعظمة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تدبيرا وتصرفا حلا وعقدا إذ ظهور الكل انما هو من آثار أوصافه وأسمائه وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على عموم تدابيره وتقاديره وتصاريفه وتصاويره ارادة واختيارا الْحَكِيمُ المتقن في عموم مقدوراته على الوجه الأبلغ الأحكم استحقاقا واستقلالا فعليكم ايها المجبولون على فطرة العبودية والعرفان ان تحمدوا له وتكبروا ذاته وتشكروا نعمه كي تؤدوا شيأ من حقوق كرمه ان كنتم مخلصين مخصصين. جعلنا الله من زمرة الحامدين لله المخلصين له الدين
خاتمة سورة الجاثية
عليك ايها السالك المتحقق بمقام الرضاء والتسليم والناسك المنكشف بكمال عظمة الله وكبريائه وبعلو شأنه وبهائه ان تواظب على أداء الشكر له سبحانه دائما ملاحظا نعمه الفائضة المترادفة المتجددة في قيد هويتك وانانيتك الناسوتية قبل فنائك في لاهوتية الحق وبقائك ببقائه إذ علامة العارف الواصل الى ينبوع بحر الوحدة ان لا يرى في ملكة الوجود وعرصة الشهود سواه سبحانه موجودا فلا يتكلم الا به وعنه ومعه وفيه وله ولا يسرى الا نحوه واليه ولا اله الا هو ولا نعبد الا إياه
[سورة الأحقاف]
فاتحة سورة الأحقاف
لا يخفى على من انكشف بسلطنة الحق واستيلائه التام على عروش عموم مظاهره ان اثبات الوجود لما سواه سبحانه وادعاء التحقق والثبوت لغيره من الاظلال الهالكة في شمس ذاته انما هو زور ظاهر وقول باطل بلا طائل بل ما ظهر ما ظهر الا من انعكاس اشعة أسمائه وآثار أوصافه الذاتية الصادرة منه سبحانه حسب شئونه وتجلياته الحبية ليستدل به من جبل على فطرة الدراية والشعور على وحدة ذاته وكمال أسمائه وصفاته لذلك خاطب سبحانه حبيبه بما خاطبه به وأوصاه بعد ما تيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المنزل للكلم مفصحا عما عليه قضاؤه وارادته الرَّحْمنِ لعموم عباده يصلح أحوالهم على مقتضى حكمته الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى منبع رحمته وفضاء وحدته
[الآيات]
حم يا من حمل أعباء الرسالة بحولنا وقوتنا ومال الى جناب قدس وحدتنا بالميل الذاتي الحقيقي بعد مساعدة توفيقنا وجذب من لدنا
تَنْزِيلُ الْكِتابِ الذي انزل إليك لتأييد أمرك وضبط شرعك ودينك مِنَ اللَّهِ المطلع بعموم ما في استعدادات عباده الْعَزِيزِ الغالب على جميع ما دخل
في حيطة قدرته وارادته الْحَكِيمِ المتقن في مطلق تدابيره الصادرة منه بضبط مصالح عباده ثم التفت سبحانه تهويلا وتفخيما لحكمه فقال
ما خَلَقْنَا وأظهرنا من كتم العدم السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات الذاتية وَالْأَرْضَ اى عالم الاستعدادات القابلة لانعكاس اشعة أنوار الذات الفائضة عليها حسب الشئون والتطورات الجمالية والجلالية وَكذا ما بَيْنَهُما من الآثار المتراكمة المتكونة من امتزاج آثار الفواعل والمؤثرات الاسمائية مع المتأثرات الناشئة من قوابل المسميات والهيولى إِلَّا بِالْحَقِّ اى خلقا ملتبسا بالحق المطابق للواقع وَقدرنا بقاء ظهورها الى أَجَلٍ مُسَمًّى اى وقت مقدر من لدنا محفوظ في خزانة حضرة علمنا ولوح قضائنا لا نطلع أحدا عليه فإذا جاء الأجل المسمى انعدم الكل بلا تخلل تقدم وتأخر وَالَّذِينَ كَفَرُوا وأنكروا كمال قدرتنا على إيجاد الأشياء وإعدامها وابدائها وإعادتها عَمَّا أُنْذِرُوا من اهوال يوم القيامة المعدة لانعدام الكل وانقهار الاظلال الهالكة في شروق شمس الذات مُعْرِضُونَ منصرفون لذلك لا يتزودون له ولا يهيئون أسبابه ولا يستعدون بحلوله
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما افرطوا في الاعراض عن الله وعن توحيده واثبتوا له شركاء ظلما وزورا مستفهما على سبيل الإلزام والتبكيت أَرَأَيْتُمْ أخبروني ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وتتخذونهم آلهة سواه وتعتقدونهم شركاء معه سبحانه في الأرض أَرُونِي وبصرونى ماذا خَلَقُوا وأى شيء اوجدوا وأظهروا مِنَ الْأَرْضِ حتى اتصفوا بالخالقية واستحقوا بالمعبودية والربوبية وايضا أخبروني هل تنحصر شركتهم مع الله بعالم العناصر والمسببات أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ ايضا فِي السَّماواتِ وعالم الأسباب والمؤثرات وبالجملة ائْتُونِي بِكِتابٍ نازل مِنْ قَبْلِ هذا القرآن الفرقان قد أمرتم فيه باتخاذ هؤلاء الهلكى آلهة سوى الله مستحقة بالعبادة أَوْ أَثارَةٍ يعنى ائتوني ببقية مِنْ عِلْمٍ دليل عقلي او نقلي قد بقي لكم من اسلافكم يدل على إيثارهم واختيارهم آلهة شركاء معه سبحانه في ألوهيته وبالجملة ائتوني بسند صحيح إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الشركة مع الله المنزه عن التعدد مطلقا
وَبالجملة مَنْ أَضَلُّ طريقا وأسوأ حالا وأشد سفها وحماقة مِمَّنْ يَدْعُوا ويعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ السميع العليم البصير الحكيم القدير الخبير المستقل في تصرفاته بالإرادة والاختيار مَنْ لا يَسْتَجِيبُ اى أصناما وأوثانا لا تسمع دعاءه ولا تجيب لَهُ ولا تعلم حاله ولا تدبر امره وان دعاه وتضرع نحوه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ اى ابدا ما دامت الدنيا بل وَهُمْ اى معبوداتهم الباطلة عَنْ دُعائِهِمْ وتضرع عابديهم نحوهم غافِلُونَ ذاهلون لا شعور لهم حتى يفهموا ويجيبوا
وَهم قد عبدوهم معتقدين نفعهم ولم يعلموا انهم إِذا حُشِرَ النَّاسُ واجتمعوا في المحشر للحساب والجزاء كانُوا لَهُمْ أَعْداءً اى المعبودون للعابدين بل وَكانُوا اى المعبودون بِعِبادَتِهِمْ اى العابدين لهم كافِرِينَ منكرين جاحدين
وَبالجملة هم قد كانوا من شدة غيهم وضلالهم عنا وعن توحيدنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا مع كونها بَيِّناتٍ واضحات مبينات لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ الصريح الصحيح البين لَمَّا جاءَهُمْ اى حين جاءهم ليهديهم ويبين لهم طريق الحق وتوحيده هذا المتلو ما هو الا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر كونه سحرا باطلا وما هذا التالي له الا ساحر عظيم انما قالوا هكذا ونسبوا القرآن لما نسبوا لعجزهم عن إتيان مثله مع انهم من ارباب اللسن
ووفور دواعيهم لمعارضته
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بل انصرفوا عن نسبته الى السحر الى افحش من ذلك وهو الافتراء فيقولون في حقه قد اختلقه هذا المدعى من تلقاء نفسه ونسبه الى ربه تغريرا وترويجا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما نسبوا كتابك الى الفرية كلاما مفصحا لهم عن حقيقة الأمر وحقيته لو تأملوا فيه إِنِ افْتَرَيْتُهُ واختلقته انا من عندي ونسبته الى الله زورا وبهتانا فيأخذنى رب العزة بالإثم والافتراء البتة وان أخذني فَلا تَمْلِكُونَ ولا تدفعون لِي مِنَ عذاب اللَّهِ شَيْئاً حين أخذني وانتقم منى وبالجملة هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بعلمه بِما تُفِيضُونَ وتخوضون أنتم فِيهِ اى في كتابه بما لا يليق به وبشأنه من نسبته الى السحر والافتراء وتكذيبه بأنواع وجوه المراء كَفى بِهِ اى كفى الله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ اى بيننا يجازينا على مقتضى علمه وخبرته بي وبكم وَهُوَ الْغَفُورُ المبالغ في الستر والعفو لمن استغفر له الرَّحِيمُ لمن تاب ورجع نحوه نادما عما صدر عنه يقبل توبته ويمحو زلته
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اقترحوا عليك من الآيات التي تهواها نفوسهم ليلزموك ويعجزوك ما كُنْتُ بِدْعاً اى رسولا بديعا مبتدءا مِنَ بين الرُّسُلِ مبتدعا امرا يديعا غريبا مدعيا الإتيان بعموم المقترحات بل وَالله ما أَدْرِي وما اعلم من حال نفسي ما يُفْعَلُ بِي وكيف يصنع معى وَلا بِكُمْ اى وكيف يصنع بكم إِنْ أَتَّبِعُ اى ما اتبع إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ من قبل ربي ويطلعني عليه وَبالجملة ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ من قبل الحق مُبِينٌ مبين موضح مظهر لكم باذنه ما اوحى الى من وحيه وما على الا التبليغ والإنذار والتوفيق من الله العليم الحكيم
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما أقر رأيهم على ان القرآن مختلق من عندك قد افتريته أنت على الله وسحر نسبته أنت اليه سبحانه تغريرا وترويجا أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ العليم العلام وَكَفَرْتُمْ بِهِ أنتم بلا مستند لكم في تكذيبه وإنكاره وَالحال قد شَهِدَ شاهِدٌ حبر ماهر مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عالم بالتوراة عَلى مِثْلِهِ اى مثل ما في القرآن أقر واعترف عبد الله بن سلام انه قد قرأ في التوراة أوامر واحكاما مثل ما في القرآن ووجد ايضا فيها من أوصاف القرآن ما يلجئه الى الايمان به فَآمَنَ به وصدق من انزل اليه وامتثل بما فيه وَقد اسْتَكْبَرْتُمْ أنتم عن الايمان والقبول بل كذبتم به وانكرتم عليه الستم ظالمين وبالجملة ما أنتم في انفسكم الا قوم ضالون ظالمون إِنَّ اللَّهَ المطلع على ما في استعدادات عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى حدوده الموصلة الى زلال هدايته وتوحيده
وَمن شدة شقاقهم ونفاقهم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اى لأجلهم وفي حقهم لَوْ كانَ الايمان بمحمد وبما أتى به من الدين خَيْراً مما نحن فيه ما سَبَقُونا إِلَيْهِ بأنواع الكرامة والجاه والثروة والسيادة إذ هو ومن تبعه كلهم اراذل سقاط رعاة فقراء فاقدين لوجه الكفاف ونحن اغنياء ذوو الخطر بين الناس انما قالته قريش حين افتخروا على المؤمنين وقصدوا اضلالهم وإذلالهم وَبالجملة لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبعنادهم بك وبكتابك إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ اى بالقرآن ولم ينكشفوا بحقيته بل فَسَيَقُولُونَ من جهلهم وضلالهم هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ وأساطير الأولين
وَعليك ان لا تلتفت مطلقا الى هذياناتهم وأباطيلهم الزائغة إذ قد جاء مِنْ قَبْلِهِ اى قبل كتابك كِتابُ مُوسى اى التوراة حال كونه إِماماً مقتدى لقاطبة الأنام وَرَحْمَةً شاملة فوائدها على كافة الخواص والعوام فكذبوه وأنكروا أحكامه وَهذا الكتاب الذي نزل
عليك يا أكمل الرسل كِتابٌ مُصَدِّقٌ لجميع ما مضى من الكتب السالفة لِساناً عَرَبِيًّا أسلوبا ونظما انما جاء كذلك (٣) لِيُنْذِرَ بما فيه من الوعيدات الهائلة الَّذِينَ ظَلَمُوا اى خرجوا عن مقتضى العدالة الإلهية بمتابعة آرائهم الباطلة المنحرفة عن صراط الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع وَليصير بُشْرى بما فيه من انواع المواعيد الذالة على كرامة الحق وإحسانه لِلْمُحْسِنِينَ من خلص عباده وكيف لا
إِنَّ المحسنين الَّذِينَ قالُوا بعد ما تحققوا بمقام العبودية رَبُّنَا اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية ثُمَّ بعد ما تمكنوا في مقر التوحيد وتمرنوا عليه اسْتَقامُوا فيه ورسخوا على محافظة الآداب الشرعية والعقائد الدينية الموضوعة لتأييد ارباب المعرفة وتمكينهم على جادة التوحيد لئلا يطرأ عليهم التزلزل والانحراف عن صراط الحق وسواء السبيل فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بعد ما وصلوا الى مقر التمكين وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عن التردد والتلوين وبالجملة
أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله أَصْحابُ الْجَنَّةِ المعدة لأرباب العناية خالِدِينَ فِيها بلا تبديل ولا تحويل وانما جوزوا جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإحسان مع الله بمراعاة الأدب معه سبحانه وبملازمة الطاعات والعبادات على وجه الإخلاص والتسليم ومع عموم عباده بحسن المعاشرة والمصاحبة وأداء حقوق المواخاة والموالاة.
ثم أشار سبحانه الى معظم اخلاق المحسنين المستحقين بخلود الجنة وبالفوز العظيم فيها فقال
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ اى ومن جملة ما الزمنا على الإنسان الاتصاف به والمحافظة عليه حتما إكرامه بِوالِدَيْهِ إِحْساناً لهما وحسن الأدب معهما أداء لحقوق تربيتهما وحضانتهما له وكيف لا يحسن إليهما مع انه قد حَمَلَتْهُ أُمُّهُ حين حبلت به كُرْهاً مشقة عظيمة وألما شديدا وحملا ثقيلا وَحملت ايضا حين وَضَعَتْهُ كُرْهاً أشد من مشقة الحمل واكثر ألما منها وَمع ذلك ليست مشقتها ومقاساتها زمانا قليلا بل حَمْلُهُ اى مدة حمل امه إياه في بطنها وَفِصالُهُ اى مدة فطامه عن لبنها كلاهما ثَلاثُونَ شَهْراً وهي مدة طويلة وبعد فطامه ايضا تلازم حفظه وحضانته حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وكمال عقله ورشده وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إذ القوة العاقلة انما تكاملت دونها ولذا لم يبعث نبي الا بعد الأربعين الا نادرا قالَ بعد ما تذكر نعم الحق الفائضة عليه من بدء فطرته الى أوان رشده وكمال عقله مناجيا مع ربه مستمدا منه رَبِّ أَوْزِعْنِي اى أولعني وحرصنى بتوفيقك أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ طول دهري وأواظب على أداء حقوقها حسب طاقتي وقوتي وَكذا اشكر نعمتك التي أنعمت عَلى والِدَيَّ إذ أداء حقوقهما وما لزم عليهما من حقوق نعمك اللازم أداؤها عليهما واجب علىّ وَكذا وفقني بمقتضى كرمك وجودك أَنْ أَعْمَلَ عملا صالِحاً مقبولا عندك على الوجه الذي تَرْضاهُ منى وَبالجملة أَصْلِحْ لِي بمقتضى كرامتك علىّ عملي واجعل بفضلك صلاحي ساريا فِي ذُرِّيَّتِي ليكونوا صلحاء مثلي وارثين عنى مستحقين لكرامتك وعنايتك بهدايتهم وصلاحهم وبالجملة إِنِّي تُبْتُ ورجعت إِلَيْكَ عن عموم مالا يرضيك ولا يقبل عندك يا ربي من عملي إذ أنت اعلم منى بحالي وَإِنِّي إليك يا رب مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لك المطيعين لحكمك المفوضين أمورهم كلها إليك إذ لا مقصد لهم غيرك ولا مرجع سواك وبالجملة
أُولئِكَ السعداء المولعون على شكر نعم الله وأداء حقوق الوالدين وحسن المعاشرة معهما والإحسان إليهما هم الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ (٥) بقبول حسن أَحْسَنَ ما
عَمِلُوا
مخلصين فيه طالبين رضاء الله مجتنبين عن سخطه وَنَتَجاوَزُ سبحانه عَنْ سَيِّئاتِهِمْ بعد ما تابوا ورجعوا نحوه نادمين وبالجملة هم فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ مصاحبون معهم آمنون فائزون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون انجازا لما وعد لهم الحق وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في النشأة الاولى وبعد ما وصى سبحانه من رعاية حقوق الوالدين وما يترتب عليها من الفوز العظيم عقبه بضده وهو عقوق الوالدين وما يترتب عليه من العذاب الأليم فقال
وَالَّذِي اى والمسرف المفرط المتناهي الذي قالَ لِوالِدَيْهِ من فرط سرفه وعصيانه وشدة عقوقه عليهما حين دعواه الى الايمان والتوحيد واجتهدا ان يخلصاه من الشرك والتقليد وعن اهوال يوم القيامة وافزاعها أُفٍّ لَكُما وهذه الكلمة كناية عن الضجرة المفرطة والردع المتناهي أَتَعِدانِنِي وتخوفانني من العذاب والنكال بعد أَنْ أُخْرَجَ من قبري حيا وَالحال انه قد خَلَتِ ومضت الْقُرُونُ الماضية مِنْ قَبْلِي ولم يخرج احد منهم من قبره حيا فانا ايضا لا اخرج أمثالهم وبالجملة هو من شدة قساوته ونهاية شقاوته يصر على هذا وَهُما من غاية ترحمهما وتحننهما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ ويطلبان الغوث والتوفيق منه سبحانه لأجله قائلين له على وجه المبالغة في التخويف وَيْلَكَ اى ويل لك وهلاك ينزل عليك ايها المسرف المفرط لو لم تؤمن آمِنْ بالله وبجميع ما جاء من عنده في النشأة الاولى والاخرى إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بعموم المواعيد والوعيدات الصادرة منه سبحانه على ألسنة رسله وكتبه حَقٌّ لا خلف فيه وسينجزه الله القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام فَيَقُولُ بعد ما سمع من شدة إصراره وإنكاره ما هذا الذي أنتما جئتما به على سبيل العظة والتذكير إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى أباطيلهم الزائغة الزائلة الزاهقة التي قد سطروها في كتبهم ودواوينهم بمجرد الترغيب والترهيب وبالجملة
أُولئِكَ الأشقياء المردودون عن ساحة عز القبول هم الَّذِينَ حَقَّ قد ثبت وتحقق عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ والحكم من الله المطلع بما في صدور عباده من الغل والغواية الراسخة بأنهم اصحاب النار معدودون فِي زمرة أُمَمٍ هالكة مستحقة للعذاب والبوار قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ اى من جنسهما وبالجملة إِنَّهُمْ بأجمعهم قد كانُوا خاسِرِينَ مضيعين على أنفسهم الكرامة الانسانية ورتبة الخلافة الإلهية المودعة في نشأتهم
وَاعلموا انه لِكُلٍّ من المحقين والمبطلين دَرَجاتٌ من الثواب والعقاب متفاوتة شدة وضعفا رفعة ودناءة منتشئ كلها مِمَّا عَمِلُوا مترتبة عليه خيرا كان او شرا حسنات او سيئات وَكل منهم متعلق بعمله ومشاكل معه مجزى بمقتضاه وما ذلك الا لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ ويوفر عليهم جزاءها المترتب عليها درجات كانت او دركات وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا بالزيادة ولا بالنقصان على أجور ما كسبوا
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يُعْرَضُ المسرفون الَّذِينَ كَفَرُوا بالحق واعرضوا عنه وعن اهله عَلَى النَّارِ المسعرة المعدة للكافرين المعرضين فيقال لهم حينئذ على سبيل التوبيخ والتشنيع أنتم قد أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ من اللذائذ وتلذذتم بها فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فيها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ بدلها عَذابَ الْهُونِ المهين المذل بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ على عباد الله بِغَيْرِ الْحَقِّ يعنى بدل تعززكم وتعظمكم بها في دار الدنيا وكبركم وخيلائكم على ضعفاء العباد وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ تخرجون عن مقتضى الحدود الإلهية ظلما وزورا
وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل أَخا عادٍ اى اذكر
لمشركي مكة خذلهم الله قصة قوم عاد مع أخيك هود عليه السلام وقت إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ امحاضا للنصح لهم وهم يسكنون بِالْأَحْقافِ اى الرمال المعوجة المستوية على شاطئ البحر وَالحال انه قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ والرسل المنذرون مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ اى قبل هود عليه السلام وَمِنْ خَلْفِهِ اى بعده عليه السلام كلهم متفقون في المنذر به ألا وهو أَلَّا تَعْبُدُوا اى ان لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالاطاعة والعبادة ولا تشركوا به شيأ من مصنوعاته ولا تتوجهوا ولا تسترجعوا في الخطوب الا اليه وانصرفوا من عبادة غيره إِنِّي بسبب عبادتكم غير الله واتخاذكم آلهة سواه أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هائل شديد وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا من التوحيد ٢٢ قالُوا متهكمين معه مشنعين عليه أَجِئْتَنا مدعيا ملتزما لِتَأْفِكَنا وتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا اى عن عبادتهم واطاعتهم ونؤمن بك وبإلهك وبالجملة نحن لا نؤمن بك ولا نصدقك في قولك فَأْتِنا بِما تَعِدُنا وتخوفنا من العذاب على الشرك الآن إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك انه آت لا محالة وبعد ما استهزؤا به واستعجلوا بالعذاب الموعود
قالَ هود عليه السلام انى اعلم بمقتضى الوحى الإلهي انه لآت البتة ولكن لا اعلم متى يأتى إذ لم يوح الى وقت إتيانه بل إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقت حلوله وإتيانه عِنْدَ اللَّهِ المستقل باطلاع عموم الغيوب وَانما أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وأمرت بتبليغه من لدنه سبحانه إذ ما على الرسول الا البلاغ وَلكِنِّي أَراكُمْ بسبب أعراضكم عن الحق واهله وإصراركم على الشرك الباطل والضلال الزاهق الزائل قَوْماً تَجْهَلُونَ عن كمال عظمة الله وعزته وعن مقتضيات قوته وقدرته وبالجملة قال هود عليه السلام ما قال وهم قد كانوا على شركهم واضرارهم كما كانوا
فَلَمَّا رَأَوْهُ يوما من الأيام عارِضاً سحابا إذا عرض على الأفق مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ اى متوجها لأمكنتهم التي قد كانوا متوطنين فيها وكانوا حينئذ مجدبين قد حبس عليهم القطر قالُوا فرحين مستبشرين هذا عارِضٌ مطر مبارك توجه نحو بلادنا مُمْطِرُنا مطرا عظيما وهم استدلوا من سواد لونه الى كثرة مائه وبعد ما استبشروا فيما بينهم قال لهم عليه السلام مضربا عن قولهم معرضا لهم بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ واستبشرتم باستقباله رِيحٌ عاصفة لا راحة فيها بل فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ لا عذاب أشد ايلاما منها إذ
تُدَمِّرُ وتهلك كُلَّ شَيْءٍ ذي حياة بِأَمْرِ رَبِّها وبمقتضى مشيته وإراداته وبعد ما وصلت الريح إليهم وأحاطت باماكنهم وحواليهم دمرتهم تدميرا بليغا وأهلكتهم إهلاكا كليا الى حيث استأصلتهم بالمرة فَأَصْبَحُوا وصاروا لا يُرى منهم إِلَّا مَساكِنُهُمْ اى سوى دورهم الخربة واطلالهم المندرسة الكربة وبالجملة ليس هذا مخصوصا بهم بل كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ الخارجين عن ربقة عبوديتنا بارتكاب الجرائم والآثام. ثم أشار سبحانه الى توبيخ مشركي مكة خذلهم الله ومجرميهم على وجه التأكيد والمبالغة فقال سبحانه مقسما
وَالله يا اهل مكة لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ واقدرناهم اى عادا فِيما اى في الأمور التي إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ اى ما مكناكم واقدرناكم كما مكناهم واقدرناهم فيه من كثرة الأموال والأولاد والحصون المشيدة والقلاع المرتفعة المنيعة والقصور الرقيعة والمنازل الوسيعة وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً ليسمعوا به بآياتنا الدالة على وحدة ذاتنا وَأَبْصاراً ليشهدوا بها آثار قدرتنا ومتانة حكمتنا الدالة على كمال علمنا وَأَفْئِدَةً لينكشفوا بها على وحدة ذاتنا ويتفطنوا بها باستقلالنا في تدبيراتنا وتصرفاتنا ومع ذلك فَما أَغْنى وما دفع عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ اى
شيأ من الإغناء اى ما أفاد لهم هذه الآيات العجيبة الشأن شيأ من الفائدة التي هي إنقاذهم عن الجهل بالله وعن الضلال في طريق توحيده إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ وينكرون بمقتضى جهلهم المركب المركوز في جبلتهم أمثالكم ايها الجاحدون بِآياتِ اللَّهِ ودلائل توحيده ويستهزؤن بها وبمن أنزلت اليه من الرسل وَلذلك قد حاقَ وأحاط بِهِمْ وبال ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ عاجلا وسيحيقهم وينزل عليهم وعليكم ايضا ايها المسرفون المفرطون آجلا بأضعافه وآلافه
وَبالجملة لَقَدْ أَهْلَكْنا وخربنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى الهالكة كعاد وثمود وغيرهما لتعتبروا منها وتتعظوا بما لحق باهلها من انواع العذاب والبليات وَبالجملة قد صَرَّفْنَا الْآياتِ الدالة على كمال قدرتنا واختيارنا وكررناها مرارا وتلوناها عليهم تكرارا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلينا منخلعين عن مقتضيات وجوداتهم الباطلة وهوياتهم العاطلة ومع ذلك لم يرجعوا ولم ينخلعوا
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ اى هلا نصرهم ومنعهم من الهلاك والإهلاك شفعاؤهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الفرد وقت يوالونهم قُرْباناً مع انهم قد اعتقدوهم آلِهَةً شركاء مع الله في الألوهية والربوبية لذلك تقربوا إليهم وتوجهوا نحوهم في عموم الملمات مع انه ما ينفعونهم لدى الحاجة إليهم والى نصرهم بَلْ ضَلُّوا وغابوا عَنْهُمْ فأنى ينصرونهم ويدفعون عنهم ما يضرهم وَبالجملة ذلِكَ الذي اعتقدوا في شأنهم هكذا ما هو الا إِفْكُهُمْ اى صرفهم عن الحق واعراضهم عنه وميلهم الى الباطل وإصرارهم فيه وَما كانُوا يَفْتَرُونَ اى ليس الا افتراؤهم على الله بإثبات الشريك له والمشاركة معه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن عاندك وكذبك إلزاما لهم وتبكيتا وقت إِذْ صَرَفْنا وأملنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لك ولشأنك نَفَراً جماعة مِنَ الْجِنِّ حال كونهم يَسْتَمِعُونَ منك الْقُرْآنَ حين قرأته في خلال صلواتك وتهجداتك في خلواتك فَلَمَّا حَضَرُوهُ اى القرآن وسمعوه وتعجبوا من حسن نظمه وسياقه وسوقه وكمال بلاغته وفصاحته قالُوا اى قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا ولا تخالطوا أصواتكم ايها المستمعون حتى نسمع على وجهه إذ هو كلام عجيب في أعلى مرتبة البلاغة والبراعة فَلَمَّا قُضِيَ وتم قراءته وفهموا معناه وفحواه وَلَّوْا وانصرفوا ورجعوا إِلى قَوْمِهِمْ حال كونهم مُنْذِرِينَ ومبشرين بما يفهمون منه من التبشيرات والإنذارات والمواعد والوعيدات القوم الذين قد بلغوا حد التكليف من إخوانهم فينذرونهم بها عن الضلال والانحراف عن طريق الحق ويبشرونهم بها الى ما يوصلهم اليه حيث
قالُوا اى النفر المستمعون مبشرين لإخوانهم يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً عجيبا سماويا عربيا نظما وأسلوبا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ كتاب مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ اى جميع الكتب السالفة السماوية شأنه انه يَهْدِي إِلَى توحيد الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يوصل الى وحدة ذاته بلا عوج وانحراف وهذا الكتاب العجيب الشأن الجلى البرهان منزل الى داع من العرب منتشئ من بنى عدنان اسمه محمد عليه الصلاة والسلام يدعو قاطبة للأنام الى دين الإسلام بوحي الله العليم العلام القدوس السلام
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا أنتم ايضا داعِيَ اللَّهِ يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم وقبلوا منه دعوته الى توحيد الحق ودين الإسلام وَآمِنُوا بِهِ وبكتابه الذي انزل اليه لتبيين دينه وتأييد امره يَغْفِرْ لَكُمْ سبحانه مِنْ ذُنُوبِكُمْ اى جميعها ان تبتم ورجعتم نحوه مخلصين وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ هو عذاب النار إذ لا عذاب
أشد منها وأفزع
وَبالجملة مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ ولم يؤمن به سبحانه وبجميع ما جاء به الداعي من عنده بل كذب الداعي من عنده وأنكر دعوته ولم يقبل منه فَلَيْسَ هو اى المنكر بِمُعْجِزٍ لله فِي الْأَرْضِ حتى يهرب عن انتقامه سبحانه ويفر من غضبه من مكان الى مكان او يستر عنه سبحانه ويخفى نفسه في اقطار الأرض بل له سبحانه الاحاطة والاستيلاء بعموم الأمكنة والأنحاء علما وعينا شهودا وحضورا وَلَيْسَ لَهُ اى للمنكر والمعاند مِنْ دُونِهِ سبحانه أَوْلِياءُ يوالونه وينقذونه من غضب الله وعذابه بعد ما قد حل عليه ونزل وبالجملة أُولئِكَ المنكرون المكابرون الذين لا يجيبون داعي الله ولا يقبلون منه دعوته عنادا ومكابرة فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية ظاهرة يجازيهم سبحانه حسب ما صدر عنهم من الغي والضلال. ثم أشار سبحانه الى توبيخ منكري الحشر والنشر واعادة الموتى احياء وتقريعهم فقال مستفهما على سبيل التبكيت والإلزام
أَوَلَمْ يَرَوْا يعنى أيشكون ويترددون أولئك الشاكون المترددون في قدرة الله على اعادة المعدوم ونشر الأموات احياء من قبورهم وحشرهم نحو المحشر للحساب والجزاء ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ العليم الحكيم القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ اظهر وأوجد السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العلويات والسفليات خلقا إبداعيا اختراعيا من كتم العدم وَمع ذلك لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ اى لم يفتر بإظهارهن ابتداء مع غاية عظمتهن وسعتهن بِقادِرٍ يعنى أليس القادر المقتدر على الإبداع والاختراع والإبداء بقادر عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ويعيدهم احياء بعد ما أماتهم بَلى إِنَّهُ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة علمه وارادته قَدِيرٌ بلا فتور ولا قصور
وَاذكر يا أكمل الرسل لمنكر الحشر يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالبعث والجزاء عَلَى النَّارِ المعدة لتعذيبهم فيقال لهم حينئذ تفضيحا وتهويلا وتوبيخا وتقريعا أَلَيْسَ هذا العذاب الذي أنتم فيه الآن وقد كذبتم به من قبل في نشأة الاختبار بِالْحَقِّ قالُوا متأسفين متحسرين بَلى هو الحق وَحق رَبِّنا الذي ربانا على فطرة الإسلام وأنذرنا عن إتيان هذا العذاب في هذه الأيام فكفرنا نحن به ظلما وزورا وأنكرنا عليه عنادا ومكابرة وبعد ما اعترفوا وندموا في وقت لا ينفعهم الندم والاعتراف قالَ لهم قائل من قبل الحق فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إذ لم يفدكم اعترافكم هذا بعد ما انقضى نشأة التدارك والتلافي وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل حال الكفرة السفلة الجهلة المصرين على العتو والعناد وعاقبة أمرهم
فَاصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل على أعباء الرسالة ومتاعب التبليغ والإرشاد وعلى اذيات اصحاب الزيغ والضلال كَما صَبَرَ عليها وعلى أمثالها أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ العازمين عليها وعلى تبليغها بالعزيمة الخالصة الثابتة والثبات الدائم ليبينوا للناس طريق التوحيد ويرشدوهم الى سبيل الاستقامة والرشد وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ اى للمعاندين من قريش بحلول العذاب الموعود عليهم فانه سينزل عليهم حتما عند حلول وقته حتى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب من نهاية شدته وكثرة هوله وغاية طول يومه تذكروا واستحضروا في أنفسهم فجزموا انهم لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً واحدة فقط مِنْ نَهارٍ يعنى هم قد استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وقاسوها في طول يوم القيامة وخيلوها ساعة بل اقصر منها هذا الذي ذكر من المواعظ والتذكيرات في هذه السورة بَلاغٌ كاف لأهل الهداية والإرشاد ان اتعظوا بها وتذكروا منها وان لم يتعظوا بها هلكوا في تيه الجهل والجحود وبيداء الغفلة والغواية
Icon