ﰡ
وتسمى سورة القتال، وهي سورة مدنية، وقيل: كلها مدني إلا آية وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ وعدد آياتها تسع وثلاثون آية، وهذه السورة تشتمل على بيان أحوال الكفار والمؤمنين في الدنيا والآخرة، وعنيت بالتقابل بينهم، وذكر فيها كثير من أحكام القتال.
أحوال الكافرين والمؤمنين [سورة محمد (٤٧) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣)المفردات:
صَدُّوا: أعرضوا ومنعوا غيرهم. أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ: أحبطها وأبطلها.
بالَهُمْ البال: الحال. قال الراغب: البال: الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال: ما باليت بكذا.
هكذا خلق الله الخلق، وجعلهم فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير، فريق اتبع الباطل من نفسه وهواه، وآخر اتبع الحق من ربه ومولاه، فالذين كفروا بالله ورسوله، وأعرضوا عن النور الذي أنزله على رسوله، وصدوا غيرهم عن سبيل الله الذي هو سبيل العدل والكرامة، هؤلاء أضل الله أعمالهم وأبطلها، وجعلها ضائعة لا أثر لها ولا خير فيها.
والمراد بالذين كفروا المطمعون يوم بدر، وهم أبو جهل والحارث بن هشام، وعتبة ابن ربيعة وأخوه شيبة، وأبى بن خلف وأخوه أمية وغيرهم من صناديد المشركين، وكانت لهم أعمال في الخير أضلها الله وأبطلها كسقى الحجاج، وإطعام الطعام وحماية الجار... إلخ.
والذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من الأعمال، وآمنوا بما أنزل على محمد خاصة وهو القرآن الكريم، وخص بالذكر لما له من مكانة عليا، والحق مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره فهو الحق من ربهم، والذين آمنوا وعملوا الصالحات كفر الله عنهم سيئاتهم، وسترها بستار الإيمان وعمل الصالح من الأعمال، وأصلح حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد حتى جعلهم لا يبالون بشيء بعد إيمانهم بالله.
والإضلال الخاص بالكافرين، والإصلاح الخاص بالمؤمنين، كل ذلك بسبب أن الذين كفروا اتبعوا الباطل الذي لا حق فيه ولا خير، وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم.
مثل ذلك الضرب البديع والتبيان الرائع يبين الله لأجل الناس أحوال الفريقين ونهايتهم، هذه الأحوال والصفات التي تجرى في الغرابة مجرى الأمثال السائرة.
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩)
المفردات:
لَقِيتُمُ المراد: لقيتموهم في الحرب. فَضَرْبَ الرِّقابِ أى: فاضربوا الرقاب ضربا، وضرب الرقاب مجاز عن القتل. أَثْخَنْتُمُوهُمْ: أكثرتم القتل فيهم.
فَشُدُّوا الْوَثاقَ الوثاق: هو الحبل الذي يوثق به الأسير كالرباط، وشده إحكام ربطه حتى لا يفلت. فَإِمَّا مَنًّا فإما تمنون منا، أى: تطلقونهم من غير فدية.
وَإِمَّا فِداءً وإما تفادونهم فداء، أى: تطلقونهم في نظير فداء بعض أسراكم عند المشركين. أَوْزارَها: جمع وزر، وهو الحمل، والمراد: أثقالها وأحمالها، وهذا كناية عن انتهائها. فَتَعْساً لَهُمْ أى: هلاكا لهم وخيبة.
جاء الإسلام ينشد العدالة ويدعم أسس الحق، وينشر لواء الحرية، وينادى بأن الناس أحرار في كل ما يفعلون أو يعتقدون في حدود الحرية المكفولة لهم، ولهذا كانت
وجاءت آيات في القرآن تدعو إلى القتال وتحث عليه، فعلى أى وجه نفهمها؟ نعم وردت آيات القتال لتنظيم تلك الغريزة الفطرية المطبوع عليها الخلق منذ بدء الخليقة ووضع حدود ثابتة لها، وتوجيهها الوجهة الصالحة، لتكون أداة تعمير لا تخريب.
فرسالة الإسلام إذا لم تحمل الناس على ظبا السيوف، ولم يعتنقها بعضهم تحت ظلال الحراب، وإنما كان طريق الإسلام دائما دعوة رقيقة وموعظة حسنة، مع دعم الرأى بالحجة والبرهان الناصع، فمن قبل الدعوة الإسلامية كان من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، لا فضل لعربي على أعجمى إلا بالتقوى، والناس سواء، كلكم لآدم وآدم من تراب، ومن أبى الدخول في الإسلام فرضت عليه الجزية دليلا على إذعانه، وبرهانا على حسن نيته للمسلمين وتمهيدا لهدايته فعسى أن يشرح الله صدره للحق والخير ويدخل في الإسلام هو أو ابنه من بعده، ومساهمة منه في جيش الدولة التي تحميه، ومن لم يقبل الدعوة ورفض أن يدفع الجزية وجب قتاله، وليس ذلك اعتداء بل ردا لخطر لا شك في وقوعه، وتأمينا للدعوة.
فالإسلام لا يطالبنا بأن نقاتل أهل الكتاب أو الوثنيين أو المجوس مثلا من غير سبب، وإنما يطالبنا بأن ندعوهم إلى الإسلام فإن تركونا أحرارا في بث الدعوة وإقامة البراهين عليها فلا نقاتلهم، وإن قاوموا الدعوة أو اعتدوا على الدعاة قاتلناهم تقريرا لمبدأ الحرية الدينية وحماية للدعوة وكفا لأذاهم، وقد طبق الإسلام هذا المبدأ مع المخالفين جميعا كتابيين ووثنيين، فكان يعرض عليهم أولا الدخول في الإسلام فإن قبلوا ذلك كانوا كالمسلمين، وإن رفضوا هذا العرض وتمسكوا بمعتقداتهم مع ترك الدعاة أحرارا وجب على المسلمين ألا يقاتلوهم أو يعترضوهم في شيء فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [سورة النساء آية ٩٠].
فإن لم يقبلوا الإسلام واعترضوا دعوته وآذوا دعاته ونقضوا عهودهم كان ذلك إعلانا منهم بالمناوأة، وهؤلاء نطالبهم بالجزية دليلا على الخضوع وكف الأذى، فإن دفعوها أصبحوا رعية للدولة الإسلامية عليها حمايتهم ورعايتهم وتأمينهم على أموالهم
أما مشركو العرب: فقد فرق الإسلام بينهم وبين غيرهم من المشركين فكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو الحرب بينما كان يخير غيرهم في الإسلام أو الجزية أو الحرب، ولعل السبب في ذلك أنهم وقفوا من المسلمين موقفا شاذّا وعاملوهم معاملة قاسية، وعملوا جاهدين على إطفاء نور الإسلام وحاربوه حرب إبادة لا هوادة فيها وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا [البقرة ٢١٧] ولا تتحمل الجزيرة العربية دينا يعبد الله ودينا يعبد الأصنام.
فكان القتال معهم منحصرة أسبابه في رد العدوان، وقطع الفتنة، وتأمين الدعوة وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [سورة البقرة آية ١٩٣].
ومن هنا نفهم معنى
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله»
فالمراد بالناس هم مشركو العرب خاصة.
ونفهم إذا سر التشديد في قتال المشركين، وأنهم هم المقصودون بالذين كفروا في هذه الآية، ويكون معناها ما يأتى:
إذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتم المشركين في الحروب فاضربوا الرقاب ضربا شديدا وكثيرا، ولعل إيثار هذه العبارة على قوله: فاقتلوهم للإشارة إلى أن القتل يجب أن يكون بإطاحة الرءوس وإزاحتها عن البدن، وبقائه ملقى على صورة منكرة، وفي هذا تشجيع للمسلمين وأى تشجيع!.
إذا لقيتموهم في المعركة فالواجب بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى حرب لأن ذلك يجعلنا أعزة وهم أذلة حتى إذا أثخناهم في المعركة جرحا وقتلا، وتم لنا الرجحان عليهم فعلا رجحنا الأسر المعبر عنه في هذه الآية بشد الوثاق لأنه يكون حينئذ من الرحمة الاختيارية، وتكون الحرب ضرورة تقدر بقدرها، وليس المراد بها سفك الدماء وحب الانتقام، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة التي أثخنتموهم قتلا وجرحا فيها مخيرون في أمرهم إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أسراهم بلا مقابل، وإن شئتم
وعلماء الأحناف يرون أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٥] وعند الأكثرين أنها ليست بمنسوخة والإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته فقط، ولا يجوز له قتله بعد المعركة وانتهائها فالإمام عقب المعركة مخير بين الأسر أو القتل، فإذا أسر له أن يمن أو يفادى، وليس له القتل.
وعلماء الشافعية يقولون: إن الإمام مخير بين أربعة خصال، يختار الأحسن منها للإسلام والمسلمين، فله أن يقتل الأسير إن لم يسلم، أو يمن عليه بلا مقابل، أو يفاديه بمال أو بفك أسير عندهم منا، أو استرقاقه، وقد استدلوا على ذلك بأن النبي من على أبى عزة الجمحي، وعلى ثمامة بن أتاك، وفدى رجلا برجلين من المشركين، وأمر بقتل بعضهم، كالنضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط، وذلك كله ثابت في كتب التاريخ والسير والسنة.
وهذه الأحكام كلها جارية معهم حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم وعودة البشرية إلى حالة الهدوء والطمأنينة والحرية الكاملة، وهذا ما ينشده الأئمة والمصلحون، أما تحققه فهو موكول إلى الله، وهذا معنى قوله: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها «١» الأمر ذلك فاعرفوه، ولو شاء الله لانتصر لكم بإهلاكهم بعذاب من عنده لا جهاد لكم فيه، ولكن مضت سنته وشاءت قدرته أن يجعل سعادة الدنيا والآخرة للناس بأعمالهم وجهادهم، وذلك ليمحص الله الذين اتقوا ويعلم علم ظهور المنافقين من غيرهم.
والذين قتلوا في سبيل الله، واستشهدوا في سبيل الدفاع عن الحق ونصرته فلن يضل أعمالهم، بل سيجازيهم عليها أحسن الجزاء: سيهديهم ويصلح حالهم «٢»، ويدخلهم
(٢) - الجملة واقعة موقع البيان مما قبلها ولذا فصلت.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ «١» على أعدائكم مهما كانوا فالله يدافع عن الذين آمنوا والله يثبت أقدامكم في الحرب، ويقوى روحكم المعنوية تقوية بها تخوضون غمار الحرب فائزين منتصرين، وقد حصل ذلك مع النبي وصحبه، والذين كفروا فتعسوا تعسا وهلكوا هلاكا وأضل الله أعمالهم، وأبطل كيدهم، ورده في نحورهم، ذلك كله بسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله من القرآن والتوحيد والدعوة إلى مكارم الأخلاق، فكان جزاؤهم أن أحبط الله أعمالهم، ووجه كراهتهم للدين الجديد أنه جاء بتكاليف وهم قوم ألفوا الإهمال وإطلاق العنان للنفس والهوى، فلما جاء القرآن بالتكليف وترك الملذات كرهوه.
المؤمنون والكافرون في الدنيا والآخرة [سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٠ الى ١٤]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يقال: دمره الله: أهلكه، ودمر الله عليه: أهلك ما يختص به من المال والنفس، والعبارة الثانية أبلغ. مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا: ناصرهم ومتولى أمورهم. مَثْوىً لَهُمْ: محل إقامة، يقال: ثوى بالمكان: أقام به. وَكَأَيِّنْ:
بمعنى كم من قرية، والمراد كثير من القرى. بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ: على حجة وبرهان، والمراد أنه يسير على هدى القرآن.
المعنى:
أقعدوا فلم يسيروا في الأرض فينظروا نظر اعتبار بقلوبهم كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من الأمم التي كذبت رسلها كقوم عاد وثمود وأصحاب القرية وقوم لوط فإن آثار ديارهم تنبئ عن أخبارهم! وكأن سائلا سأل وقال: كيف كان عاقبتهم؟ فأجاب الحق- تبارك وتعالى-: دمر الله عليهم، وأهلك كل ما يختص بهم من النفس والمال والأهل والولد، ولم يبق إلا آثارهم الشاهدة عليهم.
وللكافرين المشركين من قريش أمثال عقوبتهم، وقد قتلوا وأسروا يوم بدر بأيدى من كانوا يسومونهم سوء العذاب، هؤلاء هم الكفار، وهذا عذابهم في الدنيا، ولا غرابة في ذلك، فالله مولى الذين آمنوا ينصرهم ويهديهم ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم، والكافرون لا مولى لهم ينصرهم من آلهتهم وشركائهم الذين عبدوهم من دون الله.
وأما حالهم في الآخرة: فاعلم أن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها نعيم مقيم، والذين كفروا في الدنيا يتمتعون بمتاعها الفاني أياما قليلة، ويأكلون أكلا كأكل الأنعام أكلا مجردا عن التفكير والنظر إلى عواقب الأمور، فهم يأكلون غافلين عن الآخرة والحال أن النار مثوى لهم.
فانظر إلى من عرفوا الدنيا على أنها خيال باطل ونعيم زائل، فتركوا الشهوات وتفرغوا لعمل الصالحات، فكانت عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم، وهؤلاء الكفار
وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين أخرجوك أهلكناهم «١» بعذاب بئيس، ولم يستطيعوا الخلاص منه بأنفسهم، ولم يكن لهم ناصر ينصرهم من أوليائهم وأصنامهم «فلا ناصر لهم» وعلى ذلك فاصبر كما صبرت الرسل من قبلك: وهذا تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين، وبيان لسبب الحكم على كل منهما أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ «٢» والمعنى: أيستوى الفريقان؟ فمن كان ثابتا على حجة ظاهرة، وبرهان واضح من ربه الذي تولى تربيته، وهذا البرهان وتلك الحجة هي القرآن الكريم، وسائر المعجزات والحجج العقلية الأخرى كمن يزين له الشيطان عمله السيئ من الشرك وسائر المعاصي، واتبع هواه الداعي إلى الشر من غير أن يكون له شبهة أو حجة؟! أيعقل أن يستوي هذا وذاك؟!.
مثل النعيم والعذاب الأليم يوم القيامة [سورة محمد (٤٧) : آية ١٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)
(٢) - الاستفهام في قوله: أفمن استفهام إنكارى، والفاء عاطفة على محذوف تقديره أيستوى الفريقان فمن كان.
غَيْرِ آسِنٍ: غير متغير الرائحة لطول مكثه، وهو من أسن الماء يأسن إذا تغيرت رائحته. لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أى: لذيذة لهم ليس فيها ما يسوؤهم. مُصَفًّى أى:
خال من الشمع والقذى. حَمِيماً: ماء حارا شديد الغليان. أَمْعاءَهُمْ: جمع معى وهي ما ينتقل إليه الطعام بعد المعدة، وينتهى به إلى الشرج- فتحة الدبر-
المعنى:
وهذا بيان الحال فريقى المؤمنين والكافرين في الآخرة مع توضيح الجنة وما بها، والنار وما فيها، بعد بيان حالهما في الاهتداء والضلال صفة الجنة التي وعد المتقون بها، صفاتها الغريبة التي تشبه المثل ما تسمعون: فيها أنهار من ماء غير آسن، أى: غير متغير الطعم والريح واللون لطول المكث بل ماؤها عذب فرات، من شربه لا يظمأ أبدا، وفيها أنهار من لبن صابح لم يتغير طعمه بحموضة كلبن الدنيا، وفيها أنهار من خمر لذيذة لكل من يشربها لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ خمر الجنة ليس فيها حموضة ولا غضاضة، ولا مرارة، وليس في شربها ذهاب للعقل، ولا ضياع للمال، ولا صداع في الرأس بل هي خمر ليس فيها إلا اللذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، عسل خال من الشوائب والقذى حتى الشمع الذي يكون معه.
وانظر إلى تعبير القرآن عن بعض الأصناف التي في الجنة وعن كثرتها بأنها أنهار، وصدق الله: ولكم فيها ما تدعون.
وللمتقين في الجنة المعدة لهم من كل الثمرات أشهاها وأحسنها، ولهم فيها مغفرة من ربهم ورضوان منه أكبر من كل ذلك، وذلك هو الفوز العظيم. أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله فرآه حسنا؟! أم من هو في هذا النعيم وتلك الجنة وما فيها كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم؟! لا يستويان بحال!! يا ويل من هو في النار؟ ويلاقي عذاب الجبار، ويسقى ماء حميما شديد الغليان إلى درجة أنه يقطع الأمعاء حتى تنزل مع الطعام، انظر إلى هذا الماء الذي يعطى لهم بدل الأنهار من الماء الزلال، واللبن الصابح والخمر اللذيذة والعسل المصفى أين هذا من ذاك؟!
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩)
المفردات:
آنِفاً المراد به: الساعة التي قبل الساعة التي أنت فيها، أى: ماذا قال قبيل وقتنا أو هو من استأنف الشيء إذا ابتدأه أى: ماذا قال آنفا، أى: في أول وقت يقرب منا «١». وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ: ألهمهم ما يتقون به ربهم. بَغْتَةً: فجأة.
أَشْراطُها: جمع شرط وهو العلامة. ذِكْراهُمْ: تذكرهم.
مُتَقَلَّبَكُمْ: تصرفكم واشتغالكم. مَثْواكُمْ: سكونكم.
وهذا بيان حال المنافقين، ومقابلتهم بالمؤمنين المهتدين، بعد بيان الكفار وتقابلهم بالمؤمنين في الدنيا والآخرة.
ومن الناس الذين حقت عليهم كلمة ربك، وصاروا من أصحاب النار قوم يستمعون إليك بآذانهم، حتى إذا خرجوا من عندك، وانتهى مجلسهم معك، قالوا للذين أوتوا العلم والفهم الصحيح: ماذا قال آنفا؟ ماذا قال في تلك الساعة القريبة؟ لم يقل شيئا يعتد به، وما قال إلا أخلاطا وأحاديث لا خير فيها.
أولئك هم الذين طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوا شيئا مما قلت، وختم عليها حتى لا يدخلها نورك الوضاح، فهؤلاء تركوا اتباع الحق فأمات الله قلوبهم فلم تفهم ولم تعقل فعند ذلك اتبعوا أهواءهم.
ويقابل هؤلاء- والإشارة للتحقير والتوغل في الضلال- الذين اهتدوا إلى طريق الحق، وزادهم الله- عز وجل- هدى بالتوفيق والإلهام والعمل الصالح، وآتاهم تقواهم بأن خلق فيهم قدرة على التقوى وفعل الطاعة جازاهم على ذلك.
فهؤلاء الذين طبع الله على قلوبهم فلم يسمعوا الخير ولم يهتدوا به، هل ينظرون إلا أن تأتيهم الساعة فجأة، على معنى: هؤلاء لم يتذكروا بأحوال الأمم الخالية، ولم يتعظوا بما ينزل عليهم من أنباء الساعة وأهوالها. فهم ما ينتظرون إلا إتيان الساعة نفسها بغتة.
فقد جاء أشراطها وعلاماتها، وإذا كان الأمر كذلك فكيف لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة؟ ومن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة بغتة؟! إذا علمت ذلك فاثبت على ما أنت عليه، ودم على العلم بوحدانية الله والإيمان بالبعث، واعلم أنه لا إله إلا الله، فإن ذلك هو النافع المنجى يوم لا ينفع مال ولا بنون.
واستغفر لذنبك، واستغفر للمؤمنين والمؤمنات، والله يعلم تقلبكم في الدنيا وتصرفكم فيها، ويعلم مكان استقراركم في الآخرة، وسيثيبكم على ذلك كله فإنه لا تخفى عليه خافية.
أما أمر النبي بالاستغفار فقيل: لتستن به أمته وتقتدى به فإذا كان هو مأمورا بالاستغفار وهو المعصوم فكيف بنا نحن؟
ولقد عللوا ذلك بأن النبي كان يشتغل فترات من الزمن بأحوال المسلمين فيرى أنه شغل عن الحق- تبارك وتعالى- فيستغفر الله لذلك، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقد يكون استغفار النبي شكرا لا عن ذنب
«أفلا أكون عبدا شكورا»
وفي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات إكرام لهم وتشريف وتوجيه للاستغفار، فإنه وصف لازم للمؤمن والمؤمنة.
المؤمنون الصادقون والمنافقون الكاذبون [سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٠ الى ٣٢]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩)
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢)
مُحْكَمَةٌ: لا شبهة فيها ولا غموض ولا تشابه. مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ مَرَضٌ: شك ونفاق. نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ: نظرا كنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره. فَأَوْلى لَهُمْ: تلك عبارة تهديد ووعيد، والمراد قاربهم ما يهلكهم، على أنها مشتقة من الولي وهو القرب، أو هي مشتقة من الويل بمعنى الهلاك. عَزَمَ الْأَمْرُ: جد ووجب، والمراد بالأمر القتال.
سَوَّلَ: زين لهم خطاياهم. وَأَمْلى لَهُمْ: مد لهم في الأمل ووعدهم بطول الأجل. إِسْرارَهُمْ أى: سرهم، وفي قراءة: أسرارهم على أنه جمع سر.
وَأَدْبارَهُمْ المراد: ظهورهم. مَرَضٌ المرض: فتور في الجسم، ولا شك أن النفاق فتور في الإيمان، وعلى ذلك فسمى الله شكهم ونفاقهم مرضا. أَضْغانَهُمْ:
أحقادهم الدفينة. بِسِيماهُمْ: بعلامتهم. فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أى: بسببه، ولحن القول: صرف الكلام عن التصريح إلى التلويح والتعريض. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ:
نعاملكم معاملة المختبر بالتكليف بالجهاد. وَشَاقُّوا الرَّسُولَ: خالفوه حتى كأنهم في شق وجانب، وهو في شق وجانب. وَسَيُحْبِطُ: سيبطل.
المعنى:
المؤمنون الصادقون حريصون على الجهاد، تواقون لبذل النفس والنفيس في سبيل إعلاء كلمة الله، ولذلك يقولون حرصا منهم على الجهاد وثوابه: هلا أنزلت سورة يؤمر فيها بالجهاد! هؤلاء هم المؤمنون يتمنون أن تنزل سورة وفيها الأمر بالجهاد، أما المنافقون فإذا أنزلت سورة محكمة، لا شبهة فيها ولا خفاء، وذكر فيها القتال على أنه فرض واجب على المسلمين رأيت، ويا هول ما رأيت! رأيت الذين في قلوبهم مرض الشك، ينظرون إليك نظرا كنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره، تراهم تشخص أبصارهم إليك جبنا وهلعا، أو من شدة العداوة لك، أو من خوف الفضيحة الفاضحة لهم، وما أروع تصوير القرآن لهم حيث قال:
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فأولى لهم. ثم أولى لهم «١» ! وهذا تهديد لهم ووعيد بقرب هلاكهم، وحصول الويل لهم.
فإذا عزم الأمر وجد الجد، فلو صدقوا الله في نيتهم وأخلصوا العمل لكان «٣» خيرا لهم وأفضل من نفاقهم وكذبهم، فإن وبال ذلك عليهم وحدهم.
فهل يتوقع منكم إن توليتم عن الحق، وأعرضتم عن القرآن أن تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، وتقطعوا الأرحام؟ وهذا التوقع والاستفهام إنما يكون مع غير الله من كل إنسان يقف على أمور المنافقين، ويعرف إسرارهم على حقيقته، والتوقع من الله إنما هو إخبار عن شيء حاصل قطعا وعلى ذلك فمعنى الآية: هؤلاء المنافقون ضعاف في الدين شديد والحرص على الدنيا بشكل ظاهر، فهم جديرون بأن يتوقع منهم الإفساد لا الإصلاح وتقطيع الأرحام لا صلتها، كل إنسان عرف حالهم ويقول لهم: فهل عسيتم... ؟ والمراد بإفسادهم وتقطيع الأرحام أنهم يعودون إلى الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء التي كانوا فيها، يعودون إليها بعد أن رأوا نور الهدى على يد خير الخلق، وبين سطور القرآن الكريم، فهل يفهم المسلمون الآن أنهم تولوا عن القرآن وأعرضوا عن الدين فأفسدوا في الأرض الفساد، وقطعوا وشائج الأرحام فصب عليهم ربك سوط عذاب حتى وصلوا إلى ما وصلوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!! أولئك الذين لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته، فأصمهم عن الحق فلم يسمعوه وأعمى أبصارهم عن النور فلم يروه.
أفلا يتدبرون القرآن، وما فيه من مواعظ وزواجر؟ حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات؟! بل أعلى قلوب أقفالها؟ حتى لا يمكن التدبر والاتعاظ بها، وهم كذلك.
(٢) - وعلى ذلك فأولى مبتدأ ولهم متعلق به على أن اللام بمعنى الباء وطاعة خبر.
(٣) - جواب الشرط (إذا) قوله: فلو صدقوا الله، ولا يضر اقترانه بالفاء، وجواب (لو) قوله: لكان.
سنطيعكم في بعض الأمر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [سورة الحشر آية ١١] والله يعلم إسرارهم وإخفاءهم.
فكيف حالهم؟ إذا توفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم «١» حالة كون الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم، وضرب الوجه والظهر في حالة الحرب مما يتقيه الكريم، فهم تجنبوا ذلك في الدنيا فضربوا عليها في الآخرة، وذلك كله بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله من الكفر والمعاصي وكرهوا رضوانه وطاعاته، فأحبط أعمالهم، وأبطل كيدهم، بل أحسب الذين في قلوبهم مرض النفاق أن لن يخرج الله أضغانهم، ويظهر حقدهم وحسدهم المدفون؟ لا تظنوا هذا فالله عالم يعلم الغيب والشهادة، وهو العليم بذات الصدور.
ولو يشاء ربك يا محمد أن تراهم وتعرفهم لعرفك إياهم، فلتعرفنهم «٢» بعلامتهم الدالة عليهم، ولتعرفنهم بسبب لحن القول وفحواه.
والمعنى: إنك يا محمد لتعرفن المنافقين فيما يعرضونه عليك من القول ولحنه، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا عرفه بقوله، واستدل بفحوى كلامه على فساد باطنه، وضعف إيمانه ونفاقه، ولا غرابة فالله يعلم أعمالكم الظاهرة والخافية.
(٢) - الفاء هنا فاء تفريع لمعرفته صلّى الله عليه وسلّم على تعريف الله عز وجل واللام بعدها كاللام في لأريناكهم واقعة في جواب لو، واللام في «ولتعرفنهم» جواب قسم محذوف.
إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله بالقول أو الفعل أو إذاعة السوء وتحريف الأخبار، وتحريف الكلم من بعد مواضعه، إن الذين فعلوا ذلك وشاقوا الرسول وخالفوه من بعد ما تبين لهم الهدى: فوصف النبي صلّى الله عليه وسلّم عندهم ظاهر في كتبهم قبل تحريفها، وكانوا يستفتحون النبي على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، والمنافقون قوم آمنوا ثم كفروا، وخالفوا بعد ما اهتدوا، هؤلاء لن يضروا الله شيئا، وسيحبط أعمالهم، ويبطل مكرهم، ولا يثيبهم الله يوم القيامة على أعمالهم التي يظنونها خيرا.
ختام السورة [سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٣ الى ٣٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
فَلا تَهِنُوا أى: فلا تضعفوا. السَّلْمِ: هو السلام والمصالحة.
يَتِرَكُمْ قال الزمخشري في تفسيره- على أنه من أئمة اللغة-: وحقيقته: أفردته من قريبه أو ماله من الوتر وهو الفرد، فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو من فصيح الكلام، وقال أبو عبيدة والمبرد: هذا اللفظ مأخوذ من: وترت الرجل: إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخذ حميم، أو سلبته ماله وذهبت به، والمراد باللفظ في الآية: لن يظلمكم، أو لن ينقصكم، أو لن يضيع عليكم شيئا من أعمالكم. لَعِبٌ وَلَهْوٌ المراد: باطل وغرور وليس فيه خير. فَيُحْفِكُمْ الإحفاء: المبالغة في الطلب. أَضْغانَكُمْ: أحقادكم.
بعد بيان أحوال الكفار والمنافقين، في الدنيا والآخرة أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله، وحثهم على الجهاد والبذل، وكره إليهم الدنيا، وهددهم إن لم يؤمنوا أن يستبدل قوما غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله: أطيعوا الله وأطيعوا رسوله في كل أمر ونهى فها أنتم أولاء قد رأيتم من يشاقق الرسول وعاقبته، وإياكم أن تبطلوا أعمالكم الصالحة بالمن والأذى، ولا تحبطوها بالكفر والعصيان، أو بالسمعة والرياء، أو بالشك والنفاق، أو بالعجب والتكبر فإن ذلك كله يبطل صالح الأعمال: واعلموا أن الذين كفروا بالله ورسوله، وصدوا عن سبيل الله أنفسهم وغيرهم، ثم ماتوا وهم كفار، فلن يغفر الله لهم. قيل نزلت هذه الآية في أهل القليب، وهم المشركون الذين ماتوا في غزوة بدر، وحكمها عام في من مات على الكفر.
إذا علمتم وجوب الجهاد وتأكده، وأن الله مع المؤمنين بالنصر والتأييد، وأن الله أوعد الكافرين بالخذلان والهلاك. إذا علمتم ذلك فلا تهنوا في ابتغاء القوم، ولا تضعفوا، إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وأكثر. والوهن: حب الدنيا وكراهية الموت، فإياكم والوهن والخضوع للكفار وطلب الصلح إذا لقيتموهم، والحال
واعلموا أن الدنيا لعب ولهو، وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، وهذا كله باطل إلا ما كان منها في عبادة الله- عز وجل- وطاعته، وإذا كان الأمر كذلك فيجب ألا تشغلكم الدنيا عن الآخرة والفوز بلذائذها الفاخرة، فالآخرة خير وبقي وإن تؤمنوا وتتقوا أيها الناس يؤتكم أجوركم، ولا يسألكم أموالكم كلها: إنما يسألكم قليلا من المال هو في الواقع تحصين لكم ولمالكم، وإنما أنتم في الواقع خلفاء لله في ماله، فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، إن يسألكموها فيحفكم ويبالغ في طلبها كلها تبخلوا ولا تقرضوه قرضا حسنا تثابون عليه، ويخرج هذا أضغانكم وحبكم للمال، إذ كراهيتكم للإنفاق كراهية طبيعة.
ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما بخله وعاقبته على نفسه وحده، والله الغنى عن إنفاقكم، وإنما سبحانه قد ربط أسباب النجاح والفلاح بالإنفاق والجهاد في سبيل الله والله الغنى وأنتم الفقراء إليه.
وإن تتولوا وتعرضوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم، بل يكونوا طائعين مؤمنين عاملين.
وهي مدنية بالإجماع. وعدد آياتها تسع وعشرون آية. ونزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن صلح الحديبية.
خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة معتمرا (زائرا للبيت) لا يريد حربا، وإنما هو مشتاق إلى رؤية بلده الحبيب، خرج ومعه حوالى ١٥٠٠ من المهاجرين والأنصار ومن دخل في الإسلام من الأعراب وساق معه الهدى- ما يهدى إلى الحرم من النعم- وأحرم بالعمرة من (ذي الحليفة) وخرج معه من نسائه أم سلمة- رضى الله عنها- ولم يكن مع رسول الله وصحبه إلا سلاح المسافر:
السيوف في القرب، فلما أصبح على مرحلتين من مكة لقيه بشر بن سفيان الكعبي قائلا: يا رسول الله هذه قريش علمت بمسيرك فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل (النوق ذات اللبن والأولاد) أى: خرجوا عازمين على طول الإقامة، وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا. وأخذت الرسل من قبل قريش تفاوض رسول الله وقد أرسل رسول الله في هذه الأثناء إلى قريش عثمان بن عفان يبلغهم قصد رسول الله وأنه لا يريد إلا العمرة، وفي غيبة عثمان في مكة مفاوضا أشيع أنه قتل، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت شجرة الرضوان، روى سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه- قائلا: بايعناه وبايعه الناس على عدم الفرار، وأنه إما الفتح وإما الشهادة.
علمت قريش بهذا فأرسلت سهيل بن عمرو لعقد الصلح، وقد تم ذلك وسمى صلح الحديبية، وخلاصة شروطه: أن يكف الفريقان عن الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس فلا قتال ولا اعتداء، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يرده عليه، وأن بين القوم عيبة مكفوفة، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده من القبائل دخل فيه. ومن أراد أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وقد سارعت خزاعة فدخلت في عقد محمد وحالفته، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عهد قريش وعقدهم هذا على أن المسلمين يرجعون عن مكة