تفسير سورة الأعراف

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
سورة الأعراف
مكية، إلا ثمان آيات من قوله تعالى ﴿ واسألهم عن القرية ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وإذ نتقنا الجبل ﴾ محكمة كلها وقيل : إلا قوله تعالى :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ وعدد آياتها مائتان وخمس آيات وكلماتها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة وحروفها أربعة عشر ألفاً وثلاثمائة وعشرة أحرف.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ بسم الله ﴾ الواحد الذي لا يقدر أحد قدره ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ بنعمة البيان من أوجب عليهم شكره ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل ودّه فاجتنبوا نهيه وامتثلوا أمره.

﴿ المص ﴾ سبق الكلام على معاني الحروف المقطعة في أوّل سورة البقرة.
وقوله تعالى :
﴿ كتاب ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو أو هذا أو خبر المص والمراد بالكتاب السورة أو القرآن وقوله تعالى :﴿ أنزل إليك ﴾ صفة والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ فلا يكن في صدرك حرج ﴾ أي : ضيق ﴿ منه ﴾ أي : لا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به مخافة أن تكذب لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم كان يضيق صدره من الأذى ولا ينبسط له فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم، وقيل : الحرج الشك والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته وسمي الشك حرجاً لأنّ الشك ضيق الصدر كما أنّ المتيقن منشرح الصدر وقوله تعالى :﴿ لتنذر ﴾ متعلق بأنزل أي : للإنذار به ﴿ وذكرى ﴾ أي : وتذكرة ﴿ للمؤمنين ﴾ به وحذف المفعول يدل على عموم الرسالة لكل من أمكن إنذاره وتذكيره من العقلاء، قال بعض المفسرين : وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم تقديره كتاب أنزلناه إليك لتنذر به، وذكرى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه ويدل لهذا تعلق لتنذر بأنزل.
وقوله تعالى :
﴿ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ﴾ يعني القرآن والسنة لقوله تعالى :﴿ وما ينطق عن الهوى ٣ إن هو إلا وحي يوحى ﴾ ( النجم، الآيات : ٢ ٣ )
ولقوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ ( الحشر، ٧ ).
أي : قل لهم يا محمد اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وذروا ما أنتم عليه من الشرك ﴿ ولا تتبعوا من دونه ﴾ أي : ولا تتخذوا من دون الله أي : غيره ﴿ أولياء ﴾ تطيعونهم من شياطين الإنس والجن فيأمروكم بعبادة الأصنام واتباع البدع والأهواء الفاسدة ﴿ قليلاً ما تذكرون ﴾ أي : تتعظون، وقرأ ابن عامر بياء قبل التاء وتخفيف الذال، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال ولا ياء قبل التاء والباقون بتشديد الذال ولا ياء قبل التاء.
﴿ وكم من قرية أهلكناها ﴾ أي : أهلكنا أهلها، وقيل : لا يحتاج إلى تقدير مضاف لأنّ القرية تهلك كما يهلك أهلها وإنما يقدّر في ( فجاءها ) لأجل قوله تعالى :﴿ أو هم قائلون ﴾ و( كم ) خبرية مفعول أهلكنا وهي للتكثير والإهلاك على حقيقته أو يقدّر أردنا إهلاكها لقوله تعالى :﴿ فجاءها ﴾ أي : أهلها ﴿ بأسنا ﴾ أي : عذابنا فإنّ مجيء البأس قبل الإهلاك فتقدر الإرادة، وقيل : الإهلاك الخذلان وعلى هذا فلا حاجة إلى تقدير ﴿ بياتاً ﴾ أي : وقت الاستكان في البيوت ليلاً كما جاء قوم لوط عليه السلام ﴿ أو هم قائلون ﴾ أي : نائمون وقت القائلة وهي نصف النهار أو مستريحون من غير نوم كما أهلكنا قوم شعيب عليه السلام أي : مرّة جاءها ليلاً ومرّة نهاراً وإنما خص هذين الوقتين لأنهما وقت دعة واستراحة فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع، وفي هذا وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل : لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإنّ عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة.
﴿ فما كان دعواهم ﴾ أي : قولهم ﴿ إذ جاءهم بأسنا ﴾ أي : عذابنا ﴿ إلا أن قالوا ﴾ أي : إلا قولهم ﴿ إنا كنا ظالمين ﴾ أي : فيما كنا عليه حيث لم نتبع ما أنزل إلينا من ربنا وذلك حين لا ينفعهم الاعتراف.
﴿ فلنسألنّ الذين أرسل إليهم ﴾ أي : المرسل إليهم وهم الأمم يسألهم الله تعالى عن قبول الرسالة وإجابتهم الرسل ﴿ ولنسألن المرسلين ﴾ أي : عما أجيبوا به كما قال تعالى ﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ﴾ ( المائدة، ١٠٩ ) وقيل : نسأل المرسلين عن الإبلاغ والمراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم والمنفي في قوله تعالى :﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾ ( القصص، ٧٨ ) سؤال الاستعلام الأوّل في موقف الحساب، وهذا عند حصولهم على العقوبة.
﴿ فلنقصنّ عليهم ﴾ أي : الرسل والمرسل إليهم ﴿ بعلم ﴾ لنخبرنهم عن علم بما فعلوه باطناً وظاهراً وبما قالوه سراً وعلانية ﴿ وما كنا غائبين ﴾ عنهم فيخفى علينا شيء من أحوالهم وأقوالهم.
﴿ والوزن ﴾ أي : لصحائف الأعمال بميزان له لسان وكفتان ينظر إليها الخلائق إظهاراً للعدل وقطعاً للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وتشهد بها جوارحهم ويؤيده ما روي أنّ رجلاً يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مدّ البصر فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة والبطاقة رقعة صغيرة تجعل في طيّ الثوب يكتب فيها ثمنه، وقيل : توزن الأعمال.
روي عن ابن عباس : يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان، وقيل : توزن الأشخاص لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة ) وقوله تعالى :﴿ يومئذٍ ﴾ أي : يوم السؤال المذكور وهو يوم القيامة خبر المبتدأ الذي هو الوزن، وقوله تعالى :﴿ الحق ﴾ أي : العدل السوي صفته ﴿ فمن ثقلت موازينه ﴾ أي : رجحت على ما يعهد في الدنيا بصحائف الأعمال أو حسناته أو به على الأقوال الماضية، وعن الحسن : وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يرجح ويثقل وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف.
فإن قيل : الميزان واحد فما وجه الجمع ؟ أجيب : بأنّ العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقيل : إنه ينصب لكل عبد ميزان، وقيل : إنما جمعه لأنّ الميزان يشتمل على الكفتين واللسان والساهون ولا يتم الوزن إلا بذلك كله، وقيل : جمع لاختلاف الموزونات وتعدد الجمع فهو جمع موزون أو ميزان ﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ الفائزون بالنجاة والثواب.
﴿ ومن خفت ﴾ أي : طاشت ﴿ موازينه ﴾ أي : السيئات أي : بسببها ﴿ فأولئك الذين خسروا أنفسهم ﴾ أي : بتصييرها إلى النار ﴿ بما كانوا بآياتنا يظلمون ﴾ أي : يجحدون.
﴿ ولقد مكناكم ﴾ يا بني آدم ﴿ في الأرض ﴾ أي : في مسكنها وزرعها والتصرف فيها ﴿ وجعلنا لكم فيها معايش ﴾ جمع معيشة أي : أسباباً تعيشون بها أيام حياتكم من أنواع التجارات والصنائع والمآكل والمشارب وذلك بفضل الله تعالى وإنعامه على عبيده وكثرة الإنعام توجب الطاعة للمنعم بها والشكر له عليها ثم بيّن تعالى أنه مع هذا الإفضال على عبيده وإنعامه عليهم لا يقومون بشكرها كما ينبغي فقال تعالى :﴿ قليلاً ما تشكرون ﴾ أي : على ما صنعت إليكم وأنعمت به عليكم وفيه دليل على أنهم قد يشكرون لأنّ الإنسان قد يذكر نعمة الله فيشكره عليها فلا يخلو في بعض الأوقات من الشكر على النعم وحقيقة الشكر تصور النعمة وإظهارها ويضادّه الكفر وهو نسيان النعمة وسترها.
﴿ ولقد خلقناكم ﴾ أي : أباكم آدم ﴿ ثم صوّرناكم ﴾ أي : أباكم آدم والمراد يعني : خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر ثم صوّرناه فنزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويرهم، وقيل : خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صوّرناكم في أرحام النساء ﴿ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾.
فإن قيل :( ثم ) للترتيب والتراخي وهي ظاهرة على القول الأوّل فما وجهه على الثاني ؟ أجيب : بأنها تكون بمعنى الواو أي : وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تحية بالانحناء ﴿ فسجدوا ﴾ أي : الملائكة كلهم لآدم ﴿ إلا إبليس ﴾ أبا الجن كان بين الملائكة ﴿ لم يكن من الساجدين ﴾ أي : ممن سجد.
﴿ قال ﴾ الله تعالى لإبليس ﴿ ما منعك أن لا تسجد ﴾ أي : أن تسجد ﴿ إذ أمرتك ﴾ فلا زائدة للتأكيد كما في قوله تعالى :﴿ لا أقسم ﴾ ( البلد، ١ ) أي : أقسم، وقوله تعالى :﴿ وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ﴾ ( الأنبياء، ٩٥ ) أي : يرجعون نعم إن حمل ( ما منعك ) على ما حملك لم تكن زائدة ﴿ قال ﴾ إبليس مجيباً له تعالى :﴿ أنا خير منه ﴾.
فإن قيل : كيف يكون قوله :﴿ أنا خير منه ﴾ جواباً ل( ما منعك ) وإنما الجواب أن يقول منعني كذا ؟ أجيب : بأنه جواب من حيث المعنى استأنف به استبعاداً لأن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله كأنه قال المانع : إني خير منه ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول فكيف يحسن أن يؤمر به فهو الذي سنّ التكبر وقال : بالحسن والقبح العقليين أوّلاً وعلل الخيرية بقوله تعالى :﴿ خلقتني من نار ﴾ فهي أغلب أجزائي وهي مشرقة مضيئة عالية غالبة ﴿ وخلقته من طين ﴾ أي : هو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب فكل منهما مركب من العناصر الأربعة فالإضافة إلى ما ذكر باعتبار الجزء الغالب، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أوّل من قاس إبليس فأخطأ فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس، قال ابن سيرين : ما عبدت الشمس إلا بالقياس وإنما أخطأ إبليس لأنه رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى :﴿ ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ﴾ ( ص، ٧٥ ) أي : بغير واسطة وباعتبار الصورة كما نبه عليه تعالى بقوله :﴿ ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ﴾ ( الحجر، ٢٩ ) وباعتبار الغاية وهي ملاكه ولذلك أمر الملائكة بالسجود لما تبين لهم أنه أعلم منهم وإنّ له خواص ليست لغيره، وقال محمد بن جرير : ظن الخبيث أنّ النار خير من الطين ولم يعلم أنّ المفضل ما جعل الله له الفضل، وقد فضل الله الطين عن النار بوجوه منها : أنّ من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثته الاجتباء والمنزلة والهداية، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدّة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثته اللعنة والشقاوة ولأنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرّقها ولأنّ التراب سبب الحياة لأنّ حياة الأشجار والنبات لا تكون إلا مع الطين والنار سبب الهلاك.
فإن قيل : لم سأله الله تعالى عن المانع من السجود وهو عالم بما منعه ؟ أجيب : بأنه للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه أصل آدم عليه الصلاة والسلام.
﴿ قال ﴾ الله تعالى لإبليس ﴿ فاهبط منها ﴾ أي : من الجنة، وقيل : من السماء إلى الأرض، والهبوط الإنزال والانحدار من فوق على سبيل القهقرى والهوان والاستخفاف ﴿ فما يكون ﴾ أي : فما يصح ﴿ لك أن تتكبر فيها ﴾ عن أمري لأنّ الجنة أو السماء مكان الخاشع المطيع لأمر الله تعالى وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة والسماء وأنه تعالى إنما طرد إبليس لتكبره لا لمجرّد المعصية قال صلى الله عليه وسلم كما رواه البيهقيّ :( من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ) وعن عمر رضي الله عنه : من تواضع رفع الله حكمته، ومن تكبر وعلا طوره هضمه الله إلى الأرض ﴿ فاخرج ﴾ منها ﴿ إنك من الصاغرين ﴾ أي : الكفرة الأذلاء المهانين والصغار الذل والمهانة، قال الزجاج : استكبر عدوّ الله إبليس فابتلاه الله تعالى بالصغار والذلة، وقيل : كان له ملك الأرض فأخرجه الله منها إلى جزائر البحر الأخضر وعرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفاً كهيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار رثة يروغ فيها حتى يخرج منها.
﴿ قال ﴾ إبليس عند ذلك ﴿ أنظرني ﴾ أي : أخرني ولا تمتني ولا تعجل عقوبتي ﴿ إلى يوم يبعثون ﴾ أي : الناس وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة، وهذا من جهالة إبليس الخبيث لأنه سأل ربه الإمهال وقد علم إنه لا سبيل لأحد من الخلق إلى البقاء في الدنيا ولكنه كره أن يذوق الموت فطلب البقاء والخلود.
فلم يجب إلى ما سأل بل أجابه الله تعالى بقوله :﴿ قال إنك من المنظرين ﴾ لا إلى ذلك الوقت بل إلى الوقت المعلوم كما بينه تعالى في سورة الحجر بقوله تعالى :﴿ فإنك من المنظرين ٣٧ إلى يوم الوقت المعلوم ﴾ ( الحجر، ٣٧ ٣٨ ) وذلك هو النفخة الأولى التي يموت فيها الخلق.
فإن قيل : لم أجيب إلى الإنظار وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم ؟ أجيب : بأنه أجابه لما في ذلك من ابتلاء العباد وفي مخالفته من عظيم الثواب وحكمة ما خلق الله تعالى من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.
﴿ قال ﴾ أي : إبليس ﴿ فبما أغويتني ﴾ أي : فبإغوائك لي والباء للقسم أي : أقسم بإغوائك وجوابه ﴿ لأقعدنّ لهم ﴾ أي : لبني آدم ﴿ صراطك المستقيم ﴾ أي : على الطريق الموصل إليك وإنما أقسم بالإغواء لأنه كان تكليفاً والتكليف من أحسن أفعال الله تعالى لكونه تعريضاً لسعادة الأبد فكان جديراً لأن يقسم به ويجوز أن تتعلق الباء بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ أي : فبسبب إغوائك أقسم.
﴿ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ﴾ أي : من جميع الجهات الأربع ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة ربه، وقيل : لم يقل من تحتهم لأنّ الإتيان منه يوحش، وعنه إنه قال : من بين أيديهم من قبل الآخرة فيخبرهم أن لا بعث ولا جنة ولا نار، ومن خلفهم من قبل الدنيا فيزينها، لهم وعن أيمانهم أي : من قبل حسناتهم أي : فيبطئهم، عنها، وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم أي : فيزين لهم المعاصي يدعوهم إليها. وإنما عدى الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإنّ الآتي منهما كالمنحرف عنهم المارّ على عروضهم ونظيره قوله : جلست عن يمينه وعن شقيق ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أمّا من بين يدي فيقول : لا تخف إنّ الله غفور رحيم فأقرأ ﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ﴾ ( طه، ٨٢ )، وأمّا من خلفي فيخوفني الضيعة على من خلفي فأقرأ :﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ﴾ ( هود، ٦ )، وأمّا من قبل يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ :﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ ( القصص، ٨٣ )، وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ :﴿ وحيل بينهم وبين ما يشتهون ﴾ ( سبأ، ٥٤ )
﴿ ولا تجد أكثرهم شاكرين ﴾ أي : مطيعين.
فإن قيل : كيف علم الخبيث ذلك ؟ أجيب : بأنه إنما قال ذلك ظناً لقوله تعالى :﴿ ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه ﴾ ( سبأ، ٢٠ ) لما رأى فيهم مبدأ الشرّ متعدّداً وهو الشيطان والنفس والهوى ومبدأ الخير واحداً وهو الملك الملهم، وقيل : سمع ذلك من الملائكة.
﴿ قال ﴾ الله تعالى لإبليس حين طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه بسبب عصيانه ومخالفته ﴿ اخرج منها ﴾ أي : الجنة أو السماء كما مرّ فإنه لا ينبغي أن تسكن فيها ﴿ مذؤوماً ﴾ أي : محقوراً ممقوتاً ﴿ مدحوراً ﴾ أي : مبعداً مطروداً عن الرحمة وقوله تعالى :﴿ لمن تبعك منهم ﴾ أي : من الناس اللام فيه موطئة للقسم وجوابه ﴿ لأملأنّ جهنم منكم أجمعين ﴾ وهو سادّ مسدّ جواب الشرط وهو ( من تبعك ) أي : لأملأن جهنم منك بذريّتك ومن الناس وفيه تغليب الحاضر على الغائب.
﴿ ويا آدم ﴾ أي : وقلنا يا آدم ﴿ اسكن ﴾ فهذه القصة معطوفة على قوله تعالى :﴿ قلنا للملائكة ﴾ وقوله تعالى :﴿ أنت ﴾ تأكيد للضمير في اسكن ليعطف عليه ﴿ وزوجك ﴾ أي : حواء بالمدّ وذلك بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه وطرده من الجنة ﴿ الجنة فكلا من حيث شئتما ﴾ من ثمار الجنة أي : من أيّ مكان شئتما.
فإن قيل : قال تعالى في سورة البقرة :﴿ وكلا ﴾ ( البقرة، ٣٥ ) بالواو وهنا بالفاء فما الفرق ؟ أجاب الفخر الرازي : بأن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وهنا ذكر النوع ﴿ ولا تقربا هذه الشجرة ﴾ أي : بالأكل منها مشيراً إلى شجرة بعينها أو نوعها وهي الحنطة، وقيل : شجرة الكرم، وقيل : غيرهما ﴿ فتكونا من الظالمين ﴾ أي : بالأكل منها أي : فتصيرا بذلك من الذين ظلموا أنفسهم، وتكونا : يحتمل الجزم عطفاً على تقربا والنصب على جواب النهي.
﴿ فوسوس لهما الشيطان ﴾ أي : إبليس بما مكنه الله تعالى منه من أنه يجري من الإنسان مجرى الدم ويلقي له في سره ما يميل به قلبه إلى ما يريد وهو أحقر وأذلّ من أن يكون له فعل وإنما الكل بيد الله سبحانه وتعالى وهو الذي جعله آلة لمراده منه ومنهم فإن ﴿ من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ﴾ ( الأعراف، ١٧٨ ) ثم بين علة الوسوسة بقوله تعالى :﴿ ليبدي ﴾ أي : ليظهر ﴿ لهما ما ووري ﴾ أي : ستر وغطى ﴿ عنهما من سوآتهما ﴾ أي : عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوجة من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع قالت عائشة رضي الله عنها :( ما رأيت منه صلى الله عليه وسلم ولا رأى مني ) أي : الفرج.
﴿ وقال ﴾ أي : إبليس لآدم وحواء ﴿ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة ﴾ أي : عن الأكل منها ﴿ إلا أنّ ﴾ أي : كراهة أن ﴿ تكونا ملكين ﴾ أي : في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وغير ذلك من خواصهم ﴿ أو تكونا من الخالدين ﴾ أي : الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلاً كما في آية أخرى، ﴿ هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ﴾ ( طه، ١٢٠ ).
﴿ وقاسمهما ﴾ أي : أقسم لهما بالله على ذلك وأخرجه على زنة المفاعلة للمبالغة، وقيل : أقسما له بالقبول، وقيل : أقسما عليه بالله إنه لهما لمن الناصحين فأقسم لهما ﴿ أني لكما لمن الناصحين ﴾ فجعل ذلك مقاسمة وقال قتادة : حلف لهما بالله حين خدعهما -وقد يخدع المؤمن بالله تعالى- فقال : إني خلقت قبلكما وأنا أعلم فاتبعاني أرشدكما وفيه تنبيه على الاحتراز من الحالف وإن الأغلب أنّ كل حلاف كاذب وأنه لا يحلف إلا عند ظنه أن سامعه لا يصدقه ولا يظنّ ذلك إلا وهو معتاد للكذب، وقال بعض العلماء : من خادعنا بالله خدعنا له، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه -وكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق- فقيل له : إنهم يخدعونك فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له وإبليس- لعنه الله تعالى أوّل من حلف بالله تعالى كاذباً فلما حلف ظن آدم أنّ أحداً لا يحلف بالله تعالى كاذباً فاغتر به.
﴿ فدلاهما بغرور ﴾ أي : خدعهما، يقال : ما زال يدلي لفلان بالغرور يعني ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف القول الباطل وقيل : حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية والغرور إظهار النصح مع إبطان الغش ﴿ فلما ذاقا الشجرة ﴾ أي : أكلا من ثمرها وفي ذلك دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصداً إلى معرفة طعمه إذ الذوق يدل على الأكل اليسير.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قبل ازدرادهما أخذتهما العقوبة والعقوبة هي قوله تعالى :﴿ بدت ﴾ أي : ظهرت ﴿ لهما سوآتهما ﴾ أي : عوراتهما وتجافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من سوأة صاحبه بأن رأى قبل نفسه وقبل صاحبه ودبره وكانا لا يريان ذلك وسمى كل منهما سوأة لأنّ انكشافه يسوء صاحبه، قال وهب : كان لباسهما من النور يحول بينهما وبين النظر، وقال قتادة : كان ظفراً ألبسهما الله من الظفر لباساً فلما وقعا في الذنب بدت لهما سوآتهما فاستحيا ﴿ وطفقا ﴾ أي : أقبلا وجعلا ﴿ يخصفان ﴾ أي : يلزقان ﴿ عليهما من ورق الجنة ﴾ أي : من ورق التين قال البغوي : حتى صار كهيئة الثوب، قال الزجاج : يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما.
روي عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( كان آدم رجلاً طوالاً كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته وكان لا يراها فانطلق هارباً في الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره فقال لها : أرسليني، فقالت : لست بمرسلتك، فناداه الله عز وجل : يا آدم أمني تفرّ، فقال : لا يا رب ولكني استحييتك ) ﴿ وناداهما ﴾ أي : خاطبهما ﴿ ربهما ﴾ بقوله :﴿ ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ﴾ أي : عن الأكل من ثمرها ﴿ وأقل لكما إنّ الشيطان لكما عدو مبين ﴾ أي : بين العداوة لكما وقد بان لكما عداوته بترك السجود تعنتاً وحسداً، وفي ذلك عتاب على مخالفة النهي وتوبيخ على الاغترار بقول العدوّ ودليل على أنّ مطلق النهي للتحريم، قال محمد بن قيس : لما أكل آدم من الشجرة ناداه ربه يا آدم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها ؟ قال : حواء أمرتني، وقال لحواء : لم أطعمت آدم ؟ قالت : أمرتني الحية، وقال للحية : لم أمرتيها ؟ قالت : أمرني إبليس، قال الله تعالى : أمّا أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين في كل شهر، وأمّا أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك، وأمّا أنت يا إبليس فملعون مدحور. وفي رواية لابن عباس : إنه قال لحواء : فإني أعطيتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً.
﴿ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ﴾ أي : ضررناها بمخالفة أمرك وطاعة عدوّنا وعدوك فإن لم تتب علينا نستمر عاصين ﴿ وإن لم تغفر لنا ﴾ أي : فهو ما عملنا عيناً وأثراً ﴿ وترحمنا ﴾ أي : فتعلي درجاتنا ﴿ لنكونن من الخاسرين ﴾ في الأرض فأعربت الآية أنهما فزعا إلى الإنصاف وبالاعتراف بذنبهما وإن كان إنما هو خلاف الأولى لأنه بطريق النسيان كما في سورة طه قال قتادة : قال آدم أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك ؟ قال : أدخلك الجنة، وأمّا إبليس فلم يسأل التوبة وسأل النظرة فأعطى كل واحد منهما ما سأله، وقال الضحاك في قوله تعالى :﴿ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ﴾ قال : هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه تعالى : وقد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية، ورد بأن درجة الأنبياء في الرفعة والعلو والمعرفة بالله تعالى في أعلى الدرجات ولكن يؤاخذون بما لم يؤاخذ به غيرهم وإنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت منهم على سبيل التأويل فهم بسبب ذلك خائفون وجلون وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم ومعاصي بالنسبة إلى كمال طاعتهم لا إنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاص كمعاصي غيرهم فكان ما صدر منهم مع طهارتهم ونزاهتهم وعمارة بواطنهم بالوحي السماوي والذكر القدسي وعمارة ظواهرهم بالعمل الصالح والخشية لله تعالى ذنوب بالنسبة إلى أحوالهم فقالا ذلك على عادة المقرّبين في استعظام الصغير من السيئات وتحقير العظيم من الحسنات وقد تقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة ومن جملة ذلك أن آدم إنما أكل من الشجرة قبل النبوّة.
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ اهبطوا ﴾ أي : آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذرّيتكما ويدل لذلك قوله تعالى في سورة طه :﴿ اهبطا ﴾ ( طه، ١٢٣ ) بضمير التثنية ﴿ بعضكم ﴾ أي : بعض الذرّية ﴿ لبعض عدوّ ﴾ أي : من ظلم بعضهم بعضاً، وقيل : يعود الضمير لآدم وحواء وإبليس، وقيل : لآدم وحواء وإبليس والحية، وعلى هذين فالعداوة ثابتة بين آدم وإبليس والحية وذرية كل واحد من آدم وإبليس ﴿ ولكم في الأرض ﴾ أي : جنسها ﴿ مستقر ﴾ أي : موضع استقرار ﴿ و ﴾ لكم فيها ﴿ متاع ﴾ أي : تمتع ﴿ إلى حين ﴾ أي : انقضاء آجالكم، وقيل : إلى انقطاع الدنيا، وعن ثابت البناني رحمه الله تعالى لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها : خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني منك فلما توفي غسلته الملائكة بسرنديب بماء وسدر وتراً وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له ولحدوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه : هذه سنتكم من بعده.
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ فيها ﴾ أي : الأرض ﴿ تحيون ﴾ أي : تعيشون أيام حياتكم ﴿ وفيها تموتون ﴾ أي : وفيها وفاتكم وموضع قبوركم ﴿ ومنها تخرجون ﴾ أي : يوم القيامة تخرجون للحشر والجزاء، وقرأ ابن ذكوان وحمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء والباقون بضم التاء وفتح الراء.
﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً ﴾ أي : خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة من مطر ونحوه ونظيره قوله تعالى :﴿ وأنزل لكم من الأنعام ﴾ ( الزمر، ٦ ) وقوله تعالى :﴿ وأنزلنا الحديد ﴾ ( الحديد، ٢٥ ) وقيل : كل بركات الأرض منسوبة إلى السماء ﴿ يواري ﴾ أي : يستر ﴿ سوأتكم ﴾ أي : عوراتكم.
روي أنّ العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله تعالى فيها وكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء يطوفون بالليل عراة قال قتادة : كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فنزلت، قال البيضاوي : ولعله سبحانه ذكر قصة آدم تقدمة لذلك حتى نعلم أنّ انكشاف العورة أوّل سوء أصاب الإنسان من الشيطان وإنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم ﴿ وريشاً ﴾ أي : ولباساً تتجملون به والريش للطائر معروف وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه وزينته والمعنى : وأنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم ولباساً لزينتكم لأنّ الزينة غرض صحيح. كما قال تعالى :﴿ لتركبوها وزينة ﴾ ( النحل، ٨ )
وقال تعالى :﴿ ولكم فيها جمال ﴾ ( النحل، ٦ ) وقال صلى الله عليه وسلم ( إنّ الله جميل يحب الجمال ) وقال ابن عباس : وريشاً أي : مالاً، يقال : تريش الرجل تموّل، ولما ذكر سبحانه وتعالى اللباس الحسي وقسمه إلى ساتر ومزين أتبعه اللباس المعنوي فقال :﴿ ولباس التقوى ﴾ قال ابن عباس : هو العمل الصالح ثم زاد الله تعالى في تعظيم المعنوي بقوله :﴿ ذلك خير ﴾ أي : ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب لكونه أهم اللباسين لأنّ نزعه يكشف العورة الحسية والمعنوية فلو تجمل الإنسان بأحسن الملابس وهو غير متق كان كله سوآت ولو كان متقياً وليس عليه إلا خريقة ثوب تواري عورته كان في غاية الجمال والكمال وأنشدوا في المعنى :
إذا أنت لم تلبس ثياباً من التقى عريت وإن وارى القميص قميص
وقال قتادة : لباس التقوى هو الإيمان، وقال الحسن : هو الحياء لأنه يبعث على التقوى، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : هو السمت الحسن، وقال ابن الزبير : هو خشية الله تعالى والعمل الصالح يشمل هذه الأمور كلها، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصب السين عطفاً على ( لباسا )ً والباقون بالرفع على الابتداء والخبر ذلك خير ﴿ ذلك ﴾ أي : إنزال اللباس ﴿ من آيات الله ﴾ الدالة على فضله ورحمته ﴿ لعلهم يذكرون ﴾ فيعرفون نعمة الله فيتعظون ويتورعون عن القبائح وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدو السوآت وخصف الورق عليها إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة إظهاراً وإشعاراً بأنّ الستر باب عظيم من أبواب التقوى.
﴿ يا بني آدم ﴾ أي : الذي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي ثم أسكنته جنتي وأنزلته منها إلى دار محنتي ﴿ لا يفتننكم ﴾ أي : يضلنكم ﴿ الشيطان ﴾ أي : البعيد المحترق بالذنوب أي : لا تتبعوه فتفتتنوا فيمنعكم بذلك من دخول الجنة ويدخلكم النار ﴿ كما أخرج أبويكم من الجنة ﴾ بفتنته بعد أن كانا سكناها وتمكنا فيها وتوطناها وقد علمتم أنّ الدفع أسهل من الرفع وقوله تعالى :﴿ ينزع عنهما لباسهما ﴾ حال من ( أبويكم ) أو من فاعل ( أخرج ) وإنما أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأنّ نزع لباسهما بسبب وسوسة الشيطان وغروره فأسند إليه واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما فقال ابن عباس وقتادة : كان لباسهما الظفر فلما أصابا المصيبة نزع عنهما وبقيت الأظفار تذكرة وزينة ومنافع، وقال وهب بن منبه : كان نوراً يحول بينهما وبين النظر وتقدّم بعض ذلك، وقال مجاهد : كان لباسهما التقوى، وقيل : كان لباسهما من ثياب الجنة قال بعض المفسرين : وهذا أقرب لأنّ إطلاق اللباس يطلق عليه وإنّ النزع لا يكون إلا بعد اللبس، اه. وتقدّم الكلام على قوله :﴿ ليريهما سوآتهما إنه ﴾ أي : الشيطان ﴿ يراكم هو وقبيله ﴾ أي : جنوده وقال ابن عباس : قبيله ولده، وقال أبو زيد : نسله وإنما أعاد الكناية في قوله : هو ليحسن العطف والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضها بعضاً ﴿ من حيث لا ترونهم ﴾ أي : للطافة أجسامهم أو عدم ألوانهم، وعن ابن عباس أنه قال : إنّ الله تعالى جعلهم يجرون من ابن آدم مجرى الدم، وجعل صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى كما قال تعالى :﴿ الذي يوسوس في صدور الناس ﴾ ( الناس، ٥ ) فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم، وعن مجاهد : قال إبليس : جعل لنا أربعة نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى، وعن ابن دينار أن عدوّاً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله تعالى ومنع الرؤية إذا كانوا على خلقتهم الأصلية وإلا فقد يرون وأعند تشكلهم بصورة حيوان أو طير أو غير ذلك فإنّ للجنّ قوّة التشكل وهذا أمر شائع ذائع، وقد رؤي إبليس على صورة شيخ وتمثل لكثير من العباد على صورة حية بل قال شيخنا القاضي زكريا : والحق جواز رؤيتهم حتى من تلك الجهة كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة وتكون الآية مخصوصة بها فيكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض ﴿ إنا جعلنا الشياطين أولياء ﴾ أي : أعواناً وقرناء ﴿ للذين لا يؤمنون ﴾ لما بينهم من التناسب في الطباع.
﴿ وإذا فعلوا فاحشة ﴾ كالشرك وطوافهم بالبيت عراة فنهوا عنه ﴿ قالوا ﴾ معللين لارتكابهم إياها بأمرين : أحدهما قولهم :﴿ وجدنا عليها ﴾ أي : الفاحشة ﴿ آباءنا ﴾ فاقتدينا بهم والثاني قولهم :﴿ والله أمرنا بها ﴾ افتراء عليه سبحانه وتعالى فأعرض الله تعالى عن الأوّل لظهور فساده ورد عن الثاني بقوله :﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ إنّ الله لا يأمر بالفحشاء ﴾ لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال ﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ أنه قاله فإنكم لم تسمعوا كلام الله من غير واسطة ولا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله وبين عباده وهو استفهام إنكاري يتضمن النهي عن الافتراء على الله، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية في الوصل والباقون بالتحقيق.
﴿ قل ﴾ يا محمد لهؤلاء الذين يقولون ذلك ﴿ أمر ربي بالقسط ﴾ أي : بالعدل وهو الوسط من كلام المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط وقال ابن عباس : بلا إله إلا الله ﴿ وأقيموا ﴾ أي : وقل لهم أقيموا ﴿ وجوهكم ﴾ لله ﴿ عند كل مسجد ﴾ أي : أخلصوا له سجودكم.
فإن قيل :( أمر ربي ) خبر ( وأقيموا وجوهكم ) أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز. أجيب : بأنّ فيه إضماراً وحذفاً تقديره : قل أمر ربي بالقسط، وقل : أقيموا كما تقدّم تقديره فحذف قل لدلالة الكلام عليه، وقيل : معنى الآية وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقيل : معناه صلوا في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم ﴿ وادعوه ﴾ أي : اعبدوه ﴿ مخلصين له الدين ﴾ أي : الطاعة ولا تشركوا به شيئاً فإنّ إليه مصيركم و﴿ كما بدأكم ﴾ أي : كما أنشأكم ابتداء ﴿ تعودون ﴾ أي : يعيدكم أحياء يوم القيامة حالة كونكم فريقين.
﴿ فريقاً هدى ﴾ أي : خلق الهداية في قلوبهم فحق لهم ثواب الهداية ﴿ وفريقاً حق ﴾ أي : ثبت ووجب ﴿ عليهم الضلالة ﴾ أي : بمقتضى القضاء السابق، وقيل : إنّ الله تعالى بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال تعالى :﴿ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ﴾ ( التغابن، ٢ ) ثم يعيدكم يوم القيامة، كما خلقكم كافراً ومؤمناً وقيل : يبعثون على ما كانوا عليه.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( يبعث كل عبد على ما مات عليه ) المؤمن على إيمانه والكافر على كفره. وقيل : من ابتدأ الله خلقه على الشقوة صار إليها وإن عمل عمل أهل السعادة كما أنّ إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة، ومن ابتدأ الله خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل عمل أهل الشقاوة كما أنّ السحرة كانوا يعملون عمل أهل الشقاوة فصاروا إلى السعادة.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إنّ العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم ) وانتصاب فريقاً بفعل يفسره ما بعده أي : وخذل فريقاً وقوله تعالى :﴿ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ﴾ أي : دونه تعليل لخذلانهم وتحقيق لضلالهم ﴿ ويحسبون ﴾ أي : يظنون ﴿ أنهم ﴾ مع ضلالهم ﴿ مهتدون ﴾ أي : على هداية وحق وفيه دليل على أنّ الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند في الكفر سواء.
﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم ﴾ أي : ما يستر العورة والتجمل عند الاجتماع للعبادة ﴿ عند كل مسجد ﴾ أي : كلما صليتم أو طفتم وكانوا يطوفون عراة، وعن طاووس رحمه الله : لم يأمرهم بالحرير والديباج وإنما أحدهم كان يطوف عرياناً ويضع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا : لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، وقيل : تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب، وقيل : الزينة المشط، وقيل : الطيب. والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة وكان بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون : فإنا أحق أن نفعل فقيل لهم :﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ﴾ بتحريم الحلال أو بالتعري في الطواف أو بإفراط الطعام أو الشره عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كل ما شئت واشرب ما شئت والبس ما شئت ما أخطاك خصلتان سرف ومخيلة.
وروي أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان : علم الأبدان وعلم الأديان، فقال له : لقد جمع الله تعالى الطب كله في نصف آية من كتابه، فقال : وما هي ؟ قال : قوله تعالى :﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ﴾ ( الأعراف، ٣١ ) فقال النصراني : ولا يؤثر عن نبيكم شيء في الطب ؟ فقال : جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة، قال : وما هي ؟ قال قوله :«المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء فأعط كل بدن ما عوّدته » فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً ) ﴿ إنه لا يحب المسرفين ﴾ أي : لا يرتضي فعلهم ففي الآية الوعيد الشديد على الإسراف.
﴿ قل ﴾ يا محمد لهؤلاء الجهلة من الذين يطوفون بالبيت عراة ﴿ من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ﴾ من الثياب كل ما يتجمل به فيدخل تحته أنواع الملبوس والحلي ولولا النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير للرجال لدخل في هذا العموم ولكن ورد النص في تحريمه على الرجال دون النساء ﴿ و ﴾ قل أيضاً لهؤلاء الجهلة الذين كانوا لا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم من حرّم ﴿ الطيبات من الرزق ﴾ التي أخرج لعباده وخلقها لهم فيدخل تحت ذلك كل ما يستلذ ويشتهى من سائر المطعومات إلا ما ورد نص بتحريمه وقد دلت الآية على أنّ الأصل في الملابس وأنواع التجملات والمطاعم الإباحة إلا ما ورد النص بخلافه لأنّ الاستفهام في ( من ) للإنكار ﴿ قل هي ﴾ أي : الزينة والطيبات ﴿ للذين آمنوا في الحياة الدنيا ﴾ أي : بالأصالة والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع ولذا لم يقل تعالى : للذين آمنوا وغيرهم ﴿ خالصة يوم القيامة ﴾ لا يشاركهم فيها غيرهم. وقرأ نافع برفع التاء على أنها خبر بعد خبر والباقون بالفتح على الحال ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا التفصيل البديع ﴿ نفصل الآيات ﴾ أي : نبين أحكامها ونميز بعض المشتبهات من بعض ﴿ لقوم يعلمون ﴾ أي : يتدبرون فإنهم المنتفعون بها.
﴿ قل ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يطوفون بالبيت عراة ويحرمون أكل الطيبات من الرزق وغير ذلك مما أحل الله تعالى ﴿ إنما حرم ربي الفواحش ﴾ أي : الكبائر والكبيرة ما توعد عليها بنحو لعن أو غضب بخصوصها في الكتاب أو السنة غالباً كالزنا جمع فاحشة ﴿ ما ظهر منها وما بطن ﴾ أي : جهرها وسرها، وقرأ حمزة بسكون الباء والباقون بفتحها ﴿ و ﴾ حرم ﴿ الإثم ﴾ أي : الصغائر وهي ما عدا الكبائر كالنظر إلى بدن أجنبية ﴿ و ﴾ حرم ﴿ البغي ﴾ على الناس أي : الظلم أو الكبر وأفرده بالذكر مع أنه من الكبائر للمبالغة وقوله تعالى :﴿ بغير الحق ﴾ متعلق بالبغي مؤكد له معنى ﴿ و ﴾ حرم ﴿ أن تشركوا بالله ما لم ينزل به ﴾ أي : بالإشراك ﴿ سلطاناً ﴾ أي : حجة وفي ذلك تهكم بالمشركين وتنبيه على تحريم ما لم يدل عليه برهان، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والباقون بالتشديد ﴿ و ﴾ حرم ﴿ أن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ في تحريم ما لم يحرم وغيره.
﴿ ولكل أمّة أجل ﴾ أي : وقت معلوم وفي ذلك وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم الماضية ﴿ فإذا جاء أجلهم ﴾ أي : حان وقتهم ﴿ لا يستأخرون ساعة ﴾ عنه ﴿ ولا يستقدمون ﴾ ساعة عليه وإنما ذكرت الساعة وإن كان دونها كذلك لأنها أقل اسم للأوقات في العرف وذلك حين سألوا نزول العذاب فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وورش وقنبل سهلاً الثانية وأبدلاها حرف مد والباقون بالتحقيق فيهما.
﴿ يا بني آدم إمّا ﴾ فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة ﴿ يأتينكم رسل منكم ﴾ أي : من نوعكم من عند ربكم ﴿ يقصون عليكم آياتي ﴾ أي : يقرؤون عليكم كتابي وأدلة أحكامي وشرائعي التي شرعت لعبادي وجواب الشرط قوله تعالى :﴿ فمن اتقى ﴾ الشرك ومخالفة رسلي ﴿ وأصلح ﴾ عمله الذي أمرته به رسلي فعمل بطاعتي وتجنب معصيتي وما نهيت عنه ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ حين يخاف غيرهم يوم القيامة من العذاب ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ أي : يتجدّد لهم في وقت ما حزن على شيء فاتهم لأنّ الله يعطيهم ما تقر به أعينهم.
﴿ والذين كذبوا بآياتنا ﴾ أي : جحدوها وكذبوا رسلنا ﴿ واستكبروا ﴾ أي : تكبروا ﴿ عنها ﴾ أي : عن الإيمان بها لأنّ كل مكذب وكافر متكبر قال تعالى :﴿ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ﴾ ( الصافات، ٣٥ ) ﴿ أولئك ﴾ هؤلاء البعداء البغضاء ﴿ أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ أي : لا يخرجون منها أبداً وإدخال الفاء في خبر المبتدأ الأوّل دون خبر الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد.
﴿ فمن ﴾ أي : لا أحد ﴿ أظلم ممن افترى على الله كذباً ﴾ أي : بنسبة الشريك والولد إليه أو قال عليه ما لم يقله ﴿ أو كذب بآياته ﴾ أي : القرآن ﴿ أولئك ينالهم ﴾ أي : يصيبهم ﴿ نصيبهم ﴾ أي : حظهم ﴿ من الكتاب ﴾ أي : مما كتب لهم في اللوح المحفوظ من الرزق والأجل وغير ذلك ﴿ حتى إذا جاءتهم ﴾ أي : هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب ﴿ رسلنا ﴾ أي : ملك الموت وأعوانه ﴿ يتوفونهم ﴾ بقبض أرواحهم عند استكمال أعمارهم وأرزاقهم وقوله تعالى :﴿ قالوا ﴾ جواب إذا أي : قال الرسل لهم تبكيتاً وتوبيخاً وتقريعاً ﴿ أين ما كنتم تدعون ﴾ أي : تعبدون ﴿ من دون الله ﴾ أي : غيره ادعوهم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم، وقيل : إنّ هذا يكون في الآخرة أي : إذا جاءتهم ملائكة العذاب يتوفونهم أي : يستوفون عددهم عند حشرهم إلى النار ﴿ قالوا ﴾ أي : الكفار مجيبين للرسل ﴿ ضلوا ﴾ أي : غابوا ﴿ عنا ﴾ وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا ﴿ وشهدوا على أنفسهم ﴾ أي : بالغوا في الاعتراف عند الموت أو عند معاينة العذاب ﴿ أنهم كانوا كافرين ﴾ أي : جاحدين وحدانية الله تعالى.
﴿ قال ﴾ الله تعالى لهم يوم القيامة أو أحد من الملائكة ﴿ ادخلوا في أمم ﴾ أي : في جملة جماعات وفرق أمّ بعضها بعضاً ﴿ قد خلت ﴾ أي : مضت وسلفت ﴿ من قبلكم من الجنّ والإنس ﴾ أي : كفار الأمم الماضية من الفريقين، وقوله تعالى :﴿ في النار ﴾ متعلق بادخلوا ﴿ كلما دخلت أمّة ﴾ أي : جماعة النار ﴿ لعنت أختها ﴾ أي : التي ضلت بالاقتداء بها ﴿ حتى إذا ادّاركوا ﴾ أي : تلاحقوا واستقرّوا ﴿ فيها ﴾ أي : النار ﴿ جميعاً قالت أخراهم ﴾ أي : منزلة أو دخولاً وهم الأتباع ﴿ لأولاهم ﴾ أي : لأجلهم وهم المتبعون إذ الخطاب مع الله تعالى لا معهم ﴿ ربنا هؤلاء ﴾ أي : الأوّلون ﴿ أضلونا ﴾ أي : لأنهم أوّل من سنّ الضلال. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياء في الوصل، والباقون بالتحقيق ﴿ فآتهم ﴾ أي : أذقهم بسبب ذلك ﴿ عذاباً ضعفاً ﴾ أي : يكون بقدر عذاب غيرهم مرّتين لأنهم ضلوا وأضلوا ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ومنه لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل، ثم أكدوا شدّة العذاب بقولهم :﴿ من النار قال ﴾ الله تعالى :﴿ لكل ﴾ أي : منكم ومنهم ﴿ ضعف ﴾ أي : عذاب مضعف أمّا القادة فبكفرهم وتضليلهم وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم لهم ﴿ ولكن لا تعلمون ﴾ أي : ما أعدّ الله تعالى لكل فريق من العذاب. وقرأ شعبة : يعلمون بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب.
﴿ وقالت أولاهم ﴾ أي : في الكفر وهم القادة ﴿ لأخراهم ﴾ أي : الأتباع ﴿ فما كان لكم علينا من فضل ﴾ أي : لأنكم لم تكفروا بسببنا فقد جاءتكم الرسل والنذر فما رجعتم عن ضلالتكم وكفركم فنحن وأنتم سواء قال الله تعالى لهم :﴿ فذوقوا العذاب بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كنتم تكسبون ﴾ أي : من الكفر والأعمال الخبيثة.
﴿ إنّ الذين كذبوا بآياتنا ﴾ أي : بدلائل التوحيد فلم يصدّقوا ولم يتبعوا رسلي ﴿ واستكبروا عنها ﴾ أي : وتكبروا عن الإيمان بها والانقياد لها والعمل بمقتضاها ﴿ لا تفتح لهم أبواب السماء ﴾ لصعود أعمالهم ولا لدعائهم ولا لأرواحهم ولا لنزول البركات عليهم لأنها طهارة عن الأرجاس الحسية والمعنوية فإذا صعدت أرواحهم الخبيثة بعد الموت مع ملائكة العذاب أغلقت الأبواب دونها ثم ألقيت من هناك إلى سجين بخلاف المؤمن فيفتح له ويصعد بروحه إلى السماء السابعة كما ورد في حديث.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بسكون الفاء وتخفيف التاء بعدها إلا أنّ أبا عمرو يقرأ بالتاء على التأنيث وحمزة والكسائي بالياء على التذكير، وقرأ الباقون بالتأنيث وفتح الفاء وتشديد التاء بعدها ﴿ ولا يدخلون الجنة ﴾ أي : التي هي أطهر المنازل وأشرفها ﴿ حتى ﴾ يكون ما لا يكون بأن ﴿ يلج ﴾ أي : يدخل ﴿ الجمل ﴾ على كبره ﴿ في سم الخياط ﴾ أي : ثقب الإبرة وهو غير ممكن فكذا دخولهم الجنة فهو تعليق على محال، وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال : زوج الناقة استجهالاً للسائل وإشارة إلى أنّ طلب معنى آخر تكلف ﴿ وكذلك ﴾ أي : ومثل ذلك الجزاء بهذا العذاب وهو أنّ دخولهم الجنة محال عادة ﴿ نجزي المجرمين ﴾ أي : الكافرين لأنه تقدّم من صفتهم إنهم كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها وهذه صفة الكفار فوجب حمل لفظ المجرمين على أنهم الكفار.
ولما بين تعالى أنّ الكفار لا يدخلون الجنة أبداً بين أنهم من أهل النار ووصف ما أعدّ الله لهم فيها فقال تعالى :
﴿ لهم من جهنم مهاد ﴾ أي : فراش وأصل المهاد والمهد الذي يقعد عليه ويضطجع عليه كالبساط ﴿ ومن فوقهم غواش ﴾ أي : أغطية من النار جمع غاشية والتنوين فيه عوض عن الياء التي هي حرف علة.
وقيل : عن حركتها ﴿ وكذلك نجزي الظالمين ﴾ عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآيات اتصفوا بهذه الأوصاف الذميمة وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيهاً على أنه أعظم الإجرام.
وقوله تعالى :
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ مبتدأ وقوله تعالى :﴿ لا نكلف نفساً إلا وسعها ﴾ أي : طاقتها من العمل اعتراض بينه وبين خبره وهو ﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ وإنما حسن وقوع ذلك بين المبتدأ والخبر لأنه من جنس هذا الكلام لأنّ الله تعالى لما ذكر عملهم الصالح دل ذلك على أنّ ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أنّ الجنة مع عظم قدرها ومحلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل كلفة ولا مشقة صعبة.
وأتبع الوعيد بالوعد على عادته فقال تعالى :
﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل ﴾ أي : غش وعداوة كانت بينهم في الدنيا فمن كان في قلبه على أخيه غل في الدنيا نزع فسلمت قلوبهم وطهرت ولم يكن بينهم إلا التوادد والتعاطف، وعن عليّ رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ليقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا ) وقال السديّ في هذه الآية : إنّ أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فنزع ما في صدورهم من غل وهو الشراب الطهور واغتسلوا من الآخر فجرت عليهم بنضرة النعيم فلا يشعثوا ولا يشحنوا بعدها أبداً، وقيل : إنّ درجات الجنة متفاوتة في العلوّ والكمال فبعض أهل الجنة أعلى من بعض فأخرج الله تعالى الغل والحسد من صدورهم وأزاله عنهم ونزعه من قلوبهم فلا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة العالية ﴿ تجري من تحتهم الأنهار ﴾ أي : من تحت قصورهم زيادة في لذتهم وسرورهم ﴿ وقالوا الحمد الذي هدانا لهذا ﴾ أي : إن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا : الحمد لله الذي وفقنا وأرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وتفضل علينا به رحمة منه وإحساناً وصرف عنا عذاب جهنم بفضله وكرمه فله الحمد على ذلك ﴿ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾ أي : لولا هداية الله وتوفيقه، واللام لتوكيد النفي وجواب لولا محذوف دل عليه قوله تعالى :﴿ وما كنا لنهتدي ﴾ وتقديره : لولا هداية الله لنا موجودة لشقينا أو ما كنا مهتدين، وقرأ ابن عامر بحذف الواو قبل ما والباقون بالواو.
وإذا دخل أهل النعيم الجنة ورأوا ما أعدّ الله تعالى لهم من النعيم قالوا :﴿ لقد جاءت رسل ربنا بالحق ﴾ فاهتدينا بإرشادهم يقولون ذلك سروراً واعتباطاً بما نالوا وتلذذوا بالتكلم به وتبجحاً بأنّ ما علموه يقيناً في الدنيا صار لهم عين اليقين في الآخرة، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال والباقون بالإدغام ﴿ ونودوا ﴾ إذا رأوها من بعيد أو بعد دخولها والمنادي هو الله تعالى أو الملائكة ينادون بأمر الله تعالى ﴿ أن تلكم الجنة ﴾ التي كانت الرسل وعدتكم بها في الدنيا.
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ إنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإنّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإنّ لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وإنّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً ) فذلك قوله تعالى :﴿ ونودوا أن تلكم الجنة ﴾ ﴿ أورثتموها ﴾ أي : أعطيتموها ﴿ بما كنتم تعملون ﴾ أي : بسبب أعمالكم الصالحة التي عملتموها لأنّ الجنة جعلت جزاء وثواباً لكم على الأعمال الصالحة ولا يعارض هذا ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لن يدخل الجنة أحد بعمله إنما يدخلونها برحمة الله تعالى ) فإنّ الباء في الحديث للعوض وهي الداخلة على الأثمان نحو شريت الفرس بألف فلا تكون الجنة مشتراة له بعمله فيكون عمله ثمناً لها أو إنّ دخول الجنة برحمة الله واقتسام الدرجات بالأعمال أو أنّ العمل الصالح لن يناله المؤمن ولن يبلغه إلا برحمة الله وتوفيقه وإذا كان العمل الصالح بسبب الرحمة كان دخول الجنة في الحقيقة برحمة الله وجعلها الله تعالى ثواباً وجزاء لهم على تلك الأعمال الصالحة التي عملوها في دار الدنيا.
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار أمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من الجنة والمؤمن يرث الكافر منزله من النار ) و( أن ) في المواضع الخمسة التي فيها المناداة والتأذين هي المخففة أو المفسرة لأنّ المناداة والتأذين من القول، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الثاء عند التاء والباقون بالإدغام.
﴿ ونادى أصحاب ﴾ أي : أهل ﴿ الجنة أصحاب ﴾ أي : أهل ﴿ النار ﴾ أي : يقول أهل الجنة يا أهل النار ﴿ أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا ﴾ أي : في الدنيا على لسان الرسل من الثواب على الإيمان به وبرسله وطاعته ﴿ حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم ﴾ أي : من العذاب على الكفر ﴿ حقاً قالوا ﴾ أي : قال أهل النار مجيبين لأهل الجنة ﴿ نعم ﴾ وجدنا ذلك حقاً وهذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
فإن قيل : الجنة في السماء والنار في الأرض فكيف يصح أن يقع هذا النداء ؟ أجيب : بأن الله قادر على أن يقوّي الأصوات والأسماع فيصير البعيد كالقريب.
فإن قيل : هذا النداء من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض ؟ أجيب : بأن ظاهر الآية العموم ويحتمل في كل واحد من أهل الجنة ينادي من كان يعرف من الكفار في دار الدنيا والله أعلم بحقيقة ذلك، وقرأ الكسائي بكسر العين والباقون بالفتح وهما لغتان ﴿ فأذن مؤذن ﴾ أي : وهو إسرافيل صاحب الصور كما قاله ابن عباس، وقيل : واحد من الملائكة وأصل الأذان في اللغة الإعلام والمعنى نادى مناد ﴿ بينهم ﴾ أي : الفريقين أسمعهم ﴿ أن لعنت الله على الظالمين ﴾ وقرأ البزيّ وابن عامر وحمزة والكسائي بتشديد أنّ ونصب التاء والباقون بتخفيف أن ورفع التاء.
ثم فسر الظالمين منهم بقوله تعالى :
﴿ الذين يصدّون عن سبيل الله ﴾ أي : يمنعون الناس عن الدخول في دين الإسلام ﴿ ويبغونها ﴾ أي : يطلبون السبيل ﴿ عوجاً ﴾ أي : معوجة، قال ابن عباس : يصلون لغير الله ويعظمون ما لم يعظمه الله، والعوج بكسر العين في الدين والأمر وكل ما لم يكن قائماً وبالفتح في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح ﴿ وهم بالآخرة كافرون ﴾ أي : بكون الآخرة واقعة جاحدون منكرون لها.
﴿ وبينهما ﴾ أي : أهل الجنة وأهل النار ﴿ حجاب ﴾ لقوله تعالى :﴿ فضرب بينهم بسور ﴾ ( الحديد، ١٣ ) أو بين الجنة والنار ليمتنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى ﴿ وعلى الأعراف ﴾ وهو سور الجنة جمع عرف وهو المكان المرتفع ومنه عرف الديك لارتفاعه على ما سواه من جسده، وقال السدي : هي ذلك السور أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس أي : أهل الجنة والنار ﴿ رجال ﴾ أي : طائفة من الموحدين استوت حسناتهم وسيئاتهم كما في الحديث :( فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار فوقفوا هناك حتى يقضي الله تعالى فيهم ما يشاء ثم يدخلون الجنة بفضل الله تعالى ورحمته وهم آخر من يدخل الجنة )، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرأ قوله تعالى :﴿ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ﴾ ثم قال : إن الميزان تخف بمثقال حبة أو ترجح قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، وقيل : هم قوم خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فقتلوا فأعتقوا من النار بقتلهم في سبيل الله وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم فهم آخر من يدخل الجنة، وقيل : هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم، وقيل : هم أطفال المشركين ﴿ يعرفون ﴾ أي : أصحاب الأعراف ﴿ كلاً ﴾ من أهل الجنة والنار ﴿ بسيماهم ﴾ أي : بعلاماتهم وهي بياض الوجوه للمؤمنين وسوادها للكافرين لرؤيتهم لهم إذ موضعهم عال ﴿ ونادوا ﴾ أي : ونادى أصحاب الأعراف ﴿ أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾ إذا نظروا إليهم سلموا عليهم ﴿ لم يدخلوها ﴾ أي : أصحاب الأعراف الجنة ﴿ وهم يطمعون ﴾ في دخولها، قال الحسن : لم يطمعهم إلا لكرامة يريدها بهم.
وروى الحاكم عن حذيفة قال : بينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك فقال : قوموا ادخلوا الجنة فقد غفرت لكم، وقال مجاهد : أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء وعلى هذا إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة وليرى غيرهم شرفهم وفضلهم.
وحكى ابن الأنباري أنهم أنبياء وعلى هذا إنما أجلسهم على ذلك العالي تمييزاً لهم على أهل القيامة وإظهاراً لفضلهم وعلو مرتبتهم وليكونوا مشرفين على أهل الجنة والنار ومطلعين على أحوالهم ومقادير ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار، وقال أبو مخلد : هم ملائكة يرون في صورة الرجال، والأقوال الأول تدل على أنّ أصحاب الأعراف دون أهل الجنة في الدرجات وإن كانوا يدخلون الجنة برحمة الله، والأقوال الأخيرة تدل على أنهم أفضل من أهل الجنة لأنهم أعلى منهم منزلة وأفضل.
﴿ وإذا صرفت أبصارهم ﴾ أي : أصحاب الأعراف ﴿ تلقاء ﴾ أي : جهة ﴿ أصحاب النار ﴾ فنظروا لهم وإلى سواد وجوههم وما هم فيه من العذاب ﴿ قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾ أي : الكافرين في النار قال ابن عباس : إنّ أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أصحاب النار وما هم فيه تضرّعوا إلى الله تعالى وسألوه أن لا يجعلهم منهم. وقرأ قالون وأبو عمرو والبزي بإسقاط الهمزة الأولى وأبدلها ورش وقنبل حرف مدّ وسهلاها والباقون بالتحقيق.
﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالاً ﴾ أي : كانوا عظماء في الدنيا من أهل النار ﴿ يعرفونهم بسيماهم ﴾ أي : بسيما أهل النار ﴿ قالوا ﴾ أي : أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين عرفوهم في النار ﴿ ما أغنى عنكم جمعكم ﴾ أي : ما كنتم تجمعون من الأموال في الدنيا أو كثرتكم واجتماعكم فيها ﴿ وما كنتم تستكبرون ﴾ أي : وما أغنى عنكم تكبركم عن الإيمان شيئاً.
قال الكلبيّ : ينادونهم على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ويا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزؤون بهم مثل سلمان الفارسيّ وخبيب وصهيب وبلال وأشباههم فيقول أصحاب الأعراف لهؤلاء الكفار :
﴿ أهؤلاء ﴾ لفظ استفهام أي : أهؤلاء الضعفاء ﴿ الذين أقسمتم ﴾ أي : حلفتم بالله ﴿ لا ينالهم الله برحمة ﴾ أي : لا يدخلون الجنة، وقد قيل لهم :﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وقيل : أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النار ما قالوا قال لهم أهل النار : إن دخل هؤلاء فأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ويقسمون أنهم لا يدخلون الجنة ولا ينالهم الله برحمة فتقول الملائكة الذين حبسوا أهل الأعراف : ادخلوا الجنة برحمة الله لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وهذا ظاهر على الأقوال الأول، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر تنوين رحمة في الوصل وابن ذكوان بوجهين الضم والكسر والباقون بالضم.
﴿ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء ﴾ أي : صبوه وهو دليل على أنّ الجنة فوق النار ﴿ أو مما رزقكم الله ﴾ أي : من سائر الأشربة ليلاً ثم الإفاضة لأنّ الإفاضة ملائمة للماء وسائر المائعات فحملت الإفاضة على إفاضة جميع المائعات أو من سائر المشروب والمأكول بتضمين أفيضوا ألقوا كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً *** حتى غدت همالة عيناها
أي : فائضة عيناها. ﴿ قالوا ﴾ أي : أهل الجنة مجيبين لهم ﴿ إنّ الله حرّمهما ﴾ أي : منعهما ﴿ على الكافرين ﴾ أي : منعهم طعام الجنة وشرابها كما يمنع المكلف ما يحرم عليه ويحظر كقوله :
حرام على عينيّ أن تطعم الكرى ***. . .
وقيل : لما كانت شهواتهم في الدنيا في لذة الأكل والشرب وعذبهم الله في الآخرة بشدّة الجوع والعطش فسألوا ما كانوا يعتادونه في الدنيا من طلب الأكل والشرب فأجيبوا بأنّ الله تعالى حرّم طعام الجنة وشرابها على الكافرين.
وصف الله تعالى الكافرين بقوله :
﴿ الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً ﴾ وهو ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والتصدية حول البيت وسائر الخصال الذميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهلية، وقيل : كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم وهزؤوا به، واللهو هو صرف الهمّ بما لا يحسن أن يصرف له واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به ﴿ وغرّتهم الحياة الدنيا ﴾ أي : وخدعهم عاجل ما هم فيه من رغد العيش والدعة وشغلهم ما هم فيه من ذلك عن الإيمان بالله ورسوله ومن الأخذ بنصيبهم في الآخرة حتى أتتهم المنية وهم على ذلك والغرّة غفلة في اليقظة وهو طمع الإنسان في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال، وقيل : الجاه ونيل الشهوات فإذا حصل له ذلك صار محجوباً عن الدين وطلب الخلاص لأنه غريق في الدنيا بلذاته وما هو فيه من ذلك ولما وصفهم الله تعالى بهذه الصفات الذميمة قال :﴿ فاليوم ﴾ أي : يوم القيامة ﴿ ننساهم ﴾ أي : نتركهم في النار ونعرض عنهم فلا نجيب دعاءهم ولا نرحم ضعفهم ﴿ كما نسوا لقاء يومهم هذا ﴾ أي : كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا كفعل الناسين فلم يخطر ببالهم ولم يهتموا له وأعرضوا عن الإيمان فقابل الله تعالى جزاء نسيانهم بالنسيان على المجاز لأنّ الله تعالى لا ينسى شيئاً فهو كقوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ ( الشورى، ٤٠ ) ﴿ وما كانوا بآياتنا يجحدون ﴾ أي : وما كانوا منكرين أنها من عند الله تعالى.
﴿ ولقد جئناهم ﴾ أي : هؤلاء الكفار ﴿ بكتاب ﴾ أي : قرآن أنزلناه عليك يا محمد ﴿ فصلناه ﴾ أي : بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة ﴿ على علم ﴾ أي : عالمين وجه تفصيله، وقوله تعالى :﴿ هدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ أي : به حال من منصوب فصلناه كما أنّ ( على علم ) حال من مرفوعه.
﴿ هل ينظرون ﴾ أي : ما ينظرون ﴿ إلا تأويله ﴾ أي : إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد ﴿ يوم يأتي تأويله ﴾ أي : يوم القيامة لأنه يوم الجزاء ﴿ يقول الذين نسوه من قبل ﴾ أي : تركوه ترك الناسي ﴿ قد جاءت رسل ربنا بالحق ﴾ أي : قد تبين لهم واعترفوا يوم القيامة بأنّ ما جاءت به الرسل من الإيمان والحشر والنشر والبعث والثواب والعقاب حق حين لا ينفعهم ذلك الاعتراف.
ولما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا :﴿ فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ﴾ اليوم ﴿ أو نردّ ﴾ أي : أو هل نردّ إلى الدنيا وقولهم :﴿ فنعمل غير الذي كنا نعمل ﴾ فيها فنبدل الكفر بالإيمان والتوحيد والمعاصي بالطاعة والإنابة جواب الاستفهام الثاني ﴿ قد خسروا أنفسهم ﴾ أي : إذ صاروا إلى الهلاك لأنهم كانوا في الدنيا أوّل مرّة فلم يعملوا بطاعة الله ولو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعصيان لسابق علم الله فيهم ﴿ وضل ﴾ أي : ذهب ﴿ عنهم ما كانوا يفترون ﴾ أي : من دعوى الشريك فلم ينفعهم.
﴿ إنّ ربكم ﴾ أي : سيدكم ومولاكم ومصلح أموركم وموصل الخيرات إليكم ودافع المكاره عنكم هو ﴿ الله الذي خلق السماوات والأرض ﴾ أي : ابتدعهما وأنشأ خلقهما على غير مثال سبق ﴿ في ستة أيام ﴾ أي : من أيام الدنيا، وقيل : من أيام الآخرة كل يوم ألف سنة.
فإن قيل : اليوم من أيام الدنيا عبارة عن مقدار من الزمان وذلك المقدار من طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن إذ ذاك شمس ولا قمر ولا سماء. أجيب : بأنّ معنى ذلك في مقدار ستة أيام فهو كقوله تعالى :﴿ لهم رزقهم فيها بكرة وعشياً ﴾ ( مريم، ٦٢ ) أي : على مقادير البكر والعشيّ في الدنيا لأن الجنة لا ليل فيها ولا نهار قال سعيد بن جبير : كان الله عز وجل قادراً على خلق السماوات والأرض في لمحة ولحظة فخلقهنّ في ستة أيام تعليماً لخلقه التثبت والتأني في الأمور، وقد جاء في الحديث :( التأني من الله والعجلة من الشيطان ). واختلف العلماء في اليوم الذي ابتدأ الله خلق الأشياء فيه فقيل : هو يوم السبت لخبر مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال :( خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجرة يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق الله آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار وفيما بين العصر إلى الليل )، وقيل : يوم الأحد لقول بعضهم سمي يوم الاثنين لأنه ثاني الأيام والخميس لأنه خامس الأيام قال الإسنوي : والصواب الأول للخبر المذكور ﴿ ثم استوى على العرش ﴾ أي : استوى أمره وقال أهل السنة : الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب الإيمان به ونكل فيه العلم إلى الله تعالى والمعنى أنّ له سبحانه وتعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزه عن الاستقرار والتمكن، وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله تعالى :﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ ( طه، ٥ ) فأطرق رأسه ملياً وعلاه الرحضاء ثم قال : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالاً ثم أمر به فأخرج.
وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة أمرّوها كما جاءت اقرؤها بلا كيف وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية والعرش في اللغة السرير، قال كعب : إنّ السماوات في العرش كالقنديل معلقاً بين السماء والأرض، وقال الطائي : العرش ياقوتة حمراء، وشذ قوم فقالوا : العرش بمعنى الملك، وهذا عدول عن الحقيقة إلى التجوّز مع مخالفة الأثر ألم يسمعوا قوله تعالى :﴿ وكان عرشه على الماء ﴾ ( هود، ٧ ) أتراه كان الملك على الماء وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء وبعضهم يقول : استوى بمعنى استولى ويحتج بقول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وقال آخر :
هما استويا بفضلهما جميعاً على عرش الملوك بغير زور
وهذا منكر عند أهل اللغة، قال ابن الأعرابيّ : لا يعرف استولى فلان على كذا إلا إذا كان بعيداً منه غير متمكن منه ثم تمكن منه والله تعالى لم يزل مستولياً على الأشياء، والبيتان قال ابن فارس اللغوي : لا يعرف قائلهما ولو صحا لا حجة فيهما لما بينا من استيلاء من لم يكن مستولياً نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة، وقيل : هو ما علا فأظل ومنه عرش الكرم ﴿ يغشي الليل النهار ﴾ أي : يغطيه ولم يذكر عكسه، إما للعلم به وإما لأنّ اللفظ يحتملهما بأن يكون المعنى بأنه يلحق الليل بالنهار والنهار بالليل، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الغين وتشديد الشين والباقون بسكون الغين وتخفيف الشين ﴿ يطلبه ﴾ أي : يطلب كل منهما الآخر طلباً ﴿ حثيثاً ﴾ أي : سريعاً فهو صفة مصدر محذوف ويحتمل أن يكون حالاً من الفاعل بمعنى حاثاً أو المفعول بمعنى المحثوث ﴿ والشمس والقمر والنجوم مسخرات ﴾ أي : مذللات لما يراد منهنّ من طلوع وأفول وسير على حسب إرادة المدبر لهنّ ﴿ بأمره ﴾ أي : بقضائه وتصريفه.
وقرأ ابن عامر برفع الأربعة على الابتداء والخبر والباقون بالنصب عطفاً على السماوات، ومسخرات منصوب بالكسرة ﴿ ألا له الخلق ﴾ جميعاً ﴿ والأمر ﴾ كله فإنه الموجد والمتصرّف في ذلك، وفي هذا ردّ على من يقول : إنّ الشمس والقمر والكواكب تخلق له الأمر المطلق وليس لأحد أمر غيره فهو الآمر والناهي الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد من خلقه عليه، واستخرج سفيان، بن عيينة من هذا أنّ كلام الله تعالى ليس بمخلوق فقال : إنّ الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر أي : إن جعل الأمر وهو كلامه من جملة ما خلقه فهو كفر لأنّ المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق ﴿ تبارك الله رب العالمين ﴾ أي : تعالى بالوحدانية وتعظم بالتفرّد في الربوبية، قال البيضاوي : وتحقيق الآية -والله أعلم- أنّ الكفرة كانوا متخذين أرباباً فبين الله تعالى لهم أنّ المستحق للربوبية واحد وهو الله تعالى لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب كما أشار إليه بقوله تعالى :﴿ فقضاهنّ سبع سماوات في يومين ﴾ ( فصلت : ١٢ ) وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدلة والهيئات المختلفة، ثم قسمها بصور نوعية متضادّة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله تعالى :﴿ خلق الأرض في يومين ﴾ ( فصلت، ٩ ) أي : ما في جهة السفل في يومين ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة أي : وهي النبات والحيوان والمعدن بتركيب موادها أوّلاً وتصويرها ثانياً كما قال تعالى بعد قوله :﴿ خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ٩ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام ﴾ ( فصلت، ٩، ١٠ ) أي : مع اليومين الأوّلين اللذين خلق فيهما السماوات لقوله تعالى في سورة السجدة :( ٤ ) ﴿ الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ﴾ ثم لما ثم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالي والأيام ثم صرّح بما هو نتيجة ذلك فقال :﴿ ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ﴾.
أمرهم أن يدعوه متذللين مخلصين بقوله تعالى :
﴿ ادعوا ربكم ﴾ لأنّ الدعاء هو السؤال والطلب وهو نوع من أنواع العبادة لأنّ الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وهو عاجز عن تحصيله وعرف أنّ ربه سبحانه وتعالى يسمع الدعاء ويعلم حاجته وهو قادر على إيصالها إلى الداعي فعند ذلك يعرف العبد نفسه بالعجز والنقص ويعرف ربه بالقدرة والكمال وهو المراد من قوله تعالى :﴿ تضرّعاً ﴾ أي : ادعوا ربكم تذللاً واستكانة وهو إظهار الذل في النفس والخشوع يقال : ضرع فلان لفلان إذا ذل له وخشع ﴿ وخفية ﴾ أي : سرّاً في أنفسكم وهو ضدّ العلانية والأدب في الدعاء أن يكون خفياً لهذه الآية، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال :( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم ) قال أبو موسى : وأنا خلفه أقول لا حول ولا قوّة إلا بالله في نفسي، فقال :( يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ ) قلت : بلى، قال :«لا حول ولا قوّة إلا بالله »، وقال الحسن : بين دعوة السرّ والجهر سبعون ضعفاً ولقد كان المسلمون يجهدون في الدعاء لا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أنّ الله تعالى يقول :﴿ ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية ﴾ فإنّ الله تعالى أثنى على زكريا عليه الصلاة والسلام فقال :﴿ إذ نادى ربه نداءً خفياً ﴾ ( مريم، ٣ ) وعن الحسن أيضاً : إنّ الله يعلم التقيّ والدعاء الخفيّ إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر الناس به وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة وعنده الزوّار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يفعلوه في السرّ فيكون علانية أبداً ﴿ إنه ﴾ تعالى ﴿ لا يحب المعتدين ﴾ أي : المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره نبه به على أنّ الداعي ينبغي له أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصعود إلى السماء.
روي أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهمّ إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال : يا بنيّ اسأل الله الجنة وتعوّذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( سيكون في هذه الأمّة قوم يعتدون في الطهور والدعاء ) وقيل : أراد به الاعتداء في الجهر، قال ابن جريج : من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح، وعنه صلى الله عليه وسلم :( سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهمّ إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ) ثم قرأ :﴿ إنه لا يحبّ المعتدين ﴾.
﴿ ولا تفسدوا في الأرض ﴾ أي : بالشرك والمعاصي ﴿ بعد إصلاحها ﴾ أي : ببعث الرسل وشرع الأحكام، وقيل : لا تفسدوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وعلى هذا فمعنى قوله تعالى :﴿ بعد إصلاحها ﴾ أي : بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب ﴿ وادعوه خوفاً ﴾ منه ومن عذابه ﴿ وطمعاً ﴾ أي : فيما عنده من مغفرته وثوابه، وقال ابن جريج : خوف العدل وطمع الفضل ﴿ إنّ رحمت الله قريب من المحسنين ﴾ أي : المطيعين، وفي ذلك ترجيح الطمع وتنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة وتذكير قريب المخبر به عن رحمة لإضافتها إلى الله تعالى، وقال سعيد بن جبير : الرحمة ههنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ، وقيل : إنّ تأنيث الرحمة ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة، وقيل : ذكره للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره حيث يجب التأنيث في الأوّل فيقال فيه : فلانة قريبة مني ويجوز في الثاني فيقال : فلانة قريبة وقريب مني في المكان وكون الرحمة قريباً من المحسنين لأنّ الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة وليس بينهم وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت وهو قريب من الإنسان.
فائدة : رحمت تكتب بالتاء المجرورة فوقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء وأمالها الكسائي في الوقف.
وقوله تعالى :
﴿ وهو الذي يرسل الرياح ﴾ عطف على ما قبله والمعنى : إنّ ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض وهو الذي يرسل الرياح. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتوحيد والباقون بالجمع ﴿ نشراً بين يدي رحمته ﴾ أي : متفرّقة قدام المطر الذي هو من أجل النعم وأحسنها أثراً. وقرأ عاصم بالباء الموحدة وسكون الشين أي مبشراً، وحمزة والكسائي بالنون مفتوحة وسكون الشين على أنه مصدر في موضع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان، وابن عامر بالنون مضمومة وسكون الشين تخفيفاً، والباقون بضم النون والشين جمع نشور بمعنى ناشر ﴿ حتى إذا أقلت ﴾ أي : حملت الرياح ﴿ سحاباً ثقالاً ﴾ أي : بالمطر يقال : أقل فلان الشيء إذا حمله واشتقاق الإقلال من القلة فإن من يرفع شيئاً يراه قليلاً ﴿ سقناه ﴾ أي : السحاب وإفراد الضمير باعتبار اللفظ وفيه التفات عن الغيبة ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث كما لو حمل على اللفظ على الوصف لقيل : ثقيلاً، والسحاب جمع سحابة وهو الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء سمي سحاباً لانسحابه في الهواء، قال السدي : إن الله سبحانه وتعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين وهما طرفا السماء والأرض حيث يلتقيان فتخرجه ثم تنشره فتبسطه في السماء كما يشاء ثم تفتح له أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك ﴿ لبلد ميت ﴾ لا نبات فيه أي : لإحيائه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بتخفيف الياء والباقون بالتشديد ﴿ فأنزلنا به ﴾ أي : بالبلد أو السحاب ﴿ الماء فأخرجنا به ﴾ أي : بذلك الماء لأن إنزال الماء كان سبباً لإخراج الثمرات ﴿ من كل الثمرات ﴾ أي : من كل أنواعها، قال الأزهري : قال الليث بن سعد رحمه الله تعالى : البلد هو كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منها بلدة والجمع بلاد ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا الإخراج ﴿ نخرج الموتى ﴾ أحياء من قبورهم بعد فنائهم ودرس آثارهم ﴿ لعلكم تذكرون ﴾ أي : لكي تعتبروا وتتذكروا والخطاب لمنكري البعث يقول : إنكم شاهدتم الأشجار وهي مزهرة مورقة مثمرة في أيام الربيع والصيف ثم إنكم شاهدتموها يابسة عارية من تلك الأوراق والثمار ثم إن الله أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها قادر على أن يحيي الأجساد بعد موتها. قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم : إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أرسل الله تعالى عليهم مطراً كمني الرجال من ماء تحت العرش فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح ثم يلقي عليهم نومة فينامون في قبورهم ثم يحشرون بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم فعند ذلك يقولون :﴿ يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ﴾ ( يس، ٥٢ )
وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد.
﴿ والبلد الطيب ﴾ أي : والأرض الكريمة التربة السهلة السمحة ﴿ يخرج نباته بإذن ربه ﴾ أي : بمشيئته وتيسيره عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنها وقعت في مقابلة ﴿ والذي خبث ﴾ أي : والبلد الذي خبث أرضه فهي سبخة ﴿ لا يخرج ﴾ نباته ﴿ إلا نكداً ﴾ أي : عسراً بمشقة وكلفة قال المفسرون : وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الطيبة وشبه نزول القرآن على قلبه بنزول المطر على الأرض الطيبة فإذا نزل المطر عليها أخرجت أنواع الأزهار والأثمار فكذلك المؤمن إذا سمع القرآن آمن به وانتفع به وظهر منه الطاعات والعبادات وأنواع الأخلاق الحميدة وشبه الكافر بالأرض الرديئة الغليظة السبخة التي لا ينتفع بها وإن أصابها المطر فكذلك الكافر إذا سمع القرآن لا ينتفع به ولا يصدّقه ولا يزيده إلا عتواً وكفراً وإن عمل الكافر حسنة في الدنيا كانت بمشقة وكلفة ولا ينتفع بها في الآخرة، وقيل : هو مثل ضربه الله تعالى لآدم وذريته كلهم منهم طيب ومنهم خبيث ﴿ كذلك ﴾ أي : كما بينا ما ذكر ﴿ نصرّف ﴾ أي : نبين ﴿ الآيات ﴾ الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية وحجة بعد حجة ﴿ لقوم يشكرون ﴾ نعمة الله تعالى فيتفكرون فيها ويعتبرون بها وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بسماع القرآن.
ولما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدّمة دلائل آثار قدرته الدالة على توحيده وربوبيته وأقام الأدلة القاطعة على صحة البعث بعد الموت أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما جرى لهم مع أممهم فقال :
﴿ لقد ﴾ جواب قسم محذوف تقديره : والله لقد ﴿ أرسلنا نوحاً ﴾ عليه السلام ﴿ إلى قومه ﴾ ولا تكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع فإن المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها ونوح هو ابن لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام وهو أوّل نبي بعثه الله تعالى بعد إدريس وكان نجاراً بعثه الله تعالى إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : وهو ابن أربعين سنة، وقيل : وهو ابن مائة سنة، وقيل : وهو ابن مائتين وخمسين سنة، وقال ابن عباس : سمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه، واختلفوا في سبب نوحه فقال بعضهم : لدعوته على قومه بالهلاك، وقيل : لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان، وقيل : لأنه مرّ بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه : أعبتني، أو أعبت الكلب. وفي ذكر القصص تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن إعراض قومه عن قبول الحق فقط بل قد أعرض عنه غالب الأمم الخالية والقرون الماضية وفيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت للخسار والهلاك في الدنيا والآخرة والعذاب الأليم فمن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم من قومه كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة وفيه دليل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب ولم يلق أحداً من علماء زمانه وقد أتى بمثل هذه القصص والأخبار عن القرون الماضية والأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد فعلم بذلك أنه إنما أتى من عند الله وأنه أوحى إليه بذلك فكان ذلك دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً على صحة نبوّته صلى الله عليه وسلم ﴿ فقال ﴾ نوح حال إرساله لقومه ﴿ يا قوم اعبدوا الله ﴾ أي : اعبدوه وحده لقوله تعالى :﴿ ما لكم من إله غيره ﴾ فإنه الذي يستحق العبادة لا غيره. وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء على أنه صفة لإله والباقون برفعهما على البدل من محله ﴿ إني أخاف عليكم ﴾ إن لم تقبلوا ما آمركم به من عبادة الله تعالى واتباع أمره وطاعته ﴿ عذاب يوم عظيم ﴾ هو يوم القيامة أو يوم نزول الطوفان وإهلاكهم فيه، وقال : أخاف، على الشك وإن كان يقيناً من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعلم وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون.
﴿ قال الملأ من قومه ﴾ أي : الأشراف منهم فإنهم يملؤون العيون منظراً ﴿ إنا لنراك في ضلال ﴾ أي : خطأ وزوال عن الحق ﴿ مبين ﴾ أي : بين.
﴿ قال ﴾ نوح مجيباً لهم :﴿ يا قوم ليس بي ضلالة ﴾ أي : ليس بي شيء مما تظنون من الضلال.
فإن قيل : لم لم يقل ليس بي ضلالة كما قالوا ؟ أجيب : بأنّ الضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه كما لو قيل : ألك ثمر فقلت : ما لي ثمرة فقد بالغ في النفي كما بالغوا في الإثبات وقوله تعالى :﴿ ولكني رسول من ربّ العالمين ﴾ استدراك باعتبار ما يلزمه وهو كونه كأنه قال : ولكني على هدى في الغاية لأني رسول الله.
﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ﴾ والنصح إرادة الخير لغيره كما يريده لنفسه، ويقال : نصحته ونصحت له كما يقال : شكرته وشكرت له وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وإنما وقعت خالصة للمنصوح له مقصوداً بها جانبه لا غير فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فتقصد للنفعين جميعاً ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله ورسوله وقيل : حقيقة النصح تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، وقال بعض المفسرين : والفرق بين إبلاغ نصيحة الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة أن يعلمهم جميع أوامر الله تعالى ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها الله تعالى عليهم وأما النصيحة فهي أن يرغبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم عقابه إن عصوه وقرأ أبو عمرو بسكون الباء وتخفيف اللام من الإبلاغ كقوله تعالى :﴿ لقد أبلغتكم رسالات ربي ﴾ ( الأعراف : ٩٣ ) وقرأ الباقون بفتح الباء وتشديد اللام من التبليغ كقوله تعالى :﴿ بلغ ما أنزل إليك من ربك ﴾ ( المائدة، ٦٧ ) ﴿ وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ أي : من صفات الله وأحوال قدرته الباهرة وشدّة بطشه على أعدائه وإنّ بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين.
وقوله تعالى :
﴿ أو عجبتم ﴾ الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف أي : أكذبتم وعجبتم ﴿ أن جاءكم ﴾ أي : من أن جاءكم ﴿ ذكر ﴾ أي : موعظة ﴿ من ربكم على رجل ﴾ أي : على لسان رجل ﴿ منكم ﴾ أي : من جنسكم أو من جملتكم تعرفون نسبه وذلك أنهم كانوا يتعجبون من نبوّة نوح عليه السلام ويقولون : ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين يعنون إرسال البشر ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة ﴿ لينذركم ﴾ أي : لأجل أن ينذركم عاقبة الكفر والمعاصي ﴿ ولتتقوا ﴾ أي : ولأجل أن تتقوا الله ﴿ ولعلم ترحمون ﴾ بالتقوى إن وجدت منكم لأنّ المقصود إرسال الرسل الإنذار والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي والمقصود بالتقوى الفوز بالرحمة في الدار الآخرة وفائدة حرف الترجي التنبيه على أن التقوى غير موجبة والرحمة من الله تعالى محض تفضيل وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله.
﴿ فكذبوه ﴾ أي : نوحاً ﴿ فأنجيناه والذين ﴾ آمنوا به ﴿ معه ﴾ من الغرق وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة، وقيل : تسعة بنوه الثلاثة سام وحام ويافث وستة ممن آمن به، وقوله تعالى :﴿ في الفلك ﴾ متعلق بمعه كأنه قيل : والذين استقرّوا معه في الفلك أو صحبوه في الفلك أو بأنجيناه أي : أنجيناهم في السفينة من الطوفان ﴿ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ﴾ بالطوفان ﴿ إنهم كانوا قوماً عمين ﴾ أي : عمي القلوب عن الحق غير مستبصرين يقال : رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر وأنشدوا قول زهير :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
﴿ وإلى عاد ﴾ أي : وأرسلنا إلى عاد وهو عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح وهي عاد الأولى ﴿ أخاهم هوداً ﴾ أي أخاهم في النسب لا في الدين وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح، وقيل : هو ابن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، واختلف في سبب الأخوة من أين حصلت على وجهين : الأوّل : قال الزجاج : إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من الملائكة ويكفي هذا القدر في تسمية الأخوة، والمعنى : إنا أرسلنا إلى عاد واحداً من جنسهم من البشر ليكون الفهم والأنس بكلامه أتم وأكمل ولم يبعث إليهم من غير جنسهم مثل الملك والجنّ، والوجه الثاني : أنّ أخاهم بمعنى صاحبهم والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم وكانت منازل عاد بالأحقاف باليمن والأحقاف الرمل الذي عند عمان وحضرموت ﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ﴾ أي : وحدوه ولا تجعلوا معه إلهاً آخر ﴿ مالكم من إله غيره ﴾.
فإن قيل : لم حذف العاطف من قوله : قال ولم يقل : فقال كما في قصة نوح ؟ أجيب : بأنّ هذا على تقدير سؤال سائل قال : فما قال لهم هود، فقيل : قال : يا قوم، وقيل : إنّ نوحاً كان مواظباً على دعوته قومه غير متوان فيها لأن الفاء تدل على التعقيب وأمّا هود فلم يكن كذلك بل كان دون نوح في المبالغة في الدعاء فأخبر الله تعالى عنه بقوله :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾ ﴿ أفلا تتقون ﴾ الله أي : أفلا تخافون عقابه فتؤمنون ولما كانت هذه القصة معطوفة على قصة نوح وقد علم ما حل بهم من الغرق حسن قوله هنا :﴿ أفلا تتقون ﴾ أي : أفلا تخافون ما نزل بهم من العذاب ولما لم يكن قبل واقعة قوم نوح شيء حسن تخويفهم من العذاب فقال هناك :﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾ ( الأحقاف، ٢١ ).
﴿ قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة ﴾ أي : في حمق وجهالة وضلالة عن الصواب.
فإن قيل : لم قال قوم نوح : إنا لنراك في ضلال مبين، وقوم هود : إنا لنراك في سفاهة ؟ أجيب : بأنّ نوحاً لما خوّف قومه بالطوفان وطفق في عمل السفينة في أرض ليس فيها من الماء شيء قال له قومه : إنا لنراك في ضلال مبين حيث تتعب في إصلاح سفينة في هذه الأرض، وأمّا هود عليه السلام لما زيف عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل قابلوه بمثله فقالوا : إنا لنراك في سفاهة ﴿ وإنا لنظنك من الكاذبين ﴾ أي : في ادعائك أنك رسول من رب العالمين.
﴿ قال ﴾ هود لهؤلاء الملأ الذين نسبوه إلى السفه ﴿ يا قوم ليس بي سفاهة ﴾ أي : ليس الأمر كما تزعمون أنّ بي سفاهة ﴿ ولكني رسول من رب العالمين ﴾.
﴿ أبلغكم رسالات ربي ﴾ أي : أؤدي إليكم ما أرسلني به من أوامره ونواهيه وشرائعه وتكاليفه ﴿ وأنا لكم ناصح ﴾ أي : فيما آمركم به من عبادة الله تعالى ﴿ أمين ﴾ أي : مأمون على تبليغ الرسالة وأداء النصح والأمين الثقة على ما ائتمن عليه.
فإن قيل : لم قال نوح : وأنصح لكم بصيغة الفعل وقال هود : وأنا لكم ناصح بصيغة اسم الفاعل ؟ أجيب : بأنّ صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة وكان نوح يدعو قومه ليلاً ونهاراً كما أخبر الله تعالى عنه بقوله :﴿ رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ﴾ ( نوح، ٥ ) فلما كان ذلك من عادته ذكره بصيغة الفعل فقال :﴿ وأنصح لكم ﴾ وأمّا هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتاً دون وقت فلهذا قال :﴿ وأنا لكم ناصح أمين ﴾.
فإن قيل : مدح الذات بأعظم صفات المدح غير لائق بالعقلاء ؟ أجيب : بأنه فعل هود ذلك لأنه كان يجب عليه إعلام قومه بذلك ومقصوده الرد عليهم في قولهم :﴿ وإنا لنظنك من الكاذبين ﴾ فوصف نفسه بالأمانة وأنه أمين في تبليغ ما أرسل به من عند الله وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها.
﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ سبق تفسيره.
تنبيه : في إجابة الأنبياء الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإعراض عن مقالتهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة وهكذا ينبغي لكل ناصح ﴿ واذكروا ﴾ نعمة الله عليكم ﴿ إذا جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ﴾ أي : خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكاً في الأرض فإنّ شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج وهو موضع بالبادية بها رمل إلى شحر عمان وهو بفتح الشين المعجمة وكسرها وبالحاء المهملة ساحل البحر بين عمان وعدن ﴿ وزادكم في الخلق بسطة ﴾ أي : طولاً وقوّة قال الجلال المحلى في سورة الفجر : كان طول الطويل منهم أربعمائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعاً، وقال أبو حمزة اليماني : سبعون ذراعاً، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ثمانون ذراعاً، وقال مقاتل : كان طول كل رجل اثني عشر ذراعاً، أخرج ابن عساكر عن وهب بذراعهم أي : على الأقوال كلها، وقال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة العظمية وكان عين الرجل أي : بعد موته تفرخ فيها الضباع وكذا مناخرهم، وقرأ نافع والبزي وشعبة والكسائي بالصاد وأبو عمرو وهشام وقنبل وحفص وخلف بالسين وأمّا ابن ذكوان وخلاد فقرآا بالسين والصاد ﴿ فاذكروا آلاء الله ﴾ أي : أنعمه أي : اعملوا بما يليق بذلك الإنعام وهو أن تؤمنوا به وتتركوا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام ﴿ لعلم تفلحون ﴾ أي : تفوزون بالنعيم المقيم في الآخرة.
﴿ قالوا ﴾ أي : قوم هود مجيبين له ﴿ أجئتنا ﴾ يا هود ﴿ لنعبد الله وحده ونذر ﴾ أي : نترك ﴿ ما كان يعبد آباؤنا ﴾ أي : من الأصنام استبعدوا اختصاص الله تعالى بالعبادة والإعراض عما أشرك به آباؤهم ومعنى المجيء في أجئتنا إما لأن هوداً كان معتزلاً عن قومه كما كان يفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم بحراء قبل البعثة فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم أو يريدون به الاستهزاء لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لا يرسل إلا الملائكة فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك أو أن المقصود على المجاز كما تقول : ذهب يشتمني ولا يراد حقيقة الذهاب ﴿ فأتنا بما تعدنا ﴾ أي : من العذاب ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ أي : في قولك : إني رسول الله.
﴿ قال ﴾ هود مجيباً لهم ﴿ قد وقع عليكم ﴾ أي : نزل عليكم ﴿ من ربكم رجس ﴾ عقاب ﴿ وغضب ﴾ أي : سخط ﴿ أتجادلونني في أسماء سميتموها ﴾ أي : وضعتموها ﴿ أنتم وآباؤكم ﴾ أي : من عند أنفسكم، والاستفهام للإنكار عليهم لأنهم سموا الأصنام بالآلهة فعبدوها من دون الله ﴿ ما نزل الله بها ﴾ أي : بعبادتها ﴿ من سلطان ﴾ أي : حجة وبرهان لأنّ المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل وإنها لو استحقت كان استحقاقها بجعله تعالى إمّا بإنزال آية أو نصب دليل ﴿ فانتظروا ﴾ أي : نزول العذاب بسبب تكذيبكم لي ﴿ إني معكم من المنتظرين ﴾ ذلك فأرسلت عليهم الريح العقيم.
﴿ فأنجيناه ﴾ أي : هوداً ﴿ والذين معه ﴾ أي : من المؤمنين ﴿ برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ﴾ أي : استأصلناهم وقوله تعالى :﴿ وما كانوا مؤمنين ﴾ عطف على كذبوا. روي أنّ قوم هود كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم هوداً فكذبوا وازدادوا عتواً فأمسك الله تعالى القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدوا وكان الناس حينئذ مسلمهم وكافرهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله تعالى الفرج فجهزوا إلى الحرم قيل بن عنز ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم وكان بمكة إذ ذاك العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فلبثوا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له وكان اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة فتسميتهما جرادتين فيه تغليب والقينة : الأمة مغنية أو غير مغنية فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحى أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا : قل شعراً نغنيهم به ولا يدرون من قاله فعلم القينتين معاوية :
ألا يا قل ويحك قم فهينم ***. . .
والهينمة الصوت الخفي أي : أخف الدعاء.
لعل الله يمنحنا غماما ***. . .
والغمام هنا المطر.
فيسقي أرض عاد إن عاداً *** قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو *** به الشيخ الكبير ولا الغلاما
فلما غنتا به أزعجهم ذلك وقالوا : إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سقاكم وأظهر إسلامه فقالوا لمعاوية : احبس عنا مرثداً لا يقدمنّ معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة فقال قيل : اللهمّ اسق عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء : يا قيل اختر لنفسك ولقومك فقال : اخترت السوداء فإنها أكثر ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له : المغيث فاستبشروا به وقالوا : هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود ومن معه من المؤمنين وأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا.
يروى أنّ النبيّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إذا هلك قومه هاجر والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله تعالى فيها حتى يموتوا، وروي عن عليّ رضي الله تعالى عنه أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر. وقال عبد الرحمن بن سابط : بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبياً وأن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل في تلك البقعة.
﴿ وإلى ثمود ﴾ أي : وأرسلنا إلى ثمود قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام، وقيل : سموا به لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل وكان مسكنهم الحجر وهو بكسر الحاء موضع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى واتفق القرّاء السبعة هنا على عدم صرف ثمود مراداً به القبيلة وقرئ مصروفاً في غير هذه السورة بتأويل الحيّ أو باعتبار الأصل وهو أنه اسم لأبيهم الأكبر أو للماء القليل ﴿ أخاهم صالحاً ﴾ أي : أخاهم في النسب لا في الدين وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود ﴿ قال ﴾ لهم صالح حين أرسله الله تعالى إليهم ﴿ يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ﴾ أي : فلا يستحق أن يعبد سواه ﴿ قد جاءتكم بينة من ربكم ﴾ أي : معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوّتي وصدق ما أقول وأدعو إليه من عبادة الله تعالى ثم فسر تلك البينة بقوله :﴿ هذه ناقة الله لكم آية ﴾ أي : علامة على صدقي أو آية نصبت على الحال عاملها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل كأنه قال : أشير إليها آية و( لكم ) بيان ل( من ) هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا وليس الخبر كالمعاينة كأنه قال لكم خصوصاً وإنما أضيفت إلى الله تعالى تعظيماً لها وتفخيماً لشأنها كما يقال : بيت الله ولأنها جاءت من عند الله تعالى بلا وسائط وأسباب معهودة ولذلك كانت آية ﴿ فذروها ﴾ أي : أتركوها ﴿ تأكل في أرض الله ﴾ أي : العشب فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات إنباتكم ﴿ ولا تمسوها بسوء ﴾ أي : بشيء من أنواع الأذى لا بعقر ولا بغيره وقوله :﴿ فيأخذكم عذاب أليم ﴾ أي : بسبب أذاها جواب النهي.
﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء ﴾ في الأرض ﴿ من بعد عاد ﴾ أي : إن الله تعالى أهلك عاداً وجعلكم تخلفونهم في الأرض وتعمرونها ﴿ وبوّأكم ﴾ أي : أسكنكم وأنزلكم ﴿ في الأرض ﴾ أي أرض الحجر ﴿ تتخذون من سهولها قصوراً ﴾ أي : تبنون القصور من سهولة الأرض لأنّ القصور إنما تبنى من اللبن والآجرّ المتخذ من الطين السهل اللين غالباً ﴿ وتنحتون الجبال بيوتاً ﴾ أي : وتنقبون في الجبال البيوت وكانوا في الصيف يسكنون بيوت الطين وفي الشتاء بيوت الجبال. وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء والباقون بخفضها ﴿ فاذكروا آلاء الله ﴾ أي : فاذكروا نعمة الله عليكم واشكروه عليها فإنكم منعمون مرفهون بمساكن في الصيف ومساكن في الشتاء ﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ والعثو أشد الفساد، وقال قتادة : معناه لا تسيروا مفسدين في الأرض، وقيل : أراد به النهي عن عقر الناقة.
﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه ﴾ أي : تكبروا عن الإيمان به ﴿ للذين استضعفوا ﴾ أي : للذين استضعفوهم واستبذلوهم وقوله تعالى :﴿ لمن آمن منهم ﴾ بدل من الذين استضعفوا بدل الكل إن كان الضمير لقومه وبدل البعض إن كان للذين، وقرأ ابن عامر : وقال الملأ بالواو والباقون بلا واو ﴿ أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ﴾ أي : أنّ الله أرسله إلينا وإليكم قالوا : ذلك على الاستهزاء ﴿ قالوا ﴾ أي : الضعفاء ﴿ إنا بما أرسل به ﴾ أي صالح من الدين والهدى ﴿ مؤمنون ﴾ أي : مصدّقون وإنما عدلوا عن الجواب السويّ الذي هو نعم تنبيهاً على أنّ إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل أو يخفى على ذي لب.
﴿ قال ﴾ الملأ :﴿ الذين استكبروا ﴾ عن أمر الله تعالى والإيمان به وبرسوله صالح عليه السلام ﴿ إنا بالذي آمنتم به كافرون ﴾ أي : جاحدون متكبرون.
﴿ فعقروا الناقة ﴾ أي : عقرها فدار بأمرها فأسند العقر إليهم والعقر قطع عرقوب البعير ثم جعل النحر عقراً فإنه قتلها بالسيف فإنّ ناحر البعير يعقره ثم ينحره ﴿ وعتوا عن أمر ربهم ﴾ أي : تكبروا عن أمر ربهم وعصوه وكذبوا نبيهم صالحاً عليه السلام ﴿ وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ﴾ أي : من العذاب ﴿ إن كنت من المرسلين ﴾ أي : إن كنت تزعم أنك رسول الله فإنّ الله ينصر رسله على أعدائه وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مكذبين في كل ما أخبرهم به من العذاب.
﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ أي : الزلزلة الشديدة من الأرض والصيحة من السماء ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾ أي : باركين على الركب ميتين.
روي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادهم وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالاً حتى أنّ الرجل كان يبني البيت المحكم فينهدم في حياته فينحتون البيوت من الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش فعثوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأصنام فبعث الله تعالى إليهم صالحاً عليه السلام من أشرافهم غلاماً شاباً فدعاهم إلى الله تعالى حتى كبر لا يتبعه إلا قليل مستضعفون فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر عليهم التحذير والتخويف سألوه آية فقال لهم : أيّ آية تريدون ؟ فقالوا : تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم في السنة فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعناك، قال لهم صالح : نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوهم الاستجابة فلم تجبهم ثم قال سيدهم جندع بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها : الكاثبة : أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء والمخترجة هي التي شاكلت البخت، والجوفاء ذات الجوف، والوبراء ذات الوبر فإن فعلت ذلك صدّقناك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتؤمنن ولتصدّقنّ فقالوا : نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة أي : تحرّكت للولادة تمخض النتوج بولدها فانصدعت أي : انشقت عن ناقة عشراء وهي التي مرّ عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظماً وعظماؤهم ينظرون ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندح ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدّقوه فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن أسد والخباب صاحبا أوثانهم ورباب بن صمعر كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود فلما خرجت الناقة قال لهم صالح : هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غباً فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفحج وهو بتقديم الحاء المهملة مثل التفسح وهو أن تفرج بين رجليها فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدّخرون، وكانت تصيف أي : تقيم زمن الصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو أي : تقيم زمن الشتاء ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم وزين عقرها لهم امرأتان عنيزة بنت غنم وصدقة بنت المختار لما أضرّت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها فرقي سقبها وهو بفتح السين والقاف ولدها الذكر جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثاً وكان صالح عليه السلام قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه، وانفجت وهو بتشديد الجيم أي : انفتحت الصخرة بعد رغائه فدخلها، فقال لهم صالح : تصبحون غداً وجوهكم مصفرّة وبعد غد وجوهكم محمرّة واليوم الثالث وجوهكم مسودّة، ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين فلما كان اليوم الرابع واشتدّ الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالإنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وهلكوا. وسيأتي لهذه القصة زيادة إن شاء الله تعالى في سورة النمل.
ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه :( لا يدخلنّ أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم ) وقال صلى الله عليه وسلم لعليّ :( أتدري من أشقى الأوّلين ) قال : الله ورسوله أعلم، قال :( عاقر ناقة صالح عليه السلام، أتدري من أشقى الآخرين ) قال : الله ورسوله أعلم، قال :( قاتلك ).
﴿ فتولى ﴾ أي : أعرض صالح ﴿ عنهم ﴾ وفي هذا التولي قولان : أحدهما : أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا وهلكوا ويدلّ عليه قوله تعالى :﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم ﴾ والفاء للتعقيب فدلّ على أنه حصل هذا التولي بعد جثومهم وهو موتهم.
والقول الثاني : أنه تولى عنهم وهم أحياء قبل هلاكهم ويدلّ عليه أنه خاطبهم ﴿ وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ﴾ وهذا الخطاب لا يليق إلا بالأحياء، وعلى هذا القول يحتمل أنّ في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره فتولى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين. وأجيب من جهة الأوّل : بأنه خاطبهم بعد هلاكهم تقريعاً وتوبيخاً كما خاطب نبينا صلى الله عليه وسلم الكفار من قتلى بدر حين ألقوا في القليب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يناديهم بأسمائهم الحديث في الصحيحين وفيه فقال عمر : يا رسول الله تكلم أمواتاً قد جيفوا، فقال :( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون ) وقيل : إنما خاطبهم صالح عليه السلام بذلك ليكون عبرة لمن يأتي من بعدهم فينزجروا عن مثل تلك الطريقة.
وروي أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ونزل بهم العذاب يوم السبت، وروي أنه خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار، وروي أنه رجع بمن معه من المسلمين فسكنوا ديارهم وقال قوم من أهل العلم : توفي صالح بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة.
﴿ ولوطاً ﴾ أي : وأرسلنا لوط بن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم ﴿ إذ قال لقومه ﴾ أي : وقت قوله لهم، وقيل : معناه واذكر لوطاً ويبدل منه إذ قال لقومه وهم أهل سذوم، قال التفتازانيّ : هو بفتح السين قرية قوم لوط والذال المعجمة في رواية الأزهري دون غيره، اه. وصوّبه صاحب القاموس وغلط الجوهريّ في قوله : إنها مهملة وذلك أنّ لوطاً عليه السلام لما هاجر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى الشام فنزل إبراهيم عليه السلام أرض فلسطين وأنزل لوطاً الأردن وهو بضم الهمزة والدال وتشديد النون نهر وكورة بأعلى الشام فأرسله الله تعالى إلى أرض سذوم يدعوهم إلى الله تعالى وينهاهم عن فعلهم القبيح وهو قوله تعالى :﴿ أتأتون الفاحشة ﴾ أي : أتفعلون الفاحشة الخبيثة التي هي غاية القبح وكانت فاحشتهم إتيان الذكر في أدبارهم كما سيأتي ﴿ ما سبقكم بها من أحد من العالمين ﴾ أي : ما فعلها أحد قبلكم و( الباء ) للتعدية و( من ) الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض والجملة استئناف مقرّر للإنكار وبخهم أولاً بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ، قال عمرو بن دينار : ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا حتى كان من قوم لوط.
ثم بين الفاحشة بقوله :﴿ أئنكم لتأتون الرجال ﴾ أي : في أدبارهم ﴿ شهوة من دون النساء ﴾ أي : إن أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء. وقرأ نافع وحفص بكسر الهمزة ولا ياء بينها وبين النون على الحبر وشهوة إمّا مفعول له وإمّا مصدر في موضع الحال وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لا قضاء الوطر، وقرأ ابن كثير بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة مسهلة ولا مدّ بينهما، وأبو عمرو كذلك إلا أنه يمدّ بين الهمزتين وهشام بتحقيق الهمزتين بينهما مدّ والباقون بتحقيقهما من غير مدّ بينهما وقوله :﴿ بل أنتم ﴾ أيها القوم ﴿ قوم مسرفون ﴾ أي : مجاوزون الحلال إلى الحرام إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحالة التي توجب ارتكاب القبائح وتدعو إلى اتباع الشهوات وإنما ذمّهم الله تعالى وعيرهم ووبخهم بهذا الفعل الخبيث لأن الله تعالى خلق الإنسان وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمارة الدنيا وجعل النساء محلاً لتلك الشهوة وموضع النسل فإذا تركهنّ ووضع الشيء في غير محله الذي خلق له فقد أسرف وجاوز واعتدى لأنّ وضع الشيء في غير محله الذي وضع له إسراف لأن أدبار الرجال ليست محلاً للولادة التي هي مقصودة بتلك الشهوة المركبة في الإنسان.
روي أنّ أوّل من عمل عمل قوم لوط إبليس لعنه الله تعالى لأنّ بلادهم أخصبت بالزرع والثمار وانتجعها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس لعنه الله تعالى في صورة شاب ثم دعا إلى نفسه فكان أوّل من نكح في دبره، وقال محمد بن إسحاق : كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فأذوهم فعرض لهم إبليس لعنه الله تعالى في صورة شيخ، وقال لهم : إن فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم فلما ألحّ عليهم قصدوهم فأصابوا غلماناً حساناً فاستخنثوا واستحكم ذلك فيهم.
﴿ وما كان جواب قومه ﴾ له حين وبخهم على فعلهم القبيح وارتكابهم ما حرّم الله تعالى عليهم من العمل الخبيث ﴿ إلا أن قالوا ﴾ أي : قال بعضهم لبعض ﴿ أخرجوهم من قريتكم ﴾ أي : ما جاؤوا بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة وتعظيم أمرها ولكنهم جاؤوا بشيء آخر لا يتعلق بنصيحته وكلامه من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم ضجراً بهم وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم وقولهم :﴿ إنهم أناس يتطهرون ﴾ أي : يتنزهون عن فعلكم وعن أدبار الرجال سخرية بهم وبتطهيرهم من الفواحش وافتخاراً بما كانوا فيه من القاذورات كما تقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتنزه.
﴿ فأنجيناه ﴾ أي لوطاً ﴿ وأهله ﴾ أي : من آمن به، وقوله تعالى :﴿ إلا امرأته ﴾ استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر موالية لأهل سذوم ﴿ كانت من الغابرين ﴾ أي : من الذين غبروا أي : بقوا في ديارهم فهلكوا.
وروي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت وإنما قال تعالى :﴿ من الغابرين ﴾ ولم يقل من الغابرات لأنها هلكت مع الرجال فغلب الذكور على الإناث.
﴿ وأمطرنا عليهم مطراً ﴾ أي : نوعاً من المطر عجيباً وهو مبين بقوله تعالى :﴿ وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ﴾ ( الحجر، ٧٤ ).
أي : قد عجنت بالكبريت والنار، يقال : مطرت السماء وأمطرت، وقال أبو عبيدة : يقال في العذاب : أمطر وفي الرحمة مطر، وقيل : خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم ﴿ فانظر ﴾ أي : أيها الإنسان ﴿ كيف كان عاقبة المجرمين ﴾.
روي أنّ تاجراً منهم كان في الحرم فوقف الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه، وقال مجاهد : نزل جبريل عليه السلام وأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم أتبعوا بالحجارة كما قال تعالى :﴿ فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل ﴾ ( الحجر، ٧٤ ).
﴿ وإلى مدين ﴾ أي : وأرسلنا إلى ولد مدين بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ﴿ أخاهم ﴾ في النسب لا في الدين ﴿ شعيباً ﴾ بن ميكيل بن يشجر بن مدين وكان يقال له : خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه عليه السلام وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان ﴿ قال ﴾ أي : شعيب عليه السلام ﴿ يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة ﴾ أي : معجزة تدلّ على صدق ما جئت به ﴿ من ربكم ﴾ أوجبت عليكم الإيمان بي والأخذ بما آمركم به.
فإن قيل : ما كانت معجزته إذ لم تذكر له معجزة ؟ أجيب : بأنه قد وقع العلم بأنه كان له معجزة لقوله :﴿ قد جاءتكم بينة من ربكم ﴾ ولأنه لا بدّ لمدّعي النبوّة من معجزة تشهد له وتصدّقه وإلا لم تصح دعواه وكان متنبئاً لا نبياً غير أنّ معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه ومن معجزات شعيب عليه السلام الواردة في غير القرآن ما روي من محاربة عصا موسى التنين حين دفع إليه الغنم وولادة الغنم الدرع حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها والدرع بوزن الصرد وهي الغنم التي أوائلها سواد وأواخرها بياض ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت معجزة لشعيب وهذا أولى من جعله كرامة لموسى أو إرهاصاً وهو علامة تظهر قبل النبوّة وقيل : أراد بالبينة الموعظة وهي قوله تعالى :﴿ فأوفوا الكيل والميزان ﴾ أي : أتموهما ﴿ ولا تبخسوا ﴾ أي : تنقصوا ﴿ الناس أشياءهم ﴾ فتطففوا الكيل والوزن يقال : بخس فلان الكيل والوزن إذا نقصه وطففه.
فإن قيل : هلا قال المكيال والميزان كما في سورة هود ؟ أجيب : بأنه أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال أو سمى ما يكال به بالكيل، أو أريد وأوفوا كيل المكيال ووزن الميزان وإنما قال ﴿ أشياءهم ﴾ لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه كما يفعل أمراء الجور ﴿ ولا تفسدوا في الأرض ﴾ أي : بالكفر والمعاصي ﴿ بعد إصلاحها ﴾ أي : بعدما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع ﴿ ذلكم ﴾ أي : الذي ذكرت لكم وأمرتكم به من الإيمان ووفاء الكيل والميزان وترك المظالم والبخس ﴿ خير لكم ﴾ أي : مما أنتم عليه من الكفر وظلم الناس ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي : مصدّقين بما أقول لكم ومعنى ﴿ خير لكم ﴾ أي : في الإنسانية وحسن ما يتحدّث به وجمع المال لأنّ الناس ترغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والتسوية.
﴿ ولا تقعدوا بكل صراط ﴾ أي : طريق من طرف الدين ﴿ توعدون ﴾ أي : تمنعون الناس من الدخول فيه وتهدّدونهم على ذلك وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرقات فيخبرون من أتى عليهم أنّ شعيباً الذي تريدونه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم وقيل : كانوا يقطعون الطريق على الناس أو يقعدون لأخذ المكس منهم وقوله تعالى :﴿ وتصدّون ﴾ أي : تصرفون الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي : دينه ﴿ من آمن به ﴾ دليل على أنّ المراد بالطريق سبيل الحق.
فإن قيل : صراط الحق واحد قال تعالى :﴿ وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ ( الأنعام، ١٥٣ ).
فكيف قيل : بكل صراط ؟ أجيب : بأنّ صراط الحق وإن كان واحدا لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة وكانوا إذا رأوا أحد يشرع في شيء منها أوعدوه وصدوه ﴿ وتبغونها ﴾ أي : تطلبون الطريق ﴿ عوجاً ﴾ أي : تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة عن الحق غير مستقيمة لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها أو يكون ذلك تهكماً بهم وإنهم يطلبون لها ما هو محال فإنّ طريق الحق لا يعوج ﴿ واذكروا ﴾ نعمة الله عليكم وآمنوا به ﴿ إذ كنتم قليلاً فكثركم ﴾ أي : كثر عددكم بعد القلة أو كثركم بالغنى بعد الفقر وكثركم بالقدرة بعد الضعف قيل : إنّ مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط عليهما السلام فولدت فرمى الله تعالى في نسلهما بالبركة والنماء فكثروا ونموا ﴿ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ قبلكم بتكذيبهم رسلهم أي : آخر أمرهم من الهلاك وأقرب الأمم إليكم قوم لوط فانظروا كيف أرسل الله تعالى عليهم حجارة من السماء لما عصوه وكذبوا رسوله.
﴿ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا ﴾ به أي : وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين فرقة آمنت بي وصدقت برسالتي وفرقة كذبت وجحدت برسالتي ﴿ فاصبروا ﴾ أي : فتربصوا ﴿ حتى يحكم الله بيننا ﴾ أي : بين الفرقتين فيعز المؤمنين أي : المصدّقين وينصرهم ويهلك المكذبين الجاحدين ويعذبهم وفي هذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ﴿ وهو خير الحاكمين ﴾ أي : لا حيف في حكمه ولا معقب له لأنه تعالى منزه عن الجور والميل في حكمه وإنما قال :﴿ خير الحاكمين ﴾ لأنه قد يسمى بعض الأشخاص حاكماً على سبيل المجاز والله تعالى هو الحاكم في الحقيقة.
﴿ قال الملأ ﴾ أي : الجماعة ﴿ الذين استكبروا ﴾ أي : تكبروا ﴿ من قومه ﴾ عن الإيمان بالله ورسوله وتعظموا عن اتباع شعيب عليه الصلاة والسلام ﴿ لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن ﴾ أي : ترجعن ﴿ في ملتنا ﴾ أي : لا بدّ من أحد الأمرين إمّا إخراجك ومن اتبعك على دينك من بلدنا أو عودكم في الكفر.
فإن قيل : شعيب لم يكن قط على ملتهم حتى يرجع إلى ما كان عليه ؟ أجيب : بأنّ أتباع شعيب كانوا على ملة أولئك الكفار فخاطبوا شعيباً وأتباعه جميعاً فدخل هو في الخطاب وإن لم يكن على ملتهم قط ؛ لأنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر مطلقاً، فاستعمل العَود في حقهم على سبيل المجاز.
وجرى بعضهم على أن العود يستعمل بمعنى صار كما يستعمل بمعنى رجع، فلا يستلزم الرجوع إلى حالة سابقة بل هو انتقال من حالة سابقة إلى حالة مستأنفة، كما قال القائل :
فإن تكن الأيام تحسن مرّة إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
أراد فقد صارت لهنّ دنوب ولم يرد أن ذنوباً كانت لهنّ قبل الإحسان.
﴿ قال ﴾ لهم شعيب على سبيل الاستفهام الإنكاري ﴿ أولو كنا كارهين ﴾ أي : كيف نعود فيها ونحن كارهون لها، وقيل : لا نعود فيها وإن أكرهتمونا وجبرتمونا على الدخول فيها لا نقبل ولا ندخل.
﴿ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ﴾ والجواب عن هذا مثل ما أجيب به عن الأوّل وهو أن نقول : إنّ الله نجى قومه الذين آمنوا به من تلك الملة الباطلة إلا أن شعيباً نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً مما كانوا عليه من الكفر فأجرى الكلام على حكم التغليب ﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ﴾ أي : إلا أن يشاء خذلاننا وارتدادنا فحينئذ يمضي قضاء الله فينا وينفذ حكمه علينا وفيه دليل على أنّ الكفر بمشيئة الله تعالى، وقيل : أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون ﴿ وسع ربنا كل شيء علماً ﴾ أي : وسع علمه كل شيء فلا يخفى عليه شيء مما كان وما يكون منا ومنكم ﴿ على الله توكلنا ﴾ في أن يثبتنا على الإيمان ويخلصنا من الأشرار ولما أيس شعيب من إيمان قومه دعا بهذا الدعاء فقال :﴿ ربنا افتح ﴾ أي : اقض وافصل واحكم ﴿ بيننا وبين قومنا بالحق ﴾ أي : بالعدل الذي لا جور فيه ولا ظلم ولا حيف ﴿ وأنت خير الفاتحين ﴾ أي : الحاكمين.
﴿ وقال الملأ الذين كفروا من قومه ﴾ أي : قال جماعة من أشراف قوم شعيب ممن كفر به لآخرين منهم ﴿ لئن اتبعتم شعيباً ﴾ أي : على دينه وتركتم دينكم وما أنتم عليه ﴿ إنكم إذاً لخاسرون ﴾ أي : مغبونون لفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف أو لاستبدال ضلالته بهداكم وجواب القسم الذي وطأته اللام في ( لئن اتبعتم شعيباً ) وجواب الشرط قوله :﴿ إنكم إذاً لخاسرون ﴾ فهو سادّ مسدّ الجوابين.
﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ أي : الزلزلة الشديدة ﴿ فأصبحوا في دارهم ﴾ أي : مدينتهم ﴿ جاثمين ﴾ أي : باركين على الركب ميتين، قال ابن عباس رضي الله عنهما : فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عليهم حرّاً شديداً فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فدخلوا في الأسراب ليتبرّدوا فيها فوجدوها أشدّ حرّاً من الظاهر فخرجوا إلى البرية فبعث الله تعالى عليهم سحابة فيها ريح طيبة باردة فأظلتهم وهي الظلة فوجدوا لها برداً ونسيماً فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد وصاروا رماداً، وروي أنّ الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحرّ سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فأتاهم وأخبرهم فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم فذلك قوله تعالى :﴿ عذاب يوم الظلة ﴾ ( الشعراء، ١٨٩ ) وقال قتادة : بعث الله تعالى شعيباً إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين فأمّا أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة وأمّا أصحاب مدين فأخذتهم الصيحة صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا جميعاً، قال أبو عبدا الله البجلي : كان أبو جاد وهوّز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب يوم الظلة كلمن فلما هلك قالت ابنته شعراً ترثيه وتبكيه :
كلمن قد هدّ ركني *** هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه ال *** حتف نار تحت ظله
جعلت ناراً عليهم *** دارهم كالمضمحله
وقوله تعالى :
﴿ الذين كذبوا شعيباً ﴾ مبتدأ خبره ﴿ كأن ﴾ مخففة واسمها محذوف أي : كأنهم ﴿ لم يغنوا ﴾ أي : لم يبقوا وينزلوا ﴿ فيها ﴾ أي : في ديارهم يوماً من الدهر يقال : غنيت بالمكان أي : أقمت به والمغاني المنازل التي بها أهلها واحدها مغني قال الشاعر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد
أراد أقاموا فيه وقيل : كأن لم يعيشوا فيها متنعمين يقال : غني الرجل إذا استغنى وهو من الغنى الذي هو ضدّ الفقر قال الشاعر :
غنينا زماناً بالتصعلك والغنى وكل سقانا بكاسيهما الدهر
فما زادنا بغياً على ذي قرابة غنى ولا أزرى بأحسابنا الفقر
قال الزجاج : معنى غنينا عشنا والتصعلك الفقر يقال للفقير : صعلوك ﴿ الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين ﴾ أي : ديناً ودنيا دون الذين اتبعوه فإنهم الرابحون في الدارين وأكد ذلك بإعادة الموصول وغيره للردّ عليهم في قولهم السابق.
﴿ فتولى ﴾ أي : أعرض شعيب ﴿ عنهم ﴾ أي : عن قومه ﴿ وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ﴾ أي : قال ذلك لما تيقن نزول العذاب بهم تأسفاً وحزناً عليهم لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة والإيمان ثم أنكر على نفسه فقال :﴿ فكيف آسى ﴾ أي : أحزن ﴿ على قوم كافرين ﴾ لأنهم ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بسبب كفرهم، وقيل : قال ذلك اعتذاراً عن عدم شدّة حزنه عليهم والمعنى : لقد بالغت في الإبلاغ والإنذار وبذلت وسعي في النصح فلم يصدّقوا قولي فكيف أحزن عليهم.
وقوله تعالى :
﴿ وما أرسلنا في قرية من نبيّ ﴾ فيه إضمار وحذف تقديره : فكذبوه ﴿ إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء ﴾ قال ابن مسعود : البأساء الفقر والضرّاء المرض، وقيل : البأساء الشدّة وضيق العيش والضرّاء سوء الحال ﴿ لعلهم يضرّعون ﴾ أي : فعلنا بهم ذلك لكي يتضرّعوا ويتوبوا والتضرّع التذلل والخضوع والانقياد لأمر الله.
﴿ ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة ﴾ أي : أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدّة السلامة والسعة كقوله تعالى :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات ﴾ ( الأعراف، ١٦٨ ) فأخبر الله تعالى بهذه الآية أنه يأخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج وهو قوله تعالى :﴿ حتى عفوا ﴾ أي : كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم يقال : عفا الشعر إذا كثر وطال ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :«وأعفوا اللحى » أي : وفروها وأكثروا شعرها ﴿ وقالوا ﴾ كفراً للنعمة ﴿ قد مس آباءنا الضرّاء والسرّاء ﴾ وهذه عادة الدهر قديماً وحديثاً لنا ولآبائنا ولم يكن ما مسنا من الشدّة والضرّاء عقوبة لنا من الله تعالى على ما نحن عليه فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم من قبل فإنهم لم يتركوا دينهم لما أصابهم من الضراء والسراء قال الله تعالى :﴿ فأخذناهم بغتة ﴾ أي : فجأة أينما كانوا ليكون ذلك أعظم لحسرتهم ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ أي : بنزول العذاب بهم والمراد بذكر هذه القصة وغيرها من القصص اعتبار من سمعها لينزجر عما هو عليه من الذنوب ويرجع إلى الله تعالى ويزداد الذين آمنوا إيماناً.
﴿ ولو أنّ أهل القرى ﴾ أي : المكذبين ﴿ آمنوا ﴾ أي : بالله ورسوله ﴿ واتقوا ﴾ أي : الشرك والمعاصي ﴿ لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾ أي : لأتيناهم بالخير من كل جهة، وقيل : بركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والثمار والأنعام وجميع ما فيها من الخيرات وكل ذلك من فضل الله تعالى وإحسانه وإنعامه على عباده. وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف ﴿ ولكن كذبوا ﴾ أي : فعلنا بهم ذلك ليؤمنوا فما آمنوا ولكن كذبوا الرسل ﴿ فأخذناهم ﴾ أي : عاقبناهم بأنواع العذاب ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كانوا يكسبون ﴾ من الكفر والمعاصي.
وقوله تعالى :
﴿ أفأمن أهل القرى ﴾ عطف على قوله تعالى :﴿ فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾ وما بينما اعتراض والمعنى : أبعد ذلك أمن أهل القرى ﴿ أن يأتيهم بأسنا ﴾ أي : عذابنا ﴿ بياتاً ﴾ أي : ليلاً وقوله تعالى :﴿ وهم نائمون ﴾ حال من ضمير هم البارز أو المستتر في بياتاً.
﴿ أو أمن أهل القرى ﴾ هو استفهام بمعنى الإنكار وفيه وعيد وزجر وتهديد والمراد بالقرى مكة وما حولها وقيل : هو عام في كل أهل القرى الذين كفروا وكذبوا. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بسكون الواو والباقون بفتح الواو ﴿ أن يأتيهم بأسنا ضحى ﴾ أي : نهاراً لأن الضحى صدر النهار ﴿ وهم يلعبون ﴾ أي : وهم ساهون لاهون غافلون عما يراد بهم.
وقوله تعالى :
﴿ أفأمنوا مكر الله ﴾ تقرير لقوله تعالى :﴿ أفأمن أهل القرى ﴾ ومكر الله استعارة لاستدراج العبد بالنعم في الدنيا وأخذه من حيث لا يحتسب ﴿ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ أي : إنه لا يأمن استدراجه إياهم بالنعم وأخذهم بغتة إلا من خسر في أخراه وهلك مع الهالكين فعلى العاقل أن يكون في خوفه من الله تعالى كالمحارب الذي يخاف من عدوّه المتمكن البيات والغيلة، وعن الربيع بن خيثم رحمه الله تعالى أنّ ابنته قالت له : ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام ؟ فقال : يا ابنتاه إن أباك يخاف البيات أراد قوله تعالى :﴿ أن يأتيهم بأسنا بياتاً ﴾ :
﴿ أو لم يهد ﴾ أي : يتبين ﴿ للذين يرثون الأرض ﴾ أن يسكنونها ﴿ من بعد ﴾ هلاك ﴿ أهلها ﴾ الذين كانوا من قبلهم فورثوها عنهم وخلفوهم فيها ﴿ أن لو نشاء أصبناهم ﴾ بالعذاب ﴿ بذنوبهم ﴾ كما أصبنا من قبلهم والهمزة للتوبيخ وأن لو نشاء مرفوع بأنه فاعل يهد أي : أو لم يهد للذين يخلفون من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن وهو أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي : بسببها كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين منهم كما أهلكنا المورثين وإنما عدى فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين كما مرّ.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية واواً في الوصل والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى :﴿ ونطبع ﴾ أي : نختم ﴿ على قلوبهم ﴾ معطوف على ما دلّ عليه ﴿ أو لم يهد ﴾ كأنه قيل : يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم أو على يرثون الأرض أو يكون منقطعاً بمعنى : ونحن نطبع على قلوبهم ﴿ فهم لا يسمعون ﴾ موعظة أي : لا يقبلونها ومنه سمع الله لمن حمده قال الشاعر :
دعوت الله حتى خفت أن لا يكون الله يسمع ما أقول
أي : يقبله ويستجيبه.
﴿ تلك القرى ﴾ أي : القرى التي ذكرنا لك يا محمد أمرها وأمر أهلها وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب ﴿ نقص عليك ﴾ يا محمد ﴿ من أنبائها ﴾ أي : نخبرك عنها وعن أهلها وما كان من أمرهم وأمر رسلهم الذين أرسلوا إليهم لتعلم أننا ننصر رسلنا والذين آمنوا معهم على أعدائهم من أهل الكفر والعناد وكيف أهلكناهم بكفرهم ومخالفتهم رسلهم وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتحذير لكفار قريش أن يصيبهم مثل ما أصابهم ﴿ ولقد جاءتهم ﴾ أي : أهل تلك القرى ﴿ رسلهم بالبينات ﴾ أي : بالمعجزات الباهرات والبراهين الدالة على صدقهم وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام وأمال حمزة وابن ذكوان الألف وسكن السين أبو عمرو ورفعها الباقون ﴿ فما كانوا ليؤمنوا ﴾ أي : عند مجيئهم بها ﴿ بما كذبوا ﴾ أي : كفروا به ﴿ من قبل ﴾ أي : قبل مجيء الرسل بل استمرّوا على الكفر واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان لمنافاته لحالتهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم ﴿ كذلك ﴾ أي : كما طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية وأهلكهم يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كتب عليهم أنهم لا يؤمنون من قومك.
﴿ وما وجدنا لأكثرهم ﴾ أي : لأكثر الناس على الإطلاق أو لأكثر الأمم الخالية والقرون الماضية الذين قصصنا خبرهم عليك، وأكد الاستغراق فقال :﴿ من عهد ﴾ أي : من وفاء بالعهد الذي عهدناه إليهم وأوصيناهم به يوم أخذ الميثاق، والآية على الأوّل اعتراض وعلى الثاني من تتمة الكلام السابق ﴿ وإن ﴾ مخففة أي : وإنا ﴿ وجدنا ﴾ أي : في علمنا في عالم الشهادة ﴿ أكثرهم لفاسقين ﴾ أي : خارجين عن دائرة العهد طبق ما كنا نعلمه منهم في عالم الغيب وما أبرزناه في عالم الشهادة إلا لنقيم عليهم به الحجة على ما يتعارفونه بينهم في مجاري عاداتهم ومدارك عقولهم.
﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ أي : الرسل المذكورين وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام أو الأمم المهلكين ﴿ موسى ﴾ عليه السلام ﴿ بآياتنا ﴾ أي : بحجتنا الدالة على صدقه كاليد والعصا ﴿ إلى فرعون ﴾ هو علم جنس لملوك مصر ككسرى لملوك فارس وقيصر لملوك الروم والنجاشي لملوك الحبشة، وكان اسم فرعون موسى : قابوس، وقيل : الوليد بن مصعب بن الريان وكان ملك القبط ﴿ وملائه ﴾ أي : عظماء قومه وخصهم بالذكر لأنهم إذا أذعنوا أذعن من دونهم فكأنهم المقصودون والإرسال إليهم إرسال إلى الكل ﴿ فظلموا ﴾ أي : كفروا ﴿ بها ﴾ أي : بسبب رؤيتها خوفاً على رياستهم ومملكتهم الفانية أن تخرج من أيديهم ﴿ فانظر ﴾ أيها المخاطب بعين البصيرة ﴿ كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ أي : آخر أمرهم أي : كيف فعلنا بهم وكيف أهلكناهم.
﴿ وقال موسى ﴾ لما دخل على فرعون ﴿ يا فرعون ﴾ خاطبه بما يعجبه امتثالاً لأمر الله تعالى له أن يلين في خطابه وذلك لأن فرعون كان لقب مدح لمن ملك مصر ﴿ إني رسول ﴾ أي : مرسل إليك وإلى قومك ثم بين مرسله بقوله تعالى :﴿ من ربّ العالمين ﴾ أي : الإله الذي خلق الخلق وهو سيدهم ومالكهم.
وقوله تعالى :
﴿ حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق ﴾ جواب لتكذيب فرعون إياه في دعوى الرسالة وإنما لم يذكره لدلالة قوله تعالى :﴿ فظلموا بها ﴾ ( الأعراف، ١٠٣ ) والحق هو الثابت الدائم والحقيق. مبالغة فيه وكأن المعنى : أنا ثابت مستمرّ على أن لا أقول على الله إلا الحق قرأ نافع عليّ بالتشديد فحقيق مبتدأ خبره أن وما بعدها والباقون بالسكون وعلى هذا تكون على بمعنى الباء أو يضمن حقيق معنى حريص وأن لا مقطوعة في الرسم أي : النون من لام الألف ﴿ قد جئتكم ببينة ﴾ أي : معجزة ﴿ من ربكم ﴾ على صدقي فيما أدعي من الرسالة وهي العصا واليد البيضاء ثم إن موسى عليه السلام لما فرّغ من تبليغ رسالته رتب على ذلك الحكم قوله :﴿ فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ أي : فخلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدّسة التي هي وطن آبائهم وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة من ضرب اللبن ونقل التراب ونحوهما.
﴿ قال ﴾ فرعون لعنه الله مجيباً لموسى عليه السلام ﴿ إن كنت جئت بآية ﴾ أي : علامة على صحة رسالتك ﴿ فأت بها إن كنت من الصادقين ﴾ أي : في عداد أهل الصدق العريقين فيه لتصح دعواك عندي وتثبت.
﴿ فألقى عصاه فإذا هي ﴾ أي : العصا ﴿ ثعبان مبين ﴾ أي : ظاهر أمره لا شك فيه أنه ثعبان، والثعبان الذكر العظيم من الحيات.
فإن قيل : أليس قال الله تعالى في موضع :﴿ كأنها جان ﴾ ( النمل، ١٠ )
والجان الحية الصغيرة ؟ أجيب : بأنها كانت كالجان في الخفة والحركة وهي في جثتها حية عظيمة. روي أنه لما ألقاها صارت حية عظيمة صفراء شقراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعاً وارتفعت عن الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه فوثب فرعون عن سريره هارباً وأحدث قيل : أخذته البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرّة وقد قيل : إنه كان يأكل الموز حتى لا يتغوّط وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا ومات منهم خمسة وعشرون ألفاً ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك الله الذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت ثم قال : هل معك آية أخرى قال : نعم.
﴿ ونزع يده ﴾ أي : أخرجها من جيبه، وقيل : من تحت إبطه بعد أن أراه إياها محترقة أدماً كما كانت وهي عنده ﴿ فإذا هي بيضاء ﴾ نورانية ﴿ للناظرين ﴾ لها شعاع غلب شعاع الشمس قال ابن عباس : كان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخرّوا على وجوههم ثم ردّها إلى جيبه فإذا هي كما كانت ولما كان البياض المفرط عيباً في الجسد وهو البرص قال الله تعالى في آية أخرى :﴿ من غير سوء ﴾ ( طه، ٢٢ )
أي : من غير برص.
فإن قيل : بم يتعلق قوله تعالى :﴿ للناظرين ﴾ ؟ أجيب : بأنه يتعلق بقوله تعالى :﴿ بيضاء ﴾ والمعنى : فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب.
فإن قيل : أحد هذين الأمرين إمّا العصا وإمّا اليد كان كافياً فما فائدة الجمع بينهما ؟ أجيب : بأنّ كثرة الدلائل توجب القوّة في اليقين وزوال الشك وقول بعض الملحدين : المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد -وهو أنّ حجة موسى عليه السلام كانت قوية ظاهرة قاهرة من حيث أنها أبطلت أقوال المخالفين وأظهرت فسادها كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين ومن أنها كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال في العرف : لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني أي : قوة كاملة ومرتبة ظاهرة مردود إذ حمل هاتين المعجزتين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله ولما أتى بالبيان وأقام واضح البرهان.
﴿ قال الملأ ﴾ أي : الأكابر ﴿ من قوم فرعون إنّ هذا ﴾ أي : موسى ﴿ لساحر عليم ﴾ أي : عالم بالسحر ماهر فيه قد أخذ بأعين الناس ويريهم الشيء بخلاف ما هو عليه حتى يخيل إليهم أنّ العصا صارت حية وأنّ الآدم أبيض كما أراهم يده بيضاء وهو آدم اللون وإنما قالوا ذلك لأن السحر كان هو الغالب في ذلك الزمان.
فإن قيل : قد أخبر الله تعالى في هذه السورة أن هذا الكلام من قول الملأ لفرعون وقال في سورة الشعراء وقال أي : فرعون للملأ حوله :﴿ إن هذا لساحر عليم ﴾ ( الشعراء، ٣٤ ) فكيف الجمع بينهما ؟ أجيب : عن ذلك بجوابين : الأوّل : لا يمتنع أن يكون قاله فرعون أولاً ثم إنهم قالوه بعده فأخبر الله عنهم هنا وأخبر عن فرعون في سورة الشعراء. الثاني : أن فرعون قال هذا القول ثم إن الملأ من قومه وهم خاصته سمعوه منه ثم إنهم بلغوه إلى العامّة فأخبر الله تعالى هنا عن الملأ وأخبر هناك عن فرعون ﴿ يريد ﴾ أي : موسى ﴿ أن يخرجكم ﴾ أيها القبط ﴿ من أرضكم ﴾ أي : أرض مصر ﴿ فماذا تأمرون ﴾ أي : أيّ شيء تشيرون أن نفعل به فقوله :﴿ فماذا تأمرون ﴾ من قول فرعون وإن لم يذكر، وقيل : من قول الملأ.
وتمّ كلام فرعون عند قوله :
﴿ يريد أن يخرجكم من أرضكم ﴾ فقال الملأ مجيبين له : فماذا تأمرون وإنما خاطبوه بلفظ الجمع وهو واحد على عادة الملوك في التعظيم والتفخيم، والمعنى : فما تأمرون أن نفعل به والقول الأوّل أصح لسياق الآية التي بعدها.
وهي قوله تعالى :﴿ قالوا أرجئه ﴾ أي : موسى ﴿ وأخاه ﴾ هارون عليهما السلام أي : أخر أمرهما ولا تعجل فيه حتى ننطر في أمرهما والإرجاء في اللغة التأخير وقيل : الحبس أي : احبسه وأخاه ورد بأن فرعون ما كان يقدر على حبس موسى بعدما رأى من أمر العصا ما رأى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بهمزة ساكنة والباقون بغير همز ﴿ وأرسل في المدائن ﴾ جمع مدينة واشتاقها من مدن بالمكان أي : أقام به أي : مدائن صعيد مصر ﴿ حاشرين ﴾ أي : أرسل رجالاً من أعوانك وهم الشرط بضم الشين وفتح الراء طائفة من أعوان الولاة يحشرون إليك السحرة من جميع مدائن الصعيد، وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد فإن غلبهم موسى صدّقناه واتبعناه وإن غلبوه علمنا أنه ساحر فذلك قوله تعالى :
﴿ يأتوك ﴾ أي : الشرط ﴿ بكل ساحر عليم ﴾ أي : ماهر بصناعته والباء يحتمل أن تكون بمعنى مع ويحتمل أن تكون باء التعدية، وقرأ حمزة والكسائي بتشديد الحاء مفتوحة وألف بعدها ولا ألف قبلها والباقون بتخفيف الحاء مكسورة وألف قبلها ولا ألف بعدها ولم يختلفوا في سورة الشعراء أنه سحار، قيل : الساحر الذي يعلم السحر ولا يعلم والسحار من يديم السحر، روي أنّ فرعون لما رأى من سلطان الله وقدرته في العصا ما رأى قال : إنا لا نقاتل موسى إلا بمن هو أقوى منه فاتخذ غلماناً من بني إسرائيل وبعث بهم إلى مدينة يقال لها : الفرما يعلمونهم السحر فعلموهم سحراً كثيراً وواعد فرعون موسى موعداً ثم بعث السحرة الذين أرسلهم فجاؤوا ومعلمهم معهم فقال فرعون للمعلم : ما صنعت ؟ فقال : علمتهم سحراً لا تطيقه أهل الأرض إلا أن يأتي أمر من السماء فإنهم لا طاقة لهم به ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك في سلطانه ساحر إلا أتي به وهذا يدل على أنّ السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان وهو يدل على صحة ما يقوله المتكلمون وهو أنه تعالى يجعل معجزة كل نبيّ من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان لما كان السحر غالباً على أهل زمان موسى كانت معجزته شبيهة بالسحر وإن كانت مخالفة للسحر في الحقيقة، ولما كان الطب غالباً على أهل زمان عيسى عليه السلام كانت معجزته من جنس الطب، ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد صلى الله عليه وسلم كانت معجزته من جنس الفصاحة. واختلفوا في عدد السحرة الذي جمعهم فرعون فمن مقل ومن مكثر وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد ولذلك اختلف في عددهم، فقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط وهما رؤساء القوم وسبعون من بني إسرائيل، وقال الكلبي : كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى بلدة يونس عليه السلام وكانوا سبعين غير رئيسهم، وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر ألفاً، وقال محمد بن إسحاق : كانوا خمسة عشر ألفاً، وقال عكرمة : كانوا سبعين ألف، وقال ابن المنكدر : كانوا ثمانين ألفاً، وقال مقاتل : كان رئيس السحرة شمعون، وقال ابن جريج : كان رئيسهم يوحنا.
﴿ وجاء السحرة فرعون ﴾ أي : بعدما أرسل الشرط في طلبهم ﴿ قالوا أئن لنا لأجراً ﴾ أي : جعلاً وعطاءً تكرمنا به ﴿ إن كنا نحن الغالبين ﴾ لموسى.
فإن قيل : هلا قيل : فقالوا بالفاء ؟ أجيب : بأنه على تقدير : سائل سأل ما قالوا إذا جاؤوا ؟ فأجيب : بقوله :﴿ إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين ﴾ وقرأ ابن كثير وحفص بهمزة مكسورة ونون مشدّدة بعدها على الخبر والباقون بهمزتين وسهل الثانية أبو عمرو وأدخل ألفاً بينهما والباقون بتحقيقهما وأدخل بينهما ألفاً هشام والباقون بغير ألف بينهما.
﴿ قال ﴾ لهم فرعون ﴿ نعم ﴾ أي : لكم الأجر والعطاء وقرأ الكسائي بكسر العين والباقون بالفتح وقوله تعالى :﴿ وإنكم لمن المقرّبين ﴾ عطف على محذوف سدّ مسدّ الجواب كأنه قيل : جواباً لقولهم :﴿ إن لنا لأجراً ﴾ إنّ لكم أجراً وإنكم لمن المقربين أراد إني لا أقتصر لكم على الثواب بل أزيدكم عليه وتلك الزيادة أني أجعلكم من المقرّبين عندي، قال الكلبيّ : تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج من عندي الآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى وتدل أيضاً على أنّ كل السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان لقلبوا التراب ذهباً ولنقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساء الدنيا والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب.
﴿ قالوا ﴾ أي : السحرة ﴿ يا موسى إمّا أن تلقى ﴾ أي : عصاك ﴿ وإمّا أن نكون نحن الملقين ﴾ أي : عصينا وحبالنا فراعوا مع موسى عليه السلام حسن الأدب حيث قدموه على أنفسهم في الإلقاء فعوضهم الله تعالى حيث تأدّبوا مع نبيه عليه السلام أن منّ عليهم بالإيمان والهداية ولما راعوا الأدب أوّلاً وأظهروا ما يدل على رغبتهم.
﴿ قال ﴾ لهم موسى ﴿ ألقوا ﴾ أنتم فقدّمهم على نفسه في الإلقاء.
فإن قيل : كيف جاز لنبيّ الله تعالى موسى عليه السلام أن يأمر بالإلقاء وقد علم أنه سحر وفعل السحر حرام أو كفر ؟ أجيب : عن ذلك بأجوبة : أحدها : إنّ معناه إن كنتم محقين في فعلكم فألقوا وإلا فلا تلقوا، الثاني : أنّ القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصيّ وعلم موسى عليه السلام أنه لا بدّ وأن يفعلوا ذلك ووقع التحير في التقديم والتأخير فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده الله تعالى من التأييد والتقوية وأنّ المعجزة لا يغلبها سحر أبداً، الثالث : أنه عليه السلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر وإبطاله ما كان يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله فلهذا المعنى أمرهم بالإلقاء أولاً ﴿ فلما ألقوا ﴾ حبالهم وعصيهم ﴿ سحروا ﴾ أي : صرفوا ﴿ أعين الناس ﴾ عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي هو فعل الله تعالى وذلك لأنّ السحر ليس فيه قلب الأعيان وإنما فيه صرف أعين الناس عن إدراك ذلك الشيء بسبب التمويهات والمعجزة قلب ذلك الشيء حقيقة كقلب عصا موسى عليه السلام فإذا هي حية تسعى ﴿ واسترهبوهم ﴾ أي : أرهبوهم والسين زائدة قاله المبرد، وقال الزجاج : استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب ﴿ وجاؤوا ﴾ أي : السحرة ﴿ بسحر عظيم ﴾.
روي أنّ السحرة قالوا : قد عملنا سحراً لا تطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به وذلك أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي حيات تسعى كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً ويقال : إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا داخل تلك العصى زئبقاً ليضيء وألقوها على الأرض فلما أثر حرّ الشمس فيها تحرّكت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات تتحرّك وتلتوي باختيارها، ويقال : إن الأرض كان سعتها ميلاً في ميل فصارت كلها حيات وأفاعي ففزع الناس من ذلك وأوجس في نفسه خيفة موسى وهذه الخيفة لم تحصل لموسى عليه السلام لأجل سحرهم لأنه كان على ثقة ويقين من الله تعالى أنهم لم يغلبوه وهو غالبهم وكان عالماً بأنّ ما أتوا به على وجه المعارضة لمعجزته فهو من باب السحر والتخيل وذلك باطل ومع هذا الجزم يمتنع حصول الخوف لموسى عليه السلام وإنما كان خوفه لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوه من أمر تلك الحيات فخاف موسى عليه السلام أن يتفرّقوا قبل ظهور معجزته وحجته فلذلك أوجس في نفسة خيفة موسى.
﴿ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ﴾ فألقاها فصارت حية عظيمة قد سدّت الأفق قال ابن زيد : كان اجتماعهم بالاسكندرية وقال : بلغ ذنب الحية من وراء البحر ثم فتحت فاهاً ثمانين ذراعاً ﴿ فإذا هي تلقف ﴾ بحذف إحدى التاءين من الأصل أي : تبتلع ﴿ ما يأفكون ﴾ أي : ما يزوّرونه من الإفك وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه.
روي أنها ابتلعت كل ما أتوا به من السحر فكانت تبتلع حبالهم وعصيهم واحداً واحداً حتى ابتلعت الكل ثم أقبلت على الذين حضروا ذلك المجمع ففزعوا ووقع الزحام عليهم فمات منهم بسبب ذلك الزحام خمسة وعشرون ألفاً ثم أخذها موسى عليه السلام فصارت في يده عصا كما كانت أوّل مرة.
فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه أمر من السماء وليس بسحر وعرفوا أنّ ذلك ليس في قدرة البشر وقوّتهم فعند ذلك خروا سجداً وقالوا : آمنا برب العالمين وذلك قوله تعالى :﴿ فوقع الحق ﴾ أي : فظهر الحق الذي جاء به موسى ﴿ وبطل ما كانوا يعملون ﴾ أي : من السحر وذلك أنّ السحرة قالوا : لو كان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا فلما فقدت وتلاشت في عصا موسى علموا أنّ ذلك من أمر الله تعالى وقدرته وقرأ حفص : تلقف بسكون اللام وتخفيف القاف والباقون بفتح اللام وتشديد القاف وشدّد التاء البزيّ.
﴿ فغلبوا ﴾ أي : فرعون وجموعه ﴿ هنالك ﴾ أي : عند ذلك الأمر العظيم العالي الرتبة ﴿ وانقلبوا صاغرين ﴾ أي : رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين.
﴿ وألقي السحرة ساجدين ﴾ أي : أنّ الله تعالى ألهمهم ذلك وحملهم عليه حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى وينقلب الأمر عليه، قال الأخفش : من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا.
﴿ قالوا آمنا برب العالمين ﴾ قال فرعون : إياي تعنون قالوا : لا بل.
﴿ رب موسى ﴾ فقال : إياي تعنون لأني أنا الذي ربيت موسى فلما قالوا :﴿ وهارون ﴾ زالت الشبهة وعرف الكل أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السماء قال مقاتل : قال موسى لكبير السحرة : أتؤمن بي إن غلبتك فقال : لآتينّ بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأومننّ بك وفرعون ينظر إليهما ويسمع كلامهما
فهذا قوله :﴿ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة ﴾ ويقال : إنّ الحبال والعصيّ التي كانت مع السحرة كانت حمل ثلثمائة بعير فلما ابتلعتها عصا موسى عليه السلام كلها قال بعضهم لبعض : هذا أمر خارج عن هذا السحر وما هو إلا من أمر السماء فآمنوا وصدّقوا.
فإن قيل : كان يجب أن يأتوا بالإيمان قبل السجود فما فائدة تقديم السجود على الإيمان ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان والمعرفة خرّوا سجداً لله تعالى شكراً على ما هداهم إليه وألهمهم من الإيمان بالله تعالى وتصديق رسوله ثم أظهروا بعد ذلك إيمانهم قال قتادة : كانوا أوّل النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة، وعن الحسن : نرى من ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا وهؤلاء الكفار نشؤوا في الكفر بذلوا أنفسهم لله تعالى.
﴿ قال فرعون ﴾ للسحرة منكراً عليهم موبخاً لهم بقوله :﴿ آمنتم ﴾ أي : صدقتم ﴿ به ﴾ أي : بموسى أو بالله تعالى والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ.
فائدة : هنا ثلاث همزات جميع القراء بإبدال الثالثة ألفاً وحقق الثانية شعبة وحمزة والكسائي وسهلها نافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر وأمّا حفص فإنه أسقط الأولى وأبدلها قنبل في الوصل واواً ﴿ قبل أن آذن لكم ﴾ أي : قبل أن آمركم بذلك وآذن لكم فيه ﴿ إنّ هذا لمكر مكرتموه ﴾ أي : إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى ﴿ في المدينة ﴾ أي : مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع، وذلك أنّ فرعون رأى موسى يحدّث كبير السحرة فظن فرعون أن موسى وكبير السحرة قد تواطؤوا عليه وعلى أهل مصر ليستولوا على مصر كما قال :﴿ لتخرجوا منها أهلها ﴾ أي : القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل وقوله تعالى :﴿ فسوف تعلمون ﴾ فيه وعيد وتهديد أي : فسوف تعلمون ما أفعل بكم.
فسر ذلك الوعيد بقوله :
﴿ لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ﴾ أي : يخالف الطرف الذي تقطع منه اليد الطرف الذي تقطع منه الرجل، قال الكلبي : لأقطعنّ أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى ﴿ ثم لأصلبنكم ﴾ أي : أعاقبكم ممددة أيديكم لتصير على هيئة الصليب أو حتى يتقاطر صليبكم وهو الدهن الذي فيكم ﴿ أجمعين ﴾ أي : لا أترك منكم أحداً تفضيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم قال ابن عباس : أوّل من صلب وقطع الأيدي والأرجل فرعون أي : إنه أوّل من سنّ ذلك فشرعه الله تعالى للقطاع تعظيماً لجرمهم ولذلك سماه محاربة الله ورسوله ولكن على التعاقب لفرط رحمته.
﴿ قالوا ﴾ أي : السحرة مجيبين لفرعون حين وعدهم بما ذكر ﴿ إنا إلى ربنا ﴾ بعد موتنا على أيّ وجه كان ﴿ منقلبون ﴾ أي : راجعون إليه في الآخرة.
﴿ وما تنقم ﴾ أي : تنكر ﴿ منا ﴾ أي : في فعلك ذلك بنا وتعيب علينا ﴿ إلا أن آمنا ﴾ أي : إلا ما هو أصل المفاخر كلها وهو الإيمان ﴿ بآيات ربنا لما جاءتنا ﴾ لم نتأخر عن معرفة الصدق وهذا موجب الإكرام لا الانتقام ثم فزعوا إلى الله تعالى فقالوا :﴿ ربنا أفرغ علينا صبراً ﴾ عندما توعدهم فرعون به أي : اصبب علينا صبراً كاملاً تاماً ولهذا أتى بلفظ التنكير أي : صبراً وأيّ صبر عظيم ﴿ وتوفنا مسلمين ﴾ أي : واقبضنا على دين الإسلام وهو دين خليلك عليه السلام قال ابن عباس : كانوا في أوّل النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء، قال الطيبيّ : إنّ فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، وقال غيره : إنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى :﴿ بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ﴾ ( القصص، ٣٥ ).
تنبيه : في الآية فوائد الأولى قولهم :﴿ أفرغ علينا صبراً ﴾ أكمل من قولهم أنزل علينا صبراً لأن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية فكأنهم طلبوا من الله تعالى كل الصبر لا بعضه، الثانية : إنّ قولهم صبراً مذكور بصيغة التنكير وذلك يدل على تمام الكمال أي : صبراً تاماً كاملاً، الثالثة : إن ذكر الصبر من قبلهم ومن أعمالهم ثم إنهم طلبوه من الله تعالى وذلك يدل على أنّ فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى وقضائه، الرابعة : احتج القاضي بهذه الآية على أنّ الإيمان والإسلام واحد فقال : إنهم قالوا أوّلاً : آمنا بآيات ربنا، ثم قالوا ثانياً : وتوفنا مسلمين فوجب أن يكون ذلك الإيمان هو ذلك الإسلام وذلك يدل على أنّ أحدهما هو الآخر.
واعلم أنّ فرعون بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرّض لموسى لأنه كان كلما رأى موسى عليه السلام خافه أشدّ الخوف فلهذا السبب لم يتعرّض له إلا أن القوم لم يعرفوا ذلك فقالوا له :﴿ أتذر موسى وقومه ﴾ كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى :
﴿ وقال الملأ ﴾ أي : الأشراف ﴿ من قوم فرعون ﴾ له ﴿ أتذر ﴾ أي : تترك ﴿ موسى وقومه ﴾ من بني إسرائيل ﴿ ليفسدوا في الأرض ﴾ أي : أرض مصر وأراد بالفساد فيها أنهم يأمرونهم بمخالفة فرعون وهو قولهم :﴿ ويذرك وآلهتك ﴾ أي : معبوداتك أي : فلا يعبدك ولا يعبدها، قال ابن عباس : كان لفرعون بقرة حسنة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها ولذلك أخرج لهم السامري عجلاً، وقال السدي : كان فرعون اتخذ لقومه أصناماً وكان يأمرهم بعبادتها وقال لهم : أنا ربكم ورب هذه الأصنام وذلك قوله :{ أنا ربكم الأعلى.
فإن قيل : إنّ فرعون إن لم يكن كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسل إليه وإن كان عاقلاً لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالق السماوات والأرض لأنّ فساده معلوم بالضرورة ؟ أجيب : بأن الأقرب أن يكون دهرياً منكر الوجود الصانع وكان يقول : مدبر هذا السفلي هو الكواكب واتخذ أصناماً على صورة الكواكب وكان يعبدها ويأمر بعبادتها وكان يقول في نفسه : إنه المطاع المخدوم في الأرض ولهذا قال :﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾ ﴿ قال ﴾ فرعون مجيباً لملئه حين قالوا له : أتذر موسى وقومه ﴿ سنقتل أبناءهم ﴾ أي : المولودين ﴿ ونستحيي نساءهم ﴾ أي : نتركهم أحياء كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم إنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكك على يديه. وقرأ نافع وابن كثير بفتح النون وسكون القاف وضم التاء مخففة والباقون بضم النون وفتح القاف وكسر التاء مشدّدة ﴿ وإنا فوقهم قاهرون ﴾ أي : غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا ولا أثر لغلبة موسى لنا في هذه المناظرة فأعادوا عليهم القتل.
فشكت بنو إسرائيل لموسى فأمرهم بالصبر كما قال تعالى :
﴿ قال موسى لقومه ﴾ أي : بني إسرائيل ﴿ استعينوا بالله واصبروا ﴾ أي : استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما نزل بكم من البلاء فإن الله تعالى هو الكافي لكم واصبروا على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم ﴿ إنّ الأرض ﴾ أي : أرض مصر وإن كانت الأرض كلها ﴿ لله ﴾ تعالى لأنّ الكلام فيها ﴿ يورثها من يشاء من عباده ﴾ وفي هذا تسلية لهم وتقريراً للأمر بالاستعانة بالله عز وجل والتثبت في الأمر وقوله تعالى :﴿ والعاقبة ﴾ أي : المحمودة ﴿ للمتقين ﴾ لأنّ الله تعالى وعدهم بالنصر وتذكير لما وعدهم به من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له ولما سمع بنو إسرائيل ما قال فرعون من توعده لهم بالقتل مرّة ثانية.
﴿ قالوا ﴾ لموسى ﴿ أوذينا من قبل أن تأتينا ﴾ أي : بالرسالة وذلك إن بني إسرائيل كانوا مستضعفين في يد فرعون وقومه وكان يأخذ منهم الجزية وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة إلى نصف النهار ويمنعهم من الترفه والتنعم ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم فلما جاء موسى بالرسالة وجرى له ما جرى شدد فرعون في استعمالهم فكان يستعملهم جميع النهار بلا أجر وأراد أن يعيد القتل عليهم فقالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ﴿ ومن بعد ما جئتنا ﴾ أي : بالرسالة.
فإن قيل : ظاهر هذا الكلام يوهم أن بني إسرائيل كرهوا مجيء موسى بالرسالة وذلك كفر أجيب : عن هذا الإيهام بأنّ موسى عليه السلام كان قد وعدهم بزوال ما كانوا فيه من الشدّة والمشقة فظنوا أنّ ذلك يكون على الفور فلما رأوا أنّ المشقة قد زادت عليهم قالوا ذلك أي : فمتى يكون ما وعدتنا به من زوال ما نحن فيه ﴿ قال ﴾ موسى عليه السلام مجيباً لهم :﴿ عسى ربكم أن يهلك عدوّكم ﴾ أي : فرعون وقومه ﴿ ويستخلفكم في الأرض ﴾ أي : يجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم، قال البيضاوي : ولعله أتى بفعل الطمع أي : بعسى لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم.
وقد روي أنّ مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام ثم سبب عن الاستخلاف قوله تعالى مذكراً لهم محذراً من سطواته تعالى :﴿ فينظر ﴾ أي : وأنتم خلفاء متمكنون ﴿ كيف تعملون ﴾ أي : يعاملكم معاملة المختبر وهو في الأزل أعلم بما تعملون منكم بعد إبقاعكم للأعمال ولكنه يفعل ذلك لتقوم الحجة عليكم على مجاري عاداته.
روي عن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان فطلب زيادة لعمرو فلم يجد فقرأ عمرو هذه الآية ثم دخل عليه بعدما استخلف فذكر له ذلك وقال : قد بقي فينظر كيف تعملون.
﴿ ولقد أخدنا آل فرعون ﴾ أي : فرعون وقومه ﴿ بالسنين ﴾ أي : بالقحط والجوع سنة بعد سنة فإنّ السنة تطلق بالغلبة على ذلك كما تطلق على العام ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :( اللهمّ اجعلها عليهم كسني يوسف ) ﴿ ونقص من الثمرات ﴾ أي : بالعاهات، قال قتادة : أمّا السنين فلأهل البوادي وأمّا نقص الثمرات فلأهل الأمصار، وعن كعب يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة ﴿ لعلهم يذكرون ﴾ أي : يتعظون فيؤمنون ويرجعون عما هم عليه من الكفر والمعاصي لأنّ الشدّة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله تعالى من الخيرات والدليل على ذلك قوله تعالى :﴿ وإذا مسكم الضرّ في البحر ضلّ من تدعون إلا إياه ﴾ ( الإسراء، ٦٧ ) وقوله تعالى :﴿ وإذا مسه الشرّ فذو دعاء عريض ﴾ ( فصلت، ٥١ ) وقال سعيد بن جبير : عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروهاً في نفسه ثلثمائة وعشرين سنة ولو أصابه في تلك المدّة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية.
ثم بين سبحانه وتعالى أنهم عند نزول تلك المحن عليهم يقدمون على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم فقال :
﴿ فإذا جاءتهم الحسنة ﴾ قال ابن عباس : العشب والخصب والثمار والمواشي والسعة في الرزق والعافية والسلامة ﴿ قالوا لنا هذه ﴾ أي : نحن مستحقوه على العادة التي جرت من كثرة نعمتنا وسعة أرزاقنا ولم يعلموا أنه من الله تعالى فيشكروه على أنعامه ﴿ وإن تصبهم سيئة ﴾ أي : قحط وجدب ومرض وبلاء ورأوا ما يكرهونه في أنفسهم ﴿ يطيروا ﴾ يتشاءموا وأصله يتطيروا ﴿ بموسى ومن معه ﴾ من المؤمنين، ويقولون : ما أصابنا إلا بشؤمهم وهذا إغراق في وصفهم في الغباوة والقساوة فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات وهي لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتوّاً وانتهاكاً في البغي وإنما عرّف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بأحداثها بالذات ونكر السيئة وأتى بها مع حرف الشك لندورها وعدم القصد إلا بالتبع ﴿ ألا إنما طائرهم عند الله ﴾ أي : سبب خيرهم وشرهم عنده تعالى وهو حكمه ومشيئته أو سبب شؤمهم عند الله تعالى وهو أعمالهم المكتوبة عنده فإنها التي ساقت إليهم ما يسوءهم ﴿ ولكنّ أكثرهم لا يعلمون ﴾ أي : إنّ ما يصيبهم من الله تعالى وذلك لأنّ أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة ويقطعونها عن قضاء الله تعالى وتقديره : والحق أنّ الكل من الله تعالى لأنّ كل موجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والواجب لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وبهذا الطريق يكون الكل من الله تعالى فإسناده إلى غير الله تعالى يكون جهلاً بكمال الله تعالى.
﴿ وقالوا ﴾ أي : فرعون وقومه القبط لموسى عليه السلام ﴿ مهما تأتنا به ﴾ وقوله تعالى :﴿ من آية ﴾ أي : من عند ربك بيان لمهما وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم ولذلك قالوا :﴿ لتسحرنا بها ﴾ أي : لتصرفنا عما نحن عليه من الدين ﴿ فما نحن لك بمؤمنين ﴾ أي : بمصدّقين.
تنبيه : اختلف في أصل مهما فقيل : أصلها ما ما الأولى ما الشرطية والثانية ما الزائدة ضمت إليها للتأكيد ثم قلبت ألفها هاء استثقالاً لتكرير المتجانسين فصارت مهما هذا قول الخليل والبصريين، وقيل : أصلها مه التي بمعنى اكفف وما الجزائية كأنهم قالوا : اكفف ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فهو كذا وكذا هذا قول الكسائي فهي مركبة على هذين القولين والمعتمد الذي جرى عليه ابن هشام وغيره أنها بسيطة لأنّ دعوى التركيب لم يقم عليها دليل ووزنها فعلى وألفها للإلحاق أو للتأنيث والضميران في به وبها راجعان لمهما إلا أن أحدهما ذكر باعتبار اللفط والثاني أنث باعتبار المعنى لأنه في معنى الآية ونحوه قول زهير :
ومهما يكن عند امرئ من خليقة وإذ خالها تخفى على الناس تعلم
قال في الكشاف : وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية فيضعها في غير موضعها ويحسب أنها بمعنى متى ما ويقول : مهما جئتني أعطيتك قال ابن عباس : إنّ القوم لما قالوا مهما تأتنا به من آية من ربك فهي عندنا من باب السحر ونحن لا نؤمن بها البتة.
وكان موسى عليه السلام رجلاً حديداً فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله تعالى له فقال تعالى :
﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان ﴾ وقال سعيد بن جبير : لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوباً أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي على الشر فتابع الله تعالى عليهم الآيات فأخذهم أوّلاً بالسنين وهو القحط ونقص الثمرات وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد والعصا فلم يؤمنوا فدعا عليهم موسى وقال : يا رب إنّ عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإنّ قومه قد نقضوا العهد فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فبعث الله تعالى عليهم الطوفان وهو الماء فأرسل الله تعالى المطر من السماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت بني إسرائيل شيء وركب ذلك الماء على أرضهم فلم يقدروا أن يحرثوا ولا يعملوا شيئاً ودام ذلك عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت حتى كان الرجل منهم لا يرى شمساً ولا قمراً ولا يستطيع الخروج من داره فصرخوا إلى فرعون واستغاثوا به فأرسل إلى موسى عليه السلام فقال : اكشف عنا العذاب فقد صار بحراً واحداً فإن كشف هذا العذاب آمنا بك فأزال الله تعالى عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض وخرج من النبات ما لم ير مثله قط فقالوا : هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل، وقيل : المراد بالطوفان الجدري وهو بضم الجيم وفتح الدال وبفتحهما قروح في البدن تنفط وتنضح، وقيل : هو الموتان وهو بضم الميم موت في الماشية، وقيل : هو الطاعون فنكثوا العهد ﴿ و ﴾ لم يؤمنوا وأقاموا شهراً في عافية فأرسل الله تعالى عليهم ﴿ الجراد ﴾ فأكل النبات والثمار وأوراق الشجر حتى كان يأكل الأبواب وسقوف البيوت ومسامير الأبواب من الحديد وابتلي الجراد بالجوع فكانت لا تشبع ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك وعظم الأمر عليهم حتى صارت عند طيرانها تغطي الشمس ووقع بعضها على بعض في الأرض ذراعاً فضجوا من ذلك وقالوا : يا موسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك فأعطوه عهد الله وميثاقه فدعا موسى عليه السلام فكشف الله عنهم الجراد بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، وفي الخبر مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم، ويقال : إنّ موسى عليه السلام برز إلى الفضاء وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت، وقيل : أرسل الله تعالى ريحاً فاحتمل الجراد فألقاه في البحر وكان قد بقي من زرعهم وغلاتهم بقية فقالوا : قد بقي لنا ما يكفينا فما نحن بتاركي ديننا ﴿ و ﴾ لم يؤمنوا وأقاموا أشهراً في عافية وعادوا إلى أعمالهم الخبيثة فأرسل الله تعالى عليهم ﴿ القمل ﴾ واختلفوا في القمل، فعن ابن عباس أنه السوس الذي يخرج من الحنطة، وعن قتادة أنه أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها. وعن عكرمة أنه الحمنان وهو ضرب من القراد، وعن عطاء القمل المعروف فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه، وكان أحدهم يأكل طعاماً فيمتلئ قملاً، وكان أحدهم يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلا يردّ منها إلا شيئاً يسير، وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه به موسى عليه السلام بعصاه فصار قملاً فأخذت أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري ومنعهم النوم والقرار فصاحوا وصرخوا هم وفرعون إلى موسى عليه السلام وقال : إنا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء فدعا موسى فرفع الله القمل عنهم بعدما أقام عليه سبعة أيام من السبت إلى السبت فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم وقالوا : ما كنا أحق أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم جعل الرمل دواب ﴿ و ﴾ لم يؤمنوا فدعا موسى عليه السلام عليهم بعدما أقاموا شهراً في عافية فأرسل الله تعالى عليهم ﴿ الضفادع ﴾ فامتلأت منها بيوتهم وأطعمتهم وآنيتهم فلا يكشف أحدهم عن ثوب ولا طعام ولا شراب إلا وجد فيه الضفادع وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى رقبته ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه وكان يثب في قدورهم فيفسد عليهم طعامهم ويطفئ نيرانهم وكان أحدهم يضطجع فيركبه الضفدع فيكون عليه ركاماً حتى لا يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر ويفتح فاه إلى أكلة فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه ولا يعجن عجيناً ولا يفتح قدراً إلا امتلأت ضفادع، وعن ابن عباس أنّ الضفادع كانت بريّة فلما أرسلها الله تعالى إلى آل فرعون سمعت فأطاعت فجعلت تلقي نفسها في القدور وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور فأثابها الله تعالى بحسن طاعتها برد الماء فلقوا منها أذى شديداً فشكوا إلى موسى عليه السلام وقالوا : ارحمنا هذه المرّة فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح ولا نعود فأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بأن أماتها وأرسل الله المطر والريح فاحتملها إلى البحر بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت ثم نكثوا العهد ﴿ و ﴾ لم يؤمنوا وعادوا لكفرهم وأعمالهم الخبيثة فدعا عليهم موسى بعدما أقاموا شهراً في عافية فأرسل الله تعالى عليهم ﴿ الدم ﴾ فصارت مياههم كلها دماً فما يستقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه ماء عبيطاً أحمر فشكوا إلى فرعون وقالوا : ليس لنا شراب، فقال : إنه سحركم، فقالوا : من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا دماً عبيطاً وكان فرعون لعنه الله تعالى يجمع بين القبطيّ والإسرائيليّ على الإناء الواحدة فيكون ما يلي الإسرائيليّ ماء وما يلي القبطيّ دماً ويقومان إلى الجرّة فيها الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دم حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي للمرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول : اسقيني من مائك فتصبّ لها من قربتها فيعود في الإناء دماً حتى كانت تقول : اجعليه في فيك ثم مجيه في فيّ فتأخذ في فيها ماء وإذا مجته في فيها صار دماً واعترى فرعون العطش حتى أنه كان ليضطرّ إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها دماً فمكثوا على ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم فأتوا موسى وشكوا إليه ما يلقونه وقالوا : ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى عليه السلام ربه فكشف عنهم، وقيل : الدم الذي سلط عليهم هو الرعاف، وقوله تعالى :﴿ آيات ﴾ نصب على الحال ﴿ مفصلات ﴾ أي : مبينات لا تشكل على عاقل إنها آيات الله تعالى ونقمته عليهم أو مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل آيتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة أسبوعاً كما مرّت الإشارة إلى ذلك وقيل : إنّ
موسى عليه السلام لبث فيهم بعدما غلب السحرة وآمنوا به عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل ﴿ فاستكبروا ﴾ عن الإيمان فلم يؤمنوا ﴿ وكانوا ﴾ أي : فرعون وقومه ﴿ قوماً مجرمين ﴾ أي : كافرين.
﴿ ولما وقع عليهم الرجز ﴾ أي : نزل بهم العذاب وهو ما ذكره الله تعالى من الطوفان وما بعده، وقال سعيد بن جبير : الرجز الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس التي تقدّمت فنزل بهم الطاعون فمات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفاً وتركوا غير مدفونين، قال الإمام الرازي : والقول الأوّل أقوى لأنّ لفظ الرجز مفرد محلى بالألف واللام فينصرف إلى المعهود السابق وههنا المعهود السابق هو الأنواع الخمسة التي تقدّم ذكرها وأمّا غيرها فمشكوك فيه فحمل اللفظ على المعلوم أولى من حمله على المشكوك فيه، وعن أسامة بن زيد : الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه ﴿ قالوا يا موسى ادع لنا ربك ﴾ ولم يقولوا ربنا كبراً وعتواً ﴿ بما عهد عندك ﴾ أي : بعهده عندك وهو النبوة وسميت عهداً لأن الله تعالى عهد أن يكرم النبيّ وهو عهد أن يستقل بأعبائها أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك به في آياتك والباء إمّا أن تتعلق بقوله :﴿ ادع لنا ربك ﴾ على وجهين : أحدهما : أسعفنا إلى ما نطلب منك من الدعاء لك بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة أو ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك وإمّا أن يكون قسماً مجاباً بقوله تعالى :﴿ لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك ﴾ أي : أقسمنا بعهد الله تعالى عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك ﴿ ولنرسلنّ معك بني إسرائيل ﴾ أي : لنصدّقنك بما جئت به ولنخلين بني إسرائيل ليذهبوا حيث شاؤوا.
﴿ فلما كشفنا عنهم الرجز ﴾ أي : بدعاء موسى عليه السلام ﴿ إلى أجل هم بالغوه ﴾ أي : إلى حدّ من الزمان هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدّم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليمّ وقوله تعالى :﴿ إذا هم ينكثون ﴾ جواب لما أي : فلما كشفنا عنهم فاجؤا النكث من غير توقف وتأمّل فيه.
فإن قيل : إنّ الله تعالى علم من حال هؤلاء أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها عليهم وإظهار الكثير منها ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسئل عما يفعل.
قال تعالى :
﴿ فانتقمنا منهم ﴾ أي : كافأناهم على سوء صنيعهم وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب لأنه تعالى لما كشف عنهم العذاب مرّات فلم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم وبلغوا الأجل الذي أجل لهم انتقم منهم بأن أهلكهم كما قال تعالى :﴿ فأغرقناهم في اليمّ ﴾ أي : في البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل : هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأنّ المنتفعين به يقصدونه قال الأزهريّ : ويقع اليمّ على البحر الملح والبحر العذب ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ فاقذفيه في اليمّ ﴾ ( طه، ٣٩ ) والمراد نيل مصر وهو عذب، وإغراقهم ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب أنهم ﴿ كذبوا بآياتنا ﴾ الدالة على وحدانيتنا وصدق رسولنا ﴿ وكانوا عنها ﴾ أي : الآيات ﴿ غافلين ﴾ أي : لا يتدبرونها، وقيل : الضمير في عنها يرجع للنقمة التي دل عليها قوله تعالى :﴿ انتقمنا ﴾ أي : وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافلين.
فإن قيل : الغفلة ليست من فعل الإنسان ولا تحصل باختياره فكيف جاء الوعيد على الغفلة أجيب : بأنّ المراد بالغفلة هنا الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها فهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها.
فإن قيل : أليس قد ضموا إلى التكذيب والغفلة معاصي كثيرة فكيف يكون الانتقام بهذين دون غيرهما ؟ أجيب : بأنه ليس في بيان أنه تعالى انتقم منهم بهذين دلالة على نفي ما عداهما. قال الرازي : والآية تدل على أنّ الواجب في الآيات النظر فيها فلذلك ذمّهم بأنهم غفلوا عنها وذلك يدل على أنّ التقليد طريق مذموم.
ولما بين تعالى إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة بين تعالى ما فعله بالمؤمنين من الخيرات وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم فقال تعالى :
﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون ﴾ أي : بالاستعباد وذبح الأبناء وأخذ الجزية والأعمال الشاقة وهم بنو إسرائيل ﴿ مشارق الأرض ومغاربها ﴾ أي : أرض الشأم وهي من الفرات إلى بحر سرف الموضع الذي خرجوا منه من البحر وغرق فيه فرعون وآله كما نقله البقاعي في المائدة عن التوراة، وقيل : المراد جملة الأرض لأنه خرج من جملة بني إسرائيل داود وسليمان عليهما السلام وقد ملكا الأرض ويدل للأوّل قوله تعالى :﴿ التي باركنا فيها ﴾ أي : بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشأم ﴿ وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل ﴾ أي : مضت عليهم واستمرّت من قولهم تم عليه الأمر إذا قضي وهي قوله تعالى :﴿ ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ﴾ ( القصص، ٥ ) الخ. . والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ومعنى تمت عليهم إنجاز الوعيد الذي تقدّ بإهلاك عدوّهم واستخلافهم في الأرض وإنما كان الإنجاز تماماً للكلام لأنّ الوعد بالشيء يبقى كالشيء المعلق فإذا حصل الموعود به فقد تمّ ذلك الوعد وكمل.
فائدة : رسمت ( كلمة ) بالتاء المجرورة ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ووقف الباقون بالتاء وإنما حصل لهم ما ذكر ﴿ بما صبروا ﴾ أي : بسبب صبرهم وحسبك بها حاثاً على الصبر ودالاً على أنّ من قابل البلاء بالجزع وكله الله تعالى إليه ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله تعالى له الفرج ﴿ ودمّرنا ﴾ أي : أهلكنا، قال الليث : الدمار الهلاك التامّ ﴿ ما كان يصنع فرعون وقومه ﴾ في أرض مصر من القصور والعمارات ﴿ وما كانوا يعرشون ﴾ أي : من الجنان وما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء والباقون بالجرّ وهذا آخر ما قص الله تعالى من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم.
ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من مملكة فرعون واستعبادهم ومعاينتهم الآيات العظام بقوله تعالى :
﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ﴾ أي : قطعناه بهم.
روي أنّ جوازهم كان يوم عاشوراء وأنّ موسى عليه السلام صامه شكراً لله تعالى على إنجائهم وإهلاك عدوّهم ومع النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم لم يراعوها حق رعايتها كما حكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله تعالى :﴿ فأتوا على قوم ﴾ أي : مرّوا عليهم ﴿ يعكفون على أصنام لهم ﴾ أي : يقيمون على عبادتها، قال ابن جريج : كانت تماثيل بقر وذلك أوّل شأن العجل قيل : كانوا قوماً من لخم وكانوا نزولاً بالرقة، وقيل : كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم. وقرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف والباقون بالضم ﴿ قالوا ﴾ أي : قال بعضهم لبعض : لإنه كان مع موسى السبعون المختارون وكان فيهم من يرتفع عن مثل هذا السؤال الباطل وهو قولهم :﴿ يا موسى ﴾ سموه كما ترى باسمه جفاء وغلظة ﴿ اجعل لنا إلهاً ﴾ أي : صنماً نعتكف عليه وهذا يدل على غاية جهلهم وذلك أنهم توهموا أنه يجوز عبادة غير الله تعالى بعدما رأوا الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته وهي الآيات التي توالت على قوم فرعون حتى أغرقهم الله تعالى في البحر بكفرهم وهو عبادتهم غير الله سبحانه وتعالى فحملهم جهلهم إلى أن قالوا لنبيهم موسى عليه السلام : اجعل لنا إلهاً ﴿ كما لهم آلهة ﴾ وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة تذكرة لحال الإنسان وأنه ظلوم جهول كنود إلا من عصمه الله ﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ ( سبأ، ١٣ )
﴿ قال ﴾ موسى ردّاً عليهم ﴿ إنكم قوم تجهلون ﴾ وصفهم بالجهل المطلق وأكده لبعد ما صدر عنهم بعدما رأوا من الآيات العظمى والمعجزة الكبرى لأنه جهل أعظم مما رأى منهم وأشنع.
﴿ إنّ هؤلاء ﴾ أي : القوم ﴿ متبر ﴾ أي : هالك مدمر ﴿ ما هم فيه ﴾ أي : إنّ الله تعالى يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضاً ﴿ وباطل ﴾ أي : مضمحل ﴿ ما كانوا يعملون ﴾ أي : من عبادتها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى لأن الاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفة الله تعالى من القلب، والمقصود من العبادة رسوخ معرفة الله تعالى في القلب، فكان هذا ضداً للغرض ونقيضاً للمطلوب.
﴿ قال ﴾ موسى عليه السلام مجيباً لهم على سبيل الإنكار عليهم والتعجب ﴿ أغير الله أبغيكم إلهاً ﴾ وأصله : أبغي لكم أي : أطلب لكم معبوداً ﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنه هو وحده ﴿ فضلكم على العالمين ﴾ إذ الإله ليس شيئاً يطلب ويلتمس ويتخذ بل الإله هو الذي يكون قادراً على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم فهذا الموجود هو الإله الذي يجب على الخلق عبادته فكيف يجوز العدول عن عبادته إلى عبادة غيره وفي تفضيلهم على العالمين قولان : الأوّل : أنه تعالى فضلهم على عالمي زمانهم إلا ما يخصه العقل من الأنبياء والملائكة، والثاني : أنه تعالى خصهم بتلك الآيات القاهرة ولم يحصل مثلها لأحد من العالمين وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال مثاله : رجل يعلم علماً واحداً وآخر يعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك العلم في الحقيقة.
﴿ وإذ أنجيناكم من آل فرعون ﴾ أي : واذكروا صنعه معكم في هذا الوقت وقرأ ابن عامر بحذف الياء والنون والباقون بإثباتهما وقوله تعالى :﴿ يسومونكم ﴾ أي : يكلفونكم ويذيقونكم ﴿ سوء العذاب ﴾ أي : أشدّه استئناف لبيان ما أنجاهم أو حال من المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما وقوله تعالى :﴿ يقتلون أبناءكم ويستحيون ﴾ أي : يستبقون ﴿ نساءكم ﴾ بدل من يسومونكم سوء العذاب ﴿ وفي ذلكم ﴾ أي : الإنجاء أو العذاب ﴿ بلاء ﴾ أي : نقمة أو محنة ﴿ من ربكم عظيم ﴾ أي : أفلا تتعظون وتنتهون عما قلتم.
﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ﴾ نكلمه عند انتهائها بأن يصوم أيامها، روي أنّ موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك سأل ربه فأمر بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة فصامه فلما تمت أنكر خلوف فمه فتسوّك فقالت الملائكة : كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، وقيل : أوحى الله تعالى إليه أما علمت أنّ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فأمره الله تعالى بعشرة أخرى ليكلمه الله بخلوف فمه كما قال تعالى :﴿ وأتممناها بعشر ﴾ أي : من ذي الحجة ﴿ فتم ميقات ربه ﴾ أي : وقت وعده بتكليمه إياه ﴿ أربعين ليلة ﴾ وقيل : أمره أن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها ولقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة وفصلها هنا، وقرأ أبو عمرو وعدنا بغير ألف قبل العين والباقون بألف.
فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى :﴿ فتم ميقات ربه أربعين ليلة ﴾ مع أن كل أحد يعلم أنّ الثلاثين مع العشر تكون أربعين ؟ أجيب : بأنه تعالى إنما قال :﴿ أربعين ليلة ﴾ إزالة لتوهم أنّ ذلك العشر من الثلاثين لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين كأنه كان عشرين ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين فأزال هذا الإيهام.
تنبيه : الفرق بين الميقات والوقت أنّ الميقات ما قدّر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت للشيء قدره مقدّر أم لا وقوله تعالى :﴿ أربعين ﴾ نصب على الحال أي : تمّ بالغاً هذا العدد وليلة نصب على التمييز ﴿ وقال موسى لأخيه ﴾ وقوله :﴿ هارون ﴾ عطف بيان لأخيه أي : قال له عند ذهابه إلى الجبل للمناجاة :﴿ اخلفني ﴾ أي : كن خيلفتي ﴿ في قومي وأصلح ﴾ أي : ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحاً ﴿ ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾ أي : ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.
فإن قيل : إنّ هارون كان شريك موسى عليهما السلام في النبوّة فكيف جعله خليفة لنفسه فإنّ شريك الإنسان أعلى حالاً من خليفته، وردّ الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدون يكون إهانة له ؟ أجيب : بأنّ الأمر وإن كان كما ذكر إلا أنّ موسى عليه السلام كان هو الأصل في تلك النبوّة.
فإن قيل : لما كان هارون نبياً والنبيّ لا يفعل إلا الإصلاح فكيف وصى إليه بالإصلاح ؟ أجيب : بأنّ المقصود من هذا الأمر التأكيد كقول الخليل :﴿ ولكن ليطمئن قلبي ﴾ ( البقرة، ٢٦ ).
﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا ﴾ أي : للوقت الذي وعدناه للكلام فيه ﴿ وكلمه ربه ﴾ دلت الآية الكريمة على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى، قال الزمخشريّ في كشافه : وكلمه ربه من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطاً في اللوح، اه. وهذا مذهب المعتزلة ولا شك في بطلانه وفساده لأنّ ذلك الجرم كالشجرة لا يقول : أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري فثبت بذلك بطلان ما قالوه وذهب بعض الحنابلة والحشوية إلى أنّ كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قديم، قال الإمام الرازي : وهذا القول أخس من أن يلتفت إليه العقل والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أنّ كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وأنّ موسى سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية، قالوا : كما أنه لا يبعد رؤية ذاته مع أنّ ذاته ليست جسماً ولا عرضاً كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أنّ كلامه لا يكون حرفاً ولا صوتاً.
وفيما روي أنّ موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أنّ سماع كلامه تعالى القديم ليس من جنس كلام المحدثين وهل كان سبحانه وتعالى كلم موسى وحده أو مع أقوام آخرين ؟ ظاهر الآية يدل للأوّل لأنّ قوله تعالى :﴿ وكلمه ربه ﴾ يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يدل على نفي الحكم عمن عداه، وقال القاضي : بل السبعون المختارون سمعوا أيضاً كلام الله تعالى، قال : لأنّ الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكل وأيضاً فإنّ تكليم الله تعالى على هذا الوجه معجز وقد تقدّمت نبوّة موسى عليه السلام فلا بدّ من ظهور هذا المعنى لغيره، ولما سمع عليه السلام كلام ربه اشتاق إلى رؤيته سبحانه وتعالى ﴿ قال رب أرني أنظر إليك ﴾ قال في الكشاف : ثاني مفعولي أرني محذوف أي : أرني نفسك أنظر إليك.
فإن قيل : الرؤية عين النظر فكيف قيل : أرني أنظر إليك ؟ أجيب : بأنّ معنى أرني نفسك اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك وفي هذا دليل على أنّ رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأنّ طلب المستحيل من الأنبياء محال خصوصاً ما يقتضي الجهل بالله تعالى ولذلك ردّه بأن ﴿ قال ﴾ له ﴿ لن تراني ﴾ دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إليّ تنبيهاً على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على بعد في الرائي لم يوجد فيه بعد وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين : قالوا :﴿ أرنا الله جهرة ﴾ ( النساء، ١٥٣ ) كما قاله الزمخشري أشدّ خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيل شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا : اجعل لنا إلهاً والاستدلال بالجواب وهو قوله تعالى :﴿ لن تراني ﴾ على استحالتها أشدّ خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أنه لا يراه أبداً وأن لا يراه غيره أصلاً فضلاً عن أن يدل على استحالته فإنّ أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة قالوا :( لن ) تكون لتأبيد النفي وهو خطأ لأنها لو كانت للتأبيد لزم التناقض بذكر اليوم في قوله تعالى :﴿ فلن أكلم اليوم إنسياً ﴾ ( مريم، ٢٦ ) ولزم التكرار بذكر أبداً في قوله تعالى :﴿ ولن يتمنوه أبداً ﴾ ( البقرة، ٩٥ ) ولن تجتمع مع ما هو لانتهاء الغاية نحو قوله تعالى :﴿ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ﴾ ( يوسف، ٨٠ )
وأمّا تأبيد النفي في قوله تعالى :﴿ لن يخلقوا ذباباً ﴾ ( الحج، ٧٣ ) فلأمر خارجيّ لا من مقتضيات لن ولا تقتضي تأكيد النفي أيضاً خلافاً للزمخشريّ في كشافه بل قولك : لن أقوم، محتمل لأن تريد به أنك لا تقوم أبداً وأنك لا تقوم في بعض الأزمنة المستقبلة وهو موافق لقولك : لا أقوم، في عدم إفادة التأكيد وقوله تعالى :﴿ ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ﴾ استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيق الرؤية وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضاً دليل على جوازها لأنّ استقرار الجبل عند التجلي ممكن بأن يجعل الله تعالى له قوّة على ذلك والمعلق على الممكن ممكن و( تراني ) في الحرفين الياء ثابتة وقفاً ووصلاً، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر النون والباقون بالضم، قال وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق : لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الضباب والصواعق والرعد والبرق حتى أحاطت بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب وأمر الله تعالى ملائكة السماوات أن يعرضوا على موسى عليه السلام فمرّت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ثم مرّت به ملائكة السماء الثانية كأمثال الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع مما رأى وسمع واقشعرّت كل شعرة في جسده ورأسه ثم قال : لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء ؟ فقال له رئيس الملائكة : يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم مرّت به ملائكة السماء الثالثة كأمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كلجب الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار ففزع موسى عليه السلام واشتدّ فزعه وأيس من الحياة فقال له رأس الملائكة : مكانك يا ابن عمران حتى ترى ما لا صبر لك عليه ثم مرّت به ملائكة السماء الرابعة لا يشبههم شيء من الذين مرّوا به ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من الذين مرّوا به قبلهم فاصطكت ركبتاه وأرعب
قلبه واشتد بكاؤه فقال له رأس الملائكة : يا ابن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم مرّت به ملائكة السماء الخامسة لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره لم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتدّ حزنه وكثر بكاؤه فقال له رأس الملائكة : يا ابن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه ثم مرّت به ملائكة السماء السادسة وفي يد كل واحد منهم مثل النخلة الطويلة نور أشدّ ضوأً من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم يقولون بشدّة أصواتهم : سبوح قدّوس ربّ العزة أبداً لا يموت في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم وهو يبكي ويقول : يا رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدري أنفلت مما أنا فيه أم لا إن خرجت احترقت وإن مكثت احترقت، فقال له رأس الملائكة : قد أوشك يا ابن عمران أن يشتدّ خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة فلما بدا نور العرش انصدع نور الجبل من عظمة الله تعالى ورفعت الملائكة أصواتهم جميعاً يقولون : سبحان الملك القدّوس رب العزة أبداً لا يموت بشدّة أصواتهم فارتج الجبل واندك وذلك قوله تعالى :﴿ فلما تجلى ربه ﴾ أي :( أظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر ) كما في حديث صححه الحاكم ﴿ للجبل ﴾ أي : جبل زبير بفتح الزاي والإضافة فيه بيانية لقول الجوهري : الزبير اسم للجبل الذي كلم الله تعالى عليه السلام عليه ﴿ جعله دكاً ﴾ أي : مدكوكاً مفتتاً، وحكي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً مستوياً بالأرض والدك والدق أخوان، وقال ابن عباس : جعله تراباً، وقال سفيان : ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه، وقال الكلبي : كسر جبالاً صغاراً، قال البغويّ : ووقع في بعض التفاسير صار لعظمته ستة أجبل وقعت ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء.
وقرأ حمزة والكسائيّ بألف بعد الكاف وهمزة مفتوحة من غير تنوين وصلاً ووقفاً أي : مستوياً ومنه ناقة دكاء للتي لا سنام لها والباقون بالتنوين بعد الكاف والوقف على ألف التنوين ﴿ وخرّ ﴾ أي : وقع ﴿ موسى صعقاً ﴾ أي : مغشياً عليه من هول ما رأى غشية كالموت، وروي أنّ الملائكة مرّت عليه وهو مغشيّ عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون له : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة ﴿ فلما أفاق ﴾ من غشيته ﴿ قال ﴾ تعظيماً لما رأى ﴿ سبحانك ﴾ أي : تنزيهاً لك من النقائص كلها ﴿ تبت إليك ﴾ أي : من الجراءة والإقدام على السؤال بغير إذن، وقيل : لما كانت الرؤية مختصة بمحمد صلى الله عليه وسلم فمنعها قال : سبحانك تبت إليك من سؤالي ما ليس لي، وقيل : لما سأل الرؤية ومنعها قال : تبت إليك من هذا السؤال وحسنات الأبرار سيئات المقرّبين ﴿ وأنا أوّل المؤمنين ﴾ أي : في زماني، وقيل : أنا أوّل من أمن إنك لا ترى في الدنيا أي : لكل الأنبياء وإلا فالرؤية ثابتة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على الصحيح وللزمخشري هنا في كشافه على مذهبه الفاسد في عدم الرؤية مطلقاً تأويلات فلتحذر.
﴿ قال يا موسى إني اصطفيتك ﴾ أي : اخترتك ﴿ على الناس ﴾ أي : الموجودين في زمانك وهارون وإن كان نبياً مرسلاً كان مأموراً باتباعه ولم يكن كليماً ولا صاحب شرع وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح ياء إني والباقون بالسكون وقوله تعالى :﴿ برسالاتي ﴾ أي : بأسفار التوراة، قرأه نافع وابن كثير بغير ألف بعد اللام على التوحيد والباقون بالألف بعد اللام على الجمع ﴿ وبكلامي ﴾ أي : وبتكليمي إياك ﴿ فخذ ما آتيتك ﴾ أي : ما أعطيتك من الرسالة ﴿ وكن من الشاكرين ﴾ لأنعمي لأنّ موسى عليه السلام لما منع الرؤية عدّد الله تعالى عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له : إن كنت منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها والاشتغال بشكرها إنما يكون بالقيام بلوازمها علماً وعملاً والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية قال الإمام الرازي : وهذا أيضاً أحد ما يدل على أنّ الرؤية جائزة على الله تعالى إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة.
وروي أنّ موسى عليه السلام كان بعدما كلمه ربه لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات وقالت له زوجته : أنا لم أرك منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فأخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرّت ساجدة وقالت ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة، قال : ذاك إن لم تتزوّجي بعدي لأنّ المرأة لآخر أزواجها.
﴿ وكتبنا له ﴾ أي : لموسى ﴿ في الألواح ﴾ أي : ألواح التوراة، قال البغوي : وفي الحديث :( كانت من سدر الجنة طول اللوح اثنتا عشرة ذراعاً ) وجاء في الحديث :( خلق الله آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده ) والمراد بيده قدرته، وقيل : كانت من زبرجدة خضراء، وقيل : من ياقوتة حمراء، وقيل : من صخرة صماء لينها الله تعالى لموسى فقطعها بيده، وأمّا كيفية الكتابة فقال ابن جريج : كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور، وقال وهب : سمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر وكان ذلك في أوّل يوم من ذي القعدة، وقيل : إنّ موسى خرّ صعقاً يوم عرفة- وأعطي التوراة يوم النحر وكانت الألواح عشرة على طول موسى، وقيل : كانت تسعة، وقيل : سبعة، وقال مقاتل : وكتبنا له في الألواح كنقش الخاتم، وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منها في سنة ولم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام أي : لم يحفظها ويقرأها عن ظهر قلب إلا هؤلاء الأربعة، قال الإمام الرازي : وليس في لفظ الآية ما يدل على كيفية تلك الألواح وعلى كيفية تلك الكتابة فإن ثبت ذلك التفصيل بدليل منفصل قويّ وجب القول به وإلا وجب السكوت عنه.
وأمّا قوله تعالى :﴿ من كل شيء ﴾ فلا شبهة أنه ليس على العموم بل مما يحتاج إليه موسى عليه السلام وقومه من أمر الدين وقوله تعالى :﴿ موعظة وتفصيلاً ﴾ أي : تبييناً ﴿ لكل شيء ﴾ بدل من الجار والمجرور قبله أي :( كتبنا ) كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام وقوله تعالى :﴿ فخذها ﴾ على إضمار القول عطفاً على كتبنا أو بدلاً من قوله :﴿ فخذ ما آتيتك ﴾ ( الأعراف، ١٤٤ )
و( الهاء ) للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو الرسالة وعن كعب الأحبار أنّ موسى عليه السلام نظر في التوراة فقال : إني أجد أمّة هي خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأوّل والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال رب اجعلهم أمّتي قال : هي أمّة محمد يا موسى، قال : يا رب إني أجد أمّة هم الحامدون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمراً قالوا : نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمّتي، قال : هم أمّة محمد، قال : يا رب إني أجد أمّة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم وكان الأوّلون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجابون والمستجاب لهم الشافعون والمشفعون لهم فاجعلهم أمّتي، قال : هم أمّة محمد، قال : يا رب إني أجد أمّة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله وإذا هبط وادياً حمد الله الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء غرّ محجلون من آثار الوضوء فاجعلهم أمّتي قال : هم أمّة محمد، قال : يا رب إني أجد أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة مثلها وإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فاجعلهم أمّتي، قال : هم أمّة محمد، قال : يا رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد أحداً إلا مرحوماً فاجعلهم أمّتي، قال : هم أمّة محمد، قال : يا رب إني أجد أمّة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة يصطفون في صلاتهم كصفوف الملائكة أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل لا يدخل النار أحد منهم إلا من برئ من الحسنات مثل ما برئ الحجر من ورق الشجر فاجعلهم أمّتي، قال : هم أمّة محمد، فلما عجب موسى من الخير الذي أعطاه الله محمداً وأمته قال : يا ليتني من أصحاب محمد فأوحى الله تعالى إليه ﴿ إني اصطفيتك ﴾ الخ فرضي موسى كل الرضا، ومعنى ﴿ بقوّة ﴾ أي : بجدّ وعزيمة ﴿ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾ أي : بأحسن ما فيها.
فإن قيل : ظاهر هذا يقتضي أنّ فيها ما ليس بأحسن وأنه لا يجوز لهم الأخذ به وذلك متناقض وأجيب عن ذلك بأجوبة : الأوّل : أنّ تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالاقتصاد والعفو والانتصار والصبر فمرهم أن يحملوا أنفسهم بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله تعالى :﴿ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ﴾ ( الزمر، ٥٥ ) وقوله تعالى :﴿ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ﴾ ( الزمر، ١٨ ) هذا ما أجاب به في الكشاف وتبعه البيضاوي والإمام الرازي لكن قال التفتازاني : هذا ينافي ما تقرر من أن المكتوب على بني إسرائيل هو القصاص قطعاً والجواب بأنه مثال للحسن والأحسن لا لكونه في التوراة بعيد جداً.
فإن قيل : يلزم عليه أيضاً منع الأخذ بالحسن وذلك يقدح في كونه حسناً. أجيب عن هذا : بأن الأخذ بالحسن الثاني على سبيل الندب فلا يقدح في منع الأخذ بالحسن، الثاني : أن الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح وأحسن هؤلاء الثلاثة الواجب، الثالث : أن المراد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقاً لا بالإضافة وهو المأمور به كقولهم : الصيف أحر من الشتاء أي : هو في حره أبلغ من الشتاء في برده فكذا هنا المأمور به أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح ﴿ سأريكم دار الفاسقين ﴾ أي : دار فرعون وقومه وهي مصر كيف أقفرت منهم ودمروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل ما نكل بهم، وقيل : منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله لفسقهم في ممرّكم عليها في أسفاركم، وقيل : المراد دارهم في الآخرة وهي جهنم.
﴿ سأصرف عن آياتي ﴾ المنصوبات في الآفاق والأنفس كغلق السماوات والأرض وما بينهما ﴿ الذين يتكبرون في الأرض ﴾ أي : أصرفها عنهم بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها، وقال سفيان بن عيينة : سأمنعهم فهم القرآن، وقوله تعالى :﴿ بغير الحق ﴾ صلة يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل فإن إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحق فإن للمحق أن يتكبر على المبطل وفي الكلام المشهور : التكبر على المتكبر صدقة ﴿ وإن يروا كل آية ﴾ أي : منزلة أو معجزة ﴿ لا يؤمنوا بها ﴾ أي : لعنادهم وتكبرهم ﴿ وإن يروا سبيل ﴾ أي : طريق ﴿ الرشد ﴾ أي : الهدى الذي جاء من عند الله ﴿ لا يتخذوه سبيلاً ﴾ أي : طريقاً يسلكونه بقصد منهم ونظر وتعمد بل إن سلكوه فعن غير قصد. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء والشين والباقون بضمّ الراء وسكون الشين ﴿ وإن يروا سبيل الغيّ ﴾ أي : الضلال ﴿ يتخذوه سبيلاً ﴾ أي : بغاية الشهوة والتعمد والاعتماد لسلوكه ﴿ ذلك ﴾ أي : هذا الصرف العظيم الذي زاد عن مطلق الصرف بالعمى عن الإيمان واتخاذ الرسالة ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب أنهم ﴿ كذبوا بآياتنا ﴾ أي : الدالة على وحدانيتنا ﴿ وكانوا عنها غافلين ﴾ أي : كان دأبهم وديدنهم معاملتهم إيانا بالإعراض عنها حتى كأنها مغفول عنها فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم، وعن الفضيل بن عياض ذكر لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا عظمت أمّتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت عليهم بركة الوحي ).
﴿ والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ﴾ أي : وكذبوا بلقائهم الدار الآخرة التي هي موعد الثواب فهو من إضافة المصدر إلى المفعول به ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى : ولقاء ما وعد الله في الدار الآخرة ﴿ حبطت ﴾ أي : بطلت ﴿ أعمالهم ﴾ أي : ما عملوه في الدنيا من خير كصلة رحم وصدقة فلا ثواب لهم لعدم شرطه ﴿ هل ﴾ أي : ما ﴿ يجزون إلا ﴾ جزاء ﴿ ما كانوا يعملون ﴾ أي : من التكذيب والمعاصي.
﴿ واتخذ قوم موسى من بعده ﴾ أي : بعد ذهابه إلى المناجاة ﴿ من حليهم ﴾ أي : الذي استعاروه من القبط بسبب عرس فبقي عندهم.
فإن قيل : كيف قال : من حليهم وكان معهم معاراً ؟ أجيب : بأنه لما أهلك الله تعالى قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم وصارت ملكاً لهم كسائر أملاكهم بدليل قوله تعالى :﴿ كم تركوا من جنات وعيون ٢٥ وزروع ومقام كريم ٢٦ ونعمة كانوا فيها فاكهين٢٧ كذلك وأورثناها قوماً آخرين ﴾ ( الدخان، الآيات : ٢٥ – ٢٨ ) وقرأ حمزة والكسائي بكسر الحاء والباقون بضمها ﴿ عجلاً ﴾ أي : صاغه لهم منه السامري وقوله تعالى :﴿ جسداً ﴾ بدل منه أي : صار جسداً ذا لحم ودم ﴿ له خوار ﴾ أي : صوت البقر.
روي أنّ السامريّ لما صاغ العجل ألقي في فمه قبضة من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر فصار حياً له خوار، وقيل : صاغه بنوع من الحيل فيدخل الريح جوفه ويصوت. وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأنّ المراد اتخاذهم إياه إلهاً، وقيل : إنه ما خار إلا مرّة واحدة، وقيل : إنه كان يخور كثيراً فإذا خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم، وقال وهب : كان يسمع منه الخوار وهو لا يتحرّك، قال السدي : كان يخور ويمشي.
وقوله تعالى :﴿ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ﴾ تقريع على فرط ضلالهم وإفراطهم بالنظر لأن هذا العجل لا يمكنه أن يتكلم بصواب ولا يهدي إلى رشد ولا يقدر على ذلك ومن كان كذلك كان جماداً أو حيواناً ناقصاً عاجزاً وعلى كلا التقديرين لا يصلح أن يعبد، ثم وصفهم الله تعالى بالظلم بقوله :﴿ اتخذوه ﴾ أي : العجل إلهاً ﴿ وكانوا ظالمين ﴾ أي : واضعين الأشياء في غير موضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم ولا أوّل مناكيرهم واختلفوا هل كل قوم موسى عبدوا العجل أو بعضهم ؟ قال الحسن : كلهم عبدوا العجل غير هارون، واحتج عليه بوجهين : الأوّل : عموم هذه الآية، والثاني : قول موسى عليه السلام في هذه القصة :﴿ رب اغفر لي ولأخي ﴾ ( الأعراف، ١٥١ ) قال : خص نفسه وأخاه بالدعاء وذلك يدلّ على أنّ من كان مغايراً لهما ما كان أهلاً للدعاء ولو بقوا على الإيمان ما كان الأمر كذلك، وقال غيره : بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه وإن ذلك الكفر إنما وقع في قوم مخصوصين والدليل عليه قوله :﴿ ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ ( الأعراف، ١٥٩ ).
﴿ ولما سقط في أيديهم ﴾ أي : ولما ندموا على عبادة العجل، تقول العرب لكل نادم على أمر قد سقط في يده، وذلك لأنّ من شأن من اشتدّ ندمه على أمر أن يعض يده ثم يضرب فخذه فتصير يده ساقطة لأنّ السقوط عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل ﴿ ورأوا ﴾ أي : علموا ﴿ أنهم قد ضلوا ﴾ عن الطريق الواضح باتخاذ العجل ﴿ قالوا ﴾ توبة ورجوعاً إلى الله تعالى كما قال أبوهم آدم عليه السلام ﴿ لئن لم يرحمنا ربنا ﴾ الذي لم يقطع قط إحسانه عنا فيكف غضبه ويديم إحسانه ﴿ ويغفر لنا ﴾ أي : يمحو ذنوبنا عيناً وأثراً لئلا ينتقم منا في المستقبل ﴿ لنكوننّ من الخاسرين ﴾ أي : فينتقم منا بذنوبنا وهذا كلام من اعترف بعظيم ما قدم عليه من الذنوب وندم على ما صدر منه ورغب إلى الله تعالى في إقالة عثرته.
وإنما قالوا ذلك لما رجع موسى عليه السلام إليهم كما قال تعالى :
﴿ ولما رجع موسى ﴾ أي : من مناجاته ﴿ إلى قومه غضبان ﴾ أي : من جهتهم ﴿ أسفاً ﴾ أي : لأن الله تعالى كان قد أخبره أنه قد فتن قومه وأنّ السامريّ قد أضلهم فكان موسى في حال رجوعه غضبان أسفاً، قال أبو الدرداء : الأسف أشدّ الغضب، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الأسف الحزن والأسيف الحزين، قال الواحدي : والقولان متقاربان لأنّ الغضب من الحزن والحزن من الغضب وقرأ حمزة والكسائي بالخطاب في يرحمنا ويغفر لنا ونصب ربنا والباقون بالغيبة ورفع الباء ﴿ قال ﴾ موسى لهم :﴿ بئسما خلفتموني من بعدي ﴾ أي : بئس الفعل فعلكم بعد فراقي إياكم وهذا الخطاب يحتمل أن يكون لعبدة العجل من السامري وأتباعه أي : بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل وتركتم عبادة الله تعالى وأن يكون لهارون والمؤمنين أي : بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى والمخصوص بالذم محذوف تقديره : بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم.
فائدة : اتفقوا على وصل بئسما هنا في الرسم ﴿ أعجلتم أمر ربكم ﴾ أي : أتركتموه غير تام كأنه ضمن عجل معنى سبق فعدي تعديته أو أعجلتم أمر ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم.
روي أن السامريّ قال لهم حين أخرج لهم العجل وقال : هذا إلهكم وإله موسى إنّ موسى لن يرجع وإنه قد مات.
وروي أنهم عدوا عشرين يوماً بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا ﴿ وألقى الألواح ﴾ أي : ألواح التوراة أي : طرحها من شدّة الغضب وفرط الضجر أي : عند استماعه حديث العجل حمية للدين وكان في نفسه حديداً شديد الغضب.
روي أنّ التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفع ستة أسباعها أي : ستة أسباع ما فيها لا ستة أسباعها نفسها لقوله بعد وأخذ الألواح وكان فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع فرفع ما كان من أخبار الغيب وبقي ما فيه المواعظ والأحكام والحلال والحرام قال الرازي : ولقائل أن يقول : ليس في القرآن إلا أنه ألقى الألواح فإمّا أنه ألقاها بحيث تكسرت فهذا ليس في القرآن وأنه جراءة عظيمة على كتاب الله ومثله لا يليق بالأنبياء ﴿ وأخذ برأس أخيه ﴾ أي : بشعر رأسه بيمينه وشعر لحيته بشماله ﴿ يجره ﴾ أي : أخاه ﴿ إليه ﴾ غضباً وكان هارون عليه السلام أكبر من موسى بثلاث سنوات وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان ألين منه جانباً ف﴿ قال ﴾ هارون عند ذلك ﴿ ابن أمّ ﴾ قراءة ابن عامر وشعبة والكسائي بكسر الميم وأصله يا ابن أمي فحذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفاً كالمنادى المضاف إلى الياء والباقون بالنصب زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيهاً بخمسة عشر.
فإن قيل : هارون وموسى من أب وأمّ فلماذا ناداه بالأمّ فقط ؟ أجيب : بأنه إنما ذكرها لأنها كانت مؤمنة فاعتد بنسبها ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها ليرققه عليه والطاعنون في عصمة الأنبياء يقولون : أخذ برأس أخيه يجره على سبيل الإهانة والاستحقاق والمثبتون لعمة الأنبياء يقولون : أخذ برأس أخيه يجره على سبيل الإهانة والاستخفاف والمثبتون لعصمة الأنبياء قالوا : جر رأس أخيه ليساره ويستكشف منه كيفية تلك الواقعة.
فإن قيل : فلماذا قال يا ابن أمّ ﴿ إنّ القوم ﴾ الذين عبدوا العجل ﴿ استضعفوني ﴾ أي : إني قد بذلت وسعي في كفهم فاستذلوني وقهروني ﴿ وكادوا ﴾ أي : قاربوا ﴿ يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ﴾ أي : فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله وأصل الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال : شمت فلان بفلان إذا سرّ بمكروه نزل به أي : لا تسرّ الأعداء بما تنال مني من مكروه فكيف فعل بأخيه ذلك ؟ أجيب : بأنّ هارون إنما قال ذلك خوفاً من أن يتوهم جهال بني إسرائيل أنّ موسى غضبان عليه كما هو غضبان على عبدة العجل أي : فلا تفعل بي ما تشمت به أعدائي فهم أعداؤك فإنّ القوم يحملون هذا الفعل الذي تفعله بي على الإهانة لا على الإكرام ﴿ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾ أي : الذين عبدوا العجل مع براءتي منهم بالمؤاخذة أو بنسبة التقصير ولما اعتذر له أخوه وذكر شماتة الأعداء.
﴿ قال رب اغفر لي ﴾ أي : ما حملني عليه مما صنعت بأخي ﴿ ولأخي ﴾ أي : اغفر له ما فرط في كفهم عن عبادة العجل إن كان وقع منه تفريط وضمه إلى نفسه في الاستغفار ترضية له ودفعاً للشماتة عنه ﴿ وأدخلنا في رحمتك ﴾ أي : بمزيد الإنعام علينا ﴿ وأنت أرحم الراحمين ﴾ فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا.
قال الله تعالى :
﴿ إنّ الذين اتخذوا العجل ﴾ أي : إلهاً يعبدونه من دون الله تعالى فهذا هو المفعول الثاني من مفعولي اتخذوا ﴿ سينالهم غضب ﴾ أي : عقوبة ﴿ من ربهم وذلة في الحياة الدنيا ﴾ وهي خروجهم من دارهم، وللمفسرين في هذه الآية طريقان الأوّل أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل الذين باشروا عبادة العجل.
فإن قيل : أولئك تاب الله عليهم بسبب أن قتلوا أنفسهم في معرض التوبة على ذلك الذنب وإذا تاب الله عليهم فكيف ينالهم الغضب والذلة ؟ أجيب : بأنّ ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا وهو نفس القتل فكان ذلك القتل غضباً عليهم والمراد بالذلة هو استسلامهم أنفسهم للقتل واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ، وقيل : خروجهم من ديارهم لأنّ ذل الغربة مثل مضروب.
فإن قيل : السين في قوله : سينالهم للاستقبال فكيف تكون للماضي ؟ أجيب : بأنّ هذا إنما هو خبر عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل ثم أخبره الله تعالى في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فكان هذا الكلام سابقاً لوقته وهو القتل الذي أمرهم الله تعالى به بعد ذلك، والطريق الثاني : أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل الذين كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم فوصف اليهود الذين كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم باتخاذ العجل وإن كان ما فعل ذلك إلا آباؤهم لأنهم رضوا بفعلهم ولأنّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقب يقولون للأمم : أفعلتم كذا وكذا ؟ وإنما فعله من مضى من آبائهم. ثم حكم عليهم بأنهم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا كما قال تعالى في صفتهم :﴿ ضربت عليهم الذلة والمسكنة ﴾ ( البقرة، ٦١ ) ﴿ وكذلك ﴾ أي : كما جزيناهم ﴿ نجزي المفترين ﴾ أي : كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله في الآخرة والذلة في الدنيا، قال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية لأنّ المبتدع مفتر في دين الله.
﴿ والذين عملوا السيئات ﴾ أي : عملوا الأعمال السيئة ويدخل في ذلك كل ذنب حتى الكفر ﴿ ثم تابوا ﴾ أي : رجعوا عنها إلى الله تعالى ﴿ من بعدها ﴾ أي : من بعد أعمالهم السيئة ﴿ وآمنوا ﴾ أي : وصدقوا بالله تعالى بأنه لا إله غيره وأنه يقبل توبة التائب ويغفر الذنوب وإن عظمت ﴿ إنّ ربك ﴾ أي : يا محمد أو يا أيها الإنسان التائب ﴿ من بعدها ﴾ أي : التوبة ﴿ لغفور ﴾ أي : ستور عليهم محاء لما كان منهم ﴿ رحيم ﴾ بهم أي : منعم عليهم بالجنة وفي الآية دليل على أنّ السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأنّ الله تعالى يغفرها جميعاً بفضله ورحمته فإنّ عفوه وكرمه أعظم وأجل وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين التائبين، وتقدير الآية : أنّ من أتى بجميع السيئات ثم تاب إلى الله تعالى وأخلص التوبة فإنّ الله يغفرها له ويقبل توبته.
﴿ ولما سكت ﴾ أي : سكن ﴿ عن موسى الغضب ﴾ أي : باعتذار هارون وبتوبتهم فعند ذلك سكن غضبه وهو الوقت الذي قال : رب اغفر لي ولأخي، وفي هذا الكلام استعارتان استعارة بالكناية في الغضب عن الشخص الناطق واستعارة تصريحية أو تخييلية في السكوت عن طفء غضب موسى وسكون هيجانه وغليانه، وقال عكرمة : إنّ المعنى : سكت موسى عن الغضب فقلب كما قالوا : أدخلت القلنسوة في رأسي والمعنى : أدخلت رأسي في القلنسوة ﴿ أخذ الألواح ﴾ أي : وكما دعا لأخيه منبهاً بذلك على زوال غضبه عليه فكذلك أخذ الألواح التي ألقاها منبهاً على زوال غضبه، قال الإمام الرازي : وظاهر هذا يدلّ على أن شيئاً منها لم ينكسر ولم يبطل وأن الذي قيل من أن ستة أسباع التوراة رفعت إلى السماء ليس الأمر كذلك اه. ومرّت الإشارة إلى ما يدلّ على الجمع بين ما هنا وبين ما مرّ ﴿ وفي نسختها ﴾ أي : ما نسخ فيها من كتب والنسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا نسخت كتاباً من كتاب حرفاً بحرف فقد نسخت ذلك الكتاب فهو نقلك ما في الأصل إلى الفرع لأن الألواح نسخت من اللوح المحفوظ والنسخة فعلة بمعنى مفعولة كالخطبة، وقيل : إنّ موسى عليه السلام لما ألقى الألواح فتكسرت صام أربعين يوماً فردّت عليه في لوحين، وعلى قول من قال : إنّ الألواح لم تكسر وأخذها موسى بعينها بعدما ألقاها يكون المعنى : وفي نسختها أي : المكتوب فيها ﴿ هدى ﴾ أي : بيان للحق ﴿ ورحمة ﴾ أي : إرشاد إلى الصلاح والخير، وقال ابن عباس : هدى من الضلالة ورحمة من العذاب ﴿ للذين هم لربهم يرهبون ﴾ أي : يخافون.
فإن قيل : التقدير : الذين يرهبون ربهم فما الفائدة في اللام في قوله :﴿ لربهم ﴾ ؟ أجيب بأوجه : الأوّل : أنّ تأخير الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً فدخلت اللام للتقوية ونظيره قوله تعالى :﴿ إن كنتم للرؤيا تعبرون ﴾ ( يوسف، ٤٣ ) الثاني : أنها لام الأجل والمعنى : للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة، الثالث : أنه قد يزاد حرف الجرّ في المفعول وإن كان الفعل متعدّياً كقولك : قرأت السورة وقرأت بالسورة.
﴿ واختار موسى قومه ﴾ أي : من قومه فحذف الجارّ وأوصل الفعل إليه فنصب يقال اخترت من الرجال زيداً، واخترت الرجال زيداً، وأنشدوا قول الفرزدق :
ومنا الذي اختير الرجال سماحة *** وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
قال أبو علي : والأصل في هذا الباب أنّ في الأفعال ما يتعدّى إلى المفعول الثاني بحرف الجرّ ثم يتسع فيحذف حرف الجرّ فيتعدّى إلى المفعول الثاني من ذلك قولك : اخترت من الرجال زيداً ثم يتسع فيقال : اخترت الرجال زيداً، وأستغفر الله من ذنبي وأستغفر الله ذنبي قال الشاعر :
أستغفر الله ذنباً لست محصيه ***. . .
ويقال أمرت زيداً بالخير وأمرت زيداً الخير قال الشاعر :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ***. . .
قال الرازي : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير : واختار موسى قومه لميقاتنا وأراد بقومه المعتبرين منهم إطلاقاً لاسم الخير على ما هو المقصود منه وقوله :﴿ سبعين رجلاً لميقاتنا ﴾ عطف بيان وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى ما ذكر من التكلفات ﴿ فلما أخذتهم الرجفة ﴾.
روي أنّ الله تعالى أمره أن يأتيه في سبعين رجلاً من بني إسرائيل فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال : ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا فقال : لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع وذهب معه الباقون.
روي أنه لم يصب إلا ستين شيخاً فأوحى الله تعالى إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً، وقيل : كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يتجاوزوا الأربعين قد ذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج إلى طور سينا لميقات ربه وكان أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى غشي الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم : ادنوا وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه الحجاب ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجداً فسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاه وافعل لا تفعل فلما فرغ من أمره ونهيه وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا : له لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي الرجفة فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ﴿ قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل ﴾ أي : من قبل خروجهم إلى الميقات ﴿ وإياي ﴾ معهم فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني إذا رجعت إليهم وما هم معي وعنى بذلك : أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم بالإنقاذ منهما فإن ترحمت عليهم مرّة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك، وقال وهب : لم تكن تلك الرجفة موتاً ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرجفة حتى كادت أن تبين منهم مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت واشتدّ عليه فقدهم وكانوا له وزراء على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا وبكا وناشد ربه فكشف الله تعالى عنهم تلك الرجفة واطمأنوا وسمعوا كلام ربهم وذلك قوله تعالى :﴿ قال ﴾ أي : موسى ﴿ رب لو شئت أهلكتهم من قبل ﴾ أي : من قبل عبادة العجل وإياي بقتلي القبطي ﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ أي : عبدة العجل وظنّ موسى أنهم عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل وقال هذا على طريق السؤال، وقال المبرد : هو استفهام استعطاف أي : لا تهلكنا وقد علم موسى عليه السلام أنّ الله تعالى أعظم من أن يأخذ بجريرة الجاني غيره، وقيل : بما فعل السفهاء من العناد والتجاسر على طلب الرؤية وكان ذلك قاله بعضهم ﴿ إن هي ﴾ أي : ما هي ﴿ إلا فتنتك ﴾ قال الواحدي : الكناية في هي تعود إلى الفتنة كما تقول : إن هو إلا زيد، والمعنى : أنّ تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أي : اختبارك وابتلاؤك وهذا تأكيد لقوله تعالى :﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ لأنّ معناه لا تهلكنا بفعلهم فإنّ تلك الفتنة كانت اختباراً منك وابتلاء أضللت بها قوماً فافتتنوا بأن أوجدت في العجل خواراً فزاغوا به وأسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرؤية هديت قوماً فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك فذلك معنى قوله :﴿ تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ﴾ ولما أثبت أنّ الكل بيده تعالى استأنف سؤاله في أن يفعل لهم الأصلح فقال :﴿ أنت ﴾ أي : وحدك ﴿ ولينا ﴾ نعتقد أن لا يقدر على عمل مصالحنا غيرك وأنت لا نفع لك في شيء من الأمرين ولا ضر بل الكل بالنسبة إليك على حد سواء ونحن على بصيرة من أنّ أفعالك لا تعلل بالأغراض وعفوك عنا ينفعنا وانتقامك منا يضرّنا ونحن في حضرتك قد انقطعنا إليك وحططنا رحال افتقارنا لديك ﴿ فاغفر لنا ﴾ أي : امح ذنوبنا ﴿ وارحمنا ﴾ أي : اشملنا برحمتك التي وسعت كل شيء ﴿ وأنت خير الغافرين ﴾ أي : لأنّ غيرك يتجاوز عن الذنب طلباً للثناء أو للثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة وهي صفة الحقد ونحوه وأنت منزه عن ذلك فتغفر السيئة وتبدلها حسنة.
﴿ واكتب ﴾ أي : أوجب أو أثبت أو اقسم ﴿ لنا ﴾ أي : في مدّة إحيائك لنا ﴿ في هذه الدنيا ﴾ أي : الحاضرة والدنية ﴿ حسنة ﴾ أي : حسن معيشة وتوفيق طاعة ﴿ وفي الآخرة ﴾ أي : واكتب لنا في الحياة الآخرة حسنة وهي الجنة ثم علل ذلك بقوله :﴿ إنا هدنا ﴾ أي : تبنا ﴿ إليك ﴾ أي : عما لا يليق بجنابك وأصل الهود الرجوع برفق والهود جمع هائد وهو التائب ولبعضهم :
يا راكب الذنب هدهد *** واسجد كأنك هدهد
قال بعضهم : وبه سميت اليهود وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم ثم صار اسم ذم بعد نسخها ﴿ قال ﴾ الله تعالى لموسى :﴿ عذابي أصيب به من أشاء ﴾ من خلقي أذنب أو لم يذنب لا اعتراض علي ﴿ ورحمتي وسعت ﴾ عمت وشملت ﴿ كل شيء ﴾ من خلقي في الدنيا ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي وهذا معنى حديث أبي هريرة في الصحيحين «إنّ رحمتي سبقت غضبي » وفي رواية «غلبت غضبي » وأمّا في الآخرة فقال تعالى :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ﴾ الله ﴿ ويؤتون الزكاة ﴾ وخصها بالذكر لنفعها المتعدّي ولأنها كانت أشق عليهم، قال قتادة : لما نزل ﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ قال إبليس : أنا من ذلك الشيء فقال تعالى :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة ﴾ ﴿ والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾ ولا يكفرون بشيء منها فأيس إبليس منها وتمناها اليهود والنصارى وقالوا : نحن نتقي ونؤمن بآيات ربنا.
فأخرجهما الله تعالى بقوله :
﴿ الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ ﴾ وإنما سماه رسولاً بإضافته إلى الله عز وجل لأنه الواسطة بين الله تعالى وبين خلقه لرسالته وأوامره ونواهيه وشرائعه إليهم ونبياً لأنه رفيع الدرجة عند الله ثم وصفه بالأميّ وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ وهي صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » والعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون أي : الخط والنبيّ صلى الله عليه وسلم كان كذلك، قال أهل التحقيق : وكونه أمياً بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه :
الأوّل : أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوماً مرّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فلا بدّ وأن يزيد فيها أو أن ينقص عنها بالقليل والكثير ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب ولا يقرأ يتلو كتاب الله تعالى من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك معجزة وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ سنقرئك فلا تنسى ﴾ ( الأعلى، ٦ ).
الثاني : أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لكان متهماً في أنه ربما طالع كتب الأوّلين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون ﴾ ( العنكبوت، ٤٨ ).
الثالث : تعلم الخط شيء سهل فإن أقلّ الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعي فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم ثم إنه تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من الخلق ومع تلك القوّة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجارية مجرى المعجزات وهذا الاتباع تارة يكون بالقوّة فقط لمن تقدم موته على زمانه صلى الله عليه وسلم وتارة يخرج من القوّة إلى الفعل كمن لحق زمان دعوته فمن علم الله تعالى منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له ولو عمل جميع الطاعات غير ذلك وعرّفه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق إليه عند مجيئه ريب ولا يتعلل في أمره بعلة ولذلك اتبعه :
﴿ الذي يجدونه ﴾ أي : علماء بني إسرائيل ﴿ مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ﴾ باسمه ونعته ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسداً منهم له وخوفاً على زوال رياستهم وقد حصل لهم ما كانوا يخافونه فقد زالت رياستهم ووقعوا في الذل والهوان وعن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال : أجل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبيّ إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاء، انتهى.
شرح غريب ألفاظه : الفظ : السيئ الخلق، والغليظ : الجافي القاسي، والسخاب بالسين والصاد : الكثير الصياح، والاعوجاج : ضدّ الاستقامة والملة العوجاء : الكفر، والقلب الأغلف : الذي لا يصل إليه شيء ينفعه كأنه في غلاف.
وقوله تعالى :﴿ يأمرهم بالمعروف ﴾ قال الزجاج : يجوز أن يكون استئنافاً ويجوز أن يكون المعنى : يجدونه مكتوباً عندهم إنه يأمرهم بالمعروف قال الرازي : ومجامع المعروف في قوله عليه الصلاة والسلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) وذلك لأنّ الموجود إمّا واجب الوجود لذاته وإمّا ممكن لذاته، أما الواجب لذاته فهو الله تعالى ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته وإظهار الخشوع والخضوع على باب عزته والاعتراف بكونه موصوفاً بصفات الكمال مبرأ عن النقائص والآفات منزهاً عن الأضداد والأنداد، وأما الممكن لذاته فإن لم يكن حيواناً فلا سبيل إلى إيصال الخير إليه لأنّ الانتفاع مشروط بالحياة ومع ذلك فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله ومن حيث إنّ كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاً ظاهراً وبرهاناً باهراً على توحيده وتنزيهه فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام ومن حيث إنّ لله سبحانه وتعالى في كل ذرة من ذرات المخلوقات أسراراً عجيبة وحكماً خفية فيجب النظر إليها بعين الاحترام، وأما إن كان ذلك المخلوق من جنس الحيوان فإنه يجب الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه ويدخل فيه برّ الوالدين وصلة الأرحام وبث المعروف فثبت أنّ قوله صلى الله عليه وسلم :( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف ﴿ وينهاهم عن المنكر ﴾ وهو ضد الأمور المذكورة، وقال عطاء : يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد وبمكارم الأخلاق وبصلة الأرحام وينهاهم عن المنكر أي : عبادة الأوثان وقطع الأرحام ﴿ ويحل لهم الطيبات ﴾ أي : ما حرم عليهم في شرعهم كالشحوم ﴿ ويحرم عليهم الخبائث ﴾ كالدم ولحم الخنزير والربا والرشوة ﴿ ويضع عنهم إصرهم ﴾ أي : ثقلهم الذي كان يحمل عليهم، وقرأ ابن عامر بفتح الهمزة الممدودة والصاد وألف بعد الصاد على الجمع والباقون بكسر الهمزة وسكون الصاد ولا ألف بعدها على التوحيد ﴿ والأغلال التي كانت عليهم ﴾ أي : ويضع الأثقال والشدائد التي كانت عليهم من الدين والشريعة وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة من البدن والثوب بالمقراض وغير ذلك من الشدائد التي كانت على بني إسرائيل شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق كما أنّ اليد لا تمتدّ مع وجود الغل فكذلك لا تمتدّ إلى الحرام الذي نهيت عنه وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم نسخ ذلك كله ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم :( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) ﴿ فالذين آمنوا به ﴾ أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وعزروه ﴾ أي : وقروه وعظموه وأصل التعزير المنع والنصرة وتعزير النبيّ صلى الله عليه وسلم تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه ﴿ ونصروه ﴾ على أعدائه ﴿ واتبعوا النور الذي أنزل معه ﴾ أي : القرآن سمي نوراً لأن به يستنير قلب المؤمن فيخرج من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم، وقيل : الهدى والبيان والرسالة، وقيل : الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور.
فإن قيل : كيف يمكن حمل النور هنا على القرآن والقرآن ما أنزل مع محمد صلى الله عليه وسلم وإنما أنزل مع جبريل عليه السلام ؟ أجيب : بأنّ معناه أنه أنزل مع نبوّته لأنّ نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات قال :﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ أي : الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة.
ولما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبيّ الكريم حثاً على الإيمان وإيجاباً له على وجه يعلم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدّم زمانه أو تأخر قال تعالى :
﴿ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم ﴾ الخطاب عام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى كافة الثقلين بل وإلى الملائكة قاله السبكي والبقاعيّ وغيرهما وهذا هو اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم وإن خالف في ذلك بعضهم، وأما سائر الرسل فمبعوثون إلى أقوامهم فقط لقوله صلى الله عليه وسلم :( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض طيبة مسجداً وطهوراً ونصرت على عدوّي بالرعب يرعب مني مسيرة شهر وأطعمت الغنيمة دون من قبلي وقيل لي سل تعطه وأخبأت شفاعتي لأمتي }.
فإن قيل : كان آدم عليه السلام مبعوثاً إلى جميع أولاده ونوح عليه السلام لما خرج من السفينة كان مبعوثاً إلى الذين كانوا معه مع أن جميع الناس في ذلك الزمان ما كانوا إلا ذلك القوم ؟ أجيب : بأنّ ذلك لم يكن لعموم رسالتهما بل للحصر المذكور فليس ذلك من باب عموم الرسالة، وقوله :﴿ جميعاً ﴾ حال من إليكم أي : إن الكل يشترط عليهم الإيمان بي والإتباع لي وقد طار الخبر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق وتغلغل في كل نفق ولم يبق الله أهل مدر ولا وبر ولا سهل ولا جبل ولا بحر ولا بر في مشارق الأرض ومغاربها إلا وقد ألقاه إليهم وملأ به مسامعهم وألزمهم به الحجة وهو سائله عنهم يوم القيامة وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه حين رفع إليه الذراع فنهش منها فقال :«أنا سيد الناس يوم القيامة »، وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنا أوّل الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا قائدهم إذا وفدوا وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا مستشفعهم إذا حبسوا وأنا مبشرهم إذا يئسوا لواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر )، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :( إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر )، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :( ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر وأنا أوّل شافع وأوّل مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ولا فخر )، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي ) والفخر ادعاء العظمة والكبر والشرف أي : لا أقول تبجحاً ولكن شكراً وتحدّثاً بالنعمة وما اجتمع بهم في مجمع إلا كان إمامهم قبل موته وبعده اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس فصلى بهم إماماً ثم اجتمع بهم في السماء فصلى بجميع أهل السماء إماماً وأما يوم الجمع الأكبر والكرب الأعظم فيحيل الكل عليه وما أحال بعض الأكابر على بعض إلا علما منهم بأن الختام يكون به ليكون أظهر للاعتراف بإمامته والانقياد لطاعته لأنّ المحيل على المحيل على الشيء محيل على ذلك والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم تظهر في ذلك الموقف رسالته بالفعل إلى كافة الخلق فيظهر سر هذه الآية ﴿ الذين يتبعون الرسول ﴾ قال البقاعيّ : ولما دل بالإضافة إلى اسم الذات ما يدل على جميع الصفات على عموم دعوته وشمول رسالته حتى للجنّ والملائكة أيد ذلك بقوله :﴿ الذي له ملك السماوات والأرض ﴾ فيكون محله جرّاً على الوصف وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله :﴿ إليكم جميعاً ﴾ لأنه متعلق المضاف إليه فهو كالمتقدّم عليه قال الزمخشريّ : والأحسن أن يكون محله نصباً بإضمار أعني وهذا الذي يسمى النصب على المدح، قال البيضاوي : أو مبتدأ خبره ﴿ لا إله إلا هو ﴾ أي : فالكل منقادون لأمره خاضعون له ثم علل ذلك بقوله :﴿ يحيي ويميت ﴾ أي : له هاتان الصفتان مختصاً بهما ومن كان كذلك كان منفرداً بما ذكر، قال البقاعيّ : وإذا راجعت ما يأتي إن شاء الله تعالى في أوّل الفرقان مع ما مضى في أوائل الأنعام لم يبق عندك شك في دخول الملائكة عليهم السلام في عموم الدعوة اه.
وقد مرّت الإشارة إلى ذلك ولما أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس :﴿ إني رسول الله إليكم جميعاً ﴾ أمر الله تعالى جميع خلقه بالإيمان به وبرسوله بقوله :﴿ فآمنوا بالله ورسوله ﴾ وذلك أن الإيمان بالله هو الأصل والإيمان برسوله فرع عليه فلهذا بدأ بالإيمان بالله ثم ثنى بالإيمان برسوله ثم وصفه تعالى بقوله :﴿ النبيّ الأميّ ﴾ وتقدّم معناهما ﴿ الذي يؤمن بالله وكلماته ﴾ أي : بما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه وقال قتادة : المراد بكلماته القرآن، وقال مجاهد : عيسى بن مريم لأنه خلق بقوله : كن فكان ولم يكن من نطفة تمنى، ولهذا سمي كلمة الله وقيل : هو الكلمة التي تكون عنها عيسى وجميع خلقه وهي قوله :﴿ كن ﴾ ﴿ واتبعوه ﴾ أي : واقتدوا به أيها الناس فيما يأمركم به وينهاكم عنه ﴿ لعلكم تهتدون ﴾ أي : لكي تهتدوا وترشدوا جعل تعالى رجاء الاهتداء أثر الإيمان والاتباع تنبيهاً على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شريعته فهو بعد في خطيئة الضلالة.
﴿ ومن قوم موسى ﴾ أي : من بني إسرائيل ﴿ أمة ﴾ أي : جماعة ﴿ يهدون بالحق ﴾ أي : يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق ﴿ وبه ﴾ أي : بالحق ﴿ يعدلون ﴾ أي : يحكمون والمراد بتلك الأمّة الثابتون على الإيمان القائلون بالحق من أهل زمان موسى عليه السلام اتبع ذكر المرتابين الكافرين من بني إسرائيل بذكر أضدادهم -كما هو عادة القرآن- تنبيهاً على أن تعارض الخير والشرّ وتزاحم أهل الحق والباطل مستمر وقيل : هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه واعترض بأنهم كانوا قليلين في العدد ولفظ الأمة يقتضي الكثرة، وأجيب : بأنهم لما كانوا مخلصين في الدين جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله تعالى :﴿ إنّ إبراهيم كان أمّة ﴾ ( النحل، ١٢ ) وقيل : إنّ بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرّق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله تعالى لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنة ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين وهم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبريل عليه السلام : هل تعرفون من تكلمون ؟ قالوا : لا، قال : هذا محمد النبي الأميّ فآمنوا به وقالوا : يا رسول الله إنّ موسى عليه السلام أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ مني عليه السلام فردّ محمد على موسى صلى الله عليهما وسلم السلام ثم أقرأهم عشر سور من القرآن أنزلت بمكة ولم تكن فريضة نزلت غير الصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت ولا يتظالموا ولا يتحاسدوا ولا يصل إليهم منا أحد ولا إلينا منهم أحد قال بعض المحققين : هذا القول ضعيف وإن كان البغوي صححه لوجوه : الأوّل : كونه أقرأهم عشر سور وقد نزل عليه أكثر من ذلك وكان فرض الزكاة بالمدينة فكيف يأمرهم بها قبل فرضها، الثاني : كون جبريل ذهب إليهم به ليلة الإسراء لم يرد بذلك نقل صحيح ولا رواه أحد من أئمة الحديث، الثالث : أنّ أحداً منهم لا يصل إلينا ولا يصل إليهم منا أحد فمن الذي أوصل خبرهم إلينا فثبت بذلك بطلان هذا القول.
فإن قيل : إنّ يأجوج ومأجوج قد وصل خبرهم إلينا ولم يصل خبرنا إليهم أجيب : بالمنع فمن أين يعرف أنه لم يصل خبرنا إليهم ثم قال : فالمختار في تفسير هذه الآية أنها إما أن تكون قد نزلت في قوم كانوا متمسكين بدين موسى قبل التبديل والتغيير ثم ماتوا وهم على ذلك وإما أن تكون قد نزلت فيمن أسلم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه.
﴿ وقطعناهم ﴾ أي : فرقنا بني إسرائيل وقوله تعالى :﴿ اثنتي عشرة ﴾ حال وتأنيثه حملاً على الأمة ﴿ أسباطاً ﴾ بدل منه ولذلك جمع قبائل والأسباط أولاد الولد وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام ﴿ أمماً ﴾ بدل بعد بدل أو نعت ل( أسباطاً ) أي : وقطعناهم أمماً لأنّ كل سبط كان أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى لا تكاد تأتلف ﴿ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه ﴾ أي : حين استسقوه في التيه ﴿ أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست ﴾ أي : انفجرت والمعنى واحد وهو الانفتاح بسعة وكثرة يقال : بجست الماء فانبجس أي : فجرته فانفجر قاله الجوهري، وعلى هذا التقرير فلا تباين بين الانبجاس المذكور هنا وبين الانفجار المذكور في سورة البقرة، وقال آخرون : الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة وطريق الجمع أن الماء ابتدأ بالخروج قليلاً ثم صار كثيراً وهذا الفرق مروي عن عمرو بن العلاء.
فإن قيل : هلا قيل : فضربه فانبجست ؟ أجيب : بأنه إنما حذف ذلك للإيماء على أن موسى لم يتوقف في الامتثال وإن ضربه لم يكن مؤثراً يتوقف عليه الفعل في ذاته ﴿ منه ﴾ أي : من الحجر ﴿ اثنتا عشرة عيناً ﴾ أي : بعدد الأسباط ﴿ قد علم كل أناس ﴾ أي : كل سبط منهم ﴿ مشربهم ﴾ أي : لا يدخل سبط على سبط في مشربهم ﴿ وظللنا عليهم الغمام ﴾ أي : في التيه ليقيهم من حر الشمس ﴿ وأنزلنا عليهم المنّ ﴾ الترنجبيل ﴿ والسلوى ﴾ أي : الطير السماني بتخفيف الميم والقصر جعل الله تعالى ذلك طعاماً لهم في التيه، وقيل : المنّ الخبز والسلوى الإدام، وقال ابن يحيى : السلوى طائر يشبه السماني وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية يموت إذا سمع صوت الرعد كما أنّ الخطاف يقتله البرد فيلهمه الله تعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض ﴿ كلوا ﴾ أي : وقلنا لهم كلوا ﴿ من طيبات ما رزقناكم ﴾ مما لم تعالجوه نوع معالجة وقوله تعالى :﴿ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ فيه حذف ترك ذكره للاستغناء عنه ودلالة الكلام عليه تقديره كلوا من طيبات ما رزقناكم فامتنعوا من ذلك وسئموه وقالوا : لن نصبر على طعام واحد وسألوه غير ذلك لأنّ المكلف إذا أمر بشيء فتركه وعدل عنه إلى غيره يكون عاصياً بفعل ذلك فلهذا قال تعالى :﴿ وما ظلمونا ﴾ أي : بفعل شيء مما قابلوا به الإحسان بالكفران ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بمخالفتهم ما أمروا به وقد سبق تفسير هذه الآية في سورة البقرة.
﴿ وإذ قيل لهم ﴾ أي : واذكر يا محمد لقومك إذا قيل لبني إسرائيل ﴿ اسكنوا هذه القرية ﴾ أي : بيت المقدس ﴿ وكلوا منها ﴾ أي : من القرية ﴿ حيث شئتم وقولوا ﴾ أمرنا ﴿ حطة وادخلوا الباب ﴾ أي : باب القرية ﴿ سجداً ﴾ أي : سجود انحناء وقوله تعالى :﴿ نغفر لكم ﴾ قرأه نافع وابن عامر بضم التاء وفتح الفاء على التأنيث والباقون بنون مفتوحة وكسر الفاء وقوله تعالى :﴿ خطاياكم ﴾ قرأه نافع بكسر الطاء بعدها همزة مفتوحة ممدودة وبعد الهمزة تاء مضمومة على الجمع وابن عامر كذلك إلا أنه يقصر الهمزة على التوحيد وأبو عمرو بفتح الخاء والطاء وبعد الطاء ألف بعدها ياء وبعد الياء ألف على وزن قضاياكم والباقون بكسر الطاء بعدها همزة مفتوحة ممدودة بعدها تاء مكسورة ﴿ سنزيد المحسنين ﴾ أي : بالطاعة ثواباً.
﴿ فبدّل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم ﴾ فقالوا حبة في شعرة ودخلوا يزحفون على أستاههم أي : أدبارهم ﴿ فأرسلنا عليهم رجزاً ﴾ أي : عذاباً ﴿ من السماء بما كانوا يظلمون ﴾ أي : وهذه القصة أيضاً تقدّمت في سورة البقرة لكن ألفاظ هذه الآية تخالف الآية المذكورة في ( البقرة، ٥٨ )
من وجوه : الأوّل : أنه قال هناك :﴿ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ﴾ وهنا قال :﴿ وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية ﴾ والثاني : أنه قال هناك :﴿ فكلوا ﴾ بالفاء وقال هنا :﴿ وكلوا ﴾ بالواو، والثالث : أنه قال هناك :﴿ رغداً ﴾ وأسقطه هنا، والرابع : أنه قال هناك :﴿ وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة ﴾ وقال هنا : على التقديم والتأخير، والخامس : أنه قال هناك :﴿ نغفر لكم خطاياكم ﴾ وقال هنا :﴿ نغفر لكم خطيئاتكم ﴾ والسادس : أنه قال هناك :﴿ وسنزيد المحسنين ﴾ وهنا : حذف الواو، والسابع : أنه قال هناك :﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا ﴾ وقال هنا :﴿ فأرسلنا عليهم ﴾ الثامن : أنه قال هناك :﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ وقال هنا :﴿ بما كانوا يظلمون ﴾ ولا منافاة بين هذه الألفاظ المختلفة أمّا الأول : وهو أنه قال هناك :﴿ ادخلوا هذه القرية ﴾ وقال هنا :﴿ اسكنوا ﴾ فلا منافاة بينهما لأنّ كل ساكن في موضع فلا بدّ من الدخول فيه، وأمّا الثاني : وهو قوله هناك :﴿ فكلوا ﴾ بالفاء، وقال هنا :﴿ وكلوا ﴾ بالواو فالفرق بينهما أنّ للدخول حالة مقتضية للأكل عقب الدخول فحسن دخول الفاء التي هي للتعقيب ولما كانت السكنى حالة استمرار حسن دخول الواو عقب السكنى فيكون الأكل حاصلاً متى شاؤوا فظهر الفرق، وأمّا الثالث : وهو أنه ذكر هناك :﴿ رغداً ﴾ وأسقطه هنا فلأنّ الأكل عقب الدخول ألذ وأكمل والأكل مع السكنى والاستمرار ليس كذلك فحسن دخول لفظ رغداً هناك : دون هنا، وأمّا الرابع : وهو قوله هناك :﴿ ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة ﴾ وقال هنا على التقديم والتأخير فلا منافاة في ذلك لأنّ المقصود من ذلك تعظيم أمر الله تعالى وإظهار الخضوع والخشوع له فلم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير، وأمّا الخامس : وهو أنه قال هناك :﴿ خطاياكم ﴾ وقال هنا :﴿ خطيئاتكم ﴾ فهو إشارة إلى أنّ هذه الذنوب سواء كانت قليلة أم كثيرة فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرّع، وأمّا السادس : وهو قوله تعالى هناك :﴿ وسنزيد ﴾ بالواو وقال هنا بحذفها فالفائدة في حذف الواو أنه تعالى وعد بشيئين بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بذلك المعنى لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل : ماذا حصل بعد الغفران ؟ فقيل : إنه سيزيد المحسنين، وأما السابع : وهو الفرق بين أنزلنا وبين أرسلنا، فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بها فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيراً وهو نظير ما تقدّم من الفرق بين انبجست وانفجرت.
وأما الثامن وهو الفرق بين قوله تعالى :﴿ يفسقون ﴾ وبين قوله تعالى :﴿ يظلمون ﴾ فلأنهم لما ظلموا أنفسهم فيما غيروا وبدّلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله فوصفوا بكونهم ظالمين لأجل أنهم ظلموا أنفسهم، وبكونهم فاسقين لأنهم خرجوا عن طاعة الله فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين هذا ملخص كلام الرازي رحمه الله تعالى ثم قال : وتمام العلم بذلك عند الله تعالى.
﴿ واسألهم ﴾ أي : اسأل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ وتقريع ﴿ عن القرية ﴾ أي : عن خبرها وما وقع بأهلها لا سؤال استفهام لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد علم حال هذه القرية بوحي من الله تعالى إليه وإخباره إياه بحالهم وإنما القصد من هذا السؤال تقرير اعتداء اليهود وإقدامهم على الكفر والمعاصي قديماً، وأن إصرارهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنكارهم نبوته ومعجزاته ليس بشيء قد حدث الآن في زمانه، بل إصرارهم على الكفر كان حاصلاً في قديم الزمان، وفي الإخبار بهده القصة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان أمياً لم يقرأ الكتب القديمة ولم يعرف أخبار الأوّلين ثم أخبرهم بما جرى لأسلافهم في قديم الزمان وأنهم بسبب مخالفتهم لأمر الله تعالى مسخوا قردة، واختلفوا في هذه القرية فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور على شاطئ البحر، وقال الزهري : هي طبرية الشام، وقيل : مدين والعرب تسمي المدينة قرية، وعن أبي عمرو بن العلاء : ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعني : رجلين من أهل المدن. ﴿ التي كانت حاضرة البحر ﴾ أي : مجاورة بحر القلزم على شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى :﴿ ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ﴾ ( البقرة، ١٩٦ ) ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ يعدون ﴾ أي : يعتدون ﴿ في السبت ﴾ أي : يتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد فيه وقد نهوا عنه، وقوله تعالى :﴿ إذ تأتيهم حيتانهم ﴾ ظرف ليعدون ﴿ يوم سبتهم شرعاً ﴾ أي : ظاهرة على الماء كثيرة جمع شارع، وقال الضحاك : متتابعة، وعن الحسن تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض والحيتان السمك وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد، فمعناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله :﴿ يوم سبتهم ﴾ معناه يوم تعظيمهم أمر السبت يدل عليه قوله تعالى :﴿ ويوم لا يسبتون ﴾ أي : لا يعظمون السبت أي : سائر الأيام ﴿ لا تأتيهم ﴾ أي : الحيتان ابتلاء من الله تعالى ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ذلك البلاء الشديد ﴿ نبلوهم بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كانوا يفسقون ﴾.
وقوله تعالى :
﴿ وإذ ﴾ معطوف على إذ قبله ﴿ قالت أمة ﴾ أي : جماعة ﴿ منهم ﴾ أي : من أهل القرية لم تصد ولم تنه لمن نهى ﴿ لم تعظون قوماً الله مهلكهم ﴾ في الدنيا بعذاب من عنده لأنهم لا ينتهون عن الفساد ولا يتعظون بالمواعظ ﴿ أو معذبهم عذاباً شديداً ﴾ في الآخرة لتماديهم في العصيان ﴿ قالوا ﴾ أي : الواعظون موعظتنا ﴿ معذرة ﴾ نعتذر بها ﴿ إلى ربكم ﴾ أي : لئلا ننسب إلى تقصير في ترك النهي فإنّ النهي عن المنكر يجب وإن علم الناهي أن مرتكبه لا يقلع عن معصيته وقيل : إذا علم الناهي حال المنهي وأنّ النهي لا يؤثر فيه سقط النهي، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر أو الجلادين المرتبين للتعذيب لتعظهم وتكفهم عما هم فيه كان ذلك عبثاً منك ولم يكن إلا سبباً للتلهي بك ﴿ ولعلهم يتقون ﴾ أي : وجائز عندنا أن ينتفعوا بالموعظة فيتقوا الله ويتركوا ما هم فيه من الصيد ؛ إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك.
﴿ فلما نسوا ﴾ أي : تركوا ترك الناسي ﴿ ما ذكروا ﴾ أي : وعظوا ﴿ به ﴾ ولم يرجعوا ﴿ أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا ﴾ أي : بالاعتداء ومخالفة أمر الله تعالى ﴿ بعذاب بئيس ﴾ أي : شديد ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كانوا يفسقون ﴾.
روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أسمع الله تعالى يقول :﴿ أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس ﴾ فلا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وجعل يبكي، قال عكرمة : فقلت جعلني الله تعالى فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه، قالوا : لِمَ تعظون قوماً الله مهلكهم، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم، قال : فأعجبه قولي ورضي به وأمر لي ببردين فألبسنيهما، وقال نجت الساكتة، وقال عمار بن زيان : نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قوماً الله مهلكهم، والذين قالوا معذرة، وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان وهذا قول الحسن.
فإن قيل : إنّ ترك الوعظ معصية والنهي أيضاً عنه معصية فوجب دخول هؤلاء التاركين للوعظ الناهين عنه تحت قوله تعالى :﴿ وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس ﴾ ولهذا قال ابن زيد : نجت الناهية وهلكت الفرقتان. أجيب : بأنّ هذا غير لازم لأنّ النهي عن المنكر إنما يجب على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.
﴿ فلما عتوا عما نهوا عنه ﴾ قال ابن عباس : أبوا أن يرجعوا عن المعصية والعتو عبارة عن الإباء والعصيان أي : فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه وتمرّدوا في العصيان من اعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرّم الله تعالى عليهم من صيد السمك في يوم السبت وأكله. ﴿ قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ أي : صاغرين فكانوها كقوله تعالى :﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾ ( النحل، ٤٠ ) وهذا يقتضي أنّ الله تعالى عذبهم أولاً بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريراً وتفصيلاً للأولى.
وروي أنّ اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا يوم السبت فابتلوا به وحرّم الله عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً بيضاً سماناً كأنها المخاض لا يرى الماء من كثرتها، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم جاءهم إبليس فقال لهم : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضاً تسوقون الحيتان إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها، وتأخذونها يوم الأحد، وأخذ رجل منهم حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى خشبة في الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطلع في تنوره فقال : إني أرى الله سيعذبك فلما لم يره عذب أخذ في السبت القابل حوتين، فلما رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكانوا نحواً من سبعين ألفاً، فصار أهل القرية أثلاثاً ثلثاً نهوا وكانوا نحواً من اثني عشر ألفاً، وثلثاً قالوا : لم تعظون قوماً ؟ وثلثاهم أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا قال المسلمون : إنا لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب، ولعنهم داود عليه السلام فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا : إنّ للناس شأناً فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الإنس والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود فجعل القرد يأتي نسيبه فيشمّ ثيابه ويبكي فيقول : ألم ننهك فيقول برأسه بلى، وقيل : صار الشباب قردة والشيوخ خنازير. واختلفوا في أنّ الذين مسخوا هل بقوا قردة وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا وانقطع نسلهم ؟ لا دلالة في الآية على شيء من ذلك، وعن الحسن : أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزياً في الدنيا وأطولها عذاباً في الآخرة، وعن جابر : بين العبد وبين رزقه حجاب فإن صبر خرج إليه وإلا هتك الحجاب ولم ينل إلا ما قدّر له.
قال الزمخشريّ : هاه وايم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم، ولكن الله تعالى جعل موعداً والساعة أدهى وأمرّ.
﴿ وإذا ﴾ عطف على واسألهم أي : واذكر لهم حين ﴿ تأذن ﴾ أي : اعلم ﴿ ربك ﴾ وأجري مجرى القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بجوابه وهو ﴿ ليبعثن عليهم ﴾ أي : اليهود ﴿ إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾ أي : بالإهانة والذل وأخذ الجزية منهم فبعث الله تعالى عليهم سليمان وبعده بختنصر فقتلهم وسباهم وضرب عليهم الجزية، وكانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن بعث الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم ولا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر حتى ينزل عيسى بن مريم فإنه لا يقبل الجزية ولا يقبل إلا الإسلام.
فإن قيل : إنه يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته أخذ الجزية أو الإسلام أجيب : بأنّ شريعته بذلك مغياة بنزول عيسى عليه السلام وقوله تعالى :﴿ إنّ ربك سريع العقاب ﴾ أي : لمن أقام على الكفر كهيئة الدليل على أنه يجمع لهم مع ذل الدنيا عذاب الآخرة فيكون العذاب مستمراً عليهم في الدنيا والآخرة، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله :﴿ وإنه لغفور ﴾ أي : لمن آمن منهم ورجع عن الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام ﴿ رحيم ﴾ بهم.
﴿ وقطعناهم ﴾ أي : فرقناهم ﴿ في الأرض أمماً ﴾ أي : فرقاً بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لإدبارهم حتى لا تكون لهم شوكة قط و﴿ أمماً ﴾ مفعول ثانٍ أو حال وقوله تعالى :﴿ منهم الصالحون ﴾ صفة أو بدل منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ونظراؤهم ﴿ ومنهم ﴾ أي : أناس ﴿ دون ذلك ﴾ أي : منحطون عن الصلاح فهم كفرتهم وفسقتهم ﴿ وبلوناهم ﴾ أي : اختبرناهم جميعاً الصالح وغيره ﴿ بالحسنات ﴾ أي : بالخصب والعافية ﴿ والسيئات ﴾ أي : بالجور والشدّة ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ أي : كي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا إليه. قال أهل المعاني : وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة أما النعم فلأجل الترغيب وأما النقم فلأجل الترهيب.
﴿ فخلف من بعدهم ﴾ أي : هؤلاء الذين وصفناهم ﴿ خلف ﴾ والخلف القرن الذي يجيء من بعد وهو بسكون اللام شائع في الشر وبفتحها في الخير يقال : خَلَف صدق بفتح اللام وخلْف سوء بسكونها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح قال حسان بن ثابت :
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأوّلنا في طاعة الله تابع
وقال لبيد في الذم :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فحرك اللام والخلف مصدر نعت به، ولذلك يقع على الواحد والجمع والمراد به الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ ورثوا الكتاب ﴾ أي : التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها ﴿ يأخذون عرض هذا الأدنى ﴾ أي : هذا الشيء الفاني الأدنى أي : الدنيا وما يتمتع به فيها وفي قوله :﴿ هذا الأدنى ﴾ تخسيس وتحقير، والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب، وإما من دون الحال وسقوطها وقلتها والعرض بالفتح جميع متاع الدنيا كما يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر، والعرض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير وجمعه عروض. والمعنى : أنهم يأخذون حطام الدنيا وهو الشيء التافه الخسيس الحقير ؛ لأنّ الدنيا بأسرها فانية حقيرة والراغب فيها أحقر منها فاليهود ورثوا التوراة وعلموا ما فيها وضيعوا العمل بما فيها وتركوه وأخذوا الرشا في الأحكام ويعلمون أنه حرام ﴿ و ﴾ مع إقدامهم على هذا الذنب العظيم وإصرارهم عليه ﴿ يقولون سيغفر لنا ﴾ أي : لا يؤاخذهم الله تعالى بذلك فيتمنون على الله الأمانيّ الباطلة، وعن شدّاد بن أوس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) ؛ لأنّ اليهود كانوا يقومون على الذنوب ويقولون : سيغفر لنا، وهذا هو التمني بعينه. وقوله تعالى :﴿ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ﴾ الواو فيه للحال أي : يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار وقوله تعالى :﴿ ألم يؤخذ ﴾ استفهام تقرير ﴿ عليهم ميثاق الكتاب ﴾ أي : التوراة والإضافة بمعنى في ﴿ أن لا يقولوا على الله إلا الحق ﴾ أي : المعلوم شأنه وليس من المعلوم إثبات المغفرة على القطع بغير توبة، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وقوله تعالى :﴿ ودرسوا ما فيه ﴾ أي : ما في ذلك الميثاق الذي في الكتاب أو الكتاب بتقرير القراءة للحفظ عطف على ﴿ ألم يؤخذ ﴾ من حيث المعنى فإنه تقرير أو على ورثوا و﴿ ألم يؤخذ ﴾ اعتراض ﴿ والدار الآخرة خير ﴾ أي : وما في الدار الآخرة مما أعده الله خير ﴿ للذين يتقون ﴾ الله ويخافون عقابه ﴿ أفلا يعقلون ﴾ أي : حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدل ما يسعدهم ويبقى أنّ الدار الآخرة خير، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب ويكون المراد الإعلام بتناهي الغضب، والباقون بالياء على الغيبة.
﴿ والذين يمسكون بالكتاب ﴾ يقال : مسكت بالشيء وتمسكت به وأمسكت به والتمسك بالكتاب العمل بما فيه وإحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه وقرأ شعبة بسكون الميم وتخفيف السين والباقون بفتح الميم وتشديد السين ﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ أي : وداوموا على إقامتها في مواقيتها وإنما أفردها بالذكر وإن كانت الصلاة داخلة في التمسك بالكتاب تنبيهاً على عظم قدرها وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان بالله تعالى وهذه الآية نزلت في الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وقوله تعالى :﴿ إنا لا نضيع أجر المصلحين ﴾ الجملة خبر الذين وفيه وضع الظاهر موضع المضمر أي : أجرهم.
﴿ وإذ ﴾ أي : إذ يا محمد ﴿ نتقنا ﴾ أي : رفعنا ﴿ الجبل فوقهم ﴾ أي : من أصله ﴿ كأنه ظلة ﴾ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كأنه سقيفة والظلة كل ما أظلك من سقف بيت أو سحابة أو جناح حائط والجمع ظلل وظلال ﴿ وظنوا ﴾ أي : أيقنوا ﴿ أنه واقع بهم ﴾ أي : ساقط عليهم بوعد الله بوقوعه إن لم يقبلوا أحكام التوراة.
روي أنهم لم يقبلوا أحكام التوراة لعظمها وثقلها فرفع الله تعالى الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم فكان فرسخاً في فرسخ، وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعنّ عليكم فلما نظروا إلى الجبل خرّ كل واحد منهم ساجداً على حاجبه وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من سقوطه فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون : هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة، وقوله تعالى :﴿ خذوا ﴾ هو على إضمار القول أي : قلنا لهم خذوا أو قائلين خذوا ﴿ ما آتيناكم ﴾ أي : من الكتاب وقوله تعالى :﴿ بقوّة ﴾ أي : بجد وعزم على تحمل مشاقه حال من واوخذوا ﴿ واذكروا ما فيه ﴾ أي : بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي ﴿ لعلكم تتقون ﴾ أي : فضائح الأعمال ورذائل الأخلاق.
﴿ وإذ ﴾ أي : واذكر يا محمد حين ﴿ أخذ ربك من بني آدم ﴾ وقوله تعالى :﴿ من ظهورهم ﴾ بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار كما قاله السيوطي، أو بدل بعض كما قاله البيضاوي ﴿ ذريّاتهم ﴾ أي : بأن أخرج بعضهم من صلب بعض نسلاً بعد نسل كنحو ما يتوالدون كالذر، ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً عرفوا به، كما جعل للجبال عقولاً حين خوطبوا بقوله تعالى :﴿ يا جبال أوبي معه والطير ﴾ ( سبأ، ١٠ ).
كما جعل تعالى للبعير عقلاً حتى سجد للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكذا للشجرة حين سمعت لأمره وانقادت، وكذا للنملة حين قالت :﴿ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ﴾ ( النمل، ١٨ ). وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر بألف بعد الياء وكسر التاء على الجمع والباقون بغير ألف وفتح التاء على التوحيد. ﴿ وأشهدهم على أنفسهم ﴾ قال :﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ أنت ربنا، وعن مسلم بن يسار الجهني أنه قال : إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عنها فقال :( إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرّية فقال : خلفت هؤلاء للجنة وبعمل أهل للجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرّية، فقال : هؤلاء إلى النار وبعمل أهل النار يعملون )، فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنّ الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لما خلق الله تعالى آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذرّيته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور، وعرضهم على آدم فقال : أي رب، من هؤلاء ؟ قال : ذرّيتك، فرأى رجلاً منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال : يا رب من هذا ؟ قال : داود، قال : يا رب كم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة، قال : يا رب زده من عمري أربعين سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين سنة جاءه ملك الموت، فقال آدم : أو لم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال : أولم تعطها ابنك داود ؟ فجحد آدم فجحدت ذرّيته، ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذرّيته، وخطىء فخطئت ذرّيته ) أخرجه الترمذي، وقال : حديث حسن صحيح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أبصر آدم في ذرّيته قوماً لهم نور، فقال : يا رب من هم ؟ فقال : الأنبياء، ورأى واحداً هو أشدّهم نوراً، فقال : يا رب من هو ؟ قال : داود، قال : فكم عمره ؟ قال : ستون سنة، قال آدم : هو قليل، وكان عمر آدم ألف سنة، فقال : يا رب زده من عمري أربعين سنة، فلما تم عمر آدم تسعمائة وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فقال : بقي من أجلي أربعون سنة، فقال : ألست قد وهبتها من ابنك داود ؟ فقال : ما كنت لأجعل لأحد من أجلي شيئاً، فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها ).
وعن مقاتل أنّ الله تعالى مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فخرج منه ذرّية بيض كهيئة الذرّ تتحرك، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى، فخرج منه ذرّية سود كهيئة الذرّ، فقال : يا آدم هؤلاء ذرّيتك، ثم قال لهم : ألست بربكم، قالوا : بلى، فقال للبيض : هؤلاء في الجنة برحمتي، وهم أصحاب اليمين، وقال للسود : هؤلاء في النار، ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة، ثم أعادهم جميعاً في صلب آدم، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء، وقال تعالى فيمن نقض العهد الأوّل ﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ﴾ ( الأعراف، ١٠٢ ).
وقال بعض المفسرين : إنّ أهل السعادة أقروا طوعاً، وقالوا : بلى، وأهل الشقاوة قالوا بغتة وكرهاً، وذلك معنى قوله تعالى :﴿ وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً ﴾ ( آل عمران، ٨٣ ) واختلفوا في موضع الميثاق، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ببطن نعمان، وهو واد إلى جنب عرفة، وعنه أيضاً أنه بدهناء من أرض الهند، وهو الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه السلام، وقال الكلبي : بين مكة والطائف.
فإن قيل : ما معنى قوله تعالى :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ﴾ وإنما أخرجه من ظهر آدم ؟ أجيب : بأن الله تعالى أخرج ذرّية آدم بعضهم من ظهور بعض على ما يتوالدون فالأبناء من الآباء في الترتيب، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره، فالمخرج من ظهورهم مخرج من ظهره.
وقوله :﴿ شهدنا ﴾ أي : على أنفسنا بذلك وإنما أشهدهم على أنفسهم كراهة ﴿ أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا ﴾ التوحيد ﴿ غافلين ﴾ أي : لعدم الأدلة، فلذلك أشركنا.
وقوله تعالى :
﴿ أو يقولوا ﴾ أي : لو لم ترسل إليهم الرسل، عطف على ﴿ أن يقولوا ﴾، وقرأ أبو عمرو بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب ﴿ إنما أشرك آباؤنا من قبل ﴾ أي : قبل أن نوجد ﴿ وكنا ذرّية من بعدهم ﴾ أي : فلم نعرف لنا مربياً غيرهم، فكنا لهم تبعاً فشغلنا اتباعهم عن النظر، ولم يأتنا رسول منبه، فيتسبب عن ذلك إنكارهم في قولهم :﴿ أفتهلكنا بما فعل المبطلون ﴾ أي : من آبائنا، قال أبو حيان : والمعنى أنّ الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمن العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان : إحداهما : كنا غافلين، والأخرى : كنا تبعاً لأسلافنا، فكيف والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلنا، انتهى.
فإن قيل : كيف يكون ذكر الميثاق عليهم حجة فإنهم لما أخرجوا من ظهر آدم ركب فيهم العقل، وأخذ عليهم الميثاق، فلما أعيدوا إلى صلبه بطل ما ركب فيهم فتوالدوا ناسين لذلك الميثاق ؟ أجيب : بأن التذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس، وبذلك قامت الحجة عليهم يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد، ولزمتهم الحجة، ولا تسقط الحجة بنسيانهم وعدم حفظهم بعد إخبار الصادق صاحب الشرع والمعجزات الباهرات.
والمقصود من إيراد هذا الكلام هنا إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام بعدما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية، ومنعهم من التقليد.
وحملهم على النظر والاستدلال كما قال تعالى :
﴿ وكذلك ﴾ أي : ومثل ذلك التفصيل البديع الجليل الرفيع ﴿ نفصل الآيات ﴾ أي : كلها لئلا يواقعوا ما لا يليق بجنابنا جهلاً لعدم الدليل ﴿ ولعلهم يرجعون ﴾ أي : عن التقليد واتباع الباطل.
﴿ واتل ﴾ أي : يا محمد ﴿ عليهم ﴾ أي : اليهود ﴿ نبأ ﴾ أي : خبر ﴿ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ أي : خرج بكفره كما تخرج الحية من جلدها، وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني إسرائيل، وقيل : من الكنعانيين سئل أن يدعو على موسى، وأهدي إليه شيء، فدعا فانقلبت عليه، واندلع لسانه على صدره ﴿ فاتبعه الشيطان ﴾ أي : لحقه وأدركه وصيره لنفسه تابعاً في معصية الله تعالى، فخالف أمر ربه وأطاع الشيطان وهواه ﴿ فكان من الغاوين ﴾ أي : من الضالين الهالكين.
وقصته على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنّ موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين، ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم، وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا : إنّ موسى رجل حديد ومعه جند كثير، وإنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله تعالى أن يردّهم عنا، فقال : ويلكم نبيّ الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما لا تعلمون ؟ وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي، فراجعوه وألحوا عليه، فقال : حتى أوامر ربي، وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به في المنام، فوامر في الدعاء عليهم، فقيل له في المنام : لا تدع عليهم، فقال لقومه : إني قد وامرت ربي، وإني نهيت أن أدعو عليهم، فأهدوا إليه هدية، فقبلها وراجعوه فقال : حتى أوامر ربي، فوامر فلم يؤمر بشيء، فقال : قد وامرت ربي فلم يأمرني بشيء، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرّة الأولى، فلم يزالوا يتضرّعون إليه حتى فتنوه، فافتتن، فركب أتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له : حسبان، فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت، فنزل عنها وضربها فقامت، فركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت، فضربها فأذن الله تعالى لها في الكلام وأنطقها له فكلمته حجة عليه، فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب ؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي ؟ ويحك أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعو عليهم ؟ فلم ينزجر فخلى الله تعالى سبيل الأتان، فانطلقت به حتى أشرف على جبل حسبان، فجعل يدعو عليهم فلا يدعو بشر إلا صرف الله تعالى به لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله تعالى به لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه : يا بلعم أتدري ما تصنع ؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا، فقال : هذا ما لا أملكه هذا شيء قد غلب الله عليه، فاندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم : قد ذهب الآن مني الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، احملوا النساء وزينوهنّ وأعطوهنّ السلع، ثم أرسلوهنّ إلى عسكر بني إسرائيل يبعنها فيه، ومروهنّ أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنه إن زنا رجل بواحدة كفيتموهم، ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين على رجل من عظماء بني إسرائيل وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حتى أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف على موسى وقال : إني لأظنك أن تقول هذه حرام عليك، قال : أجل هي حرام عليك لا تقربها قال : فوالله لا نطيعك، ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله تعالى عليهم الطاعون في الوقت فهلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من النهار.
وقيل : الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت كان قد قرأ الكتب وعلم أنّ الله تعالى يرسل رسولاً في ذلك الزمان ورجا أن يكون هو فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به.
وقيل : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبيّ صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وقيل : إنها نزلت في البسوس وهو رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطى ثلاث دعوات مستجابات وكان له امرأة وكان له منها أولاد فقالت له : اجعل لي منها دعوة فقال لها : لك منها واحدة فما تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فصارت أجمل النساء في بني إسرائيل فلما علمت أنه ليس في بني إسرائيل أجمل منها رغبت عنه فغضب ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان فجاء بنوها وقالوا : ليس لنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة نباحة وقد عيرنا الناس ادع الله أن يردّها إلى الحال التي كانت عليها فدعا الله تعالى فعادت كما كانت فذهب فيها الدعوات كلها وقيل غير ذلك.
ويدل للقول الأوّل قوله تعالى :
﴿ ولو شئنا لرفعناه ﴾ أي : منازل الأبرار ﴿ بها ﴾ أي : بسبب تلك الآيات ﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض ﴾ أي : مال إلى الدنيا، قال البيضاوي : أو السفالة، قال الجوهري : السفالة بالضم نقيض العلو، وبالفتح النذالة ﴿ واتبع هواه ﴾ أي : في آثار الدنيا، واسترضى قومه، وأعرض عن مقتضى الآيات، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى، ثم استدرك عنه بفعل العبد تنبيهاً على أنّ المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه، وأنّ عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأنّ السبب الحقيقي هو المشيئة، وأن ما نشاهده من هذه الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك.
وكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول : ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه ( أخلد إلى الأرض، واتبع هواه ) مبالغة وتنبيهاً على ما حمله عليه، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وهذه الآية من أشدّ الآيات على أصحاب العلم، وذلك لأنه بعد أن خص هذا الرجل بآياته، وعلمه الاسم الأعظم وخصه بالدعوات المستجابة لما اتبع الهوى انسلخ من الدين، فصار في درجة الكلب، وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله تعالى في حقه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى، وأقبل على متابعة الهوى كان بعده عن الله أعظم، وإليه الإشارة بقوله :( من ازداد علماً ولم يزدد هدى فلم يزدد من الله إلا بعداً ) ﴿ فمثله ﴾ أي : فصفته التي هي مثل في الخسة ﴿ كمثل الكلب ﴾ أي : كمثله في أخس أوصافه وهو ﴿ إن تحمل عليه ﴾ أي : بالطرد والزجر ﴿ يلهث ﴾ أي : يدلع لسانه ﴿ أو ﴾ إن ﴿ تتركه يلهث ﴾ فهو يلهث دائماً سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك، وليس غيره من الحيوان كذلك، قيل : كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال والراحة ؛ لأنّ اللهث طبيعة أصلية فيه، ف( كذلك ) حال من كذب بآيات الله إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال، وكذلك حال الحريص على الدنيا إن وعظته فهو حريص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه، وإن تركته ولم تعظه فهو حريص أيضاً ؛ لأنّ الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما :( الكلب منقطع الفؤاد يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه )، ومحل الجملة الشرطية النصب على الحال كأنه قيل : كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالتين.
وقيل : لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب ﴿ ذلك ﴾ أي : المثل ﴿ مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ﴾ فعم بهذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها، ووجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا بل هم في ضلال على كل حال ﴿ فاقصص القصص ﴾ أي : فأخبر يا محمد قومك بهذه الأخبار التي سبقت بها مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبساً على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم ﴿ لعلهم يتفكرون ﴾ أي : يتدبرون فيها فيؤمنون.
﴿ ساء ﴾ أي : بئس ﴿ مثلاً القوم ﴾ أي : مثل القوم ﴿ الذين كذبوا بآياتنا ﴾ أي : بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها ﴿ وأنفسهم كانوا يظلمون ﴾ أي : كان ذلك في طبعهم جبلة لهم لا يقدر غير الله تعالى على تغييره، وتقديم المفعول به للاختصاص، كأنه قيل : وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّاها إلى غيرها.
وقوله تعالى :
﴿ من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ﴾ تصريح بأن الهدى والضلال من الله تعالى، وأنّ هداية الله تعالى تختص ببعض دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء، والإفراد في الأوّل والجمع في الثاني باعتبار اللفظ والمعنى، تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقتهم بخلاف الضالين، والاقتصار في الإخبار عمن هدى الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه، وأنه المستلزم للقول بالنعم الآجلة والعنوان له.
﴿ ولقد ذرأنا ﴾ أي : خلقنا ﴿ لجهنم كثيراً من الجنّ والإنس ﴾ أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجنّ والإنس للنار، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة، ومن خلقه الله تعالى للنار فلا حيلة له في الخلاص منها.
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :( دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبيّ من الأنصار فقلت : يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء، ولم يدركه، فقال : أو غير ذلك يا عائشة إنّ الله خلق الجنة، وخلق لها أهلاً، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وهم في أصلاب آبائهم ) أخرجه مسلم.
قال النووي في «شرح مسلم » : أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أنّ من مات من أطفال المسلمين فهو في الجنة ؛ لأنه ليس مكلفاً، وتوقف فيه من لا يعتد به لهذا الحديث، وأجاب العلماء عنه بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله نهانا عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عنها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص قوله : أعطه فإني لأراه مؤمناً، فقال : أو مسلماً، قال بعضهم : ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنّ أطفال المسلمين في الجنة، فلما علم ذلك أخبر به، قال :
وأما أطفال المشركين، ففيهم ثلاثة مذاهب، قال الأكثرون : هم في النار تبعاً لآبائهم، وتوقف طائفة منهم، والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون : أنهم من أهل الجنة، واستدلوا بأشياء منها حديث ( إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة، وحوله أولاد الناس، قالوا : يا رسول الله وأولاد المشركين، قال : وأولاد المشركين ) رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ﴾ ( الإسراء، ١٥ ) ولا يتوجه على المولود التكليف، ولا يلزمه قبول قول المرسل حتى يبلغ، وهذا متفق عليه.
وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله تعالى خالق أفعال العباد جميعها خيرها وشرّها ؛ لأنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيراً من الجنّ والإنس للنار، ولا مزيد على بيان الله تعالى ؛ ولأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار، فلما عمل بما يوجب عليه دخول النار به علم أنّ له من يضطرّه إلى ذلك العمل الموجب لدخول النار وهو الله تعالى.
وقالت المعتزلة : إن اللام في قوله :﴿ لجهنم ﴾، لام العاقبة، واستدلوا لذلك بآيات وأشعار، فمن الآيات قوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً ﴾ ( القصص، ٨ ) وهم ما التقطوه لهذا الغرض، ومنها قول موسى :﴿ ربنا إنك آتيت فرعون وملئه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ﴾ ( يونس، ٨٨ ) ومن الأشعار قول بعضهم :
وللموت تغذو الوالدات سخالها كما لخراب الدهر تبنى المساكن
وقال آخر :
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال آخر :
له ملك ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب
وقال آخر :
وأمّ شمال فلا تجزعي فللموت ما تلد الوالدات
وهذا مردود ؛ لأنّ المصير إلى التأويل إنما يحسن إذا ثبت الدليل العقلي على امتناع حمل اللفظ على ظاهره، فإذا لم يثبت كان المصير إلى التأويل في هذا المقام عبثاً، فالحق مذهب أهل الحق جعلنا الله تعالى وأهل مودّتنا منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله، ثم وصف الله تعالى هؤلاء الذين أضلهم بقوله تعالى :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ﴾ أي : لا يبصرون بها طريق الحق والهدى ﴿ ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾ أي : الآيات والمواعظ سماع تأمّل وتذكر، وقال أهل المعاني : إنّ الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا، ولهم أعين يبصرون بها المرئيات، وآذان يسمعون بها الكلمات، وهذا لا شك فيه، ولما وصفهم الله تعالى بأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدرّاكة علم أنّ المراد من ذلك يرجع إلى مصالح الدين، وما فيه نفعهم في الآخرة، والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له، ومنه قوله الشاعر :
وعوراء الكلام صممت عنها وإني إن أشاء بها سميع
فإنه أثبت له صمماً مع وجود السمع ولما سلب عنهم هذه المعاني كانت النتيجة ﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء من المعاني الإنسانية ﴿ كالأنعام ﴾ في أنها لا تفهم ولا تعقل ذلك ؛ لأنّ الإنسان وسائر الحيوانات مشتركة في هذه الحواس الثلاث التي هي القلب والبصر والسمع، وإنما فضل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدّي إلى معرفة الحق من الباطل والخير من الشرّ، فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك ولا يدركه كان لا فرق بينه وبين البهائم التي لا تدرك شيئاً، ولما كانوا قد زادوا على ذلك بفقد نفع هذه الحواس قال تعالى :﴿ بل هم أضلّ ﴾ سبيلاً من الأنعام ؛ لأنّ الأنعام تعرف ما يضرّها وما ينفعها، فإذا رأت ناراً مثلاً لا تقع فيها، وإذا رأت كلأ مثلاً دخلت فيه، والكافر لا يعرف ذلك ؛ ولأنّ الحيوان لا قدرة له على تحصيل هذه الفضائل ؛ والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها، ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخس حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها ؛ ولأنّ الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع، ولأنّ الأنعام تعرف ربها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ؛ ولأنها تضل إذا لم يكن معها مرشد، فأما إذا كان معها مرشد فقل أن تضل، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب، وهم يزدادون في الضلالة.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله :﴿ أولئك هم الغافلون ﴾ قال عطاء : عما أعدّ الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب.
﴿ ولله الأسماء الحسنى ﴾ ذكر ذلك في أربع سور أوّلها هذه السورة، وثانيها في آخر سورة بني إسرائيل في قوله تعالى :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعو فله الأسماء الحسنى ﴾ ( الإسراء، ١١٠ ) وثالثها في أوّل طه وهو قوله تعالى :﴿ الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ﴾ ( طه، ٨ ) ورابعها في آخر الحشر في قوله تعالى :﴿ هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى ﴾ ( الحشر، ٢٤ ) والحسنى مؤنث الأحسن كالكبرى والصغرى ﴿ فادعوه بها ﴾ أي : فسموه بتلك الصفات، وللدعاء شروط منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها، ومنها أن يستحضر في قلبه عظمة المدعو سبحانه وتعالى، ومنها أن يخلص إليه في دعائه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مئة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر ) وكان صلى الله عليه وسلم يقول :«يا الله يا رحمن » فقال المشركون : إنّ محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو اثنين فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والأسماء الحسنى كما في الحديث ( الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصوّر الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذلّ السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العليّ الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القويّ المتين الوليّ الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحيّ القيوم الواجد الماجد الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر المقدّم المؤخر الأوّل الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعال البرّ التوّاب المنتقم العفوّ الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغنيّ المغني المانع الضارّ النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور )، رواه الترمذي.
قال النووي : اتفق العلماء على أنّ هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه تعالى وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وقوله :( من أحصاها دخل الجنة ) المراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في حديث آخر :( أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ) وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم :«إنّ لله تعالى ألف اسم » قال ابن العربي : وهذا قليل وقوله صلى الله عليه وسلم «من أحصاها دخل الجنة » قال البخاري : من حفظها، وهو قول أكثر المحققين، وتعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة، وقيل : من أحضر بباله عند ذكرها معناها وتفكر في مدلولها، وقوله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله وتر يحب الوتر » الوتر الفرد، ومعناه في وصف الله تعالى : الواحد الذي لا شريك له ولا نظير واختلفوا هل الاسم الأعظم الله أو الحيّ القيوم وهل الاسم عين المسمى أو غيره ؟ وفي ذلك خلاف، وقد حققت ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة ﴿ وذروا ﴾ أي : اتركوا ﴿ الذين يلحدون ﴾ أي : يميلون عن الحق ﴿ في أسمائه ﴾ أي : حيث اشتقوا منها أسماء لآلهتهم كاللات من الله والعزى من العزيز، ومنات من المنان، وقال أهل المعاني : الإلحاد في أسمائه تعالى هو أن تسميه بما لم يسم الله به نفسه، ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة ؛ لأن أسماءه تعالى كلها توقيفية فيجوز أن يقال : يا جواد، ولا يجوز أن يقال : يا سخي، ويجوز أن يقال : يا عالم، ولا يجوز أن يقال : يا عاقل، ويجوز أن يقال : يا حكيم، ولا يجوز أن يقال : يا طبيب ﴿ سيجزون ﴾ أي : في الدنيا والآخرة ﴿ ما كانوا يعملون ﴾ في هذا وعيد شديد لمن ألحد في أسمائه تعالى وهذا قبل الأمر بالقتال، وقرأ حمزة :«يَلحَدون » بفتح الياء والحاء من لحد، والباقون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد.
ولما ذكر سبحانه وتعالى إنه خلق للنار طائفة ضالين مضلين ملحدين عن الحق ذكر أنه خلق للجنة أمة هادين في الحق عادلين في الأمر بقوله تعالى :
﴿ وممن خلقنا أمة ﴾ أي : جماعة ﴿ يهدون بالحق وبه ﴾ أي : بالحق خاصة ﴿ يعدلون ﴾ أي : يجعلون الأمور متعادلة لا زيادة في شيء منها على ما ينبغي ولا نقص ؛ لأنا وفقناهم فكشفنا عن أبصارهم حجاب الغفلة التي ألزمناها أولئك، واستدل بذلك على صحة الإجماع ؛ لأنّ المراد منه إنّ في كلّ قرن طائفة بهذه الصفة، وأكثر المفسرين إنهم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم :( لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله ) رواه الشيخان، وعن معاوية رضي الله تعالى عنه قال وهو يخطب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تزال من أمّتي أمّة قائمة بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة فإنه معلوم، وعن الكلبيّ هم الذين آمنوا من أهل الكتاب، وقيل : هم العلماء والدعاة إلى الدين.
﴿ والذين كذبوا بآياتنا ﴾ أي : القرآن أو غيره من أهل مكة أو غيرهم ﴿ سنستدرجهم ﴾ أي : سنستدنيهم إلى الهلاك قليلاً قليلاً، وأصل الاستدراج الاستبعاد والاستنزال درجة بعد درجة ﴿ من حيث لا يعلمون ﴾ أي : سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون، وذلك أنّ الله تعالى يفتح عليهم من النعم ما يغبطون به ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرّة أغفل ما يكونون.
وقيل : سنقرّبهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم ؛ لأنهم كانوا إذا أتوا بذنب فتح الله تعالى عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا، فيزدادوا بذلك تمادياً في الغيّ والضلالة ويتدرجوا في الذنوب والمعاصي بسبب ترادف النعم يظنون أن تواتر النعم يقرب من الله تعالى، وإنما هي خذلان منه وتبعيد، فهو استدراج الله تعالى فيأخذهم الله تعالى أخذة واحدة أغفل ما يكونون عليه، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى قال : اللهمّ إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول :﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ﴾.
﴿ وأملي لهم ﴾ أي : أمهلهم وأطيل مدّة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة ﴿ إنّ كيدي ﴾ أي : أخذي ﴿ متين ﴾ أي : شديد وإنما سماه كيداً ؛ لأنّ ظاهره إحسان وباطنه خذلان.
﴿ أو لم يتفكروا ﴾ فيعلموا ﴿ ما بصاحبهم ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ من جنة ﴾ أي : جنون.
روي أنه صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم : إنّ صاحبكم لمجنون بات يهوّت إلى الصباح، فنزلت، ومعنى : يهوّت : يصوّت، يقال : هيت به وهوت به أي : صاح قاله الجوهريّ، وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خالفهم في الأقوال والأفعال ؛ لأنه كان معرضاً عن الدنيا ولذاتها مقبلاً على الآخرة ونعيمها مشتغلاً بالدعاء إلى الله تعالى وإنذارهم بأسه ونقمته ليلاً ونهاراً من غير ملال ولا ضجر، فعند ذلك نسبوه إلى الجنون، فبرّأه الله تعالى من الجنون بقوله تعالى :﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ هو إلا نذير مبين ﴾ أي : بين الإنذار بحيث لا يخفى على ناظر.
﴿ أو لم ينظروا ﴾ أي : نظر اعتبار واستدلال ﴿ في ملكوت السماوات والأرض ﴾ أي : ملكهما البالغ ﴿ وما ﴾ أي : وفيما ﴿ خلق الله من شيء ﴾ أي : غيرهما مما يقع عليه الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدل لهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها ومتولي أمرها ؛ ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه، وقوله تعالى :﴿ وأن عسى أن يكون قد اقترب ﴾ أي : دنا ﴿ أجلهم ﴾ عطف على ملكوت، وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون ولا يصح أن تكون أن مصدرية خلافاً للبيضاوي قال التفتازانيّ : لأنّ المصدرية لا تدخل الأفعال غير المتصرّفة التي لا مصادر لها، والمعنى أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها، فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب، فلعل أجلهم قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار، فيجب على العاقل المبادرة إلى التفكر والاعتبار والنظر المؤدي إلى الفوز والنعيم الدائم ﴿ فبأيّ حديث ﴾ أي : كتاب ﴿ بعده ﴾ أي : الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ يؤمنون ﴾ أي : يصدّقون، وليس بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيّ ولا بعد كتابه كتاب ؛ لأنه خاتم الأنبياء، وكتابه خاتم الكتب لانقطاع الوحي بعده صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ فبأي حديث بعده يؤمنون ﴾ يدل على أنّ القرآن حادث كما تمسك به بعض المعتزلة أجيب : من جهة أهل السنة : بأنّ ذلك محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حداثتها.
ثم ذكر تعالى علة إعراضهم عن الإيمان بقوله تعالى :
﴿ من يضلل الله فلا هادي له ﴾ بوجه من الوجوه أي : إنّ إعراض هؤلاء عن الإيمان لإضلال الله إياهم ولو هداهم لآمنوا ﴿ ويذرهم ﴾ أي : يتركهم ﴿ في طغيانهم ﴾ أي : ضلالهم وتماديهم في الكفر ﴿ يعمهون ﴾ أي : يتردّدون متحيرين لا يهتدون سبيلاً، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر :«ونذرهم » بالنون والباقون بالياء، وجزم حمزة والكسائيّ الراء قال سيبويه : إنه عطف على محلّ الفاء وما بعدها من قوله تعالى :﴿ فلا هادي له ﴾ ؛ لأنّ موضع الفاء وما بعدها جزم لجواب الشرط، ورفعها الباقون استئنافاً، وهو مقطوع عما قبله.
ولما بيّن تعالى التوحيد والنبوّة والقضاء والقدر أتبعه المعاد لتكمل المطالب الأربعة التي هي أمهات مطالب القرآن مبيناً ما اشتمل عليه عامة الكلام من تبلدهم في العمه وتلددهم في أشراك الشبه بقوله تعالى :﴿ يسألونك ﴾ يا محمد سؤال استهزاء ﴿ عن الساعة ﴾ أي : عن وقتها، واختلفوا في ذلك السائل، فقال ابن عباس : إنّ قوماً من اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبياً كما تقول، فإنا نعلم متى هي، فنزلت هذه الآية، وقال الحسن وقتادة : إنّ قريشاً قالوا : يا محمد بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة ؟ والساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة، أو لأنّ حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة فسميت بالساعة لهذا السبب، أو لأنها على طولها عند الله تعالى كساعة واحدة، وقوله تعالى :﴿ أيان ﴾ سؤال استفهام عن الوقت الذي تقوم فيه الساعة ومعناه متى ﴿ مرساها ﴾ قال ابن عباس منتهاها والمرسى هنا مصدر بمعنى الإرساء كقوله تعالى :﴿ بسم الله مجراها ومرساها ﴾ ( هود، ٤١ ) أي : إجراؤها وإرساؤها، والإرساء الإثبات يقال : رسا يرسو إذا ثبت قال الله تعالى :﴿ والجبال أرساها ﴾ ( النازعات، ٣٢ ) ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ إنما علمها ﴾ أي : متى تكون ﴿ عند ربي ﴾ أي : لا يعلم الوقت الذي تقوم فيه الساعة إلا الله تعالى استأثر الله تعالى بعلمها، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، ولهذا لما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : متى الساعة، فقال عليه الصلاة والسلام :( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ) قال المحققون : والسبب في إخفاء الساعة عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون، كانوا على حذر منها، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية، ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال :﴿ لا يجليها ﴾ أي : يظهرها ﴿ لوقتها ﴾ أي : في وقتها المعين، فاللام بمعنى في وهو أولى من قول البيضاوي إنها للتأقيت ﴿ إلا هو ﴾ أي : لا يقدر على إظهار وقتها المعيّن بالإعلام والإخبار إلا هو ﴿ ثقلت ﴾ أي : عظمت ﴿ في السماوات والأرض ﴾ أي : ثقل أمرها وخفي علمها على أهل السماوات والأرض، وكل شيء خفي فهو ثقيل شديد، وقال الحسن : إذا جاءت ثقلت وعظمت على أهل السماوات والأرض، وإنما ثقلت عليهم ؛ لأنّ فيها فناءهم وموتهم، وذلك ثقيل على القلوب وقوله تعالى :﴿ لا تأتيكم إلا بغتة ﴾ تأكيد أيضاً لما تقدّم وتقرير لكونها بحيث لا تجيء إلا فجأة على حين غفلة من الخلق.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة والرجل قد رفع الأكلة إلى فيه فلا يطعمها، ولتقومنّ الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ) اللقحة بفتح اللام وكسرها الناقة القريبة العهد بالنتاج وقوله : يليط حوضه، ويروى : يلوط حوضه أي : يطينه ويصلحه، يقال : لاط حوطه يليطه ويلوطه إذا طينه، والأكلة بضمّ الهمزة اللقمة. وفي رواية ( أنّ الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم بسلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه )، رواه بمعناه الشيخان. ﴿ يسألونك ﴾ أي : يسألك قومك عن الساعة ﴿ كأنك حفيّ عنها ﴾ أي : عالم بها من قولهم : أحفيت في المسألة إذا بالغت في السؤال عنها حتى علمتها، وقيل : الحفي البارّ اللطيف ومنه قوله سبحانه وتعالى :﴿ إنه كان بي حفياً ﴾ ( مريم، ٤٧ ) أي : بارّاً لطيفاً مجيب دعائي إذا دعوته أي : يسألونك كأنك بارّ بهم لطيف العشرة معهم، وهذا قول الحسن ويؤيده ما روي في تفسيره : أنّ قريشاً قالت لمحمد صلى الله عليه وسلم إنّ بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة.
والمعنى يسألونك عنها كأنك حفيّ فتحفى بهم أي : فتخصهم لأجل قرابتك بتعليم وقتها، وتروي علمها عن غيرهم ولو أخبرت بوقتها لمصلحة علمها الله تعالى في إخبارك به لكنت مبلغه القريب والغريب من غير تخصيص كسائر ما أوحي إليك.
وقيل : كأنك حفيّ بالسؤال عنها تحبه وتؤثره أي : إنك تكره السؤال عنها ؛ لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ولم يؤته أحداً من خلقه كقوله تعالى :﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إنما علمها عند الله ﴾ أي : استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلم متى الساعة إلا هو.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ﴾ وقوله تعالى ثانياً :﴿ يسألونك كأنك حفيّ عنها ﴾ فيه تكراراً. أجيب : بأنه لا تكرار ؛ لأنّ السؤال الأوّل عن وقت قيام الساعة، والثاني عن كنه ثقل الساعة وشدّتها ومهابتها، فلا يلزم التكرار.
وقيل : ذكر الثاني للتأكيد ولما جاء به من زيادة قوله :﴿ كأنك حفيّ عنها ﴾ وعلى هذا تكرار العلماء الحذاق في كتبهم لا يحلون المكرر من فائدة، ومنهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله تعالى.
فإن قيل : لم أجاب عن الأوّل بقوله :﴿ إنما علمها عند ربي ﴾ وعن الثاني بقوله :﴿ إنما علمها عند الله ﴾ ؟ أجيب : بأنّ السؤال الأوّل لما كان واقعاً عن وقت قيام الساعة، والثاني كان واقعاً عن مقدار شدّتها ومهابتها عبر عن الجواب فيه بقوله : علم ذلك عند الله ؛ لأنه أعظم أسمائه مهابة وعظمة ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أي : لا يعلمون السبب الذي من أجله أخفيت معرفة علم وقت قيامها المغيب عن الخلق، وقيل : لا يعلمون أنّ علمها عند الله وإنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه.
وروي أنّ أهل مكة قالوا : يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيصة قبل أن يغلو فنشتريه ونربح فيه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرحل عنها إلى ما قد أخصبت، فأنزل الله تعالى :
﴿ قل ﴾ لهم ﴿ لا أملك لنفسي نفعاً ﴾ اجتلاب نفع بأن أربح فيما أشتريه ﴿ ولا ضرّاً ﴾ أي : ولا أقدر أدفع عن نفسي ضرّاً نزل بها بأن أرتحل إلى الأرض الخصبة أو من الأرض الجدبة ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له.
وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة بني المصطلق عصفت ريح في الطريق ففرّت الدواب منها فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة بالمدينة، وكان فيها غيظ للمنافقين وقال صلى الله عليه وسلم :«انظروا أين ناقتي » فقال عبد الله بن أبيّ المنافق مع قومه : ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت الرجل بالمدينة ولم يعرف أين ناقته ؟ فقال صلى الله عليه وسلم إنّ ناساً من المنافقين قالوا : كيت وكيت، وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة فوجدوها على ما قال صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ ولو كنت ﴾ أي : من ذاتي ﴿ أعلم الغيب ﴾ أي : جنسه ﴿ لاستكثرت ﴾ أي : أوجدت لنفسي كثيراً ﴿ من الخير وما مسني السوء ﴾ أي : ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع، ويدخل فيه ما يتصل بالخصب واجتناب المضارّ حتى لا يمسني سوء ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ أنا إلا نذير ﴾ بالنار للكافرين ﴿ وبشير ﴾ بالجنة ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ أي : يصدّقون، وقيل : لقوم يؤمنون متعلق بنذير وبشير ؛ لأنهم المنتفعون بهما.
﴿ هو الذي خلقكم ﴾ أي : ولم تكونوا شيئاً ﴿ من نفس واحدة ﴾ أي : خلقها ابتداء من تراب، وهي آدم عليه السلام ﴿ وجعل منها ﴾ أي : من جسدها من ضلع من أضلاعها، وقيل : من جنسها لقوله تعالى :﴿ جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ﴾ ( الشورى، ١١ ) ﴿ زوجها ﴾ أي : حوّاء، قالوا : والحكمة في كونها خلقت منه أنّ الجنس إلى الجنس أميل والجنسية علة الضمّ ﴿ ليسكن إليها ﴾ أي : ليأنس بها ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه، وإنما ذكر الضمير في يسكن بعد أن أنث في قوله تعالى :﴿ من نفس واحدة ﴾ ذهاباً إلى معنى النفس ليناسب تذكير الضمير في قوله تعالى :﴿ فلما تغشاها ﴾ أي : جامعها، ولئلا يوهم لو أنثه نسبة السكون إلى الأنثى، والأمر بخلافه إزالة لاستيحاشه، فكانت نسبة المؤانسة إليه أولى ﴿ حملت حملاً خفيفاً ﴾ أي : خف عليها ولم تلق منه ما يلقى الحوامل غالباً من الأذى، أو محمولاً خفيفاً وهو النطفة ﴿ فمرّت به ﴾ أي : فعالجت به أعمالها وقامت وقعدت ولم يعقها عن شيء من ذلك لخفته ﴿ فلما أثقلت ﴾ أي : صارت ذا ثقل بكبر الولد في بطنها ﴿ دعوا الله ﴾ أي : آدم وحوّاء عليهما السلام ﴿ ربهما ﴾ مقسمين ﴿ لئن آتيتنا صالحاً ﴾ أي : ولداً سوياً لا عيب فيه ﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾ أي : نحن وأولادنا على نعمتك علينا، وذلك أنهما جوّزا أن يكون غير سوي لقدرة الله تعالى على كل ما يريد لأنه الفاعل المختار.
فائدة : اتفق القراء على إدغام تاء التأنيث الساكنة في الدال.
﴿ فلما آتاهما صالحاً ﴾ أي : جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدناً وقوّة وعقلاً، فكثروا في الأرض وانتشروا في نواحيها ذكوراً وإناثاً ﴿ جعلا ﴾ أي : النوعان من أولادهما الذكور والإناث ؛ لأنّ صالحاً صفة للولد وهو الجنس، فيشمل الذكر والأنثى والقليل والكثير، فكأنه قيل : فلما آتاهما أولاداً صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان ﴿ له شركاء ﴾ أي : بعضهم أصناماً وبعضهم ناراً وبعضهم شمساً وبعضهم غير ذلك، وقيل : جعل أولادهما له شركاء ﴿ فيما آتاهما ﴾ أي : فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ فتعالى الله عما يشركون ﴾.
﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ﴾ أي : الأصنام.
فإن قيل : كيف وحد ﴿ يخلق ﴾، ثم جمع فقال :﴿ وهم يخلقون ﴾ ؟ أجيب : بأنّ لفظ ما يقع على الواحد والاثنين والجمع، فوحد بحسب ظاهر اللفظ، وجمع باعتبار المعنى.
فإن قيل : كيف جمع الواو والنون لمن لا يعقل وهو جمع من يعقل من الناس ؟ أجيب : بأنه لما اعتقد عابدوا الأصنام أنها تعقل وتميز ورد هذا الجمع على ما يعتقدونه، وقيل : لما حملت حوّاء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها : ما يدريك ما في بطنك ؟ ولعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج ؟ فخافت من ذلك وذكرت لآدم فهُمّا منه، وهو بضمّ الهاء وتشديد الميم من الهم وهو هنا الحزن، ثم عاد إليها وقال : إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله على أن يجعله خلقاً مثلك، ويسهل عليك خروجه فسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس حارثاً في الملائكة، ففعلت ولما ولدته سمته عبد الحارث.
فإن قيل : قد قال البيضاويّ : وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء، ويحتمل أن يكون الخطاب في خلقكم لآل قصيّ من قريش، فإنهم خلقوا من نفس قصيّ وكان له زوج من جنسها عربية قرشية فطلبا من الله تعالى الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد شمس وعبد مناف وعبد قصيّ وعبد الدار، ويكون الضمير في يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما اه أجيب : بأنه نظر في ذلك إلى الظاهر وإلا فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال : سميه عبد الحرث فإنه يعيش، فسمته فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ) رواه الحاكم وقال : صحيح، والترمذيّ وقال حسن غريب.
وروي عن ابن عباس أنه قال : كانت حواء تلد لآدم فتسميه : عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال : إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث، فسمياه فعاش، وجاء في حديث ( خدعهما إبليس مرتين : مرّة في الجنة ومرّة في الأرض )، وهو قول كثير كمجاهد وسعيد بن المسيب وهذا كما قال البغويّ : ليس إشراكاً في العبادة، ولا أنّ الحرث ربهما فإنّ آدم كان نبياً معصوماً من الشرك ولكن قصد إلى أنّ الحرث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمّه، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به إنه مملوك كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به أنه معبود هذا كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف على وجه الخضوع لا على وجه أنّ الضيف يملكه قال الشاعر :
وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا
وتقول للغير : أنا عبدك، قال الرازي : ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان عبد ودود فلان، وقال يوسف عليه السلام لعزيز مصر :﴿ إنه ربي ﴾ ( يوسف، ٢٣ ) ولم يرد به معبوده كذلك هذا فقوله تعالى :﴿ فتعالى الله عما يشركون ﴾ ابتداء كلام، وأريد به إشراك أهل مكة، وقرأ نافع وشعبة :«شركاً » بكسر الشين وسكون الراء وألف منونة بعد الكاف في الوصل وفي الوقف بغير تنوين أي : شركة، والباقون بضمّ الشين وفتح الراء وبعد الكاف ألف بعدها همزة مفتوحة.
فإن قيل : المطاع إبليس فكيف يعير بالجمع ؟ أجيب : بأنّ من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين، هذا إن حملت هذه الآية على القصة المشهورة، أمّا إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل.
﴿ ولا يستطيعون ﴾ أي : الأصنام ﴿ لهم ﴾ أي : لعابديهم ﴿ نصراً ﴾ أي : لا تقدر على النصر لمن أطاعها أو عبدها، ولا تضر من عصاها، والمعبود الذي تجب عبادته يكون قادراً على إيصال النفع والضر، وهذه الأصنام ليست كذلك، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها ؟ ﴿ ولا أنفسهم ينصرون ﴾ أي : وهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها مكروهاً، فإنّ من أراد كسرها قدر عليه، وهي لا تقدر على دفعه عنها. والاستفهام للتوبيخ.
ثم خاطب المؤمنين بقوله تعالى :﴿ وإن تدعوهم ﴾ أي : المشركين ﴿ إلى الهدى ﴾ أي : إلى الإسلام ﴿ لا يتبعوكم ﴾ أي : لأنّ الله تعالى حكم عليهم بالضلالة فلا يقبلوا الهداية، وقرأ نافع بسكون التاء وفتح الباء الموحدة، والباقون بفتح التاء مشدّدة وكسر الباء الموحدة ﴿ سواء عليكم أدعوتموهم ﴾ إلى الهدى ﴿ أم أنتم صامتون ﴾ أي : ساكتون عن دعائهم، فهم في كلا الحالتين لا يؤمنون.
وقيل : الضمير في تدعوهم للأصنام أي : إنّ هذه الأصنام التي يعبدها المشركون معلوم من حالها أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع من دعاها إلى خير وهدى، وذلك أنّ المشركين كانوا إذا وقعوا في شدّة وبلاء تضرّعوا إلى أصنامهم، وإذا لم يكن لهم إلى الأصنام حاجة سكتوا فقيل لهم : لا فرق بين دعائكم إلى الأصنام وسكوتكم عنها، فإنها عاجزة في كل حال.
﴿ إنّ الذين تدعون ﴾ أي : تعبدون ﴿ من دون الله عباد ﴾ أي : مملوكة ﴿ أمثالكم ﴾ فهي لا تملك ضرّاً ولا نفعاً.
فإن قيل : كيف وصفها بأنها عباد مع أنها جماد ؟ أجيب : بأنّ المشركين لما ادّعوا أنّ الأصنام تضرّ وتنفع وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة، فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم تبكيتاً لهم وتوبيخاً ولذلك قال :﴿ فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ﴾ في كونها آلهة، ولم يقل : فادعوهنّ فليستجبن، وقال :﴿ إنّ الذين ﴾، ولم يقل : التي، وبأنّ هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين ؛ لأنهم لما نحتوها بصورة الإناسي قال لهم : إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم، فلا يستحقون عبادتكم كما إنه لا يستحق بعضكم عبادة بعض، فلم جعلتم أنفسكم عبيداً، وجعلتموها آلهة وأرباباً.
ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم بقوله تعالى :
﴿ ألهم أرجل يمشون بها أم ﴾ أي : بل أ ﴿ لهم أيد يبطشون بها أم ﴾ أي : بل الله ﴿ لهم أعين يبصرون بها أم ﴾ أي : بل الله ﴿ لهم آذان يسمعون بها ﴾ وهذا الاستفهام إنكاري أي : ليس لهم شيء من ذلك مما هو لكم، فكيف تعبدونهم وأنتم أتم حالاً منهم ؟ إذ لا يليق بالإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الأرذل، ونظير هذا قول إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه :﴿ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ﴾ ( مريم، ٤٢ ) وقد تعلق بعض الجهال بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى، فقال : إنّ الله تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلاً على عدم إلهيتها، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية، وذلك باطل فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى.
أجيب : بأن المقصود من هذه الآية بيان أنّ الإنسان أفضل وأحسن حالاً من الصنم ؛ لأنّ الإنسان له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة، والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة، فكان الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم، فاشتغال الأفضل الأكمل بحال الأخس ألادون جهل، فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال ﴿ قل ادعوا ﴾ أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ادعوا ﴿ شركاءكم ﴾ أي : إلى هلاكي ﴿ ثم كيدون ﴾ قال الحسن : كانوا يخوّفونه صلى الله عليه وسلم بآلهتهم فقال الله تعالى له : قل لهم ادعوا شركاءكم ثم كيدون أي : ليظهر لكم أنها لا قدرة لها على إيصال المضارّ إليّ بوجه.
وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، وهشام له فيها وجهان : الإثبات والحذف، وصلاً ووقفاً، والباقون يحذفونها وصلاً ووقفاً. ثم تهكم عليهم صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ فلا تنظرون ﴾ أي : فأعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم، فإنكم لا تقدرون على ذلك.
وعلل عدم قدرتهم على ذلك بقوله :
﴿ إنّ وليي الله ﴾ الذي يتولى حفظي ونصري هو الله ﴿ الذي نزل الكتاب ﴾ المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة في الدين وهو القرآن ﴿ وهو ﴾ أي : الله سبحانه ﴿ يتولى الصالحين ﴾ أي : بنصره وحفظه، فلا يضرهم عداوة من عاداهم، قال ابن عباس : يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئاً ولا يعصونه، فمن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلاً عن أنبيائه وفي هذا مدح للصالحين، وأنّ من تولاه الله تعالى بحفظه لا يضره شيء، وعن عمر بن عبد العزيز أنه ما كان يدخر لأولاده شيئاً، فقيل له فيه، فقال : ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليه هو الله تعالى، ومن كان الله تعالى له ولياً فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين فقد قال الله تعالى :﴿ فلن أكون ظهيراً للمجرمين ﴾ ومن رده الله تعالى لم أكن مشتغلاً بمهماته.
﴿ والذين تدعون من دونه ﴾ أي : الله ﴿ لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ﴾ أي : فكيف أبالي بهم ؟
فإن قيل : هذه الأشياء قد صارت مذكورة في الآيات المتقدّمة فما الفائدة في تكريرها ؟ أجيب : بأنّ الأوّل مذكور على جهة التقريع، وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز كأنه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين، وهذه الأصنام ليست كذلك، فلا تكون صالحة للإلهية.
﴿ وإن تدعوهم ﴾ أي : الأصنام ﴿ إلى الهدى لا يسمعوا ﴾ دعاءكم ﴿ وتراهم ﴾ يا محمد ﴿ ينظرون إليك ﴾ أي : يقابلونك كالناظر ﴿ وهم لا يبصرون ﴾ لأنهم صوّروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه، وقال الحسن : المراد بهذا المشركون، ومعناه إن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم ؛ لأنّ آذانهم قد صمت عن سماع الحق وتراهم ينظرون إليك يا محمد وهم لا يبصرون أي : ببصائر قلوبهم.
ولما بيّن تعالى أن الله هو الذي يتولاه، وإنّ الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار بين ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس بقوله تعالى :﴿ خذ العفو ﴾ أي : اقبل الميسور من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسّس وذلك مثل قبول الاعتذار، ويدخل في ذلك ترك التشديد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية، ويدخل فيه أيضاً التخلق مع الناس بالخلق الطيب وترك الغلظة والفظاظة، قال تعالى :﴿ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ ( آل عمران، ١٥٩ ) وقال صلى الله عليه وسلم :( يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ) وقال الشاعر :
خذي العفو مني تستديمي مودّتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وقال عكرمة : لما نزلت هذه الآية : قال عليه الصلاة والسلام : يا جبريل ما هذا ؟ قال : لا أدري حتى أسأل، ثم رجع فقال :( إنّ الله تعالى يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ) ﴿ وأمر بالعرف ﴾ أي : بالمعروف قال عطاء : بلا إله إلا الله ﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ أي : فلا تقابلهم بالسفه، وذلك مثل قوله تعالى :﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ﴾ ( الفرقان، ٦٣ ) وذلك سلام المتاركة، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح )، وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله بعثني بمكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال ).
قال أبو زيد لما نزل قوله تعالى :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :( كيف يا رب والغضب ). فنزل ﴿ وإما ﴾ فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة ﴿ ينزغنك من الشيطان نزغ ﴾ أي : وسوسة وقوله تعالى :﴿ فاستعذ ﴾ أي : فاستنجد ﴿ بالله ﴾ جواب الشرط وجواب الأمر محذوف أي : يدفعه عنك.
تنبيه : احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية، وقالوا : لولا أنه يجوز من النبي الإقدام على المعصية والذنب لم يحتج إلى الاستعاذة، وأجيب عن ذلك بأجوبة : الأول إنّ معنى هذا الكلام إن حصل في قلبك نزغ فاستعذ بالله كما أنه تعالى قال :﴿ لئن أشركت ليحبطن عملك ﴾ ( الزمر، ٦٥ )
ولم يدل ذلك على أنه أشرك الثاني على تقدير أنه لو حصل وسوسة من الشيطان لكن الله تعالى قد عصم قلب نبيه صلى الله عليه وسلم من قبولها وثباتها في قلبه وإنما القادح لو قبل صلى الله عليه وسلم وسوسة والآية لا تدل على ذلك.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«ما من إنسان إلا ومعه شيطان » وفي رواية :( ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ) قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال :( وإياي إلا أنّ الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير ) وفي رواية :( لكنه أسلم بعون الله فلقد أتاني فأخذت بحلقه ولولا دعوة سليمان لأصبح في المسجد طريحاً ) قال النووي : يروى بفتح الميم وضمها فمن ضمها معناه فأسلم أنا من شره وفتنته ومن فتحها قال معناه : إنّ القرين أسلم أي : صار مسلماً فلا يأمرني إلا بخير الثالث : أنّ الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره أي : وإما ينزغنك أيها الإنسان من الشيطان نزغ فاستعذ بالله كقوله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ﴾ ( النحل، ٩٨ ) ﴿ إنه سميع ﴾ للقول ﴿ عليم ﴾ بالفعل، وفي الآية دليل على أنّ الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة فكأنه تعالى قال : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع واستحضر معنى الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر.
﴿ إنّ الذين اتقوا إذا مسهم ﴾ أي : أصابهم ﴿ طيف ﴾ أي : شيء ألمّ بهم ﴿ من الشيطان تذكروا ﴾ عقاب الله وثوابه ﴿ فإذا هم مبصرون ﴾ الحق من غيره، فيرجعون.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بياء ساكنة بعد الطاء والباقون بألف بعد الطاء بعدها همزة مكسورة.
﴿ وإخوانهم ﴾ أي : وإخوان الشياطين من الكفار ﴿ يمدّونهم ﴾ أي : يمدّهم الشياطين ﴿ في الغيّ ﴾ أي : يزيدونهم في الضلالة بالتزيين والحمل عليها ﴿ ثم لا يقصرون ﴾ أي : لا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها، وهذا بخلاف حال المؤمنين المتقين ؛ لأنّ المؤمن إذا أصابه طيف من الشيطان تذكر وعرف ذلك فنزع عنه وتاب واستغفر، والكافر مستمرّ في ضلاله لا يتذكر ولا يرعوي.
﴿ وإذا لم تأتهم ﴾ أي : أهل مكة ﴿ بآية ﴾ أي : مما اقترحوها كقولهم :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ﴾ ( الإسراء، ٩٠ ) ﴿ قالوا لولا اجتبيتها ﴾ أي : هلا تقولتها من عند نفسك كسائر ما تقرؤه، فإنهم كانوا يقولون : إنّ هذا الإفك مفترى، تقول العرب : اجتبيت الكلام اختلقته وافتعلته وأنشأته من عندك، وهلا طلبتها من ربك منزلة عليك مقترحة ؟ قال الله تعالى :﴿ قل ﴾ : يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات ﴿ إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ﴾ أي : ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور إنما أنتظر الوحي، فكل شيء أكرمني به قلته، وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح.
ثم بيّن أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها لا يقدح في الغرض ؛ لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة، فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة، فكان طلب الزيادة من باب التعنت، فذكر في وصف القرآن ألفاظاً ثلاثة أوّلها قوله :﴿ هذا بصائر من ربكم ﴾ أي : هذا القرآن فيه حجة وبرهان، وأصل البصائر الأبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان، ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد أطلق عليه لفظ البصيرة فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب.
وثانيها :﴿ وهدى ﴾ أي : وهو هدى.
وثالثها :﴿ ورحمة ﴾ أي : وهو رحمة ﴿ لقوم يؤمنون ﴾.
فإن قيل : ما الفرق بين هذه المراتب الثلاث ؟ أجيب : بأنهم متفاوتون في درجات العلوم، فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد، وهم أصحاب عين اليقين، ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر، وهم أصحاب علم اليقين، ومنهم المسلم المستسلم وهم عامة المؤمنين، وهم أصحاب حق اليقين، فالقرآن في حق القسم الأوّل، وهم السابقون بصائر، وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى، وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة.
﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ﴾ أي : عن الكلام ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ أي : لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمرتم به من أوامره، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فذهب قوم إلى أنها نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإمام والإنصات.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكوت والاستماع إلى قراءة القرآن، وقال قوم : نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وقال الكلبي : كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار، وعن ابن مسعود أنه سمع ناساً يقرؤون مع الإمام فلما انصرفوا قال : أما آن لكم أن تفقهوا ﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ﴾ كما أمركم الله، وهو قول الحسن والزهري : إن الآية نزلت في القرآن في الصلاة.
وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد إنّ الآية نزلت في الخطبة أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة، وقال عمر بن عبد العزيز : الإنصات لكل واعظ، وقيل : معناه وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له وأنصتوا، وقيل : معنى فاستمعوا له فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه، قال البغوي : والأوّل أولاها وهو أنها في القراءة في الصلاة لأنّ الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة، قال البيضاوي : وظاهر اللفظ يقتضي وجوبهما حيث يقرأ القرآن مطلقاً وعامة العلماء على استحبابهما خارج الصلاة واحتج به من لا يرى وجوب القراءة على المأموم وهو ضعيف، اه. أي : مردود بخبر الصحيحين :( لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ).
وقوله تعالى :
﴿ واذكر ربك في نفسك ﴾ عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما، والمراد بالذكر في النفس أن يستحضر في قلبه عظمة الله تعالى جل جلاله ؛ لأنّ الذكر باللسان إذا كان عارياً عن ذكر القلب كان عديم الفائدة ؛ لأنّ فائدة الذكر حضور القلب وإشعاره عظمة المذكور تعالى، قال الرازي : سمعت بعض الأكابر من أصحاب القلوب كان إذا أراد أن يأمر واحداً من المريدين بالخلوة والذكر أمره أربعين يوماً بالخلوة والتصفية، ثم عند استكمال هذه المدّة وحصول التصفية الكاملة يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين، ويقول للمريد : اعتبر حال قلبك عند سماع هذه الأسماء، فكل اسم وجدت قلبك عند سماعه قوي تأثره وعظم تشوّقه، فاعلم أنّ الله تعالى إنما يفتح أبواب المكاشفات عليك بواسطة المواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه، وهذا طريق حسن لطيف في هذا الباب، اه.
وقيل : ذلك أمر للمأموم بالقراءة سراً بعد فراغ الإمام من قراءة الفاتحة كما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى ﴿ تضرعاً ﴾ أي : تذللاً ﴿ وخيفة ﴾ أي : خوفاً منه.
فائدة : إنما قال تعالى :﴿ واذكر ربك ﴾ ولم يقل : واذكر إلهك ولا غيره من الأسماء وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه رباً، وأضاف نفسه إليه، وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان، والمقصود منه أن يصير العبد فرحاً مسروراً مبتهجاً عند سماع هذا الاسم، لأنّ لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل، وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام إنعام الله تعالى عليه، وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامه كما قال تعالى :﴿ وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها ﴾ ( إبراهيم، ٣٤ ) فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء، فإذا سمع بعد ذلك قوله :﴿ تضرعاً وخيفة ﴾ عظم الخوف وحينئذٍ يحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف، وعنده يكمل الإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام :( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) وهذا جرى عليه بعضهم في حالة الصحة، فيكون الخوف والرجاء مستويان.
والذي جرى عليه الغزالي وهو التحقيق أنه إن قوي رجاؤه يقوى جانب الخوف والعكس بالعكس، وأما حال المرض فيكون جانب الرجاء أرجح، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال :«كيف تجدك » ؟ قال : أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يجتمعان في قلب مؤمن في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف ) ﴿ ودون الجهر من القول ﴾ أي : ومتكلماً كلاماً فوق السر ودون الجهر أي : قصداً بينهما، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص ﴿ بالغدوّ ﴾ جمع غدوة، وقيل : إنه مصدر ﴿ والآصال ﴾ جمع أصيل، وهو ما بين صلاة العصر إلى الغروب، وإنما خص هذين الوقتين بالذكر ؛ لأنّ الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو آخر الموت إلى اليقظة التي هي كالحياة فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم، وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر ليكون أوّل أعماله ذكر الله تعالى، وأما وقت الآصال وهو آخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب الذكر ؛ لأنها حالة تشبه الموت، ولعله لا يقوم من تلك النومة، فيكون موته على ذكر الله تعالى، وهو المراد من قوله تعالى :﴿ ولا تكن من الغافلين ﴾ عن ذكر الله.
وقيل : إنما خصا بالذكر ؛ لأنّ الصلاة بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر مكروهة، واستحب للعبد أن يذكر الله تعالى فيهما ليكون في جميع أوقاته مشتغلاً بما يقرّبه إلى الله تعالى من صلاة وذكر، وقيل : إنّ أعمال العباد تصعد أوّل النهار وآخره، فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر، ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى الغروب، فاستحب له الذكر فيهما ليكون ابتداء عمله بالذكر وختامه بالذكر.
﴿ إنّ الذين عند ربك ﴾ أي : الملائكة المقرّبين بالفضل والكرامة ﴿ لا يستكبرون ﴾ أي : لا يتكبرون ﴿ عن عبادته ﴾ لأنهم عبيده خاضعون لعظمته وكبريائه ﴿ ويسبحونه ﴾ أي : وينزهونه عن جميع النقائص، ويقولون : سبحان الله ربنا ﴿ وله يسجدون ﴾ أي : ويخضعون له بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره، وفي هذا إشارة إلى أنّ الأعمال تنقسم إلى قسمين : أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فأعمال القلوب هي تنزيه الله تعالى عن كل ما سواه، وهو الاعتقاد القلبي عبر عنه بقوله :﴿ ويسبحونه ﴾ وعبر عن أعمال الجوارح بقوله :﴿ وله يسجدون ﴾ ليوافق الملائكة المقرّبين في عبادتهم، وعن معدان قال : سألت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : حدّثني حديثاً ينفعني الله به قال : سمعت رسول الله صلى الله عصيه وسلم يقول :( ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة )، وفي رواية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة )، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعاً لمكان جبهته في غير وقت صلاة )، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ) والحديث الذي ذكره البيضاوي تبعاً للزمخشري وهو :( من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة ) حديث موضوع.
Icon