ﰡ
فإن قلتَ : الأعمال أعراض فكيف تُوزن ؟ !
قلتُ : يصيّرها الله أجساما، أو الموزون صحائفها( ١ ).
أو المراد : ولقد خلقنا أباكم ثم صوّرناه( ١ ) ؛ بحذف مضاف.
وفي ( ص ) :﴿ قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ﴾ [ ص : ٧٥ ] بزيادة ﴿ يا إبليس ﴾ فيهما.
لأن خطابه هنا قَرُب من ذكره، فحسن حذف ذلك، وفي تيْنِك لم يَقْرُبْ منه قربه هنا، فحسُن ذكره.
وأما قوله هنا وفي ص " منعك " وفي الحجر " مالك " ؟ فتفنُّنٌ، جريا على عادة العرب في تفنّنهم في الكلام.
وقوله :﴿ ألا تسجد ﴾ قال ذلك بزيادة " لا " كما في قوله تعالى :﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٩ ] وقال في ( ص ) بحذفها، وهو الأصل، فزيادتها هنا لتأكيد معنى النّفي في " منعك ".
أو لتضمين " منعك " حَمَلَك، وهي على الثاني ليست زائدة في المعنى.
قوله تعالى :﴿ قال أنظرني إلى يوم يبعثون ﴾ [ الأعراف : ١٣ ] قاله هنا بحذف الفاء، موافقة لحذف ﴿ يا إبليس ﴾ هنا. وقال في " الحجر " ( ١ ) و " ص " ( ٢ ) بذكرها، موافقة لذكره ثَمّ، لما تصمّنه النداء من " أدعوك " وأناديك، كما في قوله تعالى :﴿ ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا ﴾ [ آل عمران : ١٩٣ ].
٢ - وأشار إلى قوله تعالى في سورة ص ﴿قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون. قال فإنك من المنظرين﴾ آية (٨٠)..
وقال في " الحجر " و " ص " بذكرها موافقة لذكرها فيه ثَمّ.
فإن قلتَ : كيف أُجيبَ إبليس إلى الإنظار، مع أنه إنما طلبه ليُفسد أحوال عباد الله تعالى ؟ !
قلتُ : لما في ذلك من ابتلاء العباد، ولما في مخالفته من أعظم الثواب.
وقال : في ( ص ) :﴿ فبعزّتك ﴾ [ ص : ٨٢ ] بالفاء، مع مخالفته لتيْنك في مدخول الباء. لأن " الفاء " وقعت هنا في محلها، وفي " ص " لأنها متسببة عما قبلها، ولا مانع فحسنت، ولم تحسُن في " الحجر " لوقوع النّداء ثَمّ في قوله :﴿ ربّ بما أغويتني ﴾ [ الحجر : ٣٩ ] والنداء يُستأنف له الكلام ويُقطع، وال " باء " في المواضع الثلاثة للسببيّة، أو للقسم، وما بعدها في " ص " موافق لما بعدها في غيرها في المعنى، وإن خالفه لفظا، فلا اختلاف في الحقيقة، إذ غوى الله للشيطان يتضمّن عزّته تعالى.
لِدُوا للموت وابْنُوا للخَراب فكلّكمُ يصير إلى التُّراب
أن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أنه تعالى بدأنا أولا نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم لحما، ونحن نعود بعد الموت كذلك ؟
قلتُ : معناه : كما بدأكم من تراب، كذلك تعودون منه ! ! أو كما أوجدكم بعد العدم، كذلك يعيدكم بعده... فالتشبيه في نفس الإحياء والخلق، لا في الكيفيّة والترتيب.
إن قلتَ : كيف أخبر عن الزّينة والطيّبات، بأنهما للذين آمنوا في الحياة الدنيا، مع أنّ المشاهدَ أنهما لغير الذين آمنوا أكثر وأدوم ؟
قلتُ : في الآية إضمار تقديره( ١ ) : قل هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا( ٢ )، خالصة للمؤمنين يوم القيامة.
٢ - أقول: لا يُحتاج إلى هذا التأويل، فإن قوله: ﴿في الحياة الدنيا﴾ متعلقة بآمنوا، والمعنى: قل هي لهؤلاء المؤمنين الذين آمنوا في الدنيا، خالصة لهم يوم القيامة، لا يشاركهم فيها غيرهم، بخلاف الدنيا فإن البرّ والفاجر يشتركون فيها، والله أعلم..
وقوله في الآية :﴿ ولا يستقدمون ﴾ معطوف على الجملة الشرطية( ٢ )، لا على جواب الشرط، إذ لا يصحّ ترتُّبه على الشرط...
٢ - أي لا يتقدم أجل وفاتهم ولا يتأخر برهة من الزمن..
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن الميراث هو ما ينتقل من ميّت إلى حيّ، وهو مفقود هنا ؟ !
قلتُ : بل هو تشبيه أهل الجنة وأهل النار، بالوارث والموروث عنه، لأن الله خلق في الجنة منازل للكفار، بتقدير إيمانهم، فمن لم يؤمن منهم، جُعل منزلُه لأهل الجنة.
أو لأن دخول الجنة، لا يكون إلا برحمة الله تعالى لا بعمل( ١ )، فأشبه الميراث، وإن كانت الدرجات فيها بحسب الأعمال.
وما في هود، وقع بعد قوله تعالى :﴿ ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ [ هود : ١٨ ] والقياس عليهم، فلمّا عبّر عنهم بالظالمين، التبس أنهم هم الذين كذبوا على ربّهم أم غيرهم، فقال :﴿ وهم بالآخرة هم كافرون ﴾ [ هود : ١٩ ] ليُعلم أنهم هم المذكورون لا غيرُهم.
قاله هنا وفي " الروم " بلفظ المضارع.
وقال في " الفرقان " ( ١ ) و " فاطر " ( ٢ ) : أرسل بلفظ الماضي.
لأن ما هنا تقدَّمه ذكر الخوف والطّمع، في قوله تعالى :﴿ وادعوه خوفا وطمعا ﴾ [ الأعراف : ٥٦ ] وهما للمستقبل.
وما في " الروم " ( ٣ )، تقدَّمه التعبير بالمضارع مرّات، في قوله تعالى :﴿ ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ﴾ الآية [ الروم : ٤٦ ]، فناسب ذكر المضارع فيهما.
وما في " الفرقان " تقدَّمه التعبير بالماضي مرّات، في قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظل ﴾ [ الفرقان : ٤٥ ] وتأخر عنه ذلك في قوله :﴿ وهو الذي مرج البحرين ﴾ الآية [ الفرقان : ٥٣ ].
وما في " فاطر " تقدَّمه في أولها " فاطر " و " جاعل " وهما بمعنى الماضي، فناسب ذكر الماضي في السورتين.
٢ - في قوله تعالى: ﴿والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا... ﴾ فاطر: ٩..
٣ - في قوله تعالى: ﴿الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء.. ﴾ الروم: ٤٨..
قاله هنا بغير واو، وقاله في " هود " و " المؤمنين " بواو، لأن ما هنا مستأنف لم يتقدَّمه ذكر نبيّ، وما في هود تقدَّمه ذكر الأنبياء مرة بعد أخرى، وما في المؤمنين تقدّمه ﴿ ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق ﴾ [ المؤمنون : ١٧ ] وقوله :﴿ وعليها وعلى الفلك تُحملون ﴾ [ المؤمنون : ٢٢ ] وكلّها بالواو، فناسب ذكرها فيهما.
قاله هنا في قصة " نوح " و " هود " بلا فاء، لأنه خرج مخرج الابتداء، وإن تضمّن الجواب، كما في قوله تعالى :﴿ قالوا نحن أعلم بمن فيها ﴾ [ العنكبوت : ٣٢ ] بعد قوله :﴿ قال إن فيها لوطا ﴾ [ العنكبوت : ٣٢ ].
وقاله في " هود " ( ١ ) و " المؤمنين " ( ٢ ) بالفاء، لأنه وقع جوابا لما قبله، فناسبتْه الفاء.
فإن قلتَ : كيف وصف الملأ ب ﴿ الذين كفروا ﴾ [ الأعراف : ٦٦ ] في قصة هود، دون قصة نوح عليها الصلاة والسلام ؟ !
قلتُ : لأنه كان قد آمن بهود بعضُهم، فلم يكونوا كلهم قائلين له :﴿ إنا لنراك في سفاهة ﴾ [ الأعراف : ٦٦ ] بخلاف قوم نوح، فإنه لم يكن فيهم من آمن به إذ ذاك.
ونُقِض : بأنه تعالى، وصف أيضا الملأ من قوم نوح بالكفر في سورة هود.
وأُجيب : بجواز كون هذا القول وقع مرتين، المرة الثانية بعد إيمان بعضهم، بخلاف المرة الأولى.
٢ - أشار إلى قوله تعالى: ﴿فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم﴾ آية: ٢٧..
وقال في قصة هود بلفظ اسم الفاعل( ٢ )، مناسبة لاسم الفاعل قبله في قوله :﴿ وإنا لنظنّك من الكاذبين ﴾ [ الأعراف : ٦٦ ] وبعده في قوله " أمين ".
وعبّر في قصة " نوح " و " هود " بالمضارع في الجملة الأولى، وفي قصة " صالح " ( ٣ ) و " شعيب " ( ٤ ) بالماضي فيهما، لأن ما في الأوّلين وقع في ابتداء الرسالة، وما في الآخرين وقع في آخرها.
٢ - أشار إلى قوله تعالى: ﴿أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين﴾ الأعراف: ٦٨..
٣ - أشار إلى قوله تعالى في قصة صالح: ﴿فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين﴾ الأعراف: ٧٩..
٤ - أشار إلى قوله تعالى في قصة شعيب: ﴿فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربّي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين﴾ الأعراف: ٩٣..
وقال في " هود " ﴿ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴾ [ هود : ٦٧ ] مرتين بالجمع لأن ما في المواضع الأُول، تقدَّمه ذكر الرِّجعة أي الزلزلة، وهي تختصّ بجزء من الأرض، فناسبها الإفراد. وما في الأخيرين، تقدَّمه ذكر الصَّيحة، وكانت من السماء، وهي زائدة على الرجفة، فناسبها الجمع.
لأن ما أمر به شعيب قومَه من التوحيد، وإيفاء الكيل، والنهي عن الصدّ، وإقامة الوزن بالقسط، أكثر مما أمر به صالح قومه.
أو لأن شعيبا : أرسل إلى أصحاب الأيكة، وإلى مدين، فجُمع باعتبار تعدّد المرسَل إليهم... و " صالح " عليه السلام وحّد باعتبار الجنس.
فإن قلتَ : كيف قال صالح لقومه، بعدما أخذتهم الرجفة وماتوا :﴿ يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ﴾ [ الأعراف : ٧٩ ] الآية، ومخاطبة الحيّ للميّت لا فائدة فيه ؟
قلتُ : بل فيه فائدة، وهي نصيحة غيره، فإن ذلك يستعمل عُرفا فيما ذكر، لأن من نصح غيره، فلم يقبل منه حتى قُتل، ويراه ناصحُه فإنه يقول له : كم نصحتك فلم تقبل حتى أصابك هذا ! ! حثّا للسّامعين له، على قبولهم النصيحة( ٢ ).
٢ - هذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى المشركين عندما أُلقوا في القليب ببدر: يا فلان ويا فلان، يناديهم بأسمائهم هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا.. القصة..
عبّر هنا بلفظ السَّرف والاسم، وفي " النمل " بلفظ الجهل والفعل( ١ ) تكثيراً للفائدة في التعبير عن المراد، بلفظين متساويين معنى، إذ كل سَرَف جهلٌ، وبالعكس، ورعاية للفواصل في التعبير بالاسم والفعل، إذ الفواصل هنا أسماء وهي : " العالمين، المرسلين، النّاصحين " إلى آخرها.
وفي النمل أفعال وهي : " يعلمون، يتقون، يبصرون " فناسب الاسم هنا، والفعل ثم.
لأن ما هنا تقدّمه اسم هو " مسرفون " والاسم لا يناسبه التعقيب، وما في تَيْنِكَ تقدَّمه فعل، هو " تجهلون " و " تقطعون " و " تأتون في ناديكم المنكر "، والفعل يناسبه التعقيب، فناسب ذكر الفاء الدّالة عليه ثَمَّ، وذكر " الواو " هنا.
٢ - أشار إلى قوله تعالى: ﴿فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين﴾ العنكبوت: ٢٩..
قاله هنا بحذف المعمول وهو " به "... وفي " يونس " ( ١ ) بإثباته تبعا لما قبلهما في الموضعين.
إذْ قبل ما هنا ﴿ ولكن كذّبوا ﴾ [ الأعراف : ٩٦ ] وقبل ما في يونس :﴿ كذبوا بآياتنا ﴾ [ آل عمران : ١١ ] بإثباته.
قوله تعالى :﴿ ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ﴾ [ الأعراف : ١٠٠ ]. مع قوله بعد :﴿ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ﴾ [ الأعراف : ١٠١ ].
قاله هنا أولا بالنون، وإضمار الفاعل، وثانيا بالياء وإظهار الفاعل، وقال في " يونس " بالنون والإضمار( ٢ ).. لأن الآيتين هنا تقدمهما الأمران : الياء مع الإظهار مرتين في قوله تعالى :﴿ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ [ الأعراف : ٩٩ ] والنون مع الإضمار في قوله :﴿ أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ﴾ [ الأعراف : ١٠٠ ] فناسب الجمع بين الأمرين هنا.
والآية ثَمَّ تقدَّمها النون مع الإضمار فقط، في قوله : " فنجيناهم " و " جعلناهم " " ثم بعثنا " فناسب الاقتصار على النون مع الإضمار ثَمّ.
٢ - أشار إلى قوله تعالى: ﴿كذلك نطبع على قلوب المعتدين﴾ يونس: ٧٤..
إن قلتَ : لم قال فرعون هذا، بعد قوله :﴿ إن كنت جئت بآية ﴾ ؟
قلتُ : معناه إن كنت جئت بآية من عند الله فأتني بها.
فإن قلتَ : كيف قال تعالى هنا حكاية عن السّحرة الذين آمنوا وعن فرعون ﴿ قالوا آمنا برب العالمين... ﴾ إلى قوله :﴿ وتوفّنا مسلمين ﴾ [ الأعراف : ١٢٦ ] ثم حكى عنهم هذا في " طه " و " الشعراء " بزيادة ونقصان، واختلاف ألفاظ في الألفاظ المنسوبة إليهم، والقصة واحدة، فكيف اختلفت عبارتهم فيها ؟
قلتُ : حكى الله ذلك عنهم مراراً، بألفاظ متساوية معنى، جريا على عادة العرب في التفنّن في الكلام، والحذف في محلّ، إحالة على ذكره في محلّ آخر، وإنما خولف في ذلك، لئلا يُملّ إذا تمحّض تكراره.
والحكمة في تكرار قصة موسى وغيرها من القصص، تأكيد التحدي، وإظهار الإعجاز، ولهذا سمّى الله القرآن " مثاني " لأنه تُثنّى فيه الأخبار والقصص، أو إفادة الغائب عن المرّة السابقة، فقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بعضهم، ويغيب بعضهم في الغزوات، فإذا حضر الغائبون، أكرمهم الله تعالى بإعادة الوحي، تشريفا لهم.
إن قلتَ : كيف نسب القول هنا للملأ، ونسبه في الشعراء لفرعون في قوله تعالى :﴿ قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم ﴾ ؟ [ الشعراء : ٣٤ ].
قلتُ : قاله فرعون وهم، فحكى قوله ثَمَّ، وقولهم وحدهم أو معه هنا.
وقرئ " بكل سَحَّار " موافقة لما في الشعراء( ١ ).
وقيل : " آمنتم به " و " آمنتم له " واحد.
إن قلتَ : كيف سمَّوا ذلك آية مع قولهم :﴿ لتسحرنا بها ﴾ ؟ !.
قلتُ : إنما سمَّوه آية استهزاء بموسى، لا اعتقادا أنه آية.
إن قلتَ : ما الجمع بينه وبين قوله في الشعراء :{ فأخرجناهم من جنات وعيون » ؟ [ الشعراء : ٥٧ ] الآية.
قلتُ : معنى " دمّرنا " أبطلنا ما كان يصنع فرعون وقومه، من المكر والكيد بموسى عليه السلام ﴿ وما كانوا يعرشون ﴾ يبنون من الصرح، الذي أمر فرعون هامان ببنائه، ليصعد بواسطته إلى السّماء.
وقيل : هو على ظاهره من أنّ معنى " دمّرنا " أهلكنا، لأن الله تعالى أورث ذلك بني إسرائيل مدة، ثم دمّره.
أي نعمة عظيمة، إن جعلت الإشارة راجعة إلى الإنجاء في قوله تعالى :﴿ وإذ أنجيناكم من آل فرعون ﴾ [ الأعراف : ١٤١ ].
أو محنة عظيمة، إن جعلتَ الإشارة راجعة إلى قتل الأبناء، واستحياء النساء( ١ )، في قوله تعالى :﴿ يقتّلون أبناءكم ويستحيون نساءكم ﴾ [ الأعراف : ١٤١ ]. إذِ البلاء بين " النِّعمة " و " المحنة " قال تعالى :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسّيّئات ﴾ [ الأعراف : ١٦٨ ] وقال :﴿ ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ].
فإن قلتَ : المواعدة كانت أمرا بالصّوم في هذا العدد، فكيف ذكر الليالي مع أنها ليست محلا للصوم ؟ !
قلتُ : العرب في أغلب تواريخها، إنما تذكر الليالي، وإن أرادت الأيام، لأن الليل هو الأصل في الزمان، والنهار عارض، لأن الظلمة سابقة في الوجود على النور، مع أن الليل ظرف لبعض الصوم وهي النيّة، التي هي ركن فيه.
قوله تعالى :﴿ فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة... ﴾ [ الأعراف : ١٤٢ ].
إن قلتَ : ما فائدته مع علمه ممّا قبله ؟
قلتُ : فائدته التوكيد، والعلم بأن العشر ليال، لا ساعات، ورفع توهّم أن العشر داخلة في الثلاثين، بمعنى أنها كانت عشرين وأُتمّت بعشر.
أو بأنك لا تُرى في الدنيا بالحاسّة الفانية.
إن قلتَ : كيف قال " بأحسنها " مع أنهم مأمورون بجميع ما فيها ؟
قلتُ : معنى " بأحسنها " بحسَنها وكلُّها حسن.. أو أمروا فيها بالخير، ونُهوا عن الشرّ، وفعل الخير أحسن من ترك الشرّ، أو أن فيها حسنا وأحسن، كالقَوَد والعفو، والانتصار والصبر، والمأمور به والمباح، فأُمروا بما هو الأكثر ثواباً.
إن قلتَ : كيف عبّر عن الندم بالسّقوط في اليد ؟
قلتُ : لأن عادة من اشتدّ ندمه على فائت، أن يعضّ يده غمّا، كما في قوله تعالى :﴿ ويوم يعضّ الظالم على يديه ﴾ [ الفرقان : ٢٧ ] فتصير يده مسقوطا فيها، لأن فاه قد وقع فيها.
إن قلتَ : يعني غضبان عن أسف ؟
قلتُ : لا، لأن " الأسِف " الحزين، وقيل : الشديد الغضب.
فإن قلتَ : القرآن لم ينزل مع النبي، بل عليه، وإنما نزل مع جبريل ؟ !
قلتُ : " معه " بمعنى مقارنا لزمنه، أو بمعنى عليه، أو هو متعلّق باتّبعوا أي اتبعوا القرآن كما اتّبعه هو، مصاحبين له في اتباعه.
فإن قلتَ : هذا تمثيل لحال " بلعام " ( ١ ) فكيف قال بعده ﴿ ساء مثلاً القومُ ﴾ [ الأعراف : ١٧٧ ] ولم يُضرب إلا لواحد ؟
قلتُ : المثل في الصورة وإن ضُرب لواحد، فالمراد به كفّار مكة كلّهم، لأنهم صنعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب ميلهم إلى الدنيا، من الكيد والمكر، ما يُشبه فعل " بلعام " مع موسى.
أو أن ﴿ ساء مثلا القوم ﴾ راجع إلى قوله تعالى :﴿ ذلك مثل القوم ﴾ [ الأعراف : ١٧٦ ] لا إلى أول الآية.
إن قلتَ : كيف جمع بين الأمرين ؟
قلتُ : المراد بالأول تشبيههم بالأنعام، في أصل الضلال لا في مقداره، وبالثاني في بيان مقداره. وقيل : المراد بالأول التشبيه في المقدار أيضا، لكن المراد به طائفة، وبالثاني أخرى، ووجه كونهم أضلّ من الأنعام، أنها تنقاد لأربابها، وتعرف من يُحسن إليها، وتتجنب ما يضرّها... وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم، من إساءة الشيطان، الذي هو عدوّهم.
إن قلتَ : كيف خصّ المؤمنين بالذّكر، مع أنه نذير وبشير للناس كافة، كما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ﴾ ؟ [ سبأ : ٢٨ ].
قلتُ : خصّهم بالذّكر، لأنهم المنتفعون بالإنذار والبشارة.
قوله تعالى :﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرّا إلا ما شاء الله... ﴾ [ الأعراف : ١٨٨ ]. قدّم النفع هنا على الضُرّ، وعكس في " يونس " ( ١ ) لأن أكثر ما جاء في القرآن، من لفظي : الضُرّ، والنفع معا، جاء بتقديم الضرّ على النفع، ولو بغير لفظهما، كالطَّوع والكره في الوعد، لأن العابد يعبد معبوده، خوفا من عقابه أولا، ثم طمعا في ثوابه ثانيا، كما قال تعالى :﴿ يدعون ربّهم خوفا وطمعا ﴾ [ السجدة : ١٦ ]، وحيث تقدّم النفع على الضُّرّ، تقدَّمه لفظ تضمّن نفعا، وذلك في ثمانية مواضع : " هنا وفي الرّعد( ٢ )، وسبأ( ٣ )، والأنعام( ٤ )، وآخر يونس( ٥ )، وفي الأنبياء( ٦ )، والفرقان( ٧ )، والشعراء " ( ٨ )( ٩ ).
فقدّم هنا النفع لموافقة قوله قبله :﴿ من يهد الله فهو المهتدي ﴾ [ الأعراف : ١٧٨ ] الآية. وقوله بعده :﴿ لاستكثرت من الخير وما مسّني السّوء ﴾ [ الأعراف : ١٨٨ ] إذِ الهداية والخير من جنس النفع، وقدّم الضُرَّ في آخر يونس على الأصل، لموافقة قوله قبله :﴿ ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ﴾ [ يونس : ١٨ ].
٢ - في قوله تعالى: ﴿قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا﴾ الرعد: ١٦..
٣ - في قوله تعالى: ﴿فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرّا... ﴾ سبأ: ٤٢..
٤ - في قوله تعالى: ﴿قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا.. ﴾ الأنعام: ٧١..
٥ - في قوله تعالى: ﴿ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين﴾ يونس: ١٠٦..
٦ - في قوله تعالى: ﴿قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضرّكم... ﴾ الأنبياء: ٦٦..
٧ - في قوله تعالى: ﴿ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم وكان الكافر على ربّه ظهيرا﴾ الفرقان: ٥٥..
٨ - في قوله تعالى: ﴿قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرّون﴾ الشعراء: ٧٣..
٩ - والثامنة في الأعراف: ﴿ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك... ﴾ الأعراف: ١٠٦..
إن قلتَ : كيف قال عن " آدم وحواء " ذلك، مع أن الأنبياء معصومون عن مطلق الكبائر، فضلا عن الشّرك الذي هو أكبر الكبائر ؟ !
قلتُ : فيه حذف مضاف، أي جعل أولادُهما( ١ ) شركاء له ﴿ فيما آتاهما ﴾ [ الأعراف : ١٩٠ ] أي آتى أولادهما، بقرينة قوله تعالى :﴿ فتعالى الله عمّا يشركون ﴾ [ الأعراف : ١٩٠ ] بالجمع. ومعنى إشراك أولادهما فيما آتاهم الله، تسميتهم أولادهم ب " عبد العُزّى " و " عبد مناة " و " عبد شمس " ونحوها، مكان " عبد الله " و " عبد الرحمن " و " عبد الرحيم ".