تفسير سورة الملك

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الملك من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
مكية وهي ثلاثون آية.

﴿ تبارك ﴾ مشتق من البركة، بمعنى الزيادة المقتضي للكمال وعدم النقصان، والمأخوذ من أسماء الله تعالى وصفاته من معاني الألفاظ هو الغايات دون المبادي، فهو من صيغ التكبير، ويستلزم التنزه عن صفات المخلوقين، فإنها لا تخلو عن النقصان. ﴿ الذي بيده الملك ﴾ اليد من المتشابهات لتنزهه سبحانه عن الجارحة، أوله المتأخرون بالقدرة والملك، وهو السلطان على كل شيء والتصرف في الأمور كلها. ﴿ وهو على كل شيء ﴾ أي على كل ما يشاء ﴿ قدير ﴾ لا يمكن لأحد دفع ما أراده، فلا يجوز الخوف والرجاء إلا منه تعالى. ولما كانت هذه الآية بمنزلة الدعوى على وجوده تعالى وكمال صفاته، وتنزيهه مستدعيا للبرهان عقبها بما يدل على ذلك من الآيات في نفس المكلفين من خلق الموت والحياة، وفي خلق السموات بلا تفاوت وفطور، وخلق الأرض وجعلها ذلولا، وخلق ما فيها من الأرزاق والطير صافات، وذكر فيما بين ذلك استطرادا، عذاب الكفار الذين لم يسمعوا أو لم يعقلوا البراهين والآيات، وثواب الذين يخشون ربهم المنتفعين بالحجج البينات فقال ﴿ الذي خلق الموت والحياة ﴾.
﴿ الذي خلق الموت والحياة ﴾ الموصول مرفوع إما أنه بدل من الموصول السابق، وإما خبر مبتدأ محذوف، أي هو، أو منصوب على المدح. والحياة من صفات الله تعالى، وهي صفة تستتبع العلم والقدرة والإرادة وغيرها من صفات الكمال. وقد استودعها الله تعالى في الممكنات، وخلقها فيها على حسب إرادته واستعداداتها، فظهرت في الممكنات على مراتب شتى، ظهرت في بعضها بحيث تستتبع المعرفة التي لا كيف لها بذات الله تعالى وصفاته، وهي الأمانة التي حملها الإنسان وأشفقن منها السموات والأرض والجبال، وذلك بإلقاء نور من الله تعالى، وهذا القسم من الحياة وما يقابلها من الموت المستفاد من قوله تعالى :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه ﴾١ وقوله عليه الصلاة والسلام :( إن الله خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصاب من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول جف القلم على علم الله ) ٢ رواه أحمد والترمذي. وفي بعضها بحيث يستتبع الألحس والحركة الحيوانية المعبر عنها وعما يقابلها بقوله تعالى :﴿ كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ﴾ ٣ وفي بعضها لتستتبع النمو فقط المعبر عنها وعما يقابلها بقوله تعالى :﴿ يحي الأرض بعد موتها ﴾ ٤ أي يحيي نبات الأرض بعد يبسها وذلك القسمين من الحياة ينضج الروح الإنسان والحيواني و النباتي في الأجسام. وليس شيء من الأقسام الثلاثة المذكورة للحياة في الجمادات، ولذا قال الله تعالى في حق الأصنام :﴿ أموات غير أحياء ﴾ ٥ ولكن الجمادات أيضا لا تخلو عن نوع من الحياة، كما في قوله تعالى :﴿ وإن منها لما يهبط من خشية الله ﴾ ٦ وقد مر تفسيره في سورة البقرة، وهذا النوع من الحياة لازم للوجود، وقال الله تعالى :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾٧ والموت في كل مرتبة من المراتب المذكورة عبارة عن عدم الحياة أو مطلقا أو عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا، فالتقابل بينهما إما تقابل العدم والملكة أو الإيجاب والسلب، فهي صفته عدمية مقتضاة الحقيقة الممكن مقدمة على الحياة المستودعة من الله سبحانه، كما يدل عليه ما تلونا من قوله تعالى :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه ﴾ وقوله تعالى :﴿ كنتم أمواتا فأحياكم ﴾ و ﴿ يحي الأرض بعد موتها ﴾ وقوله تعالى :﴿ كن فيكون ﴾. ولأجل تقدم الموت على الحياة في كل مرتبة طبعا، قدمت هاهنا على الحياة ذكرا أو لأن أفرغ فتقدميها في الذكر مع الابتداء الأليق. وقال بعض العلماء : الموت صفة وجودية والتقابل بالتضاد، فهي كيفية في الإجشام، مانعة من العلم والقدرة والحس والحركة ونحوها، مستدلين بهذه الآية. فإن خلق الموت يقتضي وجوده، والإدام الأصلية غير مخلوقة قلنا بديهة العقل شاهدة أنا لا نجد في الأموات أمرا منضما إلى ذواتها، بل أمرا انتزاعيا ينتزع منها، كما ينتزع العمى من الأعمى، وبصيرة الكسف حاكمة بأن الصات الله تعالى نقايض متمايزة في مرتبة العلم. فنقيض الحياة الموت، ونقيض العلم الجهل، ونقيض القدرة العجز، ونقيض البصر العمى، وهكذا هي أعدام أصلية تقررت في مرتبة العلم بالإضافة إلى نقائضها، وبصبغ الله سبحانه وكمال قدرته انصبغت تلك الأعدام في تلك المرتبة بصبغ نقائضها التي هي صفات الكمال، وتلك مخلوطة في مرتبة العلم سميت أعيانا ثابتة، وانصباغها في تلك المرتبة بصبغ الوجود هو الكون الأول، أو السبب للكون في الخارج كما ذكرنا في تفسير قوله تعالى :﴿ كن فيكون ﴾ ٨ في سورة البقرة. فالأعيان الثابتة ظلال للصفات، والممكنات في الخارج الظلي ظلال لها، ومعنى كون الممكنات ظلال لها، أن إفاضة الوجود وتوابعه من المبدأ الفياض على الممكنات الموجودة في الخارج، ليست إلا بتوسط تلك الأعيان الثابتة. كما أن نور المصباح الذي في الزجاجة ينبسط على الأشياء بتوسط الزجاجة، وأشير إلى ذلك في تفسير قوله تعالى :﴿ مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة ﴾ ٩.
ثم اعلم أن توسط الأعيان الثابتة بين الصفات والممكنات إنما هو في دار الدنيا، وأما في الآخرة فسيكون إفاضة الوجود وتوابعه من الصفات بلا توسط الأعيان، وهذا هو الوجه لطويان الفناء على الممكنات في الدنيا، في الآخرة آيات القرآن أعني قوله تعالى :﴿ كنتم أمواتا فأحياكم ﴾١٠ وقوله تعالى :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه ﴾ ١١ وأمثالها ناطقة بأن الموت صفة للمكن مقدمة على الإيجاد فتأويل قوله تعالى :﴿ خلق الموت ﴾ أي أظهره بإيجاد الحياة، أو أظهره بإزالة الحياة، أو خلق الأموات بحيث ينتزع منها عداء الحياة. والخلق بمعنى التقدير أي قدر الموت والحياة، قال البغوي قال عطاء، ابن عباس : يريد خلق الموت في الدنيا والحياة في الآخرة، قلت لعله أراد أنه تعالى عبر الحياة الدنيوية بالموت والحياة الأخروية بالحياة، قلت وذلك لما قلنا من كون الأعيان الثابتة مربيات لها في الدنيا، وكون الأعدام داخلة في ماهياتها فكان الحياة الدنيا لا يخلو من شائبة الموت، ويصدق أن يقع ﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ﴾١٢ أي في الحال وكذا ﴿ كل من عليها فان٢٦ ﴾ ١٣ و ﴿ كل شيء هالك ﴾ ١٤ فإن الحقيقة في المشتق هو المعنى الحال وما كان أو ما يؤل فهو مجازي والله تعالى أعلم. وذهب جماعة إلى أن الموت جسم ليس بعرض، وأنه مخلوق في صورة كبش أملح، والحياة في صورة فرس أنثى، واختاره السيوطي في بدور السافرة. ومبنى هذا القول ما ذكر البغوي أثر ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : خلق الموت في صورة كبش أملح، لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات، وخلق القياس في صورة بلقاء أنثى، وهي التي كان جبرائيل والأنبياء يركبونها، لا يمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي، هي التي أخذ السامري قبضة من أثرها فألقاها في العجل فحيي. قلت : وهذا الأثر لا يدل على أن الموت جسم ليس بعرض وكذا الحياة، بل يدل على أن من المخلوقات جسم على صورة كبش أملح يقال لها الموت، وجسم على صورة فرس يقال لها الحياة، لا يمران بشيء ولا يجد ريحها إلا مات بالأولى وحيي بالثانية. فالموت والحياة في الحيوان ليس نفس ذلك الجسم، بل أثر يترتب على مرورها ووجدان ريحها كما يترتب على اقتراب السموم، ونحو ذلك وما ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال قال نبي صلى الله عليه وسلم : إذا صار أهل النار إلى النار جيء بالموت حتى جعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار ولا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم ) ١٥ وفيهما عن ابن سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ) الحديث إلى قوله :﴿ فيؤمر به فيذبح ﴾ الخ، وأخرج الحاكم وصححه وابن حبان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ) الخ نحوه، فمذهب السلف الوقوف عن الخوض في معناه، والإيمان به وتفويض علمه إلى الله تعالى، كما في سائر المتشابهات، كذا نقل السيوطي عن الحكيم الترمذي. والصوفية العلية لما ظهر لهم من العوالم عالم المثال، وفيه مثال لكل جوهر وعرض، بل للمجردات أيضا، بل لله سبحانه أيضا مع كونه متعال عن الشبه والمثال، ذلك هو المحل لحديث ( رأيت أبي على صورة أمر شاب قطط في رجله نعلا الذهب )١٦.
وقد تنتقل الصورة المثالية من عالم المثال إلى عالم الشهادة بكمال قدرته تعالى، وقد اشتهر ذلك كرامة عن كثير من الأولياء، ولعل الله تعالى يحضر الصورة المثالية للموت من عالم المثال في الآخرة إلى عالم الشهادة، فيؤمر بذبحه حتى يظهر لأهل الجنة والنار أنه خلود ولا موت. وهكذا التأويل في حشر الإسلام والإيمان والقرآن والأعمال والأمانة والرحم وأيام الدنيا، كما نطقت به الأحاديث الصحيحة التي لا يسع ذكرها المقام، قال السيوطي في البدور السافرة : الأعمال والمعاني كلها مخلوقة ولها صورة عند الله تعالى، وإنا كنا لا نشاهدها، وقد نص أرباب الحقيقة على أن من أنواع الكشف الوقوف على حقائق المعاني وإدراك صورها بصورة الأجسام، والأحاديث شاهدة لذلك وهي كثيرة. انتهى هذا القول من السيوطي حكاية عن عالم المثال والله تعالى أعلم. ﴿ ليبلوكم ﴾ أي ليعاملكم معاملة مختبر بالتكليف أيها المكلفون ﴿ أيكم أحسن عملا ﴾ الجملة مفعول ثان ليبلوكم يتضمن معنى يعلم، وليس هذا من التعليق لتقدم لمفعول الأولى على الاستفهام، ولو كان تعليقا لتقدم الاستفهام عليه، وقال الفراء : لم يوقع البلوى على أي ويليها إضمار، كما يقول : بلوتكم لأنظر أيكم أطوع، قال البغوي : روي عن ابن عمر مرفوعا أحسن عملا أحسن عقلا وأورع من محارم الله وأسرع في طاعة الله. وقوله تعالى :﴿ ليبلوكم ﴾ متعلق بخلق المو والحياة، يعني الحكمة في خلق الموت والحياة ظهور المطيع من العاصي، فإن الحياة مدار التكليف به تحصيل القدرة الممكنة، والموت واعظ به يتعظ الزكي ومغتنم الفرصة لكسب الزاد للمعاد. وانقلاب الأحوال من الحياة والممات دليل على وجود الصانع الحكيم المختار، وعن عمار بن ياسر مرفوعا ( كفى بالموت واعظا وكفى باليقين غنى } رواه الطبراني ورواه الشافعي وأحمد عن الربيع بن أنس مرسلا ) كفى بالموت وهذا في الدنيا مرغبا في الآخرة وعن أبي هريرة بادروا بالأعمال سبعا تنظرون إلا نقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفتدا أو موتا مجهزا والدجال فإنه شر منتظر والساعة أدهى وأمر )١٧ رواه الترمذي والحاكم وصححه، وروى أحمد ومسلم عنه مرفوعا ( بادروا قبل ست طلوع الشمس من مغربها والدخان ودابة الأرض والدجال وخويصة أحدكم وأمر العامة ) ١٨ والمراد بخويصة أحدكم الموت وبأمر العامة القيامة، وعن أبي أمامة عند البيهقي نحوه. ﴿ وهو العزيز ﴾ في انتقامه ممن عصا ﴿ الغفور ﴾ لمن شاء.
١ سورة الأنعام الآية: ١١٢.
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الإيمان باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة ﴿٢٧١٢﴾ وقال: حديث حسن.
٣ سورة البقرة الآية: ٢٨.
٤ سورة الحديد الآية: ١٧.
٥ سورة النحل الآية: ٢١.
٦ سورة البقرة: الآية: ٧٤.
٧ سورة الإسراء الآية: ٤٤.
٨ سورة البقرة: الآية: ١١٧.
٩ سورة النور الآية: ٣٥.
١٠ سورة البقرة: الآية ٢٨.
١١ سورة الأنعام: الآية: ١٢٢.
١٢ سورة الزمر الآية ٣٠.
١٣ سورة الرحمن الآية: ٢٦.
١٤ سورة القصص الآية: ٨٨.
١٥ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق: باب صفة الجنة والنار ﴿٦١٨٢﴾ وأخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء ﴿٢٨٥٠﴾.
١٦ قال القاري موضوع لا أصل له، وقال السبكي موضوع مفتري انظر كشف الخفاء ﴿١٤٠٩﴾.
١٧ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد باب: ما جاء في المبادرة بالعمل ﴿٢٣٤٣﴾.
١٨ أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة باب: في بقية من أحاديث الدجال ﴿٢٩٤٧﴾.
﴿ الذي خلق ﴾ خبر آخر لهو أو صفة من الغفور أو بدل من الموصول السابق، ﴿ سبع سماوات طباقا ﴾ أي ذات طباق جمع طبق كحبل أو طبقة كرحبة ورحاب، أو مصدر فعل محذوف أي طوبقت طباقا من طابق النعل إذ خصفها طبقا على طبق، وصف للسبع أو حال. وقد ذكرنا في سورة البقرة وما ورد في السموات السبع، وبعدما بينهن ﴿ ما ترى ﴾ يا محمد صلى الله عليه وسلم أو أي مخاطب كان، وما نافية أو استفهامية لإنكار مفعول ترى ﴿ في خلق الرحمان ﴾ الإضافة للعهد والمراد به ما ذكر من السموات السبع، والإضافة إلى الرحمان للتعظيم، ولا يجوز أن يكون الإضافة لتعريف الجنس، فإن في جنس الخلق تفاوتا فاحشا كما لا يخفى، إلا أن يقال المراد بالتفاوت فوت شيء مما ينبغي فيه عدم التناسب. فمقتضى العبارة أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان يعني باعتبار النظام الجملي ﴿ من تفاوت ﴾ من زائدة أو تبعيضية على تقدير كون ما نافية، وبيانية على تقدير كونها استفهامية. والجملة صفة للسبع أو حال من فاعل خلق أو مفعوله، وضع المظهر يعني لفظ الرحمان أو لفظ خلق الرحمان موضع الضمير الرابط للتصريح على سبب عدم نقصانه، فإنه مستند إلى من هو متنزه عن النقص متصف بالرحمة، أو مستأنفة في جواب كيف خلقت، قرأ حمزة والكسائي تفوت من التفعيل، والباقون من التفاعل ومعناهما واحد كالتعهد والمتعاهد، من الفتوت فإن كلا من المتفاوتين يفوت عند بعض ما في الآخر، يعني ليس اعوجاج ونقصان كما ترى في أبنية البشر ﴿ فارجع البصر ﴾ جواب شرط محذوف أي إن زعمت أن يظهر التفاوت بتكرار البصر فارجع البصر ﴿ هل ترى من فطور ﴾ أي شقوق من فطره إذا شتمه ومن زائدة أو تبعيضية والاستفهام للتقرير
﴿ ثم ارجع البصر كرتين ﴾ عطف على فارجع، والتثنية للتكثير، أي كرة كما في لبيك ﴿ ينقلب ﴾ مجزوم على جواب الأمر ﴿ إليك البصر خاسئا ﴾ أي بعيدا طريدا عن إصابة المطلوب مع الذل والصغار. ﴿ وهو حسير ﴾ كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة حال بعد حال من فاعل ينقلب، قال البغوي روي عن كعب : السماء الدنيا موج مكفوف والثانية من درة بيضاء والثالثة حديد والرابعة صفراء نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء ومن السماء السابعة إلى الحجب السبعة صحاري من نور.
﴿ ولقد زينا السماء الدنيا ﴾ أي السفلى وهي القريبة من الأرض، ﴿ بمصابيح ﴾ أي الكواكب فإنها مصابيح الظلم يهتدى بها الطرق وظاهر الآية تدل على أن الكواكب كلها مرتكزة في السماء الدنيا. وما زعمت الفلاسفة خذلهم الله، أمر لا دليل عليه، واستدلالهم بتعدد حركاتها على تعدد أفلاكها لا يتم إلا بعد ثبوت امتناع الخرق والالتئام على السماوات، وذلك جائز عقلا واجب شرعا. ﴿ وجعلناها ﴾ أي المصابيح ﴿ رجوما ﴾ لا بزوالها من مكانها، بل بانتقاض الشهب فيها ﴿ للشياطين ﴾ إذا استرقوا السمع ﴿ وأعتدنا ﴾ في الآخرة ﴿ عذاب السعير ﴾ النار الموقدة. ولما تضمن ما سبق من الكلام ذكر الشياطين، عقبهم ذكر عذاب الكفار، لكون الشياطين من زمرة الكفار، وكونهم إخوان الشياطين فقال ﴿ وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير٦ ﴾.
﴿ إذا ألقوا فيها ﴾ أي الذين كفروا في جهنم ﴿ سمعوا لها شهيقا ﴾ صوتا كصوت الحمار خارجا من النار نفسها، أو من الذين دخلوا فيها قبلهم أو من أنفسهم، لها : حال من شهيقا، قدم عليه لكونه نكرة، ﴿ وهي ﴾ أي جهنم ﴿ تفور ﴾ تغلي كغليان المرجل. أخرج هناد عن مجاهد تفور بهم كما يفور الحب القليل في الماء الكثير، وهذا على سبيل الاستعارة.
﴿ تكاد ﴾ جهنم ﴿ تميز ﴾ أي تنشق ﴿ من الغيظ ﴾ متعلق بتميز، والجملة حال من فاعل تفور، وجملة : وهي تفور، حال من ضمير لها، والمراد بالغيظ إما غيظ الله سبحانه أو غيظ ملائكة العذاب أو غيظ النار نفسها على أعداء الله تعالى، ونسبة الغيظ إلى النار إما بالمجاز على سبيل الاستعادة، أو بالحقيقة بعد إثبات الشعور لها كما أثبتناه في الجمادات، ﴿ كلما ألقي فيها فوج ﴾ جماعة من الكفار ﴿ سألهم خزنتها ﴾ توبيخا وتبكيتا ﴿ ألم يأتكم نذير ﴾ يخوفكم من عذاب الله، جملة مستأنفة في جواب ما يقال لهم حين يلقون، وكلها ظرف متعلق بسألهم، والاستفهام للتقرير.
﴿ قالوا ﴾ حكاية عن الحال للمستقبل، وهي مستأنفة أيضا كأنه في جواب ما يقولون حين يسألون كذلك ﴿ بلى ﴾ مفعول، قالوا ﴿ قد جاءنا نذير ﴾ فعيل صفة بمعنى الجمع، أو مصدر مقدر بمضاف، أي أهل إنذار، أو منعوت به للمبالغة، أو صفة بمعنى الواحد. والمعنى قالوا : قد جاء إلى كل منا نذير، والجملة مقررة، أعني بلى ﴿ فكذبنا ﴾ النذير وأفرطنا في التكذيب حتى ﴿ وقلنا ما نزل الله من شيء ﴾ فيه نفي للإنزال والإرسال ﴿ إن أنتم إلا في ضلال كبير ﴾ الظاهر أنه من كلام الكفار، مبالغة في تكذيبهم بالنسبة إلى الضلال الكبير، ويحتمل أن يكون من كلام الزبانية للكفار، على إرادة القول والنذير، إن كان بمعنى الواحد فالخطاب له ولأمثاله على التغليب، أو إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل.
﴿ وقالوا ﴾ عطف على قالوا ﴿ لو كنا نسمع ﴾ كلام نذير سماع قبول من غير عناد، فنؤمن بما ثبت بالأدلة السمعية، ﴿ أو نعقل ﴾ ونتفكر في الآيات والدلائل العقلية الموجبة للإيمان بالله تعالى والرسول وما جاء به. وتقديم السمع على العقل لكون الأدلة السمعية أولى بالاتباع وأحرى بإصابة الحق من الأدلة العقلية، العقل غير كاف بالاستقلال. والآية تدل على أن العقل السليم مطابق للوحي المنزل، ويحتمل أن يكون كلمة أو بمعنى الواو، يعني لو كنا نسمع كلام النذير، ونعقل معناه فنتفكر فيه تفكر المستبصرين ﴿ ما كنا في أصحاب السعير ﴾ في عددهم من جملتهم.
﴿ فاعترفوا ﴾ معطوف على قالوا عطف تفسير، ﴿ بذنبهم ﴾ حين لا ينفعهم الاعتراف وهو إقرار عن معرفة، والمراد بالذنب الكفر، ولم يجمع لأنه في الأصل مصدر. ﴿ فسحقا لأصحاب السعير ﴾ منصوب على المصدر، أي فأسحقهم الله سحقا، أي أبعدهم من رحمته، والتغير للإيجاز والمبالغة. قرأ الكسائي بضم الحاء والباقون بالسكون، وهما لغتان مثل الرعب والرعب، جملة الدعائية معترضة.
﴿ إن الذين يخشون ربهم بالغيب ﴾ يخافون عذابه غائبا عنهم لم يعاقبوه بعد، أو غائبين عنه أو عن أعين الناس لا كالمنافقين، أو بالمخفي منهم وهو قلوبهم ﴿ لهم مغفرة ﴾ لذنوبهم ﴿ وأجر كبير ﴾ يصغر بالنسبة إليه كل ما يخطر بالبال من اللذة. والجملة معترضة ذكر الله سبحانه وعد المؤمنين في مقابلة وعيد الكفار، وجعل عنوانهم خشية الله إشعارا بأن الخشية هي المقصود من الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ رأس الحكمة مخافته ﴾١
١ رواه البيهقي في الدلائل والعسكري في الأمثال والدليمي ورواه القضائي في مسنده انظر: كشف الخفاء (١٣٥٠).
رواه الحكيم الترمذي عن ابن مسعود قال ابن عباس : كان المشركون ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، فيخبره جبرائيل عليه الصلاة والسلام، لو أسروا قولكم كيلا يسمع أمر محمد فنزلت ﴿ وأسروا قولكم أو اجهروا به ﴾ أمر بمعنى الخبر، يعني هما سواء في علم الله، الخطاب إلى الكفار على الالتفات من الغيبة، وفيه تهديد. ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ أي بالضمار قبل أن يتكلم لها سرا أو جهرا، فهو تعليل للتسوية.
﴿ ألا يعلم ﴾ ما في الصدور ﴿ من خلق ﴾ الصدور وما فيها وكل شيء، أو المعنى : ألا يعلم الله من خلقه، الاستفهام للإنكار، وإنكار النفي إثبات العلم، فهو تأكيد بما سبق. ﴿ وهو اللطيف الخبير ﴾ المتوصل علمه إلى ما ظهر وما بطن، حال. من : فاعل خلق، ثم نبه الله تعالى على جهلهم ببيان بدائع صنعته، الدالة على اتساع علمه وقدرته، وعلى قبح صنعهم حيث كفروا في مقابلة الإنعام للشكر.
﴿ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ﴾ سهلا لا يمنع المشي فيها، كالناقة الذلول المنقادة. ﴿ فامشوا في مناكبها ﴾ جوانبها، ومنه منكب الرجل، وقيل المراد بالمناكب الجبال، وهذا مثل لفرط التذلل، فإن منكب البعير لا يطأه الراكب ولا يتذلل له، فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يمكن المشي في مناكبها، لم يبق شيء لم يتذلل. ﴿ وكلوا من رزقه ﴾ والتمسوا من نعمه، عطف على فامشوا ﴿ وإليه النشور ﴾ المرجع فيسألكم عن شكر ما أنعم الله عليكم.
﴿ آمنتم ﴾ قرأ قنبل النشور وآمنتم بقلب النشور وآمنتم بقلب همزة الاستفهام واوا في الوصل ويمد بعد الواو مدة في تقدير ألف، ولو وقف على النشور حقق الهمزة، والكوفيون وابن ذكوان بتحقيق الهمزتين والباقون بتليين الثانية، وهم على أصولهم في إدخال الألف وعدمه. ﴿ من في السماء ﴾ قال ابن عباس : أي عذاب من في السماء إن عصوا، والمراد بمن في السماء هو الله سبحانه، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول : من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفر فأغفر له }١ متفق عليه، وفي رواية لمسلم : ثم يبسط يديه ويقول من يعرض غير عدوم ولا ظلوم حتى يتفجر. فالآية من المتشابهات، لكونه تعالى منزها عن التمكين في السماء، فمذهب السلف السكوت. قول الصوفية كما ذكرنا في تفسير قوله تعالى :﴿ يأتيهم الله في ظلل من الغمام ﴾ ٢ وللمتأخرين تأويلات بأن في السماء أمره وقضاءه، أو هو فيها على زعم العرب، أو المراد بالسماء الرفعة والعلو من حيث التربة دون المكان، والاستفهام للإنكار وقيل : المراد بمن في السماء، الموكلين على تدبير الأمور، الذين هم بمنزلة الآلة الكاسبة لخسف الأرض، وإرسال الحاصب ﴿ أن يخسف بكم الأرض ﴾ فيغيبكم فيها كم فعل بقارون، وهو بدل من بدل اشتمال. ﴿ فإذا هي ﴾ أي الأرض ﴿ تمور ﴾ تتحرك، الجملة معطوفة على يخسف، وإذا للمفاجآت مضافة إلى الجملة، أي ففاجأه وقت كونها تضطرب وتتحرك.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التهجد: باب: الدعاء والصلاة من آخر الليل (١٠٩٤) وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب: الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل (٧٥٨).
٢ سور ة البقرة الآية ٢١٠.
﴿ أم أمنتم ﴾ أم منقطع، بمعنى هل، وهمزة الاستفهام للإنكار ﴿ من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ﴾ أي ريحا ذات حجارة كما فعل بقوم لوط ﴿ فستعلمون ﴾ معطوف على مضمون ما سبق، أي أنذركم فستعلمون ﴿ كيف نذير ﴾ أي إنذاري إذا شاهدتموه ولا ينفعكم العلم به، قرأ ورش نذيري وكذا نكيري بإثبات الياء فيهما وصلا، وحذفها فيهما وقفا، والباقون بالحذف في الحالين.
﴿ ولقد كذب الذين من قبلهم ﴾ جواب قسم محذوف، ﴿ فكيف كان نكير ﴾ إنكاري عليهم بإنزال العذاب فيهم، تسلية للرسول وتهديد للكفار، والاستفهام للتعجب والتقرير، والجملة الاستفهامية بتأويل الخبرية معطوفة على كذب، يعني كذبوا فعظم إنكاري عليهم، وفي هذه الجملة التفات من الخطاب إلى الغيبة.
﴿ أو لم يروا ﴾ الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على محذوف، تقديره : ألم ينظروا ما خلقنا من السماء والأرض وغيرهما، ولم يروا ﴿ إلى الطير فوقهم صافات ﴾ الظرف متعلق بصافات، وهي حال من الطير، والمراد بالرؤية رؤية البصر، بقرينة تعدية بإلى، يعني باسطات أجنحة من في الجو عند طيرانها، فإنهن إذا بسطن ضعفهن قوادمها ﴿ ويقبضن ﴾ أجنحتها إلى جنوبهن، عطف على صافات، وإنما عدل من الاسم إلى الفعل، ليدل على الحدوث والتجدد، فإن الأصل في الطيران إنما هو بسط الأجنحة، والقبض يحدث في وقت بعد وقت، الاستظهار به على التحرك. ويحتمل العطف على محذوف، أي يبسطن تارة ويقبضن أخرى. ﴿ ما يمسكهن ﴾ في الجو على خلاف الطبع ﴿ إلا الرحمان ﴾ والجملة حال من فاعل صافات، ﴿ إنه بكل شيء بصير ﴾ يعلم كيف يخلق الغرائب ويدبر العجائب.
﴿ أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان ﴾ أم متصلة بقوله تعالى :﴿ أو لم يروا ﴾ على معنى : ألم ينظروا في أمثال هذه الصنائع، فلم يعلموا قدرنا على تعذيبهم، بنحو الخسف وإرسال الحاصب، أم لكم جند ينصركم من دون الرحمان، ويدفع عنكم العذاب إن أرسل إليكم عذابه. وقيل أم ابتدائية ليست بمتصلة ولا منقطعة بمعنى الهمزة، وهل لئلا يلزم تكرار الاستفهام، ومن استفهامية مبتدأ وهذا خبره، والموصول مع الصلة صفة أو بدل منه، وينصركم وصف لجند، محمول على لفظه، وإنما ذكر اسم الإشارة والموصول، مع أنه يستفاد ذلك المعنى مع تركها، من قوله : أمن هو جند لكم، الخ، لأن في ذكر المفصل بعد المبهم وقع عظيم في القلب، ويحتمل أن يكون هذا مبتدأه، والموصول مع الصلة خبره، والجملة مفعول يقال محذوف، تقديره : أمن يقال هذا الذي هو جند لكم، والمراد بالجند المشار إليه بهذا في الآية وفيما بعدها، الأصنام التي عموها آلهة، يعني تلك الأصنام لا يتصور منهم أن ينصروا ويرزقوا، أو المراد أعوانهم بعضهم لبعض، ﴿ إن الكافرون إلا في غرور ﴾ من الشيطان، فإنه يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم، من غير ما يعتمد عليه، فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة.
﴿ أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ﴾ بإمساك المطر ومنع الأسباب المحصلة والموصولة إليكم، أو إبطال تأثيرها. والكلام فيه كالكلام في أمن هذا الذي فيما سبق. ﴿ بل لجو ﴾ يعني الكفار ﴿ وسقاهم ربهم ﴾ إضلال ﴿ ونفور ﴾ تباعد عن الحق بفرط جهلهم وتنفر طباعهم عنه.
﴿ أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ﴾ الهمزة للاستفهام للتقرير أي حمل المخاطب على الإقرار بالحق، والفاء زائدة ومن موصولة مبتدأ وأهدى خبره، ومكبا حال من فاعل يمشي، والإكباب من الكب، يقال كببته فأكب، وهو من الغرائب، كقشع الله السحاب فأقشع، أو المعنى مكبا نفسه على وجهه، قال في القاموس : كبه قلبه وصرعه كأكبه، وكببته فأكب وهو لازم ومتعد، وقيل مضاه صار ذا كب، أي يمشي ويعثر كل ساعة ويخر على وجهه، لوعور طريقه واختلاف أعوانه﴿ أمن يمشي سويا ﴾ قائما مائلا من العناد ﴿ على صراط مستقيم ﴾ مستوي الأجزاء. و خبر من هاهنا محذوف اكتفاء على ما سبق في المعطوف عليه، فالواجب هاهنا الإقرار بأن الماضي سويا على صراط مستقيم أهدى، فكذلك المؤمن الذي يمشي على بصيرة على مسلك العقل والنقل، أهدى من الكافر الذي لا يسمع ولا يعقل، وكلمة أهدى لا تقتضي وجود أصل الهداية في المفضل عليه تحقيقا، بل يكفي وجوده فرضا وتقديرا، قال قتادة : من أكب على المعاصي في الدنيا، يمشي مكبا على وجهه يوم القيامة، والمؤمن من يمشي يوم القيامة سويا. أخرج الشيخان عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل كيف يحشر الكافر على وجهه ؟ قال :( أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة )١ وروى أبو داود عن أبي هريرة نحوه، وفي هذه الجملة تشنيع آخر على الكفار، ولما كان قوله تعالى :﴿ أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم ﴾ وقوله تعالى :﴿ أمن هذا الذي يرزقكم ﴾ لإنكار النصر والرزق من جندهم، اقتضى السؤال بأن يقال : فمن ينصرنا ويرزقنا ؟ أجيب بقوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُون ﴾
١ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق: باب: كيف الحشر ﴿٦١٥٨﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار باب: يحشر الكافر على وجهه ﴿٢٨٠٦﴾.
﴿ قل ﴾ إنما ينصركم ويرزقكم ﴿ هو الذي أنشأكم ﴾ لتعرفوا ربكم وتبعدوه ﴿ وجعل لكم السمع ﴾ تسمعوا المواعظ ﴿ والأبصار ﴾ لتنظروا صنائعه ﴿ والأفئدة ﴾ لتتفكروا وتعتبروا. ولما كان السمع في الأصل مصدرا، والمصدر لا يجمع ذكره بصيغة الإفراد، بخلاف البصر والفؤاد، وأيضا العلم الحاصل بالسمع نوع واحد، وهو الصوت، والحاصل بالبصر والفؤاد أنواع مختلفة. ﴿ قليلا ﴾ أي شكرا قليلا، وزمانا قليلا. ﴿ ما ﴾ زائدة لتأكيد القلة ﴿ تشكرون ﴾ والمراد بالقلة النفي رأسا مجازا.
﴿ قل ﴾ كلمة قل زائدة أعيدت للتأكيد، ﴿ هو الذي ذرأكم في الأرض ﴾ بدل من هو الذي أنشأكم، ﴿ وإليه تحشرون ﴾ للجزاء، حال مقدرة من فاعل ذرأكم، فهاتان الجملتان على طريقة جاء زيد وهو راكب.
﴿ ويقولون ﴾ يعني الكفار إنكار الوعد واستبطاءه ﴿ متى هذا الوعد ﴾ أي وعد الحشر ﴿ إن كنتم ﴾ أيها النبي والمؤمنون ﴿ صادقين ﴾ في قولكم بالحشر، فبينوا وقته.
﴿ قل ﴾ مستأنفة في جواب ما أقول لهم في الجواب ﴿ إنما العلم ﴾ أي العلم بوقته ﴿ عند الله ﴾ لا يعلم غيره ﴿ وإنما أنا نذير مبين ﴾ والإنذار يكفي له العلم بوقوع المحذر منه، ولا يتوقف على العلم بوقته، والجملتان بالعطف مقولة قل.
﴿ فلما رأوه ﴾ أي الوعد بمعنى الموعود، قال أكثر المفسرين المراد به العذاب في الآخرة، وقال مجاهد العذاب ببدر. ﴿ زلفة ﴾ أي ذا زلفة وقرب منهم، حال من ضمير المفعول، ولما ظرف متعلق بقوله تعالى :﴿ سيئت ﴾ أي اسودت وقبحت ﴿ وجوه الذين كفروا ﴾ برؤية العذاب ﴿ وقيل هذا ﴾ العذاب ﴿ الذي كنتم به تدعون ﴾ أي تطلبون وتستعجلون من الدعاء، أو من الدعوى أي تدعون أن لا بعث.
﴿ قل ﴾ يا محمد صلى الله عليه وسلم لمشركي مكة، الذين يتمنون هلاككم ﴿ أرأيتم إن أهلكني ﴾ قرأ حمزة بإسكان الياء، والباقون بالفتح، ﴿ الله ومن معي ﴾ قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بإسكان الياء، والباقون بالفتح ﴿ أو رحمنا ﴾ بتأخير آجالنا، الاستفهام في أرأيتم للتقرير، والرؤية بمعنى العلم. معناه أخبروني، والجملة الشرطية بعد أفعال القلوب كالنفي والاستفهام، يوجب التعليق. ﴿ فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ﴾ الاستفهام للإنكار، والجملة جزاء للشرط، يعني لا أحد يجيرهم، والحاصل أنه لا فائدة لكم في هلاكنا حتى تطلبونه، إنما يفيدكم أن تتبعوا من يجيركم من عذاب الله، ولا يتصور ذلك من الأصنام. وقيل معناه إن أهلكني ومن معي، يعني المؤمنين يعذبهم الله بذنوبهم، أو رحمنا ويغفر لنا، فنحن مع إيماننا خائفون عذاب الله لأجل ذنوبنا، فإن حكمه نافذ، فمن يجيركم من عذابه وأنتم كفار ؟.
﴿ قل هو الرحمان ﴾ يعني الذي ذكر فيما سبق دلائل وجوده وقدرته وسلطانه، هو الرحمان الذي أعبده وأدعوكم إليه، وهو مولي النعم كلها. ﴿ آمنا به ﴾ للعلم بذلك فيه تقرير بمضمون جملة هو الرحمان ﴿ وعليه توكلنا ﴾ لوثوق عليه المبني على الإيمان به. وتقديم الظرف تفيد الرحمان فهذه الجملة يقرر مضمون الجملتين السابقتين وهذه الآية بمنزلة النتيجة للبراهين السابقة، ويترتب عليه الحكم بحال الفريقين : المؤمنين والكافرين، ولذا جاء بفاء السببية في قوله تعالى :﴿ فستعلمون ﴾يوم الجزاء. قرأ الكسائي بالياء والباقون بالتاء، وتعلمون معلق بالجملة الاستفهامية الواقعة بعده، أعني﴿ من هو في ضلال مبين ﴾ نحن وأنتم، وفيه تهديد وترهيب، وكذا في قوله تعالى :﴿ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم ﴾.
﴿ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم ﴾ وزنه وزن ﴿ قل أرأيتم إن أهلكني الله ﴾ الآية. ﴿ غورا ﴾ غايرا في الأرض بحيث لا تناله الدلاء، مصدر وصف به. ﴿ فمن يأتيكم بماء معين ﴾ مشتق من العين الجارية، أي ماء جار، أو من العين الباصرة، أي مرئي ظاهر، سهل المأخذ، فإن بديهة العقل شاهد على أن هذه الأصنام لا تقدر على إتيانه، بل لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه، ويستحب للقارئ أن يقول حين ختم هذه السورة : الله رب العالمين. قال الشيخ جلال الدين المحلي رحمه الله : كذا ورد في الحديث.
Icon