فيها سبع وعشرون آية
ﰡ
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ :﴿ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِك حَرَجٌ مِنْهُ ﴾ نَهْيٌ فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُ لِنَفْيِ الْحَرَجِ. وَعَجَبًا لَهُ مَعَ عَمَلٍ يَقَعُ فِي مِثْلِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَنْهَى عَنْ أَشْيَاءَ وَتُوجَدُ، وَيَأْمُرُ بِأَشْيَاءَ فَلَا تُوجَدُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ حَالِهِ ؛ قِيلَ لِمُحَمَّدٍ :﴿ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِك حَرَجٌ مِنْهُ ﴾، وَأُعِينَ عَلَى امْتِثَالِ النَّهْيِ بِخَلْقِ الْقُدْرَةِ لَهُ عَلَيْهِ ؛ كَمَا فَعَلَ بِهِ فِي سَائِرِ التَّكْلِيفَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْحَرَجُ هُوَ الضِّيقُ. وَقِيلَ : هُوَ الشَّكُّ. وَقِيلَ : هُوَ التَّبَرُّمُ ؛ وَإِلَى الْأَوَّلِ يَرْجِعُ ؛ فَإِنْ كَانَ هُوَ الشَّكُّ فَقَدْ أَنَارَ اللَّهُ فُؤَادَهُ بِالْيَقِينِ، وَإِنْ كَانَ التَّبَرُّمُ فَقَدْ حَبَّبَ اللَّهُ إلَيْهِ الدِّينَ، وَإِنْ كَانَ الضِّيقُ فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِالْعُلُومِ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ بِالْمَعَارِفِ، وَذَلِكَ مِمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ من عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَخَفَّفَ عَلَيْهِ ثِقَلَ الْعِبَادَةِ حَتَّى جُعِلَتْ قُرَّةَ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ فَكَانَ يَقُولُ :( أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالٌ ). وَمِنْ تَمَامِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ النَّشَاطُ إلَيْهَا، وَالْخِفَّةُ إلَى فِعْلِهَا، وَخُصُوصًا الصُّبْحَ وَالْعِشَاء ؛ فَهُمَا أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ حَسْبَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ :( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : فَذَكَرَ من حَدِيثِ : أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ ).
وَلَيْسَ يَخْلُو أَحَدٌ عَنْ وُجُودِ الثِّقَلِ ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ تَكْلِيفًا، بَيْدَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَحْتَمِلُهُ وَيَخْرُجُ بِالْفِعْلِ عَنْهُ، وَالْمُنَافِقُ يُسْقِطُهُ.
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَالْعَاصِي إذَا أَسْقَطَهُ أَمُنَافِقٌ هُوَ ؟ قُلْنَا : لَا، وَلَكِنَّهُ فَاعِلٌ فِعْلَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ :﴿ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ ﴾ أَيْ فَعَلَ فِعْلَ الْكُفَّارِ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ :
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَاهُ أَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ، وَاسْتَبِيحُوا مُبَاحَهُ، وَارْجُوا وَعْدَهُ، وَخَافُوا وَعِيدَهُ، وَاقْتَضُوا حُكْمَهُ، وَانْشُرُوا من عِلْمِهِ عِلْمَهُ، وَاسْتَجْسُوا خَبَايَاهُ، وَلِجُوا زَوَايَاهُ، وَاسْتَثِيرُوا جَاثِمَهُ ؛ وَفُضُّوا خَاتَمَهُ، وَأَلْحِقُوا بِهِ مُلَائِمَهُ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : بِاتِّبَاعِ مَا يُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ عَارَضَهُ إذَا وَضَّحَ مَسْلَكَهُ ؛ فَتَارَةً يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، وَأُخْرَى خَاصًّا وَمُتَمِّمًا فِي حُكْمٍ عَلَى طُرُقِ مَوَارِدِهِ الْمَعْلُومَةِ، بِشُرُوطِهَا الْمَحْصُورَةِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : بِأَيِّ شَيْءٍ سَتَرَهَا ؟ : فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : سَتَرَهَا بِعَقْلِهِ حِينَ رَأَى ذَلِكَ من نَفْسِهِ مُنْكَشِفًا، مِنْهُمْ : الْقَدَرِيَّةُ، وَبِهِ قَالَ أَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَتَرَهَا اسْتِمْرَارًا عَلَى عَادَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّمَا سَتَرَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَتَرَهَا بِعَقْلِهِ فَإِنَّهُ بَنَاهَا عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ وَيَحْظُرُ وَيُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ، وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ وَهِيَ أَقْضَى الْقُضَاةِ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَتَرَهَا من ذَاتِ نَفْسِهِ من غَيْرِ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ سَتَرَهَا عَادَةً. وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَتَرَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ، فَذَلِكَ صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ وَعَرَّفَهُ الْأَحْكَامَ فِيهَا، وَأَسْجَلَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مِمَّنْ سَتَرَهَا ؟ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَهْلُهُ الَّذِينَ يَنْكَشِفُ عَلَيْهِمْ وَيَنْكَشِفُونَ عَلَيْهِ. ؟ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ وُجُوبَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَأَحْكَامِهَا وَمَحَلِّهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ آدَم سَتَرَهَا من زَوْجِهِ بِأَمْرٍ جَازِمٍ فِي شَرْعِهِ، أَوْ بِأَمْرِ نَدْبٍ، كَمَا هُوَ عِنْدَنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا رَأَى سَتْرَهَا إلَّا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى كَشْفِهَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ من شَرْعِهِ أَنَّهُ لَا يَكْشِفُهَا إلَّا لِلْحَاجَةِ. وَيَجُوزُ أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِسَتْرِهَا فِي الْخَلْوَةِ، ﴿ وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَتْرِهَا فِي الْخَلْوَةِ، وَقَالَ : اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُ ﴾. وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَأْتِ من ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا بِأَمْرٍ من اللَّهِ لَا بِمُجَرَّدِ عَقْلٍ، إذْ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ اقْتِضَاءِ الْعَقْلِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي نُزُولِهَا :
قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، أُمِرُوا بِاللِّبَاسِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالزَّجَّاجُ : نَزَلَتْ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا لَيْسَ يُدَافِعُ الْأَوَّل ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَةً فَتَقُولُ : مَنْ تُعِيرُنِي تِطْوَافًا ؟ فَتَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقُولُ :
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ *** وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
جَهْمٌ من الْجَهْمِ عَظِيمٌ ظِلُّهُ *** كَمْ من لَبِيبٍ عَقْلُهُ يُضِلُّهُ
وَنَاظِرٍ يَنْظُرُ مَا يَمَلُّهُ ***. . .
فَنَزَلَتْ :﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ ضُبَاعَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنُ قُرْطٍ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، إلَّا الْحُمْسَ : قُرَيْشٌ وَأَحْلَافُهُمْ، فَمَنْ جَاءَ من غَيْرِهِمْ وَضَعَ ثِيَابَهُ وَطَافَ فِي ثَوْبٍ أَحْمَسِيٍّ، فَيَحِلُّ له أَنْ يَلْبَسَ ثِيَابَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعِيرُهُ مَا يَلْبَسُ من الْحُمْسِ فَإِنَّهُ يُلْقِي ثَوْبَهُ وَيَطُوفُ عُرْيَانًا، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ). فَنُودِيَ بِهَا فِي الْمَوْسِمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِذَلِكَ :
إنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ رَأَتْ رَأْيًا تَكِيدُ بِهِ الْعَرَبَ، فَقَالُوا : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ؛ لَا تُعَظِّمُوا شَيْئًا من الْبُلْدَانِ كَتَعْظِيمِ حَرَمِكُمْ، فَتَزْهَدَ الْعَرَبُ ؛ فِي حَرَمِكُمْ إذَا رَأَوْكُمْ قَدْ عَظَّمْتُمْ من الْبُلْدَانِ غَيْرَهُ كَتَعْظِيمِهِ، فَعَظِّمُوا أَمْرَكُمْ فِي الْعَرَبِ ؛ فَإِنَّكُمْ وُلَاةُ الْبَيْتِ وَأَهْلُهُ دُونَ النَّاسِ ؛ فَوَضَعُوا لِذَلِكَ الْأَمْرِ أَنْ قَالُوا : نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ، فَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُعَظِّمَ غَيْرَهُ، وَلَا نَخْرُجَ مِنْهُ ؛ فَكَانُوا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ دُونَ عَرَفَةَ ؛ لِأَنَّهَا خَارِجٌ من الْحَرَمِ، وَكَانَتْ سُنَّةَ إبْرَاهِيمَ وَعَهْدًا من عَهْدِهِ، ثُمَّ قَالُوا : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من الْعَرَبِ أَنْ يَطُوفَ إلَّا فِي ثِيَابِنَا، وَلَا يَأْكُلَ إذَا دَخَلَ أَرْضَنَا إلَّا من طَعَامِنَا، وَلَا يَأْكُلَ الْأَقِطَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ بِالْأَدَمِ إلَّا الْحُمْسُ، وَهُمْ قُرَيْشٌ، وَمَا وَلَدَتْ من الْعَرَبِ وَمَنْ كَانَ يَلِيهَا من حُلَفَائِهَا من بَنِي كِنَانَةَ ؛ فَكَانَ الرَّجُلُ من الْعَرَبِ أَوْ الْمَرْأَةُ يَأْتِيَانِ حَاجَّيْنِ، حَتَّى إذَا أَتَيَا الْحَرَمَ وَضَعَا ثِيَابَهُمَا وَزَادَهُمَا، وَحَرُمَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَدْخُلَا مَكَّةَ بِشَيْءٍ من ذَلِكَ : فَإِنْ كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ صَدِيقٌ من الْحُمْسِ اسْتَعَارَ من ثِيَابِهِ وَطَافَ بِهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَدِيقٌ مِنْهُمْ، وَكَانَ لَهُ يَسَارٌ اسْتَأْجَرَ من رَجُلٍ من الْحُمْسِ ثِيَابَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَدِيقٌ وَلَا يَسَارٌ يَسْتَأْجِرُ بِهِ كَانَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَإِمَّا أَنْ يَتَكَرَّمَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا فَيَطُوف فِي ثِيَابِهِ ؛ فَإِذَا فَرَغَ من طَوَافِهِ أَلْقَى ثَوْبَهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَمَسَّهُ، وَلَمْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ من النَّاسِ ؛ فَكَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ يُسَمَّى اللَّقَى قَالَ قَائِلٌ من الْعَرَبِ :
كَفَى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ *** لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ
وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ وَلَمْ تَجِدْ مَنْ يُعِيرُهَا وَلَا كَانَ لَهَا يَسَارٌ تَسْتَأْجِرُ بِهِ [ خَلَعَتْ ] ثِيَابَهَا كُلَّهَا إلَّا دِرْعًا مُفْرَدًا، ثُمَّ طَافَتْ فِيهِ ؛ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ من الْعَرَبِ -كَانَتْ جَمِيلَةً تَامَّةً ذَاتَ هَيْئَةٍ- وَهِيَ تَطُوفُ :
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ *** وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ من الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلَ فِيمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا :﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ. . . ﴾ إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَوَضَعَ اللَّهُ مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعَتْ من ذَلِكَ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي تَرْكِهِمْ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ :﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ قُرَيْشًا وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ، هَلْ هِيَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فَقَالُوا : إنَّهَا فَرْضٌ فِيهَا. وَأَمَّا مَالِكٌ فَالْمَشْهُورُ من قَوْلِهِ أَنَّهَا فَرْضٌ إسْلَامِيٌّ لَا تَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ ؛ وَهُوَ أَشْهَرُ أَقْوَالِنَا. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ مِثْلَ قَوْلِ مَنْ تَقَدَّمَ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِمَا ثَبَتَ من ( أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ )، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا إسْلَامِيًّا فَإِنَّهُ يَتَأَكَّدُ فِي الصَّلَاةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْعَوْرَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
الْأَوَّلِ : جَمِيعُ الْبَدَنِ ؛ فَيَجِبُ سَتْرُهُ فِي الصَّلَاةِ ؛ قَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ عَنْهُ.
الثَّانِي : أَنَّهَا من السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ ؛ إنَّمَا الْخِلَافُ -وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ- فِي أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ هَلْ هُوَ عَوْرَةٌ مُثَقَّلَةٌ أَوْ مُخَفَّفَةٌ ؟ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ عَوْرَةٌ مُثَقَّلَةٌ، وَالْفَخِذَ عَوْرَةٌ مُخَفَّفَةٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَخِذَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ ؛ ( لِأَنَّهَا ظَهَرَتْ من النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ جَرَى فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصِلُهَا بِأَفْخَاذِ أَصْحَابِهِ، وَلَوْ كَانَتْ عَوْرَةً مَا وَصَلَهَا بِهَا ). قَالَ زَيْدٌ :( نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيُ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي )، أَمَّا إنَّهُ يُكْرَهُ كَشْفُهَا فَإِنَّ مَالِكًا وَغَيْرَهُ قَدْ رَوَى حَدِيثَ جَرْهَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ :( غَطِّ فَخِذَك ؛ فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ ) ؛ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ :" قَوْله تَعَالَى :﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ ﴾ وَإِنْ كَانَ وَارِدًا عَلَى طَوَافِ الْعُرْيَانِ، فَإِنَّهُ عِنْدَنَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ ؛ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّوَافَ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ. وَاَلَّذِي يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ هُوَ الصَّلَاةُ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ مَقَاصِدُ اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً فِي الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ :( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )، لِيَكُونَ الْعُمُومُ شَامِلًا لِكُلِّ مَسْجِدٍ، وَالسَّبَبُ الَّذِي أَثَارَ ذَلِكَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ، وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ هُمْ أَرْبَابُ اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ نِظَامُ الْكَلَامِ، وَلَا كَيْفَ كَانَ وُرُودُهُ، اجتزءوا بِوُرُودِ الْآيَةِ وَمَنْحَاهَا، فَلَا مَطْمَعَ لِعَالِمٍ فِي أَنْ يَسْبِقَ شَأْوَهُمْ فِي تَفْسِيرٍ أَوْ تَقْدِيرٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ :
قَالَ بَعْضُهُمْ : ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ الْوُرُودُ بِأَخْذِ الزِّينَةِ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي الْمَسْجِدِ، تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ السَّتْرِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، فَزَادَ النَّاسُ، فَقَالُوا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ لِلْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ بِالسَّتْرِ فِي الْمَسْجِدِ لِبَيْنِ الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي الْمَسْجِدِ.
وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : طَوَافٍ، وَلَا يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ وَاعْتِكَافٍ، وَلَمْ يَشْرُفْ لِأَجْلِهِ ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الصَّلَاةُ ؛ وَقَدْ أُلْزِمَ السَّتْرَ لَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهَا.
وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ مَا زَادَ عَلَى الْعَوْرَةِ، وَبَقِيَ مَا قَابَلَ الْعَوْرَةَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا من قَبْلُ ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ مَا فِيهِ من اجْتِمَاعِ النَّاسِ.
فَإِنْ قِيلَ : وَيَجْتَمِعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ.
قُلْنَا : لَيْسَ ذَلِكَ اجْتِمَاعًا مَشْرُوعًا ؛ بَلْ يَجُوزُ تَفَرُّقُهُمْ. وَهَا هُنَا إنْ تَفَرَّقُوا فِي الْمَسَاجِدِ كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِلْجَمَاعَةِ، وَخَرْقًا لِلصُّفُوفِ ؛ إذْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :( لَا يَنْظُرُ الرَّ
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ زِينَةَ اللَّهِ ﴾ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : سَتْرُ الْعَوْرَةِ ؛ إذْ كَانَتْ الْعَرَبُ تَطُوفُ عُرَاةً ؛ إذْ كَانَتْ لَا تَجِدُ مَنْ يُعِيرُهَا من الْحُمْسِ.
الثَّانِي : جَمَالُ الدُّنْيَا فِي ثِيَابِهَا وَحُسْنُ النَّظْرَةِ فِي مَلَابِسِهَا وَلَذَّاتِهَا.
الثَّالِثِ : جَمْعُ الثِّيَابِ عِنْدَ السِّعَةِ فِي الْحَالِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : إذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا. جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، وَصَلَّى رَجُلٌ فِي إزَارٍ أَوْ رِدَاءٍ، فِي إزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ. وَأَحْسِبُهُ قَالَ فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ. وَالتُّبَّانُ : ثَوْبٌ يُشْبِهُ السَّرَاوِيلَ فَسَّرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِي كَذَلِكَ، وَعَلَيْهِ نُقِلَ الْحَدِيثُ ؛ فَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ، فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُ الْأَعْرَابِيُّونَ من لَحْنِ الْحَدِيثِ مَا لَمْ يَجِدُوهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ فِي قَوْلِهِ :﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا ﴾ وَهِيَ : الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَلَوْلَا وُجُوبُ سَتْرِهَا مَا وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِاللِّبَاسِ الَّذِي يُوَارِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا وَقَعَ الِامْتِنَانُ فِي سَتْرِهَا لِقُبْحِ ظُهُورِهَا.
قُلْنَا : مَاذَا يُرِيدُونَ بِهَذَا الْقُبْحِ ؟ أَيُرِيدُونَ بِهِ قُبْحًا عَقْلًا، فَنَحْنُ لَا نُقَبِّحُ بِالْعَقْلِ، وَلَا نُحَسِّنُ ؛ وَإِنَّمَا الْقَبِيحُ عِنْدَنَا مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ، وَالْحَسَنُ، مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالطَّيِّبَاتُ من الرِّزْقِ ﴾ :
قِيلَ : هِيَ الْحَلَالُ. وَقِيلَ : هِيَ اللَّذَّاتُ، وَكُلُّ لَذَّةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً فَإِنْ اسْتِدَامَتَهَا وَالِاسْتِرْسَالَ عَلَيْهَا مَكْرُوهٌ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ :
يَعْنِي بِحَقِّهَا من تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالتَّصْدِيقِ لَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْعِمُ وَيَرْزُقُ ؛ فَإِنْ وَحَّدَهُ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ وَصَدَّقَهُ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ النِّعْمَةِ، وَإِنْ كَفَرَ فَقَدْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ من نَفْسِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :( لَا أَحَدَ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى من اللَّهِ، يُعَاقِبُهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَهُمْ يَدَّعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ ).
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ :
يَعْنِي : أَنَّ الْكُفَّارَ يَشْرَكُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي اسْتِعْمَالِ الطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا. فَإِذَا كَانَ فِي الْقِيَامَةِ خَلَصَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي النَّعِيمِ، وَكَانَ لِلْكُفَّارِ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ الْفَوَاحِشِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَإِنَّ كُلَّ فَاحِشَةٍ ظَاهِرَةٍ لِلْأَعْيُنِ، أَوْ ظَاهِرَةٍ بِالْأَدِلَّةِ، كَمَا وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ أَوْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، أَوْ قَامَ الدَّلِيلُ الْجَلِيُّ بِهِ، فَيَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الظَّاهِرَةِ.
وَالْبَاطِنَةُ كُلُّ مَا خَفِيَ عَنْ الْأَعْيُنِ، وَيُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِتَارُ عَنْ الْخَلْقِ ؛ أَوْ خَفِيَ بِالدَّلِيلِ ؛ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالنَّبِيذِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي الصِّنْفَيْنِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيذَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فِيهِ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ جَلِيٌّ فِي الدَّلِيلِ، قَوِيٌّ فِي التَّأْوِيلِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :﴿ لَا أَحَدَ أَغْيَرَ من اللَّهِ ﴾.
وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الْإِثْمَ ﴾ :
وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الذَّمِّ الْوَارِدِ فِي الْفِعْلِ، أَوْ الْوَعِيدِ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ ؛ فَكُلُّ مَذْمُومٍ شَرْعًا أَوْ فِعْلٍ وَارِدٍ عَلَى الْوَعِيدِ فِيهِ، فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ وَهُوَ حَدُّ الْمُحَرَّمِ وَحَقِيقَتُهُ. وَأَمَّا الْبَغْيُ، وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْبَغْيُ : فَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ. وَوَجْهُ ذِكْرِهِمَا بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي جُمْلَةِ الْفَوَاحِشِ لِلتَّأْكِيدِ لِأَمْرِهِمَا بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي الِاسْمِ الْعَامِّ قَصْدَ الزَّجْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾ ؛ فَذَكَرَ النَّخْلَ وَالرُّمَّانَ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي الِاسْمِ الْعَامِّ عَلَى مَعْنَى الْحَثِّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ :﴿ يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ قَالَ قَوْمٌ : إنَّ الْإِثْمَ اسْمٌ من أَسْمَاءِ الْخَمْرِ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ :﴿ قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ ﴾ الْخَمْرَ، حَتَّى قَالَ الشَّاعِرُ :
شَرِبْت الْإِثْمَ حَتَّى زَالَ عَقْلِي | كَذَاك الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ |
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْأَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ الْفَرْضِيَّةِ الْجَهْرُ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ النَّفْلِيَّةِ السِّرُّ ؛ وَذَلِكَ لِمَا يَتَطَرَّقُ إلَى النَّفْلِ من الرِّيَاءِ وَالتَّظَاهُرِ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَالتَّفَاخُرِ عَلَى الْأَصْحَابِ بِالْأَعْمَالِ، وَجُبِلَتْ قُلُوبُ الْخَلْقِ بِالْمَيْلِ إلَى أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَقَدْ جَعَلَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ فِي الْعِبَادَاتِ ذِكْرًا جَهْرًا وَذِكْرًا سِرًّا، بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ أَنْشَأَهَا بِهَا وَرَتَّبَهَا عَلَيْهَا ؛ وَذَلِكَ لِمَا عَلَيْهِ قُلُوبُ الْخَلْقِ من الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا الذِّكْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَانْقَسَمَ حَالُهُ إلَى سِرٍّ وَجَهْرٍ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَلَمْ يُشْرَعْ مِنْهُ شَيْءٌ جَهْرًا ؛ لَا فِي حَالَةِ الْقِيَامِ وَلَا فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ، وَلَا فِي حَالَةِ السُّجُودِ ؛ لَكِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ قَارِئِ الْفَاتِحَةِ :( آمِينْ ) هَلْ يُسِرُّ بِهَا أَمْ يَجْهَرُ ؟ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نُوحٌ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ بِتَحْرِيمِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَسَائِرِ الْفَرَائِضِ ؛ كَذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْأَثَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَمَنْ قَالَ من الْمُؤَرِّخِينَ : إنَّ إدْرِيسَ كَانَ قَبْلَهُ فَقَدْ وَهِمَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ وَهْمِهِ فِي اتِّبَاعِهِ صُحُفَ الْيَهُودِ، وَكُتُبَ –الإسرائليات- الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ { فِي الْإِسْرَاءِ، حِينَ لَقِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آدَمَ وَإِدْرِيسَ، فَقَالَ لَهُ آدَم : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ. وَقَالَ لَهُ إدْرِيسُ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ. وَلَوْ كَانَ إدْرِيسُ أَبًا لِنُوحٍ عَلَى صُلْبِ مُحَمَّدٍ لَقَالَ لَهُ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. فَلَمَّا قَالَ لَهُ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي أَبِيهِمْ نُوحٍ، وَلَا كَلَامَ لِمُنْصِفٍ بَعْدَ هَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ نُوحًا سُمِّيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَاحَ عَلَى قَوْمِهِ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ من فِعْلِهِ مَعَهُمْ، وَالنَّوْحُ هُوَ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَكَانُوا مَوْتَى فِي أَدْيَانِهِمْ لِعَدَمِ إجَابَتِهِمْ دُعَاءَهُ لَهُمْ إلَى الْإِيمَانِ، وَإِبَايَتِهِمْ عَنْ قَبُولِهِمْ لِلتَّوْحِيدِ ؛ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ الِاشْتِقَاقُ يُعَضِّدُهُ من وَجْهٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ من الْأَسْمَاءِ قَبْلَ إسْمَاعِيلَ لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً. أَمَّا إنَّ ذِكْرَ الْعُلَمَاءِ لِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَةٍ ؛ وَهِيَ جَوَازُ اشْتِقَاقِ الْأَسْمَاءِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ من الْأَفْعَالِ الَّتِي يَتَكَسَّبُونَهَا، إذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ، ( وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَنَّى الدَّوْسِيَّ من أَصْحَابِهِ بِهِرَّةٍ كَانَ يَكْتَسِبُ لُزُومَهَا مَعَهُ، وَدَعَاهُ لِذَلِكَ بِأَبِي هُرَيْرَةَ )، فِي أَمْثَالٍ لِهَذَا كَثِيرَةٍ من آثَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ : وَأَيُّ مَدْحٍ فِي لُزُومِ الْهِرَّةِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّهَا من الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ يَصْغَى لَهَا الْإِنَاءُ، وَلَا تُفْسِدُ الْمَاءَ إذَا وَلَغَتْ فِيهِ، وَفِيهَا مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ تَكُفُّ إذَايَةَ الْفَأْرِ، وَمَا يُؤْذِي الْإِنْسَانَ من الْحَشَرَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : الطُّوفَانُ الْمَاءُ، وَالْجَرَادُ كَانَ يَأْكُلُ الْمَسَامِيرَ، وَإِنَّ سَفِينَةَ نُوحٍ أَتَتْ الْبَيْتَ فِي جَرَيَانِهَا فَطَافَتْ بِهِ سَبْعًا. وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ هَذَا لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ جَمَاعَةً من الْمُفَسِّرِينَ رَوَتْ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ﴿ أَنَّ الطُّوفَانَ هُوَ الْمَوْتُ ﴾.
وَحَقِيقَةُ الطُّوفَانِ وَهُوَ الثَّانِي أَنَّهُ مَصْدَرٌ من طَافَ، أَوْ جَمْعٌ، وَاحِدَتُهُ طُوفَانَةٌ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ :﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا. . . ﴾ الْآيَةَ.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْفَاحِشَةُ : قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ، وَهِيَ إتْيَانُ الرِّجَالِ بِاسْمِ الْفَاحِشَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهَا زِنًا، كَمَا قَالَ :﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمَّا ارْتَكَبُوا هَذِهِ الْفَاحِشَةَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً من سِجِّيلٍ جَزَاءً عَلَى فِعْلِهِمْ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُعَزَّرُ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
الثَّانِي : قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ : يُحَدُّ حَدُّ الزَّانِي، مُحْصَنًا بِجَزَائِهِ وَبِكْرًا بِجَزَائِهِ.
الثَّالِثُ : قَالَ مَالِكٌ : يُرْجَمُ أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصَنْ ؛ وَقَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ.
أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يُعَزَّرُ فَتَعَلَّقَ بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَزْنِ، وَعُقُوبَةُ الزَّانِي مَعْلُومَةٌ ؛ فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ غَيْرَهَا وَجَبَ أَلَّا يُشَارِكَهَا فِي حَدِّهَا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ زِنًا فَنَحْنُ الْآنَ نُثْبِتُهُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ، فَيَقُولُ : قَدْ بَيَّنَّا مُسَاوَاتَهُ لِلزِّنَا فِي الِاسْمِ، وَهِيَ الْفَاحِشَةُ، وَهِيَ مُشَارَكَةٌ لَهُ فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى مُحَرَّمٌ شَرْعًا، مُشْتَهًى طَبْعًا ؛ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ مَعَهُ إيلَاجٌ وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُشْتَهَى، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَامِلًا ؛ بَلْ هَذَا أُحْرَمُ وَأَفْحَشُ ؛ فَكَانَ بِالْعُقُوبَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا وَطْءٌ فِي فَرْجٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إحْلَالٌ وَلَا إحْصَانٌ، وَلَا وُجُوبُ مَهْرٍ، وَلَا ثُبُوتُ نَسَبٍ ؛ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَدٌّ.
قُلْنَا : هَذَا بَيَانٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ ؛ فَإِنَّ بَقَاءَ هَذِهِ الْمَعَانِي فِيهِ لَا يُلْحِقُهُ بِوَطْءِ الْبَهِيمَةِ، إنَّمَا يُعَظِّمُ أَمْرَهُ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ تَعْظِيمًا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِيهِ، أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ ؛ أَلَا تَرَى إلَى عُقُوبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَا أَعْظَمَهَا.
فَإِنْ قِيلَ : عُقُوبَةُ اللَّهِ لَا حُجَّةَ فِيهَا لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْمَ لُوطٍ إنَّمَا عُوقِبُوا عَلَى الْكُفْرِ.
الثَّانِي : أَنَّ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ دَخَلَ فِيهَا. فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِهَا عَنْ بَابِ الْحُدُودِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّا نَقُولُ : أَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ عَاقَبَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ فهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَعَاصٍ فَأَخَذَهُمْ مِنْهَا بِهَذِهِ، أَلَا تَسْمَعُهُ يَقُولُ :﴿ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ من الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ من أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾. قَالُوا لَهُ : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَنَفْعَلَنَّ بِك [ يَا لُوطُ ]، فَفَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ. الثَّانِي : أَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ ؛ لِسُكُوتِ الْجُمْلَةِ عَلَيْهِ وَالْجَمَاهِيرِ ؛ فَكَانَ مِنْهُمْ فَاعِلٌ، وَكَانَ مِنْهُمْ رَاضٍ ؛ فَعُوقِبَ الْجَمِيعُ، وَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَى الْفَاعِلِينَ مُسْتَمِرًّا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :( مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ [ بِهِ ] ).
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :( مَنْ وَجَدْتُمُوهُ قَدْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ ).
قُلْنَا : هَذَا الْحَدِيثُ مَتْرُوكٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ إذَا سَقَطَ حَدِيثٌ بِالْإِجْمَاعِ أَنْ يَسْقُطَ مَا لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهِ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْبَخْسُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ النَّقْصُ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ، أَوْ الْمُخَادَعَةِ عَنْ الْقِيمَةِ، أَوْ الِاحْتِيَالِ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ أَوْ النُّقْصَانِ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْأَكْلِ بِالْحَقِّ، وَالتَّعَامُلِ بِالصِّدْقِ، وَطَلَبِ التِّجَارَةِ بِذَلِكَ، فَمَتَى خَرَجَ عَنْ يَدِ أَحَدٍ شَيْءٌ من مَالِهِ بِعِلْمِهِ لِأَخِيهِ فَقَدْ أَكَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُرْضِي اللَّهَ وَيَرْتَضِيهِ ؛ وَإِنْ خَرَجَ شَيْءٌ من مَالِهِ عَنْ يَدِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ مِمَّا لَا غِنى عَنْهُ فِي ارْتِفَاعِ الْأَسْوَاقِ وَانْخِفَاضِهَا عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ حَلَالٌ جَائِزٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ من ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا جَرَى ذَلِكَ فِي بَيْعٍ كَانَ صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَاهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَآخَرُونَ غَيْرُهُمْ : إنَّهُ لَا رَدَّ فِيهِ.
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ فَقَدْ ثَبَتَ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ كَانَ يَخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ : إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ ).
وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحِ :( وَاشْتَرِطْ الْخِيَارَ ثَلَاثًا ).
وَفِي رِوَايَةٍ :( وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا ).
فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ أَصَابَتْهُ مَأْمُومَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَثَّرَتْ فِي عَقْلِهِ، فَكَانَ يَخْدَعُ لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي بَيْعِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ من الْحَالِ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ لِمَا أَصَابَهُ :﴿ لَا خِلَابَةَ لَا خِلَابَةَ ﴾.
فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ من حُكْمِهِ لِمَا أَصَابَهُ من عَقْلِهِ لَمَا جَوَّزَ بَيْعَهُ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَعْتُوهِ لَا يَجُوزُ بِخِيَارٍ، وَلَا بِغَيْرِ خِيَارٍ، وَلَكِنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُصَرِّحَ عَنْ قَوْلِهِ، حَتَّى يَقَعَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ.
الآية الحادية عشرة : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ من خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾.
هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلْبَ وَقَطْعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ من خِلَافٍ كَانَتْ عُقُوبَةً مُتَأَصِّلَةً عِنْدَ الْخَلْقِ تَلَقَّفُوهَا من شَرْعٍ مُتَقَدِّمٍ فَحَرَّفُوهَا حَتَّى أَوْضَحَهَا اللَّهُ فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَجَعَلَهَا أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ لِأَعْظَمِ الْإِجْرَامِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ :﴿ لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَدَخَلْتُمُوهُ ﴾.
وَثَبَتَ أَنَّهُ ( قَالَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ لِأَصْحَابِهِ، وَقَدْ قَالُوا لَهُ : اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ : هَذَا، كَمَا قَالَ مَنْ قَبْلَكُمْ :﴿ اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ ؛ فَحَذَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من اتِّبَاعَ الْبِدَعِ، وَأَمَرَ بِإِحْيَاءِ السُّنَنِ، وَحَثَّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا : إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ زَادَا فِي صِيَامِهِمْ بِعِلَّةٍ رَأَوْهَا، وَجَعَلُوهُ أَكْثَرَ من الْعَدَدِ الْمَعْرُوفِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا من أَهْلِ الْكُوفَةِ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ أَنْ حَضَرَ مَعَهُ الْمَوْسِمَ فَصَلَّى [ مَعَهُ ] الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، فَقِيلَ لَهُ : مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : رَأَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ يَفْعَلُهُ، فَكَانَ عُثْمَانُ يُتِمُّ فِي السَّفَرِ ؛ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُفْسِدًا لِعَقَائِد الْعَامَّةِ، فَرَأَى حِفْظَ ذَلِكَ بِتَرْكِ يَسِيرٍ من السُّنَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَأَى قَوْمٌ من أَهْلِ الْجَفَاءِ أَنْ يَصُومُوا ثَانِيَ عِيدِ الْفِطْرِ سِتَّةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَاتٍ إتْمَامًا لِرَمَضَانَ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ :( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا من شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ ). خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وَهَذِهِ الْأَيَّامُ مَتَى صِيمَتْ مُتَّصِلَةً كَانَ احْتِذَاءً لِفِعْلِ النَّصَارَى، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُرِدْ هَذَا، إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ فَهُوَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَمَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ فَهِيَ بِشَهْرَيْنِ ؛ وَذَلِكَ الدَّهْرُ. وَلَوْ كَانَتْ من غَيْرِ شَوَّالٍ لَكَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذِكْرِ شَوَّالٍ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ ؛ لِوُجُوبِ مُسَاوَاةِ غَيْرِهَا لَهَا فِي ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَ شَوَّالَ عَلَى مَعْنَى التَّمْثِيلِ، وَهَذَا من بَدِيعِ النَّظَرِ فَاعْلَمُوهُ.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ضَرْبُ الْأَجَلِ لِلْمَوَاعِيدِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ وَمَعْنًى قَدِيمٌ أَسَّسَهُ اللَّهُ فِي الْقَضَايَا وَحَكَمَ بِهِ لِلْأُمَمِ، وَعَرَّفَهُمْ بِهِ مَقَادِيرَ التَّأَنِّي فِي الْأَعْمَالِ، وَإِنَّ أَوَّلَ أَجَلٍ ضَرَبَهُ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ الَّتِي مَدَّهَا لِجَمِيعِ الْخَلِيقَةِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ قَادِرًا فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِشَيْءٍ إذَا أَرَادَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونَ ؛ بَيْدَ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ الْخَلْقِ التَّأَنِّي وَتَقْسِيمَ الْأَوْقَاتِ عَلَى أَعْيَانِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ لِيَكُونَ لِكُلِّ عَمَلٍ وَقْتٌ. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا ضَرَبَ الْأَجَلَ لِمَعْنًى يُحَاوِلُ فِيهِ تَحْصِيلَ الْمُؤَجَّلِ لِأَجَلِهِ، فَجَاءَ الْأَجَلُ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ زِيدَ فِيهِ تَبْصِرَةً وَمَعْذِرَةً ؛ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَضَرَبَ لَهُ أَجَلًا ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، فَخَرَجَ لِوَعْدِ رَبِّهِ، فَزَادَ اللَّهُ عَشْرًا تَتِمَّةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَأَبْطَأَ مُوسَى فِي هَذِهِ الْعَشْرِ عَلَى قَوْمِهِ، فَمَا عَقَلُوا جَوَازَ التَّأَخُّرِ لِعُذْرٍ حَتَّى قَالُوا : إنَّ مُوسَى ضَلَّ أَوْ نَسِيَ، وَنَكَثُوا عَهْدَهُ، وَبَدَّلُوا بَعْدَهُ، وَعَبَدُوا إلَهًا غَيْرَ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الزِّيَادَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ عَلَى الْأَجَلِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، كَمَا أَنَّ الْأَجَلَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بَعْدَ النَّظَرِ إلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْرِ ؛ من وَقْتٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ، فَيَكُونُ الْأَجَلُ بِحَسَبِ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا قَدَّرَ الزِّيَادَةَ بِاجْتِهَادِهِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ تَكُونَ [ الزِّيَادَةُ ] مِثْلَ ثُلُثِ الْمُدَّةِ السَّالِفَةِ، كَمَا أَجَّلَ اللَّهُ لِمُوسَى فِي الزِّيَادَةِ ثُلُثَ مَا ضَرَبَهُ لَهُ من الْمُدَّةِ. وَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ الْأَصْلَ فِي الْأَجَلِ وَالزِّيَادَةِ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ من التَّرَبُّصِ بَعْدَهَا لِمَا يَطْرَأُ من الْعُذْرِ عَلَى الْبَشَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : التَّارِيخُ إنَّمَا يَكُونُ بِاللَّيَالِيِ دُونَ الْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ أَوَائِلُ الشُّهُورِ، وَبِهَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تُخْبِرُ عَنْ الْأَيَّامِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ ( صُمْنَا خَمْسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ). وَالْعَجَمُ تُخَالِفُنَا ذَلِكَ فَتَحْسِبُ بِالْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ مُعَوَّلَهَا عَلَى الشَّمْسِ، وَحِسَابُ الشَّمْسِ لِلْمَنَافِعِ، وَحِسَابُ الْقَمَرِ لِلْمَنَاسِكِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اتَّفَقَ كَثِيرٌ من الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً هِيَ ذُو الْقَعْدَة وَعَشْرٌ من ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ كَلَامُ اللَّهِ لِمُوسَى غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ حِينَ فَدَى إسْمَاعِيلَ من الذَّبْحِ، وَأَكْمَلَ لِمُحَمَّدٍ الْحَجَّ، وَجَعَلَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.
وَهَذَا إنْ ثَبَتَ من طَرِيقِ الْخَبَرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ فَالْأَيَّامُ الْعَشْرُ ذَاتُ فَضْلٍ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : الْوَقْتُ مَعْنًى غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَالْمِيقَاتُ : هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُقَدَّرُ بِعَمَلٍ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَوْلُ فِي الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ :
قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْحَسَنَ مَا وَافَقَ الشَّرْعَ، وَالْقَبِيحَ مَا خَالَفَهُ، وَفِي الشَّرْعِ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ، فَقِيلَ : كُلُّ مَا كَانَ أَرْفَقَ فَهُوَ أَحْسَنُ. وَقِيلَ : كُلُّ مَا كَانَ أَحْوَطَ لِلْعِبَادَةِ فَهُوَ أَحْسَنُ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ أَحْسَنَ مَا فِيهَا امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ( قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ لَهُ : وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أُنْقِصُ مِنْهُ فَقَالَ : أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْمُبَاحُ من جُمْلَةِ الْحَسَنِ فِي الشَّرِيعَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ من الْمَأْمُورَاتِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَأَذِنَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ من الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ يُمْدَحُ فَاعِلُهُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْدَحُ فَاعِلُ الْمَكْرُوهِ ؛ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي السَّرَفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ إذَا قُلْنَا : إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، فَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ الَّتِي لَا تَرَى ذَلِكَ فَلَمْ تُدْخِلْهَا فِي أَحْكَامِهَا، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا هُنَا من التَّبَسُّطِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ.
وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ من أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَكَرَهَا فِي الْقُرْآنِ من حُسْنِ الِاقْتِدَاءِ وَمِنْ سَيِّئِ الِاجْتِنَابِ، وَإِذَا مَدَحَ قَوْمًا عَلَى فِعْلٍ فَهُوَ حَثٌّ عَلَيْهِ، أَوْ ذَمَّهُمْ عَلَى آخَرَ فَهُوَ زَجْرٌ عَنْهُ، وَكُلُّهُ يَدْخُلُ لَنَا فِي الِاهْتِدَاءِ بِالِاقْتِدَاءِ.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : كَانَ مُوسَى من أَعْظَمِ النَّاسِ غَضَبًا ؛ لَكِنَّهُ كَانَ سَرِيعَ الْفَيْئَةِ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : كَانَ مُوسَى إذَا غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ من قَلَنْسُوَتِهِ، وَرَفَعَ شَعْرُ بَدَنِهِ جُبَّتَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ فِي الْقَلْبِ، وَلِأَجْلِهِ ( أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ غَضِبَ أَنْ يَضْطَجِعَ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ غَضَبُهُ فَلْيَغْتَسِلْ ؟ ) فَيُخْمِدُهَا اضْطِجَاعُهُ، وَيُطْفِئُهَا اغْتِسَالُهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
( أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَ صَكَّهُ صَكَّةً فَفَقَأَ فِيهَا عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إلَى رَبِّهِ، فَقَالَ : أَرْسَلْتنِي إلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ. فَقَالَ : ارْجِعْ إلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ : أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : الْمَوْتُ. قَالَ : فَالْآنَ. . . ) الْحَدِيثَ.
وَهَذَا كُلُّهُ من غَضَبِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِذَلِكَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ عِنْدَ رُؤْيَةِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَمَا أَوْقَعَ الْغَضَبَ هَاهُنَا، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ : وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَا مَعْنَى أَخْذِهِ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ ؟
قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : كَانَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى ثُمَّ نُسِخَ.
الثَّانِي : أَنَّهُ ضَمَّ أَخَاهُ إلَيْهِ لِيَعْلَمَ مَا لَدَيْهِ، فَبَيَّنَ لَهُ أَخُوهُ أَنَّهُمْ اسْتَضْعَفُوهُ، وَكَادُوا يَقْتُلُونَهُ ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِمَنْ خَشِيَ الْقَتْلَ عِنْدَ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ لَا يُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ، كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ ؛ فَإِنَّ مُوسَى لَمْ يُغَيِّرْ غَضَبُهُ شَيْئًا من أَفْعَالِهِ ؛ بَلْ اطَّرَدَتْ عَلَى مَجْرَاهَا، من إلْقَاءِ لَوْحٍ، وَعِتَابِ أَخٍ، وَصَكِّ مَلَكٍ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي أَنَّ طَائِفَةً من الْيَهُودِ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ، طَائِفَةُ خَيْبَرَ، وَطَائِفَةُ فَدَكَ لَمَّا كَانُوا يَسْمَعُونَ من صِفَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُرُوجِهِ فِي أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، فَأَخْلَفَهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ :( لَقِيت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عمرو بْنِ الْعَاصِ، فَسَأَلْته عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّوْرَاةِ قَالَ : أَجَلْ ؛ وَاَللَّهِ إنَّهُ لَمَوْصُوفٌ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِيَّ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ وَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ :( كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ لِيَسْأَلَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : وَنَحْنُ عِنْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ.
قَالَ : وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ.
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْت أَظْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي ؟ إنِّي قُلْت : يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ : كَذَبْت. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْت ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ ﴾ :
الْإِصْرُ ؛ هُوَ الثِّقَلُ، وَكَانَ فِيمَا سَبَقَ من الشَّرَائِعِ تَكَالِيفُ كَثِيرَةٌ فِيهَا مَشَاقُّ عَظِيمَةٌ، فَخَفَّفَ تِلْكَ الْمَشَاقَّ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَمِنْهَا مَشَقَّتَانِ عَظِيمَتَانِ : الْأُولَى فِي الْبَوْلِ. كَانَ إذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ، فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْغُسْلِ بِالْمَاءِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : كَانَ أَبُو مُوسَى يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ، وَيَبُولُ فِي قَارُورَةٍ، وَيَقُولُ : إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ إذَا أَصَابَ جِلْدَ أَحَدِهِمْ بَوْلٌ قَرَضَهُ بِالْمَقَارِيضِ ؛ ( فَقَالَ حُذَيْفَةُ : لَوَدِدْت أَنَّ صَاحِبَكُمْ لَا يُشَدِّدُ هَذَا التَّشْدِيدَ، لَقَدْ رَأَيْتنِي أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةً خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ ؛ فَبَالَ، فَانْتَبَذْت مِنْهُ، فَأَشَارَ إلَيَّ فَجِئْت فَقُمْت عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ ).
وَمِنْ الْإِصْرِ الَّذِي وُضِعَ إحْلَالُ الْغَنَائِمِ ؛ وَكَانَتْ حَرَامًا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ.
وَمِنْهَا أَلَّا تُجَالَسَ الْحَائِضُ وَلَا تُؤَاكَلَ، فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي دِينِهِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إزَارَهَا، ثُمَّ شَأْنُهُ بِأَعْلَاهَا ) فِي أَعْدَادٍ لِأَمْثَالِهَا.
هَذِهِ الْآيَةُ من أُمَّهَاتِ الشَّرِيعَةِ، وَفِيهَا مَسَائِلُ أُصُولُهَا تِسْعٌ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْأَلَ الْيَهُودَ إخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ عَنْ الْقَرْيَةِ الْبَحْرِيَّةِ الَّتِي اعْتَدَوْا فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَمَسَخَهُمْ اللَّهُ بِاعْتِدَائِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، لِيُعَرِّفَهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ من الْعُقُوبَةِ بِتَغْيِيرِ فَرْعٍ من فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَكَيْفَ بِتَغْيِيرِ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ ﴾ :
يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ ؛ فَعَبَّرَ بِهَا عَنْهُمْ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَقَرًّا لَهُمْ وَسَبَبَ اجْتِمَاعِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا. . . ﴾ الْآيَةَ، وَكَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ﴿ اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدٍ ﴾ يَعْنِي أَهْلَ الْعَرْشِ من الْمَلَائِكَةِ يُرِيدُ اسْتِبْشَارَهُمْ بِهِ. وَكَمَا قَالَ أَيْضًا فِي الْمَدِينَةِ :﴿ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قِيلَ : كَانَتْ هَذِهِ الْمَدِينَةُ أَيْلَةَ، من أَعْمَالِ مِصْرَ. وَقِيلَ : كَانَتْ طَبَرِيَّةَ من أَعْمَالِ الشَّامِ. وَقِيلَ : مَدْيَنَ ؛ وَرَبُّك أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَبَبِ مَسْخِهِمْ، فَقِيلَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الصَّيْدَ يَوْمَ السَّبْتِ، ثُمَّ ابْتَلَاهُمْ بِأَنْ تَكُونَ الْحِيتَانُ تَأْتِي يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا ؛ أَيْ : رَافِعَةً رُءُوسَهَا فِي الْمَاءِ يَنْظُرُونَ إلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ وَمَا بَعْدَهُ من الْأَيَّامِ طَلَبُوا مِنْهَا حُوتًا وَاحِدًا لِلصَّيْدِ فَلَمْ يَجِدُوهُ ؛ فَصَوَّرَ عِنْدَهُمْ إبْلِيسُ أَنْ يَسُدُّوا أَفْوَاهَ الْخُلْجَانِ يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى إذَا أَمْسَوْا، وَأَرَادَتْ الْحِيتَانُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى النَّهْرِ الْأَعْظَمِ وَإِلَى غَمْرَةِ الْبَحْرِ لَمْ تَجِدْ مَسْلَكًا، فَيَأْخُذُونَهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ ؛ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَمُسِخُوا.
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقِصَّةِ، عَنْ بَعْضِ أَشْيَاخِهِ، قَالَ : كَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ، فَإِذَا كَانَ الْمَسَاءُ ذَهَبَتْ فَلَا يُرَى مِنْهَا شَيْءٌ إلَى السَّبْتِ الْآخَرِ، فَاِتَّخَذَ لِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْهُمْ خَيْطًا وَوَتَدًا، فَرَبَطُوا حُوتًا مِنْهَا فِي الْمَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ، حَتَّى إذَا أَمْسَوْا لَيْلَةَ الْأَحَدِ أَخَذَهُ فَاشْتَوَاهُ، فَوَجَدَ النَّاسُ رِيحَهُ، فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَجَحَدَهُمْ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى قَالَ لَهُمْ : إنَّهُ جِلْدُ حُوتٍ وَجَدْنَاهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ الْآخَرِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا أَدْرِي لَعَلَّهُ قَالَ ثُمَّ رَبَطَ حُوتَيْنِ، فَلَمَّا أَمْسَى من لَيْلَةِ الْأَحَدِ أَخَذَهُ وَاشْتَوَاهُ، فَوَجَدُوا رِيحَهُ، فَجَاءُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ : لَوْ شِئْتُمْ صَنَعْتُمْ كَمَا أَصْنَعُ. قَالُوا : وَمَا صَنَعْت ؟ فَأَخْبَرَهُمْ، فَفَعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ، حَتَّى كَثُرَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَدِينَةٌ لَهَا رَبَضٌ يُغْلِقُونَهَا عَلَيْهِمْ، فَأَصَابَهُمْ من الْمَسْخِ مَا أَصَابَهُمْ، فَغَدَا إلَيْهِمْ جِيرَانُهُمْ مِمَّنْ كَانَ حَوْلَهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ، فَوَجَدُوا الْمَدِينَةَ مُغْلَقَةً عَلَيْهِمْ، فَنَادَوْا فَلَمْ يُجِبْهُمْ أَحَدٌ، فَتَسَوَّرُوا عَلَيْهِمْ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا هُمْ قِرَدَةً، فَجَعَلَ الْقِرْدُ مِنْهُمْ يَدْنُو فَيَتَمَسَّحُ بِمَنْ كَانَ يَعْرِفُ قَبْلَ ذَلِكَ.
قَالَ الْحَسَنُ : فَأَكَلُوا –وَاَللَّهِ- أَوْخَمَ أَكْلَةٍ أَكَلَهَا قَوْمٌ، وَعُوقِبُوا أَسْوَأَ عُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا وَأَشَدَّهَا عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ : وَاَللَّهِ لَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ من أَكْلِ الْحِيتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : لَمَّا فَعَلُوا هَذَا نَهَاهُمْ كُبَرَاؤُهُمْ، وَوَعَظَهُمْ أَحْبَارُهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، فَاسْتَمَرُّوا عَلَى نَهْيِهِمْ لَهُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْ من التَّمَادِي عَلَى الْوَعْظِ وَالنَّهْيِ عَدَمُ قَبُولِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ قُبِلَ أَوْ لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ بَعْضُهُمْ :﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ﴾ ؟ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، ﴿ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ فِي الْآخِرَةِ ؟ قَالَ لَهُمْ النَّاهُونَ : مَعْذِرَةً إلَى رَبِّكُمْ، أَيْ نَقُومُ بِفَرْضِنَا ؛ لِيَثْبُتَ عُذْرُنَا عِنْدَ رَبِّنَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ ؛ أَيْ : تَرَكُوهُ عَنْ قَصْدٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لَفْظٌ يَنْطَلِقُ عَلَى السَّاهِي وَالْعَامِدِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ جَهَالَةٍ زَعَمُوا أَنَّ النَّاسِيَ وَالسَّاهِيَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِاللُّغَةِ، وَقَصْدُهُمْ هَدْمُ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَحَقَّقْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ). وَقُلْنَا : مَعْنَاهُ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ تَرَكَهَا فَلْيُصَلِّهَا مَتَى ذَكَرَهَا. فَالسَّاهِي لَهُ حَالَةُ ذِكْرٍ، وَالْعَامِدُ هُوَ أَبَدًا ذَاكِرٌ ؛ وَكُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْقَضَاءِ مَتَى حَضَرَهُ الذِّكْرُ دَائِمًا أَوْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَبِهَذَا اسْتَقَامَ نِظَامُ الْكَلَامِ، وَاسْتَقَرَّ حُكْمُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ من أُصُولِ إثْبَاتِ الذَّرَائِعِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مَالِكٌ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهَا أَحْمَدُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، وَخَفِيَتْ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ مَعَ تَبَحُّرِهِمَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَحْظُورٍ، كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ حِينَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ صَيْدَ السَّبْتِ، فَسَكَرُوا الْأَنْهَارَ، وَرَبَطُوا الْحِيتَانَ فِيهِ إلَى يَوْمِ الْأَحَدِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَدِلَّةَ الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ، وَبَسَطْنَاهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً وَدَلَالَةً من الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ.
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الَّذِي فَعَلَتْ الْيَهُودُ لَمْ يَكُنْ تَوَسُّلًا إلَى الصَّيْدِ ؛ بَلْ كَانَ نَفْسَ الصَّيْدِ.
قُلْنَا : إنَّمَا حَقِيقَةُ الصَّيْدِ إخْرَاجُ الْحُوتِ من الْمَاءِ وَتَحْصِيلُهُ عِنْدَ الصَّائِدِ، فَأَمَّا التَّحَيُّلُ عَلَيْهِ إلَى حِينِ الصَّيْدِ فَهُوَ سَبَبُ الصَّيْدِ، لَا نَفْسُ الصَّيْدِ، وَسَبَبُ الشَّيْءِ غَيْرُ الشَّيْءِ ؛ إنَّمَا هُوَ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ، وَيُتَوَسَّلُ بِهِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ أَصْحَابُ السَّبْتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا هَلَكُوا بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرَ ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا : لَا نَصِيدُ، بَلْ نَأْتِي بِسَبَبِ الصَّيْدِ، وَلَيْسَ سَبَبُ الشَّيْءِ نَفْسَ الشَّيْءِ، فَنَحْنُ لَا نَرْتَكِبُ عَيْنَ مَا نُهِينَا عَنْهُ، فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ من الْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ الْمُطْلَقِ فِي الشَّرِيعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَمْسُوخِ ؛ هَلْ يَنْسِلُ أَمْ لَا ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَنْسِلُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ :
أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ حِينَ ( سُئِلَ عَنْ الضَّبِّ، فَقَالَ إنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ، فَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ الضَّبُّ مِنْهَا ).
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :( إنَّ الْفَأْرَ مُسِخَ، أَلَا تَرَاهُ إذَا وُضِعَ لَهُ أَلْبَانُ الْإِبِلِ لَمْ يَشْرَبْهَا ).
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عمرو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرَدَةً قَدْ رَجَمُوا قِرَدَةً. وَنَصُّ الْحَدِيثِ : قَدْ رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرَدَةً قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا، فَرَجَمْتهَا مَعَهُمْ. ثَبَتَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَسَقَطَ فِي بَعْضِهَا. وَثَبَتَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ : قَدْ زَنَتْ. وَسَقَطَ هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ : وَكَأَنَّ الْبَهَائِمَ بَقِيَتْ فِيهِمْ مَعَارِفُ الشَّرَائِعِ حَتَّى وَرِثُوهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ إلَى زَمَانِ عُمَرَ. وَقُلْنَا : نَعَمْ، كَذَلِكَ كَانَ ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ غَيَّرُوا الرَّجْمَ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَهُ فِي مُسُوخِهِمْ، حَتَّى يَكُونَ إبْلَاغًا فِي الْحُجَّةِ عَلَى مَا أَنْكَرُوهُ من ذَلِكَ، وَغَيَّرُوهُ، حَتَّى تَشْهَدَ عَلَيْهِمْ كُتُبُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ وَمُسُوخُهُمْ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَيُحْصِي مَا يُبَدِّلُونَ وَمَا يُغَيِّرُونَ، وَيُقِيمَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَيَنْصُرَ نَبِيَّهُ وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ :( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك من بَنِي آدَمَ. . . ) الآية، فَقَالَ عُمَرُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ خَلْق آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ : خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ : خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ.
فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنَّ اللَّهَ إذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ من أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ من أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ ) وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ بِكَلَامٍ [ قَدْ ] بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ.
وَقَدْ ثَبَتَ وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :( لَمَّا خَلَقَ آدَم مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ من ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا من ذُرِّيَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا من نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ : يَا رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُك. فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ. فَقَالَ : يَا رَبِّ ؛ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : رَجُلٌ من آخِرِ الْأُمَمِ من ذُرِّيَّتِك يُقَالُ لَهُ دَاوُد. فَقَالَ :[ رَبِّ ] كَمْ جَعَلْت عُمُرَهُ ؟ قَالَ : سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ : أَيْ رَبِّ، زِدْهُ من عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ : أَوَلَمْ يَبْقَ من عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً ؟ قَالَ : أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَك دَاوُد ؟ قَالَ : فَجَحَدَ آدَم، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ ؛ وَنَسِيَ آدَم فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ ؛ وَخَطِئَ آدَم، فَأَخْطَأَتْ ذُرِّيَّتُهُ ).
خَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى وَصَحَّحَهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، ( فَمِنْ حِينَئِذٍ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ ).
وَفِي رِوَايَةٍ :( أَنَّهُ رَأَى فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَالْمُبْتَلَى وَالصَّحِيحَ فَقَالَ لَهُ آدَم : يَا رَبِّ ؛ مَا هَذَا ؟ أَلَا سَوَّيْت بَيْنَهُمْ ؟ قَالَ : أَرَدْت أَنْ أَشْكُرَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : أَنَّهُ ( أَخْرَجَهُمْ من صُلْبِ آدَمَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقَ، ثُمَّ أُعِيدُوا فِي صُلْبِهِ ).
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ، فَقَالَ : مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. فَقَالَ الْجَاثَلِيقُ : تَرَكَّسْت تَرَكَّسْت. فَقَالَ الرَّاوِي : يَقُولُ مَعَاذَ اللَّهِ، لَا يُضِلُّ اللَّهُ أَحَدًا. فَقَالَ عُمَرُ : بَلْ اللَّهُ خَلَقَك ثُمَّ أَضَلَّك، ثُمَّ يُمِيتُك، ثُمَّ يُدْخِلُك النَّارَ ؛ وَاَللَّهِ لَوْلَا وَلْثٌ من عَهْدِك لَضَرَبْت عُنُقَك. فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ نَثَرَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ فِي كَفَّيْهِ، فَقَالَ : هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَمَا هُمْ عَامِلُونَ، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَمَا هُمْ عَامِلُونَ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ ؛ قَالَ : فَتَفَرَّقَ النَّاسُ. وَمَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي الْقَدَرِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ :( خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَابِضٌ عَلَى شَيْئَيْنِ فِي يَدَيْهِ، فَفَتَحَ الْيَمِينَ، فَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ من الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَعْدَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ، وَقَدْ يَسْلُكُ السُّعَدَاءُ طَرِيقَ أَهْلِ الشَّقَاءِ حَتَّى يُقَالَ : هُمْ مِنْهُمْ. هُمْ مِنْهُمْ، ثُمَّ تُدْرِكُ أَحَدَهُمْ سَعَادَتُهُ [ وَلَوْ ] قَبْلَ مَوْتِهِ بِفُوَاقِ نَاقَةٍ. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْعَمَلُ بِخَوَاتِمِهِ، الْعَمَلُ بِخَوَاتِمِهِ ).
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :( أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ : اُكْتُبْ، فَكَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ أَمْ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ ؟ فَقَالَ : فَرَغَ رَبُّكُمْ. قَالُوا : فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ قَالَ : اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ؛ أَمَّا مَنْ كَانَ من أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ. وَمَنْ كَانَ من أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ. ثُمَّ قَرَأَ :( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ).
وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :( إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا ).
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبَ الْخَلْقُ وَهُمْ لَمْ يُذْنِبُوا، أَوْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْهُمْ، وَكَتَبَهُ عَلَيْهِمْ، وَسَاقَهُمْ إلَيْهِ ؟
قُلْنَا : وَمِنْ أَيْنَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ ؟ أَعَقْلًا أَمْ شَرْعًا ؟
فَإِنْ قِيلَ : لِأَنَّ الرَّحِيمَ الْحَكِيمَ مِنَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
قُلْنَا : لِأَنَّ فَوْقَهُ آمِرًا يَأْمُرُهُ وَنَاهٍ يَنْهَاهُ، وَرَبُّنَا لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ الْخَالِقُ بِالْمَخْلُوقِ، وَلَا تُحْمَلُ أَفْعَالُ الْإِلَهِ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَبِالْحَقِيقَةِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ، وَالْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ لَهُ، صَرَفَهُمْ كَيْفَ شَاءَ، وَحَكَمَ فِيهِمْ كَيْفَ أَرَادَ ؛ وَهَذَا الَّذِي يَجِدُهُ الْآدَمِيُّ إنَّمَا تَبْعَثُ عَلَيْهِ رِقَّةُ الْجِبِلَّةِ، وَشَفَقَةُ الْجِنْسِيَّةِ، وَحُبُّ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، لِمَا يُتَوَقَّعُ فِي ذَلِكَ من الِانْتِفَاعِ ؛ وَالْبَارِي مُتَقَدِّسٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ. وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكُفَّارِ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمَذْهَبُ شَيْخِ السُّنَّةِ، وَإِلَيْهِ صَغَى الْقَاضِي فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِمَا أَنَّ الْكُفْرَ يَخْتَصُّ بِالْجَاحِدِ، وَالْمُتَأَوِّلُ لَيْسَ بِكَافِرٍ.
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ كُفْرُ مَنْ أَنْكَرَ أُصُولَ الْإِيمَانِ، فَمِنْ أَعْظَمِهَا مَوْقِعًا وَأَبْيَنِهَا مَنْصِفًا، وَأَوْقَعِهَا مَوْضِعًا الْقَوْلُ بِالْقَدَرِ، فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَقَدْ كَفَرَ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُقْسِطِ وَالْمُشْكِلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَكْفِيرِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَالصَّرِيحُ من أَقْوَالِ مَالِكٍ تَكْفِيرُهُمْ، لَقَدْ سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الْقَدَرِيَّةِ، فَقَالَ : قَدْ قَالَ اللَّهُ :﴿ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ من مُشْرِكٍ ﴾. وَمَنْ قَالَ من أَصْحَابِنَا : إنَّ ذَلِكَ أَدَبٌ لَهُمْ، وَلَيْسُوا بِكُفَّارٍ، أَوْ حَكَى فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا أَوْرَدْنَاهُ من الْأَقْوَالِ ؛ فَذَلِكَ لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِ بِالْأُصُولِ، فَلَا يُنَاكَحُوا، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِمْ الضَّيْعَةُ دُفِنُوا كَمَا يُدْفَنُ الْكَلْبُ.
فَإِنْ قِيلَ : وَأَيْنَ يُدْفَنُونَ ؟
قُلْنَا : لَا يُؤْذَى بِجِوَارِهِمْ مُسْلِمٌ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ اسْتَتَابَهُمْ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قَتَلَهُمْ كُفْرًا.
هَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ من الْآيِ الَّتِي جَمَعَتْ الْعَقَائِدَ وَالْأَعْمَالَ، وَقَدْ كُنَّا تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي مَجَالِسِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ أَزْمِنَةً كَثِيرَةً، ثُمَّ أَنْعَمَ اللَّهُ بِأَنْ أَخْرَجْنَا نُكَتَهَا الْمَقْصُودَةَ من الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى، وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ الْأَسْمَاءُ ﴾ :
حَقِيقَةُ الِاسْمِ كُلُّ لَفْظٍ جُعِلَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى إنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَقًّا، فَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا فَلَيْسَ بِاسْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ، هَذَا قَوْلُ النُّحَاةِ. أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ الرَّئِيسُ الْأَجَلُّ الْمُعَظَّمُ فَخْرُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ لَفْظًا قَالَ : سَمِعْت الْأُسْتَاذَ الْمُعَظَّمَ عَبْدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ يَقُولُ : سَمِعْت أَبَا الْحَسَنِ ابْنَ أُخْتِ أَبِي عَلِيٍّ يَقُولُ : سَمِعْت خَالِي أَبَا عَلِيٍّ يَقُولُ : كُنْت بِمَجْلِسِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحَلَبٍ، وَبِالْحَضْرَةِ جَمَاعَةٌ من أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِيهِمْ ابْنُ خَالَوَيْهِ. . . إلَى أَنْ قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ : أَحْفَظُ لِلسَّيْفِ خَمْسِينَ اسْمًا. فَتَبَسَّمَ أَبُو عَلِيٍّ، وَقَالَ : مَا أَحْفَظُ لَهُ إلَّا اسْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ السَّيْفُ. فَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ : فَأَيْنَ الْمُهَنَّدُ ؟ وَأَيْنَ الصَّارِمُ ؟ وَأَيْنَ الرَّسُوبُ ؟ وَأَيْنَ الْمِخْذَمُ. . . وَجَعَلَ يُعَدِّدُ. فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ : هَذِهِ صِفَاتٌ. وَكَأَنَّ الشَّيْخَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ.
وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ أَسَّسَهَا سِيبَوَيْهِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهَا قَانُونًا من الصِّنَاعَةِ فِي التَّصْرِيفِ وَالْجَمْعِ وَالتَّصْغِيرِ، وَالْحَذْفِ وَالزِّيَادَةِ وَالنِّسْبَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ من الْأَبْوَابِ ؛ إذْ لَحَظَ ذَلِكَ فِي مَجَارِي الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الشَّرِيعَةُ بِعَضُدٍ، وَلَا تَرُدُّهُ بِقَصْدٍ ؛ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهَا لِلْقَوْمِ أَوْ إقْرَارِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ سَخِيفٌ من جُمْلَةِ الْمَغَارِبَةِ : عَدَدْت أَسْمَاءَ اللَّهِ فَوَجَدْتهَا ثَمَانِينَ، وَجَعَلَ يُعَدِّدُ الصِّفَاتِ النَّحْوِيَّةَ، وَيَا لَيْتَنِي أَدْرَكْته ؛ فَلَقَدْ كَانَتْ فِيهِ حُشَاشَةٌ لَوْ تَفَاوَضْت مَعَهُ فِي الْحَقَائِقِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ من قَبُولِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْهُ ؛ إنَّمَا الْعَجَبُ من الطُّوسِيِّ أَنْ يَقُولَ : وَقَدْ عَدَّدَ بَعْضُ حُفَّاظِ الْمُغْرِبِ الْأَسْمَاءَ فَوَجَدَهَا ثَمَانِينَ حَسْبَمَا نَقَلَهُ إلَيْهِ طَرِيدٌ طَرِيفٌ ببورقة الْحُمَيْدِيِّ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ بِجَهْلِهِ بِالصِّنَاعَةِ، أَمَا إنَّهُ كَانَ فَصِيحًا ذَرِبَ الْقَوْلِ، ذَرِبَ اللِّسَانِ فِي الِاسْتِرْسَالِ عَلَى الْكَلِمَاتِ الصَّائِبَةِ، لَكِنَّ الْقَانُونَ كَانَ عَنْهُ نَائِيًا، وَالْعَالَمُ عِنْدَنَا اسْمٌ، كَزَيْدٍ اسْمٌ، وَأَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ، وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ وَمَعْنَى مَعَهُ زَائِدٌ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي يُعَضِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَعُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ حِينَ عَدَّدُوا الْأَسْمَاءَ ذَكَرُوا الْمُشْتَقَّ وَالْمُضَافَ وَالْمُطْلَقَ فِي مَسَاقٍ وَاحِدٍ إجْرَاءً عَلَى الْأَصْلِ، وَنَبْذًا لِلْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ الْحُسْنَى ﴾ :
وَفِي وَصْفِهَا بِذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَا فِيهَا من مَعْنَى التَّعْظِيمِ ؛ فَكُلُّ مَعْنًى مُعَظَّمٍ يُسَمَّى بِهِ سُبْحَانَهُ.
الثَّانِي : مَا وُعِدَ عَلَيْهَا من الثَّوَابِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ.
الثَّالِثُ : مَا مَالَتْ إلَيْهِ الْقُلُوبُ من الْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ.
الرَّابِعُ : أَنَّ حَسْبَهَا شَرَفُ الْعِلْمِ بِهَا، فَإِنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ، وَالْبَارِي أَشْرَفُ الْمَعْلُومَاتِ ؛ فَالْعِلْمُ بِأَسْمَائِهِ أَشْرَفُ الْعُلُومِ.
الْخَامِسُ : أَنَّهُ مَعْرِفَةُ الْوَاجِبِ فِي وَصْفِهِ وَالْجَائِزِ وَالْمُسْتَحِيلِ عَلَيْهِ ؛ فَيَأْتِي بِكُلِّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ وَيُقَرِّرُهُ فِي نِصَابِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقْسِطِ حَقِيقَةَ الْحُسْنِ وَأَقْسَامَهُ، وَمَنْ حَصَّلَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ نَالَ الْحُسْنَ من كُلِّ طَرِيقٍ، وَحَصَلَ لَهُ الْقَطْعُ بِالتَّوْفِيقِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَمِعُوا الْمُسْلِمِينَ يَدْعُونَ " اللَّهَ " مَرَّةً، وَ " الرَّحْمَنَ " أُخْرَى، و " الْقَادِرَ " بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالُوا : أَيَنْهَانَا مُحَمَّدٌ عَنْ الْأَصْنَامِ وَهُوَ يَدْعُوا آلِهَةً كَثِيرَةً ؟ فَنَزَلَتْ :﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ أَيْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ إلَهٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَتْ بِآلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : مَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي أَضَافَهَا اللَّهُ ؟ : وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا الَّتِي فِيهَا التَّعْظِيمُ وَالْإِكْبَارُ.
الثَّانِي : أَنَّهَا الْأَسْمَاءُ التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ :( إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ).
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْأَسْمَاءُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا أَدِلَّةُ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَهِيَ سَبْعَةٌ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْوُجُودِ : الْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْإِرَادَةُ، وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْكَلَامُ، وَالْحَيَاةُ. تَقُولُ : الْقَادِرُ الْعَالِمُ الْمُرِيدُ الْحَيُّ الْمُتَكَلِّمُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَفِي تَرْتِيبِهَا تَقْرِيبٌ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَكُلُّ اسْمٍ لِلَّهِ فَإِلَى هَذِهِ الْأُصُولِ يَرْجِعُ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ الَّتِي عَدَّدَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
فَإِنْ قِيلَ : وَهَلْ إلَى مَعْرِفَتِهَا سَبِيلٌ ؟
قُلْنَا : حَلَّقَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا، وَسَارُوا إلَيْهَا فَمِنْ جَائِرٍ وَقَاصِدٍ، وَالْقَاصِدُ فِي الْأَكْثَرِ وَاقِفٌ دُونَ الْمَرَامِ، وَالْجَائِرُ لَيْسَ فِيهِ كَلَامٌ.
فَأَمَّا مَنْ وَقَفَ عَلَى الْأَمْرِ فَمَا عَرَفْته إلَّا الْإسْفَرايِنِيّ وَالطُّوسِيُّ. إلَّا أَنَّ الطُّوسِيَّ تَقَلْقَلَ فِيهَا فَتَزَلْزَلَ عَنْهَا، وَأَمَّا الْإسْفَرايِنِيّ فَأَسْنَدَ طَرِيقَهُ وَوَضَّحَ تَحْقِيقَهُ.
وَاَلَّذِي أَدُلُّكُمْ عَلَيْهِ أَنْ تَطْلُبُوهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهَا مَخْبُوءَةٌ فِيهِمَا كَمَا خُبِئَتْ سَاعَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْيَوْمِ، وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الشَّهْرِ رَغْبَةً، وَالْكَبَائِرُ فِي الذُّنُوبِ رَهْبَةً ؛ لِتَعُمَّ الْعِبَادَاتُ الْيَوْمَ بِجَمِيعِهِ وَالشَّهْرَ بِكُلِّيَّتِهِ، وَلِيَقَعَ الِاجْتِنَابُ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ. وَكَذَلِكَ أُخْفِيَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِي جُمْلَةِ الْأَسْمَاءِ الْكُلِّيَّةِ، لِنَدْعُوَهُ بِجَمِيعِهَا، فَنُصِيبُ الْعَدَدَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِيهَا، فَأَمَّا تَعْدِيدُهَا بِالْقُرْآنِ فَقَدْ وَهَمَ فِيهِ إمَامَانِ : سُفْيَانُ، وَابْنُ شَعْبَانَ، وَقَدْ سُقْنَاهُ بِغَايَةِ الْبَيَانِ وَنَصُّهُ :
سُورَةُ الْحَمْدِ فِيهَا خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ : اللَّهُ، الرَّبُّ، الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، مَالِكٌ.
سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا ثَلَاثُونَ اسْمًا : مُحِيطٌ، قَدِيرٌ، عَلِيمٌ، حَكِيمٌ، ذُو الْفَضْلِ، الْعَظِيمُ، بَصِيرٌ، وَاسِعٌ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ، سَمِيعٌ، التَّوَّابُ، الْعَزِيزُ، رَءُوفٌ، شَاكِرٌ، إلَهٌ وَاحِدٌ، غَفُورٌ، شَدِيدُ الْعَذَابِ، قَرِيبٌ، شَدِيدُ الْعِقَابِ، سَرِيعُ الْحِسَابِ، حَلِيمٌ، خَبِيرٌ، حَيٌّ، قَيُّومٌ، عَلِيٌّ، عَظِيمٌ، وَلِيٌّ، غَنِيٌّ، حَمِيدٌ، مَوْلَى.
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ فِيهَا عَشْرَةُ أَسْمَاءٍ : عَزِيزٌ، ذُو انْتِقَامٍ، وَهَّابٌ، قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، جَامِعُ النَّاسِ، مَالِكُ الْمُلْكِ، خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، شَهِيدٌ، خَيْرُ النَّاصِرِينَ، وَكِيلٌ. سُورَةُ النِّسَاءِ فِيهَا سَبْعَةُ أَسْمَاءٍ : الرَّقِيبُ، الْحَسِيبُ، كَثِيرُ الْعَفْوِ، النَّصِيرُ، مُقِيتٌ، جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا.
سُورَةُ الْمَائِدَةِ فِيهَا اسْمَانِ : عَلَّامُ الْغُيُوبِ، خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
سُورَةُ الْأَنْعَامِ فِيهِ سَبْعَةَ عَشَرَ اسْمًا : فَاطِرٌ، قَاهِرٌ، شَهِيدٌ، شَفِيعٌ، خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، الْحَقُّ، أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ، الْقَادِرُ، فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ، جَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا، مُخْرِجُ الْحَيِّ من الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ من الْحَيِّ، سَرِيعُ الْعِقَابِ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، اللَّطِيفُ، الْحَكِيمُ.
سُورَةُ الْأَعْرَافِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ : خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، خَيْرُ الْفَاتِحِينَ، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، خَيْرُ الْغَافِرِينَ.
سُورَةُ بَرَاءَةٌ فِيهَا اسْمٌ : مُخْزِي الْكَافِرِينَ.
سُورَةُ هُودٍ فِيهَا سَبْعَةُ أَسْمَاءٍ : أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، حَفِيظٌ، مُجِيبٌ، قَوِيٌّ، مَجِيدٌ، وَدُودٌ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ.
سُورَةُ يُوسُفَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ : الْمُسْتَعَانُ، الْقَاهِرُ، الْحَافِظُ.
سُورَةُ الرَّعْدِ فِيهَا سِتَّةُ أَسْمَاءٍ : ذُو
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِي آيَاتِهِ، وَالِاعْتِبَارِ بِمَخْلُوقَاتِهِ فِي أَعْدَادٍ كَثِيرَةٍ من آيِ الْقُرْآنِ ؛ أَرَادَ بِذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْيَقِينِ، وَقَوْلًا فِي الْإِيمَانِ، وَتَثْبِيتًا لِلْقُلُوبِ عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ ؛ قَالَ : قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ : مَا كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ ؟ قَالَتْ : كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِهِ التَّفَكُّرَ. قِيلَ لَهُ : أَفَتَرَى الْفِكْرَ عَمَلًا من الْأَعْمَالِ ؟ قَالَ : نَعَمْ. هُوَ الْيَقِينُ.
وَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. فَقَالَ : لَيْسَتْ هَذِهِ عِبَادَةً ؛ إنَّمَا الْعِبَادَةُ الْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَالْفِكْرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ : تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ من قِيَامِ لَيْلَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : حَقِيقَةُ التَّفَكُّرِ : حَقِيقَةُ التَّفَكُّرِ هُنَا تَرْدِيدُ الْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ بِالْخَبَرِ عَنْهُ.
وَالْكَلَامُ حَقِيقَةً هُوَ مَا يَجْرِي فِي النَّفْسِ، وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَأَقَلُّ مَا يَحْضُرُ فِي الْقَلْبِ من الْعِلْمِ عِلْمَانِ اثْنَانِ : أَحَدُهُمَا نَسَقُ الْآخَرِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجَنَّةَ مَطْلُوبَةٌ، وَأَنَّ الْمُوَصِّلَ إلَيْهَا آكَدُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَحِينَئِذٍ يَجْتَهِدُ فِي الْعَمَلِ ؛ وَآكَدُ من هَذَا أَنْ تَعْلَمَ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَلَكُوتِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ ؛ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، وَهِيَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً ؛ وَأُمَّهَاتُهَا السَّمَاوَاتُ، فَتَرَى كَيْفَ بُنِيَتْ وَزُيِّنَتْ من غَيْرِ فُطُورٍ وَرُفِعَتْ بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَخُولِفَ مِقْدَارُ كَوَاكِبِهَا، وَنُصِبَتْ سَائِرَةً شَارِقَةً وَغَارِبَةً نَيِّرَةً، وَمَمْحُوَّةً ؛ كُلُّ ذَلِكَ بِحِكْمَةٍ وَمَنْفَعَةٍ.
وَالْأَرْضَ ؛ فَانْظُرْ إلَيْهَا كَيْفَ وُضِعَتْ فِرَاشًا، وَوُطِئَتْ مِهَادًا، وَجُعِلَتْ كِفَاتًا، وَأَنْبَتَتْ مَعَاشًا، وَأُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ، وَزُيِّنَتْ بِالنَّبَاتِ، وَكُرِّمَتْ بِالْأَقْوَاتِ، وَأُرْصِدَتْ لِتَصَرُّفِ الْحَيَوَانَاتِ وَمَعَاشِهَا ؛ وَكُلُّ جُزْءٍ من ذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةٌ تَسْتَغْرِقُ الْفِكْرَةَ.
وَالْحَيَوَانُ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالثَّانِي الْجَمَادَاتُ ؛ فَانْظُرْ فِي أَصْنَافِهَا، وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَجْنَاسِهَا، وَانْقِيَادِهَا وَشَرَسِهَا، وَتَسْخِيرِهَا فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا، زِينَةً وَقُوتًا، وَتَقَلُّبًا فِي الْأَرْضِ.
وَالْبِحَارُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ عِبْرَةً، وَأَدَلُّهَا عَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ فِي سَعَتِهَا، وَاخْتِلَافِ خَلْقِهَا، وَتَسْيِيرِ الْفُلْكِ فِيهَا، وَخُرُوجِ الرِّزْقِ مِنْهَا، وَالِانْتِفَاعِ فِي الِانْتِقَالِ إلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بِالْأَثْقَالِ الْوَئِيدَةِ بِهَا.
وَالْهَوَاءُ ؛ فَإِنَّهُ خَلْقٌ مَحْسُوسٌ بِهِ قِوَامُ الرُّوحِ فِي الْآدَمِيِّ وَحَيَوَانِ الْبَرِّ، كَمَا أَنَّ الْمَاءَ قِوَامٌ لِرُوحِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ، فَإِذَا فَارَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِوَامَهُ هَلَكَ، وَانْظُرْ إلَى رُكُودِهِ ثُمَّ اضْطِرَابِهِ، وَهُوَ بِالرِّيحِ.
وَالْإِنْسَانُ أَقْرَبُهَا إلَيْهَا نَظَرًا، وَأَكْثَرُهَا إنْ بَحَثَ عِبْرًا، فَلْيَنْظُرْ إلَى نَفْسِهِ من حِينِ كَوْنِهَا مَاءً دَافِقًا إلَى كَوْنِهِ خَلْقًا سَوِيًّا، يُعَانُ بِالْأَغْذِيَةِ، وَيُرَبَّى بِالرِّفْقِ، وَيُحْفَظُ بِاللَّبَنِ حَتَّى يَكْتَسِبَ الْقُوَى، وَيَبْلُغَ الْأَشُدَّ ؛ فَإِذَا بِهِ قَدْ قَالَ أَنَا وَأَنَا، وَنَسِيَ حِينَ أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ من الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَسَيَعُودُ مَقْبُورًا. وَهَذَا زَمَانٌ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا، فَيَا وَيْحَه إنْ كَانَ مَحْسُورًا فَيَنْظُرُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، مُكَلَّفٌ مَخُوفٌ بِالْعَذَابِ إنْ قَصَّرَ، مُرْجًى بِالثَّوَابِ إنْ ائْتَمَرَ، فَيُقْبِلُ عَلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهُ يَرَاهُ، وَلَا يَخْشَى النَّاسَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَخْشَاهُ، وَلَا يَتَكَبَّرُ عَلَى أَحَدٍ من عِبَادِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ مُؤَلَّفٌ من أَقْذَارٍ، مَشْحُونٌ من أَوْضَارٍ، صَائِرٌ إلَى جَنَّةٍ إنْ أَطَاعَ، أَوْ إلَى نَارٍ. وَلِذَلِكَ كَانَ شُيُوخُنَا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَنْظُرَ الْمَرْءُ فِي الْأَبْيَاتِ الْحِكَمِيَّةِ الَّتِي جَمَعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْعِلْمِيَّةَ :
كَيْفَ يُزْهَى مَنْ رَجِيعُهُ | أَبَدَ الدَّهْرِ ضَجِيعُهُ |
فَهُوَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ | وَأَخُوهُ وَرَضِيعُهُ |
وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْحَشِّ | بِصُغْرٍ فَيُطِيعُهُ |
اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ النَّاسُ، فَصَغْوُ -أَيْ مَيْلُ- الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْفِكْرَةَ أَفْضَلُ، فَإِنَّهَا تُثْمِرُ الْمَعْرِفَةَ، وَهِيَ أَفْضَلُ الْمَقَامَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَصَغْوُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ ؛ لِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ من الْحَثِّ وَالدُّعَاءِ إلَيْهَا، وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا، وَالْإِيعَازِ بِمَنَازِلِهَا وَثَوَابِهَا. وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فَمَنْ كَانَ شَدِيدَ الْفِكْرِ، قَوِيَّ النَّظَرِ، مُسْتَمِرَّ الْمِرَرِ، قَادِرًا عَلَى الْأَدِلَّةِ، مُتَبَحِّرًا فِي الْمَعَارِفِ، فَالْفِكْرُ لَهُ أَفْضَلُ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَالْأَعْمَالُ أَقْوَى لِنَفْسِهِ، وَأَثْبَتُ لِعُودِهِ.
ثَبَتَ عَنْ ( ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ زَوْجِهِ مَيْمُونَةَ، وَبَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَهُ فِي لَيْلَةٍ لَمْ تَكُنْ مَيْمُونَةُ تُصَلِّي فِيهَا، فَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَوْجُهُ فِي طُولِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي عَرْضِهَا ؛ فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ من سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ :﴿ إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ ؛ ثُمَّ قَامَ إلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ وُضُوءًا خَفِيفًا، ثُمَّ صَلَّى خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ). فَانْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ إلَى جَمْعِهِ بَيْنَ الْفِكْرَةِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لِتَأْكِيدِ الْمَعْرِفَةِ وَتَحْدِيدِهَا حَتَّى تَجَدَّدَتْ لَهُ حَيَاةٌ بِالْهَبِّ من النَّوْمِ، ثُمَّ إقْبَالِهِ عَلَى الصَّلَاةِ بَعْدَهَا ؛ فَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا.
فَأَمَّا طَرِيقَةُ الصُّوفِيَّةِ فَأَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ مِنْهُمْ يَبْقَى يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ شَهْرًا مُفَكِّرًا لَا يَفْتُرُ فَطَرِيقَةٌ بَعِيدَةٌ عَنْ الصَّوَابِ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِالشَّرْعِ وَلَا مُسْتَمِرَّةٍ عَلَى السُّنَنِ.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْمَعْنِيِّ بِهَا : وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ ( حَوَّاءُ الْأُمُّ الْأُولَى، حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا، فَلَمْ تَجِدْ لَهُ ثِقَلًا، وَلَا قَطَعَ بِهَا عَنْ عَمَلٍ، فَكُلَّمَا اسْتَمَرَّ بِهَا ثَقُلَ عَلَيْهَا، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهَا : إنْ كُنْت تَعْلَمِينَ أَنَّ هَذَا الَّذِي يَضْطَرِبُ فِي بَطْنِك من أَيْنَ يَخْرُجُ من جِسْمِك ؛ إنَّهُ لَيَخْرُجُ من أَنْفِك، أَوْ من عَيْنِك، أَوْ من فَمِك، وَرُبَّمَا كَانَ بَهِيمَةً ؛ فَإِنْ خَرَجَ سَلِيمًا يُشْبِهُك تُطِيعِينَنِي فِيهِ ؟ قَالَتْ لَهُ : نَعَمْ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ، فَقَالَ لَهَا : هُوَ صَاحِبُك الَّذِي أَخْرَجَك من الْجَنَّةِ. فَلَمَّا وَلَدَتْ -فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ- سَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ بِإِشَارَةِ إبْلِيسَ بِذَلِكَ عَلَيْهَا، وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ الْحَارِثَ، فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :﴿ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ﴾.
وَذَلِكَ مَذْكُورٌ وَنَحْوُهُ فِي ضَعِيفِ الْحَدِيثِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ كَثِيرٌ لَيْسَ لَهَا ثَبَاتٌ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهَا مَنْ لَهُ قَلْبٌ ؛ فَإِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِنْ كَانَ غَرَّهُمَا بِاَللَّهِ الْغَرُورُ فَلَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ من جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، وَمَا كَانَا بَعْدَ ذَلِكَ لِيَقْبَلَا لَهُ نُصْحًا وَلَا يَسْمَعَا مِنْهُ قَوْلًا.
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا جِنْسُ الْآدَمِيِّينَ ؛ فَإِنَّ حَالَهُمْ فِي الْحَمْلِ وَخِفَّتِهِ وَثِقَلِهِ إلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذَا خَفَّ عَلَيْهِمْ الْحَمْلُ اسْتَمَرُّوا بِهِ ؛ فَإِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ نَذَرُوا كُلَّ نَذْرٍ فِيهِ، فَإِذَا وُلِدَ لَهُمْ ذَلِكَ الْوَلَدُ جَعَلُوا فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ شُرَكَاءَ فِي تَسْمِيَتِهِ وَعَمَلِهِ، حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى الْأَصْنَامِ، وَيَجْعَلُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالْحَقِّ، وَأَقْرَبُ إلَى الصِّدْقِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَعُمُومُهَا الَّذِي يَشْمَلُ جَمِيعَ مُتَنَاوَلَاتِهَا، وَيَسْلَمُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ عَنْ النَّقْصِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِجُهَّالِ الْبَشَرِ، فَكَيْفَ بِسَادَتِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : أَوَّلُ الْحَمْلِ بِشْرٌ وَسُرُورٌ، وَآخِرُهُ مَرَضٌ من الْأَمْرَاضِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا ﴾. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ إنَّهُ مَرَضٌ من الْأَمْرَاضِ يُعْطِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ : فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا وَلَا يَدْعُو الْمَرْءُ هَذَا الدُّعَاءَ إلَّا إذَا نَزَلَتْ بِهِ شِدَّةٌ.
وَهَذِهِ الْحَالُ مُشَاهَدَةٌ فِي الْحَوَامِلِ، وَلِأَجْلِ عِظَمِ الْأَمْرِ وَشِدَّةِ الْخَطْبِ جُعِلَ مَوْتُهَا شَهَادَةً، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سَوَاءٌ : الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَذَكَرَ : الْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجَمْعٍ شَهِيدٌ ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا من ظَاهِرِ الْآيَةِ فَحَالُ الْحَامِلِ حَالُ الْمَرِيضِ فِي أَفْعَالِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ فِعْلَ الْمَرِيضِ فِيمَا يَهَبُ أَوْ يُحَابِي فِي ثُلُثِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ حَالُ الطَّلْقِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا ؛ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَمْلَ عَادَةٌ وَأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ السَّلَامَةُ.
قُلْنَا : كَذَلِكَ أَكْثَرُ الْمَرَضِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ السَّلَامَةُ، وَقَدْ يَمُوتُ مَنْ لَمْ يَمْرَضْ، وَلَكِنْ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَالِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ إنْكَارَ مَرَضِ الْحَامِلِ عِنَادٌ ظَاهِرٌ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ حَمَلَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ الْمَحْبُوسَ فِي قَوَدٍ أَوْ قِصَاصٍ، وَحَاضِرَ الزَّحْفِ.
وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامَانِ الْمَذْكُورَانِ وَغَيْرُهُمَا، فَإِذَا اسْتَوْعَبْت النَّظَرَ لِمَ تَرَتَّبَ فِي أَنَّ الْمَحْبُوسَ عَلَى الْقَتْلِ أَشَدُّ حَالًا من الْمَرِيضِ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ غَفْلَةٌ فِي النَّظَرِ ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْمَوْتِ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمَا، كَمَا أَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ :﴿ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ من قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾. وَهِيَ : الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : فِي الْأَحْكَامِ من غَيْرِ السُّورَةِ، وَذُكِرَتْ هَاهُنَا لِاقْتِضَاءِ الْقَوْلِ إيَّاهَا، وَإِنَّمَا رَأَوْا أَسْبَابَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ رُوَيْشِدُ الطَّائِيُّ :
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ | سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ |
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا | قَوْلًا يُبَرِّئْكُمْ إنِّي أَنَا الْمَوْتُ |
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : فِي الْأَحْكَامِ من غَيْرِ السُّورَةِ اقْتَضَاهَا الْقَوْلُ هَاهُنَا :﴿ إذْ جَاءُوكُمْ من فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاَللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ فَكَيْفَ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْحَالَةَ الشَّدِيدَةَ إنَّمَا هِيَ الْمُبَارَزَةُ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ مُنَازَلَةِ الْعَدُوِّ، وَتَدَانِي الْفَرِيقَيْنِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْعُظْمَى من بُلُوغِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ، وَمِنْ سُوءِ الظُّنُونِ بِاَللَّهِ، وَمِنْ زَلْزَلَةِ الْقُلُوبِ وَاضْطِرَابِهَا، هَلْ هَذِهِ الْحَالُ تُرَى عَلَى الْمَرِيضِ أَمْ لَا ؟ فَهَذَا كُلُّهُ لَا يَشُكُّ فِيهِ مُنْصِفٌ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا لِمَنْ ثَبَتَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَشَاهَدَ الرَّسُولَ وَآيَاتِهِ، فَكَيْفَ بِنَا ؟ وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَنَا خَبَرٌ من الْأَخْبَارِ لَمْ يَعْرِفْهُ إلَّا الْأَحْبَارُ، وَلَا قَدَّرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ إلَّا الْأَخْيَارُ، وَهَذَا كُلُّهُ يُعَرِّفُكُمْ قَدْرَ مَالِكٍ عَلَى سَائِرِ الْعُلَمَاءِ فِي النَّظَرِ، وَيُبَصِّرُكُمْ اسْتِدَادَهُ عَلَى سَوَاءِ الْفِكَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي رَاكِبِ الْبَحْرِ ؛ هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ أَوْ الْحَامِلِ ؟
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَشْهَبُ : حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَامِلِ إذَا بَلَغَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَابْنُ الْقَاسِمِ لَمْ يَرْكَبْ الْبَحْرَ، وَلَا رَأَى أَنَّهُمْ دُودٌ عَلَى عُودٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُوقِنَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ وَحْدَهُ لَا فَاعِلَ مَعَهُ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ ضَعِيفَةٌ لَا تَعَلُّقَ لِمُوقِنٍ بِهَا، وَيَتَحَقَّقُ التَّوَكُّلُ وَالتَّفْوِيضُ فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ، وَلَوْ عَايَنَ ذَلِكَ سَبْعِينَ من الدَّهْرِ، وَتَطْلُعُ لَهُ الشَّمْسُ فِي الْمَاءِ وَتَغْرُبُ فِيهِ، وَيَتْبَعُهَا الْقَمَرُ كَذَلِكَ، وَلَا يَسْمَعُ لِلْأَرْضِ خَبَرًا، وَلَا تَصْفُو سَاعَةٌ من كَدَرٍ، وَيَعْطَبُ فِي آخِرِ الْحَالِ، كَانَ رَأْيُهُ كَرَأْيِ أَشْهَبَ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُ الْمَقَالَ وَيُسَدِّدُ بِعِزَّتِهِ الْمَذْهَبَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَرِيضَةٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي فِطْرِهَا وَفِدْيَتِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْعَفْوِ :
قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فِي الْإِطْلَاقِ وَالِاشْتِقَاقِ، وَاخْتَلَفَ إيرَادُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الْفَضْلُ من أَمْوَالِ النَّاسِ، نَسَخَتْهُ الزَّكَاةُ ؛ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي : أَنَّهُ الزَّكَاةُ ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَسَمَّاهَا عَفْوًا ؛ لِأَنَّهُ فَضْلُ الْمَالِ وَجُزْءٌ يَسِيرٌ مِنْهُ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَمْرٌ بِالِاحْتِمَالِ وَتَرْكِ الْغِلْظَةِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْقِتَالِ.
الرَّابِعُ : خُذْ الْعَفْوَ من أَخْلَاقِ النَّاسِ ؛ قَالَهُ ابْنَا الزُّبَيْرِ مَعًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُمَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ :( إنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ جِبْرِيلُ : لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ، فَذَهَبَ فَمَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك، وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَك ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ :
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : الْعُرْفُ : الْمَعْرُوفُ ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ.
الثَّانِي : قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.
الثَّالِثُ : مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ من الدِّينِ.
الرَّابِعُ : مَا لَا يُنْكِرُهُ النَّاسُ من الْمَحَاسِنِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ :﴿ أَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ ﴾ :
فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُحْكَمٌ، أُمِرَ بِاللِّينِ.
الثَّانِي : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رَوَى ( جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ : رَكِبْت قَعُودِي ثُمَّ أَتَيْت إلَى مَكَّةَ، فَطَلَبْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنَخْت قَعُودِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَدَلُّونِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ بُرْدٌ من صُوفٍ فِيهِ طَرَائِقُ حُمْرٌ، فَقُلْت : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ : وَعَلَيْك السَّلَامُ. فَقُلْت : إنَّا مَعْشَرَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَوْمٌ فِينَا الْجَفَاءُ فَعَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا.
قَالَ : اُدْنُ مِنَّا. فَدَنَوْت، فَقَالَ : أَعِدْ عَلَيَّ. فَأَعَدْت. فَقَالَ : اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَحْقِرَنَّ من الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَأَنْ تَلْقَى أَخَاك بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ من دَلْوِك فِي إنَاءِ أَخِيك، وَإِنْ أَحَدٌ سَبَّك بِمَا يَعْلَمُ مِنْك فَلَا تَسُبَّهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَك أَجْرًا وَعَلَيْهِ وِزْرًا، وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا مِمَّا خَوَّلَك اللَّهُ.
فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا سَبَبْت بَعْدَهُ لَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا ).
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ من النَّفَرِ الَّذِي يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ : يَا بْنَ أَخِي ؛ لَك وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ قَالَ : سَأَسْتَأْذِنُ لَك.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَاسْتَأْذَنَ الْجَدُّ لِعُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ : هِيهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاَللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ فِينَا بِالْعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ : الْعَفْوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ :﴿ خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ ﴾، وَإِنَّ هَذَا من الْجَاهِلِينَ، وَاَللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ :
أَمَّا الْعَفْوُ فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي مُتَنَاوَلَاتِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ خُذْ مَا خَفَّ وَسَهُلَ مِمَّا تُعْطَى، فَقَدْ ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبَلُ من الصَّدَقَةِ التَّمْرَةَ وَالْقَبْضَةَ وَالْحَبَّةَ وَالدِّرْهَمَ وَالسَّمَلَ، وَلَا يَلْمِزُ شَيْئًا من ذَلِكَ وَلَا يَعِيبُهُ ) : وَلَقَدْ كَانَ يُسْقِطُ من الْحُقُوقِ مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ فِي الصَّحِيحِ :( مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ لِنَفْسِهِ قَطُّ ).
وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ : فَقَدْ ( كَانَ يَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى، وَيَحْتَمِلُ الْجَفَاءَ، حَتَّى قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ من هَذَا فَصَبَرَ. وَأَمَّا مُخَالَفَةُ النَّاسِ : فَهُوَ كَانَ أَقْدَرَ الْخَلْقِ عَلَيْهَا وَأَوْلَاهُمْ بِهَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَلْقَى كُلَّ أَحَدٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ من شَيْخٍ وَعَجُوزٍ، وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَبِدَوِيٍّ وَحَضَرِيٍّ، وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ، وَلَقَدْ ( كَانَتْ الْمَرْأَةُ تُوقِفُهُ فِي السِّكَّةِ من سِكَكِ الْمَدِينَةِ، وَلَقَدْ كَانَ يَقُولُ لِأَخٍ لِأَنَسٍ صَغِيرٍ : يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ).
وَلَقَدْ ( كَانَ يُكَلِّمُ النَّاسَ بِلُغَاتِهِمْ، فَيَقُولُ لِمَنْ سَأَلَهُ أَمِنَ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ ؟ فَيَقُولُ لَهُ : لَيْسَ من امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ بِالْعُرْفِ :
أَمَّا الْعُرْفُ : فَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْمَعْرُوفُ من الدِّينِ الْمَعْلُومُ من مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ الَّتِي أُمَّهَاتُهَا وَأُصُولُهَا الثَّلَاثُ الَّتِي يُقَالُ إنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِهَا : أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك، فَلَا شَيْءَ أَفْضَلَ من صِلَةِ الْقَاطِعِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَرَمِ النَّفْسِ، وَشَرَفِ الْحِلْمِ، وَخُلُقِ الصَّبْرِ الَّذِي هُوَ مِفْتَاحُ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَفِي الْأَثَرِ :( لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا ). وَقَالَ :( أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ ).
وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ :( بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةً اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا من الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ : أَلَيْسَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُطِيعُونِي ؟ قَالُوا : بَلَى. قَالَ : فَاجْمَعُوا حَطَبًا. فَجَمَعُوا. فَقَالَ : أَوْقِدُوا لِي نَارًا. فَأَوْقَدُوهَا. فَقَالَ : اُدْخُلُوهَا. فَهَمُّوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا وَيَقُولُونَ : فَرَرْنَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من النَّارِ. فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتْ النَّارُ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ )، يُرِيدُ الَّذِي يَجُوزُ فِي الدِّينِ مَوْقِعُهُ وَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُهُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَأَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْ الْجَاهِلِينَ فَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ، عَامٌّ فِي كُلِّ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَهُمْ. وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ :﴿ لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ من دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ ﴾.
وَقَالَتْ ( أَسْمَاءُ : إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ، صِلِي أُمَّك ).
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ الْآيَةُ من ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ، قَدْ تَضَمَّنَتْ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ حَسَنَةٌ إلَّا أَوْضَحَتْهَا، وَلَا فَضِيلَةٌ إلَّا شَرَحَتْهَا، وَلَا أُكْرُومَةٌ إلَّا افْتَتَحَتْهَا، وَأَخَذَتْ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ أَقْسَامَ الْإِسْلَامِ الثَّلَاثَةَ ؛ فَقَوْلُهُ :﴿ خُذْ الْعَفْوَ ﴾ تَوَلَّى بِالْبَيَانِ جَانِبَ اللِّينِ، وَنَفْيَ الْحَرَجِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَالتَّكْلِيفِ.
وَقَوْلُهُ :﴿ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ ؛ وَإِنَّهُمَا مَا عُرِفَ حُكْمُهُ، وَاسْتَقَرَّ فِي الشَّرِيعَةِ مَوْضِعُهُ، وَاتَّفَقَتْ الْقُلُوبُ عَلَى عِلْمِهِ.
وَقَوْلُهُ :﴿ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ ﴾ تَنَاوَلَ جَانِبَ الصَّفْحِ بِالصَّبْرِ الَّذِي بِهِ يَتَأَتَّى لِلْعَبْدِ كُلُّ مُرَادٍ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ شَرَحْنَا ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ لَكَانَ أَسْفَارًا.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ ( النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ أُنَاسٌ من خَلْفِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ :{ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ. . . ) ؛ فَسَكَتَ النَّاسُ خَلْفَهُ، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ : مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ من صَلَاةٍ جُهِرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ : هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ [ مَعِي ] آنِفًا ؟ فَقَالَ رَجُلٌ، نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ : إنِّي أَقُولُ : مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ ؟ قَالَ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ من الصَّلَوَاتِ بِالْقِرَاءَةِ، حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ من رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ). وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ :( صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَا صَلَاةَ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ، فَقَالَ : وَأَيُّكُمْ قَرَأَ خَلْفِي بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : قَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا }.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ :( صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصُّبْحَ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : إنِّي لَا أَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ وَرَاءَ إمَامِكُمْ. قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إي وَاَللَّهِ. قَالَ : فَلَا تَفْعَلُوا إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا ).
وَقَدْ رَوَى النَّاسُ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، أَعْظَمُهُمْ فِي ذَلِكَ اهْتِبَالًا الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَقَدْ جَمَعَ الْبُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ جُزْءًا، وَكَانَ رَأْيُهُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَهِيَ إحْدَى رِوَايَاتِ مَالِكٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :( مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، غَيْرُ تَمَامٍ.
فَقُلْت : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؛ إنِّي أَحْيَانًا أَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ، فَغَمَزَ ذِرَاعِي، وَقَالَ : اقْرَأْ بِهَا يَا فَارِسِيُّ فِي نَفْسِك، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ : قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : اقْرَءُوا، يَقُولُ الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. يَقُولُ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. يَقُولُ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي.
يَقُولُ الْعَبْدُ : إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ.
يَقُولُ الْعَبْدُ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ).
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا ؛ فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ ).
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فَقَرَأَ قَوْمٌ خَلْفَهُ، فَقَالَ : مَا لَكُمْ لَا تَعْقِلُونَ ؟ ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾.
وَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ : كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ أَنَّ فَتًى كَانَ يَقْرَأُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا قَرَأَ فِيهِ النَّبِيُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ فِيهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : نَزَلَتْ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ ؛ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِيهَا قَلِيلٌ، وَالْإِنْصَاتُ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَرَأَ بِهَا، وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ : لَا صَلَاةَ إلَّا بِهَا. وَأَصَحُّ مِنْهُ قَوْلُ جَابِرٍ : لَا يُقْرَأُ بِهَا خَلْفَ الْإِمَامِ خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :( إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا ) ؛ وَهَذَا نَصٌّ لَا مَطْعَنَ فِيهِ، يُعَضِّدُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، وَقَدْ غَمَزَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِمَا لَا يَقْدَحُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ قَدْ أَشَرْنَا إلَى بَعْضِهَا، وَذَكَرْنَا نُبَذًا مِنْهَا، وَالتَّرْجِيحُ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ فِيهَا.
وَاَلَّذِي نُرَجِّحُهُ وُجُوبَ الْقِرَاءَةِ فِي الْإِسْرَارِ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ.
وَأَمَّا الْجَهْرُ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقِرَاءَةِ فِيهِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
الثَّانِي : أَنَّهُ حُكْمُ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ :﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ﴾.
وَقَدْ عَضَّدَتْهُ السُّنَّةُ بِحَدِيثَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ :( قَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا ).
الثَّانِي : قَوْلُهُ :( وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا ).
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : فِي التَّرْجِيحِ : إنَّ الْقِرَاءَةَ مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ لَا سَبِيلَ إلَيْهَا فَمَتَى يَقْرَأُ ؟ فَإِنْ قِيلَ : يَقْرَأُ فِي سَكْتَةِ الْإِمَامِ. قُلْنَا : السُّكُوتُ لَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ فَكَيْفَ يُرَكَّبُ فَرْضٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَجَدْنَا وَجْهًا لِلْقِرَاءَةِ مَعَ الْجَهْرِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْقَلْبِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَهَذَا نِظَامُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَحِفْظُ الْعِبَادَةِ، وَمُرَاعَاةُ السُّنَّةِ، وَعَمَلٌ بِالتَّرْجِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرْ رَبَّك فِي نَفْسِك تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ من الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ من الْغَافِلِينَ ﴾.
فَقَوْلُهُ :﴿ فِي نَفْسِك ﴾ يَعْنِي صَلَاةَ الْجَهْرِ. وَقَوْلُهُ :﴿ وَدُونَ الْجَهْرِ من الْقَوْلِ ﴾ يَعْنِي صَلَاةَ السِّرِّ ؛ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ فِيهِ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه قَلِيلًا بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّمَا خَرَجَتْ الْآيَةُ عَلَى سَبَبٍ ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يُكْثِرُونَ اللَّغَطَ فِي قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَيَمْنَعُونَ من اسْتِمَاعِ الْأَحْدَاثِ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾، فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِنْصَاتِ حَالَةَ أَدَاءِ الْوَحْيِ، لِيَكُونَ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْكُفَّارِ.
قُلْنَا : عَنْهُ جَوَابَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ ؛ فَلَا يَنْفَعُ مُعْتَمَدُهُ.
الثَّانِي : أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ إذَا كَانَ خَاصًّا لَا يَمْنَعُ من التَّعَلُّقِ بِظَاهِرِهِ إذَا كَانَ عَامًّا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ وَلَا لِلشَّافِعِيَّةِ كَلَامٌ يَنْفَعُ بَعْدَمَا رَجَّحْنَا بِهِ وَاحْتَجَجْنَا بِمَنْصُوصِهِ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ تَمْهِيدًا يُسَكِّنُ كُلَّ جَأْشٍ نَافِرٍ.
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَمُنْتَظِمَةٌ مَعَ مَا سَبَقَهَا ؛ وَهِيَ إخْبَارٌ من اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا دَائِمُونَ، وَعَلَيْهَا قَائِمُونَ، وَبِهَا عَامِلُونَ ؛ فَلَا تَكُنْ من الْغَافِلِينَ فِيمَا أُمِرْت بِهِ وَكُلِّفْته. وَهَذَا خِطَابُهُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْأُمَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ أَوَّلُ سُجُودِ الْقُرْآنِ، وَفِيهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً : الْأُولَى : هَذِهِ، خَاتِمَةُ الْأَعْرَافِ.
الثَّانِيَةُ : فِي الرَّعْدِ :﴿ وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾.
الثَّالِثَةُ : فِي النَّحْلِ :﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾.
الرَّابِعَةُ : فِي بَنِي إسْرَائِيلَ :﴿ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾.
الْخَامِسَةُ : فِي مَرْيَمَ :﴿ [ خَرُّوا ] سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾.
السَّادِسَةُ : فِي أَوَّلِ الْحَجِّ :﴿ [ يَفْعَلُ ] مَا يَشَاءُ ﴾.
السَّابِعَةُ : فِي آخِرِ الْحَجِّ :﴿ تُفْلِحُونَ ﴾.
الثَّامِنَةُ : فِي الْفُرْقَانِ :﴿ نُفُورًا ﴾.
التَّاسِعَةُ : فِي النَّمْلِ :﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾.
الْعَاشِرَةُ : فِي تَنْزِيلُ :﴿ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي ص :﴿ [ وَخَرَّ رَاكِعًا ] وَأَنَابَ ﴾.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِي حم :﴿ [ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ ] تَعْبُدُونَ ﴾.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : آخِرُ النَّجْمِ :﴿ وَاعْبُدُوا ﴾.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي الِانْشِقَاقِ قَوْلُهُ :﴿ لَا يَسْجُدُونَ ﴾.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : خَاتِمَةُ الْقَلَمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( إذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ وَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، فَيَقُولُ : يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْت بِالسُّجُودِ فَأَبَيْت فَلِيَ النَّارُ ).
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ، فَيَسْجُدُ. وَنَسْجُدُ مَعَهُ، حَتَّى مَا يَجِدَ أَحَدُنَا مَكَانًا لِجَبْهَتِهِ لِيَسْجُدَ فِيهِ ).
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ ( رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ عَامَ الْحَجِّ سَجْدَةً، فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، مِنْهُمْ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى إنَّ الرَّاكِبَ يَسْجُدُ عَلَى ثَوْبِهِ ).
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ وَاجِبٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ عَوَّلَ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ عَلَى الْوُجُوبِ. وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ ).
وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا إذَا قَرَأَهَا.
وَعَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ الثَّابِتِ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ سَجْدَةً وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَنَزَلَ فَسَجَدَ فَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ. ثُمَّ قَرَأَ بِهَا فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ : عَلَى رِسْلِكُمْ، إنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا، إلَّا أَنْ نَشَاءَ. وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ من الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَثَبَتَ الْإِجْمَاعُ بِهِ فِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا حَمَلْنَا جَمِيعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ عَلَى النَّدْبِ وَالتَّرْغِيبِ.
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ }. إخْبَارٌ عَنْ السُّجُودِ الْوَاجِبِ ؛ وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
وَقَدْ اسْتَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : لَا بُدَّ فِيهَا من الطَّهَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ، فَوَجَبَتْ فِيهَا الطَّهَارَةُ، كَسُجُودِ الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ التَّكْبِيرُ مِثْلُهُ ؛ فَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَثَرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَكَذَلِكَ إذَا رَفَعَ كَبَّرَ ). وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا هَلْ فِيهَا تَحْلِيلٌ بِالسَّلَامِ أَمْ لَا ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ فِيهَا تَحْلِيلًا [ بِالسَّلَامِ ] ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَهَا تَكْبِيرٌ، فَكَانَ فِيهَا سَلَامٌ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ قَوْلٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي صَلَاتِهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ؛ فَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهَا تُصَلَّى فِيهَا ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
الثَّانِيَةُ : لَا تُصَلَّى ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
مُتَعَلَّقُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عُمُومُ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ، وَمُتَعَلَّقُ الْقَوْلِ الثَّانِي عُمُومُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَوَاتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ، وَالنَّهْيَ خَاصٌّ فِي الْأَوْقَاتِ، وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ ؛ وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ عِنْدِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : سَجْدَةُ الْحَجِّ الثَّانِيَةُ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ وَغَيْرُهُمَا : هِيَ عَزِيمَةٌ. وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا : إنَّهَا لَيْسَتْ سُجُودَ عَزِيمَةٍ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ رُكُوعِ الصَّلَاةِ وَسُجُودِهَا ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّ عُمَرَ سَجَدَ فِيهَا وَهُوَ يَفْهَمُ الْأَمْرَ أَقْعَدَ، وَبَيْنَ قَوْمٍ كَانُوا أَفْهَمَ وَأَسَدَّ ؛ فَبِهِمْ فَاقْتَدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : يُسْجَدُ فِي النَّمْلِ عِنْدَ [ قَوْلِهِ ] :﴿ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ عِنْدَ تَمَامِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُسْجَدُ عِنْدَ قَوْلِهِ :﴿ الْعَلِيمُ ﴾. الَّذِي فِيهِ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَقْوَى.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : سَجْدَةُ " ص " : عِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَجْدَةُ شُكْرٍ، وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ﴿ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَجْدَةُ { ص ﴾ لَيْسَتْ من عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ : هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ عَزِيمَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اللَّهُ لَهُ :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ ﴾، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : ص، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَشَزَّنَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ لِلسُّجُودِ وَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدُوا.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : السُّجُودُ فِيهَا عِنْدَ تَمَامِ قَوْلِهِ :﴿ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ لِأَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَمَوْضِعُ الْخُضُوعِ وَالْإِنَابَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ :﴿ وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ التَّوْبَةِ وَحُسْنِ الْمَآبَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ ؛ رَجَاءَ الِاهْتِدَاءِ فِي الِاقْتِدَاءِ وَالْمَغْفِرَةِ عِنْدَ الِامْتِثَالِ، كَمَا غُفِرَ لِمَنْ سَبَقَ من الْأَنْبِيَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : السُّجُودُ فِي فُصِّلَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ :﴿ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ ؛ لِأَنَّهُ انْتِهَاءُ الْأَمْرِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ :﴿ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴾ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ امْتِثَالِ مَنْ أُمِرَ عِنْدَ ذِكْرِ مَنْ اسْتَكْبَرَ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُمْ. وَالْأَوَّلُ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَثِلُ الْأَمْرَ وَيَخْرُجُ عَمَّنْ اسْتَكْبَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : أَمَّا سَجْدَةُ " النَّجْمِ " : فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ ﴿ وَالنَّجْمِ ﴾ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا.
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْعُلَمَاءُ الْأَئِمَّةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ وَالنَّجْمِ، فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ، فَأَخَذَ رَجُلٌ من الْقَوْمِ كَفًّا من حَصًى أَوْ تُرَابٍ، فَرَفَعَهُ إلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ : يَكْفِينِي هَذَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَلَقَدْ رَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ )، فَكَيْفَ يَتَأَخَّرُ أَحَدٌ عَنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثّ