تفسير سورة محمد

اللباب
تفسير سورة سورة محمد من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مدنية١. وهي ثمان وثلاثون٢ آية، وخمسمائة وتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا.
١ في قول ابن عباس، ذكره النحاس. وقال الماوردي: في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت عليه بعد حجة الوداع حين خرج من مكة. وقال الثعلبي: إنها مكية وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير. وانظر القرطبي ١٦/٢٢٣..
٢ وقيل: تسع وثلاثون..

مدنية. وهي ثمان وثلاثون آية، وخمسمائة وتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم وقوله تعالى: ﴿الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله... ﴾ أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة. والمراد بالذين كفروا قيل: هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر، منهم أبو جهل والحارث بن هشام، وعبتة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم. وقيل: كفار قريش. وقيل: أهل الكتاب. وقيل: كل كافر. ومعنى صَدِّهِمْ عن سبيل الله، قيل: صدوا أنفسهم عن السَّبيل، ومنعوا عقولهم من اتِّباع الدليل. وقيل: صدوا غيرهم وَمَنَعُوهُم.
قوله: ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ يجوز فيه الرفع على الابتداء والخبر الجملة من قوله: ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ ويجوز نصبه على الاشتغال بفعل مقدر يفسره «أضل» من حيث المعنى، أي خَيَّبَ الَّذينَ كَفَرُوا.
قوله: ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ أي أبطلها فلم يقبلها وأراد بالأعمال ما فعلوا من إطعام
424
الطعام، وصلةِ الأرحام قال الضحاك: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجعل الدائرة عليهم.
قوله: ﴿والذين آمَنُواْ﴾ يجوز فيه الوجهان المتقدمان، وتقدير الفعل: «رَحِمَ الَّذِينَ آمَنُوا».
قوله: ﴿وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ﴾ والعامة على بناء الفعل نزل للمفعول مشدداً، وزيد بن علي وابنُ مِقْسِم نَزَّلَ مبنيًّا للفاعل وهو اللهُ، والأعمش أُنْزِلض بهمزة التعدية مبنياً للمفعول. وقرىء: نَزَلَ ثلاثياً مبنياً للفاعل. قال سفيان الثوري: لم يخالفوه في شيء. قال بان عباس: «الذين كفروا وصدوا» مشركُوا مكَّةَ والذين آمنوا وعملوا الصالحات الأَنْصَارُ.
قوله: ﴿وَهُوَ الحق﴾ جملة معترضة بين المبتدأ والخبر المفسَّر والمفسِّر.
قوله: ﴿كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ حالهم. وتقدم تفسير «البال» في طه. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) : معنى: أصلح، أي عَصَمَهُمْ أيَّامَ حَيَاتِهِمْ يعني أن هذا الإصلاحَ يعود إلَى صلاح أعمالهم حتَّى لا يَعْصُوا.

فصل


قالت المعتزلة: تكفير السيئات مرتّب على الإيمان، والعمل الصالح، فمن آمن ولم يعمل صالحاً يبقى في العذاب خالداً.
والجواب: لو كان كما ذكرتم لكان الإضلال مرتباً على الكفر والصّد، فمن يكفر لا ينبغي أن تضل أعماله. أو نقول: إن الله تعالى رتَّب أمرين فمن آمن كفر سيئاته، ومن عمل صالحاً أصلح باله. أو نقول: أي مؤمنٍ يتصور غير آت بالصالحات بحيث لا يصدر عنه صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا طعام، وعلى هذا فقوله: «وعَملُوا» من عطف المسببِ على السبب كقول القائل: أَكَلْتُ كَثِيراً وشَبِعْتُ.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله: «وآمنوا بما نُزّل على محمد» مع أن قوله: «آمنوا وعلموا الصلحات» أفاد هذا المعنى؟.
فالجواب: من وجوه:
425
الأول: قوله: «الذين آمنوا» أي الله ورسوله، واليوم الآخر، وقوله: «آمَنُوا بِمَا نزل» أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله تعميماً بعد أمور خاصة كقولنا: خلق الله السموات والأرض وكل شيء إما على معنى وكل شيء غير ما ذكرنا، وإما على العموم بعد ذكر الخصوص.
والثاني: أن يكون المعنى آمنوا من قبل بما نزل على محمد «وهُوَ الحَقُّ» المعجز الفارق بين الكاذب والصادق يعني آمنوا أولاً بالمعجز، وأيقنوا أن القرآن لا يأتي به غير الله فآمنوا وعلموا الصالحات والواو للجمع المطلق. (و) يجوز أن يكون المتأخر ذكراً متقدماً وقوعاً، وهذا كقول القائل آمن به وكان الإيمان به واجباً ويكون بياناً لإيمانهنم، كأنه قال: آمنوا وآمنوا بما نزل على محمد أي آمنوا وآمنوا بالحق كقول القائل: خرجتُ وخرجت مصيباً أي وكان خروجي جيداً، حيث نجوت من كذا أو ربحت كذا، فكذلك لما قال آمنوا بين أن إيمانهم كان بما أمر الله وأنزل الله لا بما كان باطلاً من عند غير الله.
قوله: «ذلك» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مبتدأ والخبر الجار بعده.
الثاني: قال الزمخشري: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي الأمر ذلك بسبب كذا. فالجار في محلِّ نصب قال أبو حيان: ولا حاجة إليه.
قوله: ﴿بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل﴾ أي الشيطان. وقيل: قول كبرائهم، ودين آبائهم ﴿الذين آمَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾ يعني القرآن. وقيل: الحق هو الله تعالى: وعلى هذا فلا يكون قوله: «من ربهم» متعلقاً بالحق وإنما يتعلق بقوله تعالى: ﴿اتبعوا﴾ أي اتبعوا من ربهم، أو من فضل الله أو هداية ربهم ابتعوا بالحق؛ وهو الله تعالى.
ويحتمل أن يقال: قوله: ﴿مِن رَّبِّهِمْ﴾ عائد إلى الفريقين جميعاً، أي من ربهم اتبع هؤلاء الباطل، وهؤلاء الحق، وأي من حكم ربهم ومن عند ربهم.
قوله: «كذلك يضرب» خرجه الزمخشري على مثل ذلك الضرب يضرب الله للناس أمثالهم (والضمير راجع إلى الفريقين أو إلى الناس على معنى أنه يضرب أمثالهم) لأجل الناس ليعتبروا (انتهى).

فصل


قال الزجاج: معناه كذلك بين الله أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال
426
الكافرين. والمراد بالأمثال الأشكال. وقيل: بين كون الكافر متبعاً للباطل وكون المؤمن متبعاً للحق. والضمير في قوله ﴿أَمْثَالَهُمْ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يعود إلى الناس، كأنه تعالى قال: يضرب للناس أمثال أنْفُسِهِمْ.
والثاني: يعود إلى الفريقين السابقين، والمعنى يضرب الله للناس أمثال الفريقين السَّابقين.
427
قوله :﴿ والذين آمَنُواْ ﴾ يجوز فيه الوجهان المتقدمان، وتقدير الفعل :«رَحِمَ الَّذِينَ آمَنُوا ».
قوله :﴿ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ ﴾ والعامة على بناء الفعل نزل للمفعول مشدداً، وزيد بن علي وابنُ مِقْسِم نَزَّلَ مبنيًّا١ للفاعل وهو اللهُ، والأعمش أُنْزِل بهمزة التعدية مبنياً للمفعول٢. وقرئ : نَزَلَ ثلاثياً مبنياً للفاعل٣. قال سفيان الثوري : لم يخالفوه في شيء. قال بان عباس :«الذين كفروا وصدوا » مشركُو مكَّةَ والذين آمنوا وعملوا الصالحات الأَنْصَارُ.
قوله :﴿ وَهُوَ الحق ﴾ جملة معترضة بين المبتدأ والخبر المفسَّر والمفسِّر.
قوله :﴿ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴾ حالهم٤. وتقدم تفسير «البال » في طه٥. قال ابن عباس ( رضي الله عنه ) : معنى : أصلح، أي عَصَمَهُمْ أيَّامَ حَيَاتِهِمْ يعني أن هذا الإصلاحَ يعود إلَى صلاح أعمالهم حتَّى لا يَعْصُوا.

فصل


قالت المعتزلة : تكفير السيئات مرتّب على الإيمان، والعمل الصالح، فمن آمن ولم يعمل صالحاً يبقى في العذاب خالداً.
والجواب : لو كان كما ذكرتم لكان الإضلال مرتباً على الكفر والصّد، فمن يكفر لا ينبغي أن تضل أعماله. أو نقول : إن الله تعالى رتَّب أمرين فمن آمن كفر سيئاته، ومن عمل صالحاً أصلح باله. أو نقول : أي مؤمنٍ يتصور غير آت بالصالحات بحيث لا يصدر عنه صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا طعام، وعلى هذا فقوله :«وعَملُوا » من عطف المسببِ على السبب كقول القائل : أَكَلْتُ كَثِيراً وشَبِعْتُ.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله :«وآمنوا بما نُزّل على محمد » مع أن قوله :«آمنوا وعلموا الصالحات » أفاد هذا المعنى ؟.
فالجواب : من وجوه :
الأول : قوله :«الذين آمنوا » أي الله ورسوله، واليوم الآخر، وقوله :«آمَنُوا بِمَا نزل » أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله تعميماً بعد أمور خاصة كقولنا : خلق الله السموات والأرض وكل شيء إما على معنى وكل شيء غير ما ذكرنا، وإما على العموم بعد ذكر الخصوص.
والثاني : أن يكون المعنى آمنوا من قبل بما نزل على محمد «وهُوَ الحَقُّ » المعجز الفارق بين الكاذب والصادق يعني آمنوا أولاً بالمعجز، وأيقنوا أن القرآن لا يأتي به غير الله فآمنوا وعلموا الصالحات والواو للجمع المطلق. ( و ) يجوز أن يكون المتأخر ذكراً متقدماً وقوعاً، وهذا كقول القائل آمن به وكان الإيمان به واجباً ويكون بياناً لإيمانهم، كأنه قال : آمنوا وآمنوا بما نزل على محمد أي آمنوا وآمنوا بالحق كقول القائل : خرجتُ وخرجت مصيباً أي وكان خروجي جيداً، حيث نجوت من كذا أو ربحت كذا، فكذلك لما قال آمنوا بين أن إيمانهم كان بما أمر الله وأنزل الله لا بما كان باطلاً من عند غير الله.
قوله :«ذلك » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مبتدأ والخبر الجار بعده٦.
الثاني : قال الزمخشري : أنه خبر مبتدأ مضمر، أي الأمر ذلك بسبب كذا٧. فالجار في محلِّ نصب قال أبو حيان : ولا حاجة إليه٨.
١ من القراءات الشاذة غير المتواترة انظر الكشاف ٣/٥٣٠ والبحر ٨/٧٣..
٢ قراءة كسابقتها في الشذوذ وانظر المرجعين السابقين..
٣ لم ترو أيضا في المتواتر ولم تنسب في كل من المرجعين السابقين..
٤ انظر هذه المعاني في القرطبي ١٦/٢٢٤..
٥ عند قوله: ﴿فما بال القرون الأولى﴾ الآية ٥١..
٦ هذا رأي أبي حيان في البحر ٨/٧٣..
٧ الكشاف ٣/٥٣٠..
٨ البحر المحيط المرجع السابق..
قوله :﴿ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل ﴾ أي الشيطان. وقيل : قول كبرائهم، ودين آبائهم ﴿ الذين آمَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ ﴾ يعني القرآن. وقيل : الحق هو الله تعالى : وعلى هذا فلا يكون قوله :«من ربهم » متعلقاً بالحق وإنما يتعلق بقوله تعالى :﴿ اتبعوا ﴾ أي اتبعوا من ربهم، أو من فضل الله أو هداية ربهم اتبعوا بالحق ؛ وهو الله تعالى.
ويحتمل أن يقال : قوله :﴿ مِن رَّبِّهِمْ ﴾ عائد إلى الفريقين جميعاً، أي من ربهم اتبع هؤلاء الباطل، وهؤلاء الحق، وأي من حكم ربهم ومن عند ربهم١.
قوله :«كذلك يضرب » خرجه الزمخشري على مثل ذلك الضرب يضرب الله للناس أمثالهم٢ ( والضمير راجع إلى الفريقين أو إلى الناس على معنى أنه يضرب أمثالهم )٣ لأجل الناس ليعتبروا ( انتهى )٤.

فصل


قال الزجاج : معناه كذلك بين الله أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال الكافرين٥. والمراد بالأمثال الأشكال. وقيل : بين كون الكافر متبعاً للباطل وكون المؤمن متبعاً للحق. والضمير في قوله ﴿ أَمْثَالَهُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه يعود إلى الناس، كأنه تعالى قال : يضرب للناس أمثال أنْفُسِهِمْ.
والثاني : يعود إلى الفريقين السابقين، والمعنى يضرب الله للناس أمثال الفريقين السَّابقين٦.
١ الرازي ٢٨/٤٢..
٢ الكشاف المرجع السابق..
٣ ما بين القوسين ساقط من (ب)..
٤ زيادة من (ب)..
٥ معاني القرآن وإعرابه ٥/٣..
٦ الكشاف ٣/٥٣٠ والرازي ٢٨/٤٢ و٤٣..
قوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ﴾ العامل في هذا الظرف فعل مقدر هو العامل في «ضَرْبَ الرِّقَابِ» تقديره فاضربوا الرقاب وقتَ مُلاَقَاتِكُمُ العَدُوَّ. ومنع أبو البقاء أن يكون المصدر نفسه عاملاً، قال: لأنه مؤكَّد وهذا أحد القولين في المصدر النائب عن الفعل، نحو: ضرباً زيداً، هل العمل منسوب إليه إم إلى عامله؟ ومنه (قول الشاعر) :
٤٤٦٢ - عَلَى جِينَ أَلْهَى النَّاسَ جُلُّ أُمُرِهِمْ فَنَدْلا زُرَيْقَ المَالَ نَذْطَ الثَّعَالِبِ
فالمال منصوب إما ب «أندل» أو ب «ندْلاً» والمصدر هنا أضيف إلى معموله. وبه استدل على أن العمل للمصدر، لإضافته إلى ما بعده ولو لم يكن عاملاً لَمَا أضيف إلى ما بعده.

فصل


قال ابن الخطيب: الفاء في قوله: «فإذا لقيتم» يستدعي متعلَّقاً تُعَلَّقُ به وتُرَتَّبُ عَلَيْه وفيه وجوه:
الأول: لما بين أن الذين كفروا أضل أعمالهم، وأن اعتبار الإنسان بالعمل ومَنْ لا
427
عمل له فهو هَمَج إعدامه خير من وجوده. ﴿فإذا لقيتم الذين كفروا﴾ بعد ظهور أن لا حرمة لهم بعد إبطال عملهم فاضربوا أعناقهم قال البغوي: فضرب الرقاب نَصْبٌ على الإغراء.
الثاني: إذا تبين تباين الفريقين وتباعد الطريقين بأن أحدهما يتبع الباطل وهو حزب الشيطان والآخر يتبع الحق وهو حِزب الرحمن حق القتال (عند التَّحَزُّب) فإذا لَقِيتُمُوهُمْ فاقْتُلُوهُمْ.
الثالث: أن من الناس من يقول لضعف قلبه وقُصُور نَظَرِه إيلام الحَيوان من الظُّلْم والطُّغْيَان ولا سيما القَتْلُ الذي هو تخريب بنيان. فيقال رَدًّا عليهم: لما كان اعتبار الأعمال باتباع الحق والباطل فلمن يُقْتَلْ في سبيل الله لتعظيم الله وبأمره له (من) الأجر ما للمصلى والصائم فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم ولا تأْخُذْكُمْ بهم رأفة. فإن ذلك اتباع للحق والاعتبار به لا بصورة الفعل.

فصل


والحكمة في اختيار ضرب الرقبة دون غيرها من الأعضاء، لأن المؤمن هنا ليس بدافع، إنما هو مدافع وذلك لأن من يدفع الصائل لا ينبغي أن يقصد أولاً مقتله، بل يُتَدَرَّج ويُضْرَب غير المقتل فإن اندفع فذاك، ولا يرقى إلى درجة الإهلاك، فأخبر تعالى أنه ليس المقصود دفعهم عنكم بل المقصود دفعهم عن وجه الأرض بالكلية، وتطهير الأرض منهم وكيف لا والأرض لكم مسجِد، والمشركون نَجَسٌ، والمسجدُ يُطَهَّرُ من النجاسة؟ فإذاً ينبغي أن يكون قصدكم أولاً إلى قتلهم بخلاف دفع الصَّائل. والرقبة أظهر المقاتل، لأن قطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت، بخلاف سائر المواضع ولا سيما فِي الحرب. وفي قوله «لَقِيتُمْ» ما ينبىء عن مخالفتهم الصَّائل، لأن قوله: «لقيتم» يدل على أن القصد من جانبهم بخلاف قولنا «لقيكم»، ولذلك قال في غير هذا الموضع
﴿واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ﴾ [النساء: ٩١].
فإن قيل: ما الفائدة في قوله ههنا: ﴿فَضَرْبَ الرقاب﴾ بإضمار الفعل وإظهار
428
المصدر، وقال في الأنفال: ﴿فاضربوا فَوْقَ الأعناق﴾ [الأنفال: ١٢] بإظهار الفعل وترك المصدر؟!.
فالجواب مبني على تقديم مقدَّمة، وهي أن المقصود في بعض الصور قد يكون صدور الفعل من فاعل ويتبعه المصدر ضمناً؛ إذ لا يمكن أن يفعلَ فاعل إلا فاعل، فيطلب منه أن يفعل مثاله من قال: أنِّي حَلَفْتُ أن أخْرُج مَن المدينة، فيقال له: فاخْرج صار المقصود صدور الفِعْل منه والخروج في نفسه غير مقصود الابتعاد ولو أمكن أن يخرج من غير تحقق الخروج منه لما كان عليه أن لا يَخْرُج لكن في ضرورة الخروج أن يخرج. فإذا قال قائل صادق: ضَاقَ بي المكانُ بسبب الأعداء فيقال مثلاً: الخروج يعني الخروج فاخرج فإن الخروج هو المطلوب، حتى لو أمكن الخروج منغير فعل منه، لحصل الغرض لكنه محال فيعبته الفعل. وإذا عرف هذا فيقال: في الأنفال الحكاية عن الحرب الكائنة، وهم كانوا فيها والملائكة أنزلوا للنّصرة (و) من حضر في صفِّ القتالِ، فصدور الفعل منه مطلوب. وههنا الأمر وارد ليس في وقتِ القِتال، بدليل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ﴾ والمقصود بيان كون المصدر مطلوباً لتقدم المأمُورِ على الفِعْل قال: ﴿فَضَرْبَ الرقاب﴾. وفي ذلك بيان فائدة أخرى، وهي أن الله تعالى قال هناك ﴿واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: ١٢] وذلِكَ لأن الوقت وقت القتال فأرشدهم إلى القتل وغيره إن لم يصيبوا المقتل وههنا ليس وقت القتال. فبين أن المقصود القتل وغرض المسلم ذلك.
قوله: ﴿حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ﴾ هذه غاية للأمر بضرْب الرِّقاب، لا لبيان غاية القتل. وقوله: ﴿فَشُدُّواْ الوثاق﴾ قرأ السُّلَمِيُّ: فَشِدُّوا بكسر الشين وهي ضعيفة جِدًّا. والوَثَاقُ بالفتح وفيه الكسر اسم ما يُوثَقُ به والمعنى حتى إذا أثْخَنْتُمُوهُمْ أي بالَغْتُم في القتل وقَهَرْتُمُوهُمْ فشدّوا الوثاق يعني في الأسر حتى لا يَفْلِتوا. والأسر يكون بعد المبالغة في القتل كقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض﴾ [الأنفال: ٦٧].
429
قوله: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾. فيهما وجهان:
أشهرهما: أنهما منصوبان على المصدر بفعل لا يجوز إظهاره؛ لأن المصدر متَى سبق تفصيلاً لعاقبة جملة وجب نصبه بإِضمار فعل لا يجوز إظهاره، والتقدير: فَإِمَّا أنْ تَمُنُّوا وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوا فِدَاءً ومثله:
٤٤٦٣ - لأَجْهَدَنَّ فَإِمَّا دَرْءَ وَاقِعَةٍ تُخْشَى وَإِمَّا بُلُوغَ السُّؤْلِ وَالأَمَلِ
والثاني: قال أبو البقاء: إنهما مفعولان بهما لعامل مقدر تقديره: أَوْلُوهُمْ مَنَّا وأقْبَلُوا مِنْهُمْ فِدَاءً.
قال أبو حيان: وليس بإعرابِ نَحْويًّ.
وقرأ ابن كثير: فِدًى بالقصر قال أبو حاتم: لا يجوز، لأنه مصدر فَادَيته. ولا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأن الفرّاء حكى فيه أربع لغات المشهور المدّ والإعراب: فِدَاءً لَكَ، وفَدَاءِ بالمد أيضاً والبناء على الكسر، والتنوين، وهو غريب جداً.
وهذا يشبه قول بعضهم: هؤلاءٍ بالتنوين. وفِدًى بالكسر مع القصر، وفَدًا بالفتح مع القصر أيضاً. والأوزار هنا الأثقال. وهو مجاز. وقيل: هو من مجاز الحذف أي أهْل الحرب. والأوزار عبارة عن آلات الحرب قال (الشاعر في معنى ذلك رَحِمَهُ اللَّهُ) :
430
٤٤٦٤ - وَأَعْدَدْتَ لِلْحَرْبِ أَوزَارَهَا رِمَاحاً طُوَالاً وَخَيْلاً ذُكُورا
وحتى الأولى غاية لضرب الرقاب، والثانية ل «شُدُّوا» ويجوز أن يكونا غايتين لضَرْب الرِّقاب علىأن الثانية توكيد وبدل.
قال ابن الخطيب: وفي تعلق «حَتَّى» وجْهَانِ:
أحدهما: تعلقها بالقتل أي اقْتُلُوهُمْ حَتَّى تَضَعَ.
وثانيهما: بالْمَنِّ والفِداء. ويحتمل أن يقال متعلقة بقوله: «فشدوا الوثاق» وتعلقها بالقتل أظهر.

فصل


قدم المن على الفداء، لأن حرمة النفس راجحة على طلب المال. والفداء يجوز أن يكون مالاً ويجوز أن يكون غيره من الأشياء ويشرط بشرط عليهم، أوعليه وحده.

فصل


قال ابن الخطيب: الوزر الإثمُ أو السِّلاح، والإثم إنما هو على المحارب وكذلك السلاح ومعناه تضع الحرب الأوزار التي على المحاربين أو السلاح الذي عليهم، كقوله تعالى: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] فكأنه قال: حتى تَضَع أمةُ الحرب، أو فِرقةُ الحرب أوزارها. والمراد انقضاء الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر لا حزب ن أحزاب الإسلام هذا إذا أمعنت النظر في المعنى. ولو قلنا: حتى تضع أمة الحرب جاز أن يضعوا الأسلحة ويتركوا الحرب وهي باقية، كقول القائل: خصومتي ما انْفَصَلَتْ، ولكني تركتها في هذه الأيام. وإذا أسندنا الوضع إلى الحرب يكون معناه إن الحرب لم تَبْقَ. واختلفوا في وقت وضع الأوزار على أقوال، يرجع حاصلها إلى الوقت الذي لا يبقى فيه حِزْبٌ من أحْزَاب الإسلام، ولا حزب من أحزاب الكفر. وقيل: ذلك عند قتال الدجال ونزول عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.

فصل


اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هي منسوخة بقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي
431
الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: ٥٧] وبقوله: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] وإليه ذهب قتادة والضحاك، والسُّديُّ وابنُ جُرَيْجٍ، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي وقوالوا: لا يجوز المنّ على من قوع في الأسر من الكفار ولا الفداء.
وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا أوقعوا في الأسر بين أن يقتلهم، أو يَسْتَرِقَّهُمْ أو يمُنَّ عليهم فيطلقهم بلا عوض أو يُفَادِيهم بالمال أو بأسارى المسلمين. وإليه ذهب ابنُ عمر. وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء. وهو قول الثَّوريِّ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) لما كثر المسلمون واشتد سلطناهم أنزل الله في الأسارى ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾، وهذا هو الأصح والاختيار، لأنه عمل به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والخلفاءُ بعده.
روى البخاري عن أبي هريرةَ قال: «بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خيلاً قبل نَجْد، فجاءت برجُل من بني حنيفة، يقال (له) ثُمَامَةُ بنُ أُثَالِ، فربطوه في سَارِيَةٍ من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خيرٌ يا محمد، إن تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإن تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شاكرٍ وإنْ كُنْتَ تريدُ المالَ فلك ما شئتَ، حتى كان الغَدُ لقال له: ما عندك يَا ثُمَامَةُ؟ فقال: عندي ما قلتُ لك: إن تُنْعِمْ تُنْعمْ عَلَى شكر. فتركه حتى إذا كان بعد الغد قال: ما عند يا ثمامةُ؟ قال: عندي ما قلتُ لك قال: أطْلِقُ اثمامة، فانطلق إلى نخل قريبٍ من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغضُ إليَّ مِنْ وَجْهِكَ فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ، واللهِ ما ك ان من دينٍ أبغَضَ إلَيَّ من دينكَ فأصبح دينُك أحبَّ الدِّين إلَيَّ. واللهِ ما كان من بَلَدٍ أبغضَ إلَيَّ من بلدِكَ فقد أصبح بلدكُ أحبَّ البلادِ إلَيَّ. وإ، خَيْلكَ أخذتني وأنا أريدُ العُمْرَةَ فما ترى؟ فبشَّره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل: صَبَوْتَ؟ قال: لا ولكن أسلمت مع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا واللهِ لا يأتيكُم من اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْكَةٍ حتى يأذن فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قال: أسر أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً من عَقِيل فأوثقوه، وكانت ثَقِيفٌ قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَفَداهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالرجلين اللذين أَسَرَتْهُمَا ثَقِيفٌ.
432
قوله: «ذَلك» يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي الأمر ذلك وأن ينتصب بإضمار «افْعَلُوا». قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: واجبٌ أو مقدمٌ كما يقول القائل: إنْ فعلت فذاك، أي فذاك مقصود ومطلوبٌ.

فصل


قال المفسرون: معناه «ذلك» الذي ذكرت وبيّنت من حكم الفكار، ﴿وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ﴾ فأهلكهم وكفاهم أمرهم بغير قتال، «ولكن» أمركم بالقتال ﴿لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب، ومن قتل من الكافرين إلى العذاب.
فإن قيل: ما التحقيق في قولنا: التكليف ابتلاء وامتحان والله يعلم السِّرَّ وأخْفَى؟
فالجواب من وجوه:
الأوّل: أن المراد منه يفعل ذلك فعل المسلمين أي كما يقول المبتلى المُخْتَبَر.
الثاني: أن الله تعالى يَبْلُو ليظهر الأمر لغيره، إما للملائكة، أو للناس والتحقيق هو أن الابتلاء والاختبار فعل يظهر بسببه أمر ظاهر.
فإن قيل: فائدة الابتلاء حصول العلم عند المبتلي، فإذا كان الله عالماً فَأَيُّ فائدةٍ فيه؟
فالجواب: أن هذا السؤال كقول القائل لم عاقب الكافر وهو مُسْتَغْنٍ؟ ولم خلق النار مُحْرِقَةً وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضر؟ وجوابه: لاَ يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) ؟
قوله: ﴿والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ قرأ العامة قَاتَلُوا. وأبو عمرو وحفصٌ قُتِلُوا مبنياً للمفعول على معنى أنهم قُتِلُوا وماتوا؛ أصاب القتل بعضهم كقوله: ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ [آل عمران: ١٤٦]. وقرأ الجَحْدَرِيّ: قَتَلُوا بفتح القاف والتاء خفيفة ومفعوله محذوف. وزيد بن ثابت والحسن وعيسى قُتِّلُوا، بتشديد التاء مبنياً للمفعول.
قوله: ﴿فلن يضل أعمالهم﴾ قرأ على رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يُضَلَّ مبنياً للمفعول أَعْمَالُهُمْ
433
بالرفع لقيامه مقام الفاعل. وقرىء: تَضِلَّ بفتح التاء أَعْمَالُهُمْ بالرفع فاعلاً. والفاء في قوله: «فَلَنْ يُضِلّ» جَزَائية؛ لأن قوله تعالى: ﴿والذين قُتِلُواْ﴾ فيه معنى الشرط. قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أُحُدٍ، وقد
فَشَتْ في المسلمين الجِرَاحَاتُ والقَتْلُ.
قوله: ﴿سَيَهْدِيهِمْ﴾ أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور وفي الآخرة إلى الدرجات ﴿وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ برضى خصمائهم وتقبل أعمالهم. وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى: ﴿وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ والماضي والمستقبل راجحٌ إلى أن هناك وعدهم ما وعدهم بسبب الإيمان، والعمل الصالح، وكان قد وقع منهم فأخبر عن الجزاء أيضاً بصيغة الوقوع.
وههنا وعدهم بسببه القتل والقتال وكان في اللفظ ما يدل على الاستقبال، لأن قوله ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ﴾ يدل على الاستقبال فقال: ﴿بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة﴾.
قوله: ﴿عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون مستأنفة.
والثاني: أن تكون حالاً.
فيجوز أن تضمر «قد»، وأن لا تضمر، و «عَرَّفَهَا» من التعرف الذي هو ضد الجَهْل والمعنى أن كل أحد يعرف منزله في الجنة. وقيل: الملك الموكل بأعماله يهديه.
وعن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أنه من العَرْفِ وهو الطيب أي طيِّبهَا لهم.
وقال الزمخشري: يحتمل أن يقال: عرَّفَهَا لهم من عرَّفَ الدَّارَ وأَوْرَثَها أي حددها، وتحديدها في قوله تعالى: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض﴾ [آل عمران: ١٣٣]، ويحتمل أن يقال: المراد هو قوله تعالى لهم: ﴿وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا﴾ [الزخرف: ٧٢] فيشير إليه معرفاً لهم بأها هي تلك. وقيل: عرفها لهم وقت القتل، فإن الشهيد وقت وفاته يُعْرَضُ عليه منزلة في الجنة فيشتاقُ إليه. وقرأ أبو عمرو في رواية ويِّدْخِلْهُمْ بسكون اللام وكذا ميم ويُطْعِمُهُمْ وعين ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ [النساء: ٨٧] كان
434
قوله :﴿ سَيَهْدِيهِمْ ﴾ أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور وفي الآخرة إلى الدرجات ﴿ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾ برضى خصمائهم وتقبل أعمالهم. وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى :﴿ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾ والماضي والمستقبل راجحٌ إلى أن هناك وعدهم ما وعدهم بسبب الإيمان، والعمل الصالح، وكان قد وقع منهم فأخبر عن الجزاء أيضاً بصيغة الوقوع. وههنا وعدهم بسببه القتل والقتال وكان في اللفظ ما يدل على الاستقبال، لأن قوله ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ ﴾ يدل على الاستقبال فقال :﴿ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة ﴾.
قوله :﴿ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾ يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون مستأنفة.
والثاني : أن تكون حالاً.
فيجوز أن تضمر «قد »، وأن لا تضمر١، و«عَرَّفَهَا » من التعرف الذي هو ضد الجَهْل والمعنى أن كل أحد يعرف منزله في الجنة. وقيل : الملك الموكل بأعماله يهديه.
وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما )٢ أنه من العَرْفِ وهو الطيب أي طيِّبهَا لهم٣.
وقال الزمخشري : يحتمل أن يقال : عرَّفَهَا لهم من عرَّفَ الدَّارَ وأَوْرَثَها٤ أي حددها، وتحديدها في قوله تعالى :﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ]، ويحتمل أن يقال : المراد هو قوله تعالى لهم :﴿ وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا ﴾ [ الزخرف : ٧٢ ] فيشير إليه معرفاً لهم بأنها هي تلك. وقيل : عرفها لهم وقت القتل، فإن الشهيد وقت وفاته يُعْرَضُ عليه منزلة في الجنة فيشتاقُ إليه٥. وقرأ أبو عمرو في رواية ويِّدْخِلْهُمْ بسكون اللام٦ وكذا ميم ويُطْعِمُهُمْ٧ وعين ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ﴾ [ النساء : ٨٧ ] كان يستثقل الحركات. وقد تقدم له قراءة بذلك في ﴿ يُشْعِرُكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٠٩ ] و﴿ يَنصُرْكُمْ ﴾ [ محمد : ٧ ] وبابه.
١ انظر التبيان ١١٦٠..
٢ زيادة من (أ)..
٣ انظر الرازي ٢٨/٤٨ والقرطبي ١٦/٢٣١..
٤ كذا في النسختين والأصح كما في الكشاف ونقله عن الرازي: وأرفها..
٥ انظر هذه الأوجه في الرازي ٢٨/٤٨ والقرطبي ١٦/٢٣١..
٦ لم ترو عنه في المتواتر انظر البحر ٨/٧٦..
٧ لعله قصد "نطعمكم" من الآية ٩ من الإنسان..
يستثقل الحركات. وقد تقدم له قراءة بذلك في ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٩] و ﴿يَنصُرْكُمْ﴾ [محمد: ٧] وبابه.
قوله
: ﴿يا
أيها
الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ﴾
أي إن تنصروا دينَه وتَنْصُروا رَسُولَهُ يَنْصُرْكُمْ على عدوكم. وقيل: إنْ تنصُرُوا حِزْبَ اللهِ وفَرِيقَهُ.
قوله: ﴿وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ قرأ العامة ويثبت مشدداً. وروي عن عاصم تخفيفه من أثْبَتَ. والمعنى: ويُثَّبِّتْ أقْدَامَكُمْ عند القتال.
قوله: ﴿والذين كَفَرُواْ﴾ يجوز أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: فَتَعِسُوا وأُتْعِسُوا، بدليل قوله: ﴿فَتَعْساً لَّهُمْ﴾ وقوله: «فتعساً» منصوب بالخبر. ودخلت الفاء تشبيهاً للمبتدأ بالشرط. وقدر الزمخشري الفعل الناصب ل «تعساً» فقال: لأن المعنى يقال تعساً أي فقَضَى تَعْساً لَهُمْ. قال أبو حيان: وإضمار ما هو من لفظِ المصدر أولى. والثاني: أنه منصوب بفعل مقدر يفسره «فَتَعْساً لَهُمْ»، كما تقول: زَيْدٌ جَدَعاً لَهُ. كذا قال أبو حيان تابعاً للزمخشري. وهذا لا يجوز لأن «لهم» لا يتعلق ب «تَعْساً»، إنما هو متعلق بمحذوف لأنه بيان أي أعني عنهم. وتقدم تحقيق هذا. فإن عيَّنا إضماراً من حيثُ مُطْلَقُ الدَّلالة لا من جهة الاشتغال فمُسَلَّم، ولكن تأباه عبارتُهُما وهي قولهما: منصوب بفعل مضمر يفسره «فعساً لهم». و «أَضَلَّ: عاطف على ذلك الفعل المقدر أي أتْعَسَهُمْ وأَضَلَّ أعمالهم والتَّعْسُ ضدّ السَّعْدِ، يقال: تَعَسَ الرَّجُل بالفتح تَعْساً، وأَتْعَسَهُ اللهُ، قال مُجَمَّعٌ:
435
٤٤٦٥ - تَقُولُ وَقَدْ أَفردْتُهَا عَنْ خَليلِهَا تَعَسْتَ كَمَا أَتْعَسْتَنِي يَا مُجَمَّعُ
وقيل: تعس بالكسر عن إبي الهَيْثَم وشَمِرٍ وغيرهما. وعن أبي عبيدة: تَعسهُ واتْعَسَهُ مُتَعَدِّيَانِ، فهُما مَّما اتُّفِقَ فِيهِما فَعَلَ وأَفْعَلَ.
وقيل: التعس ضد الانتعاش، قال الزمخشري (رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى) : وتعساً له نقيض لَعَا لَهُ يعني أن كلمة» لَعَا «بمعنى انْتَعَشَ قال الأعشى:
٤٤٦٦ - بِذَاتِ لَوْث عَفْرَنَاةٍ إذَا عَثَرَتْ فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لعَا
وقيل: التعْسُ الهَلاَك. وقيل التعس الجَرُّ على الوجه، والنّكْسُ الجر على الرأس.

فصل


قال ابن عباس: صَمْتاً لهم، أي بُعْداً لهم. وقال أبو العالية: سُقْطاً لهم. وقال ابن زيد: شقاءً لهم وقال الفراء: هو نصب على المصدر على سبيل الدعاء. وقيل: في الدنيا العَثْرَةُ، وفي الآخرة التَّردَّي في النار. ويقال للعاثر: تَعْساً إذا لم يريدوا قيامه
436
وضده لمَا إذا أرادوا قيامه. وأضل أعمالهم؛ لأنها كانت في طاعة الشيطان، وهذا زِيَادَةٌ في تقوية قُلُوبِهِمْ؛ لأنه تعالى قال: لَكُم الثباتُ ولهم الزوالُ والتَّعَثُّر.
قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾ يجوز أن يكون» ذلك «مبتدأ، والخبر الجار بعده، أو خبر مبتدأ مضمر، أي الأمر ذلك بسبب أنهم كرهوا. أو منصوب بإضمار فعل أي فَعَلَ بهم ذَلِكَ بسبب أنهم كرهوا فالجار في الوجْهَيْنِ الأخيرين منصوب المحل والمعنى: ذلك التعس والإضلال بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم والمراد أنهم كرهوا القرآن، أو كرهوا ما أنزل الله من بيان التوحيد فلم يعرفوا العَمَل الصَّالِحَ بل أشركوا، والشرك يحبط العمل، قال تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] وقيل: كرهوا ما أنزل الله من بيان أمر الآخرة فلم يعملوا لها والدنيا وما فيها وما لها باطل، فأحبط الله أعمالهم.
437
قوله :﴿ والذين كَفَرُواْ ﴾ يجوز أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف تقديره : فَتَعِسُوا وأُتْعِسُوا، بدليل قوله :﴿ فَتَعْساً لَّهُمْ ﴾ وقوله :«فتعساً » منصوب بالخبر. ودخلت الفاء تشبيهاً للمبتدأ بالشرط١. وقدر الزمخشري الفعل الناصب ل «تعساً » فقال : لأن٢ المعنى يقال٣ تعساً أي٤ فقَضَى تَعْساً لَهُمْ٥. قال أبو حيان : وإضمار ما هو من لفظِ المصدر أولى. والثاني : أنه منصوب بفعل مقدر يفسره «فَتَعْساً لَهُمْ »، كما تقول : زَيْدٌ جَدَعاً لَهُ٦. كذا قال أبو حيان٧ تابعاً للزمخشري٨. وهذا لا يجوز لأن «لهم » لا يتعلق ب «تَعْساً »، إنما هو متعلق بمحذوف لأنه بيان أي أعني عنهم٩. وتقدم تحقيق هذا. فإن عيَّنا١٠ إضماراً من حيثُ مُطْلَقُ الدَّلالة لا من جهة الاشتغال فمُسَلَّم، ولكن تأباه عبارتُهُما وهي قولهما : منصوب بفعل مضمر يفسره «فتعساً لهم »١١. و«أَضَلَّ : عاطف على ذلك الفعل المقدر أي أتْعَسَهُمْ وأَضَلَّ أعمالهم١٢ والتَّعْسُ ضدّ السَّعْدِ، يقال : تَعَسَ الرَّجُل بالفتح تَعْساً، وأَتْعَسَهُ اللهُ، قال مُجَمَّعٌ :
٤٤٦٥ تَقُولُ وَقَدْ أَفردْتُهَا عَنْ خَليلِهَا تَعَسْتَ كَمَا أَتْعَسْتَنِي يَا مُجَمَّعُ١٣
وقيل : تعس بالكسر عن أبي الهَيْثَم١٤ وشَمِرٍ١٥ وغيرهما. وعن أبي عبيدة : تَعسهُ واتْعَسَهُ مُتَعَدِّيَانِ١٦، فهُما مَّما اتُّفِقَ فِيهِما فَعَلَ وأَفْعَلَ.
وقيل : التعس ضد الانتعاش، قال الزمخشري ( رحمه الله تعالى )١٧ : وتعساً له نقيض لَعَا لَهُ١٨ يعني أن كلمة «لَعَا » بمعنى١٩ انْتَعَشَ قال الأعشى :
٤٤٦٦ بِذَاتِ لَوْث عَفْرَنَاةٍ إذَا عَثَرَتْ فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لعَا٢٠
وقيل : التعْسُ الهَلاَك. وقيل التعس الجَرُّ٢١ على الوجه، والنّكْسُ الجر على الرأس٢٢.

فصل


قال ابن عباس : صَمْتاً لهم، أي بُعْداً لهم. وقال أبو العالية : سُقْطاً لهم. وقال ابن زيد : شقاءً لهم٢٣ وقال الفراء : هو نصب على المصدر على سبيل الدعاء٢٤. وقيل : في الدنيا العَثْرَةُ، وفي الآخرة التَّردَّي في النار. ويقال للعاثر : تَعْساً إذا لم يريدوا قيامه وضده لمَا إذا أرادوا قيامه. وأضل أعمالهم ؛ لأنها كانت في طاعة الشيطان، وهذا زِيَادَةٌ في تقوية قُلُوبِهِمْ ؛ لأنه تعالى قال : لَكُم الثباتُ ولهم الزوالُ والتَّعَثُّر.
١ البحر المحيط ٨/٧٦ والتبيان ١١٦١ و١١٦٠..
٢ في (ب) إن..
٣ في البحر: فقال..
٤ وفيه: أو هو بلفظ البحر عن الزمخشري انظر البحر ٨/٧٦..
٥ قال ـ رحمه الله ـ في الكشاف: "كأنه قال أتعس الذين كفروا"..
٦ البحر والكشاف السابقين..
٧ البحر والكشاف السابقين..
٨ البحر والكشاف السابقين..
٩ في "ب لهم" بدل عنهم..
١٠ في (ب) عينا..
١١ وما ذهب إليه الزمخشري وأبو حيان في نصب "تعسا" بفعل مقدر هو ما ذهب إليه الفراء في المعاني ٣/٥٨ والقرطبي في الجامع ١٦/٢٣٢ والزجاج في المعاني في أحد قوليه ٥/٩ والنحاس في الإعراب ٤/١٨١ ومكي في المشكل ٢/٣٠٥ فلا معنى لاعتراض المؤلف على كلامهما..
١٢ معاني الفراء وإعراب النحاس السابقين. وانظر أيضا التبيان ١١٦١ وكذلك البحر والكشاف السابقين..
١٣ من الطويل لمجمع بن هلال. وشاهده في تعس وأتعس حيث يأتي لازما ومتعديا. وانظر البحر ٨/٧٠، والقرطبي ١٦/٢٣٣. واللسان تعس ٤٣٣ وفتح القدير ٥/٣٢..
١٤ أبو الهيثم خالد بن يزيد الرازي كان عالما بالعربية عذب العبارة، دقيق النظر. توفي سنة ٢٢٦ وانظر نزهة الألباء ١٤٧..
١٥ ابن حمدويه الهروي أبو عمرو اللغوي الأديب أخذ عن ابن الأعرابي والفراء والأصمعي وأبي حاتم. انظر البغية ٢/٤ و٥ وانظر اللسان المرجع السابق (تعس)..
١٦ لم أعثر على رأيه هذا..
١٧ زيادة من (أ)..
١٨ "لعا" كلمة يدعى بها للعاثر معناها الارتفاع..
١٩ الكشاف ٣/٥٣٢ بالمعنى..
٢٠ هو له من البسيط وفي اللسان "أدنى" كما رواها المؤلف هنا. وقد رويت في الديوان ١٠٧، كما رواها القرطبي والبحر المحيط أولى ـ بالواو ـ والعفرناة الغول، واللوث القوة. وقد شبه ناقته بالغول، ولعا دعاء العاثر أن ينتعش أي سلمت ونجوت، وهو محل الشاهد. وانظر المحتسب ١/١٤١ والبحر ٨/٧٠ والقرطبي ١٦/٣٣٢ واللسان تعس ٤٣٣، والكشاف ٣/٥٣٢ وشرح شواهده ٤٥٠ و٤٥١..
٢١ في القرطبي: الخر بالخاء..
٢٢ نسب القرطبي هذين الوجهين إلى ابن السكيت. قال: التعس أن يخر على وجهه والنكس أن يخر على رأسه. انظر القرطبي ١٦/٢٣٣..
٢٣ ذكر هذه الأوجه القرطبي في المرجع السابق..
٢٤ معاني القرآن ٣/٥٨..
قوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ﴾ يجوز أن يكون «ذلك » مبتدأ، والخبر الجار بعده، أو خبر مبتدأ مضمر، أي الأمر ذلك بسبب أنهم كرهوا. أو منصوب بإضمار فعل أي فَعَلَ بهم١ ذَلِكَ بسبب أنهم كرهوا فالجار في الوجْهَيْنِ الأخيرين منصوب المحل والمعنى : ذلك التعس والإضلال بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم والمراد أنهم كرهوا القرآن، أو كرهوا ما أنزل الله من بيان التوحيد فلم يعرفوا العَمَل الصَّالِحَ بل أشركوا، والشرك يحبط العمل، قال تعالى :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] وقيل : كرهوا ما أنزل الله من بيان أمر الآخرة فلم يعملوا لها والدنيا وما فيها وما لها باطل، فأحبط الله أعمالهم.
١ ذكر هذين الإعرابين المحتملين الزجاج في معاني القرآن ٥/٧..
ثم خوف الكفار فقال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ﴾ أي أهلكهم.
قوله: ﴿دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ﴾ يجوز أن يكون حذف مفعوله، أي أهلك الله بُيُوتَهُمْ، وخرّبها عليم أو يضمن معنى «دمر» معنى سخط اله عليهم بالتدمير. وقوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض﴾ مناسب للوجه الأخير، يعني فينظروا إلى حالهم، ويعلموا أن الدنيا فانيةً.
قوله: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ أي أمثال العاقبة المتقدمة. وقيل: أمثال العقوبة. وقيلأ: التدمير. وقيل: الهلكة. والأول أولى لتقدم ما يعود عليه الضمير صريحاً مع صحة معناه.
437
فإن قيل: إذا عاد الضمير إلى العاقبة فكيف يكون لها أمثال؟
فالجواب: أن المراد هو العذاب الذي هو مدلول العاقبة، والألم الذي دلّت العاقبة عليه.

فصل


في المراد بقوله: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ وجهان:
أحدهما: أن المراد الكافرون بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
الثَّانِي: أن المراد أمثالها في الآخرة، فيكون المراد من الكفارين مَنْ تقدّم، كأنه يقول: دَمَرَ اللهُ عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها.
فإن قيل: إذ كان المراد (من) الكافرين بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإنهم أمثال ما كان لمن تقدمهم من العاقبة، فالأولون أهلكوا بأمور شديدة كالزَّلاَزِلِ والنِّيران والرِّيَاحِ والطُّوفَانِ، ولا كذلك قوم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
فالجواب: يجوز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين، لكون دين محمد أظهر بسبب تقدم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عليه، وأخبارهم عنه، وإنذارهم على أنهم قتلوا وأُسِرُوا بأيدي مَنْ كانوا يَسْتَخِفُّونَهُمْ ويستضعفونهم والقتل بيد المِثللا آلم من الهلاك بسبب عام.
قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ﴾ تقدم الكلام على نظيره ﴿وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ﴾ والمراد بالمولى هنا الناصر. ثم ذكر ما للفريقين فقال: ﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ لما بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بين حالهم في الآخرة وقال: إنه يدخل المؤمن الجنة، والكافر النار. وقد تقدم أن مِنْ في قوله: «مِنْ تَحْتِهَا» تحتمل أن تكون صلة معناه تجري تحتها، ويحتمل أن يكون المراد (أن) ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر، يقال: هذا نهر مَنْبَعُهُ مِنْ أَيْنَ؟ يقال: من عين كذا من تحت جبل كذا.
قوله: ﴿والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام﴾ أي ليس لهم هِمة إلا بطونهم وفروجهم وهم لاهون عما في غد. قيل: المؤمن في الدنيا يتزود، والكافر يتزين، والكافر يتمتع.
قوله: ﴿كَمَا تَأْكُلُ الأنعام﴾ إما حال من ضمير المصدر، أي يأكلون الأكل مشبهاً أكل الأنعام وإما نعت لمصدر أي أكلاً مثل أكل الأنعام.
438
قوله: ﴿والنار مَثْوًى لَّهُمْ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافاً. ويجوز أن تكون حالاً، ولكنها مقدرة أي يأكلون مقدار ثَوْيتهم في النار. وقال في حق المؤمن: ﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ﴾ بصيغة الوعد، وقال في حق الكافر: ﴿النار مثوى لهم﴾ بصغية تنبىء عن الاستحقاق، لأن الإحسان لا يستدعي استحقاقاً، فالمحسن إلى من يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم. والمعذب من غير استحقاق ظالم.
قوله: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ﴾ يريد أهل، ولذلك راعى هذا المقدر في قوله: ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ﴾ بعدما راعى المضاف في قوله: ﴿هِيَ أَشَدُّ﴾ والجملة من هي ابتداء صفة لقرية. وقال ابن عطية: نسب الإخراج للقرية حملاً على اللفظ وقال: «أهلكناهم» حملاً على المعنى. قال أبو حيان: وظاهر هذا الكلام لا يَصِحّ لأن الضمير في «أهلكناهم» ليس عائداً على المضاف إلى القرية التي أسند إليه الإخراج بل على أهل القرية في قوله: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ﴾ فإن كان أراد بقوله: «حملاً على المعنى»، أي معنى القرية في قوله: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ﴾ فهو صحيح، لكن ظاهر قوله: حملاً على اللفظ، وحملاً على المعنى أن يكون في مدلول واحد. وكان على هذا يبقى كأين مفلتاً غير محدَّث عنه بشيء إلا أن يتخيَّل أن ﴿هِيَ أَشَدُّ﴾ خبر عنه والظاهر أنه صفة لقرية. قال شهاب الدين: وابنُ عطية إنما أراد لفظ القرية من حيث الجملة لا من حيث التفسير.

فصل


لما ضرب الله لهم مثلاً بقوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض﴾، ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل، ضرب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثلاً تسلية له فقال: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ﴾ أي أخرجك أهلها، قال ابن عباس: كان رجالهم أشد من أهل مكة، يدل عليه قوله: ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ﴾ ولم يقل: «أهلكناها» فلا ناصر لهم كذلك يفعل بهم، فاصبر كما صبر رسلهم.
وقوله: ﴿فلا ناصر لهم﴾ قال الزمخشري (كيف) قال ﴿فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ﴾ (مع) أن الإهلاك ماضٍ وقوله: ﴿فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ﴾ للحال والاستقبال محمول على الحكاية، والحكاية كالحال الحاضر، ويحتمل أن يقال: قوله: ﴿فلا ناصر لهم﴾ عائد على أهل قرية محمد
439
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كأنه قال: أهلكنا من تقدم من أهل دينك ولا ناصر لأهل قريتك ينصرهم ويُخلِّصهُمْ مِنْ مِثْلِ ما جرى على الأولين.

فصل


قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : لما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى الغار التفت إلى مكة، وقال: أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إلَيَّ، ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك. فأنزل الله هذه الآية.
قوله: ﴿أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ أفمن كان مبتدأ والخبر ﴿كَمَن زُيِّنَ لَهُ﴾ وحمل على لفظ «مَنْ» فأفرد في قوله: «سوء عمله»، وعلى المعنى فجمع في قوله: ﴿واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ﴾. (والجملة من «اتبعوا أهواءهم» عطف على «زين» ؛ فهو صلة.

فصل


معنى قوله: «أفمن كان على بينة من ربه» أي يقين من دينه، يريد محمداً والمؤمنين، كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) يعني عبدة الأوثان، يريد أبا جهل والمشركين.
440
قوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ ﴾ تقدم الكلام على نظيره ﴿ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ ﴾ والمراد بالمولى هنا الناصر.
ثم ذكر ما للفريقين فقال :﴿ إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ لما بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بين حالهم في الآخرة وقال : إنه يدخل المؤمن الجنة، والكافر النار. وقد تقدم أن مِنْ في قوله :«مِنْ تَحْتِهَا » تحتمل أن تكون صلة معناه تجري تحتها، ويحتمل أن يكون المراد ( أن )١ ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر، يقال : هذا نهر مَنْبَعُهُ مِنْ أَيْنَ ؟ يقال : من عين كذا من تحت جبل كذا٢.
قوله :﴿ والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام ﴾ أي ليس لهم هِمة إلا بطونهم وفروجهم وهم لاهون عما في غد. قيل : المؤمن في الدنيا يتزود، والكافر يتزين، والكافر يتمتع٣.
قوله :﴿ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام ﴾ إما حال من ضمير المصدر، أي يأكلون الأكل مشبهاً أكل الأنعام وإما نعت لمصدر أي أكلاً مثل أكل الأنعام.
قوله :﴿ والنار مَثْوًى لَّهُمْ ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافاً. ويجوز أن تكون حالاً، ولكنها مقدرة أي يأكلون مقدار ثَوْبتهم في النار. وقال في حق المؤمن :﴿ إِنَّ الله يُدْخِلُ ﴾ بصيغة الوعد، وقال في حق الكافر :﴿ النار مثوى لهم ﴾ بصيغة تنبئ عن الاستحقاق، لأن الإحسان لا يستدعي استحقاقاً، فالمحسن إلى من يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم. والمعذب من غير استحقاق ظالم٤.
قوله :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ ﴾ يريد أهل، ولذلك راعى هذا المقدر في قوله :﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ بعدما راعى المضاف في قوله :﴿ هِيَ أَشَدُّ ﴾ والجملة من هي ابتداء صفة لقرية. وقال ابن عطية : نسب الإخراج للقرية حملاً على اللفظ وقال :«أهلكناهم » حملاً على المعنى٥. قال أبو حيان : وظاهر هذا الكلام لا يَصِحّ لأن الضمير في «أهلكناهم » ليس عائداً على المضاف إلى القرية التي أسند إليه الإخراج بل على٦ أهل القرية في قوله :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ ﴾ فإن كان أراد بقوله :«حملاً على المعنى »، أي معنى القرية في قوله :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ ﴾ فهو صحيح، لكن ظاهر قوله : حملاً على اللفظ، وحملاً على المعنى أن يكون في مدلول واحد. وكان على هذا يبقى كأين مفلتاً غير محدَّث عنه بشيء إلا أن يتخيَّل أن ﴿ هِيَ أَشَدُّ ﴾ خبر عنه والظاهر أنه صفة لقرية٧. قال شهاب الدين : وابنُ عطية إنما أراد لفظ القرية من حيث الجملة لا من حيث التفسير٨.
١ سقط من (ب)..
٢ انظر كل هذا في الرازي ٢٨/٥٠ و ٥١..
٣ القرطبي ١٦/٢٣٤..
٤ الرازي السابق..
٥ البحر المحيط ٨/٧٧ و٧٨..
٦ في البحر: إلى..
٧ بالمعنى من المرجع السابق..
٨ الدر المصون للعلامة شهاب الدين السمين الحلبي مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١٠٠..

فصل


لما ضرب الله لهم مثلاً بقوله :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض ﴾، ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل، ضرب للنبي صلى الله عليه وسلم مثلاً تسلية له فقال :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ ﴾ أي أخرجك أهلها، قال ابن عباس : كان رجالهم أشد من أهل مكة، يدل عليه قوله :﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ ولم يقل :«أهلكناها » فلا ناصر لهم كذلك يفعل١ بهم، فاصبر كما صبر رسلهم.
وقوله :﴿ فلا ناصر لهم ﴾ قال الزمخشري ( كيف )٢ قال ﴿ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ ( مع )٣ أن الإهلاك ماضٍ وقوله :﴿ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ للحال والاستقبال محمول على الحكاية، والحكاية كالحال الحاضر٤، ويحتمل أن يقال : قوله :﴿ فلا ناصر لهم ﴾ عائد على أهل قرية محمد عليه الصلاة والسلام كأنه قال : أهلكنا من تقدم من أهل دينك ولا ناصر لأهل قريتك ينصرهم ويُخلِّصهُمْ مِنْ مِثْلِ ما جرى على الأولين٥.

فصل


قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )٦ : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة، وقال : أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إلَيَّ، ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك. فأنزل الله هذه الآية٧.
١ في (ب) نفعل. وانظر البحر ٨/٧٨..
٢ زيادة من الرازي يقتضيها السياق..
٣ زيادة من الرازي يقتضيها السياق..
٤ وهو بلفظ الرازي نقلا بالمعنى من الكشاف ٣/٥٣٣ وانظر الرازي ٢٨/٥٢..
٥ هذا رأي الإمام الرازي في مرجعه السابق..
٦ زيادة من (أ)..
٧ القرطبي ١٦/٢٣٥ والبحر ٨/٧٨..
قوله :﴿ أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ أفمن كان مبتدأ والخبر ﴿ كَمَن زُيِّنَ لَهُ ﴾ وحمل على لفظ «مَنْ » فأفرد في قوله :«سوء عمله »، وعلى المعنى فجمع في قوله :﴿ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾. ( والجملة١ من «اتبعوا أهواءهم » عطف على «زين » ؛ فهو صلة.

فصل


معنى قوله :«أفمن كان على بينة من ربه » أي يقين من دينه، يريد محمداً والمؤمنين، كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ) يعني عبدة الأوثان، يريد أبا جهل والمشركين.
١ ما بين القوسين سقط من (ب) بسبب انتقال النظر وهو بتوضيح وتفصيل في التبيان للعكبري ١١٦١..
قوله: ﴿مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون﴾ لما بين الفرق بين في الاهتداء والإضلال بين الفرق بينهما في مرجعهما ومآلهما.
قوله: «مثل الجنة» فيها أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ وخبره مقدر، فقدره النضْرُ بنُ شُمَيْل: مثل الجنة ما يسمعون «فما يسمعون» خبر، و ﴿فِيهَآ أَنْهَارٌ﴾ مفسر له. وقدره سبيويه: فيما يتلى عليكم ثمل الجنة.
والجملة بعدها أيضاً مفسرة للمثل. قال سيبويه: المثل هو الوصف ومعناه وصف الجنة، وذلك لا يقتضي مشابهة.
440
الثاني: أن مثل زائدة تقديره: الجنَّةُ التي وعد المتقون فيها أنهار. ونظير زيادة مثل هنا زيادة «اسم» في قوله:
٤٤٦٧ - إلَى الْحَوْلِ ثُمَ اسْمُ السَّلاَم عَلَيْكُمَا.........................
الثالث: أن مثل الجنة مبتدأ، والخبر قوله: «فيها أنهار»، وهذا ينبغي أن يمتنع؛ إذ لا عائد من الجملة إلى المبتدأ، ولا ينفع كون الضمير عائداً على ما أضيف إليه المبتدأ.
الرابع: أن مثل الجنة مبتدأ خبره ﴿كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار﴾ فقدره ابن عطية: أمثل أهل الجنة كمن هو خالد (في النار) (فقدر حرف الإنكار ومضافاً ليصحَّ.
وقدره الزمخشري أمثل الجنة كمن جزاؤه من هو خالد) والجملة من قوله: ﴿فِيهَآ أَنْهَارٌ﴾ على هذا فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: هي حال من الجنة، أي مستقرة فيها أنهار.
الثاني: أنها خبر لمبتدأ مضمر، أي هي فيها أنهار، كأن قائلاً قال: ما فكيها؟ فقيل: فيها أنهار.
الثالث: أن تكون تكريراً للصلة، لأنها في حكمها، ألا ترى إلى أنه يصح قولك:
التي فيها أنهار.
وإنما أعري قوله مثل الجنة تصوير المكابرة من أن يسوّي بين المستمسك بالبينة وبين التابع هواه، كمن يسوّي بين الجنة التي صفتها كيت وكيت وبين النار التي صفتها أن يسقي أهلُها الحَمِيم. ونظيره قوله القائل رَحِمَهُ اللَّهُ:
441
هذا كلام منكر الفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تَعَرِّيه من حرف الإنكار. وذكر ذلك كله الزمخشري. وقرأ علي بن أبي طالب: مِثَالُ الجَنَّةِ. وعنه أيضاً وعن ابن عباس وابن مسعود: أَمْثَالُ بالجمع.
قوله: ﴿غَيْرِ آسِنٍ﴾ قرأ ابن كثير: أًسِن بزنة حَذِرٍ، وهو اسم فاعل من أَسِنَ بالكسر يَأسنُ، فهو أَسِنٌ كَحَذر يحذر فهو حَذِر. الباقون آسِن بزنة ضَارِبٍ من: أَسَنَ بالفتح يأسن، يقال: أَسَنَ المَاءُ بالفتح يَأسِنُ ويَأسُنُ بالكسر والضم أُسُوناً. وكذا ذكره ثَعْلَبُ في فصيحة. فهما لغتان يقال: أسن الماء يأسن أسناً وأَجِن يَأجنُ، وأَسِنَ يَأسُنُ ويَأسِنُ، وأَجَن يَأجُنُ أُسُوناً وأُجُوناً. وقال اليَزِيدِيُّ يقال: أَسِنَ بالكسر يَأسَنُ بالفتح أَسَناً أي تغير طعمه، وأما أَسِنَ الرَّجُلُ إذا دخل بئراً فأصابه من ريحها ما جعل في رأسه دواراً فأَسِنَ بالكسر فقط قال الشاعر:
٤٤٦٨ - أَفْرَحُ أَنْ اُزْرَأَ الكِرَامَ وَأَنتْ أُورثَ ذَوداً شَصَائِصاً نُبْلاً
٤٤٦٩ - قَدْ أَتْرُكَُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ يَمِيدُ فِي الرُّمْحِ مَيْدَ المَائِحِ الأَسِنِ
وقرىء يَسِنٍ بالباء بدل من الهمزة. قال أبو علي: هو تخفيف أسن وهو تخفيف غريب.
442
قوله: ﴿لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ صفة ل «لَبَنٍ».
قوله: «لَذَّةٍ» يجوز أن يكون تأنيث «لَذٍّ» ولَذٌّ بمعنى لَذِيدٍ، ولا تأويلَ على هذا. ويجوز أن يكون مصدراً وصف به، ففيه التأويلات المشْهُورَة. قال ابن الخطيب: يحتمل أن يقال: ما ثَبَتَتْ لذَّتُهُ يقال: كعام لَذٌّ ولَذِيدٌ، وأَطْعِمَةٌ لَذَّة ولَذِيدَةٌ، ويحتمل أن يكون ذلك وصفاً بنفس المعنى لا بالمشتق منه كما يقال للحكيم: هو حَكِيمٌ كله، وللعاقل: هو عاقل كله. والعامة على جرِّ «لَذَّة» صفة لخمر. وقرىء بالنصب على المفعول له وهي تؤيد المصدرية في قراءة العامة. وبالرفع صفة «لأنهار». ولم تجمع، لأنها مصدر إن قيل به وإلا فلأنها صفة لجمع غير عاقل، وهو يعامل معاملة المؤنثة الواحدة.
قوله: ﴿مِّنْ عَسَلٍ﴾ نقلوا في عسل التذكير والتأنيث، وجاء القرآن على التذكير في قوله: «مُصَفًّى» والْعَسَلاَنُ العدو، وأكثر استعماله في الذِّئْبِ، يقال: عَسَلَ الذّئبُ والثعلب. وأصله من عسلان الرمح وهو اهتزازه، فكا، العادي يَهُزّ أعضَاءَهُ ويُحركها، قال الشاعر:
٤٤٧٠ - لَدْنٌّ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
وكنى بالعُسَيْلَة عن الجِمَاع، لما بينهما. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «حتى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ»

فصل


قال ابن الخطيب: اختار هذه الأنهار من الأنهار الأربعة؛ لأن المشروب إما أن يُشْرَبَ لِطَعْمِهِ أو لغير طعمه، فإن كان للطعم فالمطعوم تسعة: المُرّ والمَالِح، والحريف، والحَامِض، والعَفِصُ والقَابضُ والتّفه، والحلو، والدَّسِم. وألذها الحُلو والدَّسِم، لكن أحلى الأشياء العسل فذكره وأما أدسَمُ الأشياء فالدهن لكن الدُّسُومَة إذا تَمَحَّضَتْ لا
443
تطيب للأكل ولا للشرب، فإن الدّهن لا يأكل ولا يشرب في الغالب وأما اللبن ففيه الدسم الكائن في يغره وهو طيب للأكْل وبه تغذية الحيوان أولاً فذكره الله تعالى؛ وأمّا ما يشرب لغير الطَّعْم فالماء والخَمْر، فإن الخمر كريهة الطعم، لحصول التواتر بذلك، وإنما تشرب لأمر آخَر غير الطعام وأما الماء فلأن به بقاء الحيوان فذكره.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله في الخمر: ﴿لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾ ولم يقل في اللبن: لم يخبر طعمه للطاعمين ولا قال في العسل مصفًّى للناظرين؟
فالجواب: قال ابن الخطيب: لأن اللذَّةَ تختلف باختلاف الأشخاص فربَّ طعام يلتذ به شخص ويَعَافُهُ الآخر فقال: لذة للشاربين بأَسْرِهِمْ، ولأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا، فقال لذة، أي لا يكون في خمر الآخرة كراهة طعم وأما الطعم واللون فلا يختلف باختلاف الناس، فإن الحُلْوَ والحَامِضَ وغيرهما يدركه كل أحد قد يعافه بعض الناس ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أنَّ لهم طعماً واحداً وكذلك اللون فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجةً.
قوله: ﴿كُلِّ الثمرات﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن هذا الجار صفة لمقدر، وذلك المقدر مبتدأ وخبره الجار قبله وهو «لَهُمْ» و «فيها» متعلق بما تعلق به، والتقدير: ولهم فيها زَوْجَانِ من كل الثمرات، كأنه انتزعه من قوله تعالى: ﴿فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ [الرحمن: ٥٢] وقدر بعضهم صِنْفٌ. والأول أليق.
والثاني: أن «مِن» مزيدة في المبتدأ.
قوله: ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على ذلك المقدر لا بِقِيْدِ كونه في الجنة، أي ولهم مغفرة؛ لأَنَّ المغفرة تكون قبل دخول الجنة؛ أو بقيد ذلك. ولا بدّ من حذف مضاف حينئذ أي وبِنَعِيمِ مَغْفِرَةٍ؛ لأنه ناشىءٌ عَنِ المغفرة وهو الجنة.
والثاني: أن يجعل خبرها مقدراً على ولَهُمْ مغفرةٌ. والجملة مستأنفة، والفرق بين الوجيهن أن الوجه الذي قبل هذا فيه الإخبار ب «لَهُمْ» الملفوظ به عن شيئين، ذلك المحذوف ومغفرة. وفي الوجه الآخر الخبر جار آخر حذف للدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ.
قوله: ﴿كَمَنْ هُوَ﴾ قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً عن: ﴿مَّثَلُ الجنة﴾، بالتأويلين
444
المذكورين عن ابن عطيةَ والزمخشريِّ وأما إذا لم تجعله خبراً عن «مَثَلٍ» ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: حَالُ هؤلاء المتقين كحال مَنْ هُو خَالدٌ.
وهذا تأويل صحيح. وذكر فيه أبو البقاء الأوجه الباقية فقال: وهو في موضع رفع أي حَالُهُمْ كحَالِ مَنْ هُوَ خَالدٌ فِي النَّار.
وقيل: هو اسْتِهْزَاءٌ بهم. وقيل: هو على معنى الاستفهام أي أكمنْ هُوَ خالد، وقيل: في موضع نصب أي يُشْبِهُونَ (حال) مَنْ هُو خَالدٌ فِي النَّار. انتهى.
ومعنى قوله: وقيل: هو استهزاء أي أن الإخبار بقولك: حالهم كَحَال مَنْ (هُوَ خَالِدٌ) على سبيل الاستهزاء والتهكم. قال البغوي: معناه أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار؟.
قوله: ﴿وَسُقُواْ﴾ عطف على الصلة عطف فعلية على اسمية، لكنه راعى في الأول لفظ «من» فأفرد وفي الثانية معناه فجمع. والأمعاء جمع مِعًى بالقصر وهو المُصْرَانُ التي في البطن. وقد وصف بالجمع في قوله:
٤٤٧١ -.......................................... ومَعِى جِيَاعُ
على إرادة الجنس.

فصل


الماء الحميم هو الشديد الحَرِّ تسعر عليه النار منذ خلقت إذا أُدْنِيَ مِنْهم شَوَى وُجُوَهَهُمْ، ووقعت فَروة رُؤُسِهم، فإذا شَرِبُوا قطَّع أمعاءهم فخرجت من أدبارهم جميع ما في البطن من الحَوَايَا، واحدها مِعًى.
445
قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ يعنى الكفار منهم من يستمع إليك يعني المنافقون يستمعون إليك فلا يسمعونه، ولا يَفْهَمُونَه تهاوناً. والضمير في قوله: «وَمِنْهُمْ» يحتمل أن يرجع إلى معنى قوله: ﴿هُوَ خَالِدٌ فِي النار وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً﴾ يعنى ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك.
قوله
﴿حتى
إِذَا
خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ﴾
قال المفسرون: حَتَّى للعطف. قالوا: والعطف بحتى لا يحسُنُ إلا إذا كان المعطوف جُزْءاً من المعطوف عَلَيْهِ إمَّا أعلاه وإما أدونه، كقولك: أَكْرَمَنِي النَّاسُ حَتَّى المَلِكُ وجاء الحُجَّاجُ حَتَى المُشَاةُ. وفي الجملة ينبغي أن يكون المعطوف متعلّقاً بالمعطوف عليه من حيث المعنى. ولا يشترط بالعطف بالواو ذلك. فوجه التعلق ههنا هو أن قوله: ﴿حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ﴾ يفيد معنًى واحداً في الاستماع كأنه يقول: يستمعون استماعاً بالغاً جيداً لأنهم يستمعون وإذا خرجوا يستعيدون من العلماء كما يفعله المجتهد في التعلُّم الطالب للتفهم، يفعلون ذلك استهزاء كما قال تعالى عنهم: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤]. ويحتمل أن يكون فعلهم ذلك لعدم فهمهم. والأول يؤيده قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين﴾ [الأعراف: ١٠١]، وقوله بعد ذلك ﴿أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ﴾ أي تركموا اتّباعَ الحقِّ، إما لعدم الفهم أو لعدم الاستفادة.
قوله: «آنِفاً» فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على الحال فقدَّره أبو البقاء: ماذا قال مُوْتَنِفاً؟ وقدره غيره مبتدئاً أي ما القول الذي ائْتَنَفَهُ الآن قبل انْفصاله عنه؟
والثاني: أنه منصوب على الظرف أي ماذا قال الساعة. قاله الزمخشري. وأنكره أبو حيان قال: لأنا لم نعلم أحداً عده من الظروف.
واختلفت عبارتهم في معناه؛ فظاهر عبارة الزمخشري أنه ظرف حالي كالآنَ، ولذلك فسّره بالسَّاعةِ.
وقال ابن عطية: والمفسرون يقولون: آنفاً معناه الساعة الماضية القريبة منا وهنذا تفسير بالمعنى. وقرأ البَزِّيُّ بخلاف عنه أنِفاً بالقصر. والباقون المدِّ، وهما
446
لغتان بمعنًى واحدٍ. وهما اسما فاعل كَحذر وحَاذِر وأَسنٍ وآسنٍ؛ إلا أنه لم يستعمل لهما فعل مُجَرَّد، بل المستعمل ائْتَنَفَ يأتَنِفُ، واستأنف يَسْتَانِفُ والأئْتناف والاسْئتِنَاف الابتداء. قال الزجاج: هو من اسْتَأنَفْتُ الشَّيْءَ أي ابْتَدَأتُهُ أي مذا قال في أول وقت يَقْرُبُ منَّا؟

فصل


روى مقاتل (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يخطب ويعيب المنافقين فإذا خرجوا من المسجدد سألوا عَبْدَ الله بن مسعود استهزاءاً ماذا قال محمد آنفاً؟ ثم قال تعالى: ﴿أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ﴾ فلم يؤمنوةا واتَّبعوا أهواءهم في الكفر والنفاق.
قوله: ﴿والذين اهتدوا﴾ يجز فيه الرفع بالابتداء والنَّصْب على الاشتغال و «تَقْوَاهُمْ» مصدر مضاف لفاعله. والضمير في «وَآتَاهُمْ» يعود على الله أو على (قَوْل) المنافقين؛ لأن قولهم ذلك ما يزيد المؤمنين تقوى. أو على الرسول والمعنى زادهم قول الرسلو هُدًى وآتاهم (تقواهم أي وفقهم للعمل بما آمر به، أو زادهم الله هدى وآتاهم الله تقواهم أو زادهم استهزاء المنافقين وآتاهم) قول المنافقين تقواهم أي ثواب تقواهم يوم القيامة.
447
قوله :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ﴾ يعنى الكفار منهم من يستمع إليك يعني المنافقون يستمعون إليك فلا يسمعونه، ولا يَفْهَمُونَه تهاوناً. والضمير في قوله :«وَمِنْهُمْ » يحتمل أن يرجع إلى معنى قوله :﴿ هُوَ خَالِدٌ فِي النار وَسُقُواْ مَاءً حَمِيماً ﴾ يعنى ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك١.
قوله ﴿ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ ﴾ قال المفسرون : حَتَّى للعطف. قالوا : والعطف بحتى لا يحسُنُ إلا إذا كان المعطوف جُزْءاً من المعطوف عَلَيْهِ إمَّا أعلاه وإما أدونه، كقولك : أَكْرَمَنِي النَّاسُ حَتَّى المَلِكُ وجاء الحُجَّاجُ حَتَى المُشَاةُ. وفي الجملة ينبغي أن يكون المعطوف متعلّقاً بالمعطوف عليه من حيث المعنى. ولا يشترط بالعطف بالواو ذلك. فوجه التعلق ههنا هو أن قوله :﴿ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ ﴾ يفيد معنًى واحداً في الاستماع كأنه يقول : يستمعون استماعاً بالغاً جيداً لأنهم يستمعون وإذا خرجوا يستعيدون من العلماء كما يفعله المجتهد في التعلُّم الطالب للتفهم، يفعلون ذلك استهزاء كما قال تعالى عنهم :﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ البقرة : ١٤ ]. ويحتمل أن يكون فعلهم ذلك لعدم فهمهم. والأول يؤيده قوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين ﴾ [ الأعراف : ١٠١ ]، وقوله بعد ذلك ﴿ أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ أي تركوا اتّباعَ الحقِّ، إما لعدم الفهم أو لعدم الاستفادة٢.
قوله :«آنِفاً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الحال فقدَّره أبو البقاء : ماذا٣ قال مُوْتَنِفاً ؟ وقدره غيره مبتدئاً أي ما القول الذي ائْتَنَفَهُ الآن قبل انْفصاله عنه ؟٤
والثاني : أنه منصوب على الظرف أي ماذا قال الساعة. قاله الزمخشري٥. وأنكره أبو حيان قال : لأنا لم نعلم أحداً عده من الظروف٦.
واختلفت عبارتهم في معناه ؛ فظاهر عبارة الزمخشري أنه ظرف حالي كالآنَ، ولذلك فسّره بالسَّاعةِ٧.
وقال ابن عطية : والمفسرون يقولون : آنفاً معناه الساعة الماضية القريبة منا وهذا تفسير بالمعنى٨. وقرأ البَزِّيُّ٩ بخلاف عنه أنِفاً بالقصر. والباقون المدِّ، وهما لغتان بمعنًى واحدٍ. وهما اسما فاعل كَحذر وحَاذِر وأَسنٍ وآسنٍ ؛ إلا أنه لم يستعمل لهما فعل مُجَرَّد، بل المستعمل ائْتَنَفَ يأتَنِفُ، واستأنف يَسْتَانِفُ والأئْتناف والاسْئتِنَاف الابتداء. قال الزجاج : هو من اسْتَأنَفْتُ الشَّيْءَ أي١٠ ابْتَدَأتُهُ أي ماذا قال في أول وقت يَقْرُبُ منَّا ؟١١

فصل


روى مقاتل ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ )١٢ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين فإذا خرجوا من المسجد سألوا عَبْدَ الله بن مسعود استهزاءاً ماذا قال محمد آنفاً ؟ ثم قال تعالى :﴿ أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ ﴾ فلم يؤمنوا واتَّبعوا أهواءهم في الكفر والنفاق١٣.
١ وانظر تفسير العلامة القرطبي ١٦/٢٣٧، ٢٣٨..
٢ الرازي السابق..
٣ التبيان السابق، وهو أحد قولي أبي البقاء..
٤ وهو رأي أبي حيان في البحر ٨/٧٩..
٥ قال: على فعل نصب على الظرف..
٦ البحر المحيط ٨/٧٩..
٧ الكشاف ٣/٥٣٤..
٨ البحر المحيط المرجع السابق..
٩ وهي قراءة ابن كثير أيضا. وهي سبعية متواترة. انظر السبعة ٦٠٠ والإتحاف ٣٩٣..
١٠ في (ب) إذا. والتصحيح منها كما في المعاني..
١١ معاني القرآن وإعرابه ٥/١٠..
١٢ زيادة من (أ)..
١٣ وانظر القرطبي ١٦/٢٣٨ والكشاف ٣/٥٣٤..
قوله :﴿ والذين اهتدوا ﴾ يجز فيه الرفع بالابتداء والنَّصْب على الاشتغال و«تَقْوَاهُمْ » مصدر مضاف لفاعله. والضمير في «وَآتَاهُمْ » يعود على الله أو على ( قَوْل )١ المنافقين ؛ لأن قولهم ذلك ما يزيد المؤمنين تقوى. أو على الرسول والمعنى زادهم قول الرسول هُدًى وآتاهم ( تقواهم أي٢ وفقهم للعمل بما أمر به، أو زادهم الله هدى وآتاهم الله تقواهم أو زادهم استهزاء المنافقين وآتاهم ) قول المنافقين تقواهم أي ثواب تقواهم٣ يوم القيامة.
١ زيادة من (أ)..
٢ ما بين القوسين كله زيادة من (أ) وسقط من (ب)..
٣ نقل القرطبي في الجامع ١٦/٢٣٩ والزمخشري في الكشاف ٣/٥٣٤ وأبو حيان في البحر ٨/٧٩ هذه الأقوال..
قوله: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾ يعني الكافرين والمنافقين، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَا يَنْتَظِرُ أَحَدُكُمْ إلاَّ غَنًى مُطْغِياً، أَوْ فَقْراً مُنْسِياً، أَوْ مَرَضاً
447
مُفْسِداً أَوْ هرَماً مُفَنِّداً، أَوْ مَوْتَا مُجْهِزاً أو الدَّجَّال، والدَّجَّال شَرٌّ غَائِبٍ يَنْتَظِرُ أو السَّاعَةُ، والسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» وسميت القيامة بالساعة لسرعة الأمور الواقعة فيها من البعث والحشر والحساب.
قوله: ﴿أَن تَأْتِيَهُمْ﴾ بدل من الساعة بدل اشتمال. وقرأ أبو جعفر الرؤاسيّ: إنْ تَأتِيهِمْ بإنِ الشّرطية وجز ما بعدها. وفي جوابها وجهان:
أحدهما: أنه قوله: ﴿فأنى لَهُمْ﴾ قال الزمخشري. ثم قال: فإن قلتَ: بم يتصل قوله: ﴿فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا﴾ على القراءتين؟ قتلُ: بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول كقولك: إنْ أَكْرَمَنِي زَيْدٌ فَأَنَا حَقِيقٌ بالإكْرَامِ أكْرِمهُ.
والثاني: أن الجواب قوله: ﴿فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا﴾ وإتيان الساعة وإن كان متحقّقاً إلا أنهم عُومِلُوا معاملةَ الشَّاكِّ وحالهم كانت كذا.
قوله: ﴿فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا﴾ الأَشْراط جمع شَرْطٍ بسكون الراء وفتحها قال أبو الأسود:
٤٤٧٢ - فَإنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ باِالصَّرْمِ بَيْنَنَا فَقَدْ جَعَلْتِ أَشْرَاط أَوَّلِهِ تَبْدُو
والأشراط العلامات. ومنه أشراط الساعة. وأَشْرَطَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ أي ألْزَمَهَا أموراً.
قال أوس:
٤٤٧٣ - فَأَشْرضطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهُوَ مُعْصِمٌ فَأَلْقَى بأَسْبَاب لَهُ وَتَوَكَّلاَ
والشرط القطع أيضاً مصدر شرط الجلد يَشْرُطُهُ شَرْطاً.
448

فصل


قال سهل بن سعد: «رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال بإصبعه هكذا بالوْسْطَى والتي تلي الإبهام: بُعِثْتُ وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنْ» وقال عليه الصلاة السلام: «إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أن يُرْفَعَ العِلْمُ وَيكْثُرَ الجَهْلُ ويَكْثُرَ الرِّبَا، ويَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ، ويَقِلَّ الرِّجَالُ، وتَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امرأة القيمُ الواحِدُ» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذَا ضُيِّعَتِ الأَمانَةُ فَانْتَظِر السَّاعَةَ فقيل: كَيْفَ إضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إذا وُسِّدَ الأَمْرُ إلى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِر السَّاعَة» واعلم أن قوله تعالى: ﴿فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون بياناً لغاية عِنَادِهِمْ. ويحتمل أن يكون تسليةً لقلب المؤمنين كأنه تعالى لما قال: ﴿فهل ينظرون إلا الساعة﴾، فهم منه تعذيبهم، قال المفسرون: أشراط الساعةمثل انشقاق القمر، ورسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قوله: ﴿فأنى لَهُمْ﴾ «أَنَّى» خبرٌ مقدم، و «ذِكْرَاهُم» مبتدأ مؤخر، أي أَنَّى لهم التذكير. وإذَا وما بعدها معترض. وجوابها محذوف أي كيف لهم التذكير إذا جاءتهم الساعة؟ فكيف تتذكرون؟ ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفاً أي أنَّى لهم الخلاص؟ ويكون «ذِكْرَاهُمْ» فاعلاً ب «جَاءَتْهُمْ». وقرأ أبو عمرو في رواية «بَغَتَّةً» بفتح الغين وتشديد التاء.
وهي صفة فنصبها على الحال، ولا نظير لها في الصفات ولا في المصادر، وإنما هي في الأسماء نحو: الجَرَبَّة للجماعة والشَّرَبَّة للمكان. قال الزمخشري: وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي على أبي عمرو، وأن يكون الصواب: بَغَتَةً بفتح الغين من غير تشديدٍ.

فصل


معنى الآية فمن أين لهم التَّذَكُّر والاتِّعاظ والتوبة إذا جاءتهم ذكراهم أي السّاعة نظيره: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى﴾ [الفجر: ٢٣].
قوله: ﴿فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلأ الله﴾ وجه مناسبته لما قبله هو أنه تعالى لما قال فاعلم أنه لا
449
إله إلا الله أي يأتي بالساعة كما قال: ﴿أَزِفَتِ الآزفة لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ﴾ [النجم: ٥٧٥٨]. وقيل: فاعلم أنَّه لا إله إلا الله ينفعك، قيل الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد غيره. وقيل: معناه فاثْبُتْ عليه. وقال الحُسَيْنُ بن الفضل: فازدَدْ علماً إلى علمك. وقال أبو العالية وابن عُيَيْنَةَ: معناه إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا مَلْجَأَ ولا مَفْزعَ عند قيامها إلا الله. ثم قال: «فَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» أمرٌ بالاستغفار من أنه مغفور له لِتَسْتَنَّ به أمته. وقيل: معنى قوله لذنبك أي لذَنبِ أهل بيتك الذي ليسوا منك بأهل بيت. وقيل: المراد النبي؛ والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحسناتُنا دون ذلك. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: إنّهُ لَيُعَانُ عَلَى قَلْبِ وَإنّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ.
قوله: ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات﴾ هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يستغفر لذنوبهم ﴿والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ قال ابن عباس والضحاك: متقلبكم: مُنْصَرَفَكُمْ ومنْشَرَكُمْ في أعمالكم في الدنيا «ومثواكم» مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار. وقال مقاتل وابن جرير: متقلبكم منصرفكم لأشغالكم بالنهار ومثواكم مأواكم إلى مضاجعكم بالليل. وقال عكرمة: متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم ومقامكم في الأرض. وقال ابن كيسان: متقلبكم من ظهر إلى بطن ومثواكم مقامكم في القبور، وقيل: معناه أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها.
قوله: ﴿وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ أي هلاَّ. ولا التفات إلَى قول بعضهم إنَّ «لاَ» زائدة. والأصل لو نزلت. والعامة على رفع محكمة لقيامها مقام الفاعل. وزَيْدُ بنُ عَلِيٍّ بالنصب فيهما على الحَالِ. والقائم مقام الفاعل ضمير السورة المتقدمة وسَوَّغ وقوعَ الحال كذا وَصْفُها كقولك: الرَّجُلُ جَاءَنِي رَجُلاً صَالِحاً وقرىْ: فَإذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ. وقرأ زيدٌ بْنُ عَلِيٍّ وابنُ عُمَيْر «وَذَكَرَ» مبنياً للفاعل أي الله تعالى «القِتَالَ» نصباً.
450

فصل


المعنى ويقول الذين آمنوا حرصاً منهم على الجهاد هلا أنزلت سورة تأمرنا بالجِهاد.
واعلم أن المؤمن كان ينتظرم نزول الأحكام والتكاليف ويطلب تنزيلها وإذا تأخرت عنه التكليف كان يقول: هلا أمرت بشيء من العبادة خوفاً من أن لا يؤهل لها. وأما المنافق فإذا أنزلت السورة أو الآية وفيها تكليف فيشق عليه ذلك فحصل التَّبَايُن بين الفريقين في العلم والعمل.
والمراد بالسورة التي فيها تكليف؟. وقوله: «مُحْكَمَةُ» أي لم تنسخ، وقال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين.
قوله: ﴿رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾ يعنى المنافقين ﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ شَزْراً بتحديقٍ شديدٍ كراهِيةً منهم للجهاد، وجبناً عن لقاء العدوِّ.
قوله: ﴿نَظَرَ المغشي﴾ الأصل نَظَراً مثل نَظَراً مثل نَظَر المَغْشِيِّ عليه من الموت كما ينظر الشاخص بصره عنْد الموت.
قوله: ﴿فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ﴾. اختلف اللّغويون وةالمُعْرِبُونَ (رَحِمَهُ اللهِ عَلَيْهِمْ) في هذه اللفظة فقال الأصمعي (رَحمهُ الله) : إنها فعل ماضٍ بمعنى قاربه ما يهلكه، وأنشد (رَحمهُ اللهُ) :
٤٤٧٤ - فَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا وَأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ عَلى الثَّلاَثِ
أي قارب أن يزيد.
قال ثعلب: لم يقل أحدٌ في أوْلَى أحسنت من الأصمعيِّ. وقال البغوي: معناه وَلِيَكَ وَقَرَبَك ما تكره ولكن الأكثرين على أنه اسم. ثم اختلف هؤلاء فقيل هو مشتق من الوَلْي وهو القريب كقوله:
451
وقيل: هو مشتق من الوَيْل والأصل فيه أوئل. فقلبت العين إلى ما بعد اللام فصار وزنه أفلع. وإلَى هذا نحا الجُرْجَانيّ والأصل عدم القلب وأما معناها فقيل: هي تهديد ووعيد كقوله:
٤٤٧٥ - تُكَلِّفُنِي لَيْلَى وَقَدْ شَطَّ وَلْيُهَا وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنا وَخُطُوبُ
٤٤٧٦ - فَأَوْلَى ثُمَّ أَولَى ثُمَّ أَوْلَى وَهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ
وقال المبرد: يقال لمن هم بالغضب: أولى لك كقول أعرابيِّ كان يوالِي رمي الصيد فيفلت منه فيقول: ِأَوْلَى لَكَ. ثم رمى صيداً فَقَارَبَهُ فأفلت منه فقال (رَحْمَةُ الله عليه ورِضَاهُ) :
٤٤٧٧ - فَلَوْ كَانَ أَوْلَى يُطْعِمُ الْقَوْمَ صِدْتُهُمْ وَلَكِنْ أَوْلَى يَتْرُكُ الْقَوْمَ جُوَّعَا
هذا ما يتعلق باشتقاقه ومعناه.
وأما الإعراب فإن قلنا بقول الجمهور ففيه أوجه:
أحدهما: أن «أولى» مبتدأ (و) «لهم» خبره تقديره: فالهلاك لهم. وسوغ الابتداء بالنكرة كونهُ دُعَاء نحو: ﴿ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١].
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره: العِقَابُ أو الهَلاك أَوْلَى لهم. أي أقرب واَدْنَى. وقال ابنُ الخطيب: التقدير: فالموت أولى لهم؛ لأنَّ الموت سبق ذكره في قوله: ﴿نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت﴾، وذلك أن الحياة في طاعة الله ورسوله خير منها. ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء أي أولى وأحق بِهِمْ.
452
الثالث: أنه مبتدأ و «لهم» متعلق به، واللام بمعنى الباء. و «طاعة» خبره التقدير: أولى بهم طاعة دون غيرها.
وإن قلنا بقول الأصمعي فيكون فعلاً ماضياً، وفاعله مضمر يدل عليه السِّيَاق، كأنه قيل: فأولى هو أي الهلاك.
وهذا ظاهر عبارة الزمخشري حيث قال: ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه. وقال ابن عطية: المشهور من استعمال العرب أنك تقول: هذا أولى بك من هذا، أي أحق. وقد تستعمل العرب «أولى لك» فقط على جهة الحذف والاخْتِصَار؛ لما معها من القول فتقول: أولى لك يا فلان على جهة الزجر والوعيد. انتهى.
وقال أبو البقاء: أَوْلَى مؤنثة أَوْلاة. وفيه نظر؛ لأن ذلك إنما يكون في التذكير والتأنيث الحقيقيين؛ أما التأنيث اللفظي وفلا يقال فيه ذلك. وسيأتي له مزيد بيان في القيامة إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
قوله: ﴿طَاعَةٌ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر «أَوْلَى» على ما تقدم.
الثاني: أنها صفة «لِسُورَة» أي فإذا أنزلت سُورَةٌ محكمة «طاعة» أي ذات طاعة أو مطاعة. ذكره مكي، وأبو البَقَاءِ. وفيه بُعْد لكثرة الفواصل.
الثالث: أنها مبتدأ و «قَوْل» عطف عليها والخبر محذوف تقديره: أَمْثَلُ لَكُمْ مِنْ غَيْرِهِمَا. وقدّر مَكِّيٌّ منَّا طاعةٌ فقدّره مقدَّماً.
الرابع: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي أمْرُنَا طَاعَةٌ.
الخامس: أن لهم خبر مقدم وطاعة مبتدأ مؤخر. والوقف والابتداء يُعْرَفَانِ مما تقدم.
453

فصل


قال المفسرون: قوله: طاعة وقول معروف ابتداء محذوف الخبر، تقديره طاعة وقول معروف أمثل، أي لو أطاعوا وقالوا قولاً معروفاً كان أمثل وأحسن. وساغ الابتداء بالنكرة، لأنها وُصِفَتْ بدليل قوله: ﴿وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾ فإنه موصوف فكأنه تعالى قال: كاعة مخلصةً وقولٌ معروف خير. وقيل: يقول المنافقون قبل نزول السورة المحكمة طاعة رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة، أو منا طاعة وقول معروف: حسن.
وقيلأ: «متَّصل». واللام في قوله: «لَهُمْ» بمعنى الباء أي فأولى بهم طاعة الله ورسوله وقول معروف بالإجابة، أي لو أطاعوا الله كانت الطاعة والإجابة أولى بهم. وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عَطَاءٍ.
قوله: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الأمر﴾ في جوابها ثلاثة أوجه:
أحدهما: قوله: ﴿فَلَوْ صَدَقُواْ﴾ نحو: إذَا جَاءنِي طَعَامٌ فَلَوْ جِئْتَنِي أَطْعَمْتُكَ.
الثاني: أنه محذوف تقيدره: فَاصْدُقْ، كذا قدره أبو البقاء.
الثالث: أن تقديرنا ناقضوا. وقيل: تقديره كرهوا ذلك. وعَزَمَ الأمْر على سبيل الإسناد المجازي كَقوله:
٤٤٧٨ - قَدْ جَدَّتِ الْحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا... أو يكون على حذف مضاف أي عَزَمَ أَهْلُ الأمر. وقال المفسرون: معناه إذا جدَّ الأمر ولزم فرض القتال خالفوا وتخلفوا فلو صدقوا لله في إظهار الإيمان والطاعة لكان
454
خيراً لهم. وقيل: جواب إذا محذوف تقديره فإذا عزم الأمر لكلُّوا أو كذبوا فيما وعدو ولو صدقوا لكان خيراً لهم.
قوله: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ﴾ أي فلعلكم إن توليتم أعرضتهم عن القرآن وفارقتم أحكامه ﴿أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض﴾، تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية تفسدوا في الأرْضِ بالمعيصية والبَغْي وسَفْكِ الدماء وترجعون إلى الفُرْقة بعدما جمعكم الله بالإسلام!
قوله: ﴿أَن تُفْسِدُواْ﴾ خبر عسى.
والشرط مُعْتَرِضٌ بينهما وجوابه محذوف لدلاَلَةِ: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ» عليه أو هو يفسره «فَهَلْ عَسَيْتُمْ»، عند من يرى تقديمه.
وقرأ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «إن تُوُلِّتُمْ» بضم التاء والواو وكسر اللام مبنياً للمفعول من الولاية أي وُلِّيتم أمور الناس. وقال ابن الخطيب: لولا تولاَّكم ولاةٌ ظلمة، جُفاة غَشَمَة ومشيتم معهم لفسدتم وقعطت الأرحام والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا يأمركم إلا بصلة الأرحام فلم تتقاعدون عن القتال؟!. والأول أظهر ومعناه إن كنتم تتركون القتال وتقولون فيه الإفساد، وقطع الأرحام وكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلا ذلك، حيث تَتَقَتَلُونَ على أدنى شيءٍ كما كان عادة العرب الأُوَل. (وقرى: وُليتم من الولاية أيضاً).

فصل


قال ابن الخطيب: في استعمال «عسى» ثلاثة مذاهب:
أحدها الإتيان بها على صورة فعل ماض معه فاعل تقول: عَسَ زَيْدٌ، وعَسَيْنَا وعَسَوْا، وعَسَيْتُمَا، وعَسَيْتُ وعَسَيْتُنَّ وعَسَيْنَا وعَسَيْتُنَّ.
والثاني: أن يؤتى بها على صورة فعل ومفعول يقال: عَسَاهُ، وعَسَاهُمَا، وعَسَاكَ، وَعَسَاكُمَا وعَسَايَ وعَسَانَا.
455
الثالث: الإتيانُ بها من غير أن يُقْرَن بها شيء تقول: عَسَى زَيْدٌ يَخْرُجُ، وعَسَى أَنْتَ تَخْرُجُ، وعَسَى أَنَا أخْرُجُ، والك متوجه ما عليه كلام الله أوجه، لأن «عسى» من الأفعال الجامدة، واقتران الفاعل بالفعل الأول من اقتران المفعول، لأن الفاعل كالجزء من الفعل ولهذا لم يجوزوا فيه أرْبَعَ متحركات في مثل قول القائل: بَصُرْتُ وجوزوا في مثل قولنا: بَصَرُكَ. وقد تقدم الكلام في «عسى» مشْبَعاً.
وفي قوله: «عَسَيْتُم» إلى آخره، التفات من غيبة في قوله: ﴿الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾ إلى خطابهم بذلك زيادة في توبيخهم والاستفهام للتقرير المؤكد فإنه لو قال على سبيل الإخبار: «عَسَيْتُمْ إنْ» لكان للمخاطب أنينكره فإذا قال بصيغة الاستفهام فإنه يقول: أنا أسألك عن هذا وأنت لا تقدر (أن) تجيب إلا ب «لا» أو «نَعَمْ»، فهو مُقَرَّر عندك وعندي.
واعلم أن «عَسَى للتوقع والله عالم بكل شيء والكلام فيه كالكلام في» لَعَلَّ «وفي قوله: ﴿لِّيَبْلُوَكُمْ﴾ [المائدة: ٤٨] فقال بعضهم: يفعل بكم فعل المترجِّي والمبتلي والمتوقع. وقيل: كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك. وقال ابن الخطيب: هو محمول على الحقيقة؛ لأن الفعل إذا كان في نفسه متوقعاً فالنظر غير مستلزم لأمر، وإِنما الأمر يجوز أن يحصل منه تارة، ولا يحصل منه أخرى يكون الفعل لذلك الأمر المطلوب على سبيل الترجِّي سواء كان الفاعل يعلم حصول الأمر منه أو لم يعلم مثاله من نَصَبَ شَبَكةً لاصطياد الصَّيد يقال: هو متوقع لذلك، فإن حصل له العمل بوقوعه فيه بأخبار صادقٍ أنه سيقع أو بطريق أخرى لا يخرج عن التوقع.
غاية ما في الباب أن في الشاهد لم يحصل لنا العلم فيما نتوقعه فظن أن عدم العلم لازم للتوقع فليس كذلك بل التوقع
456
هو المنتظر بأمر ليس بواجب الوقوع نظراً إلى ذلك الأمر حسب سواء كان له به علم أو لم يكن.
قوله: ﴿وتقطعوا﴾ قرأ العامة بالتشديد على التكثير، وأبو عمرو في رواية وسلام ويعقوب: بالتخفيف مضارع قَطَع. والحَسن: بفتح التاء والطاء مشددة، أصلها تَتَقَّطُعُوا بتاءين حذفت إحداهما. وانتصب «أَرْحَامَكُم» على هذا إسقاط الخافض أي في أرْحَامِكُمْ.
457
قوله :﴿ فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلأ الله ﴾ وجه مناسبته لما قبله هو أنه تعالى لما قال فاعلم أنه لا إله إلا الله أي يأتي بالساعة كما قال :﴿ أَزِفَتِ الآزفة لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ ﴾ [ النجم : ٥٧٥٨ ]. وقيل : فاعلم أنَّه لا إله إلا الله ينفعك، قيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره. وقيل : معناه فاثْبُتْ عليه. وقال الحُسَيْنُ بن الفضل : فازدَدْ علماً إلى علمك. وقال أبو العالية وابن عُيَيْنَةَ : معناه إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا مَلْجَأَ ولا مَفْزعَ عند قيامها إلا الله١. ثم قال :«فَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ » أمرٌ بالاستغفار من أنه مغفور له لِتَسْتَنَّ به أمته. وقيل : معنى قوله لذنبك أي لذَنبِ أهل بيتك الذي ليسوا منك بأهل بيت. وقيل : المراد النبي ؛ والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحسناتُنا دون ذلك٢. قال عليه الصلاة والسلام : إنّهُ لَيُعَانُ عَلَى قَلْبِ وَإنّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ.
قوله :﴿ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات ﴾ هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم ﴿ والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ قال ابن عباس والضحاك : متقلبكم : مُنْصَرَفَكُمْ ومنْشَرَكُمْ في أعمالكم في الدنيا «ومثواكم » مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار. وقال مقاتل وابن جرير : متقلبكم منصرفكم لأشغالكم بالنهار ومثواكم مأواكم إلى مضاجعكم بالليل. وقال عكرمة : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم ومقامكم في الأرض. وقال ابن كيسان : متقلبكم من ظهر إلى بطن ومثواكم مقامكم في القبور، وقيل : معناه أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها٣.
١ انظر تلك الأقوال في القرطبي ١٦/٢٤١ و٢٤٢ والرازي ٢٠٨/٦٣..
٢ الرازي ٢٨/٦١ والقرطبي ١٦/٢٤٢ و٢٤٣..
٣ القرطبي والرازي السابقين والبحر ٨/٨٠..
قوله :﴿ وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ ﴾ أي هلاَّ. ولا التفات إلَى قول بعضهم١ إنَّ «لاَ » زائدة. والأصل لو نزلت. والعامة على رفع محكمة لقيامها مقام الفاعل. وزَيْدُ بنُ عَلِيٍّ بالنصب فيهما على الحَالِ٢. والقائم مقام الفاعل ضمير السورة المتقدمة وسَوَّغ وقوعَ الحال كذا وَصْفُها كقولك : الرَّجُلُ جَاءَنِي رَجُلاً صَالِحاً وقرىْ : فَإذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ٣. وقرأ زيدٌ بْنُ عَلِيٍّ وابنُ عُمَيْر «وَذَكَرَ » مبنياً للفاعل أي الله تعالى «القِتَالَ » نصباً٤.

فصل


المعنى ويقول الذين آمنوا حرصاً منهم على الجهاد هلا أنزلت سورة تأمرنا بالجِهاد.
واعلم أن المؤمن كان ينتظر نزول الأحكام والتكاليف ويطلب تنزيلها وإذا تأخرت عنه التكليف كان يقول : هلا أمرت بشيء من العبادة خوفاً من أن لا يؤهل لها. وأما المنافق فإذا أنزلت٥ السورة أو الآية وفيها تكليف فيشق عليه ذلك فحصل التَّبَايُن بين الفريقين في العلم والعمل.
والمراد بالسورة التي فيها تكليف ؟. وقوله :«مُحْكَمَةُ » أي لم تنسخ، وقال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين٦.
٧قوله :﴿ رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾ يعنى المنافقين ﴿ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ ﴾ شَزْراً بتحديقٍ شديدٍ كراهِيةً منهم للجهاد، وجبناً عن لقاء العدوِّ.
قوله :﴿ نَظَرَ المغشي ﴾ الأصل نَظَراً مثل نَظَراً مثل نَظَر المَغْشِيِّ عليه من الموت كما ينظر الشاخص بصره عنْد الموت.
قوله :﴿ فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ ﴾. اختلف اللّغويون والمُعْرِبُونَ ( رَحِمَهُ اللهِ عَلَيْهِمْ ) في هذه اللفظة فقال الأصمعي ( رَحمهُ الله )٨ : إنها فعل ماضٍ بمعنى قاربه ما يهلكه٩، وأنشد ( رَحمهُ اللهُ ) :
٤٤٧٤ فَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا وَأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ عَلى الثَّلاَثِ١٠
أي قارب أن يزيد.
قال ثعلب : لم يقل أحدٌ في أوْلَى أحسنت من الأصمعيِّ١١. وقال البغوي : معناه وَلِيَكَ وَقَرَبَك ما تكره١٢ ولكن الأكثرين١٣ على أنه اسم. ثم اختلف هؤلاء فقيل هو مشتق من الوَلْي وهو القريب كقوله :
٤٤٧٥ تُكَلِّفُنِي لَيْلَى وَقَدْ شَطَّ وَلْيُهَا وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنا وَخُطُوبُ١٤
وقيل : هو مشتق من الوَيْل والأصل فيه أوئل. فقلبت العين إلى ما بعد اللام فصار وزنه أفلع١٥. وإلَى هذا نحا الجُرْجَانيّ١٦ والأصل عدم القلب وأما معناها فقيل : هي تهديد ووعيد كقوله :
٤٤٧٦ فَأَوْلَى ثُمَّ أَولَى ثُمَّ أَوْلَى وَهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ١٧
وقال المبرد : يقال لمن هم بالغضب١٨ : أولى لك كقول أعرابيِّ كان يوالِي رمي الصيد فيفلت منه فيقول : أَوْلَى لَكَ. ثم رمى صيداً فَقَارَبَهُ فأفلت منه فقال ( رَحْمَةُ الله عليه ورِضَاهُ )١٩ :
٤٤٧٧ فَلَوْ كَانَ أَوْلَى يُطْعِمُ الْقَوْمَ صِدْتُهُمْ وَلَكِنْ أَوْلَى يَتْرُكُ الْقَوْمَ جُوَّعَا٢٠
هذا ما يتعلق باشتقاقه ومعناه.
وأما الإعراب فإن قلنا بقول الجمهور ففيه أوجه :
أحدهما : أن «أولى » مبتدأ ( و )٢١ «لهم » خبره تقديره : فالهلاك لهم. وسوغ الابتداء بالنكرة كونهُ دُعَاء نحو :﴿ ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾ [ الهمزة : ١ ].
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : العِقَابُ أو الهَلاك أَوْلَى لهم. أي أقرب واَدْنَى٢٢. وقال ابنُ الخطيب : التقدير : فالموت أولى لهم ؛ لأنَّ الموت سبق ذكره في قوله :﴿ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت ﴾، وذلك أن الحياة في طاعة الله ورسوله خير منها٢٣. ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء أي أولى وأحق بِهِمْ٢٤.
الثالث : أنه مبتدأ و«لهم » متعلق به، واللام بمعنى الباء. و«طاعة » خبره التقدير : أولى بهم طاعة دون غيرها٢٥.
وإن قلنا بقول الأصمعي فيكون فعلاً ماضياً، وفاعله مضمر يدل عليه السِّيَاق، كأنه قيل : فأولى هو أي الهلاك٢٦.
وهذا ظاهر عبارة الزمخشري حيث قال : ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه٢٧. وقال ابن عطية : المشهور من استعمال العرب أنك تقول : هذا أولى بك من هذا، أي أحق٢٨. وقد تستعمل العرب «أولى لك » فقط على جهة الحذف والاخْتِصَار ؛ لما معها من القول فتقول : أولى لك يا فلان على جهة الزجر والوعيد. انتهى٢٩.
وقال أبو البقاء : أَوْلَى مؤنثة أَوْلاة٣٠. وفيه نظر ؛ لأن ذلك إنما يكون في التذكير والتأنيث الحقيقيين ؛ أما التأنيث اللفظي وفلا يقال فيه ذلك٣١. وسيأتي له مزيد بيان في القيامة٣٢ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
١ ولعله الفراء حيث أكد في المعاني ٢/٣٧٧ تركيبها قال: "لولا" التي هي "لو" ضمت إليها "لا" فصارتا حرفا واحدا. وهو رأي المبرد أيضا في المقتضب ٣/٧٦ وكذلك ابن الشجري في أماليه ٢/٧٦ وقد قال بالتركيب الذي أضاف معنى جديدا كل من ابن يعيش ٨/١٤٤ وابن الأنباري في الإنصاف ٢١٥. وانظر قضايا التركيب ٢٨٦: ٢٨٨..
٢ قراءة شاذة غير متواترة انظر البحر ٨/٨١..
٣ كذا في البحر المحيط لأبي حيان ٨/٨١، وذكر القرطبي في الجامع ١٦/٢٤٣: فإذا أنزلت سورة محدثة وكلتا القراءتين شاذة..
٤ المرجعين السابقين..
٥ في (ب) نزلت..
٦ الرازي ٢٨/٦٢..
٧ القرطبي ١٦/٢٤٣ وهذا الإعراب ذكره أبو البقاء في التبيان ١١٦٣..
٨ ما بين القوسين ساقط من (ب) وزائد من (أ)..
٩ القرطبي المرجع السابق والبحر المحيط ٨/٧١..
١٠ لم أعرف منشده وهو من تام الوافر. وشاهده في "أولى" فهو بمعنى قارب ما يهلكه على رأي الأصمعي، والهادية: أول كل شيء وما تقدم منه. ولهذا قيل: أقبلت هوادي الخيل إذا رؤيت أعناقها. وانظر البيت في القرطبي ١٦/٢٤٤ ومقاييس اللغة ٦/١٤١ واللسان ولي ٤٩٢٣، والهمع ١/١٢٨ والبحر ٨/٧١ بلفظ "تعادى" ولعله خطأ من الناسخ..
١١ القرطبي المرجع السابق..
١٢ معالم التنزيل له ٦/٦٣..
١٣ في النسختين: الأكثرون بالرفع..
١٤ من الطويل وهو لعلقمة الفحل. وهو في البحر ٨/٧١ ومعاهد التنصيص ١/٦٣، وحاشية الدمنهوري ٩٣. والشاهد وليها بمعنى القرب..
١٥ ففيه قلب مكاني..
١٦ صاحب نظم القرآن وقد تقدم التعريف به. وانظر رأيه في القرطبي ١٦/٢٤٤..
١٧ من الوافر ومعناه واضح في الوعيد الواقع لا محالة. ولم أعرف قائله وكرر لفظ أولى للتأكيد فهو كقوله: أولى ثم أولى لك فأولى" أي ويل وهلاك فالوعيد واقع ومؤكد كالدر المحلوب لا يرد بعد الحلب إلى منبعه الأصلي.
والشاهد في كلمة أولى فمعناها الوعيد والتهديد وانظر القرطبي ١٦/٢٤٣ والبحر ٨/٧١ واللسان ولي ٤٩٢٤..

١٨ في القرطبي فيما نقله عنه: في العطب..
١٩ زيادة من (أ) وانظر الكامل ٤/٥١ للمبرد بالمعنى والقرطبي ١٦/٢٤٤ والبحر المحيط ٨/٧١..
٢٠ لأحد الأعراب وهو من الطويل. وشاهده أن أولى في البيت لهذا حكاية وذلك أنه كان لا يحسن أن يرمي وأحب أن يمتدح عند أصحابه فقال أولى وضرب بيده على الأخرى وقال أولى فحكى ذلك.
وانظر اللسان ولي ٤٩٢٤ والقرطبي ١٦/٢٤٤ والبحر ٨/٧١ وفي البحر: صيدهم ولعله تحريف..

٢١ زيادة للسياق..
٢٢ في (ب) أو أدنى وهذا الإعراب قال به أبو حيان عن قتادة في البحر ٨/٨٣..
٢٣ الرازي ٢٨/٦٢..
٢٤ البحر المحيط المرجع السابق..
٢٥ التبيان والبحر السابقين..
٢٦ ذكره أبو حيان في مرجعه السابق..
٢٧ الكشاف ٣/٥٣٥ و٥٣٦..
٢٨ البحر المحيط السابق..
٢٩ السابق..
٣٠ التبيان ١٠٦٣..
٣١ فكلمة أولى كعطية تأنيث لفظي..
٣٢ عند قوله تعالى: ﴿أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى﴾ الآيتان ٣٤، ٣٥ من القيامة..
قوله :﴿ طَاعَةٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر «أَوْلَى » على ما تقدم.
الثاني : أنها صفة «لِسُورَة » أي فإذا أنزلت سُورَةٌ محكمة «طاعة » أي ذات طاعة أو مطاعة. ذكره مكي١، وأبو البَقَاءِ٢. وفيه بُعْد لكثرة الفواصل.
الثالث : أنها مبتدأ و«قَوْل » عطف عليها والخبر محذوف تقديره : أَمْثَلُ لَكُمْ مِنْ غَيْرِهِمَا٣. وقدّر مَكِّيٌّ منَّا٤ طاعةٌ فقدّره مقدَّماً.
الرابع : أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي أمْرُنَا طَاعَةٌ٥.
الخامس : أن لهم خبر مقدم وطاعة مبتدأ مؤخر٦. والوقف والابتداء يُعْرَفَانِ مما تقدم.

فصل


قال المفسرون : قوله : طاعة وقول معروف ابتداء محذوف الخبر، تقديره طاعة وقول معروف أمثل، أي لو أطاعوا وقالوا قولاً معروفاً كان أمثل وأحسن٧. وساغ الابتداء بالنكرة، لأنها وُصِفَتْ بدليل قوله :﴿ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ فإنه موصوف فكأنه تعالى قال : طاعة مخلصةً وقولٌ معروف خير٨. وقيل : يقول المنافقون قبل نزول السورة المحكمة طاعة رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة، أو منا طاعة وقول معروف : حسن٩.
وقيل :«متَّصل ». واللام في قوله :«لَهُمْ » بمعنى الباء أي فأولى بهم طاعة الله ورسوله وقول معروف بالإجابة، أي لو أطاعوا الله كانت الطاعة والإجابة أولى بهم١٠. وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عَطَاءٍ.
قوله :﴿ فَإِذَا عَزَمَ الأمر ﴾ في جوابها ثلاثة أوجه :
أحدهما : قوله :﴿ فَلَوْ صَدَقُواْ ﴾ نحو : إذَا جَاءنِي طَعَامٌ فَلَوْ جِئْتَنِي١١ أَطْعَمْتُكَ.
الثاني : أنه محذوف تقدره : فَاصْدُقْ، كذا قدره أبو البقاء١٢.
الثالث : أن تقديرنا١٣ ناقضوا١٤. وقيل : تقديره كرهوا ذلك١٥. وعَزَمَ الأمْر على سبيل الإسناد المجازي كَقوله :
٤٤٧٨ قَدْ جَدَّتِ الْحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا١٦ ***. . .
أو يكون على حذف مضاف أي عَزَمَ أَهْلُ الأمر١٧. وقال المفسرون : معناه إذا جدَّ الأمر ولزم فرض القتال خالفوا وتخلفوا فلو صدقوا لله في إظهار الإيمان والطاعة لكان خيراً لهم١٨. وقيل : جواب إذا محذوف تقديره فإذا عزم الأمر لكلُّوا أو كذبوا فيما وعدو ولو صدقوا لكان خيراً لهم.
١ مشكل إعراب القرآن له ٢/٣٠٨..
٢ التبيان ١١٦٣..
٣ مشكل إعراب القرآن السابق، والرازي ٢٨/٦٢ والكشاف ٣/٥٣٦..
٤ مشكل الإعراب السابق..
٥ التبيان السابق وأبو حيان في بحره ٨/٨١..
٦ نقله أبو حيان في بحره السابق عن قتادة ـ رضي الله عنه ـ..
٧ نقل المؤلف كلام الرازي رغم ما أورده في إعراب كلمة "طاعة". وهذا من العيوب التي يقع فيها كثيرا فهو حريص على نقل الكلام حتى ولو كان مكررا..
٨ وانظر الرازي ٢٨/٦٢، ٦٣..
٩ الكشاف ٣/٥٣٦ والبحر والرازي السابقين..
١٠ نقله القرطبي في الجامع ١٦/٢٤٤ ولم يعينه لمعين..
١١ وهو احتيار أبي حيان في البحر ٨/٨٢..
١٢ التبيان ١١٦٣..
١٣ كذا في (أ) وفي (ب) تقديره وهو الأصح والأبين وإلا فمن المقدر؟!.
١٤ القرطبي ١٦/٢٤٤..
١٥ القرطبي ١٦/٢٤٤..
١٦ من الرجز وقبله:
قد شمرت عن ساقها فشدوا
وشاهد في الإسناد المجازي حيث شبه الحرب بإنسان عاقل، وانظر البحر ٨/٣١٦ ومجمع البيان ١٠/٨..

١٧ التبيان ١١٦٣..
١٨ معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٥/١٣ والقرطبي السابق..
قوله :﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ ﴾ أي فلعلكم إن توليتم أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه ﴿ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض ﴾، تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية تفسدوا في الأرْضِ بالمعصية والبَغْي وسَفْكِ الدماء وترجعون إلى الفُرْقة بعدما جمعكم الله بالإسلام !
قوله :﴿ أَن تُفْسِدُواْ ﴾ خبر عسى١. والشرط مُعْتَرِضٌ بينهما وجوابه محذوف لدلاَلَةِ :«فَهَلْ عَسَيْتُمْ » عليه أو هو يفسره «فَهَلْ عَسَيْتُمْ »، عند من يرى تقديمه.
وقرأ علي رضي الله عنه «إن تُوُلِّيتُمْ » بضم التاء والواو وكسر اللام مبنياً للمفعول من الولاية أي وُلِّيتم أمور الناس٢. وقال ابن الخطيب : لولا تولاَّكم ولاةٌ ظلمة، جُفاة غَشَمَة ومشيتم معهم لفسدتم وقطعت الأرحام والنبي عليه الصلاة والسلام لا يأمركم إلا بصلة الأرحام فلم تتقاعدون عن القتال ؟ !. والأول أظهر ومعناه إن كنتم تتركون القتال وتقولون فيه الإفساد، وقطع الأرحام وكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلا ذلك، حيث تَتَقاَتَلُونَ على أدنى شيءٍ كما كان عادة العرب الأُوَل٣. ( وقرئ : وُليتم من الولاية أيضاً٤ ).

فصل


قال ابن الخطيب : في استعمال «عسى » ثلاثة مذاهب :
أحدها الإتيان بها على صورة فعل ماض معه فاعل تقول : عَسَ زَيْدٌ، وعَسَيْنَا وعَسَوْا، وعَسَيْتُمَا، وعَسَيْتُ وعَسَيْتُنَّ وعَسَيْنَا٥ وعَسَيْتُنَّ.
والثاني : أن يؤتى بها على صورة فعل ومفعول يقال : عَسَاهُ، وعَسَاهُمَا، وعَسَاكَ، وَعَسَاكُمَا وعَسَايَ وعَسَانَا٦.
الثالث : الإتيانُ بها من غير أن يُقْرَن بها شيء٧ تقول : عَسَى زَيْدٌ يَخْرُجُ، وعَسَى أَنْتَ تَخْرُجُ، وعَسَى أَنَا أخْرُجُ، والكل متوجه ما عليه كلام الله أوجه، لأن «عسى » من الأفعال الجامدة، واقتران الفاعل بالفعل الأولى من اقتران المفعول، لأن الفاعل كالجزء من الفعل ولهذا لم يجوزوا فيه أرْبَعَ متحركات في مثل قول القائل : بَصُرْتُ٨ وجوزوا في مثل قولنا : بَصَرُكَ٩. وقد تقدم الكلام في «عسى » مشْبَعاً.
وفي قوله :«عَسَيْتُم » إلى آخره، التفات من غيبة في قوله :﴿ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾ إلى خطابهم بذلك زيادة في توبيخهم والاستفهام للتقرير المؤكد فإنه لو قال على سبيل الإخبار :«عَسَيْتُمْ إنْ » لكان للمخاطب أن ينكره فإذا قال بصيغة الاستفهام فإنه يقول : أنا أسألك عن هذا وأنت لا تقدر ( أن )١٠ تجيب إلا ب «لا » أو «نَعَمْ »، فهو مُقَرَّر عندك وعندي١١.
واعلم أن «عَسَى » للتوقع والله عالم بكل شيء والكلام فيه كالكلام في «لَعَلَّ » وفي قوله :﴿ لِّيَبْلُوَكُمْ ﴾١٢ [ المائدة : ٤٨ ] فقال بعضهم : يفعل بكم فعل المترجِّي والمبتلي والمتوقع. وقيل : كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك. وقال ابن الخطيب : هو محمول على الحقيقة ؛ لأن الفعل إذا كان في نفسه متوقعاً فالنظر غير مستلزم لأمر، وإِنما الأمر يجوز أن يحصل منه تارة، ولا يحصل منه أخرى يكون الفعل لذلك الأمر المطلوب على سبيل الترجِّي سواء كان الفاعل يعلم حصول الأمر منه أو لم يعلم مثاله من نَصَبَ شَبَكةً لاصطياد الصَّيد يقال : هو متوقع لذلك، فإن حصل له العمل بوقوعه فيه بإخبار صادقٍ أنه سيقع أو بطريق أخرى لا يخرج عن التوقع.
غاية ما في الباب أن في الشاهد لم يحصل لنا العلم فيما١٣ نتوقعه١٤ فظن أن عدم العلم لازم للتوقع فليس كذلك بل التوقع هو المنتظر بأمر ليس بواجب الوقوع نظراً إلى ذلك الأمر حسب١٥ سواء كان له به علم أو لم يكن١٦.
قوله :﴿ وتقطعوا ﴾ قرأ العامة بالتشديد على التكثير، وأبو عمرو في رواية وسلام ويعقوب : بالتخفيف مضارع قَطَع١٧. والحَسن : بفتح التاء والطاء مشددة، أصلها تَتَقَّطُعُوا بتاءين١٨ حذفت إحداهما١٩. وانتصب «أَرْحَامَكُم » على هذا إسقاط الخافض أي في أرْحَامِكُمْ.
١ في محل نصب جملة فعلية كخبر أفعال المقاربة والتاء اسمها. وانظر التبيان ١١٦٣، والمشكل ٢/٣٠٨..
٢ شاذة ذكرها الكشاف ٣/٥٣٦. والفعل ماض مبني للمجهول وهي قراءة ابن أبي إسحاق أيضا. ورواها رويس عن يعقوب. وانظر القرطبي ١٦/٢٤٥ ومختصر ابن خالويه ١٤٠..
٣ بالمعنى من الرازي ٢٨/٦٤..
٤ ولم أعرف من قرأ بها وهي شاذة. وانظر الكشاف ٣/٥٣٦ والبحر المحيط ٨/٨٢ ومعناها توليتم أمور الناس..
٥ في الرازي: عستم وعست وعسنا والأول يجوز أن يكون صحيحا ولكن الثاني والثالث من الإمكان أن يكونا محرفين من قبل الناسخ فما دام قد أسند الفعل إلى الفاعل المضمر فإن الألف ترد إلى ياء. وهذا المذهب مرجوح فلم يأت القرآن الكريم به. وهذا الرأي ذكره الرازي في تفسيره حيث اقتصر عل الفعل والفاعل وهذا المذهب مذهب الكوفيين فهي بمنزلة قرب فعل قاصر..
٦ وهو قليل أيضا وفيه مذاهب ثلاثة:
أحدها: أنها أجريت مجرى لعل في نصب الاسم ورفع الخبر كما أجريت لعل مجراها في اقتران خبرها بأن وقال به سيبويه.
والثاني: أنها باقية على عملها عمل كان ولكن استعير ضمير النصب مكان ضمير الرفع وقال بذلك الأخفش.
والثالث: أنها باقية على إعمالها عمل كان ولكن قلب الكلام فجعل المخبر عنه خبرا وبالعكس قاله المبرد والفارسي. بتصرف من المغني ١٥١ و١٥٢ و١٥٣..

٧ يقصد أن هذا المذهب أو الوجه قليل كقوله: عسى الكرب... البيت..
٨ في (ب) والرازي: نصرت..
٩ وانظر الرازي ٢٨/٦٣ و٦٤..
١٠ ساقط من النسختين فهو زيادة للسياق..
١١ الرازي السابق..
١٢ كذا في (أ) وهي كلمة من الآية ٤٨ من المائدة وفي (ب) ليبلوهم وليست موجودة في القرآن وفي الرازي لنبلوهم بالنون من الآية ٧ من سورة الكهف..
١٣ كذا في (أ) والرازي في (ب) يتوقعه بالياء..
١٤ في الرازي: فيظن..
١٥ في الرازي: فحسب..
١٦ وانظر تفسير الإمام الرازي ٢٨/٦٤..
١٧ لم ترو في المتواتر عن أبي عمرو فهي شاذة ذكرها ابن خالويه في مختصره ١٤٠ وانظر الكشاف ٣/٥٣٦، والقرطبي ١٦/٢٤٦..
١٨ شاذة كسابقتها وانظر الكشاف والقرطبي السابقين..
١٩ تخفيفا..
قوله: «أُلَئِكَ» مبتدأ، والموصول خبره والتقدير: أولئك المفسدون يدل عليه ما تقدم. وقوله: «فَأَصَمَّهُمْ» ولم يقل: «فَأَصَّم آذَانَهُمْ» و «أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ» ولم يقل أعمارهم، قيلأ: لأنه لا يلزم من ذهاب الإذن ذهاب السمع فلم يتعرض لها، والأبصار وهي الأعين يلزم من ذهابها ذهاب الإبْصار ولا يرد عليك قوله: ﴿وفي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾ ونحوه [الأنعام: ٢٥] و [الإسراء: ٤٦] و [الكهف: ٥٧] لأنه دون الصَّمَم والصَّممُ أعظم منه فقال: أصمهم من غير ذكر الأذن، وقال: «أعْمَى أبْصَارَهُمْ» مع ذكر العين؛ لأن البَصَرَ ههنا بمعنى العين ولهذا جمعه بالأبْصار ولو كان مصدراً لما جمع، فلم يذكر الأذن؛ إذْ لاَ مَدْخَلَ لها في الإصمام وذكر العين، لأن لها مدخلاً في الرُّؤية، بل هي الكل بدليل أنه الآفة في غير هذا الموضع لما أضافها إلى الأذن سماها وقراً فقال تعالى
457
حاكياً عنهم: ﴿وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ﴾ [فصلت: ٥] والوَقْر دون الصَّمَم.

فصل


﴿أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله﴾ إشارة إلى من سبق ذكرهم من المنافقين، أبعدهم الله عنه أةو عن الخبر الخير فأصمهم لا يسمعون الكلام المبين وأعمى أبصارهم عن الحق.
قوله: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن﴾ فيه سؤال وهو أنه تعالى قال: فأصمهم وأعمى أبصارهم فيكف يمكنهم التدبر في القرآن وهو كقول القائل الأعمى أَبْصِر وللأصمّ أسْمَعْ؟!.
فالجواب من ثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من بعض:
الأول: تكليفه ما لا يطاق جائز والله أمر من علم منه أنه لايؤمن بأن يؤمن فلذلك جاز أين يُصِمَّهم ويعميهم ويذمَّهم على ترك التدبر.
الثاني: أن قوله: ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ المراد منه الناس.
الثالث: أن يقال: هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المقتدمة كأنه تعالى قال: ﴿أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله﴾ أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو الخير أو غير ذلك من الأمور الحسنة فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام وأعماهم لا يتبعون طريقة الإسلام، فإِذَنْ هم بين أمرين إما لا يتدبرون القرآن فيبعدون منه، لأن الله لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق والقرآن منهما هو الصّف الأعلى بل النوع الأشرف وإما يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مُقْفَلَةً تقديره: أفلا يتبدون القرآن لكونهم ملعونين مُبْعَدِينَ ﴿أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾ فيتدبرون ولا يفهمون؛ وعلى هذا لا يحتاج إلى أن يقول: أم بمعنى «بل» بل هي على حقيقتها للاستفهام واقعة والهمزة أخذت مكانها وهو الصدر.
وقيلأ: أم بمعنى بل. والمعنى بل على قلوب أقفالها فلا تفهم مواعظ القرآن وأحكامه روى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عن أبيه قال: «تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفلا يتبدرون القرآن أم على قلوب أقفالها فقال شباٌّ من أهل اليمن بل على قولب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عُمَرَ حتى وَلِيَ فاستعان به».
قوله: ﴿أَمْ على قُلُوبٍ﴾ أم منقطعة وتقدم الكلام على «أم» منقطعة. وقرأ العامة: «
458
أقْفَالُها» بالجمع على أَفْعَالٍ. وقرىء أَقْفُلُهَا (بالجمع) على أفْعل. وقرىء إِقْفَالُهَا بكسر الهمزة مصدراً كالإقبال. وهذا الكلام استعارة بليغة قيل: ذلك عبارة عن عدم وصول الحق إليها.
فإن قيل: ما الفائدة في تنكير القلوب؟.
فقال الزمخشري: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون للتنبيه على كون موصوفاً لأن النكرة بالوصف أولى من المعرفة فكأنه قال: أمْ عَلَى قُلُوبٍ قاسيةٍ أو مظلمةٍ.
الثاني: أن تكون للتبعيض كأنه قال: أم على نفس القلوب؛ لأن النكرة لا تَعُمُّ، تقول: جاءني رجالٌ فيُفْهَمُ البعض وجاءني الرجال فيُفْهَم الكل. والتنكير في القلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب وذلك لأن القلب إذا كان عارفاً كان معروفاً، لأن القلب خلق للمعرفة فإذا لم يكن فيه المعرفة فكأنه لا يعرف قلباً، فلا يكون قلباً يعرف، كما يقال للإنسان المؤذي: هذا ليس بإنسان فكذلك يقال: هذا ليس بقلبٍ هذا حجر.
وإذا علم هذا فالتعريف إما بالألف واللام وإما بالإضافة بأن يقال: على قلوبهم أقفالها أو هي لنعدم عَوْد فائدة إليهم كأنها ليست لهم.
فِإن قيل: قد قال تعالى: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ [البقرة: ٧] وقال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ [الزمر: ٢٢].
فالجواب: الإقفال أبلغ من الختم، فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله: «أقْفَالُهَا» بالإضافة ولم يقل: أقفال كما قال: قُلُوبٍ؟.
فالجواب: لأن الأقفال كأنها ليست إلا لها ولم تضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم وإضافة الأقْفال إليها لكونها مناسبةً لها. أو يقال: أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكُفْر والعِنَادِ.
قوله: ﴿إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ﴾ رجَعُوا كفاراً ﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى﴾
459
قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعدما عرفوه ووجدوا نعتَه في كتابهم. وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون.
قوله: ﴿الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ﴾ أي زين لهم القبيحَ. وهذه الجملة خبر: ﴿إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ﴾ وتقدم الكلام على سَوَّلَ معنًى واشتقاقاً. وقال الزمخشري هنا: وقد اشتقه من السَّؤلِ من لا عِلْمَ له بالتصريفِ والاشتقاق جميعاً. قال شهاب الدين: كأنه يشير إلى ما قاله ابْنُ بَحْر من أن المعنى أعطاهم سُؤْلَهُمْ. ووجه الغلط فيه أن مادة السّول من السؤال بالهمز ومادة هذا بالواو فافْتَرَقَا، فلو كان على ما قيل لقيل سأَّل بتشديد الهمزة لا بالواو. وفيما قال الزمخشري نظر؛ لأن السؤال له مادتان سأل بالهمزة وسال بالألف المنقلبة من واو. وعليه قراءة: «سَالَ سَائِلٌ» وقوله:
٤٤٧٩ - سَأَلَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللهِ فَاحِشَةً ضَلَّتُ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ
وقد تقدم هذا في البقرة مستوفًى.
قوله: ﴿وأملى لَهُمْ﴾ العامة على أملي مبنياً للفاعل وهو ضمير الشيطان. وقيل: هو للباري تَعَالى. قال أبو البقاء: على الأول: يكون معطوفاً على الخبر. وعلى الثاني: يكون مستأنفاً. ولا يلزم ماقاله بل هو معطوف على الخبر في كلا التقديرين أخبر عنهم بهَذَا وبهَذَا.
وقرأ أبو عمرو في آخرين أُمْلِيَ مبنياً للمفعول. والقائم مقام الفاعل الجار.
وقيل: القائم مقامه ضمير الشيطان ذكره أبو البقاء. وقرأ يعقوبُ وسلاَّمٌ ومجاهد وأُمْلِي بضم الهمزة وكسر اللام وسكون الياء فاحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مضارعاً مسنداً لضمير المتكلم أي وأملي أنا لهم، وأن
460
يكون ماضياً كقراءة أبي عمرو سكنت ياؤه تخفيفاً وقد مضى منه جملة.

فصل


قال المفسرون: سَوَّلَ لَهُمْ سَهَّل لهم. وأَمْلَى لهم أي مد لهم فِي الأمل يعني قالوا: نعيش أياماً ثم نؤمن به وهو معنى قوله: ﴿وأملى لَهُمْ﴾.
فإن قبل: الإِملاء والإِمهال وَحَدُّ الآجال لا يكون إِلا من الله فكيف يصح قراءة من قرأ: وأملى لهم فإن المملي حينئذ هو الشيطان؟.
قال الخطيب: فالجواب من وجهين:
أحدهما: هو أن المسوِّل أيضاً ليس هو الشيطان وإنما إسند إليه من حيث إن الله قد ر على يده ولسانه ذلك، فكذلك الشيطان يمسهم ويقول لهم: في آجالكم فَسْحَةٌ فتمتعوا برئاستكم ثم في آخر العمل تؤمنون.
قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ﴾ يعني المنافقين أو اليهود قالوا: ﴿لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله﴾ وهم المشركون أي ذلك الإملاء لا يسبب قولهم الذين كرهوا. قال الواحدي.
وقيل: ذلك إشارة إلى التسويل. ويحتمل أن يقال: ذلك إشارة للارتداد بسبب قولهم: سنطيعكم قاله ابن الخطيب. قال: لأنا نبين أن قوله: «سنطيعكم ف يبعض الأمور» هو أنه قالوا نوافقكم على أن محمداً ليس بمرسل وإنما هو كذاب ولكن لا نوافقكم على إِنكار الرسالة والحشر والإشراك بالله من الأصنام ومن لم يؤمن بمحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو كافر وإن آمن بغيره. لا بل نؤمن بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولا نؤمن بالله ولا برسله ولا بالحشر، لأن الله تعالى كما أخبر عن الحشر وهو جائز أخبر عن نبوّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهِيَ جائزة.
وقال المفسرون: إِن اليهود والمنافقين قالوا للذين كرهوا ما نزل الله وهم المشركون سنطيعكم في بعض الأمور في التعاون على عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقعود عن الجهاد. وكانوا يقولونه سراً فقال الله تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾.
461
وقوله: «إسْرَارَهُمْ» قرأ الأخوان وحفص بكسر الهمزة مصدراً. والباقون بفتحها جمع سِرّ.
قوله: «فكيف» إما خبر مقدم، أي فيكف عمله بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة.
وإما منصوب بفعل محذوف أي فكيف تصنعون وإما خبر «لكان» مقدرة أي فكيف يكونُون؟ والظرف معمول لذلك المقدر وقرأ الأعمش: «تَوَفَّاهُمْ» دون تاء، فاحتملت وجهين: أن يكون ماضياً كالعامة، وأن يكون مضارعاً حُذفت إحدى تائيه.
قوله: «يَضْرِبُون» حال إما من الفاعل وهو الأظهر أو من المعفول.

فصل


قال ابن الخطيب: الأظهر أن قوله: ﴿والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ أي ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنهم كانوا مكابرين معاندين وكانوا يعرفون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما يعرفون أبناءهم ويؤيده القراءة بكسر الهمزة فإنهم كانوا يُسِرُّونَ نبوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإن قلنا: المراد من الذين ارتدّوا هم المنافقون فكانوا يقولون للجاحدين من الكفار سنطيعكم في بعض الأمور كانوا يرون أنهم إن غلبوا انقلبوا كما قال الله: ﴿وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ [العنكبوت: ١٠] وقال تعالى: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ [الأحزاب: ١٩]. وقوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ كأنه تعالى قال: هَبْ أنهم يسرون والله لا يظهره اليوم فكيف يبقى مخفياً وقت وفاتهم؟ ﴿أو نقول: لما قال الله تعالى: والله يعلم إسرارهم أنهم يختارون القتال لما فيه من الضرب والطعن مع أنه مفيد على الوجهين جميعاً إن غَلبوا في الحال والثواب في المآل، وإن غُلبوا فالشهادة والسعادة، فكيف حالهم إذا ضرب وجوههم وأدبارهم؟﴾.
وعلى هذا فيه لطيفة وهي أن القتال في الحال إن أقدم المبارز قد يهزم الخَصْم ويسلم وجهه وَقَفاهُ وإن لم يهزمه فالضرب على وجهه إن ثَبَتَ وصَبَرَ وإن يثبت وانهزم فإنه فاته بالهرب فقد سلم وجهه وقفَاه وإن لم يفته فالضرب على فقاه لا غير ويوم الوفاة لا نُصْرة له ولا مفرّ، فوجهه وظهره مضروب مطعون فيكف يحترز عن الأذى ويختار العذاب الأكبر؟ ّ.
462
قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله﴾ أي ذلك الضرب بأنه اتبعوا ما أسخط الله. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) بما كتموا التوراة وكفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكرهوا ما فيه رضوان الله وهو الطاعة والإيمان. وقيل: المراد بما أسخط الله الكفر لأن الإيمان يرضيه لقوله تعالى: ﴿إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧]. وقيل: بما أسخط الله هو تسويل الشيطان.
فإن قيل: هم ما كانوا يكرهون رضوان الله بل كانوا يقولون: إن الذي هم عليه رضوان الله ولا نطلب به إلا رضى الله وكيف (لا) والمشركون بإشراكهم كانوا يقولون إنا نطلب رضى الله كما قالوا: ﴿لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣] وقالوا:
﴿فَيَشْفَعُواْ لَنَآ﴾ [الأعراف: ٥٣].
فالجواب: معناه كرهوا ما فيه رضى الله. وفيه قوله: ﴿مَآ أَسْخَطَ الله﴾ ولم يقل: «ما أرضى الله» لطيفة وهي أن رحمة الله سابقة، فله رحمة ثانية وهي منشأ الرضوان وغضب الله متأخر، فهو يكون على ذبن، فقال «رضوانه» لأنه من وصف ثابت لله سابق. ولم يقل «سَخِطَ الله» بل قال «أَسْخَطَ» إشارة إلى أن السخط ليس ثبوته كثبوت الرضوان ولهذا المعنى قال في اللَّعَان في حق المرأة: ﴿والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين﴾ [النور: ٩] يقال: غضب الله مضافاً لأن لعانه قد سبق فظهر الزنا بقوله وإيمانه وقبله لم يكن غضب فرضوان الله أمر يكون منه الفعل وغضب الله أمر يكون من فعله.
قوله: «فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ» حيث لم يطلبوا رضا الله وإنما طلبوا رِضَا الشيطان والأصنام. قوله: ﴿أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾ يعني المنافقين و «أم» تستدعي جملة أخرى استفهامية يقال: أَزيدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عَمْرٌو وإذا كانت منقطعة لا تستدعي ذلك؛ يقال: إنَّ هذا لزيدٍ أم عمرو وكما يقال: بل عمرو. والمفسرون على أنها مقطعة. ويحتمل أن يقال: إنها استفهامية والسابق مفهوم من قوله تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾. وكأنه تعالى قال: (أم) حسب الذين كفروا وأن لم يعلم الله إسرارهم أم حسب المنافقون أن لن يظهرها. والكل فاسد فإنما يعلمها ويظهرها.
463
قوله: ﴿أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ﴾ الإخراد بمعنى الإظهار، أي لن يظهر أحقادهم و «أن» هذه مخففة. و «لن» وما بعدها خبرها واسمها ضمير الشأن. والأَضْغَانُ جمع ضغْنٍ وهي الأَحْقَادُ والضَّغِينَةُ كذلك. قال (رَحِمَهُ اللَّهُ) :
٤٤٨٠ - وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الوُدَّ عَنْهُ وَكُنْتُ عَلَى إِسَاءَتِهِ مُقِيتَا
وقال عمرو بن كلثوم:
٤٤٨١ - وَإِنَّ الضِّغْنَ بَعْدَ الضَّغْنِ يَعْسُو عَلَيْكَ وَيُخْرِجُ الدَّاءَ الدَّفِينَا
وقيلأ: الضغن العداوة وأنشد:
٤٤٨٢ - قُلْ لابْنِ هِنْدٍ مَا أَرَدْتَ بِمَنْطِقٍ سَاءَ الصَّدِيقَ وَشَيَّدَ الأَضْغَانَا
يقال: ضَغِنَ بالكسر يَضْغَنُ بالفتح وقد ضَغِنتَ عليه وأضْغَنَ القَوْمُ وتَضَاغَنُوا.
وأصل المادة من الألتواء في قوائم الدّابة والقناة، قال (رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ) :
٤٤٨٣ - إنَّ قَنَاتِي مِنْ صَليباتِ القَنَا مَا زَادَهَا التَّثْقِيفُ إِلاَّ ضَغَنَا
وقال آخر:
٤٤٨٤ -............................ كَذَاتِ الضَّغْنِ تَمْشِي فِي الرِّقَاقِ
464
والاضطغَانُ الاحتواء على الشيء أيضاً ومنه قولهم: اضطَغَنْتُ الصَّبِيَّ إِذَا احتضنته وأنشد:
٤٤٨٥ - كَأَنَّه مُضْطَغِنٌ صَبِيًّا... وقال الآخر:
٤٤٨٦ - وما اضطَغَنْتُ سِلاَحِي عِنْدَ مَعْرَكِهَا..............................
وفرسٌ ضَاغِنٌ لا يجري إِلاَّ بالضَّرْبِ.

فصل


قال المفسون: أضغانهم أحقادهم على المؤمنين فيُبْدِيها حتى تعرفوا نفاقهم. وقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أضغانهم حَسَدَهُمْ.
قوله: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ﴾ من رؤية البصر؛ وجاء على الأفصح من اتصال الضميرين ولو جاء على أرينك إياهم جاز. وقال ابن الخطيب: الإرَاءَةُ هنا بمعنى التعريف.
قوله: «فَلَعَرَفْتَهُمْ» عطف على جواب «لو» وقوله: «وَلَتَعْرفنَّهُمْ» جواب قسم محذوف.
قال المفسرون: معنى الكلام: لأريناكهم أي لأعلمناكهم وعَرَّفْنَاكَهُمْ فَلَتَعْرِفَنَّهُمْ بِسِيماهُمْ: بعلامتهم. قال الزجاج: المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم
465
بها. قال «أنس» : فأخفي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم.
قوله: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول﴾ أي في معناه ومقصده. واللحن يقال باعتبارين:
أحدهما: الكناية بالكلام حتى لا يفهمه غير مخاطبك. ومنه قول القَتَّال الكِلاَبي (رَحِمَهُ اللَّهُ) في حكاية له:
٤٤٨٧ - وَلَقَدْ وَحَيْتُ لكيْمَا تَفَهْمُوا وَلَحَنْتُ لَحْناً لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ
وقال آخر:
٤٤٨٨ - وَمَنْطِقٌ صَائِبٌ وَتَلْحَن أحْيَاناً وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنَا
واللَّحْنُ: صرف الكلام من الإعراب إلى الخطأ. وقيل يجمعه هو والأول صرف الكلام عن وجهه. يقال من الأول: لَحَنْتُ بفتح الحاء أَلْحَنُ له فَأَنَا لاَجِنٌ. وأَلْحَنْتُ الكَلاَمَ أَفْهَمْتُهُ إياه فَلحِنَهُ بالكسر أي فهمه فهو لاحن. ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ».
ويقال من الثاني: لَحِنَ بالكسر إذا لم يُعْرب لهو لَحِنٌ.

فصل


معنى الآية أنك تعرفهم فيما يُعَرّضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا عَرَفَهُ بقوله ويستدل بفحوى كلامه على فساد دَخْلَتِهِ. قال ابن الخطيب: معنى الآية لن يُخْرِجَ الله أضغانهم أي
466
يُظْهِرَ ضمائرهم ويُبْرِزَ سرائرهم، وكأن قائلاً قال: فِلمَ لَمْ يُظْهر؟ فقال: أخرناه لمحْض المشيئة لا لخوف منهم ولو نشاء لأريناكم أي لا مانع لنا والإراءة بمعنى التعريف.
وقوله: «فَلَعَرفتهُمْ» لزيادة فائدة وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزم منه المعرفة يقال: عَرَّفْتُهُ ولَمْ يَعْرِف وفَهَّمْتُهُ ولَمْ يَفْهَمْ فقال ههنا: فَلَعَرَفْتَهُمْ يعني عَرَّفْنَاهُمْ تَعْرِيفاً تعرفهم به إشارة إلى قوة التعريف. واللام في قوله: «فلعرفتهم» هي التي تقع في خبر «لو» كما في قوله: «لأَرَيْنَاكَهُمْ» أدخلت على المعرفة إشارة إلى المعرفة المرتبة على المشيئة كأنه قال: ولو نشاء لعرفتهم لتفهم أنَّ المعرفة غير متأخرة عن التعريف فتفيد تأكيد التعريف أي لو نشاء لعرفنانك تعريفاً معه المعرفة لا بعده. وقوله: ﴿فِي لَحْنِ القول﴾ أي في معنى القول حيث يقولون ما معناه النفاق، كقولهم حين مجيء النصر: ﴿إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ [العنكبوت: ١٠] وقولهم: ﴿لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة﴾ [المنافقون: ٨] وقولهم: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ [الأحزاب: ١٣] ويحتمل أن يكون المراد قولهم ما لم فأمالوا كلامهم كما قالوا: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُون﴾ [المنافقون: ١].
ويحتمل أن يكون المراد من لَحْنِ القَوْل هو الوجه الخفي من القول الذي يفهمه النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولا يفهمه (غيره.
فالنبي عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يعرف)
المنافقين ولم يظهر أمرهم، لى أن أذن الله له في إظهار أمرهم، ومنع من الصلاة على جنائزهم، والقيام على قبورهم.
«بِسيماهُمْ» الظاهر أن المراد أنه تعالى لو شاء لجعل على وجوههم علامة أو يسمخهم كما قال: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ﴾ [يس: ٦٧]. وروي أن جماعة منهم أصبحوا وعلى جباههم مكتوب هذا منافقٌ ثم قال تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ وهذا وعد للمؤمنين وبيان لكون حالهم بخلاف حال المنافقين.
قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ... وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ قرأ أبو بكر الثلاثة بالياء من أسفل يعني الله تعالى. والأعمش كذلك وتسكين الواو (والباقون بنون العظمة. ورُوَيْسٌ كذلك وتسكين الواو والظاهر قطعة عن الأوّل في قراءة تسكين الواو) ويجوز أن يكون سكن الواو تخفيفاً كقراءة الحسن: ﴿أَوْ يَعْفُوَاْ الذي﴾ [البقرة: ٢٣٧] بسكون الواو.
467

فصل


المعنى: لنُعَامِلَنَّكُمْ معالمة المختبر بأن نأمركم بالجهاد والقتال ﴿حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين﴾ أي علم الوجود والمشاهدة فإن تعالى قد علمه علم الغيب يريد نبين المجاهد الصابر على دينه من غيره وقوله: ﴿وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ أي يظهرها ويكشفها بإباء من يأبى القتال ولا يَصْبِرُ على الجهاد.
468
قوله :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن ﴾ فيه سؤال وهو أنه تعالى قال : فأصمهم وأعمى أبصارهم فيكف يمكنهم التدبر في القرآن وهو كقول القائل الأعمى أَبْصِر وللأصمّ أسْمَعْ ؟ !.
فالجواب من ثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من بعض :
الأول : تكليفه ما لا يطاق جائز والله أمر من علم منه أنه لا يؤمن بأن يؤمن فلذلك جاز أين يُصِمَّهم ويعميهم ويذمَّهم على ترك التدبر. الثاني : أن قوله :﴿ أفلا يتدبرون القرآن ﴾ المراد منه الناس.
الثالث : أن يقال : هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المتقدمة كأنه تعالى قال :﴿ أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله ﴾ أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو الخير أو غير ذلك من الأمور الحسنة فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام وأعماهم لا يتبعون طريقة الإسلام، فإِذَنْ هم بين أمرين إما لا يتدبرون القرآن فيبعدون منه، لأن الله لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق والقرآن منهما هو الصّنف الأعلى بل النوع الأشرف وإما يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مُقْفَلَةً تقديره : أفلا يتبدون القرآن لكونهم ملعونين مُبْعَدِينَ ﴿ أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ فيتدبرون ولا يفهمون ؛ وعلى هذا لا يحتاج إلى أن يقول : أم بمعنى «بل » بل هي على حقيقتها للاستفهام واقعة والهمزة أخذت مكانها وهو الصدر١.
وقيل : أم بمعنى بل. والمعنى بل على قلوب أقفالها فلا تفهم مواعظ القرآن وأحكامه٢ روى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ٣ عن أبيه قال :«تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فقال شاب من أهل اليمن بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عُمَرَ حتى وَلِيَ فاستعان به »٤.
قوله :﴿ أَمْ على قُلُوبٍ ﴾ أم منقطعة وتقدم الكلام على «أم » منقطعة. وقرأ العامة :«أقْفَالُها » بالجمع على أَفْعَالٍ. وقرئ أَقْفُلُهَا ( بالجمع٥ ) على أفْعل٦. وقرئ إِقْفَالُهَا بكسر الهمزة مصدراً كالإقبال٧. وهذا الكلام استعارة بليغة قيل : ذلك عبارة عن عدم وصول الحق إليها٨.
فإن قيل : ما الفائدة في تنكير القلوب ؟.
فقال الزمخشري : يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون للتنبيه على كونه موصوفاً لأن النكرة بالوصف أولى من المعرفة فكأنه قال : أمْ عَلَى قُلُوبٍ قاسيةٍ أو مظلمةٍ.
الثاني : أن تكون للتبعيض كأنه قال : أم على نفس القلوب ؛ لأن النكرة لا تَعُمُّ، تقول : جاءني رجالٌ فيُفْهَمُ البعض وجاءني الرجال فيُفْهَم الكل٩. والتنكير في القلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب وذلك لأن القلب إذا كان عارفاً كان معروفاً، لأن القلب خلق للمعرفة فإذا لم يكن فيه المعرفة فكأنه لا يعرف قلباً، فلا يكون قلباً يعرف، كما يقال للإنسان المؤذي : هذا ليس بإنسان فكذلك يقال : هذا ليس بقلبٍ هذا حجر.
وإذا علم هذا فالتعريف إما بالألف واللام وإما بالإضافة بأن يقال : على قلوبهم أقفالها أو هي لنعدم عَوْد فائدة إليهم كأنها ليست لهم١٠.
فِإن قيل : قد قال تعالى :﴿ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ ﴾ [ البقرة : ٧ ] وقال :﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ الزمر : ٢٢ ].
فالجواب : الإقفال أبلغ من الختم، فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله :«أقْفَالُهَا » بالإضافة ولم يقل : أقفال كما قال : قُلُوبٍ ؟.
فالجواب : لأن الأقفال كأنها ليست إلا لها ولم تضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم وإضافة الأقْفال إليها لكونها مناسبةً لها. أو يقال : أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكُفْر والعِنَادِ١١.
١ أخذ المؤلف ـ رحمه الله ـ كل هذا من الإمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير السابق مع تغيير طفيف في العبارة..
٢ قال ببل وبقطع أم جار الله الزمخشري في الكشاف ٣/٥٣٦ والقرطبي في الجامع ١٦/٢٤٦..
٣ ابن الزبير رضي الله عنهم أجمعين وقد سبق التعريف به..
٤ ذكره البغوي في معالم التنزيل في سورة "محمد"..
٥ زيادة للسياق..
٦ ذكرها أبو حيان في تفسيره ولم يعين من قرأ بها. هي شاذة. انظر البحر ٨/٨٣..
٧ شاذة كسابقتها. انظر المرجع السابق والكشاف ٣/٥٣٦..
٨ المرجع السابق..
٩ باللفظ من الرازي والمعنى من الكشاف ٣/٥٣٦..
١٠ الرازي المرجع السابق..
١١ كذا في (أ) والرازي وفي (ب) والفساد. وانظر الرازي المرجع السابق..
قوله :﴿ إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ ﴾ رجَعُوا كفاراً ﴿ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى ﴾ قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بعدما عرفوه ووجدوا نعتَه في كتابهم. وقال ابن عباس والضحاك والسدي : هم المنافقون١.
قوله :﴿ الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ ﴾ أي زين لهم القبيحَ. وهذه الجملة خبر :﴿ إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ ﴾٢ وتقدم الكلام على سَوَّلَ معنًى واشتقاقاً. وقال الزمخشري هنا : وقد اشتقه من السَّؤلِ من لا عِلْمَ له بالتصريفِ والاشتقاق جميعاً٣. قال شهاب الدين : كأنه يشير إلى ما قاله ابْنُ بَحْر٤ من أن المعنى أعطاهم سُؤْلَهُمْ. ووجه الغلط فيه أن مادة السّول من السؤال بالهمز ومادة هذا بالواو فافْتَرَقَا، فلو كان على ما قيل لقيل سأَّل بتشديد الهمزة لا بالواو. وفيما قال الزمخشري نظر ؛ لأن السؤال له مادتان سأل بالهمزة وسال بالألف المنقلبة من واو. وعليه قراءة٥ :«سَالَ سَائِلٌ » وقوله :
٤٤٧٩ سَأَلَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللهِ فَاحِشَةً ضَلَّتُ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ٦
وقد تقدم هذا في البقرة مستوفًى٧.
قوله :﴿ وأملى لَهُمْ ﴾ العامة على أملي مبنياً للفاعل وهو ضمير الشيطان. وقيل : هو للباري تَعَالى. قال أبو البقاء : على الأول : يكون معطوفاً على الخبر. وعلى الثاني : يكون مستأنفاً٨. ولا يلزم ماقاله بل هو معطوف على الخبر في كلا التقديرين أخبر عنهم بهَذَا وبهَذَا.
وقرأ أبو عمرو في آخرين أُمْلِيَ٩ مبنياً للمفعول. والقائم مقام الفاعل الجار.
وقيل : القائم مقامه ضمير الشيطان ذكره أبو البقاء١٠. وقرأ يعقوبُ وسلاَّمٌ ومجاهد وأُمْلِي بضم الهمزة وكسر اللام وسكون الياء فاحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مضارعاً مسنداً لضمير المتكلم أي وأملي١١ أنا لهم، وأن يكون ماضياً كقراءة أبي عمرو سكنت ياؤه تخفيفاً١٢ وقد مضى منه جملة.

فصل


قال المفسرون : سَوَّلَ لَهُمْ سَهَّل لهم. وأَمْلَى لهم أي مد لهم فِي الأمل يعني قالوا : نعيش أياماً ثم نؤمن به وهو معنى قوله :﴿ وأملى لَهُمْ ﴾.
فإن قيل : الإِملاء والإِمهال وَحَدُّ الآجال لا يكون إِلا من الله فكيف يصح قراءة من قرأ : وأملى لهم فإن المملي حينئذ هو الشيطان ؟.
قال الخطيب : فالجواب من وجهين :
أحدهما : يجوز أن يكون المراد " وأملي لهم الله " فيقف١٣ على :" سول لهم ".
وثانيهما : هو أن المسوِّل أيضاً ليس هو الشيطان وإنما أسند إليه من حيث إن الله قدر على يده ولسانه ذلك، فكذلك الشيطان يمسهم١٤ ويقول لهم : في آجالكم فَسْحَةٌ فتمتعوا برئاستكم ثم في آخر العمر تؤمنون١٥.
١ القرطبي ١٦/٢٤٩..
٢ نقله التبيان ١١٦٣..
٣ الكشاف ٣/٥٣٧..
٤ سبق التعريف به..
٥ وهي قراءة نافع وابن عامر. انظر البحر ٨/٢٣٢ والكشاف ٤/١٥٦ وهي متواترة وهي لغة قريش أو على لغة من قال: سلت أسال. وقد حكاها سيبويه. ويجوز أن تكون على قلب الهمزة ألفا على غير قياس، وإنما القياس بين بين انظر الكشاف والبحر السابق..
٦ من البسيط لحسان ـ رضي الله عنه ـ والشاهد: سالت أي سألت حيث فيه ما فيه مما ذكرت أعلى. وقد تقدم..
٧ في قوله تعالى: ﴿سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة﴾ من الآية ٢١١. ولم يزد على ما قاله كل من أبي حيان والزمخشري السابقين..
٨ التبيان ١١٦٣..
٩ وهي قراءة متواترة انظر الكشف لمكي ٢/٢٧٧..
١٠ التبيان المرجع السابق..
١١ أي أنظر أنا كقوله: "إنما نملي لهم"..
١٢ وهذه القراءة شاذة وانظر هذا في البحر لابن حيان ٨/٨٣..
١٣ أي القارئ..
١٤ في الرازي: يمليهم، وهو الأقرب للمعنى المتحدث فيه..
١٥ وانظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨/٦٦..
قوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ ﴾ يعني المنافقين١ أو اليهود قالوا :﴿ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله ﴾ وهم المشركون أي ذلك الإملاء لا بسبب قولهم الذين كرهوا. قاله الواحدي٢.
وقيل : ذلك إشارة إلى التسويل٣. ويحتمل أن يقال : ذلك إشارة للارتداد بسبب قولهم : سنطيعكم قاله ابن الخطيب٤. قال : لأنا نبين أن قوله :«سنطيعكم في بعض الأمور » هو أنهم قالوا نوافقكم على أن محمداً ليس بمرسل وإنما هو كذاب ولكن لا نوافقكم في إِنكار الرسالة والحشر والإشراك بالله من الأصنام ومن لم يؤمن بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فهو كافر وإن آمن بغيره. لا بل نؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام ولا نؤمن بالله ولا برسله ولا بالحشر، لأن الله تعالى كما أخبر عن الحشر وهو جائز أخبر عن نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهِيَ جائزة٥.
وقال المفسرون : إِن اليهود والمنافقين قالوا للذين كرهوا ما نزل الله وهم المشركون سنطيعكم في بعض الأمر في التعاون على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم والقعود عن الجهاد. وكانوا يقولونه سراً فقال الله تعالى :﴿ والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴾٦.
وقوله :«إسْرَارَهُمْ » قرأ الأخوان وحفص بكسر الهمزة مصدراً. والباقون بفتحها جمع سِرّ٧.
قوله :«فكيف » إما خبر مقدم، أي فيكف عمله بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة.
وإما منصوب بفعل محذوف أي فكيف تصنعون٨ وإما خبر «لكان » مقدرة أي فكيف يكونُون ؟ والظرف معمول لذلك المقدر وقرأ الأعمش :«تَوَفَّاهُمْ » دون تاء، فاحتملت وجهين : أن يكون ماضياً كالعامة، وأن يكون مضارعاً حُذفت إحدى تائيه٩.
قوله :«يَضْرِبُون » حال إما من الفاعل وهو الأظهر أو من المفعول١٠.

فصل


قال ابن الخطيب : الأظهر أن قوله :﴿ والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴾ أي ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا مكابرين معاندين وكانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ويؤيده القراءة بكسر الهمزة فإنهم كانوا يُسِرُّونَ نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وإن قلنا : المراد من الذين ارتدّوا هم المنافقون فكانوا يقولون للجاحدين من الكفار سنطيعكم في بعض الأمور كانوا يرون أنهم إن غلبوا انقلبوا كما قال الله :﴿ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ [ العنكبوت : ١٠ ] وقال تعالى :﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾ [ الأحزاب : ١٩ ].
١ في ب واليهود..
٢ الرازي المرجع السابق..
٣ السابق ولم يحدد من قال بهذا..
٤ الرازي السابق..
٥ انظر المرجع السابق..
٦ القرطبي ١٦/٢٥٠..
٧ وهي قراءة سبعية تواترية وانظر السبعة ٦٠١ والكشف ٢/٢٧٨ وقد قال مكي: جعلوه مصدر "أسر" ووحد لأنه يدل بلفظه عل الكثرة. وقرأ الباقون بفتح الهمزة جعلوه جمع سر كعدل وأعدال. وحسن جمعه لاختلاف ضروب الأسرار من بني آدم. وانظر الإتحاف ٣٩٤..
٨ في ب تصفون..
٩ الكشاف ٣/٥٣٧ والبحر ٨/٨٤ وهي غير متواترة..
١٠ انظر التبيان ١١٦٤..
وقوله :﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ كأنه تعالى قال : هَبْ أنهم يسرون والله لا يظهره اليوم فكيف يبقى مخفياً وقت وفاتهم ؟ ! أو نقول : لما قال الله تعالى : والله يعلم إسرارهم أنهم يختارون القتال لما فيه من الضرب والطعن مع أنه مفيد على الوجهين جميعاً إن غَلبوا في الحال والثواب في المآل، وإن غُلبوا فالشهادة والسعادة، فكيف حالهم إذا ضرب وجوههم وأدبارهم ؟ !.
وعلى هذا فيه لطيفة وهي أن القتال في الحال إن أقدم المبارز قد يهزم الخَصْم ويسلم وجهه وَقَفاهُ وإن لم يهزمه فالضرب على وجهه إن ثَبَتَ وصَبَرَ وإن يثبت وانهزم فإنه فاته بالهرب فقد سلم وجهه وقفَاه وإن لم يفته فالضرب على قفاه لا غير ويوم الوفاة لا نُصْرة له ولا مفرّ، فوجهه وظهره مضروب مطعون فيكف يحترز عن الأذى ويختار العذاب الأكبر ؟ّ.
قوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله ﴾ أي ذلك الضرب بأنه اتبعوا ما أسخط الله. قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١ بما كتموا التوراة وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكرهوا ما فيه رضوان الله وهو الطاعة والإيمان. وقيل : المراد بما أسخط الله الكفر لأن الإيمان يرضيه لقوله تعالى :﴿ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [ الزمر : ٧ ]. وقيل : بما أسخط الله هو تسويل الشيطان.
فإن قيل : هم ما كانوا يكرهون رضوان الله بل كانوا يقولون : إن الذي هم عليه رضوان الله ولا نطلب به إلا رضى الله وكيف ( لا )٢ والمشركون بإشراكهم كانوا يقولون إنا نطلب رضى الله كما قالوا :﴿ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] وقالوا :﴿ فَيَشْفَعُواْ لَنَا ﴾٣ [ الأعراف : ٥٣ ].
فالجواب : معناه كرهوا ما فيه رضى الله. وفيه قوله :﴿ مَا أَسْخَطَ الله ﴾ ولم يقل :«ما أرضى الله » لطيفة وهي أن رحمة الله سابقة، فله رحمة ثانية وهي منشأ الرضوان وغضب الله متأخر، فهو يكون على ذنب، فقال «رضوانه » لأنه من وصف ثابت لله سابق. ولم يقل «سَخِطَ الله » بل قال «أَسْخَطَ » إشارة إلى أن السخط ليس ثبوته كثبوت الرضوان ولهذا المعنى قال في اللَّعَان في حق المرأة :﴿ والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين ﴾ [ النور : ٩ ] يقال : غضب الله مضافاً لأن لعانه قد سبق فظهر الزنا بقوله وإيمانه وقبله لم يكن غضب فرضوان الله أمر يكون منه الفعل وغضب الله أمر يكون من فعله.
قوله :«فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ » حيث لم يطلبوا رضا الله وإنما طلبوا رِضَا الشيطان والأصنام٤.
١ سقط من ب..
٢ سقط من ب..
٣ وفي النسختين نقلا عن الرازي ليشفعوا باللام، والأصح ما أثبت أعلى..
٤ انظر الرازي المرجع السابق..
قوله :﴿ أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾ يعني المنافقين و«أم » تستدعي جملة أخرى استفهامية١ يقال : أَزيدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عَمْرٌو وإذا كانت منقطعة لا تستدعي ذلك ؛ يقال : إنَّ هذا لزيدٍ أم عمرو وكما يقال : بل عمرو٢. والمفسرون على أنها منقطعة٣. ويحتمل أن يقال : إنها استفهامية والسابق مفهوم من قوله تعالى :﴿ والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴾. وكأنه تعالى قال :( أم )٤ حسب الذين كفروا وأن لم يعلم الله إسرارهم أم حسب المنافقون أن لن يظهرها. والكل فاسد٥ فإنما يعلمها ويظهرها.
قوله :﴿ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ ﴾ الإخراج بمعنى الإظهار، أي لن يظهر أحقادهم و«أن » هذه مخففة. و«لن » وما بعدها خبرها واسمها ضمير الشأن. والأَضْغَانُ جمع ضغْنٍ وهي الأَحْقَادُ والضَّغِينَةُ كذلك. قال ( رحمه الله٦ ) :
٤٤٨٠ وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الوُدَّ عَنْهُ وَكُنْتُ عَلَى إِسَاءَتِهِ مُقِيتَا٧
وقال عمرو بن كلثوم :
٤٤٨١ وَإِنَّ الضِّغْنَ بَعْدَ الضَّغْنِ يَعْسُو٨ عَلَيْكَ وَيُخْرِجُ الدَّاءَ الدَّفِينَا
وقيلأ : الضغن العداوة وأنشد :
٤٤٨٢ قُلْ لابْنِ هِنْدٍ مَا أَرَدْتَ بِمَنْطِقٍ سَاءَ الصَّدِيقَ وَشَيَّدَ الأَضْغَانَا٩
يقال : ضَغِنَ بالكسر يَضْغَنُ بالفتح وقد ضَغِن عليه وأضْغَنَ القَوْمُ وتَضَاغَنُوا.
وأصل المادة من الالتواء في قوائم الدّابة والقناة، قال ( رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ١٠ ) :
٤٤٨٣ إنَّ قَنَاتِي مِنْ صَليباتِ القَنَا مَا زَادَهَا التَّثْقِيفُ إِلاَّ ضَغَنَا١١
وقال آخر :
٤٤٨٤. . . . . . . . . . . . . . . كَذَاتِ الضَّغْنِ تَمْشِي فِي الرِّقَاقِ١٢
والاضطغَانُ الاحتواء على الشيء أيضاً١٣ ومنه قولهم : اضطَغَنْتُ الصَّبِيَّ إِذَا احتضنته وأنشد :
٤٤٨٥ كَأَنَّه مُضْطَغِنٌ صَبِيًّا١٤. . .
وقال الآخر :
٤٤٨٦ وما اضطَغَنْتُ سِلاَحِي عِنْدَ مَعْرَكِهَا . . . . . . . . . . . . . ١٥
وفرسٌ ضَاغِنٌ لا يجري إِلاَّ بالضَّرْبِ.

فصل


قال المفسرون : أضغانهم أحقادهم على المؤمنين فيُبْدِيها حتى تعرفوا نفاقهم. وقال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١٦ أضغانهم حَسَدَهُمْ١٧.
١ إذا كانت للاستفهام لأن كلمة أم إذا كانت متصلة استفهامية يستدعي سبق جملة أخرى استفهامية..
٢ انظر الرازي المرجع السابق ٢٨/٦٩..
٣ انظر السابق..
٤ ساقطة من الرازي ففيه: أحسب..
٥ كذا في النسختين وفي الرازي: قاصر. وانظر الرازي السابق. أقول: مما يؤيد أن هذه الاستفهامية أن المنقطعة لا تكاد تقع في صدر الكلام فلا يقال ابتداء: بل جاء زيد ولا أو جاء عمرو..
٦ زيادة من (أ)..
٧ من الوافر ولم أعرف قائله والبيت في المسامحة و "ذي" مجرورة برب محذوفة وفي القرطبي النفس بدل الود والمقيت الحافظ. وجاء به المؤلف في أن الضغن معناه الحقد انظر القرطبي ١٦/٢٥١..
٨ كذا في النسختين والبحر بالعين من عسا يعسو عسوا وعسيا بمعنى كبر وفي القرطبي يفشو. والمعنى متقارب وفي المعلقة له: "يبدو" وهو هنا يقول: إن الضغن بعد الضغن تفشو آثاره ويخرج الداء المدفون من الأفئدة أي يبعث على الانتقام، والبيت من الوافر.
وشاهده: أن الضغن بمعنى الحقد وهو مفرد يجمع على أفعال كضغن وأضغان وانظر البيت في شرح المعلقات السبع للزوزني ١٤٩. وقد تقدم..

٩ من الكامل ولم أعرف قائله. وبالبيت استدل قطرب على أن الأحقاد معناها العداوة. وانظر القرطبي ١٦/٣٥١ والبحر ٨/٧١..
١٠ زيادة من (أ)..
١١ من الرجز ولم أهتد إلى قائله، وشاهده: أن الضغن معناه الالتواء في القناة ـ وهي الرمح ـ والعوج فهي معوجة ولم تثقف. وانظر اللسان ضغن ٢٥٩٣ ونوادر أبي زيد، وانظر أيضا البحر المحيط ٨/٧١..
١٢ هذا عجز بيت من الوافر، لبشر بن أبي خازم، صدره:
فإنك والشكاة من آل لأم ..................................
وضغن الدابة عسره والتواؤه. وذات الضغن هي الدابة فهو كناية عن موصوف والرقاق: حبل يشد من الوظيف إلى العضد. وقيل: هو حبل يشد في عنق البعير إلى رسغه. والمعنى أن ذات الضغن ليست بمستقيمة المشي لما في قبلها من النزاع إلى هواها. وكذلك أنا لست بمستقيم لآل لأم، لأن في قلبي عليهم أشياء. فهو تشبيه شيء بشيء. وانظر اللسان رقق ١٦٩٥ وضغن ٣٥٩٣ والبحر ٨/٧١..

١٣ هذا اختيار أبي منصور الأزهري في الصحاح ضغن وأبي عبيد عن الأحمر..
١٤ كذا وجد في اللسان والصحاح ض غ ن والبحر ٨/٧١، بشطر واحد كما هو أعلى. وكذا رواه القرطبي في الجامع ١٦/٢٥٢ ومعنى مضطغن حامله في حجره. بقي أن أقول: إن الشطر هذا رجز ولم أعرف قائله ولعله من مشطور الرجز وليس جزءا منه..
١٥ كذا في النسختين كالبحر المحيط لأبي حيان والأصح كتابته كالآتي:
إذا أضغنت سلاحي عند مغرضها ........................................
وهو صدر بيت من البسيط لتميم بم مقبل عجزه:
................................. ومرفق كرئاس السيف إذ شسفا
والمغرض جانب البطن أسفل الأضلاع و "رئاس السيف" مقبضه. واليابس هو معنى الشاسف من الضمر والهزال.
والشاهد: أن اضطغنت هو احتضنت. ولم أهتد للبيت في الديوان. وانظر البيت في القرطبي ١٦/٢٥٢ واللسان ضغن والبحر ٨/٧١ بصدر فقط..

١٦ زيادة من أ..
١٧ القرطبي ١٦/٢٥٢..
قوله :﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ ﴾ من رؤية البصر ؛ وجاء على الأفصح من اتصال الضميرين ولو جاء على أريناك إياهم جاز. وقال ابن الخطيب : الإرَاءَةُ١ هنا بمعنى التعريف.
قوله :«فَلَعَرَفْتَهُمْ » عطف على جواب «لو » وقوله :«وَلَتَعْرفنَّهُمْ » جواب قسم محذوف.
قال المفسرون : معنى الكلام : لأريناكهم أي لأعلمناكهم وعَرَّفْنَاكَهُمْ فَلَتَعْرِفَنَّهُمْ بِسِيماهُمْ : بعلامتهم. قال الزجاج : المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها٢. قال «أنس » : فأخفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم٣.
قوله :﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول ﴾ أي في معناه ومقصده. واللحن يقال باعتبارين :
أحدهما : الكناية بالكلام حتى لا يفهمه غير مخاطبك٤. ومنه قول القَتَّال الكِلاَبي ( رحمه الله )٥ في حكاية له :
٤٤٨٧ وَلَقَدْ وَحَيْتُ٦ لكيْمَا تَفَهْمُوا وَلَحَنْتُ لَحْناً لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ٧
وقال آخر :
٤٤٨٨ وَمَنْطِقٌ صَائِبٌ٨ وَتَلْحَن أحْيَا ناً وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنَا٩
واللَّحْنُ : صرف الكلام من الإعراب إلى الخطأ. وقيل يجمعه هو والأول صرف الكلام عن وجهه. يقال من الأول : لَحَنْتُ بفتح الحاء أَلْحَنُ له فَأَنَا لاَحنٌ. وأَلْحَنْتُ الكَلاَمَ أَفْهَمْتُهُ إياه فَلحِنَهُ بالكسر أي فهمه فهو لاحن١٠. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم :«وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ١١ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ »١٢.
ويقال من الثاني : لَحِنَ بالكسر إذا لم يُعْرب لهو لَحِنٌ.

فصل


معنى الآية أنك تعرفهم فيما يُعَرّضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عَرَفَهُ بقوله ويستدل بفحوى كلامه على فساد دَخْلَتِهِ. قال ابن الخطيب : معنى الآية لن يُخْرِجَ الله أضغانهم أي يُظْهِرَ ضمائرهم ويُبْرِزَ سرائرهم، وكأن قائلاً قال : فِلمَ لَمْ يُظْهر ؟ فقال : أخرناه لمحْض المشيئة لا لخوف منهم ولو نشاء لأريناكم أي لا مانع لنا والإراءة بمعنى التعريف.
وقوله :«فَلَعَرفتهُمْ » لزيادة فائدة وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزم منه المعرفة يقال : عَرَّفْتُهُ ولَمْ يَعْرِف وفَهَّمْتُهُ ولَمْ يَفْهَمْ فقال ههنا : فَلَعَرَفْتَهُمْ يعني عَرَّفْنَاهُمْ تَعْرِيفاً تعرفهم به إشارة إلى قوة التعريف. واللام في قوله :«فلعرفتهم » هي التي تقع في خبر «لو » كما في قوله :«لأَرَيْنَاكَهُمْ » أدخلت على المعرفة إشارة إلى المعرفة المرتبة على المشيئة كأنه قال : ولو نشاء لعرفتهم لتفهم أنَّ المعرفة غير متأخرة عن التعريف فتفيد تأكيد التعريف أي لو نشاء لعرفنانك تعريفاً معه المعرفة لا بعده. وقوله :﴿ فِي لَحْنِ القول ﴾ أي في معنى القول حيث يقولون ما معناه١٣ النفاق، كقولهم حين مجيء النصر :﴿ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ [ العنكبوت : ١٠ ] وقولهم :﴿ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة ﴾ [ المنافقون : ٨ ] وقولهم :﴿ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ﴾ [ الأحزاب : ١٣ ] ويحتمل أن يكون المراد قولهم ما لم يعتقدوا فأمالوا كلامهم كما قالوا :﴿ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُون ﴾ [ المنافقون : ١ ].
ويحتمل أن يكون المراد من لَحْنِ القَوْل هو الوجه الخفي من القول الذي يفهمه النبي عليه الصلاة والسلام١٤ ولا يفهمه ( غيره١٥. فالنبي عليه صلى الله عليه وسلم كان يعرف ) المنافقين ولم يظهر أمرهم، إلى أن أذن الله له في إظهار أمرهم، ومنع من الصلاة على جنائزهم، والقيام على قبورهم.
«بِسيماهُمْ » الظاهر أن المراد أنه تعالى لو شاء لجعل على وجوههم علامة أو يسمخهم كما قال :﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ ﴾١٦ [ يس : ٦٧ ]. وروي أن جماعة منهم أصبحوا وعلى جباههم مكتوب هذا منافقٌ ثم قال تعالى :﴿ والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ وهذا وعد للمؤمنين وبيان لكون حالهم بخلاف حال المنافقين١٧.
١ مصدر أرى على زنة أفعل فالأصل (أرأى) انظر الرازي ٢٨/٦٩..
٢ معاني القرآن ٥/١٥..
٣ القرطبي ١٦/٢٥٢..
٤ القرطبي ١٦/٢٥٢..
٥ زيادة من أ..
٦ في اللسان: لحنت باللام..
٧ له من الكامل وشاهده: أن خير الكلام ما عرف بالمعنى ولم يصرح به وانظر اللسان لحن ٤٠١٣ والسراج المنير ٤/٣٣ ومجاز القرآن ٢/٢٥ لحن والكشاف ٣/٥٣٨ وعجزه في الكشاف:
واللحن يعرفه ذوو الألباب
وانظر في مجمع البيان ٩/١٥٩..

٨ في القرطبي: رائع..
٩ من الخفيف لمالك بن أسماء الفزاري وهو وما قبله في القرطبي ١٦/٢٥٢ و٢٥٣.
والشاهد: أن اللحن معناه الفهم للمخاطب لا لغيره. وانظر مجمع البيان ٩/١٥٩ وفتح القدير ٥/٤٠ والنوادر لأبي زيد، واللسان لحن ٤٠١٣..

١٠ اللسان السابق..
١١ أي أفطن وأجدل..
١٢ اللسان السابق والقرطبي ١٦/٢٥٢..
١٣ في الرازي: معناه النفاق كـ "أ" هنا. وفي ب منعنا من المنع..
١٤ في ب: صلى الله عليه وسلم..
١٥ ما بين القوسين سقط من ب..
١٦ وانظر في هذا كله تفسير العلامة الرازي ٢٨/١٩، ٧٠..
١٧ السابق..
قوله :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ. . . وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ قرأ أبو بكر الثلاثة بالياء من أسفل يعني الله تعالى١. والأعمش كذلك وتسكين٢ الواو ( والباقون٣ بنون العظمة. ورُوَيْسٌ كذلك وتسكين الواو والظاهر قطعة عن الأوّل في قراءة تسكين الواو ) ويجوز أن يكون سكن الواو تخفيفاً كقراءة الحسن :﴿ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ] بسكون الواو.

فصل


المعنى : لنُعَامِلَنَّكُمْ معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد والقتال ﴿ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين ﴾ أي علم الوجود والمشاهدة فإن تعالى قد علمه علم الغيب يريد نبين المجاهد الصابر على دينه من غيره وقوله :﴿ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ أي يظهرها ويكشفها بإباء من يأبى القتال ولا يَصْبِرُ على الجهاد.
١ وهي متواترة انظر الكشف ٢/٢٧٨ والإتحاف ٣٩٣ و٣٩٤..
٢ مع الياء كيعقوب وهي شاذة وانظر البحر ٨/٨٥..
٣ ما بين القوسين كله سقط من أ الأصل بسبب انتقال النظر وانظر الكشف والإتحاف السابقين..
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله وَشَآقُّواْ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى﴾ قيل: هم أهل الكتاب قُرَيْظَةُ والنَّضِيرُ لأن أهل الكتاب تبين لهم صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: هم كفا رقريش. ﴿لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً﴾ إنما يضرون أنفسهم وهذا تهديد ﴿وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ فلا يُبْقي لهم ثواباً في الآخرة. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) هم المُطْعمُونَ يوم بدر. نظيرها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ [الأنفال: ٣٦] وقيل: الأعمال ههنا مكايدهم في القتال.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ﴾ قال عطاء: بالشك والنفاق. وقال الكلبي: بالرِّياء والسمعة. وقال الحسن: بالمعاصي والكبائر. وقال أبو العالية: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرون أ، هـ لايضر مع الإخلاص ذنب، كما لا ينفع مع الشِّرك عمل فنزلت هذه الآية فخافو الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل: لا تَمُنُّوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتبطلوا أعمالكم نزلت في بني أسد قال تعالى: ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى﴾ [البقرة: ٢٦٤] فإنه يقول: فعلته لأجل قلبك ولولا أرضاك به لما فعلت وهذا مناف للإخلاص والله لا يقبل إلاَّ العَمَلَ الخالص.
468
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ قيل: هم أصحاب القَليب. وقيل: اللفظ عام.
قوله: ﴿فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم﴾ يجوز جزم «تَدْعُوا» عطفاً على فعل النهي ونصبه بإضمار أن في جواب النهي. وقرأ أبو عبد الرحمن: بتشديد الدال فقال الزمخشري: مِن ادَّعَى القَوْمُ وتَدَاعَوْا مثل ارْتَمَوا الصَّيَد، وتَرَامَوْا. وقال غيره: بمعنى تغتروا. وتقدم الخلاف في السِّلْمِ.

فصل


لما بين أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات يحبط وذنبه الذي هوأقبح السيئات غير مغفور وأمر بطاعة الله وطاعة الرسول أمر بالقتال فقال: «فَلاَ تَهِنُوا» أي لا تَضْعُفُوا بعدما وجد السبب وهو الأمر بالجِدِّ والاجتهاد في القتال فقال: ﴿فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم﴾ أي إلى الصلح أبتداء فمنع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلما.
قوله: ﴿وَأَنتُمُ الأعلون﴾ جملة حالية، وكذلك ﴿والله مَعَكُمْ﴾ وأصل الأَعْلونَ الأَعْلَيُونَ فَأُعِلًّ.
قال ابن الخطيب: أصله في الجمع الموافق أَعْلَيُونَ ومُصْطَفَيُونَ فسكنت الياء لكونها حرف علة تحرك ما قبله والواو كانت ساكنة فالتقى سكنان فلم يكن بُدٌّ من حذف أحَدِهِما وتحريك الآخر والتحريك كان قد ثبت في المحذور الذي اجتنب منه فوجب الحذف والواو فيه كانت لمعنى لا يستفاد إلاَّ منها وهو الجمع فأسقطت الياء وبقي أَعْلَوْنَ.
وبهذا الدليل صار في الجرِّ أَعْلَيْنَ ومُصْطَفَيْنَ. ومعنى الأعلون الغالبون قال الكلبي: أخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات ﴿والله مَعَكُمْ﴾ بالعَوْنِ والنُّصْرَةِ.
469
قوله: ﴿وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ أي ينقصكم أو يفردكم عنها، فهو من وَتَرْتُ الرَّجُلَ إذا قتلت له قتيلاً أو نَهَبْتَ مَالَهُ. أو من الوضتْر وهو الانفْراد. وقيل: كلا المعنيين يرجع إلى الإفْراد، لأن من قُتَل له قتيل، أو نهبَ له مال فقد أفرد عينه فمعنى: «لن يتركم أعمالكم» لَنْ يَنْقُصكُمْ شيئاً من ثواب أعمالكم يقال: وَتَرَه يَتِرُهُ وَتْراً وترَةً إذَا نقصه حَقَّهُ.
قال ابن عباس: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) وقتادة والضحاك: لن يَظْلِمَكُمْ أعمالكم الصالحة أن يؤتيكم أجورها. ثم حضَّ على طلب الآخرة فقال: ﴿إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ باطل وغرور ﴿وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ﴾ الفواحش ﴿يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ﴾ جزاء أعمالكم في الآخرة ﴿وَلاَ يَسْأَلْكُمْ﴾ ربكم ﴿أَمْوَالَكُمْ﴾ لإتتاء الأجر بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم عليها الجنة. نظيره قوله: ﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ﴾ [الذاريات: ٥٧]. وقيل: لا يسألكم محمد أموالكم نظيره: ﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ [ص: ٨٦]. وقيل: معنى الآية لا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها في الصدقات إنما يسألانِكم غيضاً من فيض رُبع العشر فطيبوا بها نفساً. قاله ابن عُيَيْنَةَ. ويدل عليه سياق الآية.
قوله: «فَيُحْفِكُمْ» عطف على الشرط و «تَبْخَلُوا» جاب الشرط. قال ابن الخطيب: الفاء في قوله: «فَيُحْفِكُمْ» لِلإشارَة إلى أن الإحْفَاءَ يتبع السؤال لشُحِّ الأَنْفُس، وذلك لأن العطف بالواو قد يكون لمباينين وبالفاء لا يكون إلا للمتعاقبين، أو متعلقين أحدهما بالآخر فكأنه تعالى يبين أن الإحْفَاء يقع عقيبَ السؤال لأن الإنسان بمجرد السؤال لا يعطي شيئاً. قال المفسرون: فيُحْفِكُمْ يُجْهِدُكم وبلحف عليكم بمسألة جميعها يقال: أَحْفَى فلانٌ فلاناً إذا جهده وَألحَفَ قلبهُ في المسألة.
قوله: ﴿تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ العامة على إسناد «يُخْرِجْ» إلى ضمير فاعل إما الله تعالى أو الرسول أو السّؤَال؛ لأنه سبب وهو مجزوم عطفاً على جواب الشرط وروي عن أبي عمرو رفعه على الاستئنَافِ وقرأ أيضاً بفتح الياء وضم الراء ورفع «أَْضْغَانُكُمْ» فاعلاً.
470
وابن عباس في آخرين وتَخْرُجْ بالتاء من فوق وضم الراء أضْغَانُكُمْ فاعل به. ويعقوب وَنخْرِجْ بنون العظمة وكسر الراء أضْغَانَكُمْ نصباً.
وقرىء: وَيُخْرَجْ بالياء على البناء للمفعول أضْغَانُكُمْ رفعاً به. وعيسى كذلك إلا أنه نصبه بإضمار أن عطفاً على مصدر متوهم أي بأن يُكَفَّ بُخْلُكُمْ وإخْرَاجَ أضغَانِكُمْ بُغْضُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ.

فصل


قال قتادة: علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأَضْغَان يعني ما طلبها ولو طلبها وألحَّ عليكم في الطلب لبخلتم كيف وأنتم تبخلون باليسير فكيف لا تبخلون بالكثير فيخرج أضغانكم بسببه. فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه إذا طلبوا منكم وأنتم لمحبة الأموال وشُحِّ الأنفس تمتنعون فيفضي إلى القتال وتظهر به الضغائن.
ثم بين ذلك بقوله: ﴿هَا أَنتُمْ هؤلاء﴾ قد طلبت منكم اليسير فيحكم فكيف لو طلبت منك الكل؟
قوله: ﴿هَا أَنتُمْ هؤلاء﴾ (قال الزمخشري: هؤلاء) موصول صلته «تدعون» أي أنتم الذين تدعون أو أنتم يا مخاطَبُون هؤلاء المؤمنون. ثم استأنف وصفهم كأنهم قالو: وما وَصْفُنَا؟ فقيل: تُدْعَوْنَ. وقال ابن الخطيب: «هؤلاء» تحتمل وجهينِ:
أحدهما: أن تكون موصولة كأنه قال: أنتم الذين تُدْعَوْنَ لتنفقوا في سبيل الله.
وثانيهما: هؤلاء وحدها خبر «أنتم» كما يقال: «: أنت (أنت و) أنت هذا تحقيقاً لشهرة والظهور أي ظهور أثركم بحث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمْر مغاير. وقد
471
تقدم الكلام على قوله: ﴿هَا أَنتُمْ هؤلاء﴾ مُشْبَعاً في آلِ عِمْرَانَ.
وقوله:» تُدْعَوْنَ «أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله بالجهاد وإما صرفه إلى المستحقين من إخوانكم. قوله: ﴿فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ﴾ بما فرض عليه من الزكاة ﴿وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ﴾ أي إن ضرر ذلك البخل عائد إليه فلا تظنوا أنهم ينفقون على غيرهم بل لا ينفقونه إلا على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة (الطّبيب) وثمن الدواء وهو مريضٌ فلا يبخل إلا على نفسه ثم حقق ذلك بقوله: ﴿والله الغني﴾ أي غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله: ﴿وَأَنتُمُ الفقرآء﴾ إليه وإلى ما عنده من الخير حتى لا تقولوا بأنا أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء.
قوله: ﴿يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ﴾ بَخِلَ وضنَّ يتعديان ب»
عَلَى «تارةً وب» عَنْ «أخرى.
والأجود أن يكون حال تعديهما ب: عَنْ»
مُضَمَّنَيْن معنى الإمساك.
قوله: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ﴾ هذه الجملة (الجملة الشرطية عطف على) الشرطية قبلها. و «ثُمَّ لاَ يَكُونُوا» عطف على «يَسْتَبْدِلْ».

فصل


ذكر بيان الاستغفار كما قال تعالى: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [فاطر: ١٦] قال المفسرون: إن تَتَوَلَّوْا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم. قال الكلبي: هم كِنْدَةُ والنَّخْعُ.
وقال الحسن: هم العجم. وقال عكرمة: فارس (والروم) لما روى أبو هريرة «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا قوله تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ قال يا رسول الله: من هؤلاء الذين إن تولينا اسْتُبْدِلُوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب
472
على فَخدِ سَلْمَانَ الفَارسيِّ ثم قال: هذا وقومه ولو كان الدين عند الثُّرَيَّا لتناوله ورجالٌ من الفرس. وقيل: هم قوم من الأنْصارِ».

فصل


قال ابن الخطيب: ههنا مسألة، وهي أن النُّحَاةَ قالوا: يجوز في المعطوف على جواب الشرط «بالواو والفاء وثُمَّ» الجزم والرفع، تقول: إنْ تَأتِنِي آتِكَ فَأُخْبِرُكَ بالجزم والرفع جميعاً، قال الله تعالى ههنا ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ وقال ﴿ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ بالجزم وقال في موضع آخر:
﴿وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ [آل عمران: ١١١] بالرفع، لإثبات النون. وفيه تدقيق: وهو أن قوله: «لاَ يَكُونُوا» متعلق بالتوالي؛ لأنهم إن لم يَتَوَلَّوْا يَكُونوا مثلَ من يأتي بهم الله على الطاعة وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي بهم مطيعين. وأما هناك سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون، فلم يكن التعلق هناك بما وقع بالابتداء وهنا جزم. وقوله: ﴿يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ في الوصف لا في الجنس.
روى أُبَيُّ بن كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ قَرَأَ سُورَة مُحَمَّدٍ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَسْقِيهُ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ» (صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرفَ وكرمَ).
473
سورة الفتح
مدنية. وهي تسع وعشرون آية، وخمسمائة وستون كلمة وألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا.
474
قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ قال عطاء : بالشك والنفاق. وقال الكلبي : بالرِّياء والسمعة. وقال الحسن : بالمعاصي والكبائر. وقال أبو العالية : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب، كما لا ينفع مع الشِّرك عمل فنزلت هذه الآية فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل : لا تَمُنُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبطلوا أعمالكم نزلت في بني أسد قال تعالى :﴿ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ] فإنه يقول : فعلته لأجل قلبك ولولا أرضاك١ به لما فعلت وهذا مناف للإخلاص والله لا يقبل إلاَّ العَمَلَ الخالص٢.
١ كذا في النسختين وفي الرازي: رضاك..
٢ وانظر فيما مضى القرطبي ١٦/٢٥٤ و٢٨/٧٠ و٧١..
قوله :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ ﴾ قيل : هم أصحاب القَليب١. وقيل : اللفظ عام٢.
١ المراد به قليب بدر..
٢ السابق من القرطبي..
قوله :﴿ فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم ﴾ يجوز جزم «تَدْعُوا » عطفاً على فعل النهي ونصبه بإضمار أن في جواب النهي. وقرأ أبو عبد الرحمن : بتشديد الدال١ فقال الزمخشري : مِن ادَّعَى القَوْمُ وتَدَاعَوْا مثل ارْتَمَوا الصَّيَد، وتَرَامَوْا٢. وقال غيره : بمعنى تغتروا. وتقدم الخلاف في السِّلْمِ٣.

فصل


لما بين أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات يحبط وذنبه الذي هو أقبح السيئات غير مغفور وأمر بطاعة الله وطاعة الرسول أمر بالقتال فقال :«فَلاَ تَهِنُوا » أي لا تَضْعُفُوا بعدما وجد السبب وهو الأمر بالجِدِّ والاجتهاد في القتال فقال :﴿ فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم ﴾ أي إلى الصلح ابتداء فمنع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا.
قوله :﴿ وَأَنتُمُ الأعلون ﴾ جملة حالية، وكذلك ﴿ والله مَعَكُمْ ﴾ وأصل الأَعْلونَ الأَعْلَيُونَ فَأُعِلًّ٤.
قال ابن الخطيب : أصله في الجمع الموافق أَعْلَيُونَ ومُصْطَفَيُونَ فسكنت الياء لكونها حرف علة تحرك ما قبله والواو كانت ساكنة فالتقى ساكنان فلم يكن بُدٌّ من حذف أحَدِهِما وتحريك الآخر والتحريك كان قد ثبت في المحذور٥ الذي اجتنب منه فوجب الحذف٦ ٧ والواو فيه كانت لمعنى لا يستفاد إلاَّ منها وهو الجمع فأسقطت الياء وبقي أَعْلَوْنَ.
وبهذا الدليل صار في الجرِّ أَعْلَيْنَ ومُصْطَفَيْنَ. ومعنى الأعلون الغالبون قال الكلبي : أخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات ﴿ والله مَعَكُمْ ﴾ بالعَوْنِ والنُّصْرَةِ.
قوله :﴿ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ أي ينقصكم أو يفردكم عنها، فهو من وَتَرْتُ الرَّجُلَ إذا قتلت له قتيلاً أو نَهَبْتَ مَالَهُ. أو من الوتْر وهو٨ الانفْراد٩. وقيل : كلا المعنيين يرجع إلى الإفْراد، لأن من قُتَل له قتيل، أو نهبَ له مال فقد أفرد عينه فمعنى :«لن يتركم أعمالكم » لَنْ يَنْقُصكُمْ شيئاً من ثواب أعمالكم يقال : وَتَرَه يَتِرُهُ وَتْراً وترَةً إذَا نقصه حَقَّهُ.
قال ابن عباس :( رضي الله عنهما ) وقتادة والضحاك : لن يَظْلِمَكُمْ أعمالكم الصالحة أن يؤتيكم أجورها.
١ وهي شاذة انظر مختصر ابن خالويه ١٤١، والكشاف ٣/٥٣١ وانظر الإعراب فيه أيضا..
٢ الكشاف السابق..
٣ في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة﴾ ٢٠٨ من البقرة..
٤ استثقلت الضمة على الياء فحذفت فاجتمع ساكنان لام الكلمة وواو الجماعة فحذفت اللام ـ وهي ياء الكلمة ـ ففيه إعلال بالحذف..
٥ في النسختين المحذوف..
٦ حذف الياء والواو كانت فيه لمعنى لا يستفاد إلا منها وهو الجمع فأسقطت الياء وبقي "أعلون" وانظر الإمام الرازي ٢٨/٧٣..
٧ القرطبي ١٦/٢٥٧..
٨ في ب وهي..
٩ وانظر معاني القرآن للفراء ٣/٦٤ واللسان وتر ٤٧٥٨..
ثم حضَّ على طلب الآخرة فقال :﴿ إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾ باطل وغرور ﴿ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ ﴾ الفواحش ﴿ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ﴾ جزاء أعمالكم في الآخرة ﴿ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ ﴾ ربكم ﴿ أَمْوَالَكُمْ ﴾ لإيتاء الأجر بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم عليها الجنة. نظيره قوله :﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ﴾ [ الذاريات : ٥٧ ]. وقيل : لا يسألكم محمد أموالكم نظيره :﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ [ ص : ٨٦ ]. وقيل : معنى الآية لا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها في الصدقات إنما يسألانِكم غيضاً من فيض رُبع العشر فطيبوا بها نفساً. قاله ابن عُيَيْنَةَ. ويدل عليه سياق الآية.
قوله :«فَيُحْفِكُمْ » عطف على الشرط و«تَبْخَلُوا » جواب الشرط. قال ابن الخطيب : الفاء في قوله :«فَيُحْفِكُمْ » لِلإشارَة إلى أن الإحْفَاءَ يتبع السؤال لشُحِّ الأَنْفُس، وذلك لأن العطف بالواو قد يكون لمباينين١ وبالفاء لا يكون إلا للمتعاقبين، أو متعلقين أحدهما بالآخر فكأنه تعالى يبين أن الإحْفَاء يقع عقيبَ السؤال لأن الإنسان بمجرد السؤال لا يعطي شيئاً٢. قال المفسرون : فيُحْفِكُمْ يُجْهِدُكم وبلحف عليكم بمسألة جميعها يقال : أَحْفَى فلانٌ فلاناً إذا جهده وَألحَفَ قلبهُ في المسألة٣.
قوله :﴿ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ﴾ العامة على إسناد «يُخْرِجْ » إلى ضمير فاعل إما الله تعالى أو الرسول أو السّؤَال٤ ؛ لأنه سبب وهو مجزوم عطفاً على جواب الشرط وروي عن أبي عمرو رفعه على الاستئنَافِ٥ وقرأ أيضاً بفتح الياء وضم الراء ورفع «أَْضْغَانُكُمْ » فاعلاً٦.
وابن عباس في آخرين وتَخْرُجْ بالتاء٧ من فوق وضم الراء أضْغَانُكُمْ فاعل به٨. ويعقوب وَنخْرِجْ بنون العظمة وكسر الراء أضْغَانَكُمْ نصباً٩.
وقرئ : وَيُخْرَجْ بالياء على البناء للمفعول أضْغَانُكُمْ رفعاً به١٠. وعيسى كذلك١١ إلا أنه نصبه بإضمار أن عطفاً على مصدر متوهم أي بأن يُكَفَّ بُخْلُكُمْ وإخْرَاجَ أضغَانِكُمْ بُغْضُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ١٢.

فصل


قال قتادة : علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأَضْغَان١٣ يعني ما طلبها ولو طلبها وألحَّ عليكم في الطلب لبخلتم كيف وأنتم تبخلون باليسير فكيف لا تبخلون بالكثير فيخرج أضغانكم بسببه. فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا طلبوا منكم وأنتم لمحبة الأموال وشُحِّ الأنفس تمتنعون فيفضي إلى القتال وتظهر به الضغائن١٤.
١ في الرازي: للمثلين..
٢ الرازي ٢٨/٧٤..
٣ اللسان لحف، ومعاني الفراء ٣/٦٤..
٤ في البحر: أو البخل. وانظر البحر المحيط ٨/٨٦..
٥ لم ترو في المتواتر عن أبي عمرو. وانظر البحر ٨/٨٦ فيترتب على ذلك وقوع الجملة حالية..
٦ رواها عبد الوارث هي وسابقتها عن أبي عمرو فيما نقله صاحب اللوامح فيما نقله عنه أيضا أبو حيان وهي من الشواذ كسابقتها فلم ترو عنه في المتواتر والمعنى وهو يخرج أضغانكم أو سيخرج رفع بفعله. وانظر مختصر ابن خالويه ١٤١ ونسبها لابن عباس مع آخرين..
٧ تاء التأنيث..
٨ وهي شاذة أيضا وانظر المرجعين السابقين مع الكشاف ٣/٥٣٩..
٩ وهي قراءة ابن عباس أيضا انظر المرجع السابق وهي شاذة..
١٠ لم أعثر على هذه القراءة بالبناء للمفعول فقد قال أبو حيان "ويعقوب ونخرج بالنون أضغانكم وهي مروية عن عيسى إلا أنه فتح الجيم بإضمار أن"..
١١ كما قلت: أوردها صاحب البحر الذي نقل منه المؤلف بالبناء للفاعل من الرباعي وليس للمفعول..
١٢ انظر البحر المحيط المرجع السابق..
١٣ القرطبي ١٦/٢٥٧..
١٤ قاله الإمام الفخر الرازي ٢٨/١٧٤..
ثم بين ذلك بقوله :﴿ هَا أَنتُمْ هؤلاء ﴾ قد طلبت منكم اليسير فيحكم فكيف لو طلبت منك الكل١ ؟
قوله :﴿ هَا أَنتُمْ هؤلاء ﴾ ( قال الزمخشري٢ : هؤلاء ) موصول٣ صلته «تدعون » أي أنتم الذين تدعون أو أنتم يا مخاطَبُون هؤلاء المؤمنون. ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا : وما وَصْفُنَا ؟ فقيل : تُدْعَوْنَ٤. وقال ابن الخطيب :«هؤلاء » تحتمل وجهينِ :
أحدهما : أن تكون موصولة كأنه قال : أنتم الذين تُدْعَوْنَ لتنفقوا في سبيل الله.
وثانيهما : هؤلاء وحدها خبر «أنتم » كما يقال : أنت ( أنت٥ و ) أنت هذا تحقيقاً لشهرة والظهور أي ظهور أثركم بحيث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمْر مغاير٦. وقد تقدم الكلام على قوله :﴿ هَا أَنتُمْ هؤلاء ﴾ مُشْبَعاً في آلِ عِمْرَانَ٧.
وقوله :«تُدْعَوْنَ » أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله بالجهاد وإما صرفه إلى المستحقين من إخوانكم. قوله :﴿ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ﴾ بما فرض عليه من الزكاة ﴿ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ﴾ أي إن ضرر ذلك البخل عائد إليه فلا تظنوا أنهم ينفقون على غيرهم بل لا ينفقونه إلا على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة ( الطّبيب )٨ وثمن الدواء وهو مريضٌ فلا يبخل إلا على نفسه ثم حقق ذلك بقوله :﴿ والله الغني ﴾ أي غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله :﴿ وَأَنتُمُ الفقراء ﴾ إليه وإلى ما عنده من الخير حتى لا تقولوا بأنا أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء٩.
قوله :﴿ يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ﴾ بَخِلَ وضنَّ يتعديان ب «عَلَى » تارةً وب «عَنْ » أخرى١٠.
والأجود أن يكون١١ حال تعديهما ب «عَنْ » مُضَمَّنَيْن معنى الإمساك.
قوله :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ ﴾ هذه الجملة ( الجملة الشرطية١٢ عطف على ) الشرطية قبلها. و«ثُمَّ لاَ يَكُونُوا » عطف على «يَسْتَبْدِلْ »١٣.

فصل


ذكر بيان الاستغفار كما قال تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ فاطر : ١٦ ] قال المفسرون : إن تَتَوَلَّوْا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم. قال الكلبي : هم كِنْدَةُ والنَّخْعُ.
وقال الحسن : هم العجم. وقال عكرمة : فارس ( والروم )١٤ لما روى أبو هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم ﴾ قال يا رسول الله : من هؤلاء الذين إن تولينا اسْتُبْدِلُوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ فضرب على فَخدِ سَلْمَانَ الفَارسيِّ ثم قال : هذا وقومه ولو كان الدين عند الثُّرَيَّا لتناوله ورجالٌ من الفرس. وقيل : هم قوم من الأنْصارِ »١٥.

فصل


قال ابن الخطيب : ههنا مسألة، وهي أن النُّحَاةَ قالوا : يجوز في المعطوف على جواب الشرط «بالواو والفاء وثُمَّ » الجزم والرفع، تقول : إنْ تَأتِنِي آتِكَ فَأُخْبِرُكَ١٦ بالجزم والرفع جميعاً، قال الله تعالى ههنا ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ وقال ﴿ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم ﴾ بالجزم١٧ وقال في موضع آخر :
﴿ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾١٨ [ آل عمران : ١١١ ] بالرفع، لإثبات النون. وفيه تدقيق : وهو أن قوله :«لاَ يَكُونُوا » متعلق بالتولي١٩ ؛ لأنهم إن لم يَتَوَلَّوْا يَكُونوا٢٠ مثلَ من٢١ يأتي بهم الله على الطاعة وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي بهم مطيعين. وأما هناك سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون، فلم يكن التعلق٢٢ هناك بما وقع بالابتداء وهنا جزم. وقوله :﴿ يكونوا أَمْثَالَكُم ﴾ في الوصف لا في الجنس٢٣.
١ السابق..
٢ ما بين القوسين ساقط من ب بسبب انتقال النظر..
٣ مع أنه مشهور فيه الإشارة الجمعية تذكيرا وتأنيثا..
٤ الكشاف ٣/٥٣٩..
٥ ما بين الأقواس زيادة من النسختين عن كلام ابن الخطيب وهو الرازي كما عرف..
٦ وانظر تفسيره ٢٨/٧٥..
٧ عند قوله: "ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون" من الآية ٦٦ منها. والهاء حرف تنبيه و "أنتم" مبتدأ "وهؤلاء" خبره و "أولاء" لغة الحجاز والقصر لغة تميم ويقال: ألاك بالتشديد وأولالك وأولئك وكلها واردات. (بتصرف من من الهمع للسيوطي ١/٧٥)..
٨ سقط من ب..
٩ وانظر الرازي ٢٨/٧٥ المرجع السابق..
١٠ قاله الزمخشري في الكشاف ثم أبو حيان في البحر انظر الكشاف ٣/٥٤٠ والبحر ٨/٨٦..
١١ كذا في النسخ والأوضح: أن يكونا أي بخل وضن..
١٢ ما بين القوسين الكبيرين ساقط من ب وما بين القوسين الصغيرين زيادة عن السياق لتوضيحه..
١٣ البحر ٨/٨٦ السابق..
١٤ سقط من ب وانظر هذه الآراء في الجامع للقرطبي ١٦/٣٥٨ والكشاف للزمخشري ٣/٥٤٠ والبحر لأبي حيان ٨/٨٦..
١٥ المراجع السابقة..
١٦ هذا الجملة زيادة من المؤلف على تفسير ابن الخطيب. وفي أ الأصل: فأخبرتك والتصحيح من ب كما كتبته أعلى..
١٧ بحذف النون..
١٨ بالرفع بثبوت النون وهي من الآية ١٣٣ من آل عمران..
١٩ في الرازي: وهو أن ههنا لا يكون متعلقا بالتولي..
٢٠ وفيه: يكونون وهو تحريف..
٢١ وفيه: ممن يأتي بهم الله..
٢٢ وفيه: للتعليق وجه فرفع بالابتداء وههنا جزم للتعليق وهو الأصح..
٢٣ وانظر في هذا كله تفسير الرازي ٢٨/٧٦..
Icon