ﰡ
مدنية. وهى ثمان وثلاثون آية، ومناسبتها لما قبلها: قوله: (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون)، فإنهم الكفرة الذين أشار إليهم بقوله:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣)قلت: (الذين) : مبتدأ، و (أضل) : خبر، و (من ربهم) : حال من ضمير الحق، وجملة (وهو... ) الخ: اعتراضية بين المبتدأ والخبر، و (ذلك) : مبتدأ، و (بأنَّ) : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: أعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام، أو صدُّوا غيرهم عنه. قال الجوهري: صدّ عنه، يَصِدّ، صُدُوداً: أعْرَض، وصدَّهُ عن الأمر صَدّاً: مَنَعَه، وصَرَفه عنه. هـ. وهم المطعمون يوم بدر «٢»، أو: أهل الكتاب، كانوا يصدون مَن أراد الدخول في الإسلام، منهم ومن غيرهم، أو عام في كل مَن كفر وصدّ. فهؤلاء أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي: أحبطها وأبطلها، أي: جعلها ضالة ضائعة، ليس لها مَن يتقبلها ويُثيب عليها، كضالة الإبل. وليس المعنى أنه أبطلها بُعد إن لم تكن كذلك، بل بمعنى:
أنه حكم ببطلانها وضياعها، فإنَّ ما كانوا يعملونه من أعمال البر، كصِلة الأرحام، وقِرى الضيف، وفك الأسارى، وغيرها من المكارم، ليس لها أثر من أصلها لعدم الإيمان، أو: أبطل ما عملوا من الكيد برسول الله صلى الله عليه وسلم، والصد عن سبيله، بنصر رسوله، وإظهار دينه على الدين كله، وهو الأوفق بقوله: فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ «٣».
(٢) قاله ابن عباس رضي الله عنه- فيما ذكره القرطبي فى تفسيره (٧/ ٦٢٣٠). «وهم اثنا عشر رجلا، وذكر القرطبي أسماءهم.
(٣) الآية ٨ من نفس السورة.
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي: ذلك الأمر، وهو إضلال أعمال أهل الكفر، وتكفير سيئات أهل الإيمان، وإصلاح شأنهم كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطلَ وهو الشيطان، حيث فعلوا ما فعلوا من الكفر والصد، واتباع هؤلاء الحق، وهو القرآن، أو ما جاء به صلّى الله عليه وسلم، أو يراد بالباطل: الزائل الذاهب من الدّين الفاسد، وبالحق: الدين الثابت، أو يراد بالباطل: نفس الكفر والصد، وبالحق: نفس الإيمان والأعمال الصالحة.
كَذلِكَ أي: مثل الضرب البديع يَضْرِبُ اللَّهُ أي: يُبين لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي: أحوال الفريقين، وأوصافهما، الجارية في الغرابة مجرى الأمثال، وهو اتباع الأولين الباطلَ، وخيبتهم وخسرانهم، واتباع الآخرين الحقَّ، وفوزهم وفلاحهم، والضمير راجع إلى الناس، أو إلى المذكورين من الفريقين، على معنى: أنه يضربُ أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم، وقد جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكافرين، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين، أو جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلاً لفوز الأبرار.
الإشارة: الذين كفروا بوجود الخصوصية، وصدُّوا الناسَ عنها أبطل سيرهم إليه، فكلما ساروا رجعوا، والذين آمنوا الإيمان الكامل واتبعوا السنّة النبوية، ستر مساوئهم، وأصلح شأنهم، حتى صلحوا لحضرته. قال القشيري:
الذين كفروا: امتنعوا، وصدُّوا: مَنَعوا «١»، فلا متناعهم عن الله استوجبوا العقوبة، ولمنعهم الخلق عن الله استوجبوا الحَجْبَةَ. ثم قال في قوله: وَأَصْلَحَ بالَهُمْ: فالكفر للأعمال مُحْبطٌ، والإيمان للخلود مُسْقِط، ويقال: الذين اشتغلوا بطاعة الله، ولم يعملوا شيئاً مما خالف اللهَ- فلا محالة- يقوم الله بكفاية أشغالهم. هـ.
ارتكاب الشهوات وأمالي النفس، واتباع الحق: اتباع الأوامر والسنن. هـ. قال القشيري: اتباع الحق بموافقة السنة، ومتابعة الجد في رعاية الحق وإيثار رضاه، والقيام بالطاعة، واتباع الباطل: الابتداع والعمل بالهوى، وإيثار الحظوظ وارتكاب المعصية. هـ.
ثم أقرّ بجهاد من كفر وصدّ، فقال:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٤ الى ٩]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩)
قلت: (فضَرْب) : مصدر، نائب عن فعله، مضاف إلى مفعوله، و (مَنّاً) و (فِدَاءً) : مصدران لمحذوف، و (الذين كفروا) : مبتدأ حُذف خبره، وهو العامل في المصدر، أي: والذين كفروا فأتعسهم تعساً، و (أضل أعمالهم) : عطف على الخبر المحذوف.
يقول الحق جلّ جلاله: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا في المحاربة فَضَرْبَ الرِّقابِ، أصله: فاضربوا الرقاب ضرباً، فحذف الفعل وناب عن مصدره للاختصار، مع إعطاء معنى التوكيد، لدلالة نصبه على مؤكده، وضرب الرقاب عبارةٌ عن مطلق القتل، والتعبير به عن القتل تصوير له بأشنع صورة وتهويل لأمره، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم فيه القتل، وأغلظتموه، من: الشيء الثخين، وهو الغليظ،
أن تفدوا فداءً، والمعنى: التخيُّر بين الأمرين بعد الأسر، بين أن يَمُنُّوا عليهم فيطلقوهم، وبين أن يُفادوهم، ومذهب مالك: أن الإمام مُخَيَّر في الأسارى بين خمسة، وهي: المنّ، والفداء، والقتل، والاسترقاق، وضرب الجزية، وقيل:
لا يجوز المَن ولا الفداء لأن الآية منسوخة بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «١» فيتعين قتلهم، والصحيح أنها محكمة. ومَذْهَب الشافعي: أن الإمام مُخير بين أربعة: القتل، والاسترقاق، والفداء بأسارى المسلمين، والمنّ. ولعل لجزية عنده خاصة بأهل الكتاب.
ومذهب أبي حنيفة: التخيير بين القتل والاسترقاق فقط، قال: والآية منسوخة لأن سورة براءة آخر ما نزل.
وعن مجاهد: ليس اليوم مَنّ ولا فداء، والمراد بالمنّ في الآية أن يمنّ عليهم بترك القتل، فيسترقوا، أو يمنّ عليهم بإعطاء الجزية. هـ.
والمشهور: مذهب مالك لأن النبي ﷺ قتل عقبةَ بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، يوم بدر صبراً، وفادى سائر الأسارى، ومَنَّ على ثُمَامَةُ بن أَثالٍ الحنفي، وهو أسير، واسترق نساء بنى قريظة، فباعهم، وضرب الجزية على نصارى نجران ومجوس هاجر.
ثم ذكر غاية الحرب فقال: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي: اضربوا رقابهم حتى تضع الحرب أثقالها، وآلاتها، التي لا تقوم إلا بها، كالسلاح والكراع، وذلك حيث لم يبقَ حرب، بأن تضع أهل الحرب عُدتها. وقيل:
(أوزارها) : آثامها، يعني: حتى يترك أهل الحرب المشركين شركهم، بأن يُسلموا جميعاً. والمختار: أن المعنى:
أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يظهر الإسلام على سائر الأديان، ويؤمن أهل الكتاب، طوعاً أو كرهاً، ويكون الدين كلُّه لله، فلا يحتاج إلى قتال. وقال الحسن: معناه: حتى لا يُعبد إلا الله. وقال ابن عطية: ظاهر اللفظ: أنها استعارة، يُراد بها التزام الأمر كذلك أبداً، كما تقول: أنا أفعل ذَلِكَ إلىَ يَوْمِ القِيَامةِ. هـ. فالغاية ب «حتى»، راجعة إلى الضرب والشد، وما ترتب عليه من المنّ والفداء.
ذلِكَ الأمر ذلك، أو افعلوا ذلك، وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ لانتقم مِنْهُمْ بغير قتال بأن ينزل بهم أسباب الهلاك والاستئصال، كالخسف أو الرجف أو غير ذلك، وَلكِنْ أمركم بالقتال لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ
سَيَهْدِيهِمْ في الدنيا إلى طريق الرشد والصواب، وفي الآخرة إلى جزيل الثواب، وقيل: يهديهم إلى جواب منكر ونكير، وَيُصْلِحُ بالَهُمْ بأن يَقبل أعمالهم ويُرضي خصماءهم، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ.
قال مجاهد: عرّفهم مساكنهم فيها حتى لا يحتاجوا إلى دليل لها «٢»، أو: طَيَّبها، من: العَرف، وهو طيب الرائحة، ويمكن الجمع: بأن عَرْف المحل يهدي صاحبَه إلى جنته ومحله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ بنصر دينه وإظهار شريعة نبيه يَنْصُرْكُمْ على عدوكم، ويفتح لكم، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في مواطن الحرب ومواقفها، أو على محجة الإسلام، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي: فيقال: تعساً لهم، والتعس: الهلاك، أو السقوط والانحطاط، أو العثار، أو البُعد. وقال ابن السكيت: التعس: أن يجر على وجهه. هـ أي: أتعسهم الله تعساً، أي: أهلكهم وأبعدهم. وقال ابن عباس: «في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالتردي في النار». والمراد بالذين كفروا عام، وقيل: المراد مَن يضاد الذين ينصرون دين الله، كأنه قيل:
إِن تَنصُروُاْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويثبت أقدامكم، ومَن لم ينصره فتعساً له، فوضع «الذين كفروا» موضع مَن لم ينصره تغليظاً، فهو وِفقٌ لأسلوب السورة من التقابل المعنوي، فهو عطف جملة على جملة شرطية مثلها، ولذلك دخلت الفاء في خبر الموصول، كما قرره الزجاج. انظر الطيّبي. هـ من الحاشية. وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي: أحبطها وأبطلها.
ذلِكَ التعس والإضلال بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام، المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمّارة بالسوء، فَأَحْبَطَ لأجل ذلك أَعْمالَهُمْ التي كانوا عَمِلُوها، من صلة الأرحام وغيرها.
الإشارة: نهايةُ الجهاد الأصغر: وضعُ الحرب أوزارَها بالإسلام أو السّلم، ونهاية الجهاد الأكبر: استسلامُ النفس وانقيادها لما يُراد منها، أو موتها بالغيبة عنها بالكلية. قال بعض العارفين: انتهى سير السائرين إلى الظفر
(٢) هذا معنى ما قاله مجاهد وأكثر المفسرين. وقول مجاهد أخرجه الطبري، وفى الصحيح ما يدل على صحة هذا القول، فقد أخرج البخاري فى (الرقاق، باب القصاص يوم القيامة ح ٦٥٣٥) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يخلص المؤمنون من النّار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنّار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذّبوا ونقّوا أذن لهم فى دخول الجنة، فوالذى نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله فى الجنة منه بمنزله كان فى الدنيا».
قال القشيري، بعد كلام: وكذلك العبد إذا ظفر بنفسه فلا ينبغي أن يُبْقِيَ بعد انتقَاش شَوْكها بقيةً، ولا في قلع شجرها مستطاعاً وميسوراً فالحيّة إن بقيت منها بقية من الحياة مَنْ وضع عليها إصبُعَه بَثَّتْ سُمَّها فيه. هـ. فإذا تمكنتم من معرفة الله، فإما أن تَمُنوا عليها بترك جِهادها الأكبر، وإما أن تفدوها بالغيبة عنها في حلاوة الشهود، حتى تضع الحرب أوزارها بالموت، ولو شاء اللهُ لخلّصكم منها من غير جهاد، فالقدرة صالحة، ولكن ليختبركم، فيظهر السائرون من القاعدين مع حظوظهم «لولا ميادينُ النفوس ما تحقق سير السائرين» «١». والذين قاتلوا نفوسَهم في سبيل الله وطلب معرفته، فلن يُضل أعمالَهم، سيهديهم إلى معرفته، ويُصلح بالهم بالاستغراق في شهوده، ويُدخلهم جنة المعارف، قد عرَّفها لهم، وبيَّنها على أيدي الوسائط من الشيوخ العارفين، أو طيّبها لهم، فيهتدون بنسيم واردات التوجه، إلى أنوار المواجهة. وقد أشار تعالى بقوله: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى طلب الإخلاص، فلا يوصل الجهاد الأصغر ولا الأكبر إلى رضوان الله، أو معرفته، إلا بتحقُّق الإخلاص، من غير التفات لغرض نفساني، لا عاجلاً ولا آجلاً.
ذكر الشيخ أبو نعيم الحافظ: أن ميْسرة الخادم، قال: غزونا في بعض الغزوات، فإذا بفتى «٢» جانبي، وهو مقنَّع بالحديد، فحمل على الميمنة، ثم الميسرة، ثم على القلب، ثم أنشأ يقول:
أَحْسِنْ بمَولاكَ سَعيدُ ظنّاً... هَذَا الذِي كُنتَ تَمَنَّى «٣»
تَنَح يا حُورَ الْجنَانِ عَنَّا... مَا فيك قَاتَلْنَا ولا قُتِلْنا
لكِنْ إِلى سَيدكُنَّ اشْتَقْنَا... قَدْ عَلِم السر وما أَعْلَنَّا
قال: فحمَل فقاتل، فقَتَل منهم عدداً، ثم رجع إلى موقفِه، فتكالب عليه العدو، فحملَ، وأنشأ يقول:
قد كُنْتُ أرجو وَرَجَائي لَمْ يَخِبْ... أَلاَّ يَضيعَ الْيَومَ كَدِّي والطَّلَبْ
يا مَن ملأ تِلْكَ الْقُصُورِ باللعب... لَولاَكَ مَا طَابَتْ ولاَ طَابَ الطَّرَب
(٢) اسمه «سعيد» كما هو واضح من البيت الأول، وترجم له أبو نعيم ب «سعيد الشهيد، المقنع فى الحديد، المشتاق إلى رؤية المنعم المجيد».
(٣) هكذا فى الأصول، وفى الحلية: [هذا الذي كنت له تمنى].
يَا لُعبةَ الْخُلْدِ قفى ثمّ اسمعي | مالك قَاتَلْنَا فَكُفّي وَارْجِعي |
ثُمَّ ارْجِعِي إلى الْجِنَانِ وأَسْرعي | لاَ تَطْمعِي لاَ تَطْمعِي لا تطمعى |
قوله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، فيه ترغيب وتنشيط لأهل الوعظ والتذكير، الداعين إلى الله، الذين يسعون في أظهار الدين، وإرشاد عباد الله إلى محبة الله وطاعته. وفي الحديث عنه- صلّى الله عليه وسلم:
«والذي نفس محمد بيده، لئن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم، إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى الله الذين يُحَبَّبُون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويمشُون في الأرضِ بالنَّصيِحَة». وقال أيضاً: «الخَلقُ عِيَالُ اللَّهِ، وأحبُّ الخَلْقِِِ إلى اللَّهِ أَنفَعُهُم لعياله» «٢» وأعظم النفع: إرشادهم إلى الله، الذي هو سبب سعادتهم السرمدية.
وقال الورتجبي: نُصرةُ العبد لله: أن يجاهد نفسه وهواه وشيطانه، فإنهم أعداؤه، فإذا خاصمها يُقويه الله وينصره عليهم، بأن يدفع شرهم عنه، ويجعله مستقيماً في طاعة الله، ويجازيه بكشف جماله، حتى يَثْبُتَ في مقام العبودية، وانكشاف أنوار الربوبية. هـ.
قال القشيري: ونصرةُ الله للعبد بإعلاء كلمته، وقمع أعدائه. ثم قال في قوله تعالى: وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ هو إدامة التوفيق، لئلا ينهزم من صَوْلة أعداء الدين، ولا يَضعُف قلبُه في معاداتهم، ولا ينكسر باطنُه ثقةً بالله في إعزازِ دينه. هـ. ثم ذكر تعالى أضداد الداعين إلى الله، الناصرين لدينه، وهم المنتقدون عليهم، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي: خيبةً لهم، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ، فلا يتوصلون بها إلى معرفته، لكونها معلولة.
ثم أمر بالتفكر والنّظر لأنه أقرب الطرق إلى التخلص من غوائل الأعداء، فقال:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٠ الى ١٢]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢)
(٢) أخرجه البيهقي فى الشعب (ح ٧٤٤٥) والطبراني فى الكبير (ح ١٠٠٣٣) وأبو يعلى فى مسنده (٦/ رقم ٣٣١٥ و ٣٣٧٠) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي فى الشعب (ح ٧٤٤٨) وأبو نعيم فى الحلية (٢/ ١٠٢) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وَلِلْكافِرِينَ أي: ولهؤلاء الكافرين السائرين بسيرَتِهم أَمْثالُها أي: أمثال تلك الهلكة المفهومة من التدمير، أو أمثال عواقِبهمْ أو عُقوبَاتهم، لكن لا على أنّ لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافَه بل مثله، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة، حسبما تعدّد الأمم المعذّبة، ويجوز أن يكون عذابُهم أشدّ من عذاب الأولين فقد قُتلوا وأُسروا بأيدي مَن كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم، والقتل بيد المثل أشد ألماً من الهلاك بسبب عام. وقيل:
دمَّر اللهُ عليهم في الدنيا، ولهم في الآخرة أمثالُها.
ذلِكَ أي: نصرُ المؤمنين وهلاكُ الكافرين في الحال أو المآل بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي: ناصِرُهم ومعِزَّهُم وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ فيدفع عنهم ما حَلّ بهم من العقوبة، ولا يخالف هذا قوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ «١» لأن المولى هناك بمعنى المالك.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وهذا بيان لحكم ولاية الله لهم وثمرتها الأخروية، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ في الدنيا بمتاعِها أياماً قلائل، وَيَأْكُلُونَ غافلين عن عَواقبهم، غير متفكرين فيها كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ في مسارحها، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح، فالتشبيهُ بالأنعام صادقٌ بالغفلةِ عن تدبير العاقبة، وعن شكر المنعِم، وبعدم التمييز للمضرّ من غيره، كأ كل الحرام وعدم تَوَقيه، وكذا كونُه غير مقصورٍ على الحاجة، ولا على وقتها، وسيأتي في الإشارة إن شاء الله. وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي:
منزلُ ثوَاه وإقامته، والجملةُ إما حال مقدرةٌ من واو (يأكلون)، أو استئناف.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا... الخ، قال القشيري: المَوْلَى: المحِبُّ، فهو محب الذين آمنوا، والكافرين لا يُحبهم، ويصح أن يُقال: أرجى آيةٍ في القرآن هذه الآية، لم يقل مولى الزُهّاد والعُبّاد وأصحاب الأورادِ والاجتهاد بل قال: مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، والمؤمن وإن كان عاصياً فهو من جملتهم. هـ- والمحبة تتفاوت بقدر زيادة الإيمان والإيقان حتى يصير محبوباً مقرباً.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ، وكذلك الغافل، فالأنعام تأكل بلا تمييز، من أي موضع وجدت، كذلك الجاهل، لا تمييز له من الحلال أو من الحرام، والأنعام ليس لها وقت لأكلها، بل تأكل في كل وقت، وكذلك الغافل والكافر. فقد ورد «أن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يجتزئ بما تيسّر» «٢»، كما في الخبر: «ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرّاً من بطنٍ» «٣». والأنعام تأكل على الغفلة، فمَن كان في أكله ناسياً لربه، فأكلُه كأكل الأنعام. انظر القشيري.
ولما أمرهم بالنظر فلم يفعلوا، هددهم بالهلاك، فقال:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
(٢) ورد بلفظ «إن المؤمن يأكل فى معىّ واحد، وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء»، الحديث أخرجه البخاري فى (الأطعمة، باب المؤمن يأكل فى معى واحد، ح ٥٣٩٣) ومسلم فى (الأشربة باب المؤمن يأكل فى معى واحد رقم ٢٠٦١، ح ١٨٤) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(٣) بعض حديث أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء فى كراهية كثرة الأكل، ح ٢٣٨٠) وقال: «حديث صحيح» وابن ماجه فى (الأطعمة، باب الاقتصاد فى الأكل وكراهة الشبع، ح ٣٣٤٩) والنّسائى فى الكبرى (آداب الأكل، باب ذكر القدر الذي يستحب للإنسان من الأكل ح ٦٧٦٨) والحاكم (٤/ ١٢١) «وصحّحه الذهبي» من حديث مقدام بن معدى كرب.
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي: كثير من أهل قرية هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ مكة، الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أي: تسببوا في خروجك، أي: وكم من قوم هم أشدُّ قوةً من قومك الذين أخرجوك، أَهْلَكْناهُمْ بأنواع العذاب، فَلا ناصِرَ لَهُمْ فلم يكن لهم مَن ينصرهم ويدفعُ العذابَ عنهم، فأنتم يا معشر قريش أهونُ منهم، وأولى بنزول ما حجل بهم.
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي: حُجةٍ واضحةٍ، وبرهانٍ قاطع، وهو القرآن المعجزُ، وسائر المعجزات، يعنى: رسول الله صلى الله عليه وسلم، كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، وهم أهل مكة، زين الشيطان شركهم وعداوتهم لله ولرسول صلّى الله عليه وسلم، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ الزائغة، وانهمكوا في فنون الضلالات، من غير أن يكون لهم شُبهة توهم صحة ما هم عليه، فضلاً عن حُجةٍ تدل عليها. وقيل: المراد بمَن كان على بينة: المؤمنون فقط، المتمسكون بأدلة الدين.
قال أبو السعود: وجعلُها عبارة عن النّبى عليه السّلام وعن المؤمنين، لا يساعده النّظم الكريم، على أن الموازاة بينه صلّى الله عليه وسلم، وبين مَن زُين له سُوء عمله مما يأباه مَنصِبُه الجليل. والتقدير: أليس الأمر كما ذُكِر؟ فمَن كان مستقرّاً على حُجةٍ ظاهرة، وبرهانٍ نيّر من مالكٍ أمره ومُربّيه، وهو القرآن، وسائر الحجج العقلية، كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ من الشرك وسائر المعاصي، مع كونه في نفسه أقبح القبائح. هـ.
الإشارة: في الآية تهديدٌ لمَن يُؤذي أولياءَ الله، ويُخرجهم من مواطنهم بالهلاك العاجل أو الآجل. وقوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تقدّم في سورة هود الكلام عليها «١». وقال القشيري هنا، في تفسير البينة:
هي الضياء والحُجة والاستبصار بواضح المحجة، فالعلماء في ضياء برهانهم، والعارفون في ضياء بيانهم، فهؤلاء بأحكام أدلة الأصول يُبصرون، وهؤلاء بحُكم الإلهام والوصول يستبصرون. هـ.
ثم عرّف بالجنة، التي تقدمت فى قوله: عَرَّفَها لَهُمْ، فقال:
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)قلت: (مثل) : مبتدأ حُذف خبره، أي: صفة الجنة ما تسمعون، وقدَّره سيبويه: فيما يُتلى عليكم مثل الجنة، وقيل: المثل زائد، أي: الجنة فيها أنهار... الخ، و (كمَن هو خالد) : خبر لمحذوف، أي: أَمَن هو خالد في هذه الجنة، كمَن هو خالد في النار؟.
يقول الحق جلّ جلاله: مَثَلُ الْجَنَّةِ أي: صفتها العجيبة، العظيمة الشأن الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الشركَ والمعاصي، هو ما نذكره لكم، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ غير متغير الطعم واللون والرائحة، يقال: أسن الماء:
إذا تغير، سواء أنتن أم لا، فهو آسن وأسِن، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ كما تتغير ألبان الدنيا بالحموضة وغيرها، وانظر إذا تمنّاه كذلك مربّيا أو مضروباً. والظاهر: أنه يعطَاه كذلك، إذ فيها ما تشتهيه الأنفس. وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي: لذيذة، ليس فيها كراهة طعم وريح، ولا غائلة سُكْرٍ، وإنما هي تلذُّذ محضٌ. و «لذة» :
إما تأنيث «لذّ»، بمعنى لذيذ، أو: مصدر نُعت به للمبالغة.
وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لم يخرج من بطون النحل فيخالطه شمع أو غيره، وفي حديث الترمذي: «إنَّ في الجنة بحرَ الماء، وبحرَ اللبن، وبحرَ العسل، وبحرَ الخمر، ثم تُشَقَّقُ الأنهارُ بعدُ» «١» قال: حسن صحيح. وعن كعب: نهر دجلة من نهر ماء الجنة، والفرات نهر من لبنها، والنيل من نهر خمرها، وسَيْحان من نهر عسلها، والكل يخرج من الكوثر «٢». قلت: ولعل الثلاثة لمّا خرجوا إلى الدنيا تغيّر حالُهم، ليبقى الإيمان بالغيب. والله تعالى أعلم.
قيل: بُدئ من هذه الأنهار بالماء لأنه لا يُستغنى عنه قط، ثم باللبن لأنه يجري مجرى المطعوم والمشروب في كثير من الأوقات، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الريّ والمطعوم تشوقت النفسُ إلى ما يلتذ به، ثم بالعسل لأنه فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم فهو متأخر فى الرّتبة.
(٢) ذكره بلفظه القرطبي (٧/ ٦٢٤٤) والبغوي فى التفسير (٧/ ٢٨٢) وذكره بلفظ مقارب السيوطي فى الدر (٦/ ٢٥) وعزاه للحرث بن أبى أسامة فى مسنده، عن كعب.
هذا، وقد وجدت على هامش النّسخة الأم ما يلى: هذا من خرافات كعب، التي كثر بهما القصاص والوعاظ مسائل العلم، بدون طائل ولا جدوى، والحديث الصحيح إنما فيه أنها من الجنة، فإما أن ذلك حقيقة على ظاهره، وإما أن يكون خرج مخرج التشبيه، كما هو قول طائفة».
قلت: حديث أنها من أنهار الجنة أخرجه مسلم فى (الجنة، باب ما فى الدنيا من أنهار الجنة، ح ٢٨٣٩) عن أبى هريرة، ولفظه:
«سيحان وجيحان والنّيل والفرات كلّ من أنهار الجنة».
أيكون هذا كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ؟ أو: مثل الجنة كمثل جزاء مَن هو خالد في النار؟ وهو كلام في صورة الإثبات، ومعناه: النفي، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار، ودخوله في حيّزه، وهو قوله:
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ «١»، وفائدة حذف حرف الإنكار: زيادةُ تصويرٍ لمكابرة مَن يسوّي بين المتمسك بالبيّنة والتابع لهواه، وأنه بمنزلة مَن يُثبت التسوية بين الجنة، التي يجري فيها تلك الأنهار، وبين النار، التي يُسقى أهلها الحميم الحار، المُشار إليه بقوله: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً حارّاً في النهاية، إذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ مصارينهم، التي هي مكان تلك الأشربة. نسأل الله العافية.
الإشارة: مثل جنة المعارف، التي وُعدها المتقون كل ما يشغل عن الله، فيها أنهار من ماء علوم الحقيقة، غير متغير صفاؤها، ولا متكدرة أنوارُها، وأنهار من لبن علوم الشريعة المؤيَّدة بالكتاب والسنّة، لم تتغير حلاوة معاملتها، ولا لذة مناجاتها، وأنهار من خمرة الشهود، لذة للشاربين لها، تذهل حلاوتها العقول، وتفوتُ عن مدارك النقول، وأنهار من عسل حلاوة المكالمة والمسارَرة والمناجاة، صافيات الأوقات، محفوظة من المكدرات، ولهم فيها من طُرَفِ الحِكَم، وفواكه العلوم، ما لا تحصيه الطروس، ولا تدركه محافل الدروس.
قال القشيري: (مثل الجنة)، أي: صفتها كذا، وللأولياء اليوم، لهم شراب الوفاء، ثم شراب الصفاء، ثم شراب الولاء، ثم شراب في حال اللقاء، ولكل من هذه الأشربة عملٌ، ولصاحبه سُكرٌ وصحوٌ، فمَن تحسّى شراب الوفاء لم ينظر إلى أحد من الخلق في أيام غيبته عن إحساسه، وأنشدوا:
وَمَا سَرَّ صَدْرِي مُنْذُ شَطَّتْ بِكَ النَّوى | أنيس وَلاَ كَأْسٌ ولاَ مُتطرف «٢» |
(٢) ورد:
وما سر قلبى منذ شط به النّوى | نعيم ولا كأس ولا متصرف |
قلت: أما شراب الوفاء فهو عَقد الإرادة مع الشيخ، أو عقد المحبة والخدمة مع الحق، فيجب الوفاء بكل منهما، وهو كشُرب العطشان من الماء العذب، وأما شراب الصفاء فهو صفاء العلم بالله، وهو كاللبن تتغذى به الأرواح في حال ترقيها إلى الحضرة، وأما شراب الولاء فهو شراب أهل التمكين من الولاية الكبرى، فيشربون من الخمرة الأزلية، فيسكرون، ثم يصحون، وفيها يقول الششتري رضي الله عنه:
لاَ شَرابَ الدَّواليِ، إِنَّها أَرْضِيَّة | خَمْرُهَا دُون خَمْرِي، خمرتي أزليه «١» |
والله تعالى أعلم.
ثم شفع بأضدادهم، فقال:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨)
قلت: (آنفاً) : قال الزمخشري ومَن تبعه: ظرف، أي: الساعة، وقال أبو حيان: لا أعلم أحداً عدّه من الظروف، وجوَّز «مَكيّ» فيه الظرف والحالية،. قال الهروي: «آنفا» مأخوذة من: ائتنفت الشيء: إذا ابتدأته، وروضة أنُفٌ: إذا لم تُرعَ. المعنى: ماذا قال في وقت يقرب من وقتنا؟. و (أن تأتيهم) : بدل اشتمال من الساعة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، وهم المنافقون، كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمعون كلامه ولا يَعُونَه، ولا يُراعونَه حق رعايته، تهاوناً منهم، حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
وقال مقاتل: كان النبي ﷺ يخطب، ويعيب المنافقين، فسمع المنافقون قوله، فلما خرجوا من المسجد، سألوا ابنَ مسعود عما قال النبي ﷺ استهزاء «١». وقال ابن عباس: «أنا من الذين أتوا العلم، وقد سُئلت فيمن سُئل» «٢».
ويقال: الناس ثلاثة: سامع عامل، وسامع غافل، وسامع تارك.
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ لعدم توجهها إلى الخير أصلاً، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ الباطلة، فلذلك فعلوا ما فعلوا، مما لا خير فيه، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا إلى طريق الحق زادَهُمْ الله بذلك هُدىً علماً وبصيرة، أو شرْح صدر بالتوفيق والإلهام، أو: زادهم ما سمعوا من الرّسول صلّى الله عليه وسلم هدايةً على ما عندهم، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ أعانهم عليها، أو: آتاهم جزاء تقواهم، أو: بيَّن لهم ما يتقون.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي: ما ينتظرون إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي: تُباغِتهم بغتةً، وهي الفجاءة، والمعنى:
أنهم لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية، ولا بالإخبار بإتيان الساعة، وما فيها من عظائم الأهوال، وما ينظرون إلا إتيان نفس الساعة بغتة، فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها علاماتها، جمع: شَرَط بالتحريك، بمعنى: العلامة، وهي مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وانشقاق القمر، والدخان، على قول. وقيل: قطع الأرحام، وقلة الكِرام، وكثر اللئام، فقوله تعالى: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها تعليل لمفاجأتها، لا لمطلق إتيانها، على معنى: أنه لم يبقَ من الأمور الموجبة للتذكير أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة، إذ قد جاء أشراطها، فلم يرفعوا لها رأساً، ولم يعدوها من مبادئ إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة.
فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ، قال الأخفش: التقدير: فأنَّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم، أي: فمن أين لهم التذكير والاتعاظ إذا جاءتهم الساعة؟ ف «ذكراهم» : مبتدأ، و «أنَّى» : خبر مقدم، و «إذا جاءتهم» : اعتراض، وسط بينهما، رمز إلى غاية سرعة مجيئها، والمقصود: عدم نفع التذكير عند مجيئها، كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى «٣».
(٢) أخرجه ابن جرير (٢٦/ ٥١) والحاكم (التفسير ٢/ ٤٥٧) بلفظ: «كنت فيمن يسئل» والحديث صحّحه الحاكم، من طريق سعيد بن جبير، ووافقه الذهبي.
(٣) من الآية ٢٣ من سورة الفجر.
وفي الحِكَم: «تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم، فحيثما سار التنويرُ وصل التعبير» «١»، وهذا إن حضر مستفيداً، وأما إن حضر منتقداً، فهو قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ.. الآية، والذين اهتدوا لدخول طريق التربية زادهم هُدىً، فلا يزالون يزيدون تربيةً وترقيةً إلى أن يصلوا إلى مقام التمكين من الشهود. قال القشيري: والذين اهتدوا بأنواع المجاهدات زادهم هُدىً لأنوار المشاهداتْ، واهتدوا بتأمُّل البرهان، فزادهم هُدىً برَوْح البيان، أو اهتدوا بعلم اليقين، فزادهم هُدىً بحق اليقين. هـ.
ثم ذكر سبب الهداية وأساسها، فقال:
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٩]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩)
يقول الحق جلّ جلاله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي: إذا علمت أن مدار السعادة، والفوز بالنعيم في دار البقاء هو التوحيد والطاعة، ومناط الشقاء والخسران في دار الهوان هو الإشراكُ والعصيان، فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد، واعلم أنه لا إله في الوجود إلا الله، فلا يستحق العبادة غيره، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وهو ما قد يصدر منه صلّى الله عليه وسلم من خلاف الأولى، عبّر عنه بالذنب نظراً إلى منصبه الجليل، كيف لا، وحسنات الأبرار سيئات المقربين؟ ف كل مقام له آداب، فإذا أخلّ بشيء من آدابه أُمر بالاستغفار، فلمقام الرسالة آداب، ولمقام الولاية آداب، ولمقام الصلاح آداب، وضعفُ العبودية لا يقوم بجميع حقوق الربوبية، قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «٢».
وبالجملة، فالقيام بالآداب مع الله- تعالى- على ما يستحقه- سبحانه- حتى يُحيط العبد بجميع الآداب مع عظمة
(٢) من الآية ٦٧ من سورة الزمر. [.....]
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرَّحمن الفاسي، بعد كلام: والحق أن استغفاره صلّى الله عليه وسلم طلب ثبات المغفرة والستر من الوقوع، لا طلب العفو بعد الوقوع، وقد أخبره تعالى بأنه فعل. وقد يُقال: استغفار تعبُّد لا غير. قال: والذي يظهر لي أن أمره بالاستغفار مع وعد الله بأنه مغفور له إشارة إلى الوقوف مع غيب المشيئة، لا مع الوعد، وذلك حقيقةٌ، والوقوف مع الوعد شريعة. وقال الطيبي: إذا تيقنت أن الساعة آتية، وقد جاء أشراطها، فخُذ بالأهم فالأهم، والأَولى فالأَولى، فتمسّك بالتوحيد، ونزِّه اللهَ عما لا ينبغي، ثم طَهِّر نفسك بالاستغفار عما لا يليق بك، مِن ترك الأَولى، فإذا صِرت كاملاً في نفسك فكن مكمِلاً لغيرك، فاستغفر لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ. هـ. أي: استغفر لذنوبهم، بالدعاء لهم، وترغيبهم فيما يستدعي غفران ذنوبهم.
وفي إعادة الجار تنبيه على اختلاف متعلّقيه إذ ليس موجبُ استغفاره صلّى الله عليه وسلم كموجب استغفارهم، فسيئاته- عليه السلام- فرضاً- حسناتهم. وفي حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه- أي: ولذنب المؤمنين- إشعار بعراقتهم في الذنوب، وفرط افتقارهم إلى الاستغفار.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ أي: يعلم متقلبكم في الدنيا، فإنها مراحل لا بد من قطعها، ويعلم مثواكم في العقبى فإنها مواطن إقامتكم، فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم فيهما، فبادِروا إلى الامتثال لما أمركم به، فإنه المهم لكم، أو: يعلم متقلبكم: في معايشكم ومتاجركم، ومثواكم: حيث تستقرون في منازلكم، أو متقلبكم: في حياتكم، ومثواكم: في القبور، أو: متقلبكم: في أعمالكم الحسنة أو السيئة، ومثواكم: من الجنة أو النار، أو: يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها، فمثله حقيق بأن يُخشى ويُتقى ويُستغفر.
الإشارة: قال القشيري: قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وكان عالماً، ولكن أمره باستدامة العلم واستزادته، وذلك في الثاني من حاله في ابتداء العلم، لأن العلم أمر، ولا يجوز البقاء على الأمر الواحد، ف كل لحظة يأتي فيها علم. ويقال: كان له علم اليقين، فأُمِر بعين اليقين، أو: كان له عين اليقين، فأمر
(٢) أخرج مسلم فى (الذكر والدعاء والتوبة، باب الاستغفار واستحباب الاستغفار والاستكثار منه ح ٢٧٠٢) عن الأغر المزني، قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي وإنى لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة».
كيف قال: «فاعلم» ولم يقل صلّى الله عليه وسلم بعدُ: علمتُ، كما قال إبراهيم حين قال له: أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ «٢» ويُجاب:
بأن الله تعالى أخبر عنه بقوله: آمَنَ الرَّسُولُ «٣» والإيمان هو العلم، فإخبارُ الحق- تعالى- عنه أتم من إخباره عن نفسه بقوله: علمته.
ويُقال: إبراهيم عليه السلام لما قال: أَسْلَمْتُ ابتلى، ونبينا صلّى الله عليه وسلم لم يقل علمت، فعُوفي، ويقال: فرق بن موسى، لمَّا احتاج إلى زيادة العلم أُحيل على الخضر، ونبينا صلّى الله عليه وسلم قال له: قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «٤» فكم بين مَن أُحيل في استزادة العلم على عبد، وبين مَن أُمِر باستزادة العلم من الحق. ويقال: إنما أمره بقوله: فَاعْلَمْ بالانقطاع إليه من الحظوظ من الخلق، ثم بالانقطاع منه إليه، وإذا قال العبد هذه الكلمة على العادة، والغفلة عن الحقيقة، [وهي نصف البيان] «٥» فليس لهذا القول كبيرُ قيمةٍ، وهذا إذا تعجب من شيء فذكر هذه الكلمة، فليس له قَدْرٌ، وإذا قاله مخلصاً ذاكراً لمعناها، متحققاً بحقيقتها، فإن قاله بنفسه فهو في وطن التفرقة، وعندهم هذا من الشِّرْكِ الخفيِّ، وإن قاله بالحق فهو إخلاص، والعبد أولاً يعلم ربه بدليل وحُجةٍ، فعلمه بنفسه ضروري، وهو أصل الأصول، وعليه ينبني كل علم استدلالي، ثم تزداد قوةُ علمه بزيادة البيان، وزيادة الحُجج، ويتناقض علمه بنفسه لغَلَبة ذكرِ الله بقلبه عليه، فإذا انتهى لحال المشاهدة، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه، صار علمه في تلك الحالة ضرورياً، ويقِل إحساسه بنفسه، حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال، وكأنه غافلٌ عن نفسه، أو ناسٍ لنفسه، ويُقال: الذي في البحر غلب عليه ما يأخذه من الرؤية عن ذكر نفسه، فإذا ركب البحر فرَّ من هذه الحالة، فإذا غرق في البحر فلا إحساس له بشيء سوى ما هو مستغرقٌ فيه مستهلَك. هـ.
قلت: لا مدخل للحجج هنا، وإنما هو أذواق وكشوفات، فالصواب أن يقول: ثم تزداد قوة علمه، بزيادة الكشف والذوق، حتى يغيب عن وجوده، بشهود معبوده، فيتناقض علمه، فيصير علمه بالله ضرورياً، وعلمه بعدم وجوده ضرورياً، والله تعالى أعلم.
(٢) من الآية ١٣١ من سورة البقرة.
(٣) من الآية ٢٨٥ سورة البقرة.
(٤) من الآية ١١٤ من سورة طه.
(٥) فى القشيري: [أي كان بصفة النّسيان] وهو أنسب.
وُجودُكَ ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ به ذنب فَلاَ وُجوُدَ لِلْغَيْرِ مَعَهُ أَصْلاً، فهو الذي عَرف نفسه بنفسه، ووحَّد نفسه بنفسه، وقدّس نفسه بنفسه، وعظّم نفسه بنفسه، كما قال الهروي رضي الله عنه حين سُئل عن التوحيد الخاص:
مَا وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ | إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ |
توحيدُ مَنْ ينطقُ عَنْ نَعْتِهِ | عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ |
توحيدُه إِيّاه توحيدُه | ونعتُ مَنْ يَنْعَتُه لاحد «١» |
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فيها ذِكر الجهاد، وذلك أنَّ المؤمنين كان حرصُهم على الجهاد يبعثهم على تمني ظهور الإسلام، وتمني قتال العدو، فكانوا يأنسون بالوحى،
وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي: أُمر فيها بالجهاد رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ نفاق، أي: رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها، يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي: تشخص أبصارُهم جُبناً وجَزعاً كما ينظر مَن أصابته الغشيةُ عند الموت.
قال القشيري: كان المسلمون تضيق صدورُهم لتأخر الوحي، وكانوا يتمنون أن ينزل الوحيُ بسرعةٍ، والمنافقون إذا ذُكر القتال يكرهون ذلك لما كان يشُق عليهم القتال، فكانوا بذلك يفتضحون وينظرون إليه نظر المغشيِّ عليه من الموت أي: بغاية الكراهة لذلك، فَأَوْلى لَهُمْ تهديد، أي: الوعيد لهم. هـ. وقيل: المعنى:
فويل لهم، وهو أفعل، من: الوَلْي، وهو القرب، والمعنى: الدعاءُ عليهم بأن يليَهم المكروه، ويقربَ من ساحتِهم، وقيل: أصله: أَوْيَل، فقُلب، فوزنه: أفلَع، قال الثعلبي: يقال لمَن همّ بالعطَب ثم أفلت: أولى لك، أي: قاربت العطَب.
وقوله تعالى: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ: استئناف، أي: طاعة لله وللرسول، وقولٌ معروف حسن خيرٌ لهم، أو: يكون حكايةَ قولِ المنافقين، أي: قالوا: أَمْرُنا طاعة وقول معروفٌ، قالوه نفاقاً، فيكون خبراً عن مضمر، وقيل:
«أَوْلَى» : مبتدأ، و «طاعة» : خبره، وهذا أحسن، وهو المشهور من استعمال «أَوْلى» بمعنى: أحق وأصوب، أي:
فالطاعة والقول المعروف أَوْلى لهم وأصوب.
فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي: فإذا جدّ الأمر ولزمهم القتال فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ في الإيمان والطاعة لَكانَ الصدق خَيْراً لَهُمْ من كراهة الجهاد، وقيل: جواب «إذا» وهو العامل فيها- محذوف، أي: فإذا عزم الأمرُ خالفوا أو تخلّفوا، أو نافقوا، أو كرهوا.
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أي: فلعلكم إن أعرضتم عن دين الله وسنّة رسول الله ﷺ أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض، بالتغاور والتناهب، وقطع الأرحام، بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً، أو: فهل عسيتم إن توليتم أمور الناس وتأمّرتم عليهم أن تُفسدوا في الأرض، تَفاخراً على الملك، وتهالكاً على الدنيا، فإن أحوالكم شاهدة بذلك من خراب الدين، والحرص على الدنيا. قال فى
وخبر «عسى» :«أن تُفسدوا»، والشرط اعتراض بين الاسم والخبر، والتقدير: فهل عسيتم أن تُفسدوا في الأرض إن توليتم. تقول: عسى يا فلان إن فعلت كذا أن يكون كذا، فهل عسيتَ أنت ذلك، أي: فهل توقعت ذلك؟
أُولئِكَ المذكورون، فالإشارة إلى المخاطبين، إيذاناً بأن ذكر مساوئهم أوجبَ إسقاطَهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم، وهو مبتدأ، وخبره: الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم عن رحمته، فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحق والموعظة لتصاممهم عنه بسوء اختيارهم، وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ لتعاميهم عما يُشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفُس والآفاق.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ فيعرفون ما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات، أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فلا يصل إليها وعظ أصلاً، و «أم» منقطعة، وما فيها من معنى «بل» للانتقال من التوبيخ على عدم التدبر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مُقفلة، لا تقبل التدبُّر والتفكُّر، والهمزة للتقرير. وتنكير «قلوب»، إما لتهويل حالها، وتفظيع شأنها، بإبهام أمرها في الفساد والجهالة، كأنه قيل: قلوب منكرة لا يُعرف حالها، ولا يُقادر قدرُها في القسوة، وإما لأنّ المراد بها قلوبُ بعض منهم، وهم المنافقون، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها مخصوصة بها، مناسبة لها، غير مجانسة لسائر الأفعال المعهودة.
قال القشيري: إذا تدبروا القرآنَ أفضى بهم إلى حس العرفان، وأزاحهم عن ظلمة التحيرُّ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها أقفَل الحقُّ على قلوب الكفار، فلا يدخلها زواجر التنبيه، ولا تنبسط عليها شعاعُ العلم، ولا يحصل فيهم الخطابُ، والبابُ إذا كان مُقفلاً، فكما لا يدخل فيه شيء لا يخرج ما فيه، كذلك هي قلوب الكفار مقفلة فلا الكفر الذي فيها يخرج، ولا الإيمان الذي يدعَوْن إليه يدخل في قلوبهم. هـ.
وقال ابن عطية: هو الران الذي منعهم من الإيمان، ثم ذكر حكاية الشاب، وذلك أن وفْد اليمن قدم على النبي ﷺ وفيهم شاب، فقرأ عليهم النبي ﷺ هذه الآية، فقال الشابُّ: عليها أقفالها حتى يفتحها الله ويُفْرجَها، قال عمر:
«إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له قُفل قلبه، وجعل فيه اليقين» «٢».
الإشارة: أهل التوجُّه والرياضة يفرحون بما ينزل بهم، مما يثقل على نفوسهم، كالفاقات والأزمات، وتسليط الخلق عليهم، وغير ذلك من النوائب لتموت نفوسهم فتحيا قلوبهم وأرواحهم بمعرفة الله، والذين في قلوبهم مرض كالوساوس والخواطر يفرُّون من ذلك، وينظرون- حين يرون أمارات ذلك- نظر المغشي عليه من الموت، فالأَوْلى لهم الخضوع تحت مجاري الأقدار، والرضا والتسليم لأحكام الواحد القهار، فإذا عزم الأمرُ بالتوجه إلى جهاد النفس، أو بالسفر إلى مَن يُداويها، فلو صدقوا في الطلب، وتوجّهوا للطبيب، لكان خيراً لهم. فهل عسيتم إن توليتم وأعرضتم عن ذلك، ولم تُسافروا إلى الطبيب، أن تُفسدوا في الأرض بالمعاصي والغفلة، وتقطعوا أرحامكم، إذ لا يصل رحِمَه حقيقةً إلا مَن صفا قلبه، ودخله الخوف والهيبة، أولئك الذين أبعدهم اللهُ عن حضرتِه، فأصمَّهم عن سماع الداعي إلى الله، وأعمى أبصارهم عن رؤية خصوصيته، وأنوار معرفته، أفلا يتدبرون القرآن، فإنَّ فيه علومَ الظاهر والباطن، لكن إذا زالت عن القلوب الأقفال، وحاصلها أربعة: حب الدنيا، وحب الرئاسة، والانهماك في الحظوظ والشهوات، وكثرة العلائق والشواغل، فإن سَلِمَ من هذه صفا قلبُه، وتجلّت فيه أسرارُ معاني الذات والصفات، فيتدبّر القرآن، ويغوص في بحر أسراره، ويستخرج يواقيتَه ودرره. وبالله التوفيق.
ثم ذكر من رجع بعد التوجه، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا...
(٢) ذكره فى كنز العمال (ح ٣٠٧٦٨) وعزاه لأبى الشيخ عن أبى ذر. وقال المناوى فى الفيض (١/ ٢٦٠) :«وفيه سعيد بن إبراهيم، قال الذهبي: مجهول». وبقية الحديث: «جعل فيه اليقين والصدق، وجعل قلبه واعيا لما سلك فيه، وجعل قلبه سليما، ولسانه صادقا، وخليقته مستقيمة، وجعل أذنه سميعة، وعينه بصيرة».
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨)يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي: رجعوا إلى الكفر، وهم المنافقون، الذين وُصفوا قبلُ بمرض القلوب، وغيره، من قبائح الأفعال والأحوال، فإنهم كفروا به صلّى الله عليه وسلم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بالدلائل الظاهرة، والمعجزات القاهرة. وقيل: اليهود، وقيل: أهل الكتابيْن جميعاً، كفروا به ﷺ بعد ما وجدوا نعته في كتابهم، وعرفوا أنه المنعوت بذلك، وقوله تعالى: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ، الجملة: خبر «إن» أي:
الشيطان زيَّن لهم ذلك، أو: سهَّل لهم ركوب العظائم، من: السّول، وهو الاسترخاء، أي: أَرْخى العنانَ لهم، حتى جرَّهم إلى مراده، وَأَمْلى لَهُمْ ومدَّ لهم في الآمال والأماني، وقرأ البصري: «وأُمْليَ» بالبناء للمفعول، أي:
أملهوا ومُدَّ في عُمرهم.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ الإشارة إلى ما ذكر من ارتدادِهم، لا إلى الإملاء، ولا إلى التسويل- كما قيل- إذ ليس شيئاً منهما سبباً في القول الآتي أي: ذلك الارتداد بسبب أنهم- أي المنافقون- قالوا لليهود الذين كرهوا مَا نَزَّلَ الله مِن القرآن على رسول الله ﷺ بعد ما عَلِموا أنه من عند الله حسداً وطمعاً في نزوله عليهم: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ أي: عداوة محمد [والقعود عن] «١» نصْرِ دينه، أو: في نصرهم والدفع عنهم إن نزل بهم شيء، من قِبَلهِ عليه السلام، وهو الذي حكاه عنهم بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ... الآية «٢» وهم بنو قريظة والنضير، الذين كانوا يُوالونهم ويُوادونهم، وإنما كانوا يقولون لهم ذلك سرّاً، كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ «٣» أي: جميع أسرارهم التي من جملتها: قولهم هذا، وقرأ الأخوان وحفص بكسر الهمزة مصدر، أي: إخفاءَهم لما يقولون لليهود.
فَكَيْفَ تكون حيلتهم وما يصنعون إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ حال كونهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ، وهو تصوير لحال توفيهم على أَهْولَ الوجوه وأفظعها. وعن ابن عباس رضي الله عنه: «لا يتوفى أحدٌ على
(٢) الآية ١١ من سورة الحشر. [.....]
(٣) قرأ حفص وحمزة والكسائي «إسرارهم» بكسر الهمزة، مصدر «أسرّ»، وقرأ الباقون «بالهمزة المفتوحة» جمع: سرّ.
انظر الهداية للمهدوى (٢/ ٥١٦) والإتحاف ٢/ ٤٧٨.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، هم المنافقون الذين فصلت أحوالهم الشنيعة، أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أحقادهم، ف «أَمْ» منقطعة، وأ «ن» مخففة، واسمها: ضمير الشأن، أي: أظن المنافقون الذين في قلوبهم حِقد وعداوة أنه لن يُخرج اللهُ حقادهم، ولن يُبرزَها لرسول الله ﷺ والمؤمنين، فيبقي أمورَهم مستورة؟ بل لا يكاد يدخل ذلك تحت الاحتمال.
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ودللناك عليهم بأمارات، حتى تعرفهم بأعينهم، معرفةً مزاحِمةً للرؤية. والالتفات لنون العظمة لإبراز العناية بالإرادة، وفي مسند أحمد، عن ابن مسعود: خطبنا رسول الله ﷺ فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «إن منكم منافقين، فمَن سميتُ فليقم، ثم قال: قم يا فلان، حتى سمّى ستة وثلاثين» «٢» انظر الطيبي. فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي نَسِمُهم بها، وعن ابن عباس رضي الله عنه: ما خَفي عن رسول الله ﷺ بعد هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين، يشْكُرهم الناس «٣» فناموا، فأصبح على وجه كل واحد منهم مكتوب: هذا منافق» «٤» قال ابن زيد: قصد الله إظهارَهم، وأمرَهم أن يخرجوا من المسجد، فأبوا إلا أن يتمسّكوا بلا إله إلا الله، فحقنت دمائهم، ونَكحوا ونُكح منهم بها.
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ أي: والله لتعرفنهم فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي: مجراه وأسلوبه وإمالته عن الاعتدال لما فيه من التذويق والتشديق، وقد كانت ألسنتهم حادة، وقلوبهم خاربة، كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ...
الآية «٥»، مَن في قلبه شيءٌ لا بد أن يظهر على لسانه، كما قيل: «ما كمَن فيك ظَهَرَ على فِيك». وهذه الجُمل كلها داخِلة تحت «لَوْ» معلقةً بالمشيئة، واللحن يُطلق على وجهين: صواب وخطأ، فالفعل من الصواب: لحن يلحن لحنا،
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٥/ ٢٧٣) والطبراني فى الكبير (١٧/ ٢٤٦ ح ٦٨٧).
(٣) فى القرطبي: يشك فيهم النّاس.
(٤) على هامش النّسخة الأم مايلى: «هذا غريب جدا، بل باطل عن ابن عباس». قلت: والخبر ذكره القرطبي فى التفسير (٧/ ٦٢٥٩) عن أنس.
(٥) الآية ٤٠٢ من سورة البقرة.
يعلم جميع أعمال العباد، فيميزُ خيرَها من شرها.
الإشارة: إن الذين ارتدوا على أدبارهم، أي: رجعوا عن صحبة المشايخ، بعد ما ظهر لهم أسرارُ خصوصيتهم الشيطانُ سوَّل لهم وأَمْلَى لهم، وتقدّم عن القشيري: أنه يتخلّف عنهم يوم القيامة، ولا يلحق بالمقربين، ولو يشفع فيه ألفُ عارف، بل من كمال المكر به أن يُلقي شَبَهَه في الآخرة على غيره، حتى يتوهم عارفوه من أهل المعرفة أنه هو، فلا يشفع أحد فيه لظنهم أنه معهم، فإذا ارتفعوا إلى عليين مُحيت صورته، ورُفع إلى مقام العامة، انظر معناه في آل عمران «٣».
وقال هنا: الذي طلع فَجرُ قلبه وتلألأ نورُ التوحيد فيه، ثم ارتدّ قبل طلوع نهار إيمانه انكسفَ شمسُ يومه، وأظلم نهارُ عرفانه، ودَجا ليل شَكِّه، وغابت نجومُ عقله، فحدَّث عن ظلماتهم ولا حرج. هـ. ولا سيما إذا تحزّب مع العامة في الإذايَة، وقال للذين كرهوا ما نَزّل الله على أهل الخصوصية من الأسرار: سنُطيعكم في بعض الأمر من إذايتهم، والله يعلم أسرارهم، وباقي الوعيد الذي في الآية ربما يشملهم. وقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: عداوةٌ لأولياء الله أن لن يُخرج اللهُ أضغانهم؟ بل يُخرجها ويُظهر وبالها، ويفتضحون ولو بعد حين، وقوله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ في قوة الخطاب، ومفهوم الكلام لأن الأسِرَّة تدلُّ على السريرة، وما خامر القلوبَ فعلى الوجوه يلوحُ، وأنشدوا في المعنى:
لَستُ «٤» مَنْ لَيْس يَدْرِي مَا هوانٌ مِن كَرَامه | إِنَّ لِلْحُبِّ وَلِلْبَغْضِ عَلَى الْوَجْهِ عَلاَمه |
(٢) انظر اللسان (لحن ٥/ ٤٠١٣- ٤٠١٤).
(٣) راجع إشارة الآية ٩٠ من سورة آل عمران. (١/ ٣٧٩).
(٤) هكذا فى الأصول، وأظنه: لست ممن.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي: والله لَنختبرنَّكم بالأمر بالجهاد، ونحوه من التكاليف الشاقة، أي: نعاملكم معاملة المختبر ليكون أبلغ في أظهار العدل، حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ على مشاق الجهاد والتكاليف، عِلماً ظاهراً، يتعلق به الجزاء بعد تعلُّق العلم به فى الأزل، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي: ونختبر أسراركم بإظهار ما فيها من خير أو شر، بالنهوض أو التخلُّف، وقيل: أراد بأخباركم: أعمالكم، عبّر بالأخبار عن الأعمال على سبيل الكناية لأن الإخبار تابع لوجود المخبر عنه، إن كان الخبر حسناً كان المخبر عنه- وهو العمل- حسناً، وإن كان الخبر قبيحاً فالمخبَر عنه قبيح. هـ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ أي: عادوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى بما شاهدوا من نعته في التوراة، وبما ظهر على يديه من المعجزات، ونزل من الآيات، وهم بنوا قريظة والنضير، أو: المطعمون يوم بدر من رؤساء قريش، لَنْ يَضُرُّوا بكفرهم وصدهم اللَّهَ شَيْئاً من الأشياء، أو:
شيئاً من الصد، أو: لن يضرُّوا رسول الله ﷺ بمشاقته، وقد حذف المضاف لتعظيم شأنه وتعظيم مشاقته.
وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ أي: مكائدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى، ومشاقة رسوله صلّى الله عليه وسلم، فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل، ولا يُثمرُ لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم.
الإشارة: قال القشيري: في الابتلاء والامتحان يتبينُ جواهرُ الرجال، فيظهر المخلصُ، ويفتضح الممارق «١»، وينكشف المنافق. هـ. وكان الفُضيل إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبلُنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. هـ. ويبغي أن يزيد: وإن بلوتنا فأيّدنا، وبالله التوفيق. إن الذين جحدوا وصدُّوا الناس عن طريق الوصول، وخرجوا عن منهاج السنّة، لن يضرُّوا الله شيئاً فإن لله رجالاً يقومون بالدعوة، لا يضرهم مَن عاداهم، حتى يأتي أمر الله، وسيُحبط أعمالَ الصادّين المعوِّقين، فلا ينهضون إلى الله نهوض الرجال، بشؤم انتقادهم. والله تعالى أعلم.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٣ الى ٣٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ فيما يأمركم به من الجهاد وغيره وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما سنَّه لكم، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق، وغير ذلك من مفسدات الأعمال، كالعجب والرياء، والمن والأذى، وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر، خلافاً للمعتزلة، أو: لا تبطلوا أعمالكم بأن تقطعوها قبل تمامها. وبها احتجَ الفقهاء على وجوب إتمام العمل فأوجبوا على مَن شَرَعَ في نافلة إتمامها، وأخذُه عن الآية ضعيف لأن السياق إنما هو في إحباط العمل بالكفر، لقوله قبلُ: وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تكونوا كهؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم بكفرهم وصدهم عن سبيل الله، ومشاقتهم الرسولَ، ويؤيده أيضاً: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، هذا عام في كل مَن مات على الكفر، وإن صحّ نزوله في أهل القليب «١».
فَلا تَهِنُوا لا تضعفوا عن الجهاد وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ، أي: لا تدعوا الكفار إلى الصلح والمسالمة فإن ذلك إعطاء الدنِيَّة- أي: الذلة- في الدين، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار «أن» في جواب النهي أي: لا تهنوا مع
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لا ثبات لها، ولا اعتداد بها، فلا تُؤثروا حياتها الفانية على الحياة الأبدية بالموت في الجهاد الأصغر أو الأكبر، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي: ثواب إيمانكم وأعمالكم من الباقيات الصالحات، التي فيها يتنافس المتنافسون، وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ بحيث يُخل أداؤها بمعايشكم، وإنما سألكم نزراً يسيراً هو ربع العشر، تؤدونه إلى فقرائكم.
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها أي: جميع أموالكم فَيُحْفِكُمْ أي: يجهدكم بطلب الكُل، فالإحفاء والإلحاف: المبالغة في السؤال، وبلوغ الغاية، يُقال: أحفاه في المسألة: إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح، وأحفى شاربه: استأصله، أي: إن يسألكم جميعها تَبْخَلُوا فلا تُعطوا شيئاً، وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي: أحقادكم لأن عند سؤال المال يظهر الصادق من الكاذب، وضمير «لا يسألكم» وما بعدها لله أو لرسوله. وضمير «يُخرج» لله تعالى، ويؤيده القراءة بنون العظمة «١»، أو البخل لأنه سبب الأضغان.
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي: يا هؤلاء، وقيل: (ها) : للتنبيه، و (هؤلاء) : موصول بمعنى «الذين»، وصلته:
تُدْعَوْنَ أي: أنتم الذين تُدعون لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هي النفقة في الغزو والزكاة، كأنه قيل: الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ أي: فمنكم ناس يبخلون به، وَمَنْ يَبْخَلْ بالصدقة وأداء الفريضة فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ فإنَّ كُلاًّ مِن نفع الإنفاق وضرر البخل عائد إليه، وفي حديث الترمذي: «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قريبٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ من النَّاس، بَعِيدٌ من النَّارِ، والبَخيلُ بَعيدٌ من اللهِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ من الناس، قَرِيبٌ من النَّارِ، ولجَاهلٌ سَخِيٌ أَحَبُ إلى اللهِ من عابدٍ بخيل» «٢» وفي رواية: «من عالم بخيل» والبخل يتعدّى ب «عن»، و «على»، لتضمُّنه معنى: الإمساك والتعدي.
(٢) أخرجه الترمذي فى (البر والصلة، باب ما جاء فى السخاء، ح ١٩٦١) والبغوي فى التفسير (٢/ ١٠٤- ١٠٥) والطبراني فى الأوسط (ح ٢٣٦٣) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال الترمذي: «هذا حديث غريب». [.....]
قلت: صدق الصادق المصدوق، فكم خرج منهم من جهابذة العلماء، وأكابر الأولياء، كالجنيد، إمام الصوفية، والغزالي، حَبر هذه الأمة، وأضرابهما. وقيل: الملائكة، وقيل: الأنصار، وقيل: كندة، وقيل: الروم، والأول أشهر.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسولَ، أو خليفته، وهو الداعي إلى الله على بصيرة العيان، ولا تُبطلوا أعمالكم، برجوعكم عن السير، بترك المجاهدة قبل المشاهدة. إنَّ الذين كفروا بوجود خصوصية التربية، وصدُّوا الناسَ عنها، ثم ماتوا على ذلك، لن يستر اللهُ مساوئهم، ولا يُغيّبهم عن شهود نفوسهم التي حجبتهم عن الله. فلا تهنوا: لا تضعُفوا، أيها المترفهون، عن مجاهدة نفوسكم، فينقطع سيركم، وذلك بالرجوع إلى الدنيا، ولا تدعوا إلى السلم والمصالحة بينكم وبين نفوسكم، وأنتم الأعلون، قد أشرفتم على الظفر بها، والله معكم لقوله:
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «٢»، ولن ينقصكم شيئاً من أعمالكم، بل يُريكم ثمرتها، عاجلاً وآجلاً، ولا يفترنَّكم عن المجاهدة طولُ الأمل.
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو أي: ساعة من نهار، وإن تُؤمنوا بكل ما وعدَ اللهُ، وتتقوا كل ما يشغل عن الله، يُؤتكم أجوركم عاجلاً وآجلاً، ولا يسألكم الداعي إليه جميعَ أموالكم، إنما يسألكم ما يَخف عليكم، تُقدموه بين يدي نجواكم، ولو سألكم جميع أموالكم لبخلتم، ويُخرج إضغانكم، وهذا في حق عامة المريدين، وأما الخاصة الأقوياء، فلو سُئلوا أرواحَهم لبذلوها، واستحقروها في جنب ما نالوا من الخصوصية، وأما أموالهم فأهون عندهم من أن يبخلوا بشيء منها، ويُقال لعامة الطالبين للوصول: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ... الآية.
(٢) الآية ٦٩ من سورة العنكبوت.
وإن تتولوا عن السير، وتركنوا إلى الرخص والشهوات قبل التمكين، يستبدل قوماً غيركم، يكونوا أحزم منكم، وأشد مجاهدة، صادقين في الطلب، ثابتين القَدم في آداب العبودية، قد أدركتهم جذباتُ العناية، وهَبَّتْ عليهم ريحُ الهداية، ثم لا يكونوا أمثالكم في التولِّي والضعف، حتى يصلوا إلى مولاهم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم.