سورة الأعراف هي السورة السابعة في الترتيب المصحفي وهي إحدى السور التي بدأت ببعض حروف التهجي ( المص ) ولم يتقدم عليها من هذا النوع سوى ثلاث سور سبقتها في تاريخ النزول وهي ن، ق، ص.
ويبلغ عدد السور التي بدأت بحروف التهجي تسعا وعشرين سورة، وكلها سور مكية ما عدا البقرة وآل عمران. وعدد آيات سورة الأعراف ( ٢٠٦ ) آيات، وعدد كلماتها ( ٣٣١٥ ) كلمة.
معنى فواتيح السور :
ليس لهذه الفواتح في اللغة العربية معان مستقلة، ولم يرد من طريق صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان للمراد منها، بيد أنه قد أثرت عن السلف آراء متعددة في معاني هذه الحروف، وهذه الآراء على كثرتها ترجع إلى رأيين اثنين.
أحدهما : أنها جميعا مما استأثر الله به ولا يعلم معناه أحد سواه، وهذا رأي كثير من الصحابة والتابعين.
وثانيها : أن لها معنى، وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى.
فمنهم من قال : إنها أسماء للسور التي بدئت بها أوأن كلا من علامة على انتهاء سورة والشروع في أخرى.
ومنهم من قال : إنها ( رموز ) لبعض أسماء الله تعالى وصفاته.
ومنهم من قال : إن المقصود منها هو تنبيه السامعين وإيقاظهم، وسياسة النفوس المعرضة عن القرآن واستدراجها للاستماع إليه واستمالة العقول بشيء غريب على السمع للانتباه والإصغاء للقرآن.
وأشهر آراء علماء البلاغة والبيان أن هذه الحروف ذكرت للتحدي وبيان إعجاز القرآن وان الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وفي هذا دلالة على أنه ليس من صنع بشر بل تنزيل من حكيم حميد.
ويرى ابن جرير الطبري أن أفضل الآراء في معنى فواتح السور هو اشتمالها على جميع الوجوه التي ذكرها العلماء في معانيها. فهي أسماء للسورة، وهي رموز، وهي حروف للتنبيه والتحدي. إلخ.
وسورة الأعراف هي السورة المكية الثانية في ترتيب المصحف، وهي تتسم بتلك السمات العامة التي أسلفنا الإشارة إليها في الحديث عن سورة الأنعام.
ثم تتميز بطابعها الخاص بعد ذلك من ناحية الموضوعات التي تعالجها والسياق الذي تسير فيه.
وموضوع السورة الرئيس هو الإنذار.. إنذار من يتولون غير الله ومن يكذبون بآيات الله ومن يستكبرون عن طاعة الله، ومن ينسون الله ومن لا يشكرون نعمته. إنذارهم هلاك الدنيا وعذاب الآخرة، ذلك فوق الخزي والهوان والنسيان.
تبدأ السورة بالإنذار، ثم تسلك بهذا المعنى سبلا شتى وتتصرف فيه تصرفات كثيرة وترسم له صورا متعددة وتلمس به المشاعر لمسات مختلفة. فتارة يأخذ السياق شكل القصة : قصة آدم مع إبليس، ثم قصص نوح وهود وصالح وشعيب وموسى مع أقوامهم ؛ لتنتهي كل قصة بالعذاب والنكال لمن يخالفون عن أمر الله، وتارة يأخذ شكل مشهد من مشاهد القيامة أو مشاهد الاحتضار تنكشف فيه مصائر المكذبين المتكبرين، ومصائر الطائعين لله رب العالمين.
ويتخلل القصص والمشاهد ما يتسق مع الجوالعام من توجيه الأنظار والقلوب ومن الدعوة إلى التوبة والإنابة قبل أن يحل العقاب ويتحقق الإنذار ومن الإشارة إلى عواقب المكذبين من الأمم الخالية التي حق عليها النذير.
ويرد كل ذلك في تناسق مطلق بين السياق والقصة أو السياق والمشهد، أو السياق والتوجيهات، فتبدو القصص والمشاهد والتوجيهات كلها أجزاء من هذا السياق العام ملونة بلونه، مظللة بجوه محققة للغرض الذي يتجه إليه موضوع السورة الرئيس من البدء للختام.
مقاصد السورة ومزاياها :
مهدت سورة الأعراف لمقاصدها ببيان عظمة الكتاب، وجلال هدايته وقوة حجته في توضيح الدعوة وإنذار المخالفين بها.
ثم تناولت أهداف الدعوة في مكة، وهي تقرير رسالة الإسلام وبيان أصول هذه الدعوة : توحيد الله في العبادة والتشريع، وتقرير البعث والجزاء، وتقرير الوحي والرسالة بوجه عام، وتقرير رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوجه خاص، وتلك هي أصول الدعوة الدينية التي كانت لأجلها جميع الرسالات الإلهية.
وقد سلكت السورة في طريقة عرض هذه الحقائق أسلوبين بارزين أحدهما : أسلوب التذكير بالنعم والآخر : أسلوب التخويف من العذاب والنقم.
أما أسلوب التذكير بالنعم فنراه واضحا في لفتها أنظار الناس إلى ما يلمسونه ويحسونه من نعمة تمكينهم ونعمة خلقهم وتصويرهم في أحسن تقويم، ونعمة تمتع الإنسان بما في هذا الكون من خيرات سخرها الله له.
أما أسلوب الإنذار والتخويف فهو ظاهر في جو السورة، وفي قصص الأنبياء فيها وقد استغرق هذا القصص أكثر من نصفها، وقد ساقت لنا السورة ما دار بين الأنبياء وأقوامهم، وسجلت السورة جزاء المكذبين بأمر الله الخارجين على دعوة رسله وهدايتهم، وهي ظاهرة تكررت الإشارة إليها في سور القرآن المكي ؛ تحذيرا لأهل مكة أن يصيبهم ما أصاب الأمم من قبلهم.
عرض إجمالي لأجزاء السورة :
سورة الأعراف أول سورة طويلة نزلت من القرآن الكريم وهي أطول سورة في المكي، وهي أول سورة عرضت ؛ لتفصيل في قصص الأنبياء مع أممهم، وقد نزلت بين جملتين من السور المكية : يكثر في الجملة التي نزلت قبلها السور القصيرة، التي تعرف بسور ( المفصل ) ( ٢٥ ). ويكثر في الجملة التي نزلت بعدها السور المتوسطة التي تعرف بسور ( المئين ) ( ٢٦ ).
وتطالعنا سورة الأعراف بالحديث عن عظمة القرآن. وتأمرنا باتباعه وتحذرنا من مخالفته. وتحثنا على العمل الذي تثقل به موازيننا يوم القيامة ( ٢٧ ) في بداية تعد براعة استهلال أو عنوان لما تشمل عليه السورة. وهي سمة غالبة في سور القرآن حيث نجد الآيات الأولى منها عنوانا معبرا عن أهدافها وسماتها.
وفي أول سورة الأعراف يقول سبحانه :
المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون. ( الأعراف : ١ – ٣ ).
ثم ساقت لنا السورة بأسلوب منطقي بليغ قصة آدم مع إبليس. وكيف أن إبليس قد خدعه بأن أغراه بالأكل من الشجرة المحرمة. فلما أكل منها هو وزوجته.
بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.
( الأعراف : ٢٢ ).
ثم وجهت إلى بني آدم نداء في أواخر هذا الربع نهتهم فيه عن الاستجابة لوسوسة الشيطان.
قال تعالى : يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما * إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون... ( الأعراف : ٢٧ ).
وفي الربع الثاني منها نراها تأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد، وتخبرنا بأن الله – تعالى – قد أباح لنا أن نتمتع بالطيبات التي أحلها لنا، وتبشرنا بحسن العاقبة متى اتبعنا الرسل الذين أرسلهم الله لهدايتنا، ثم تسوق لنا في بضع آيات عاقبة المكذبين لرسل الله، وكيف أن كل أمة من أمم الكفر عندما تقف بين يدي الله للحساب تلعن أختها.
قال تعالى : كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابا ضعفا من النار * قل لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون. ( الأعراف : ٣٨، ٣٩ ).
ثم تبين السورة بعد ذلك عاقبة المؤمنين فتقول :
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. ( الأعراف : ٤٢ ).
وفي أواخر هذا الربع وفي أوائل الربع الثالث منها نراها تسوق لنا تلك المحاورات التي تدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وتحكي لنا ما يحصل بينهم من نداءات ومجادلات، تنتهي بأن يقول أصحاب النار لأصحاب الجنة على سبيل التذلل والتوسل :
أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله.
فيجيبهم أصحاب الجنة :
إن الله حرمها على الكافرين * الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا... ( الأعراف : ٥٠، ٥١ ).
ثم تسوق لنا السورة بعد ذلك جانبا من مظاهر نعم الله على خلقه، وتدعونا إلى شكره عليها ؛ لكي يزيدنا من فضله.
وفي الربع الرابع منها وفي أواخر الثالث تحدثنا عن قصة نوح مع قومه، ثم عن قصة هود مع قومه، ثم عن قصة صالح مع قومه، ثم عن قصة لوط مع قومه، ثم عن قصة شعيب مع قومه. ولقد ساقت لنا خلال حديثها عن هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم من العبر والعظات ما يهدي القلوب، ويشفي الصدور ويحمل العقلاء على الاستجابة لهدى الأنبياء والمرسلين.
أما في الربع الخامس منها فقد بينت لنا سنن الله في خلقه، ومن مظاهر هذه السنن أنه – سبحانه – لا يعاقب قوما إلا بعد الابتلاء والاختبار، وأن الناس لو آمنوا واتقوا ؛ لفتح – سبحانه – عليهم بركات من السماء والأرض وأن الذين يأمنون مكر خالقهم هم القوم الخاسرون.
قال تعالى : تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين * وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين. ( الأعراف : ١٠١، ١٠٢ ).
ثم عقبت على ذلك ببيان أن الله تعالى قد ساق قصص السابقين ؛ للعظة والاعتبار.
ثم أسهبت السورة في الحديث عن قصة موسى – عليه السلام – فقصت علينا في زهاء سبعين آية – استغرقت الربع السادس و السابع والثامن – ما دار بينه وبين فرعون من محاولات ومناقشات، وما حصل بينه وبين السحرة من مجادلات ومساجلات انتهت بأن قال السحرة :
آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون. ( الأعراف : ١٢١، ١٢٢ ).
ثم حكت لنا ما لقيه موسى من قومه بني إسرائيل من تكذيب وجهالات، مما يدل على أصالتهم في التمرد والعصيان، وعراقتهم في الكفر والطغيان.
وفي الربع التاسع منها حدثتنا عن العهد الذي أخذه الله على البشر بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم حدثتنا على التفكير والتدبير في ملكوت السموات والأرض، وبينت لنا أن موعد قيام الساعة لا يعلمه سوى علام الغيوب، وأن الرسل الكرام وظيفتهم تبليغ رسالات الله، ثم هم بعد ذلك لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
أما في الربع العاشر والأخير فقد اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله، وأنكرت على المشركين شركهم، ودعت الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم :
خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. ( الأعراف : ١٩٩ ).
وأمرتهم بأن يكثروا من التضرع والدعاء :
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين * إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون. ( الأعراف : ٢٠٥، ٢٠٦ ).
قصة آدم :
ذكرت قصة آدم في سورة البقرة ثم أكملت سورة الأعراف حلقات هذه القصة. وذكرت أن الله خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له ؛ إظهارا لفضله وتنويها بما يكون له من شأن بعد أن سألوا عن الحكمة في خلقه وقد ركبت فيه الشهوة والغضب وبهما يفسد في الأرض ويسفك الدماء.
وذكرت السورة موقف إبليس وإباءه السجود والامتثال لأمر الله، كما ذكرت قصة تأثر آدم بوسوسة الشيطان، وإغرائه إياه بالأكل من الشجرة وكيف كانت عاقبة آدم في الهبوط من الراحة والاطمئنان إلى الكد والتعب، وإلى مكافحة عوامل الشر التي بنيت الحياة عليها وعلى ما يقابلها من عوامل الخير، ومطال
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :آلمص.
هذه فواتح لبعض السور القرآنية، وقد افتتح الله تعالى بعض السور بالنداء مثل :( يا أيها المزمل ) ( يا أيها المدثر ) ( يا أيها النبي اتق الله )، ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله.. ).
وبعض السور بدئت بالقسم، مثل :( والشمس وضحاها ) ( والضحى * والليل إذا سجى.. ) ( والتين والزيتون وطور سنين * وهذا البلد الأمين.. ).
( والذاريات ذروا.. ) ومثل :( والصافات صفا.. ) ( والطور )، ( والنجم )، ( والفجر )، ( والليل )، ( والعاديات )، ( والعصر ) وبعض السور بدئت بالثناء وإثبات الحمد لله.
كما في سورة الفاتحة، ( الحمد لله رب العالمين ) وكما في سورة الأنعام : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور وكما في سورة الكهف :( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب.. ).
حروف المعجم :
افتتح الله تعالى بعض السور القرآنية بالحروف المقطعة وهي حروف المعجم.
فبعض السور بدأ بحرف واحد مثل ن، ق، ص.
وبعض السور بدأ بحرفين مثل : حم، طه، يس.
وبعض السور بدأ بثلاثة أحرف مثل : ألم، طسم، الر.
وبعض السور بدأ بأربعة أحرف مثل المص، المر.
وبعض السور بدأ بخمسة أحرف مثل : حم عسق، كهيعص.
وليس لهذه الحروف معان مستقلة في اللغة العربية فهي لا تكون جملة مفيدة مستقلة.
وقد تكلم العلماء عن معانيها في كتاب الله تعالى، وأشهر آراء العلماء تنقسم إلى قسمين.
القسم الأول : هي حروف استأثر الله تعالى بمعرفة معناها.
القسم الثاني : هي حروف لها معنى وتعددت آراء العلماء في تحديد هذا المعنى.
فمنهم من قال هي أسماء للسورة، ومنهم من قال : هي حروف تشير إلى أسماء الله تعالى أو صفاته.
ومنهم من قال هي دليل على انتهاء سورة وبداية أخرى، ومنهم من قال : حروف للتحدي والإعجاز وبيان أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل هذا القرآن مع أنه مكون من حروف عربية يتخاطبون بها، فدل ذلك على أنه ليس من صنع بشر وإنما تنزيل من حكيم حميد وأصحاب هذا الرأي يرون أن الحروف المقطعة في فواتح السور مجموعها – بعد حذف المكرر منها – هو ١٤ حرفا، ومجموع حروف المعجم في اللغة العربية هو ٢٨ حرفا. فكأن الحق سبحانه يقول : لقد جعلت من نصف الحروف فواتح للسور في هذا الكتاب، وتركت لكم النصف الثاني ؛ لتصنعوا منه كتابا مثله إن استطعتم.
ولاحظ أصحاب هذا الرأي أن فواتح السور حوت من كل جنس من الحروف نصفه، فقد حوت نصف الحروف المهموسة، ونصف الحروف المجهورة، ونصف الشديدة، ونصف الرخوة، ونصف المطبقة، ونصف المنفتحة، وهو لون آخر من ألوان الإعجاز لهذا الكتاب الكريم.
رجوع إلى القرآن الكريم :
وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم، وتتبعنا هذه السور الكريمة، التي بدئت بحروف الهجاء ؛ رأينا أنها في الأعم تحدثت عن نزول القرآن الكريم وإعجازه، فدل ذلك على أن هذه الحروف قد ذكرت في بداية هذه السور ؛ إشارة إلى التحدي والإعجاز.
اقرأ إن شئت : ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه. البقرة.
آلم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق... آل عمران.
آلمص * كتاب أنزل إليك... الأعراف.
آلر تلك آيات الكتاب الحكيم. يونس.
آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. هود.
آلر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون. يوسف.
المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق. الرعد.
الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور... إبراهيم.
الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين. الحجر.
طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. طه.
طسم * تلك آيات الكتاب المبين. الشعراء.
طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون. القصص.
طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين. النمل.
آلم * تلك آيات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين. لقمان.
ص والقرآن ذي الذكر. ص.
حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر.
حم * تنزيل من الرحمن الرحيم. فصلت.
حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون. الزخرف.
حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. الدخان.
ق والقرآن المجيد. ق.
أسباب النزول :
وإذا نظرنا إلى الأسباب العامة لنزول هذه الآيات، وإلى الجو الذي نزلت فيه رأينا أنها كلها سور مكية، ما عدا البقرة وآل عمران وكلها نزلت تجادل كفار مكة وتصرفهم عن عنادهم، وتأخذ بأيديهم وألبابهم إلى مواطن الإعجاز في هذا الكتاب الخالد الذي أنزله الله على نبيه ؛ هداية لهم ونورا لحياتهم ونظاما لسلوكهم، ولكنهم صموا آذانهم عن سماعه وقالوا : أساطير الأولين، وادعوا أنه حديث مفترى، وأنهم لو شاءوا لقالوا مثله، إلى غير ذلك مما كانوا يحاولون به صرف الناس عن القرآن والصد عنه، فبدئت هذه السور بهذا الأسلوب ؛ تأثيرا في قلوبهم ولفتا لأنظارهم. ولا يخفى أن المفاجأة بالغريب الذي لم يؤلف، لها في إرهاف الأسماع وتنبيه الأذهان ما لا يحتاج إلى بيان.
سر الإعجاز :
ولا يبعد أن يكون الإعجاز في هذه الحرف هو اشتمالها على جميع الوجوه التي ذكرها العلماء في معانيها.
فهي بداية للسور، وهي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته، وهي لون من التنبيه الذي يقرع الأذهان ويلفت الغافلين.
وهي مما أقسم الله به ؛ لبيان شرف القرآن وفضله.
وهي مما استأثر الله بحقيقة المراد منه، فكل ما ذكره العلماء اجتهاد محمود ؛ لإدراك أسرارها أو حكمة الابتداء بها.
ولا يزال الله يتفضل على عباده صباح مساء بفهم كتابه واستنباط معانيه، سئل الإمام على رضى الله عنه : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشيء ؟ فقال : لا إلا فهما يعطيه الله لرجل في القرآن.
وصدق الله العظيم : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا. ( الكهف : ١٠٩ ).
التفسير :
المص.
هذه الأحرف بداية لسورة الأعراف، وهي مما استأثر الله تعالى بعلمه.
ويجوز أن تكون بداية للسورة، بمثابة الجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة.
أو هي حروف للتحدي والإعجاز، أو هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته، أو هي اسم خاص بسورة الأعراف والله تعالى أعلم.
حرج : ضيق. يقال : حرج المكان، أو الصدر يحرج حرجا، ضاق، وهو كقوله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك. ( هود : ١٢ ). والحرج أيضا شدة الضيق.
كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه... الآية.
أي : هذا كتاب كريم أنزلناه إليك يا محمد فيه هداية الثقلين، فبلغ تعاليمه للناس، ولا تحزن أو تضجر إذا وجدت من بعضهم صدودا عنك، فما عليك إلا البلاغ، وعلى الله الحساب.
ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يتألم ويحزن ؛ لانصراف قومه عن هداية الله رغم وضوحها وبيانها، وكان القرآن الكريم يواسيه ويحثه على الصبر والتسلية، وعدم الحزن، كما في قوله تعالى : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين. ( الشعراء : ٣ ).
وكما في قوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون.
( الحجر : ٩٧ ).
وكما في قوله سبحانه : ليس عليك هداهم... ( البقرة : ٢٧٢ ).
وكما في قوله تعالى : إن عليك إلا البلاغ... ( الشورى : ٤٨ ).
وقريب من ذلك قوله سبحانه : فلا تأس على القوم الفاسقين.
( المائدة : ٢٦ ).
وقوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون. ( فاطر : ٨ ).
وقد فسر بعض العلماء الحرج بالشك وهو معنى مجازي للحرج، أي : لا يكن في صدرك شك ولا لبس في كون هذا القرآن كتاب الله.
قال الآلوسي :
قوله تعالى : فلا يكن في صدرك حرج منه. أي : شك، وأصله : الضيق واستعماله في الشك مجاز علاقته اللزوم، فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر، كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه.
لتنذر به.
أي : لتنذر به قومك وسائر الناس.
وذكرى للمؤمنين.
أي : لتذكر به أهل الإيمان والطاعة ذكرى نافعة مؤثرة ؛ لأنهم هم المستعدون لذلك، وهم المنتفعون بإرشادك، فالكتاب يذكرهم آنا بعد آن بربهم، وما يحق له من الطاعة.
قال تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين. ( الذاريات : ٥٥ ).
وقال تعالى : تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. ( ق : ٨ ).
وقال تعالى : إنما يتذكر أولوا الألباب. ( الزمر : ٩ ).
لتنذر به : الإنذار الإخبار مع تخويف العاقبة.
وذكرى : أي : وتذكير.
أولياء : أعوان ونصراء جمع ولي.
التفسير :
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم...
أي : اتبعوا القرآن العظيم، والسنة النبوية معه ؛ لأنها تبينه وتفسره فقد قال تعالى : وما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.. ( الحشر : ٧ ).
والآية الكريمة كلام مستأنف خوطب به كافة المكلفين.
قال د. محمد سيد طنطاوي :
أي : اتبعوا أيها الناس ملة الإسلام وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، لأن الذي أنزل عليكم هذه الشريعة هو ربكم، الذي هو خالقكم ومربيكم ومدبر أموركم، والعليم بما فيه مصلحتكم.
ولا تتبعوا من دونه أولياء.
أي : أفردوا الله بالألوهية، ولا تتجاوزونه إلا الشركاء والرؤساء فيما يحللونه ويحرمونه.
قال أبو السعود : ولا تتبعوا من دونه... أي : من دون ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق.
أولياء. من الجن والإنس بأن تقبلوا منهم ما يلقونه إليكم بطريق الوسوسة والإغواء من الأباطيل ؛ ليضلوكم عن الحق، ويحملوكم على البدع والأهواء الزائفة.
قليلا ما تذكرون.
أي : تذكروا قليلا ما تتذكرون.
قال أبو السعود : وقرئ يتذكرون على صيغة الغيبة، وقليلا منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أو لظرف زمان محذوف، وما مزيدة ؛ لتأكيد القلة.
أي : تذكروا قليلا، أو زمانا قليلا تتذكرون لا كثيرا، حيث لا تتأثرون بذلك، ولا تعملون بموجبه، وتتركون دين الله تعالى وتتبعون غيره، ويجوز أن يراد بالقلة ؛ : العدم، كما قيل في قوله تعالى : فقليلا ما يؤمنون.
والجملة قليلا ما تذكرون. اعتراض تذييلي مسوق ؛ لتقبيح حال المخاطبين.
وقال الشوكاني : قليلا ما تذكرون أي : إن البشر يتذكرون الحق في شأن الإيمان قليلا، وينسون ذلك أو يجهلونه كثيرا.
كم : اسم يفيد التكثير.
والقرية تطلق على الموضع الذي يجتمع فيه الناس وعلى الناس معا. وتطلق على كل منهما كما جاء في قوله تعالى : واسأل القرية أي : أهل القرية.
بأسنا : عذابنا، بياتا مصدر وقع الحال معناه : بائتين
والبيات : الإغارة على العدو ليلا والإيقاع به على غرة.
قائلون : نائمون في وسط النهار، والقائلة : الظهيرة والنوم في الظهيرة.
التفسير :
وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون.
قال أبو السعود :
هذا شروع في إنذارهم بما جرى على الأمم الماضية بسبب إعراضهم عن دين الله تعالى، وإصرارهم على اتباع دين آباءهم.
والمعنى : وكثيرا من القرى الظالمة أردنا إهلاكها، فنزل على بعضها عذابنا في وقت نوم أهلها بالليل، كما حصل لقوم لوط، ونزل على بعضها في وقت استراحة أهلها بالنهار كما حصل لقوم شعيب.
قال الشوكاني في فتح القدير : أو هم قائلون والقيلولة : هي نوم نصف النهار، وقيل : هي مجرد الاستراحة في ذلك الوقت ؛ لشدة الحر من دون نوم، وخص الوقتين ؛ لأنهما وقت السكون والدعة.
فمجيء العذاب فيهما أشد وأفظع.
وقال د. طنطاوي :
ومن العبر التي تؤخذ من هذه الآية أن العاقل هو الذي يحافظ على أداء الأوامر واجتناب النواهي، ولا يأمن صفو الليالي، ورخاء الأيام، بل يعيش حياته وصلته بربه مبنية على الخوف والرجاء : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. ( الأعراف : ٩٩ ).
دعواهم : الدعوى : ما يدعيه الإنسان وتطلق على القول أيضا.
التفسير :
فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين.
أي : فما كان منهم عندما باغتهم العذاب في وقت اطمئنانهم، إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه، وشهادتهم ببطلانه ؛ تحسرا عليه. وندامة، وطمعا في الخلاص وهيهات ولات حين نجاة.
الذين أرسل إليهم : هم المرسل إليهم أي : الأمم المرسلين : هم الرسل.
التفسير :
فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين.
والمعنى : فلنسألن المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم الذين جاءوا لهدايتهم.
ولنسئلن المرسلين عما أجيبوا من قومهم، وعن تبليغهم لرسالات الله.
وسؤال المكذبين للرسل ؛ للتوبيخ والتقريع للمكذبين بهم، وفيه بيان لعذابهم الأخروي بعد عذابهم الدنيوي.
وسؤال الرسل ؛ لتكريمهم وإظهار شرف عملهم، وتبرئة ساحتهم حيث يقول بعض المشركين : ما جاءنا من بشير ولا نذير... ( المائدة : ١٩ ).
قال الشوكاني في فتح القدير :
ولنسئلن المرسلين. أي : الأنبياء الذين بعثهم الله، نسألهم عما أجاب به أممهم عليهم، ومن أطاع منهم ومن عصى، وكل ذلك ؛ ليكون معلوما أننا ما ظلمنا أهل تلك القرى، عندما أهلكناهم، بل كانوا هم الظالمين بتكذيبهم للرسل. اه.
فلنقصن : فلنحكين : يقال : قص الخبر يقصه قصا : حكاه.
التفسير :
فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين.
أي : فلنقصن على الرسل والمرسل إليهم، كل ما وقع منهم عن علم دقيق وإحصاء شامل ؛ لأننا لا يغيب عنا شيء من أحوالهم.
قال تعالى : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب. ( المائدة : ١٠٩ ).
والحق سبحانه وتعالى هنا يعرض الغائب حاضرا، ويستعرض القيامة وأهوالها وأحوالها ؛ ليضع الإنسان أمام نفسه، تبصرة وتذكرة، وهذه من ألوان تعريف القول في القرآن الكريم فهو حينا يعرض أخبار الأمم الماضية وأحوالها، وهو حينا يعرض مظاهر الكون وبديع صنع الله في الخلق، وهو حينا آخر يستعرض القيامة والبعث والحشر والسؤال والصراط والميزان، حتى يشاهد الإنسان بعينيه في الدنيا مشاهد القيامة كأنها بين يديه ؛ ليزداد عظة وعبرة.
يقول الشيخ محمود شلتوت سيخ الجامع الأزهر في تفسير العشرة أجزاء الأولى للقرآن الكريم :
والذي يهمنا هنا أن نقرر أن هذا السؤال لم يكن سؤال استفهام ولا استخبار، وإنما هو سؤال تبكيت وتنديد، فليس في السائل مظنة أن يجهل، ولا في المسئول مظنة أن ينكر : وهو تصوير لما يكون من شعور المكذبين بتكذيبهم، وشعور المرسلين بتبليغهم، وهو نوع من تسجيل الحجة على من أنكرها، وأعرض عنها في الوقت الذي كان يجد به الإقبال عليها والإيمان بها، وهو نوع من زيادة الحسرة، وقطع الآمال في النجاة، بوضع يد المجرم على جسم جريمته، وهو في الوقت نفسه نوع من زيادة الأمن والطمأنينة للرسل في القيام بدعوتهم، وتبليغهم ما أمروا بتبليغه، ولعل كل ذلك يرشد إليه قوله تعالى : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين.
والوزن يومئذ الحق : أي : الوزن الحق أي : الصحيح يكون يومئذ.
التفسير :
والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون.
أي : توزن أعمال العباد يوم القيامة بالميزان وزنا حقيقيا طبقا للعدل الذي لا ظلم فيه.
فمن ثقلت موازينه. أي : رجت أعماله الصالحة الموزونة.
فأولئك هم المفلحون. أي : الفائزون بالنجاة والثواب.
أي : ومن خفت موازين أعماله، أو أعماله التي لا وزن لها ولا اعتداد بها، وهي أعماله السيئة.
فأولئك الذين خسروا أنفسهم، بسبب ما اقترفوا من سيئات أدت بهم إلى سوء العقاب، فلم يعاملوا آيات الله بما تستحق من تعظيم، فكذبوا بها وظلموا الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وقد اختلف العلماء في كيفية الوزن :
فقال بعضهم : إن التي توزن هي صحائف الأعمال، التي كتبت فيها الحسنات والسيئات ؛ تأكيدا للحجة، وإظهارا للنصفة وقطعا للمعذرة.
وقيل : إن الوزن هنا كناية عن القضاء السوي، والعدل التام في تقدير ما يمكن به الجزاء من الأعمال، وذكر الوزن إنما هو ضرب مثل كما تقول هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه، أي : يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن.
من كلام المفسرين :
جاء في تفسير أبي السعود ما يأتي :-
( والجمهور على أن صحائف الأعمال هي التي توزن بميزان له لسان وكفتان ينظر إليه الخلائق ؛ إظهارا للمعادلة وقطعا للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم، فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم، ويشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد، وكما يثبت في صحائفهم، فيقرءونها في موقف الحساب، ويؤيده ما روى أن الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر له تسعة وتسعون سجلا مد البصر، فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة.
وقيل : يوزن الأشخاص ؛ لما روى عنه عليه الصلاة والسلام :( إنه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ) ( ٢٨ ).
وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل، وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك، واختاره كثير من المتأخرين : بناء على استعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكناية.
وروى عن ابن عباس أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة، وبالأعمال السيئة على صور قبيحة.
وجاء في حاشية الجمل على الجلالين ما يأتي :
فإن قلت : أليس الله تعالى يعلم مقادير أعمال العباد فما الحكمة في وزنها ؟
قلت : فيه حكم : منها : إظهار العدل، وأن الله تعالى لا يظلم عباده، ومنها : امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى، ومنها : تعريف العباد بما لهم من خير أو شر، وحسنة أو سيئة، ومنها : إظهار علامة السعادة والشقاوة، ونظيره أن الله سبحانه أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ، وفي صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم، من غير جواز النسيان عليه. ا ه.
والذي علينا هو الإيمان بأن في الآخرة وزنا للأعمال، وأنه على مقدار ما يظهر يكون الجزاء، وأنه وزن أو ميزان يليق بما يجري في ذلك اليوم، أما كيفية هذا الوزن وهل هو وزن للأعمال، أو للأشخاص فمرده إلى الله، الذي يعلم النوايا ومقدار الإخلاص والتجرد وهو نعم الحسيب المكافئ القائل في كتابه :
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما. ( النساء : ٤٠ ).
وهو سبحانه القائل : وكفى بالله حسيبا. ( النساء : ٦ ).
ولقد مكناكم في الأرض : أي : مكناكم من سكناها، وزرعها، والتصرف فيها.
التفسير :
ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون.
هذه الآية فيها بيان لنعم الله على بني آدم ؛ استمالة لقلوبهم إلى الإيمان بالله الخالق الرازق.
والمعنى : ولقد جعلنا لكم في الأرض مكانا وقرارا، وهيئنا لكم فيها أسباب المعايش، وأنشأنا لكم فيها أنواعا شتى من المطاعم والمشارب التي تعيشون بها عيشة راضية، ولكن كثيرا منكم لم يقابلوا هذه النعم بالشكر، بل قابلوها بالجحود والكفران !.
ولقد خلقناكم ثم صورناكم : أي : خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ؛ ثم صورناه أبدع تصوير، بأحسن تقويم سرى إليكم.
التفسير :
ولقد خلقاكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين.
أي : ولقد خلقنا أباكم آدم من طين غير مصور، ثم صورناه بعد ذلك وأنتم بالتبع، وقيل : المعنى : ولقد خلقنا الأرواح أولا، ثم صورنا الأشباح.
جاء في تفسير أبي السعود : وفي هذه الآية تذكير لنعمة عظيمة فائقة على آدم عليه السلام سارية إلى ذريته لشكرهم كافة. بالرمز إلى أن لهم حظا من خلقه وتصويره، إذ الكل مخلوق في ضمن خلقه مصنوع على شاكلته.
أي : خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور، ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم ساد إليكم جميعا ( ٢٩ ).
ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين.
أي : أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تعظيم وخضوع وتحية، لا عبادة فامتثلوا الأمر، وفعلوا السجود بعد الأمر، من غير تلعثم أو تباطؤ.
إلا إبليس لم يكن من الساجدين.
أي : لكن إبليس لم يسجد وأبى السجود ؛ تكبرا.
هل كان إبليس من الملائكة ؟
للعلماء في ذلك رأيان :
أحدهما أنه كان منهم، أو مقيما معهم فنسب إليهم.
جاء في تفسير أبي السعود : لما أنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم فغلبوا عليه في فسجدوا ثم استثنى استثناء واحد منهم، أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم : الجن ( ٢٠ ).
الرأي الثاني : أن إبليس ليس من الملائكة. لقوله تعالى :
إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه. ( الكهف : ٥٠ ) فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من نار والملائكة خلقوا من نور، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة.
ما منعك ألا تسجد : ما ألزمك واضطرك إلى ألا تسجد، فالمنع مجاز عن الإلجاء والاضطرار، والاستفهام للتوبيخ والتقريع.
التفسير :
قال ما منعك ألا تسجد... الآية.
أي : قال الله تعالى لإبليس : ما حملك ودعاك إلى ألا تسجد ؟ !
والسؤال لإقامة الحجة، وللتقريع والتوبيخ، وإلا فهو سبحانه عالم بذلك.
قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. أي : قال إبليس أنا خير من آدم ؛ لأني مخلوق من عنصر النار الذي هو أشرف من عنصر الطين والأشراف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه، والأعلى لا يليق به السجود للأدنى.
ولقد أورد المفسرون هنا كلاما لطيفا يفيد أن عدو الله قد أخطأ في زعمه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين.
فإن الطين من شأنه الرزانة والأناة والتثبت، وهو محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح، والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة.
ولهذا خان إبليس عنصره، ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله.
جاء في تفسير أبي السعود :
ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر، وزل عنه ما من جهة الفاعل كما أنبأ عنه قوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي. أي : بغير واسطة على وجه الاعتناء به.
وما من جهة الصورة كما نبه عليه بقوله تعالى : ونفخت فيه من روحي.
وما من جهة الغاية وهو ملاك الأمر فهو مؤهل للخلافة في الأرض، وله خواص ليست لغيره ( ٣١ ).
وجاء في تفسير ابن كثير :
وقول إبليس : أنا خير منه... إلخ من العذر الذي هو أكبر من الذنب ؛ إذ بين بأنه خير من آدم ؛ لأنه خلق من النار وآدم خلق من الطين فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه.
وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص، وهو قوله تعالى : فقعوا له ساجدين.
فشذ من بين الملائكة ؛ لترك السجود فأبعده الله عن رحمته.
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم )( ٣٢ ).
فاهبط : أي : فانزل، والهبوط : الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه، أو من منزلة إلى ما دونها، فهو إما حسي وإما معنوي.
أن تتكبر : التكبر : جعل الإنسان نفسه أكبر مما هي عليه.
من الصاغرين : أي : من الأذلاء المحقرين، وهو جمع صاغر.
التفسير :
قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين.
أي : اهبط في السماء التي هي محل المطيعين من الملائكة، الذين لا يعصون الله فيما أمرهم، إلى الأرض التي هي مقر من يعصي ويطيع.
أو اهبط من الجنة بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي، وقيل : إن الضمير يعود على روضة كانت على مرتفع في الأرض، خلق فيها آدم.
فما يكون لك أن تتكبر فيها. فإن السماء أو إن الجنة لا تصلح لمن يستكبر، ويعصى أم ربه مثلك.
فاخرج إنك من الصاغرين. أي : اخرج من الجنة ؛ فأنت من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه ؛ لتكبرك وغرورك.
وكل من تردى برداء الاستكبار ؛ عوقب بلبس رداء الهوان والصغار، ومن لبس رداء التواضع ؛ رفع الله قدره.
قال تعالى : ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم... ( الأنفال : ٥٣ ).
وجاء في تفسير القرآني للقرآن :
( الضمير منها يعود إلى المنزلة التي كان فيها إبليس قبل هذه المعصية والهبوط هنا : هبوط معنوي.
والمعنى : اخرج أيها الشيطان المريد من هذه النعمة التي خولتك إياها ورفعت بها منزلتك، حتى اتخذت منها حجة على هذا العصيان لأمري، فتأبى أن تسجد لمن دعوتك إلى السجود له... فما يكون لك أن تتكبر في هذه النعمة، وتختال بها... وها أنت ذا قد أصبحت من الصاغرين، قد نزع عنك ما كنت تدعيه لنفسك من منزلة تعاليت بها على هذا المخلوق الآدمي، الذي خلق من طين... ! ) ( ٣٣ ).
أنظرني : أمهلني، يقال : أنظره إنظارا : أمهله.
التفسير :
قال أنظرني إلى يوم يبعثون.
أي : قال إبليس لله تعالى : أمهلني ولا تمتنى إلى يوم بعث آدم وذريته من القبور، وهو وقت النفخة الثانية عند قيام الساعة.
قال تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ( الزمر : ٦٨ ).
وكأن إبليس قد طلب ألا يموت أبدا ؛ لأن يوم البعث لا موت بعده، كما أراد بذلك أن يجد فسحة من الإغواء لبني آدم.
المنظرين : الممهلين المؤخرين.
التفسير :
قال إنك من المنظرين.
أي : إنك من الممهلين، لا إلى يوم البعث ولكن إلى يوم الصعق، قيل : الحكمة في إنظاره ؛ ابتلاء العباد ؛ ليعرف من يطيعه ممن يعصيه.
جاء في تفسير أبي السعود :( أي : إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه الحكمة التكوينية، إلى وقت فناء غير ما استثناه الله تعالى من الخلائق، وهو النفخة الأولى، لا إلى وقت البعث الذي هو المسئول ) ( ٣٤ ).
وقال ابن كثير : أجابه الله تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة، التي لا تخالف ولا تمانع ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.
أغويتني : أي أضللتني وأوقعتني في الغواية، وهي ضد الرشاد.
التفسير :
قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم.
أي : فبسبب إضلالك إياي – حتى تركت السجود لآدم، فعاقبتني العقوبة المهلكة – لأترصدن لآدم وذريته على طريق الحق وسبيل النجاة، كما يترصد قطاع الطرق السائرين فيها، فأصدنهم عنها، وأحاول بكل السبل إغراءهم، وصرفهم عن صراطك المستقيم، حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم، ولن أتكاسل عن العمل على إفسادهم وإضلالهم.
أي : سوف آتيهم من كل الجهات، محاولا إغواءهم عن صراطك المستقيم وهو طريق الجنة ) بكل وسيلة أقدر عليها.
وقد ذكر الجهات الأربع الأصلية التي اعتاد العدو أن يهاجم عدوه منها، وترك جهة الفوق ؛ لأن الرحمة تنزل من فوقهم.
وعن ابن عباس ( ٣٥ ) رضي الله عنهما : من بين أيديهم من قبل الآخرة ومن خلفهم من جهة الدنيا وعن أيمانهم من جهة حسناتهم وعن شمائلهم من جهة سيئاتهم.
وقيل : من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز.
ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون.
وعن أيمانهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا، ولكن لم يفعلوا ؛ لعدم تيقظهم واحتياطهم.
وعن شمائلهم من حيث لا يتيسر لهم ذلك.
ولا تجد أكثرهم شاكرين.
أي : لن تجد أكثر البشر مطيعين مستعملين لقواهم وجوارحهم، في طريق الطاعة والتقرب إلى الله.
وإنما قال ذلك ؛ ظنا منه بتأثير وسوسته فيهم، وإغوائه لهم، ورغبته في إضلالهم عن الأعمال الصالحة، ومحاولة إفسادها.
قال تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين. ( سبأ : ٢٠ ).
وقد حذرنا القرآن من اتباع الشيطان فهو عدو مبين حريص على النجاح في مهمته، ومهمته إضلال الإنسان وغوايته.
وواجب الإنسان الحذر من إضلال الشيطان والانتصار عليه.
قال تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا. ( فاطر : ٦ ).
وقال سبحانه : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. ( الأعراف : ٢٠١ ).
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عبد الله ابن عمر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يترك هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي يقول :
( اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي ( ٣٦ ).
مذءوما : يقال : ذأمه يذأمه ذأما أي : ذمه وحقره وطرده وعابه.
مدحورا : أي : مطرودا يقال : دحره يدحره دحرا، طرده ودحر الجند العدو أي : طردوه وأبعدوه.
لمن تبعك منهم : اللام مواطئة للقسم، وجوابه : لأملأن جهنم.
التفسير :
قال اخرج منها مذءوما مدحورا... الآية.
أي : اخرج من السماء أو من الجنة مذموما مطرودا.
لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين.
في هذا قسم وإنذار من الله تعالى لمن ترك طاعة الرحمن واتبع طريق الشيطان.
والمعنى : لمن أطاعك من الجن والإنس لأملأن جهنم من كفارهم، وقريب منه قوله تعالى : قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا. ( الإسراء : ٦٣ ).
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين.
أي : وقلنا : يا آدم، اسكن في الجنة سكنا أصليا، وتسكن زوجتك معك سكنا تبعيا.
ولكما أن تأكلا أكلا هنيئا، من جميع أشجار الجنة وثمارها.
إلا شجرة واحدة حددها الله وعينها، ونهاهما عن الاقتراب منها بالأكل، وبين أن الأكل منها ظلم وعدوان.
ويتعلق بتفسير هذه الآية أمور منها ما يأتي :
الجنة : هي كل بستان ذي شجر متكاثف ملتف الأغصان، يظلل ما تحته ويستره.
ومن هذه المادة الجن ؛ لأنه مستور لا يرى، والمجن ؛ لأنه يستر المحارب، والجنين ؛ لأنه مستور عن العين ؛ والمجنون لأن عقله مستور محجوب، وجن الظلام : ستر ما تحته.
٢- جمهور أهل السنة على أن المراد بالجنة هنا : دار الثواب، التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة ؛ لأن هذا هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق.
٣- جمهور أهل السنة على ان المراد بالجنة هنا : بستان بمكان مرتفع من الأرض، خلقه الله لإسكان آدم وزوجته.
ذهب أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدي في التأويلات إلى أن الأحوط والأسلم الكف عن تعيين المراد بالجنة وعن القطع به، إذ ليس لهذه المسألة تأثير في العقيدة فيكفي أن يعلم المسلم أن الله أسكن آدم الجنة سواء أكان المراد بالجنة جنة الآخرة، أم بستانا في هذه الدنيا.
قال تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة والقرب : الدنو والاقتراب من الشجرة، والمنهى عنه هو الأكل من ثمار الشجرة والنهي عن القرب هنا قصد منه المبالغة في النهي عن الأكل ؛ إذ في النهي عن القرب من الشيء نهى عن فعله من باب أولى، ونلمح أن القرآن عندما تحدث عن أشياء محرمة، ذكر ذلك بصيغة التحريم مثل : حرمت عليكم الميتة والدم... ( المائدة : ٣ ). أو بالنهي عنها مثل : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.... ( الإسراء : ٣٣ ).
لكن عندما يكون المنهي عنه مرغوبا للنفس، تدفع إليه الشهوة والرغبة ؛ فإنه ينهى عن الاقتراب منه مثل : ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا. ( الإسراء : ٣٢ ).
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن... ( الإسراء : ٣٤ ).
يا أيها الذين آمونا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى.... ( النساء : ٤٣ ).
وكقوله تعالى في هذه الآية ولا تقربا هذه الشجرة........ لأن في هذه الأمور رغبة نفسية أو جسدية، فنهى القرآن عن الاقتراب منها فضلا عن فعلها، بخلاف القتل مثلا تدفع إليه شهوة أو رغبة فقال سبحانه :
ولا تقتلوا النفس... وكذلك أكل الميتة قال سبحانه : حرمت عليكم الميتة...
فوسوس لهما : ألقى إليهما الوسوسة : يقال : وسوس له وإليه، وهي في الأصل : الصوت الخفي المكرر، ومنه قيل لصوت الحلى : وسوسة. وسوسة الشيطان للبشر : ما يجدونه في أنفسهم من الخواطر الرديئة التي تزين لهم ما يضرهم في أبدانهم أو أرواحهم.
ليبدي لهم : لتكون عاقبة ذلك أن يظهر لهما ما ستر عنهما من عوراتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر.
ما وري : من المواراة وهو الستر.
سوآتهما : السوءة : العورة وسميت العورة سوأة ؛ لأن انكشافها يسوء صاحبها.
إلا أن تكونا ملكين : أي : كراهة أن تكون ملكين، أو لئلا تكونا ملكين.
التفسير :
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما... الآية.
أي : ألقى إليهما إبليس بالوسوسة والإغراء والتزيين للأكل من الشجرة حتى يسوءهما بظهور ما كان مستورا عنهما من عوراتهما.
فإنهما كانا لا يريان عورة أنفسهما، ولا يراها أحدهما من الآخر.
ثم قد قيل : إنما بدت عوراتهما لهما لا لغيرهما.
وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.
لقد حاول إبليس خداع آدم وحواء، فأغواهما بالأكل من الشجرة، وذكر لهما أنها منية النفس، وأن الأكل منها طريق إلى الترقي من البشرية إلى الملائكية، أو إلى الخلود في الجنة والبقاء فيها بدون موت أو طرد أو حرمان.
وقاسمهما : أي : أقسم لهما وجاء على وزن المفاعلة للمبالغة.
التفسير :
وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين.
أي : أقسم لهما بالله إنه لهما لمن الناصحين المخلصين الذين يسعون لمنفعتهما.
وفي قوله : وقاسمهما إشارة إلى تنازع الأقسام بينه وبينهما، وكأن في سكوتهما عنه قسما منهما باتهامه والحذر منه، ولهذا صح أن تكون المقاسمة شركة بينهما وبينه.
وقيل : إنهما أقسما له بالقبول، كما أقسم لهما على المناصحة، أي : فصدقه آدم وحواء، ولم يخطر ببالهما أنه كاذب مضل ( ٣٧ ).
فدلاهما بغرور : أي : فأنزلهما إلى الأكل من الشجرة بما غرهما من دلى الشيء وأدلاه، أي : أنزله من أعلى إلى أسفل.
وطفقا : أي : شرعا وأخذا.
يخصفان : يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة من قولهم : خصف الاسكافي النعل، إذا وضع عليها مثلها.
التفسير :
فدلاهما فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما... الآية.
التدلية والإدلاء : إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل، وأصله أن الرجل العطشان يدلى في البئر بدلوه ؛ ليشرب من مائها، فإذا ما أخرج الدلو لم يجد به ماء، يكون مدليها فيها بغرور.
والغرور : إظهار النصح مع إبطان الغش، وأصله من غررت فلانا أي : أصبت غرته وغفلته، ونلت منه ما أريد.
والمعنى : أن الشيطان أهبطهما بذلك من الرتبة العلية وهي رتبة الطاعة والكرامة، بما خدعهما به من اليمين الكاذبة.
فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة...
أي : لما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، أخذتهما العقوبة. وشؤم المعصية، فتساقط عنهما لباسهما، وظهرت لهما عوراتهما، وشرعا يلزقان من ورق الجنة، ورقة فوق أخرى على عوراتهما لسترها.
وقوله تعالى : وطفقا يخصفان... إشارة إلى موالاة الخصف من ورق الشجر.. والخصف : جمع الشيء إلى الشيء وخياطته به، ومنه خصف النعل إذا جمعت بعضه إلى بعض بإلصاق أو خياطة.
قال الشيخ حسنين محمد مخلوف في صفوة البيان لمعاني القرآن :
ولعل المعنى – والله أعلم – إنهما لما ذاقا الشجرة، وقد نهيا عن الأكل منها ظهر لهما أنهما قد زلا، وخلعا ثوب الطاعة، وبدت منهما سوأة المعصية، فاستحوذ عليهما الخوف والحياء من ربهما، فأخذا يفعلان ما يفعل الخائف الخجل عادة في الاستتار والاستخفاء حتى لا يرى، وذلك بخصف أوراق الجنة عليهما ليستترا بها، ومالهما إذ ذاك حيلة سوى ذلك ؛ فلما سمعا النداء الرباني بتقريعهما ولومهما، ألهما أن يتوبا إلى الله، ويستغفرا من ذنبهما بكلمات من فيض الرحمة الإلهية، فتاب الله عليهما وهو التواب الرحيم، وقال لهما فقط، أو لهما ولذريتهما، أو لهما ولإبليس : اهبطوا من الجنة إلى الأرض ؛ لينفذ ما أراد الله من استخلاف آدم وذريته في الأرض، وعمارة الدنيا بهم إلى الأجل المسمى، ومنازعة عدوهم لهم فيها، والله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرا.
وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة...
أي : ناداهما الله بطريق العتاب والتوبيخ، حيث خالفا أمر الله فأكلا من الشجرة بعينها، ولم يحذرا ما حذرهما منها، فقال سبحانه لهما، ألم أنهكما عن الأكل من هذه الشجرة ؟ !
وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. أي : ألم أقل لكما : إن الشيطان لكما عدو ظاهر العداوة لا يفتر عن إيذائكما وإيقاع الشر بكما.
جاء في تفسير أبي السعود :
روى أنه تعالى قال لآدم : ألم يكن فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة، فقال : بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا، قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كدا، فاهبط وعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث، فحرث وسقى وحصد ودرس وذرى وعجن وخبز.
اعترف آدم وحواء بالخطإ، والتمسا من ربهما الصفح والمغفرة، فقالا : ربنا ظلمنا أنفسنا أي : أضررناها بالمعصية والمخالفة.
وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
لقد اعترف آدم بخطئه، وطلب من الله المغفرة والرحمة ؛ حتى لا يصير من الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة، خلافا لإبليس الذي لم يعتذر عن معصيته، ولم يستغفر ربه، بل استكبر، فهذا الإنسان من طبيعته الخطأ، ولهذا كان أهلا لتحمل الأمانة، فمن أفراده من يحسن تحملها، ومن أفراده الظلوم الغشوم.
وقد سبقت حكمة الله وإرادته ان يوجد الإنسان في هذه الأرض ومعه العقل والإرادة والاختيار، فمن أطاع الله فله الجنة، ومن عصاه فله النار، ومن تاب إلى الله قبل الله توبته، وقد قبل الله توبة آدم.
قال تعالى : وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى. ( طه : ١٢١، ١٢٢ )
وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ).
أي : انزلوا من الجنة إلى الأرض حالة كون العداوة لا تنفك بين آدم وذريته، وبين إبليس وشيعته، ولكم في الأرض مستقر. أي : موضع استقرار وإقامة، ومتاع : أي : تمتع ومعيشة إلى حين انقضاء آجالكم.
والخطاب في اهبطوا إما أن يكون لآدم وحواء وذريتهما. وإما أن يكون لهم ولإبليس أيضا، فإن عداوة إبليس لبني آدم قد ذكرت مرارا في القرآن الكريم وتكررت هنا في سورة الأعراف.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير. ( فاطر : ٦ )
إن ميدان الاختبار والابتلاء هو هذه الأرض وقد شاء الله أن يخرج آدم من الجنة ؛ ليكون ذلك سببا في إعمار الأرض.
وسيترتب على ذلك الزراعة والتجارة والصناعة، والتقدم والاختراع والابتكار، وسيترتب على ذلك التنافس والتنازع، وسيدخل إبليس على الإنسان من ناحية ماله أو شهوته أو ولده، فإذا انتصر الإنسان ؛ فهو من الناجين، وإذا انهزم أمام إبليس وأطاعه، فهو من الهالكين.
والحياة والمعاش على ظهر هذه الأرض، وبعد الوفاة والموت يدفن الإنسان في باطن الأرض، وبعد البعث والحشر يخرج الإنسان من الأرض إلى الحشر كما قال تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى. ( طه : ٥٥ ).
أنزلنا عليكم : أعطيناكم ووهبنا لكم، على حد قوله تعالى : وأنزلنا الحديد بمعنى : خلقنا لكم الحديد.
يواري سوآتكم : يستر ويواري عوراتكم.
ريشا : لباس زينة او مالا.
لباس التقوى : الإيمان وثمراته.
التفسير :
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم... الآية.
لما ذكر القرآن في آيات سابقة أن معصية آدم تسببت في ظهور عورته، وخصف الورق عليها، وكذلك حواء، أتبع ذلك بذكر فضل الله على بني آدم، حيث ألهم الإنسان أن يزرع الأرض، ويستنبط بعقله وفكره أسباب ستره، ثم أسباب الزينة والرياش من الملابس الفاخرة، ثم أنزل الله على الإنسان الكتب، وأرسل له الرسل ؛ ليهديه إلى لباس التقوى والإيمان، وكل ذلك من آيات الله وفضله على الإنسان ؛ حتى يتذكر الإنسان هذه النعم فيعترف لله تعالى بالشكر وبالعبادة.
قال الشوكاني في تفسيره فتح القدير :
تذكروا واعتبروا بما أنزل اله عليكم من مادة اللباس، وذلك من الصوف والقطن والحرير وما إليها، وبما ألهمكم وخلق فيكم من الغرائز ؛ لمعرفة طرق استنباتها وصناعتها بالغزل والنسيج والخياطة وسائر أنواع صناعة الملابس.
وقد امتن الله بها على بني آدم ؛ ليستر عوراتهم التي أبدأها لهم إبليس.
وريشا : المراد بالريش هنا : لباس الزينة، أي : إن الملابس التي ألهم الله بني آدم اتخاذها حكمتها الستر والزينة.
ولباس التقوى ذلك خير. لباس التقوى هو لباس الإيمان والعمل الصالح والورع واتقاء معاصي الله والخشية من الله، فذلك خير لباس وأجمل زينة، وقيل : هو الدرع والمغفر الذي يلبسه من يجاهد في سبيل الله ( ٣٨ ).
ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون.
أي : ذلك أنزله الله على بني آدم من النعم من دلائل قدرته وإحسانه عليهم، لعلهم بعد ذلك لا يعودون إلى النسيان الذي أوقع أبويهم في المعصية.
لا يفتننكم : لايضلنكم ولا يخدعنكم.
ينزع عنهما : يزيل عنهما استلابا بخداعه.
قبيله : جنوده أو ذريته.
أولياء : ناصرين ومتولين جمع ولي.
التفسير :
لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة... الآية.
يستمر الدستور الإلهي في توصية الإنسان وتنبيهه وتحذيره.
فهناك عداوة أبدية بين الإنسان والشيطان، والعاقل يكون حذرا من عدوه فالحرب خدعه، والشيطان يجهز جيوشه وأعوانه ؛ لينتصر على الإنسان وذلك بتجميل المعاصي والشهوات.
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب في التفسير القرآني للقرآن ج ٨ ص ٣٨٦ :
يحذر الله أبناء آدم من هذا العدو المبين المتربص بهم ؛ حتى يكونوا على يقظة دائمة من أباطيله وضلالاته، التي يغريهم بها، ويزينها لهم، ليفتنهم في دينهم، وليخرجهم من الإيمان بالله، والاستقامة على طاعته إلى معصيته والتعدي على جرماته.
ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما...
لقد حذر الله بني آدم من الشيطان ؛ حتى لا يعيد معهم سيرته مع أبويهم، اللذين أخرجهما من الجنة حال كونه نازعا عنهما لباسهما ؛ ليريهما سوءاتهما.
وأسند القرآن النزع إلى الشيطان ؛ لأنه كان متسببا فيه.
قال الشوكاني :
أوقعهما في المعصية التي كانت عقوبتهما ظهور ما كان خافيا عنهما من السوأة.
وقد عبر القرآن بالمضارع هنا ؛ لإظهار صورة الأبوين عاريين في غاية الخجل والأسى ؛ حتى يحذر الإنسان هذه العاقبة.
إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم.
إن العدو إذا أتى من حيث لا يرى ؛ كان أشد وأخوف، فالشيطان عدو خفي يرى الإنسان، ويرصد حركاته وسكناته، ويطلع منه على مواطن الضعف فينفذ إليه منها، ومن هنا كان خطره داهما، وشره مستطيرا، ومن هنا كانت حاجة الإنسان إلى اليقظة الدائمة والمراقبة المستمرة لهذا العدو الخفي المتربص.
قال مالك بن دينار : إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا على من عصمه الله.
والمقصود : التحذير من وساوس الشيطان وحيله.
إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون.
اقتضت حكمة الله تعالى، أن من عصى الله واستمرأ المعصية ؛ قيض الله له شيطانا يقارنه ويلازمه، ويكون العاصي والكافر قرينا وتابعا للشيطان، بينما المؤمن ينفى شيطانه ويجهده ؛ لأنه لا يطيع له أمرا.
قال تعالى : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. ( الأعراف : ٢٠١ ).
وقال سبحانه وتعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين. ( الزخرف : ٣٦ ).
والقرآن بهذا يظل كتاب التربية الحانية، التي تفتح عين الإنسان وتبصره.
فهداية الله غالية سامية، ومن انحرف عن الجادة واستمرأ المعصية ؛ سلب الله عنه الهدى والتوفيق، وتركه حائرا ضائعا قرينا للشيطان ووليا لإبليس وذريته. إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون.
ومن أطاع الله، ولازم هدى السماء، كشف الله بصيرته وأمده بعونه ومدده فلا سلطان للشيطان عليه قال تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون. ( النحل : ٩٩، ١٠٠ ).
فعلوا فاحشة : أتوا فعلة متناهية في القبح.
التفسير :
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها... الآية.
كانت العرب تطوف بالبيت عراة، يتأولون في ذلك : أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها.
وربما كانت المرأة تطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئا ؛ ليستره بعض الستر، وأكثر ما كان النساء يطفن عراة ليلا، وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله ؛ فأنكر الله عليهم ذلك ( ٣٩ ).
ومع هذا السبب الخاص فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومعنى الآية الكريمة :
إن المشركين كانوا يرتكبون الكبائر، والقبائح التي نهى الله عنها، كالشرك بالله، والطواف بالكعبة عريا وغير ذلك، وليس بين أيديهم من حجة على هذا الذي هم فيه إلا أن ذلك مما كان عليه آباؤهم، وأنهم على آثارهم مقتدون، وأن آباؤهم لم يجيئوا بهذا من عند أنفسهم، بل هو مما شرع الله لهم، هكذا يقولون وهكذا يفترون.
قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون.
أمر الله الناس بالآداب ومكارم الأخلاق، وحثهم على الإيمان بالله وصلة الرحم وإكرام الجار ورحمة اليتيم، ونهى الله عن الفحشاء والمنكر والزنا والربا والإفساد في الأرض.
قال أبو السعود : فإن عادته تعالى جارية على الأمر بمحاسن الأعمال، والحث على مراضي الخصال.
والمراد بالفاحشة : ما ينفر عنه الطبع السليم، ويستنقصه العقل المستقيم.
والفاحشة في حد ذاتها تجاوز لحدود الله، وانتهاك لحرماته، فهل من المعقول أن يأمر الله بانتهاك حدوده وحرماته.
أي : قل لهم يا محمد : إن كلامكم هذا يناقضه العقل والنقل، أما أن العقل يناقضه ويكذبه ؛ فما تفعلونه هذا من أكبر الكبائر، ولا خلاف بيننا وبينكم في ذلك، بدليل أن بعضكم قد تنزه عنه.
ثم إن الله كامل كمالا مطلقا، والكامل لا يصدر عنه الأمر بالنقص والعيب، وأما أن النقل يناقضه ويكذبه ؛ فلأنه لم يثبت عن طريق الوحي أن الله أمر بهذا، بل الثابت أن الله لا يأمر به قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أي : فكيف تدعون ذلك عليه سبحانه.
أتقولون على الله ما لا تعلمون. وفيه نهى عن ذلك وإنكار عليهم، وتوبيخ لهم، فإن القول بالجهل إذا كان قبيحا في كل شيء فكيف إذا كان في التقول على الله ؟ !
بالقسط : بالعدل وهو جميع الطاعات والقرب.
وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد : أي : وتوجهوا إلى عبادته مستقيمين في أي مسجد، ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم.
التفسير :
قل أمر ربي بالقسط و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد... الآية.
لقد أمر الله بالعدل والتوسط والاعتدال، كما أمر بالتقوى وإخلاص العمل لله، والاتجاه بالصلاة إلى الله.
قال أبو السعود : والقسط : العدل وهو الوسط في كل شيء، المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط.
وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد. توجهوا إلى عبادة الله مستقيمين، أو أقيموا وجوهكم نحو القبلة عند كل مسجد حضرتكم الصلاة عنده، ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم. وادعوه مخلصين له الدين. أي : اعبدوه حال كونكم مخلصين الدعاء أو العبادة له وحده، ولا تشركوا به شيئا.
وأكثروا في التضرع إليه بخالص الدعاء وصالحه ؛ فإن الدعاء مخ العبادة.
كما بدأكم تعودون.
كما بدأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته، تعودون إليه بالبعث والحشر والجزاء يوم القيامة.
وقيل : كما أخرجكم من بطون أمهاتكم تعودون إليه كذلك ليس معكم شيء.
حق عليهم الضلالة : أي : أوجب عليهم الضلالة، يقال : حق الأمر : أوجبه وأثبته.
أولياء : أي : نصراء وموالي.
التفسير :
فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة... الآية.
أي : تعودون فريقين، فريقا هداه الله ووفقه للإيمان والعمل الصالح، وفريقا ضلوا وأغواهم الشيطان.
فأعرضوا عن طاعة الرحمن، وكل فريق يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه.
جاء في تفسير المنار :
ومعنى حقت عليهم الضلالة : ثبتت بثبوت أسبابها الكسبية ؛ لأنها جعلت غريزة لهم، فكانوا مجبورين عليها، يدل على هذا تعليلها على طريق الاستئناف البياني بقوله :
إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون.
ومعنى اتخاذهم الشياطين أولياء : أنهم أطاعوهم في كل ما يزينونه لهم في الفواحش والمنكرات، ويحسبون أنهم مهتدون. فيما تلقنهم الشياطين إياه من الشبهات. اه.
وهكذا كل ضال يزين له ضلاله الفتنة والغواية، ويريه أنه على الصراط المستقيم، والله سبحانه وتعالى يقول : أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا... ( فاطر : ٨ ).
خذوا زينتكم : البسوا ثيابكم ؛ لستر عوراتكم.
التفسير :
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين.
خلق الله الإنسان في هذه الحياة، وخلق له وسائل الحياة ووسائل الزينة المباحة الحلال، وأمره أن يأخذ نصيبه من الزينة، وأن تكون الزينة في وجوه الخير والعبادة، فالأعمال بالنيات، وشتان بين من يتزين لإثارة الفتنة، وإغواء الناس، ومن يتزين متجها إلى بيوت العبادة والطاعة.
والآية دعوة إلهية إلى أن نهتم بالصلاة وأماكن العبادة، وأن الزينة الحسنة، والسمت الجميل، عند الاتجاه إلى المساجد، وبذلك يألف الناس المساجد والمجامع والمحافل، ويتم التعارف والتآلف والتودد.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن إهمال حسن المظهر وإهمال الشعر والثوب، ونهى عن أكل البصل والثوم قبيل الاجتماعات، وكل ما يجعل الإنسان مزعجا للآخرين.
كان أحد الصحابة مهملا في لباسه وشعره ؛ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ألك زوجة تهتم بك ؟ قال : نعم. قال : اذهب إلى زوجتك ؛ لتأخذ لك من شعرك، ولتنظف لك ثوبك ؛ فإنك سيد في قومك، وما أراه لا يليق بك.
وهكذا علم النبي أصحابه النظافة والسمت الحسن، وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( تزينوا وتنظفوا واستاكوا فإن بني إسرائيل ما كانوا يفعلون ذلك فزنت نساؤهم ) ( ٤٠ ).
كما حث الإسلام على العناية بالمسجد ونظافته وحسن رعايته، حتى يؤدي دوره الروحي التثقيفي القيادي، قال تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة...
( النور : ٣٦، ٣٧ ).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( من أكل ثوما أو بصلا ؛ فليعتزلنا ) ( ٤١ ).
والمعنى : فليعتزل مساجدنا.
لقد بني الدين على النظافة، ولذلك شرع الله الوضوء والاغتسال وطهارة الثوب والبدن والمكان، وقال سبحانه : فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ( التوبة : ١٠٨ ).
وهذه الآية دعوة لبني آدم أن يتزينوا بزينة الله عند التوجه إلى المساجد.
وهذه الآية دعوة لبني آدم. هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا، فإنه عام في كل مسجد للصلاة ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقال ابن عباس : كان بعض العرب يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، يقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فأنزل الله تعالى :
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ( ٤٢ ).
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين.
وفي هذه الفقرة أساس سلامة الجسم والنفس، ودعوة إلى أن يأخذ الناس حظهم من طيبات الحياة، وأن يذوقوا نعم الله التي وضعها بين أيديهم، ولكن في غير إسراف بل في قصد واعتدال.
روى أن بني عامر كانوا أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم، فهم المسلمون بمثله فنزلت ( ٤٣ )
ولا تسرفوا. بتحريم الحلال، أو بالتعدي إلى الحرام، أو بالإفراط في الطعام والشره عليه.
قال البخاري : قال ابن عباس :( كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة ( ٤٤ ).
وجاء في تفسير فتح القدير للشوكاني :
( نهاهم عن الإسراف، فلا زهد في ترك مطعم ولا مشرب، وتاركه بالمرة قاتل لنفسه وهو من أهل النار ).
والمقلل منه على وجه يضعف به بدنه، ويعجز عن القيام بما يجب عليه القيام به من طاعة، أو سعى على نفسه، وعلى من يعول، مخالف لما أمر الله به وأرشد إليه، والمسرف في إنفاقه على وجه لا يفعله إلا أهل السفه والتبذير، مخالف لما شرعه الله لعباده، واقع في النهي القرآني... ) اه.
إنه لا يحب المسرفين. أي : لا يرتضي فعلهم.
قال ابن كثير : قال بعض السلف : جمع الله الطب في نصف آية في قوله تعالى : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا.
وكان الإمام الحسن بن علي إذا قام إلى الصلاة لبس أحسن ثيابه، فقيل له : يا ابن بنت رسول الله ؛ لم تلبس أجمل ثيابك ؟ فقال : إن الله جميل يحب الجمال، فأنا أتجمل لربي ؛ لأنه هو القائل : خذوا زينتكم عند كل مسجد ( ٤٥ ).
أي : قل يا محمد لأولئك الذين يطوفون بالبيت عريا، ويمتنعون عن أكل الطيبات : من أين أتيتم بهذا الحكم، الذي عن طريقه حرمتم على أنفسكم ما أحله الله لعباده، فالاستفهام لإنكار ما هم عليه بأبلغ وجه.
جاء في فتح القدير للشوكاني :
الزينة : ما يتزين به الإنسان من ملبوس أو غيره من الأشياء المباحة كالمعادن والجواهر ونحوها، فلا حرج على من لبس الثياب الجديدة الغالية القيمة، إذا لم يدخل في حد الإسراف، ولم يكن مما حرمه الله، ولا حرج على من تزين بشيء من الأشياء التي لها مدخل في الزينة ولم يمنع منها مانع شرعي، ومن زعم أن ذلك يخالف الزهد ؛ فقد غلط.
والطيبات من الرزق. أي : وهكذا الطيبات من المطاعم والمشارب، فإنه لا زهد في ترك الطيب منها، ولهذا جاءت الآية للإنكار على من حرم على نفسه، أو حرمه على غيره، وترك أكل اللحم والطيبات المستلذات من الطعام، من اللحم والفاكهة والحلويات وغيرها، مما طاب كسبا ومطعما، فهو داخل في هذا النهي.
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة ولا سرف ؛ فإن الله سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ( ٤٦ ).
قل هي للذين آمونا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة.
أي : قل أيها الرسول لأمتك : هذه الزينة والطيبات من الرزق يستمتع بها الذين آمنوا في الحياة الدنيا بالأصالة، وإن شاركهم الكفار فيها ما داموا في الحياة.
أما في الآخرة فهي خالصة للمؤمنين ولا يشاركهم فيها أحد ممن أشرك مع الله آلهة أخرى.
كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون. أي : مثل هذا التفصيل نفصل سائر الأحكام، لقوم يعلمون ما في تضاعيفها في معان عالية وآداب سامية.
الفواحش : كبائر المعاصي لمزيد قبحها.
الإثم : ما يوجبه من سائر المعاصي.
البغي : الظلم والاستطالة على الناس.
سلطانا : حجة وبرهانا.
التفسير :
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن... الآية.
أي : قل يا محمد لهؤلاء الذين ضيقوا على أنفسهم، ما وسعه الله عليهم، إن الذي حرمه الله عليكم هو هذه الأنواع الخمس :
الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وهي كل كبيرة وقبيحة من الأقوال والأفعال، وقيل : إن الفواحش تطلق على الزنا وما اتصل به من شهوة الفرج، والزنا محرم سواء كان في السر أم في العلن.
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أي : حرم الله المعاصي التي اشتدت شناعتها، ومنها : الزنا، واللواط، والفجور، والشذوذ، وسائر الانحراف، سواء ما أعلن من الفواحش، وما أسر منها.
٢، ٣ – والإثم والبغي بغير الحق.
الإثم : هو الشيء الذي يوجب الإثم، ويعتبر فعله معصية.
والبغي : هو الظلم والتطاول على الناس، وتجاوز الحد أو الكبر.
وقيل : الإثم : هو الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه.
والبغي : هو التعدي على الناس.
فحرم الله هذا وهذا.
بغير الحق. قيد البغي بكونه بغير الحق ؛ تأكيدا له في المعنى، وتذكيرا بأنه عمل مجاف للحق خارج عليه.
٤- وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا.
أي : وأن تجعلوا لله شريكا لم ينزل عليكم به حجة، وكل شرك لا حجة له ولا دليل، وإنما وصف الشرك بأنه لم ينزل به سلطانا من باب التهكم بالمشركين، وتنبيه على تحريم اتباع ما لا يدل عليه برهان.
جاء في التفسير القرآني للقرآن للأستاذ عبد الكريم الخطيب ما خلاصته :
إن الشرك بالله لا حجة له ولا سلطان، لا من العقل ولا من النقل، والمراد من الجملة : تحريك دواعي التفكير والحذر عند المؤمن ؛ حتى يحذر الشرك الخفي والاستظلال بظل كبير أو خطير ؛ لأن المؤمن يرى أن كل شيء لله، وأنه ليس لأي مخلوق مهما بلغ من جاه أو سلطان، سبيل إلى شيء من ملك الله.
٥- و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون.
أي : أن تقولوا : إن الله حرم هذا، وأحل هذا، بدون معرفة أو علم بحقيقة أن الله قال ذلك، مثل ما كانوا ينسبون إلى الله سبحانه من التحليلات والتحريمات التي لم يأذن بها.
جاء في تفسير المنار :
( ومن تأمل هذه الآية حق التأمل ؛ فإنه يجتنب أن يحرم على عباد الله شيئا، أو يوجب عليهم شيئا في دينهم، بغير نص صريح عن الله ورسوله، بل يجتنب أيضا أن يقول : هذا مندوب أو مكروه في الدين بغير دليل واضح من النصوص، وما أكثر الغافلين عن هذا، المتجرئين على التشريع.. ).
أجل : وقت مضروب الله أعلم به.
ساعة : أقل وقت يمكن فيه قضاء عمل من الأعمال.
التفسير :
ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
أي : ولكل أمة من الأمم المهلكة حد معين من الزمان، مضروب لمهلكهم، فإذا جاء الأجل المقدر لإهلاك الأمة نفذ فيها نفاذا محكما، بدون تقديم أو تأخير، كما حدث لقوم لوط وشعيب ونوح... وغيرهم.
يقصون : أي : يخبرون، يقال : قص الخبر يقصه قصا وقصصا : رواه.
التفسير :
يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والمعنى : يا بني آدم إن أتاكم رسل من أبناء جنسكم، يخبرونكم بأحكامي وبينوها لكم، فآمنوا بهم وأطيعوهم وصدقوهم وتابعوهم، فالناس حيال الرسول فريقان : فريق اتقى الله وأصلح نفسه وعلمه، فهذا لا خوف على أفراده ولا ظلم.
ولا هم يحزنون. يوم القيامة على ما أصابهم في الدنيا.
أما الفريق الذي كذب الرسل، وكفر بالآيات التي يقصها عليهم رسلنا واستكبر عن إجابة الرسل، والعمل بما شرع الله، هذا الصنف يلازم جهنم كأنهم أصحابها، وهؤلاء يخلدون في النار ولا يخرجون منها بسبب كفرهم.
ضلوا عنا : أي : تاهوا عنا.
التفسير :
فمن أظلم ممن اقترف على الله كذبا أو كذب بآياته... الآية.
أي : لا أحد أظلم ممن اقترف معصية الكذب على الله، فشرع من الدين ما لم يأذن الله به، او كذب بما جاءت به الرسل، أو أحل الحرام أو حرم الحلال.
أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب.
أي : هؤلاء الكاذبون على الله، والمكذبون لما أتاهم من الله، سيوفون نصيبهم في الدنيا، ويحصلون على ما قدر لهم من خير وشر، وما كتب لهم في الأزل.
حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم.
أي : حتى إذا جاء إليهم ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم.
قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله.
أي : سألهم ملك الموت وأعوانه سؤال توبيخ وتقريع ؛ أين الآلهة التي كنتم تدعونها من دون الله وتعبدونها ؟ ! ابحثوا عنها ؛ لتنفعكم اليوم !
قالوا ضلوا عنا : أي : غابوا عنا وصرنا لا تدري مكانهم، أو أضاعونا فلا يدرون أين نحن.
وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين. أي : أقروا على أنفسهم بالكفر.
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب في التفسير القرآني للقرآن :
والشهادة هنا هي استيقانهم بواقع أمرهم، وأنهم كانوا على ضلال وكفر.. وتلك هي الشهادة التي شهدوا بها على أنفسهم، فكان حكما عليهم، أدانوا أنفسهم به، قبل أن يدينهم الديان.
قال ادخلوا في أمم : أي : قال لهم الله، أو قال لهم أحد الملائكة.
قد خلت : أي : قد مضت، يقال : خلا يخلوا خلوا أي : مضى، ومنه السنون الخالية، أي : الماضية.
اداركوا فيها : تلاحقوا في النار واجتمعوا فيها.
أخراهم : منزلة وهم الأتباع والسفلة.
لأولاهم : منزلة وهم القادة والرؤساء.
عذابا ضعفا : أي : مضاعفا ؛ لأنهم ضلوا وأضلوا.
قال لكل ضعف : القادة منهم ؛ لأنهم ضلوا وأضلوا، والتباع ؛ لأنهم كفروا وقلدوا.
التفسير :
قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها... الآية.
قال الله تعالى لأولئك المكذبين : ادخلوا ضمن أمم من الجن والإنس قد سبقتكم في الكفر، وشاركتكم في الضلالة، كما دخلت أمة من الأمم الماضية لعنت أختها. أي : الأخرى التي سبقتها إلى النار، أو أختها في الدين والملة، فالأمة المتبوعة تلعن التابعة ؛ لأنها زادتها ضلالا، والأمة التابعة تلعن المتبوعة، لأنها ضلت بالاقتداء بها.
حتى إذا اداركوا فيها جميعا. أي : تداركوا وتلاحقوا في النار.
والتدارك : التلاحق والتتابع، والاجتماع في النار، أي : أدرك بعضهم بعضا.
قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فاتهم عذابا ضعفا من النار.
أي : قالت أخراهم دخولا وهم سفلتهم وأتباعهم، لرؤسائهم وكبارهم، ربنا هؤلاء السادة أضلونا ؛ وسنوا لنا الضلال، فاقتدينا بهم ؛ فضاعف لهم العذاب مرات ومرات ؛ لأنهم ضلوا وأضلوا.
قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون.
أي : لكل طائفة منكم ضعف من العذاب، أما القادة ؛ فلما ذكر من الضلال والإضلال، وأما التباع ؛ فلكفرهم وتقليدهم.
ولكن لا تعلمون.
أي : ولكنكم يا معشر المقلدين، لا تعلمون ذلك ؛ لجهلكم وانطماس بصيرتكم.
أي : قال الزعماء لأتباعهم بعد أن سمعوا رد الله عليهم ؛ إنا وإياكم متساوون في استحقاق العذاب، وكلنا فيه سواء لأنا لم نجبركم على الكفر، ولكنكم أنتم الذين كفرتم باختياركم، وضللتم بسبب جهلكم، فذوقوا العذاب المضاعف مثلنا، بسبب ما اكتسبتموه في الدنيا من قبائح ومنكرات.
وهذا الخصام بين أهل النار، حيث يلقي بعضهم اللوم على بعض، ويتمنى بعضهم زيادة العذاب للبعض الآخر، مع أنهم كانوا في الدنيا أصدقاء وأخلاء. قال تعالى : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين. ( الزخرف : ٦٧ ).
يلج الجمل : يدخل الجمل.
سم الخياط : ثقب الإبرة، ومنه قولهم : حتى يشيب الغراب.
التفسير :
إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط... الآية.
لقد تعنت المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبين القرآن جانبا من سلوكهم، وهو التكذيب بآيات الله والاستكبار عن اتباع دين الله، هؤلاء لا امل لهم في دخول الجنة فقد علق الله على دخولهم الجنة على امر مستحيل وهو دخول الجمل الكبير الجسيم في خم إبرة صغير.
أو دخول الحبل الغليظ في خرم إبرة صغيرة.
ونلمح في الآية أن صلة الموصول فيها تمهيد للحكم حيث قال تعالى : إن الذين كذبوا بآياتنا. الذين اسم موصول، وكذبوا بآياتنا واستكبروا عنها صلة الموصول. وقد بينت صلة الموصول ما يستحقون من عقاب، حيث كان الجواب :
لا تفتح لهم أبواب السماء.
قال الشوكاني في فتح القدير :( لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا، وقيل : أبواب السماء لأدعيتهم إذا دعوا، ولا لأعمالهم إذا عملوا، فلا ترفع إلى الله ولا تقبل، بل ترد عليهم فيضرب بها وجههم.
ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط.
لا يدخلون الجنة بحال من الأحوال، ولهذا علقه بالمستحيل فقال : حتى يلج الجمل في سم الخياط.
وخص سم الخياط وهو ثقب الإبرة ؛ لكونه غاية في الضيق.
والجمل : الذكر من الإبل، وقيل : الحبل الغليظ من القنب ومن ذلك قول العرب : حتى يشيب الغراب.
وكذلك نجزي المجرمين.
ومثل ذلك الجزاء الرهيب، نجزي جنس المجرمين، الذي صار الإجرام وصفا لازما لهم.
غواش : أغطية كاللحف.
التفسير :
لهم من حهنم مهاد ومن فوقهم غواش.
المهاد : الفراش، والغواش : الأغطية.
أي : إن هؤلاء المكذبين لهم نار جهنم تحيط بهم، فهي من تحتهم بمنزلة الفراش، ومن فوقهم بمنزلة الغطاء.
وكذلك نجزي الظالمين. أي : ومثل ذلك الجزاء نجزي كل ظالم ومشرك، جزاء ظلمه وكفرانه.
ومن شأن القرآن أن يقابل بين عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة، فبضدها تتميز الأشياء.
وسعها : طاقتها وما تقدر عليه.
التفسير :
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
إنهم عملوا يسيرا واستفادوا كثيرا، ويدل على ذلك جملة : لا نكلف نفسا إلا وسعها.
جاء في حاشية الجمل على الجلالين :
وإنما حسن وقوع لا نكلف نفسا إلا وسعها. بين المبتدأ والخبر ؛ لأنه سبحانه لما ذكر عملهم الصالح، ذكر أن ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم، وغير خارج عن قدرتهم، وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظيم قدرها، يتوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة ولا صعوبة.
وقال الشوكاني في تفسير فتح القدير :
لا نكلف نفسا إلا وسعها. أي : نكلف العباد بما يدخل تحت وسعهم ويقدرون عليه، ولا نكلفهم ما لا يدخل تحت وسعهم.
غل : حقد وضغن وعداوة.
أورثتموها : أورثكم الله إياها.
التفسير :
ونزعنا ما في صدورهم من غل... الآية.
ينزع الله ما في قلوبهم من حقد بعضهم على بعض، حتى تصفوا قلوبهم ويود بعضهم بعضا، فإن الغل لو بقى في صدورهم كما كان في الدنيا ؛ لكان في ذلك تنغيص لنعيم الجنة ؛ لأن المتشاحنين لا يطيب لأحدهم عيش مه وجود الآخر.
والغل : الحقد الكامن في الصدور، وقيل : نزع الغل في الجنة : ألا يحسد بعضهم في تفاضل المنازل.
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب في التفسير القرآني للقرآن ( ٤٧ ) :
( وعلام يتباغضون ؟ ! والخير يملأ كل ما حولهم، ليس لأحد منهم حاجة في شيء إلا وجدها بين يديه ؛ فليس فيهم غني وفقير، وشقي وسعيد، إذ كلهم أغنياء من فضل الله سعداء برحمته ورضوانه ).
تجري من تحتهم النهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا.
هم ينعمون في غرفهم والأنهار تجري من تحتهم، وهم يلهجون بشكر ربهم، الذي هداهم إلى الإيمان ووفقهم لمرضاة الله، والفوز بهذا النعيم العظيم.
وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. أي : ما كنا نطيق أن نهتدي بهذا لأمر لولا هداية الله لنا.
لقد جاءت رسل ربنا بالحق. أي : قالوا ذلك اغتباطا بما صاروا فيه من نعمة.
ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون.
نادى المنادي من قبل الله تعالى لأهل الجنة ؛ تهنئة لهم بنعمة الله عليهم، هذه هي الجنة وجبت لكم، وحقت كما يحق الميراث لوارثه، وقد ورثتموها بسبب أعمالكم في الدنيا، وهذا من فضل الله، فالعمل الصالح لا يؤهل لدخول الجنة وحده، وإنما يدخل الناس الجنة بفضل الله تعالى. ويقتسمونها بأعمالهم في الدنيا.
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لن يدخل أحدا عمله الجنة، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد في إحسانه، وإما مسيئا فلعله أن يتوب ) ( ٤٨ ).
فأعمال الإنسان مهما عظمت لا تكافئ نعمة واحدة من الله على الإنسان، وهي نعمة البصر.
والجنة جزاء عظيم، والعمل مهما عظم، فهو ثمن ضئيل لعظمة دخول الجنة.
ثم إن الله هو المتفضل على الإنسان بالتوفيق للعمل الصالح، والمتفضل عليه بدخول الجنة.
قال ابن عباس : أنفس هو خالقها ؛ وأموال هو رازقها، يطلبها منا ثم يمنحنا عليها الجنة إنها لصفقة رابحة.
وهذا عند تفسيره لقوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن... الآية ( التوبة : ١١١ ).
فأذن مؤذن : أعلم معلم من الملائكة، أي : نادى مناد.
التفسير :
ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا قالوا نعم... الآية.
تعرض الآيات مشهدا من الحوار الذي يدور يوم القيامة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وهو حوار يمثل الرضا والسعادة والفوز والامتنان من جانب المؤمنين، ويمثل الحسرة والذلة والحرمان والقلق من جانب الكافرين.
وإنه لتصوير قوي بارع، يحرك إليه النفوس، ويهز المشاعر، ويبين أن النهاية الأليمة المتوقعة لهؤلاء المكذبين، إنما هي تسجيل اللعنة عليهم، والطرد والحرمان من رحمة الله بسبب ظلمهم وانحرافهم.
قال الشوكاني في فتح القدير :
ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار.
أي ينادونهم بعد أن يستقر كل من الفريقين في منزله.
أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا.
أي : إنا قد وصلنا إلى ما وعدنا الله به من النعيم، فهل وصلتم إلى ما وعدكم الله به من العذاب الأليم ؟ اه.
قالوا : نعم. أي : وجدنا ما وعدنا ربنا حقا وفي رواية.
نعم. بكسر العين وهي لغة فيه، كما يقول أبو السعود في التفسير.
فأذن مؤذن أن لعنة الله على الظالمين.
أي : نادى مناد من الملائكة، أو هو نداء الكون والحق والعدل. ( وهذا المنادي من أمور الغيب التي لا تعلم علما صحيحا إلا من التوقيف المستند إلى الوحي، وما ورد في ذلك فهو من الآثار التي لا يعتمد عليها ( ٤٩ ).
وقال أبو السعود : قيل : هو صاحب الصور.
أن لعنة الله على الظالمين.
إنه صوت الوجوه كله. يلعن الظالمين ويخزيهم ويفضح ما كان منهم من كفر بالله وصد عن سبيله.
يبغونها عوجا : يطلبونها معوجة أو ذات اعوجاج.
التفسير :
الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا... الآية.
لقد كان هؤلاء الكفار يصدون أنفسهم عن سبيل في الله، ويصدون غيرهم عن طريق الحق المستقيم، ويريدونها طريقا معوجة، قائمة على الضلال والبغي والعدوان.
وهم بالآخرة كافرون.
لقد كذبوا بالآخرة وأنكروا البعث والحشر والجزاء، وكان هذا سر عدوانهم وظلمهم، فالعقيدة السليمة تؤدي إلى السلوك السليم. كما يقول الشاعر :
وإذا كان القلب أعمى عن الرش د فما تفيده العينان ؟
بينهما حجاب : حاجز وهو سور بينهما.
وعلى الأعراف : أي : أعراف الحجاب، أي : أعاليه، جمع عرف مستعار من عرف الفرس : وقيل : العرف ما ارتفع من الشيء.
رجال : أي : طائفة من الموجودين قصروا في العمل فحبسوا بين الجنة والنار حتى يقضي الله فيهم.
بسيماهم : بعلامتهم المميزة.
التفسير :
وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم.. الآية.
والمعنى : بين أهل الجنة والنار حاجز سميك، يعزل كل فريق عن الآخر عزلة كاملة، لا ينفذ منها شيء من نعيم الجنة إلى أصحاب النار، كما لا ينفذ منها شيء من عذاب جهنم ولفحها إلى أهل الجنة، ولكنهم مع هذا بمرأى ومسمع من بعض.
أصحاب العراف :
الأعراف في اللغة : المكان المرتفع، ومنه : عرف الديك الذي هو أعلى شيء فيه، ومنه : المعرفة بالشيء حيث تكشفه وتستولي على حقيقته.
وأصحاب الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
فلم تكثر حسناتهم ليدخلوا الجنة، ولم تكثر سيئاتهم ليدخلوا النار.
فهم في منزلة بين المنزلتين. يشاهدون أصحاب الجنة وما يتقلبون فيه من النعيم، ويتمنون أن يكونوا مثلهم.
ويشاهدون أصحاب النار وما يتقبلون فيه من الجحيم، ويدعون الله ألا يكونوا معهم.
وهم أشبه بالنظارة والمشاهدين الذين يشجعون الفريق الفائز في مباراة أو مناظرة، وهناك آراء كثيرة في أصحاب الأعراف.
قال الشوكاني : وقد اختلف العلماء في أصحاب الأعراف.
فقيل : هم الشهداء، وقيل : هم فضلاء المؤمنين، فرغوا من شغل أنفسهم، وتفرغوا لمطالعة أحوال الناس، ذكره مجاهد.
وقيل : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، قد قصرت بهم أعمالهم عن دخول الجنة، ثم يدخلون الجنة بفضل الله ورحمته، وهم آخر من يدخلها، وقيل : هم ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار ( ٥٠ )
وعلى العراف رجال يعرفون كلا بسيماهم.
والمعنى : أن رجال الأعراف على شرفات عالية، يعرفون كل فريق من أهل الجنة وأهل النار بعلامتهم المميزة، فأهل الجنة من علاماتهم بياض الوجوه ونعيمها، وإشراق الأمن والسلامة والرضا عليهم.
وأهل النار سود الوجوه، على وجوههم غبرة ترهقها قترة، قد استولى عليهم الكرب والفزع، واشتد بهم البلاء.
قال تعالى : وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة. ( عبس : ٣٨ – ٤٢ ).
ويلا حظ أن البياض هنا كناية عن النعيم، والسواد كناية عن الحزن والجحيم، وليس في هذا ميزة لأبيض على أسود في الدنيا ؛ ( لأن الله لا ينظر إلى صوركم وأشكالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) ( ٥١ ).
وفي محاورة بين أبيض وأسود قال الأسود :
ألم تر أن سواد المسك لا شيء مثله وأن بياض اللفت حمل بدرهم
وأن سواد العين لا شك نورها وأن بياض العين لا شيء فاعلم
فقال الأبيض :
ألم تر أن بياض القمر لا شيء مثله وأن سواد الفحم حمل بدرهم
وأن رجال الله بيض وجوههم وأن سود الوجوه مأواهم جهنم
وهي كما ترى مماحكات لفظية ؛ لأن سود الوجوه في الدنيا إذا عملوا أعمالا صالحة، ابيضت وجوههم يوم القيامة، وبيض الوجوه إذا علموا أعمالا سيئة اسودت وجوههم يوم القيامة، فالسواد والبياض من أثر العمل الصالح أو السيء والمنزلة السامية أو الهابطة في الآخرة.
وقد تحدث القرآن عن المنافقين فقال : وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة... ( المنافقون : ٤ ).
وقال تعالى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم.. ( التوبة : ٥٥ ).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : كم من وجه صبيح، وجسم مليح، ولسان فصيح، غدا بين أحشاء النار يصيح )
وقال : صلى الله عليه وآله وسلم :( رب أشعت أغبر ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ) ( ٥٢ ).
ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم.
أي : نادى رجال الأعراف أصحاب الجنة حين رأوهم بالتحية والتكريم والتشجيع فقالوا : سلام عليكم وتعجب أهل الجنة من هؤلاء الذين يقدمون لهم التحية والتكريم، وهم في مرحلة عالية فاصلة، من هم ؟ !
فأجاب الحق سبحانه :
لم يدخلوها وهم يطمعون.
أي : لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف، ولكنهم يطمعون في دخولها ؛ لما يرون في فضل الله ورحمته على أهل الجنة، وأن الله تعالى تغلب رحمته غضبه، وروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال لأصحاب الأعراف : أنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم ) ( ٥٣ ).
والفريق الثالث : أصحاب الأعراف. فهم قد باركوا أهل ا لجنة، وسلموا عليهم سلام تحية وتقدير.
وهم ينظرون إلى أصحاب النار فيجدون عذابهم وسوء حالهم، فيستعيذون بالله أن يكونوا مثلهم ويلهجون بدعاء الله ألا يجعلهم مع القوم الظالمين. أي : مع أصحاب النار.
قال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :
( وقد أفاد هذا التعبير بالفعل المبني للمجهول، أنهم يوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة، ويلقون إليهم السلام. وأنهم يكرهون رؤية أصحاب النار، فإذا صرفت أبصارهم تلقاءهم من غير قصد ولا رغبة، بل بصارف يصرفهم إليها، قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.
ثم قال : والإنصاف أن هذا الدعاء أليق بحال استوت حسناتهم وسيئاتهم، وكانوا موقوفين، مجهولا مصيرهم... ).
هذه صور من المحاجة والمناظرة، فيها براعة الوصف وإبراز المعقول في صورة المحسوس.
والمعنى : نادى أصحاب الأعراف على رجال من زعماء الكفار، كانوا يعرفونهم في الدنيا ؛ لأنهم رءوس الكفر والضلال، أو عرفوهم في الآخرة لما شاهدوا عليهم من المذلة والانكسار.
فقال أصحاب الأعراف لهؤلاء الكافرين ؛ تبكيتا لهم وإذلالا : بماذا نفعكم تجميع الناس بالباطل حولكم، واستكباركم عن استماع الحق والاستجابة إليه.
وفي الآية كلمة : يعرفونهم بسيماهم. أي : يعرفونهم من علامتهم وهي سواد وجوههم وظهور الكآبة والخزي على نفوسهم.
كذلك فإن جموع الكفر كانت تجتهد في إكثار جموعها، وتكابر وتعاند، فكان هذا الاستفهام الانكاري عقوبة عادلة لتقريعهم، حيث يقول لهم أصحاب الأعراف :
ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون.
أي : إن أهل الأعراف يزيدون في توبيخهم وتقريعهم، فيقولون لهم – ويشير أصحاب الأعراف إلى أهل الجنة من الفقراء والمستضعفين – أهؤلاء الفقراء والضعفاء الذين كنتم تعذبونهم في الدنيا، وقد أقسمتم في الدنيا أن الله لن يشملهم برحمته، أو فعلتم بهم ما ينبئ عن ذلك. هؤلاء يقال لهم : ادخلوا الجنة لا خوف عليكم. بعد هذا ولا أنتم تحزنون. فلا يعرفون الحزن ولا يجدونه ؛ فالجنة قد فتحت لهم أبوابها، وتمتعوا فيها بسائر صنوف النعيم :
وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور.
( وكلمة ادخلوا تكون من كلام أصحاب الأعراف، وفيها تلوين الخطاب، وتوجيه الكلام لهم، والانتقال من مخاطبة الكافرين إلى مخاطبة فقراء المؤمنين، أي : ادخلوا الجنة على رغم أنوف الكافرين ).
( ويجوز أن يكون الكلام موجها إلى أصحاب الأعراف أي : قيل لأصحاب الأعراف : ادخلوا الجنة بفضل الله تعالى، بعد أن حبسوا وشاهدوا أحوال الفريقين وعرفوهم، وقالوا لهم ما قالوا ) ( ٥٤ ).
أفيضوا علينا : صبوا أو ألقوا علينا.
التفسير :
٥٠- ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين.
لقد ذهب أصحاب الأعراف إلى الجنة، ولم يبق على الساحة إلا أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وعندئذ يدور حوارآخر يتقدم فيه أهل النار بطلب إلى أهل الجنة، يطلبون منهم أن يتفضلوا عليهم بإفاضة الماء من الجنة عليهم، أو إرسال شيء مما رزقهم الله في الجنة من ثمار وخيرات ونعيم، حتى يخفف شيئا من الجحيم الذي يعذبون فيه، ولكن الجواب يأتيهم من أهل الجنة بالرفض، فقد منع الله ذلك النعيم، منعا كليا على أهل النار، فلا يستطيع أهل الجنة مواساة أهل النار بشيء مما حرمه الله عليهم، ومنعه عنهم.
غرتهم الحياة الدنيا : خدعتهم بزخارفها وزينتها.
ننساهم : نتركهم في العذاب كالمنسيين.
وما كانوا : وكما كانوا.
التفسير :
٥١- الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون.
عندما أجاب أهل الجنة أهل النار بأن الله حرم نعيم الجنة على الكافرين ؛ تكفل الحق سبحانه بتوضيح أسباب الحكم، وبيان حيثياته، فذكر في هذه الآية أنهم اتخذوا دينهم مادة للسخرية والتلهي، وصرف الوقت فيما لا يفيد، فأصبح الدين صورا ورسوما، لا تزكى نفسا، ولا تطهر قلبا، ولا تذهب خلقا، أو أنهم حرموا منا أحل الله من البحيرة والسائبة... وسخروا بدين محمد، وانصرفوا عنه إلى اللهو واللعب قال تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية. ( الأنفال : ٣٥ ).
فقد انصرفوا عن العبادة الحقة إلى التصفيق والصفير.
وغرتهم الحياة الدنيا. شغلتهم لذائذها ومتعها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله.
فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا. أي : يهملهم الله تعالى فلا يستجيب لهم دعاء ولا يسمع لهم قولا.
قال أبو السعود : فاليوم ننساهم. نفعل بهم ما يفعل الناس بالمنسي، من عدم الاعتداد بهم، وتركهم في النار تركا كليا.
كما نسوا لقاء يومهم هذا.
أي : ننساهم نسيانا مثل نسيانهم لقاء يومهم هذا، أو بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم.
وما كانوا بآياتنا يجحدون.
وهذه الجملة معطوفة على السابقة، أي : ننساهم بسبب نسيانهم البعث والحشر والحساب، وكما كانوا منكرين بأن القرآن من عند الله إنكارا مستمرا.
وتنتهي مع هذه الآية مشاهد الحوار المستمر، بين أهل الجنة وأهل النار وأصحاب الأعراف، ويسدل الستار على أهل الجنة خالدين منعمين في الجنة، وأهل النار معذبين في الجحيم إلى ما شاء الله.
إنها طريقة القرآن الكريم التي تستحضر الغائب، وتقدم مشاهد القيامة أمام الناس شاخصة حية ؛ ليعتبر ويتعظ من كان له قلب ولب.
قال تعالى : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا. ( طه : ١١٣ ).
فصلناه : أي : بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ المفصلة.
التفسير :
ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون.
من شأن القرآن التنقل والمراوحة، وقد كانت الآيات السابقة تعرض مشاهد القيامة، وأحوال أهل النار يعذبون، وأهل الجنة ينعمون.
ثم انتقل القرآن من مشاهد القيامة، إلى الحديث عن الحياة الدنيا الحاضرة.
ومعنى الآية : ولقد جئنا الناس على لسانك يا محمد بكتاب عظيم الشأن كامل التبيان، فصلنا آياته تفصيلا حكيما، حال كوننا عالمين بما اشتمل عليه من تشريعات وأحكام وآداب، وقصص وحكمة، وسائر فنون القول المفيد، كما أن هذا القرآن هداية ورحمة لمن آمن به واتبع هداه.
التفسير :
أي : ما ينتظر هؤلاء الكفار بعدم إيمانهم به، إلا ما يئول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد.
قال الشوكاني :
هل ينتظرون إلا ما وعدوا به في الكتاب من العقاب الذي يئول الأمر إليه.
يوم يأتي تأويله : وهو يوم القيامة الذي يقف الناس فيه أمام خالقهم للحساب.
يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق.
أي : يقول هؤلاء الكفار الذين جحدوا هذا اليوم، ولكن عندما تكشف لهم الحقائق في الآخرة يعترفون بصدق الرسل ويقولون : لقد جاءت رسل ربنا بالحق وتبينا صدقهم، ولقد أخطأنا حين كذبناهم في الدنيا.
فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل.
أي : هل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا عند الله، حتى يخلصنا مما نحن فيه من كرب أو بلاء، أو هل من سبيل إلى أن نرد إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا، غير الذي كنا نعمله من الجحود، واللهو واللعب.
قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون.
أي : قد خسر هؤلاء الكفار أنفسهم، فلم ينتفعوا بها فكانت أنفسهم بلاء عليهم، ومحنة لهم، فكأنهم خسروها كما يخسر التاجر رأس ماله.
وضل عنهم ما كانوا يفترون.
أي : ذهب عنهم ما كانوا يفترونه في الدنيا، من أن أصنامهم ستشفع لهم يوم الجزاء، وأيقنوا أنهم كانوا كاذبين في دعواهم.
وقال أبو السعود : ظهر بطلان ما كانوا يفترونه من أن الأصنام شركاء لله تعالى، وشفعاؤهم يوم القيامة.
ثم استوى على العرش : العرش : الجسم المحيط بسائر الأجسام ولا يحيط بكنهه إنسان.
والاستواء على العرش صفة لله بلا كيف، أي : أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه، منزها عن الاستقرار والتمكن، وهو استواء بالمعنى اللائق به سبحانه.
يغشى الليل النهار : يغطى النهار بالليل، فيذهب ضوءه.
يطلبه حثيثا : يطلب الليل النهار طلبا سريعا.
له الخلق : إيجاد جميع الأشياء من العدم.
الأمر : التدبير والتصرف فيها كما يشاء.
تبارك الله : تنزه أو تعظم أو كثر خيره.
التفسير :
إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش... الآية.
خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، والله قادر على أن يقول للشيء كن فيكون، لكنه أراد أن يشعر الناس بأن للكون نظاما وللخلق إحكاما وترتيبا، فالجنين يمكث في بطن أمه تسعة أشهر، حتى يتم تخليقه وتكوينه، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما، ثم يكسى العظام لحما، ثم يتم تكوينه خلقا آخر ؛ فتبارك الله أحسن الخالقين.
وفي القرآن الكريم : لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ( غافر : ٥٧ ).
ثم استوى على العرش :
أي : استولى على نظام الملك وسير أموره، وهي كناية عن قدرته سبحانه على تسيير خلق هذا الكون وإبداع صنعته، وإحكام نظامه، وتدبير أموره.
من آراء المفسرين :
المفسرون القدامى لاحظوا أن هناك آيات تشير إلى أن خلق السماء كان قبل خلق الأرض، وهناك آيات تشير إلى أن خلق الأرض كان قبل خلق السماء.
وقد جمع العلماء بينهما أن الله خلق الأرض أولا، ثم خلق السماء ثانيا، ثم أتم إعمار الأرض وجعلها مدحوة، منبعجة عند خط الاستواء ومفرطحة عند القطبين.
قال تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولأنعامكم. ( النازعات : ٢٧- ٣٣ ).
وهذه الآيات تفيد أن الأرض خلقت بعد السماء بيد أن علماء اللغة يقولون : إن كلمة بعد ذلك تحتمل معنى : فوق ذلك أو علاوة على ذلك، أو قبل ذلك.
تقول لابنك : ربيتك وعلمتك وزوجتك، وأنا بعد ذلك أبوك الذي رعاك صغيرا وناشئا. بمعنى : أنا فوق ذلك أو قبل ذلك.
وقال تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم.
( فصلت : ٩-١٢ ).
وفي كتب التفسير : ما يفيد أن الله تعالى خلق الأرض في مقدار يومين، وخلق الجبال والبحار والأنهار ووسائل الإعمار في يومين، فصار المجموع أربعة أيام.
تقول : سرت من البصرة إلى الكوفة في يومين، ومن الكوفة إلى بغداد في أربعة أيام، وتكون أنت قد سرت من الكوفة إلى بغداد في يومين، ونقصد أن مجموع أيام السفر إلى بغداد أربعة أيام.
وتفيد الآيات في سورة فصلت أن الله بعد أن خلق الأرض، خلق الجبال والبحار والأنهار، ثم خلق السماء في يومين، لكن الآيات تشعر أن السماء والأرض قالتا : أتينا طائعين، مما يفيد أن هناك مراحل متعددة مر بها نشوء الكون حتى انتهى إلى الخلق البديع الكمال.
والعلماء المحدثون يذكرون النقاط الخمس الآية :
وجود مراحل ستة للخلق عوما.
خلق الكون ابتداء من كومة أولية فريدة كانت تشكل كتلة متماسكة، انفصلت أجزاؤها بعد ذلك.
تعدد السماوات وتعدد الكواكب التي تشبه الأرض.
وجود خلق وسيط بين السموات والأرض.
إن المطابقة واضحة بين مفهوم السديم الأولى في العلم الحديث والدخان على حسب القرآن ؛ للدلالة على الحالة الغازية للمادة التي كونت الكون في هذه المرحلة الأولى.
فالعلماء المحدثون يرون أن الكون كله كان كرة ملتهبة، وبمرور الزمن انفصلت منها الأرض، والسماء والفضاء والهواء.
وكانت الأرض صماء لا تنبت والسماء كانت رتقاء ليس بها أسباب المطر، والرتق ضد الفتق.
قال تعالى : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون. ( الأنبياء : ٣٠ ).
وقد جاء في تفسير المنار ١٢ ص ١٦ :
والمعنى : ألم يعلموا أن السماوات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة لا فتق ولا انفصال، وهو ما يسمى في عرف علماء الفلك : بالسديم وبلغة القرآن بالدخان.
ففتقناهما. بفصل بعضها عن بعض، فكان منها ما هو سماء ومنها ما هو أرض ).
وجاء في تفسير : فتح القدير للشوكاني :
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
قيل : هذه الأيام من أيام الدنيا، وقيل : من أيام الآخرة، وقيل : هذه الأيام أولها الأحد وآخرها الجمعة، وهو سبحانه قادر على خلقها في لحظة واحدة، يقول لها : كوني ؛ فتكون، ولكن لكل شيء عنده أجل.
ثم استوى على العرش.
( ليس ببعيد أن يكون لهذا الوجود فلك يدور فيه، وأن يكون لهذا الفلك مركز، وأن يكون العرش هو مركز هذا الوجود، وهي جميعها من خلق الله وفي يد القدرة ( ٥٥ ).
وقد ذكر العرش في إحدى وعشرين آية في القرآن الكريم وذكر الاستواء في سبع آيات. مثل قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى. ( طه : ٥ ).
وقوله تعالى : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون. ( الرعد : ٢ ).
أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة إلى أنه صفة لله تعالى، بلا كيف ولا انحصار، ولا تشبيه ولا تمثيل ؛ لاستحالة اتصافه سبحانه المحدثين، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ( الشورى : ١١ ).
وأنه يجب الإيمان بهذه الآيات كما وردت، وتفويض العلم بحقيقتها إليه تعالى.
قال محمد بن الحسن : اتفق الفقهاء جميعا على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه.
وقال الإمام الرازي : إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه.
وذهب بعض علماء الخلف إلى وجوب صرفه عن ظاهره – أي : الاستواء على العرش، ( أو الجلوس على كرسي الملك ) لاستحالته، فالله خالق العرش ومدبره والعرش محتاج إليه.
قال الإمام القفال : المراد أنه استقام ملكه، وأطرد أمره، ونفذ حكمه تعالى في مخلوقاته، والله تعالى دل على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم، واستقر في قلوبهم، وتنبيها على عظمته وكمال قدرته، وذلك مشروط بنفي التشبيه ويشهد بذلك ثم استوى على العرش يدبر الأمر.
ويكون المعنى : استولى على نظام الكون ودبر شئون الملك.
وقال الشوكاني في فتح القدير :
ثم استوى على العرش.
الاستواء : هو العلو والاستقرار، والله أعلم بكيفية ذلك، بل على الوجه الذي يليق بجلاله تعالى.
والعرش : هو سرير الملك، عن أم سلمة : الكيف غير معقول، الاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود كفر.
وعن مالك أن رجلا سأله : كيف استوى على العرش ؟ فقال : الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة اه.
وأريد أن أشرح هذه الجملة، بأن الكيف غير معقول، أي : أن يجلس الله على كرسي الملك كما يجلس البشر.
والاستواء غير مجهول، أي : الاستيلاء والقهر.
والإيمان بأن الله استوى على العرش واجب، والسؤال عنه بدعة ؛ لأن السلف آمنوا بدون سؤال على أنها دليل على سعة الملك وكمال القدرة وأن الله مالك الملك ومدبر شئونه.
يغشي الليل النهار ( ٥٦ ) يطلبه حثيثا.
أي : يجعل الليل كالغشاء للنهار فيغطى بظلمته ضياءه.
يطلبه حثيثا. أي : حال كون الليل طالبا للنهار طلبا سريعا لا يفتر عنه بحال.
وقد قال تعالى في آية أخرى : يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل. ( الزمر : ٥ ).
أي : كل من الليل والنهار يطلب الآخر طلبا سريعا.
( وهكذا النهار والليل في دورة الفلك، حيث تدور الأرض حول نفسها، تحت سلطان الشمس مرة كل يوم من الغرب إلى الشرق.. وفي تلك الدورة اليومية يتناسخ كل من الليل والنهار، أي : ينسخ كل منها الآخر، وذلك بتحريك الأرض شيئا فشيئا، بحيث يكون دائما نصفها المقابل للشمس نهارا، والنصف الآخر ليلا، ففي كل لحظة، ضوء ينسخ ظلاما، ويلبسه ويغشيه.. فالظلام الذي يخيم على الأرض شيء أصيل، والضوء الذي يلبسها كائن جديد داخل عليها، الظلام منسوخ، والضوء ناسخ له ( ٥٧ )، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : وجعلنا الليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية الليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة. ( الإسراء : ١٢ ).
والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره.
قرأ الجمهور بنصب الشمس والقمر والنجوم على أنها معطوف على خلق السماوات والأرض. في أول الآية.
أي : وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، أي : وهي كائنات مسخرات بأمره لا سلطان لأحد من الناس عليها ولا سلطان لها على نفسها ولا فضل لها من ذاتها ومن هنا لا تصح عبادتها، ولا ينبغي أن يتعلق مخلوق بمخلوق مثله وينشد الرزق منه.
ومسخرات. منصوبة على أنها حال من الشمس والقمر والنجوم. وقرأ أبو عامر بالرفع في جميعها على الابتداء والخبر مسخرات.
ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
الخلق : إيجاد الشيء من العدم.
والأمر : التدبير والتصرف والتسخير على حسب الإرادة، فالمخلوقات كلها جميعا صنعة الخالق، وحركاتها وسكناتها كلها بتقدير الله وبأمره.
تبارك الله رب العالمين. كثر خيره وإحسانه وتعاظمت وتزايدت بركات الله رب العالمين.
ادعوا ربكم : اسألوه واطلبوا منه حوائجكم.
تضرعا : مظهرين الضراعة والذلة والاستكانة والخشوع.
خفية : سرا في قلوبكم.
التفسير :
ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين.
التضرع : الضراعة والتذلل والابتهال والرغبة إليه تعالى يقال : ضرع فلان ضراعة. أي : خشع وذل وخضع.
الخفية : الإسرار والتواري وعدم الجهر بالدعاء.
والمعنى : ادعوا ربكم في تضرع وتذلل وخشوع، واستتار وخفية ؛ فإنه سبحانه وتعالى سميع يسمع الدعاء ويجيب المضطر ويكشف السوء، وهو القادر على إيصال الإجابة إليكم.
والدعاء روح العبادة ؛ لأنه يشتمل على معان رئيسية في الإيمان ؛ إن محتواه أن مخلوقا ضعيفا يسأل ربا قويا بيده الخلق والأمر.
وللدعاء آداب منها :
التوبة النصوح، والاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وألا يدعو بقطيعة رحم، وأن يتخير أدعية القرآن والسنة، وما روى عن السلف الصالح، وأن يتخير الأوقات الفاضلة مثل : وقت السحر في الثلث الأخير من الليل، وأن يختم الدعاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وألا يبالغ في الجهر، وألا يطول الدعاء.
روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه : أريعوا على أنفسكم – أي : ارفقوا بها وأقصروا من الصياح – فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إنه معكم، إنه سميع قريب، تبارك اسمه وتعالى جده ( ٥٨ ).
وهكذا نجد الأدب الإسلامي يتمثل في الدعوة إلى إتقان العمل، والبعد عن الرياء، وإخلاص العمل لوجه الله، وخفض الصوت في الدعاء.
قال الحسن بن علي رضي الله عنهما : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد كان المسلمون يجهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول : ادعوا ربكم تضرعا وخفية. وذلك أن زكريا نادى ربه نداء خفيا ) ( ٥٩ ).
إنه لا يحب المعتدين. أي : المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وفي كل شيء، ومن الاعتداء في الدعاء، كأن يسأل الداعي ما ليس له كالخلود في الدنيا، أو إدراك ما هو محال في نفسه، أو يرفع صوته بالدعاء صارخا به غير خاشع فيه.
روى أبو داود في سننه : أن سعد بن أبي وقاص سمع ابنا له يدعوا ويقول :
اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها ونحوا من هذا. وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها ؛ فقال له : يا بني ؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :
( إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ) ثم قرأ سعد هذه الآية : ادعوا ربكم تضرعا وخفية... وإن بحسبك أن تقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ( ٦٠ ).
رحمة الله : إحسانه وإنعامه أو ثوابه.
التفسير :
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها... الآية.
( الإفساد في الأرض بعد إصلاحها أشد قبحا من الإفساد على الإفساد، فإن وجود الإصلاح أكبر حجة على المفسد إذ هو لم يحفظه ويجري على سننه، فكيف إذا هو أفسده وأخرجه عن وضعه ؟ ولذلك خص بالذكر وإلا فالإفساد مذموم ومنهي عنه في كل حال.. ) ( ٦١ ).
وقال الشوكاني في فتح القدير :
ولا تفسدوا في الأرض. بقتل الناس، وتخريب منازلهم، وقطع أشجارهم، وتغوير أنهارهم، ومن الفساد في الأرض : الكفر بالله والوقوع في معاصيه، وإلغاء العمل بالشرائع بعد تقررها وانتظامها. اه.
والجملة الكريمة نهي عن سائر أنواع الإفساد، كإفساد النفوس والأموال، والأنساب، والعقول والأديان.
وادعوه خوفا وطمعا.
أي : وادعوه خائفين من عقابه، طامعين في رحمته وإحسانه.
إن رحمة الله قريب من المحسنين.
أي : إن رحمته تعالى وإنعامه على عباده قريب من المتقين ؛ لأعمالهم المخلصين فيها ؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
فمن أحسن في أمور عبادته ؛ نال عليها الثواب الجزيل.
ومن أحسن في أمور دنياه ؛ كان أهلا للنجاح في مسعاه.
ومن أحسن في دعائه ؛ كان جديرا بالقبول والاجابة، وفي الآية تنبيه للمؤمن بأن يكون بين الخوف والرجاء، يخاف من غضب الله وعقوبته، ويرجو عفوه ورحمته، وتشير الآية إلى تغليب جانب الرجاء على الخوف.
قال تعالى : وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين.
والخوف والرجاء جناحان يطير بهما المؤمن في ملكوت الرضا والأنس بالله، وإذا غلب الخوف وزاد ؛ صار يأسا، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
و إذا غلب الرجاء بدون عمل ؛ صار طمعا بدون إحسان العمل وفي الأثر :( ألا وإن أقواما غرتهم الأماني، خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا : نحسن الظن بالله وكذبوا على الله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل ).
بشرا : مبشرات برحمته وهي الغيث.
أقلت سحابا : حملته ورفعته.
ثقالا : مثقلة بحمل الماء.
لبلد ميت : مجدب لا ماء فيه ولا نبات.
التفسير :
٥٧- وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء... الآية.
بشرا : أي : مبشرات بنزول الغيث المستتبع لمنفعة الخلق.
بين يدي رحمته : أي : أن الرياح تتقدم نزول المطر وهو رحمة.
سحابا ثقالا. غيما حافلا بالمطر.
والمعنى : أن الله تعالى ينعم على عباده بالعديد من النعم، وهو الذي يرسل الرياح مبشرات بنزول الغيث والمطر، حتى إذا حملت الرياح سحابا قد ثقلت بالماء الذي تحمله، ساق الله ذلك السحاب إلى بلد مجدب لا نبات فيه ولا مرعى، فأنزل الماء بذلك البلد.
فأخرجنا به من كل الثمرات.
فأخرج الله بهذا الماء من جميع الثمار التي تناسب تربة البلد الذي نزل به على حسب مشيئة الله وفضله وإحسانه.
كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون.
أي : مثل إخراج الثمرات نخرج الموتى من القبور يوم حشرهم، فالتشبيه في مطلق الإخراج من العدم بدليل ملزم.
فحيث أمكن بقدرة الله تعالى إخراج الثمر على تلك الصورة العجيبة، فما الذي يعجزه عن إخراج الموتى من قبورهم.
لعلكم تذكرون. تذييل قصد به الحث على التدبر والتفكر.
أي : لعلكم تعتبرون بما وصفنا لكم، فتعلمون قدرة الله وبديع صنعته وأنه قادر على بعثكم.
يقول الأستاذ عبد الكريم الخطيب في التفسير القرآني للقرآن :
( في الآية الكريمة عرض لمظهر من مظاهر قدرة الله، وما تحمل هذه الفقرة إلى الناس من رحمة.
فهذه الرياح، يرسلها رسل رحمة إلى الناس، حيث تحمل السحاب مثقلا بالماء، فتسوقه إلى الأرض الجديب، والبلد الميت، ثم تنزل ما حملت من ماء، فتسيل به الوديان، وتجري منه العيون، وإذا هذا الجدب، وذلك الموات، حياة تدب في أوصال الكائنات، من جماد ونبات وحيوان، تلك بعض مظاهر القدرة القادرة، تلبس الجماد ثوب الحياة، وتخرج من الأرض الجديب زروعا ناضرة، وثمارا دانية القطوف، مختلفة الطعوم.
فهل تعجز هذه القدرة، عن إحياء الموتى، ونشر الهامدين من القبور ؟ ذلك ما لا يقول به عاقل... ) ( ٦٢ ).
نكدا : عسرا أو قليلا لا خير فيه.
نصرف الآيات : نكررها بأساليب مختلفة.
التفسير :
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا.... الآية.
قال في اللسان : النكد : قلة العطاء، وعطاء نكد، أي : عطاء قليل لا جدوى منه، ورجل نكد : شؤم عسر.
أي : الأرض الكريمة التربة يخرج نباتها وافيا حسنا تاما غزير النفع بمشيئة الله وتيسيره.
والتربة الخبيثة، كالأرض السبخة لا يخرج نباتها إلا نكدا : أي : قليلا عديم الفائدة.
فشبه القلب القابل للوعظ بالبلد الطيب، والنائي عنه بالبلد الخبيث.
وفيه بيان أن القرآن يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الطيبة التربة، ولا يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الرديئة السبخة.
كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون.
أي : مثل ذلك التصريف البديع والتنويع الحكيم. نصرف الآيات. أي : نرددها ونكررها ونوضحها، لقوم يشكرون. نعمة الله ؛ فيتفكرون فيها ويعتبرون بها.
من كتب التفسير :
قال أبو السعود في تفسيره :
( وهذا كما ترى مثل لإرسال الرسل عليهم السلام بالشرائع، التي هي ماء حياة القلوب إلى المكلفين، المنقسمين إلى المقتبسين من أنوارها، والمحرومين من مغانم آثارها ) ( ٢٣ ).
وقال الزمخشري في تفسير الكشاف :
وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتذكير من المكلفين، ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك، وعن مجاهد : آدم وذريته منهم خبيث وطيب، وعن قتادة : المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت، والكافر بخلاف ذلك، وهذا التمثيل واقع على إثر ذكر المطر، وإنزاله بالبلد الميت، وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد.
من البخاري ومسلم :
روى الشيخان عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا أو سقوا وزرعوا. وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم.
ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) ( ٦٤ ).
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم.
تمهيد :
سورة الأعراف مكية حافلة بالدعوة إلى الله، وإنذار المكذبين، وسوق الأدلة الباهرة على مظاهر القدرة الإلهية، وقد تفننت في طرق هذه الدعوة. وفيما سبق من آيات لفتت الأنظار إلى آثار رحمة الله، في خلق الكون وإعمار الأرض، وإرسال الرسل، وتسخير السحاب والمطر، وهداية من عنده استعداد للهداية.
وفي الأجزاء الباقية من السورة تتحدث عن رسالات الأنبياء السابقين، حديثا وسطا بين الإيجاز والإسهاب، فتتحدث عن رسل الله نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، ثم تتحدث حديثا طويلا عن موسى وجهاده مع بني إسرائيل.
والقصص في القرآن الكريم يخدم فكرة السورة، ويؤكدها، ويعرضها بطريق آخر، هو طريق لفت النظر إلى القدوة والأسوة، فإذا كذب قوم نوح نوحا ثم أصابهم الطوفان بالغرق، فإن هذه رسالة موجهة إلى أهل مكة تدعوهم إلى الإيمان، وتحذرهم عاقبة الكفر والطغيان.
كذلك في هذا القصص مواساة للرسول وللمؤمنين، وبيان أنم طريق الدعوات حافل بالمخاطر والتضحيات، ولكن العاقبة للمتقين، والهلاك للظالمين، ففي سائر هذا القصص ينجى الله الرسل ويهلك المكذبين.
قال تعالى : حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجريمن. ( يوسف : ١١٠ )
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره....... الآية.
نوح عليه السلام أول الرسل إلى أهل الأرض بعد آدم، وكان بأرض العراق، وقيل : إن إدريس قبل نوح.
وكان قوم نوح يعبدون الأصنام فأرسل الله إليهم نوحا ؛ ليدلهم على طريق الرشاد.
جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآيات : قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير : كان أول ما عبدت الأصنام : أن قوما صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صورا أولئك الصالحين فيها ؛ ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام، وسموها بأسماء أولئك الصالحين : ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا.
فلما تفاقم الأمر : بعث الله – تعالى – رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له. اه.
وقد عرضت قصة نوح في عدد من السور التي عرضت لذكر الأنبياء، كما ذكر في سورة خاصة به وقد ذكر نوح في القرآن في ثلاثة وأربعين موضعا. فهو نموذج لدعوة طويلة.
جاء في تفسير أبي السعود ما يأتي :
ونوح هو ابن لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس النبي عليهما السلام.
قال ابن عباس : بعث نوح على رأس أربعين سنة من عمره ولبث يدعو قومه ٩٥٠ سنة وعاش بعد الطوفان ٢٥٠ سنة فكان عمره ١٢٤٠ ألفا ومائتين وأربعين سنة.
وقد افتن نوح في عرض أدلة التوحيد، بيد أن قومه احتجوا عليه بأن أتباعه من الفقراء والأراذل، واشترطوا عليه أن يبعد الفقراء والسوقة من الناس إن أراد أن يدخل الأغنياء والعظماء في دعوته، ولكن نوحا شرح لهم أن هداية السماء عامة للناس، وبأي وجه يطرد الفقراء بعد أن آمنوا بالله واتبعوا هدى السماء ؟.
فقال قومه : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. ( هو : ٣٢ ).
ودعا نوح ربه أن يهلك الكافرين، فأمره الله أن يصنع سفينة النجاة، وأن يحمل معه من كل زوجين اثنين، كما يحمل معه من آمن به، وكان عدد المؤمنين قليل ( قيل : كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة، وقيل تسعة : أبناؤه الثلاثة وستة ممن آمن به ) ( ٦٥ ).
ولما جاء الطوفان أغرق الله الكافرين ونجى الله نوحا ومن معه من المؤمنين.
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
أرسل الله نوحا إلى قومه وعشيرته وأقاربه ومن يقيم بينهم، فقد يقيم الرجل بينهم الأجانب فيسميهم قومه مجازا للمجاورة.
فدعاهم نوح إلى عبادة الله وحده فهو سبحانه المستحق للعبادة وليس هناك إله سواه.
أي : اعبدوه ؛ لأنه لم يكن لكم إله غيره حتى يستحق منكم أن يكون معبودا.
إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم.
أي : إن لم تعبدوه ؛ أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، أو عذاب يوم الطوفان.
قال الملأ : الأشراف والرؤساء يملئون العيون مهابة.
قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين.
الملأ : أشراف القوم ورؤساؤهم، سموا بذلك ؛ لأنهم يملئون العيون مهابة.
أي : قال الأشراف والعظماء لنوح : إنا نراك في ضلال واضح ؛ إذ تأمرنا بترك عبادة آلهتنا ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا، وتطلب منا عبادة الله وحده.
وهكذا حال الفجار يرون الأبرار في ضلال، كقوله تعالى : وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون. ( المطففين : ٢٢ ).
إلى كثير من الآيات كقوله تعالى :
وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم. ( الأحقاف : ١١ ).
والرسول الكريم حريص على سلامة قومه، ضنين بهم أن تغتالهم الضلالة أو يفتك بهم الكفر.
أي : قال نوح لقومه مستميلا لقلوبهم : يا قوم ليس بي أدنى شيء مما يسمى بالضلال، لكني أحمل لكم الهداية والرسالة والهدى.
جاء في حاشية الجمل على الجلالين :( وقد جاءت لكن هنا أحسن مجيء ؛ لأنها بين نقيضين ؛ لأن الإنسان لا يخلوا من أحد شيئين : ضلال أو هدى، والرسالة لا تجامع الضلال، ومن رب العالمين. صفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. اه.
أي : لست ضالا، ولكني أحمل مشعل الهداية وأبلغ رسالات السماء ورسالتي تأتي من عند الله تعالى.
أنصح لكم : أتحرى ما فيه صلاحكم قولا وفعلا.
التفسير :
٦٢ – أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون.
إنه هنا يعدد وظيفة الرسول وهي :
تبليغ الرسالة والوحي، وسماها رسالات ؛ لاشتمالها على الأوامر والنواهي، والمواعظ، والزواجر، والعبادات، والمعاملات...
إخلاص النصيحة.
والفرق بين تبليغ الرسالة والنصح هو أن تبلغ الرسالة معناه : أن يعرفهم جميع أوامر الله، ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي كلفهم الله بها.
وأما النصح فمعناه : أن يرغبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات، ويحذرهم من عذاب الله إن عصوه.
وأعلم من الله ما لا تعلمون. أي : أعلم في الوقت نفسه من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي أشياء لا علم لكم بها ؛ لأن الله قد خصني بها. فإذا تبعتم رسالتي ؛ سرتم في طريق النور والهدى. وقريب من ذلك قول إبراهيم لأبيه :
يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا. ( مريم : ٤٣ ).
جاء في تفسير ابن كثير للآية :
وهذا من شأن الرسول أن يكون مبلغا نصيحا، ناصحا عالما بالله، لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات.
كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوم عرفة، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا :
أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون ؟
قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها عليهم ويقول :
الله اشهد، اللهم اشهد ( ٦٦ ).
على رجل : على لسان رجل.
لينذركم : الإنذار : إخبار مع تخويف من العاقبة بخلاف التبشير فإنه إخبار بحصول شيء سار.
التفسير :
٦٣- أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون.
كان قوم نوح يستكثرون عليه الرسالة، ويرون أنه دعي لا رسول وقد حكى القرآن عنهم ذلك : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آباءنا الأولين. ( المؤمنون : ٦٤ ).
إنه الحسد الذي تمكن في قلوب العظماء، والغيرة والكبر الذي منعهم من اتباع نوح، مع أنه بشر مثلهم فهو أقرب إليهم، وقد تلطف في بيان أعماله.
ومعنى الآية :
أإستبعدتم أو أكذبتم وأنكرتم وعجبتم، أن جاء وحي وموعظة من ربكم على لسان رجل منكم تعرفونه ليس من جنس آخر كالملائكة والجن فتنفروا منه، بل هو بشر مثلكم تأنسون به، وهو رجل منكم تعرفونه منذ نشأ لا ضالا ولا كذابا.
يقدم لكم الإنذار، ويحثكم على القتوى، حتى تفوزوا برحمة الله.
لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون.
جاء في حاشية الجمل : وهذا الترتيب في غاية الحسن لا من المقصود من الإرسال الإنذار، ومن الإنذار التقوى، ومن التقوى الفوز بالرحمة.
الفلك : السفينة يذكر ويؤنث.
قوما عمين : عمى القلوب عن الحق والإيمان.
التفسير :
٦٤- فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين.
كانت هذه الآية خاتمة القصة هنا فقد بذل نوح وسعه في تبليغهم الرسالة، ومناقشة أفكارهم الخاطئة، ولكنهم تعاموا عن دعوته ورسالته، فلم ينظروا إليها بعيونهم ولم يفقهوها بقلوبهم ؛ فأمره الله أن يركب السفينة التي صنعها ؛ ونجاه فيها هو ومن معه من المؤمنين.
وأغرق الله الذين كذبوا نوحا من الكافرين. إنهم كانوا قوما عمين.
وعمين. جمع عم، وهو الأعمى يقال : عمى عمى، فهو أعمى، وأصل عم : عام صيغة مبالغة من اسم الفاعل مثل : حاذر وحذر، وهذا يعني : أن العمى الذي عليه القوم ليس عمى طبيعيا، وإنما هو تعام عن الحق، ومبالغة في هذا التعامي.. فهو عمى البصيرة وليس عمى البصر ( ٦٧ ).
وإلى عاد : أي : وأرسلنا إلى عاد.
التفسير :
وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون.
قصة نبي الله هود :
أقامت عاد بالأحقاف ما بين اليمن وعمان، في نعمة ورغد وزراعة وبساتين وقصور عالية وسعة ورفاهية، وقد أرسل الله إليهم نبي الله هود، يذكرهم نعم الله عليهم، وما منحهم من بسطة في أجسامهم وقوة في أبدانهم، وسائر النعم التي أنعم الله بها عليهم.
وبين لهم هود أنهم لم يشكروا خلقهم، بل عبدوا أصناما وسجدوا هلا، ثم إنهم أفسدوا في الأرض وبطش القوى بالضعيف.
ودعاهم هود إلى عبادة الله والإقلاع عن عبادة الأصنام ؛ فاتهموه بالسفاهة والطيش، وظنوا أن الآلهة قد أصابته بسوء أو مس من الجنون.
فأخبرهم هود أنه غير سفيه، ولكنه رسول من رب العالمين، يذكر قومه القيامة والبعث والحساب والجزاء.
قالوا : هيهات هيهات وبعيدا جدا وقوع هذا البعث أو الجزاء، إن هي إلا حياتنا الدنيا، ولا حياة بعدها، وإن كنت صادقا فأرنا هذا العذاب الذي تهددنا به، فسخر الله عليهم ريحا حسوما خلعت خيامهم وكسرت رقابهم، وأهلك الله جميع الكافرين ونجى جميع المؤمنين.
قال تعالى : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية. ( الحاقة : ٦-٧ ).
وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون.
ذكرت قصة عاد في سورة الأعراف وفي سور أخرى منها : سورة هود، والشعراء، والأحقاف، والحاقة.
والمعنى : وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هودا، أي : واحدا من قبيلتهم فهو أخوهم نسبا، أو لأنه أخوهم في الإنسانية.
فدعاهم إلى توحيد الله وتقواه، فقال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. فهو سبحانه الإله الواحد ؛ فاتركوا عبادة الأصنام والأوثان.
وتذكروا قوم نوح فقد أغرقهم الله.
أفلا تتقون. أي : أفلا تخافون عذاب الله فتبتعدوا عن طريق الشرك والضلال ؛ لتنجوا من عقابه.
قال الملأ : الأشراف والرؤساء الذين يملئون العيون بمهابتهم.
سفاهة : خفة عقل وضلالة عن الحق.
التفسير :
قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين.
أي : قال الأغنياء والوجهاء الذين كفروا من قوم هود، إنا لنراك متمكنا في خفة العقل راسخا فيها حيث هجرت دين قومك إلى دين آخر.
وإنا لنظنك من الكاذبين. أي : يتضح لدينا كذبك في دعوى الرسالة.
رد نوح على قومه فيما سبق حين قال : يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ( الأعراف : ٦١ ).
وهنا رد هود على قومه في هدوء وحلم فقال لهم : يا قومي ويا أسرتي وعشيرتي، ليس بي أي نوع من أنواع السفاهة أو خفة العقل والطيش كما تزعمون، ولكني رسول من عند الله أبلغكم دعوة الله.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف : وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام، على من نسبهم إلى الضلالة والسفاهة، بما أجابوا به في الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء، وترك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأن خصومهم من أضل الناس وأسفهم – في إجابتهم هذه أدب حسن وخلق عظيم، وحكاية الله عز وجل ذلك تعلم لعباده كيف يخاطبون السفهاء، وكيف يغضون عنهم، ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم ا ه.
وكما سبق أن تعجب قوم نوح من أن يكون نوحا رسولا من البشر، ندد أن قوم هود قد تعجبوا من اختصاص هود بالرسالة.
٦٧، ٦٨- قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين.
رد نوح على قومه فيما سبق حين قال : يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ( الأعراف : ٦١ ).
وهنا رد هود على قومه في هدوء وحلم فقال لهم : يا قومي ويا أسرتي وعشيرتي، ليس بي أي نوع من أنواع السفاهة أو خفة العقل والطيش كما تزعمون، ولكني رسول من عند الله أبلغكم دعوة الله.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف : وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام، على من نسبهم إلى الضلالة والسفاهة، بما أجابوا به في الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء، وترك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأن خصومهم من أضل الناس وأسفهم – في إجابتهم هذه أدب حسن وخلق عظيم، وحكاية الله عز وجل ذلك تعلم لعباده كيف يخاطبون السفهاء، وكيف يغضون عنهم، ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم ا ه.
وكما سبق أن تعجب قوم نوح من أن يكون نوحا رسولا من البشر، ندد أن قوم هود قد تعجبوا من اختصاص هود بالرسالة.
على رجل : على لسان رجل.
لينذركم : الإنذار : هو الإخبار مع تخويف من العاقبة.
بصطة : قوة وعظم أجسام.
ءالاء الله : نعمه وفضله الكثير.
التفسير :
٦٩- أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم... الآية.
أي : أكذبتم وتعجبتم أن جاءتكم هداية الله ورسالته، على لسان رجل منكم، تعرفون صدقه ونسبه وحسبه ؟
إن ما عجبتم له ليس موقع عجب، بل هو عين الحكمة، فقد اقتضت رحمة الله أن يرسل لعباده من بينهم، من يرشدهم إلى الطريق القويم. الله أعلم حيث يجعل رسالته. ( الأنعام : ١٢٤ ).
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح.
أي : جعلكم سكان الأرض بعد هلاك قوم نوح، أو جعلكم ملوكا مستخلفين في الأرض من بعد قوم نوح، الذين أغرقوا بالطوفان.
وزادكم في الخلق بصطة :
أي : زادكم في المخلوقات بسطة وسعة في الملك والحضارة، أو زادكم بسطة في قوة أبدانكم، وضخامة أجسامكم، ومن حق هذا الاستخلاف وتلك القوة أن تقابلا بالشكر لله رب العالمين.
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب :
( والبسطة في الخلق : الزيادة في بناء الجسد وقوته، وهذه نعمة من نعم الله، إذا صادفت عقلا راشدا، وقلبا سليما ) ( ٢٨ ).
فاذكروا ءالاء الله لعلكم تفلحون.
أي : تذكروا نعم الله عليكم، حيث جعلكم سكان الأرض بعد هلاك قوم نوح، أو جعلكم ملوكا، فاشكروا نعم الله عليكم ؛ حتى يزيدكم من نعمه ويكون لكم الفلاح والنجاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
أي : أقصدتنا بدعوتك لنعبد الله وحده وتعرضت لنا بتكليف ذلك، وبأن نترك الأصنام والأوثان التي كان يعبدها آباؤنا إنا لن نطيعك ونتحداك فئتنا بالعذاب الذي تتوعدنا به إن كنت من الصادقين فيما تخبر به.
رجس : عذاب أو رين على القلوب.
غضب : لعن وطرد أو سخط.
التفسير :
٧١- قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب... الآية.
الرجس : والرجز : العذاب الشديد.
وغضب. أي : وانتقام منكم جزاء كفركم.
أي : قال هود لقومه : قد استحققتم عذاب الله وغضبه فهو واقع بكم لا محالة، جعل ما هو متوقع كالواقع، تنبيها على تحقق وقوعه.
أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان... الآية.
أي : أتخاصمونني في شأن أسماء الأصنام وهي أشياء سميتموها ليس تحتها مسميات ؛ لأنكم تسمونها آلهة مع أن معنى الألوهية فيها معدوم ومحال وجوده ؛ إذ المستحق للعبادة إنما هو الله الذي خلق كل شيء، أما هذه الأصنام التي زعمتم أنها آلهة، فهي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
ما نزل الله بها من سلطان.
أي : ما أنزل بها من حجة أو دليل يؤيد زعمكم في ألوهيتها، أو في كونها شفعاء عند الله، وإنما هي أصنام باطلة قلدتم آباءكم في عبادتها بدون علم أو تفكير.
فانتظروا إني معكم من المنتظرين.
أي : فانتظروا ما طلبتموه من العذاب ؛ فإني معكم من المنتظرين له وهو واقع بكم لا محالة، بسبب شرككم، وتكذيبكم لرسالة الله.
قطعنا دابر : أهلكنا آخر والمراد : أهلكنا الجميع.
التفسير :
٧٢- فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين.
أرسل الله سبحانه سوداء على عاد قوم هود فاستبشروا بها قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيه عذاب أليم * تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم... ( الأحقاف : ٢٤، ٢٥ ).
وكان العذاب الذي أخذهم الله به ريحا عاصفة شديدة البرد، دمرت ديارهم وأشجارهم، وكانت تحمل الحجارة فتقذفها في وجوههم وتحملهم فتضربهم بالأرض.
قال تعالى : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية. ( الحاقة : ٦-٧ ).
نجاة هود ومن معه :
نجى الله هودا ومن آمن به كمرثد بن سعيد، وقطع دابر الكافرين، أي : أهلكهم هلاكا عاما يستأصلهم عن آخرهم، بالريح العقيم، ما تذر في شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، وكان هذا بسبب كفرهم.
وفي قوله تعالى : وما كانوا مؤمنين إشارة إلى أنهم لن يكونوا أبدا من المؤمنين، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم. ( يونس : ٩٧ ).
خلاصة من تفسير أبي السعود :
وقصة عاد أنهم كانوا باليمن بالأحقاف، وكانوا قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان إلى حضرموت، وكانت لهم أصنام يعبدونها : صدا وصمودا وإلهبا. فبعث الله تعالى إليهم هودا نبيا وكان من أوسطهم وأفضلهم حسبا فكذبوه وازدادوا عنوا وتجبرا ؛ فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا... فأظهر مرثد بن سعيد إسلامه، وآمن بهود عليه السلام، وأصرت عاد على الكفر والعناد فأرسل الله عليهم الريح العقيم فأهلكتهم. اه.
قال صلى الله عليه وآله وسلم :( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) ( ٦٩ ).
ناقة الله : خلقها الله من صخر لا من أبوين.
آية : معجزة دالة على صدقي.
التفسير :
تمهيد في قصة نبي الله صالح وقومه ثمود :
أرسل الله صالحا إلى قومه ثمود في أعقاب هلاك عاد قوم نبي الله هود.
وكانت عاد تسكن في جنوب الجزيرة، بين اليمن وعمان، وكانت ثمود تسكن في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك، وقد مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على منازلهم في طريقه إلى غزوة تبوك، فاستحث راحلته وحنى ظهره، وقال لقومه :( لا تمروا على قرى الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم مشفقون ؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم ).
وبدأ صالح بدعوته إلى توحيد الله وترك عبادة الأصنام وقابله قومه بالتكذيب والعناد.
فذكرهم بما بين أيديهم من النعم حيث قال لهم : أتتركون في ما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
( الشعراء : ١٤٦ -١٥٢ ).
واقترح القوم عليه أن يأتيهم بآية ومعجزة تدل على صدقه ؛ فأخرج الله من بين الجبال ناقة كاملة الخلقة كبيرة الحجم، تشرب الماء في يوم، ثم تقف فيحلب منها الجميع، ما يملأ أوانيهم ويكفي جميع حاجتهم.
وحذرهم نبي الله صالح من إيذاء الناقة أو الاعتداء عليها، ولكن العناد جعلهم يوجهون انتقامهم إلى الناقة، فانطلق الأشقياء وعقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، واستعجلوا عذاب السماء، وطلبوا من صالح أن يأتيهم بهذا العذاب إن كان صادقا.
فأرسل الله عليهم عذابا مهلكا جزاء عدوانهم وتكذيبهم، وفي سورة الشمس وضحاها. يقول الله تعالى : كذبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها. ( الشمس : ١١-١٥ ).
وهي آيات مختصرة سهلة بالألف اللينة تبين عناصر الموضوع :
فقد كذبت ثمود رسولها، فجحدت رسالته، ثم طغت وبغت وحذرها رسولها وقال لها : هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء. فهي ناقة الله أي هي آية من عند الله، ولكن القوم ركبهم العناد والظلم، فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، فأمهلهم صالح ثلاثة أيام ؛ علهم أن يتوبوا، ثم أهلكهم الله وهو سبحانه قادر على ذلك، ولا يخاف من عاقبة إهلاكهم.
وقد ذكرت قصة صالح مع قوم ثمود في سورة هود الآيات ٦١- ٦٧ والأعراف : ٧٣ – ٧٩ والشعراء ١٤١ – ١٥٩ والنمل ٤٥ – ٥٣ والقمر ٢٣ – ٣١ والشمس ١١ – ١٥.
وفيها عناصر قصة قرآنية متكاملة تمر كالآتي :
رسول ينصح ويبلغ ويذكر.
قوم يكذبون ويكفرون ويعاندون.
آية ومعجزة تؤيد الرسول.
عناد وجدال وتكذيب وعدوان.
هلاك من السماء للكافرين، ونجاة للرسول والمؤمنين.
وهذه من أهداف القصة في القرآن الكريم وأهم أهداف القصة القرآنية ما يأتي :
إثبات الوحي والرسالة وبيان أن الدين كله من عند الله.
بيان أن وسائل الأنبياء في الدعوة واحدة.
بيان أن الله ينصر رسله في النهاية.
تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم.
بيان قدرة الله على الخوارق.
بيان عاقبة الاستقامة والصلاح، وعاقبة الانحراف والفساد.
تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
سوق العظة والعبرة من القصة. قال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ( يوسف : ١١١ ).
موضوع يحتاج إلى تحقيق :
يذكر بعض الكتاب أن ثمود نشأت في أعقاب عاد وقد ورثت أرضها، ويستأنسون بقوله تعالى :
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض. ( الأعراف : ٧٤ ) ( ٧٠ ).
وعند التحقيق نجد أن عادا كانت في جنوب الجزيرة بين اليمن وعمان، وأن ثمود كانت في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك.
فثمود لم تكن في أرض عاد، ولعل الله قد استخلف ثمود في أرضها في شمال الحجاز، بعد هلاك عاد في جنوب الحجاز، أو أنهم ورثوا خلافة الأرض والسيطرة عليها أو زعامة المنطقة.
وزمان عاد وثمود كان قريبا، وربما هلكت عاد في حياة ثمود فأراد الله أن يذكرهم بهلاك أقرانهم، وأن يقول لهم : اذكروا ملككم وخلافتكم في الأرض بعد هلاك عاد، وتملككم القصور والبساتين، والنعيم، فحافظوا على ذلك ولا تبطروا ولا تكفروا ؛ حتى لا يهلككم الله كما أهلك قبيلة عاد.
التفسير :
٧٣- وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله... الآية.
أي : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب والموطن، صالحا عليه السلام فأمرهم بعبادة الله الذي خلق الخلق لعبادته وأخبرهم أن العبادة لا تصلح إلا لله وحده، وهذان الأمران هما خلاصة دعوة الرسل كما قال تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت. ( النحل : ٣٦ ).
قد جاءتكم معجزة من الله تدل على صدقي، وهي إخراج الناقة من الحجر الصلد، واتركوها حرة طليقة تأكل في أرض الله التي لا يملكها أحد سواه.
قال الشوكاني في فتح القدير :
( أي : دعوها تأكل في أرض الله ؛ فهي ناقة الله والأرض أرضه فلا تمنعوها مما ليس لكم ولا تملكونه ).
ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم.
الناقة ناقة الله، والأرض أرض الله، هو الذي أنبت النبات والمرعى بها وساق إليها الماء.
وقد نصحهم نبي الله صالح بعدم التعرض للناقة بسوء، أي : عدم إصابتها بأي أذى، وفيه تنبيه بالأدنى على الأعلى ؛ لأنه كان قد نهاهم عن مسها بسوء، إكراما لها، فنهيهم عن نحرها أو عقرها أو منعها من الكلإ والماء من باب أولى.
وجملة فيأخذكم عذاب أليم. وعيد شديد لهم إذا عقروا الناقة، وتحذير لهم ؛ حتى لا ينزل بهم العذاب الأليم.
بوأكم : أسكنكم وأنزلكم.
في الأرض : أرض الحجر بين الحجاز والشام.
سهولها : أرضها المنبسطة.
لا تعثوا : لا تفسدوا إفسادا شديدا.
تمهيد في قصة نبي الله صالح وقومه ثمود :
أرسل الله صالحا إلى قومه ثمود في أعقاب هلاك عاد قوم نبي الله هود.
وكانت عاد تسكن في جنوب الجزيرة، بين اليمن وعمان، وكانت ثمود تسكن في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك، وقد مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على منازلهم في طريقه إلى غزوة تبوك، فاستحث راحلته وحنى ظهره، وقال لقومه :( لا تمروا على قرى الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم مشفقون ؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم ).
وبدأ صالح بدعوته إلى توحيد الله وترك عبادة الأصنام وقابله قومه بالتكذيب والعناد.
فذكرهم بما بين أيديهم من النعم حيث قال لهم : أتتركون في ما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
( الشعراء : ١٤٦ -١٥٢ ).
واقترح القوم عليه أن يأتيهم بآية ومعجزة تدل على صدقه ؛ فأخرج الله من بين الجبال ناقة كاملة الخلقة كبيرة الحجم، تشرب الماء في يوم، ثم تقف فيحلب منها الجميع، ما يملأ أوانيهم ويكفي جميع حاجتهم.
وحذرهم نبي الله صالح من إيذاء الناقة أو الاعتداء عليها، ولكن العناد جعلهم يوجهون انتقامهم إلى الناقة، فانطلق الأشقياء وعقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، واستعجلوا عذاب السماء، وطلبوا من صالح أن يأتيهم بهذا العذاب إن كان صادقا.
فأرسل الله عليهم عذابا مهلكا جزاء عدوانهم وتكذيبهم، وفي سورة الشمس وضحاها. يقول الله تعالى : كذبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها. ( الشمس : ١١-١٥ ).
وهي آيات مختصرة سهلة بالألف اللينة تبين عناصر الموضوع :
فقد كذبت ثمود رسولها، فجحدت رسالته، ثم طغت وبغت وحذرها رسولها وقال لها : هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء. فهي ناقة الله أي هي آية من عند الله، ولكن القوم ركبهم العناد والظلم، فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، فأمهلهم صالح ثلاثة أيام ؛ علهم أن يتوبوا، ثم أهلكهم الله وهو سبحانه قادر على ذلك، ولا يخاف من عاقبة إهلاكهم.
وقد ذكرت قصة صالح مع قوم ثمود في سورة هود الآيات ٦١- ٦٧ والأعراف : ٧٣ – ٧٩ والشعراء ١٤١ – ١٥٩ والنمل ٤٥ – ٥٣ والقمر ٢٣ – ٣١ والشمس ١١ – ١٥.
وفيها عناصر قصة قرآنية متكاملة تمر كالآتي :
رسول ينصح ويبلغ ويذكر.
قوم يكذبون ويكفرون ويعاندون.
آية ومعجزة تؤيد الرسول.
عناد وجدال وتكذيب وعدوان.
هلاك من السماء للكافرين، ونجاة للرسول والمؤمنين.
وهذه من أهداف القصة في القرآن الكريم وأهم أهداف القصة القرآنية ما يأتي :
إثبات الوحي والرسالة وبيان أن الدين كله من عند الله.
بيان أن وسائل الأنبياء في الدعوة واحدة.
بيان أن الله ينصر رسله في النهاية.
تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم.
بيان قدرة الله على الخوارق.
بيان عاقبة الاستقامة والصلاح، وعاقبة الانحراف والفساد.
تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
سوق العظة والعبرة من القصة. قال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ( يوسف : ١١١ ).
موضوع يحتاج إلى تحقيق :
يذكر بعض الكتاب أن ثمود نشأت في أعقاب عاد وقد ورثت أرضها، ويستأنسون بقوله تعالى :
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض. ( الأعراف : ٧٤ ) ( ٧٠ ).
وعند التحقيق نجد أن عادا كانت في جنوب الجزيرة بين اليمن وعمان، وأن ثمود كانت في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك.
فثمود لم تكن في أرض عاد، ولعل الله قد استخلف ثمود في أرضها في شمال الحجاز، بعد هلاك عاد في جنوب الحجاز، أو أنهم ورثوا خلافة الأرض والسيطرة عليها أو زعامة المنطقة.
وزمان عاد وثمود كان قريبا، وربما هلكت عاد في حياة ثمود فأراد الله أن يذكرهم بهلاك أقرانهم، وأن يقول لهم : اذكروا ملككم وخلافتكم في الأرض بعد هلاك عاد، وتملككم القصور والبساتين، والنعيم، فحافظوا على ذلك ولا تبطروا ولا تكفروا ؛ حتى لا يهلككم الله كما أهلك قبيلة عاد.
التفسير :
٧٤- واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض... الآية.
أي : اذكروا نعم الله عليكم حيث جعلكم خلفاء لقبيلة عاد في الحضارة والعمران والقوة والبأس، بعد أن أهلكهم بسبب طغيانهم وشركهم، ثم جعلكم ملوكا متصرفين في أرض الحجر التي كانوا يسكنونها وهي بين الحجاز والشام، قال تعالى : ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين * وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين * وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين * فأخذتهم الصيحة مصبحين * فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون. ( الحجر : ٨٠-٨٤ ).
وتفيد آيات القرآن أنهم كانوا في رغد من العيش، ونعمة واسعة، ومساكن جميلة، ودور عالية.
تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا...........
قيل : إنهم كانوا يسكنون الجبال في الشتاء ؛ لما في البيوت المنحوتة من القوة التي لا تؤثر فيها الأمطار والعواصف، ولما فيها من الدفء.
أما في غير الشتاء فكانوا يسكنون السهول لأجل الزراعة والعمل.
فهم يتخذون في السهول القصور والدور الجميلة، وينحتون في الجبال البيوت، فهم في حضارة عمرانية، واضحة المعالم، وقد تمتعوا بهذا النعيم في فصول العام، ولذلك ذكرهم صالح بأنعم الله عليهم فقال : فاذكروا ءالاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
أي : تذكروا نعم الله عليكم حيث متعكم بالزراعة والقصور والبيوت المنحوتة في الجبال، فلا تغرنكم النعمة، ولا تسيروا في طريق البطر والجحود، ولا تكثروا الفساد في الأرض ؛ فإن النعمة تحتاج إلى شكر لمن أنعم بها. وشكر النعمة : هو استخدامها فيما خلقت له.
أرسل الله صالحا إلى قومه ثمود في أعقاب هلاك عاد قوم نبي الله هود.
وكانت عاد تسكن في جنوب الجزيرة، بين اليمن وعمان، وكانت ثمود تسكن في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك، وقد مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على منازلهم في طريقه إلى غزوة تبوك، فاستحث راحلته وحنى ظهره، وقال لقومه :( لا تمروا على قرى الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم مشفقون ؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم ).
وبدأ صالح بدعوته إلى توحيد الله وترك عبادة الأصنام وقابله قومه بالتكذيب والعناد.
فذكرهم بما بين أيديهم من النعم حيث قال لهم : أتتركون في ما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
( الشعراء : ١٤٦ -١٥٢ ).
واقترح القوم عليه أن يأتيهم بآية ومعجزة تدل على صدقه ؛ فأخرج الله من بين الجبال ناقة كاملة الخلقة كبيرة الحجم، تشرب الماء في يوم، ثم تقف فيحلب منها الجميع، ما يملأ أوانيهم ويكفي جميع حاجتهم.
وحذرهم نبي الله صالح من إيذاء الناقة أو الاعتداء عليها، ولكن العناد جعلهم يوجهون انتقامهم إلى الناقة، فانطلق الأشقياء وعقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، واستعجلوا عذاب السماء، وطلبوا من صالح أن يأتيهم بهذا العذاب إن كان صادقا.
فأرسل الله عليهم عذابا مهلكا جزاء عدوانهم وتكذيبهم، وفي سورة الشمس وضحاها. يقول الله تعالى : كذبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها. ( الشمس : ١١-١٥ ).
وهي آيات مختصرة سهلة بالألف اللينة تبين عناصر الموضوع :
فقد كذبت ثمود رسولها، فجحدت رسالته، ثم طغت وبغت وحذرها رسولها وقال لها : هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء. فهي ناقة الله أي هي آية من عند الله، ولكن القوم ركبهم العناد والظلم، فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، فأمهلهم صالح ثلاثة أيام ؛ علهم أن يتوبوا، ثم أهلكهم الله وهو سبحانه قادر على ذلك، ولا يخاف من عاقبة إهلاكهم.
وقد ذكرت قصة صالح مع قوم ثمود في سورة هود الآيات ٦١- ٦٧ والأعراف : ٧٣ – ٧٩ والشعراء ١٤١ – ١٥٩ والنمل ٤٥ – ٥٣ والقمر ٢٣ – ٣١ والشمس ١١ – ١٥.
وفيها عناصر قصة قرآنية متكاملة تمر كالآتي :
رسول ينصح ويبلغ ويذكر.
قوم يكذبون ويكفرون ويعاندون.
آية ومعجزة تؤيد الرسول.
عناد وجدال وتكذيب وعدوان.
هلاك من السماء للكافرين، ونجاة للرسول والمؤمنين.
وهذه من أهداف القصة في القرآن الكريم وأهم أهداف القصة القرآنية ما يأتي :
إثبات الوحي والرسالة وبيان أن الدين كله من عند الله.
بيان أن وسائل الأنبياء في الدعوة واحدة.
بيان أن الله ينصر رسله في النهاية.
تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم.
بيان قدرة الله على الخوارق.
بيان عاقبة الاستقامة والصلاح، وعاقبة الانحراف والفساد.
تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
سوق العظة والعبرة من القصة. قال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ( يوسف : ١١١ ).
موضوع يحتاج إلى تحقيق :
يذكر بعض الكتاب أن ثمود نشأت في أعقاب عاد وقد ورثت أرضها، ويستأنسون بقوله تعالى :
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض. ( الأعراف : ٧٤ ) ( ٧٠ ).
وعند التحقيق نجد أن عادا كانت في جنوب الجزيرة بين اليمن وعمان، وأن ثمود كانت في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك.
فثمود لم تكن في أرض عاد، ولعل الله قد استخلف ثمود في أرضها في شمال الحجاز، بعد هلاك عاد في جنوب الحجاز، أو أنهم ورثوا خلافة الأرض والسيطرة عليها أو زعامة المنطقة.
وزمان عاد وثمود كان قريبا، وربما هلكت عاد في حياة ثمود فأراد الله أن يذكرهم بهلاك أقرانهم، وأن يقول لهم : اذكروا ملككم وخلافتكم في الأرض بعد هلاك عاد، وتملككم القصور والبساتين، والنعيم، فحافظوا على ذلك ولا تبطروا ولا تكفروا ؛ حتى لا يهلككم الله كما أهلك قبيلة عاد.
٧٥- قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه... الآية.
أي : قال الرؤساء المستكبرون من قوم صالح للمستضعفين الذين استضعفهم المستكبرون.
قالوا على سبيل الاستهزاء والسخرية :
أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه... إليكم لعبادته وحده لا شريك له وهو سؤال قصد منه المترفون تهديد المؤمنين والاستهزاء بهم ؛ لأنهم يعلمون أن المؤمنين يعرفون أن صالحا مرسل من ربه ولذا وجدنا المؤمنين لا يردون بمقتضى الظاهر وهو : إننا نعلم أن صالحا مرسل من ربه ؛ بل تضمن الجواب قولهم : لسنا فقط نعلم صدقه، بل نؤمن به ونتبعه ونطيع أمره، وهو جواب يدل على شجاعتهم في الجهر بالحق، وعلى قوة إيمانهم وسلامة يقينهم.
أرسل الله صالحا إلى قومه ثمود في أعقاب هلاك عاد قوم نبي الله هود.
وكانت عاد تسكن في جنوب الجزيرة، بين اليمن وعمان، وكانت ثمود تسكن في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك، وقد مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على منازلهم في طريقه إلى غزوة تبوك، فاستحث راحلته وحنى ظهره، وقال لقومه :( لا تمروا على قرى الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم مشفقون ؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم ).
وبدأ صالح بدعوته إلى توحيد الله وترك عبادة الأصنام وقابله قومه بالتكذيب والعناد.
فذكرهم بما بين أيديهم من النعم حيث قال لهم : أتتركون في ما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
( الشعراء : ١٤٦ -١٥٢ ).
واقترح القوم عليه أن يأتيهم بآية ومعجزة تدل على صدقه ؛ فأخرج الله من بين الجبال ناقة كاملة الخلقة كبيرة الحجم، تشرب الماء في يوم، ثم تقف فيحلب منها الجميع، ما يملأ أوانيهم ويكفي جميع حاجتهم.
وحذرهم نبي الله صالح من إيذاء الناقة أو الاعتداء عليها، ولكن العناد جعلهم يوجهون انتقامهم إلى الناقة، فانطلق الأشقياء وعقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، واستعجلوا عذاب السماء، وطلبوا من صالح أن يأتيهم بهذا العذاب إن كان صادقا.
فأرسل الله عليهم عذابا مهلكا جزاء عدوانهم وتكذيبهم، وفي سورة الشمس وضحاها. يقول الله تعالى : كذبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها. ( الشمس : ١١-١٥ ).
وهي آيات مختصرة سهلة بالألف اللينة تبين عناصر الموضوع :
فقد كذبت ثمود رسولها، فجحدت رسالته، ثم طغت وبغت وحذرها رسولها وقال لها : هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء. فهي ناقة الله أي هي آية من عند الله، ولكن القوم ركبهم العناد والظلم، فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، فأمهلهم صالح ثلاثة أيام ؛ علهم أن يتوبوا، ثم أهلكهم الله وهو سبحانه قادر على ذلك، ولا يخاف من عاقبة إهلاكهم.
وقد ذكرت قصة صالح مع قوم ثمود في سورة هود الآيات ٦١- ٦٧ والأعراف : ٧٣ – ٧٩ والشعراء ١٤١ – ١٥٩ والنمل ٤٥ – ٥٣ والقمر ٢٣ – ٣١ والشمس ١١ – ١٥.
وفيها عناصر قصة قرآنية متكاملة تمر كالآتي :
رسول ينصح ويبلغ ويذكر.
قوم يكذبون ويكفرون ويعاندون.
آية ومعجزة تؤيد الرسول.
عناد وجدال وتكذيب وعدوان.
هلاك من السماء للكافرين، ونجاة للرسول والمؤمنين.
وهذه من أهداف القصة في القرآن الكريم وأهم أهداف القصة القرآنية ما يأتي :
إثبات الوحي والرسالة وبيان أن الدين كله من عند الله.
بيان أن وسائل الأنبياء في الدعوة واحدة.
بيان أن الله ينصر رسله في النهاية.
تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم.
بيان قدرة الله على الخوارق.
بيان عاقبة الاستقامة والصلاح، وعاقبة الانحراف والفساد.
تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
سوق العظة والعبرة من القصة. قال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ( يوسف : ١١١ ).
موضوع يحتاج إلى تحقيق :
يذكر بعض الكتاب أن ثمود نشأت في أعقاب عاد وقد ورثت أرضها، ويستأنسون بقوله تعالى :
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض. ( الأعراف : ٧٤ ) ( ٧٠ ).
وعند التحقيق نجد أن عادا كانت في جنوب الجزيرة بين اليمن وعمان، وأن ثمود كانت في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك.
فثمود لم تكن في أرض عاد، ولعل الله قد استخلف ثمود في أرضها في شمال الحجاز، بعد هلاك عاد في جنوب الحجاز، أو أنهم ورثوا خلافة الأرض والسيطرة عليها أو زعامة المنطقة.
وزمان عاد وثمود كان قريبا، وربما هلكت عاد في حياة ثمود فأراد الله أن يذكرهم بهلاك أقرانهم، وأن يقول لهم : اذكروا ملككم وخلافتكم في الأرض بعد هلاك عاد، وتملككم القصور والبساتين، والنعيم، فحافظوا على ذلك ولا تبطروا ولا تكفروا ؛ حتى لا يهلككم الله كما أهلك قبيلة عاد.
٧٦- قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون.
لقد أعلنوا موقفهم في عناد وجحود، فقالوا : إنا بما آمنتم به كافرون، يرغبون في تهديدهم والاستخفاف بهم.
أرسل الله صالحا إلى قومه ثمود في أعقاب هلاك عاد قوم نبي الله هود.
وكانت عاد تسكن في جنوب الجزيرة، بين اليمن وعمان، وكانت ثمود تسكن في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك، وقد مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على منازلهم في طريقه إلى غزوة تبوك، فاستحث راحلته وحنى ظهره، وقال لقومه :( لا تمروا على قرى الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم مشفقون ؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم ).
وبدأ صالح بدعوته إلى توحيد الله وترك عبادة الأصنام وقابله قومه بالتكذيب والعناد.
فذكرهم بما بين أيديهم من النعم حيث قال لهم : أتتركون في ما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
( الشعراء : ١٤٦ -١٥٢ ).
واقترح القوم عليه أن يأتيهم بآية ومعجزة تدل على صدقه ؛ فأخرج الله من بين الجبال ناقة كاملة الخلقة كبيرة الحجم، تشرب الماء في يوم، ثم تقف فيحلب منها الجميع، ما يملأ أوانيهم ويكفي جميع حاجتهم.
وحذرهم نبي الله صالح من إيذاء الناقة أو الاعتداء عليها، ولكن العناد جعلهم يوجهون انتقامهم إلى الناقة، فانطلق الأشقياء وعقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، واستعجلوا عذاب السماء، وطلبوا من صالح أن يأتيهم بهذا العذاب إن كان صادقا.
فأرسل الله عليهم عذابا مهلكا جزاء عدوانهم وتكذيبهم، وفي سورة الشمس وضحاها. يقول الله تعالى : كذبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها. ( الشمس : ١١-١٥ ).
وهي آيات مختصرة سهلة بالألف اللينة تبين عناصر الموضوع :
فقد كذبت ثمود رسولها، فجحدت رسالته، ثم طغت وبغت وحذرها رسولها وقال لها : هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء. فهي ناقة الله أي هي آية من عند الله، ولكن القوم ركبهم العناد والظلم، فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، فأمهلهم صالح ثلاثة أيام ؛ علهم أن يتوبوا، ثم أهلكهم الله وهو سبحانه قادر على ذلك، ولا يخاف من عاقبة إهلاكهم.
وقد ذكرت قصة صالح مع قوم ثمود في سورة هود الآيات ٦١- ٦٧ والأعراف : ٧٣ – ٧٩ والشعراء ١٤١ – ١٥٩ والنمل ٤٥ – ٥٣ والقمر ٢٣ – ٣١ والشمس ١١ – ١٥.
وفيها عناصر قصة قرآنية متكاملة تمر كالآتي :
رسول ينصح ويبلغ ويذكر.
قوم يكذبون ويكفرون ويعاندون.
آية ومعجزة تؤيد الرسول.
عناد وجدال وتكذيب وعدوان.
هلاك من السماء للكافرين، ونجاة للرسول والمؤمنين.
وهذه من أهداف القصة في القرآن الكريم وأهم أهداف القصة القرآنية ما يأتي :
إثبات الوحي والرسالة وبيان أن الدين كله من عند الله.
بيان أن وسائل الأنبياء في الدعوة واحدة.
بيان أن الله ينصر رسله في النهاية.
تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم.
بيان قدرة الله على الخوارق.
بيان عاقبة الاستقامة والصلاح، وعاقبة الانحراف والفساد.
تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
سوق العظة والعبرة من القصة. قال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ( يوسف : ١١١ ).
موضوع يحتاج إلى تحقيق :
يذكر بعض الكتاب أن ثمود نشأت في أعقاب عاد وقد ورثت أرضها، ويستأنسون بقوله تعالى :
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض. ( الأعراف : ٧٤ ) ( ٧٠ ).
وعند التحقيق نجد أن عادا كانت في جنوب الجزيرة بين اليمن وعمان، وأن ثمود كانت في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك.
فثمود لم تكن في أرض عاد، ولعل الله قد استخلف ثمود في أرضها في شمال الحجاز، بعد هلاك عاد في جنوب الحجاز، أو أنهم ورثوا خلافة الأرض والسيطرة عليها أو زعامة المنطقة.
وزمان عاد وثمود كان قريبا، وربما هلكت عاد في حياة ثمود فأراد الله أن يذكرهم بهلاك أقرانهم، وأن يقول لهم : اذكروا ملككم وخلافتكم في الأرض بعد هلاك عاد، وتملككم القصور والبساتين، والنعيم، فحافظوا على ذلك ولا تبطروا ولا تكفروا ؛ حتى لا يهلككم الله كما أهلك قبيلة عاد.
المفردات :
فعقروا الناقة : ذبحوها، يقال : عقرها يعقرها : ذبحها.
عتوا : استكبروا وجاوزوا الحد، يقال : عتا يعتوا عتوا وعتيا : استكبر وتعدى.
التفسير :
٧٧- فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين.
لقد خالوف رسولهم واعتدوا على الناقة، وانبعث أشقاهم فعقرها وقتلها، وكان ذلك برضاهم وموافقتهم، ولذلك نسب إليهم، وقد فعلوا ذلك عن عتو واستكبار، وتعمد وإصرار على ارتكاب المنكر، وعتو عن أمر ربهم.
أي : استكبروا عن امتثال أوامره واجتناب نواهيه، من العتو وهو النبو أي : الارتفاع والتكبر عن الحق.
يقال : عتا يعتو عتيا ؛ إذا تجاوز الحد في الاستكبار فهو عات وعتى.
وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين.
بعد قتلهم الناقة واستكبارهم، تحدوا صالحا وقالوا : أنزل بنا العذاب الذي توعدتنا به إن كنت رسولا حقا.
أرسل الله صالحا إلى قومه ثمود في أعقاب هلاك عاد قوم نبي الله هود.
وكانت عاد تسكن في جنوب الجزيرة، بين اليمن وعمان، وكانت ثمود تسكن في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك، وقد مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على منازلهم في طريقه إلى غزوة تبوك، فاستحث راحلته وحنى ظهره، وقال لقومه :( لا تمروا على قرى الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم مشفقون ؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم ).
وبدأ صالح بدعوته إلى توحيد الله وترك عبادة الأصنام وقابله قومه بالتكذيب والعناد.
فذكرهم بما بين أيديهم من النعم حيث قال لهم : أتتركون في ما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
( الشعراء : ١٤٦ -١٥٢ ).
واقترح القوم عليه أن يأتيهم بآية ومعجزة تدل على صدقه ؛ فأخرج الله من بين الجبال ناقة كاملة الخلقة كبيرة الحجم، تشرب الماء في يوم، ثم تقف فيحلب منها الجميع، ما يملأ أوانيهم ويكفي جميع حاجتهم.
وحذرهم نبي الله صالح من إيذاء الناقة أو الاعتداء عليها، ولكن العناد جعلهم يوجهون انتقامهم إلى الناقة، فانطلق الأشقياء وعقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، واستعجلوا عذاب السماء، وطلبوا من صالح أن يأتيهم بهذا العذاب إن كان صادقا.
فأرسل الله عليهم عذابا مهلكا جزاء عدوانهم وتكذيبهم، وفي سورة الشمس وضحاها. يقول الله تعالى : كذبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها. ( الشمس : ١١-١٥ ).
وهي آيات مختصرة سهلة بالألف اللينة تبين عناصر الموضوع :
فقد كذبت ثمود رسولها، فجحدت رسالته، ثم طغت وبغت وحذرها رسولها وقال لها : هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء. فهي ناقة الله أي هي آية من عند الله، ولكن القوم ركبهم العناد والظلم، فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، فأمهلهم صالح ثلاثة أيام ؛ علهم أن يتوبوا، ثم أهلكهم الله وهو سبحانه قادر على ذلك، ولا يخاف من عاقبة إهلاكهم.
وقد ذكرت قصة صالح مع قوم ثمود في سورة هود الآيات ٦١- ٦٧ والأعراف : ٧٣ – ٧٩ والشعراء ١٤١ – ١٥٩ والنمل ٤٥ – ٥٣ والقمر ٢٣ – ٣١ والشمس ١١ – ١٥.
وفيها عناصر قصة قرآنية متكاملة تمر كالآتي :
رسول ينصح ويبلغ ويذكر.
قوم يكذبون ويكفرون ويعاندون.
آية ومعجزة تؤيد الرسول.
عناد وجدال وتكذيب وعدوان.
هلاك من السماء للكافرين، ونجاة للرسول والمؤمنين.
وهذه من أهداف القصة في القرآن الكريم وأهم أهداف القصة القرآنية ما يأتي :
إثبات الوحي والرسالة وبيان أن الدين كله من عند الله.
بيان أن وسائل الأنبياء في الدعوة واحدة.
بيان أن الله ينصر رسله في النهاية.
تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم.
بيان قدرة الله على الخوارق.
بيان عاقبة الاستقامة والصلاح، وعاقبة الانحراف والفساد.
تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
سوق العظة والعبرة من القصة. قال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ( يوسف : ١١١ ).
موضوع يحتاج إلى تحقيق :
يذكر بعض الكتاب أن ثمود نشأت في أعقاب عاد وقد ورثت أرضها، ويستأنسون بقوله تعالى :
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض. ( الأعراف : ٧٤ ) ( ٧٠ ).
وعند التحقيق نجد أن عادا كانت في جنوب الجزيرة بين اليمن وعمان، وأن ثمود كانت في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك.
فثمود لم تكن في أرض عاد، ولعل الله قد استخلف ثمود في أرضها في شمال الحجاز، بعد هلاك عاد في جنوب الحجاز، أو أنهم ورثوا خلافة الأرض والسيطرة عليها أو زعامة المنطقة.
وزمان عاد وثمود كان قريبا، وربما هلكت عاد في حياة ثمود فأراد الله أن يذكرهم بهلاك أقرانهم، وأن يقول لهم : اذكروا ملككم وخلافتكم في الأرض بعد هلاك عاد، وتملككم القصور والبساتين، والنعيم، فحافظوا على ذلك ولا تبطروا ولا تكفروا ؛ حتى لا يهلككم الله كما أهلك قبيلة عاد.
المفردات :
الرجفة : الزلزلة الشديدة أو الصيحة.
جاثمين : متبلدين بالأرض، وهنا معناه : خامدين هامدي الحس، فعله : جثم يجثم جثوما.
التفسير :
٧٨- فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
الرجفة : الزلزلة الشديدة.
جاثمين : ساقطين على وجوههم.
والمعنى : فأخذت أولئك المستكبرين الرجفة أي : الزلزلة الشديدة التي وصفت بالصيحة وبالطاغية ؛ لأنها انتقام من الله تعالى : فأما ثمود فاهلكوا بالطاغية. ( الحاقة : ٥ ).
فأصبحوا في ديارهم جاثمين مقلوبين على وجوههم كما يجثم الطائر على الأرض أو كما يبرك البعير هامدا لا يتحرك.
كذلك هؤلاء المكذبين صاروا لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم ميتين لا حراك بهم.
أرسل الله صالحا إلى قومه ثمود في أعقاب هلاك عاد قوم نبي الله هود.
وكانت عاد تسكن في جنوب الجزيرة، بين اليمن وعمان، وكانت ثمود تسكن في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك، وقد مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على منازلهم في طريقه إلى غزوة تبوك، فاستحث راحلته وحنى ظهره، وقال لقومه :( لا تمروا على قرى الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم مشفقون ؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم ).
وبدأ صالح بدعوته إلى توحيد الله وترك عبادة الأصنام وقابله قومه بالتكذيب والعناد.
فذكرهم بما بين أيديهم من النعم حيث قال لهم : أتتركون في ما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
( الشعراء : ١٤٦ -١٥٢ ).
واقترح القوم عليه أن يأتيهم بآية ومعجزة تدل على صدقه ؛ فأخرج الله من بين الجبال ناقة كاملة الخلقة كبيرة الحجم، تشرب الماء في يوم، ثم تقف فيحلب منها الجميع، ما يملأ أوانيهم ويكفي جميع حاجتهم.
وحذرهم نبي الله صالح من إيذاء الناقة أو الاعتداء عليها، ولكن العناد جعلهم يوجهون انتقامهم إلى الناقة، فانطلق الأشقياء وعقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، واستعجلوا عذاب السماء، وطلبوا من صالح أن يأتيهم بهذا العذاب إن كان صادقا.
فأرسل الله عليهم عذابا مهلكا جزاء عدوانهم وتكذيبهم، وفي سورة الشمس وضحاها. يقول الله تعالى : كذبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها. ( الشمس : ١١-١٥ ).
وهي آيات مختصرة سهلة بالألف اللينة تبين عناصر الموضوع :
فقد كذبت ثمود رسولها، فجحدت رسالته، ثم طغت وبغت وحذرها رسولها وقال لها : هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء. فهي ناقة الله أي هي آية من عند الله، ولكن القوم ركبهم العناد والظلم، فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، فأمهلهم صالح ثلاثة أيام ؛ علهم أن يتوبوا، ثم أهلكهم الله وهو سبحانه قادر على ذلك، ولا يخاف من عاقبة إهلاكهم.
وقد ذكرت قصة صالح مع قوم ثمود في سورة هود الآيات ٦١- ٦٧ والأعراف : ٧٣ – ٧٩ والشعراء ١٤١ – ١٥٩ والنمل ٤٥ – ٥٣ والقمر ٢٣ – ٣١ والشمس ١١ – ١٥.
وفيها عناصر قصة قرآنية متكاملة تمر كالآتي :
رسول ينصح ويبلغ ويذكر.
قوم يكذبون ويكفرون ويعاندون.
آية ومعجزة تؤيد الرسول.
عناد وجدال وتكذيب وعدوان.
هلاك من السماء للكافرين، ونجاة للرسول والمؤمنين.
وهذه من أهداف القصة في القرآن الكريم وأهم أهداف القصة القرآنية ما يأتي :
إثبات الوحي والرسالة وبيان أن الدين كله من عند الله.
بيان أن وسائل الأنبياء في الدعوة واحدة.
بيان أن الله ينصر رسله في النهاية.
تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم.
بيان قدرة الله على الخوارق.
بيان عاقبة الاستقامة والصلاح، وعاقبة الانحراف والفساد.
تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
سوق العظة والعبرة من القصة. قال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ( يوسف : ١١١ ).
موضوع يحتاج إلى تحقيق :
يذكر بعض الكتاب أن ثمود نشأت في أعقاب عاد وقد ورثت أرضها، ويستأنسون بقوله تعالى :
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض. ( الأعراف : ٧٤ ) ( ٧٠ ).
وعند التحقيق نجد أن عادا كانت في جنوب الجزيرة بين اليمن وعمان، وأن ثمود كانت في شمال الجزيرة بين الحجاز والأردن في طريق تبوك.
فثمود لم تكن في أرض عاد، ولعل الله قد استخلف ثمود في أرضها في شمال الحجاز، بعد هلاك عاد في جنوب الحجاز، أو أنهم ورثوا خلافة الأرض والسيطرة عليها أو زعامة المنطقة.
وزمان عاد وثمود كان قريبا، وربما هلكت عاد في حياة ثمود فأراد الله أن يذكرهم بهلاك أقرانهم، وأن يقول لهم : اذكروا ملككم وخلافتكم في الأرض بعد هلاك عاد، وتملككم القصور والبساتين، والنعيم، فحافظوا على ذلك ولا تبطروا ولا تكفروا ؛ حتى لا يهلككم الله كما أهلك قبيلة عاد.
المفردات :
فتولى عنهم : فأعرض عنهم.
التفسير :
٧٩- فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين.
فتولى عنهم نبيهم صالح، أو ذهب عن أرضهم موليا لهم ظهره عند اليأس من إجابتهم، ونفض يده منهم، وتركهم للمصير الذي جلبوه لأنفسهم، وأخذ يقول متحسرا على ما فاتهم من الإيمان والسلامة من العذاب.
يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي كاملة غير منقوصة، ونصحت لكم بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى، ولكن كان شأنكم بغض الناصحين وعداوتهم، ثم مضى صالح في طريقه مع من آمن به، وترك هؤلاء جثوما هامدين.
ولوطا : أي : وأرسلنا لوطا.
الفاحشة : الفعلة القبيحة، يقال : فحش يفحش فحشا : أتى بعمل قبيح، والفاحشة هنا المراد بها : إتيان الذكور.
قصة لوط عليه السلام :
لوط عليه السلام ابن هاران بن آزر هو ابن أخي إبراهيم وقد رحل إبراهيم عن مصر واصطحب معه في سفره لوطا، ورجعا من هذه البلاد بمال كثير وخير موفور، ونزلا بتلك الأرض المقدسة، ثم ضاقت بأنعامهما بقعة الأرض التي نزلا بها، فنزح لوط عن ديار عمه إبراهيم، واستقر به المقام في مدينة سدوم، قرب الأرض المقدسة، قرب البحر الميت وقد كان اهلها لا يتعففون عن منكر، وكانوا من أفجر الناس وأقبحهم سيرة، يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق، ويتربصون لكل سائر، فيجتمعون عليه في كل حدب وصوب، ويسلبونه ما حمل، ثم يتركونه يندب حظه، ويبكي ضياع ماله.
ثم ابتكروا فاحشة لم يسبق إليها أحد من العالمين، فكانوا يأتون الذكران، ويتركون ما خلق الله لهم من النساء، وذهبوا يحملون الناس على ذلك، ويجعلونه أمرا مألوفا في المنتديات والمجتمعات.
وقد أوحى الله إلى لوط أن يدعوهم إلى عبادته سبحانه وتعالى، وينهاهم عن اقتراف هذه الجرائم، فنهض لوط عليه السلام بدعوته، وحذرهم من العدوان على الآخرين، وبين لهم ضرر الشذوذ الجنسي، فالرجل ليس مكان الحرث، والمرأة خلقها الله تعالى ؛ لتكون موضع شهوة الرجل، وليكون ذلك وسيلة إلى إعمار الكون وتوالد الذرية.
وهكذا أخذ لوط ينكر على قومه سلوكهم، ويدعوهم إلى التطهر والاستقامة، ويبين لهم عاقبة الانحراف، والخروج على نظام الفطرة الإلهية، لكن القوم كانوا سادرين في غيهم، يعتبرون سلوكهم تقدما، وسلوك غيرهم تطهرا وتأخرا، وقرروا طرد لوط ومن آمن به من بلدهم ؛ لأنهم قوم يتطهرون.
فدعا لوط ربه، أن ينزل بهم ما يستحقون من العذاب.
ملائكة السماء :
أرسل الله الملائكة إلى إبراهيم عليه السلام، وقد سألهم إبراهيم عن وجهتهم فأخبروه أنهم في طريقهم إلى قرى قوم لوط لإرسال حجارة عليهم.
وهي حجارة من سجيل ( أي : من صوان )، وهي سجيل ولكنها منضودة ( أي : مهيأة ومعدة لهم، في أحجام منتظمة ) وهي منضودة، ولكنها مسومة ( أي : معلمة، يعرف كل حجر منها المكان الذي يقع عليه والأثر الذي يحدثه ).
ونجى الله لوطا ومن آمن به، وأهلك زوجته مع الهالكين الغابرين، الذين أصابتهم الغبرة وهي التراب، وتركهم عظة وعبرة لكل خارج على هدى الله رب العالمين.
وقد وردت قصة لوط في السور الآتية :
الأعراف ٨٠_٨٤، النمل ٥٣-٥٨، هود ٧٧-٨٣، العنكبوت ٢٦-٣٥، الشعراء ١٦٠- ١٧٥، الحجر ٥٧-٧٧، الصافات ١٣٣-١٣٨، الأنبياء ٧٤، ٧٥، الحج ٤٣، ق١٣، القمر ٣٣- ٣٩.
عناصر القصة في القرآن الكريم :
إذا قرأنا قصة لوط في عشر سور في القرآن الكريم سبق ذكرها وجدنا أن عناصر القصة كالآتي :
ارتكاب قوم لوط للفاحشة والعدوان على الاخرين.
رسالة لوط إليهم ودعوتهم إلى توحيد الله، وإلى ترك الشذوذ.
مقاومة قوم لوط واضطهادهم للمؤمنين.
استغاثة لوط بالله تعالى.
إرسال الملائكة تطلب من لوط أن يخرج مع قومه من هذه القرى الظالمة، ولا يلتفت إليهم متعطفا أو مسترحما.
إرسال العذاب بحجارة من صوان صوبت إلى كل فرد، وقلب الله القرية فجعل عاليها سافلها، وأهلكها بالعذاب.
جعل الله ذلك عظة وعبرة لكل ظالم.
آيات من قصة لوط في القرآن الكريم :
قال تعالى :
ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب * وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لي بكم قوة أو ءاوى إلى ركن شديد * قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب * فلما جاء أمرنا جعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد.
( هود : ٧٧-٨٣ ).
من سورة الشعراء :
كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسئلكم من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يا لوط لنكونن من المخرجين * قال إني لعملكم من القالين * رب نجني وأهلي مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين * وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم. ( الشعراء : ١٦٠- ١٧٥ ).
ولقد كان القرآن الكريم حكيما مربيا مرشدا معلما للبشرية حتى تتجنب طريق الشذوذ المهلك، ومعروف أن بعض الدول الأوربية أباحت الشذوذ بين البالغين الذين يزيد عمرهم عن ٢١ علما، وأباحت بعض الدول الزنا إن كان برضى الطرفين ولم تكن إحداهما زوجة.
ثم انتشر وباء الإدز وهو نقص المناعة المؤدي إلى الموت، وقد ارتعدت البشرية وتعالت الصيحات بالبعد عن الشذوذ، وعن الزنا، ووجوب الاكتفاء برجل واحد لزوجة واحدة، وكأن البشرية تعود إلى طريق القرآن وهدى الرحمن، الذي حرم الشذوذ، وحرم الزنا ونهى عنه حيث قال تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا. ( الإسراء : ٣٢ ).
٨٠- ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين.
أي : وأرسلنا لوطا إلى قومه بقرية سدوم، بقرب بيت المقدس، فقال لقومه : أترتكبون تلك الفعلة التي بلغت النهاية في القبح والفحش ؟ ! والتي ما فعلها أحد قبلكم في زمن من الأزمان ؟ فأنتم أول من ابتدعها فعليكم وزرها ووزر من عملها إلى يوم القيامة. والاستفهام هنا للإنكار، أي : أترتكبون فاحشة اللواط، وهو شذوذ عن الفطرة لم يفعله أحد من قبلكم ؟ !.
قال عمر بن دينار :( ما نزا ذكر على ذكر حتى كان من قوم لوط )
وقال الوليد بن عبد الملك :( لولا أن الله قص علينا خبر قوم لوط، ما ظننت أن ذكرا يعلوا ذكرا ).
لوط عليه السلام ابن هاران بن آزر هو ابن أخي إبراهيم وقد رحل إبراهيم عن مصر واصطحب معه في سفره لوطا، ورجعا من هذه البلاد بمال كثير وخير موفور، ونزلا بتلك الأرض المقدسة، ثم ضاقت بأنعامهما بقعة الأرض التي نزلا بها، فنزح لوط عن ديار عمه إبراهيم، واستقر به المقام في مدينة سدوم، قرب الأرض المقدسة، قرب البحر الميت وقد كان اهلها لا يتعففون عن منكر، وكانوا من أفجر الناس وأقبحهم سيرة، يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق، ويتربصون لكل سائر، فيجتمعون عليه في كل حدب وصوب، ويسلبونه ما حمل، ثم يتركونه يندب حظه، ويبكي ضياع ماله.
ثم ابتكروا فاحشة لم يسبق إليها أحد من العالمين، فكانوا يأتون الذكران، ويتركون ما خلق الله لهم من النساء، وذهبوا يحملون الناس على ذلك، ويجعلونه أمرا مألوفا في المنتديات والمجتمعات.
وقد أوحى الله إلى لوط أن يدعوهم إلى عبادته سبحانه وتعالى، وينهاهم عن اقتراف هذه الجرائم، فنهض لوط عليه السلام بدعوته، وحذرهم من العدوان على الآخرين، وبين لهم ضرر الشذوذ الجنسي، فالرجل ليس مكان الحرث، والمرأة خلقها الله تعالى ؛ لتكون موضع شهوة الرجل، وليكون ذلك وسيلة إلى إعمار الكون وتوالد الذرية.
وهكذا أخذ لوط ينكر على قومه سلوكهم، ويدعوهم إلى التطهر والاستقامة، ويبين لهم عاقبة الانحراف، والخروج على نظام الفطرة الإلهية، لكن القوم كانوا سادرين في غيهم، يعتبرون سلوكهم تقدما، وسلوك غيرهم تطهرا وتأخرا، وقرروا طرد لوط ومن آمن به من بلدهم ؛ لأنهم قوم يتطهرون.
فدعا لوط ربه، أن ينزل بهم ما يستحقون من العذاب.
ملائكة السماء :
أرسل الله الملائكة إلى إبراهيم عليه السلام، وقد سألهم إبراهيم عن وجهتهم فأخبروه أنهم في طريقهم إلى قرى قوم لوط لإرسال حجارة عليهم.
وهي حجارة من سجيل ( أي : من صوان )، وهي سجيل ولكنها منضودة ( أي : مهيأة ومعدة لهم، في أحجام منتظمة ) وهي منضودة، ولكنها مسومة ( أي : معلمة، يعرف كل حجر منها المكان الذي يقع عليه والأثر الذي يحدثه ).
ونجى الله لوطا ومن آمن به، وأهلك زوجته مع الهالكين الغابرين، الذين أصابتهم الغبرة وهي التراب، وتركهم عظة وعبرة لكل خارج على هدى الله رب العالمين.
وقد وردت قصة لوط في السور الآتية :
الأعراف ٨٠_٨٤، النمل ٥٣-٥٨، هود ٧٧-٨٣، العنكبوت ٢٦-٣٥، الشعراء ١٦٠- ١٧٥، الحجر ٥٧-٧٧، الصافات ١٣٣-١٣٨، الأنبياء ٧٤، ٧٥، الحج ٤٣، ق١٣، القمر ٣٣- ٣٩.
عناصر القصة في القرآن الكريم :
إذا قرأنا قصة لوط في عشر سور في القرآن الكريم سبق ذكرها وجدنا أن عناصر القصة كالآتي :
ارتكاب قوم لوط للفاحشة والعدوان على الاخرين.
رسالة لوط إليهم ودعوتهم إلى توحيد الله، وإلى ترك الشذوذ.
مقاومة قوم لوط واضطهادهم للمؤمنين.
استغاثة لوط بالله تعالى.
إرسال الملائكة تطلب من لوط أن يخرج مع قومه من هذه القرى الظالمة، ولا يلتفت إليهم متعطفا أو مسترحما.
إرسال العذاب بحجارة من صوان صوبت إلى كل فرد، وقلب الله القرية فجعل عاليها سافلها، وأهلكها بالعذاب.
جعل الله ذلك عظة وعبرة لكل ظالم.
آيات من قصة لوط في القرآن الكريم :
قال تعالى :
ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب * وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لي بكم قوة أو ءاوى إلى ركن شديد * قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب * فلما جاء أمرنا جعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد.
( هود : ٧٧-٨٣ ).
من سورة الشعراء :
كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسئلكم من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يا لوط لنكونن من المخرجين * قال إني لعملكم من القالين * رب نجني وأهلي مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين * وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم. ( الشعراء : ١٦٠- ١٧٥ ).
ولقد كان القرآن الكريم حكيما مربيا مرشدا معلما للبشرية حتى تتجنب طريق الشذوذ المهلك، ومعروف أن بعض الدول الأوربية أباحت الشذوذ بين البالغين الذين يزيد عمرهم عن ٢١ علما، وأباحت بعض الدول الزنا إن كان برضى الطرفين ولم تكن إحداهما زوجة.
ثم انتشر وباء الإدز وهو نقص المناعة المؤدي إلى الموت، وقد ارتعدت البشرية وتعالت الصيحات بالبعد عن الشذوذ، وعن الزنا، ووجوب الاكتفاء برجل واحد لزوجة واحدة، وكأن البشرية تعود إلى طريق القرآن وهدى الرحمن، الذي حرم الشذوذ، وحرم الزنا ونهى عنه حيث قال تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا. ( الإسراء : ٣٢ ).
٨١- إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون.
لقد انتكستم في فطرتكم ؛ فقد خلق الله الشهوة في الرجل ليتجه بها نحو المرأة حتى يتم الامتاع النفسي والجنسي ويترتب على ذلك إعمار الكون والتناسل ووجود الذرية.
لكن قوم لوط اتجهوا بشهوتهم إلى أدبار الرجال، وكانت لذتهم في ذلك، وتركوا النساء فلم يقوموا بواجبهم نحوهم، وهذا لون من الإسراف والخروج عن الاعتدال البشري، وعن مقتضى الفطرة إلى الإسراف في قضاء اللذة مع الرجال دون النساء.
إنهم مرضى بالشذوذ، فقد تركوا المرأة التي خلقها الله لقضاء الوطر وإنجاب الذرية، واتجهوا بشهوتهم إلى نكاح الرجال عدوانا وإسرافا !.
لوط عليه السلام ابن هاران بن آزر هو ابن أخي إبراهيم وقد رحل إبراهيم عن مصر واصطحب معه في سفره لوطا، ورجعا من هذه البلاد بمال كثير وخير موفور، ونزلا بتلك الأرض المقدسة، ثم ضاقت بأنعامهما بقعة الأرض التي نزلا بها، فنزح لوط عن ديار عمه إبراهيم، واستقر به المقام في مدينة سدوم، قرب الأرض المقدسة، قرب البحر الميت وقد كان اهلها لا يتعففون عن منكر، وكانوا من أفجر الناس وأقبحهم سيرة، يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق، ويتربصون لكل سائر، فيجتمعون عليه في كل حدب وصوب، ويسلبونه ما حمل، ثم يتركونه يندب حظه، ويبكي ضياع ماله.
ثم ابتكروا فاحشة لم يسبق إليها أحد من العالمين، فكانوا يأتون الذكران، ويتركون ما خلق الله لهم من النساء، وذهبوا يحملون الناس على ذلك، ويجعلونه أمرا مألوفا في المنتديات والمجتمعات.
وقد أوحى الله إلى لوط أن يدعوهم إلى عبادته سبحانه وتعالى، وينهاهم عن اقتراف هذه الجرائم، فنهض لوط عليه السلام بدعوته، وحذرهم من العدوان على الآخرين، وبين لهم ضرر الشذوذ الجنسي، فالرجل ليس مكان الحرث، والمرأة خلقها الله تعالى ؛ لتكون موضع شهوة الرجل، وليكون ذلك وسيلة إلى إعمار الكون وتوالد الذرية.
وهكذا أخذ لوط ينكر على قومه سلوكهم، ويدعوهم إلى التطهر والاستقامة، ويبين لهم عاقبة الانحراف، والخروج على نظام الفطرة الإلهية، لكن القوم كانوا سادرين في غيهم، يعتبرون سلوكهم تقدما، وسلوك غيرهم تطهرا وتأخرا، وقرروا طرد لوط ومن آمن به من بلدهم ؛ لأنهم قوم يتطهرون.
فدعا لوط ربه، أن ينزل بهم ما يستحقون من العذاب.
ملائكة السماء :
أرسل الله الملائكة إلى إبراهيم عليه السلام، وقد سألهم إبراهيم عن وجهتهم فأخبروه أنهم في طريقهم إلى قرى قوم لوط لإرسال حجارة عليهم.
وهي حجارة من سجيل ( أي : من صوان )، وهي سجيل ولكنها منضودة ( أي : مهيأة ومعدة لهم، في أحجام منتظمة ) وهي منضودة، ولكنها مسومة ( أي : معلمة، يعرف كل حجر منها المكان الذي يقع عليه والأثر الذي يحدثه ).
ونجى الله لوطا ومن آمن به، وأهلك زوجته مع الهالكين الغابرين، الذين أصابتهم الغبرة وهي التراب، وتركهم عظة وعبرة لكل خارج على هدى الله رب العالمين.
وقد وردت قصة لوط في السور الآتية :
الأعراف ٨٠_٨٤، النمل ٥٣-٥٨، هود ٧٧-٨٣، العنكبوت ٢٦-٣٥، الشعراء ١٦٠- ١٧٥، الحجر ٥٧-٧٧، الصافات ١٣٣-١٣٨، الأنبياء ٧٤، ٧٥، الحج ٤٣، ق١٣، القمر ٣٣- ٣٩.
عناصر القصة في القرآن الكريم :
إذا قرأنا قصة لوط في عشر سور في القرآن الكريم سبق ذكرها وجدنا أن عناصر القصة كالآتي :
ارتكاب قوم لوط للفاحشة والعدوان على الاخرين.
رسالة لوط إليهم ودعوتهم إلى توحيد الله، وإلى ترك الشذوذ.
مقاومة قوم لوط واضطهادهم للمؤمنين.
استغاثة لوط بالله تعالى.
إرسال الملائكة تطلب من لوط أن يخرج مع قومه من هذه القرى الظالمة، ولا يلتفت إليهم متعطفا أو مسترحما.
إرسال العذاب بحجارة من صوان صوبت إلى كل فرد، وقلب الله القرية فجعل عاليها سافلها، وأهلكها بالعذاب.
جعل الله ذلك عظة وعبرة لكل ظالم.
آيات من قصة لوط في القرآن الكريم :
قال تعالى :
ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب * وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لي بكم قوة أو ءاوى إلى ركن شديد * قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب * فلما جاء أمرنا جعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد.
( هود : ٧٧-٨٣ ).
من سورة الشعراء :
كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسئلكم من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يا لوط لنكونن من المخرجين * قال إني لعملكم من القالين * رب نجني وأهلي مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين * وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم. ( الشعراء : ١٦٠- ١٧٥ ).
ولقد كان القرآن الكريم حكيما مربيا مرشدا معلما للبشرية حتى تتجنب طريق الشذوذ المهلك، ومعروف أن بعض الدول الأوربية أباحت الشذوذ بين البالغين الذين يزيد عمرهم عن ٢١ علما، وأباحت بعض الدول الزنا إن كان برضى الطرفين ولم تكن إحداهما زوجة.
ثم انتشر وباء الإدز وهو نقص المناعة المؤدي إلى الموت، وقد ارتعدت البشرية وتعالت الصيحات بالبعد عن الشذوذ، وعن الزنا، ووجوب الاكتفاء برجل واحد لزوجة واحدة، وكأن البشرية تعود إلى طريق القرآن وهدى الرحمن، الذي حرم الشذوذ، وحرم الزنا ونهى عنه حيث قال تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا. ( الإسراء : ٣٢ ).
المفردات :
يتطهرون : يدعون الطهارة مما نأتى.
التفسير :
٨٢- وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون.
كان الأمل أن يستجيبوا لدعوة لوط عليه السلام، وأن يستمعوا لداعي الهدى، لكنهم أصروا على ضلالهم، كما هو ديدن الشطار والدعار، وتواصوا بأن يطردوا لوطا، ومن آمن به، من قرية سدوم ؛ لأنهم يتطهرون عن الوقوع في اللواط وعن العدوان على الآخرين.
وهو منطق أعرج وسبيل أعوج، أن يستنكفوا عن الهدى ثم يصرون على إخراج الشرفاء الأطهار ؛ ليبقى لهم الملوثون الممسوخون.
فهم يسخرون بالمؤمنين، وبتطهرهم من الفواحش، ويفتخرون بما كانوا فيه من القذارة واللواط.
وصدق الله العظيم : أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا.
لوط عليه السلام ابن هاران بن آزر هو ابن أخي إبراهيم وقد رحل إبراهيم عن مصر واصطحب معه في سفره لوطا، ورجعا من هذه البلاد بمال كثير وخير موفور، ونزلا بتلك الأرض المقدسة، ثم ضاقت بأنعامهما بقعة الأرض التي نزلا بها، فنزح لوط عن ديار عمه إبراهيم، واستقر به المقام في مدينة سدوم، قرب الأرض المقدسة، قرب البحر الميت وقد كان اهلها لا يتعففون عن منكر، وكانوا من أفجر الناس وأقبحهم سيرة، يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق، ويتربصون لكل سائر، فيجتمعون عليه في كل حدب وصوب، ويسلبونه ما حمل، ثم يتركونه يندب حظه، ويبكي ضياع ماله.
ثم ابتكروا فاحشة لم يسبق إليها أحد من العالمين، فكانوا يأتون الذكران، ويتركون ما خلق الله لهم من النساء، وذهبوا يحملون الناس على ذلك، ويجعلونه أمرا مألوفا في المنتديات والمجتمعات.
وقد أوحى الله إلى لوط أن يدعوهم إلى عبادته سبحانه وتعالى، وينهاهم عن اقتراف هذه الجرائم، فنهض لوط عليه السلام بدعوته، وحذرهم من العدوان على الآخرين، وبين لهم ضرر الشذوذ الجنسي، فالرجل ليس مكان الحرث، والمرأة خلقها الله تعالى ؛ لتكون موضع شهوة الرجل، وليكون ذلك وسيلة إلى إعمار الكون وتوالد الذرية.
وهكذا أخذ لوط ينكر على قومه سلوكهم، ويدعوهم إلى التطهر والاستقامة، ويبين لهم عاقبة الانحراف، والخروج على نظام الفطرة الإلهية، لكن القوم كانوا سادرين في غيهم، يعتبرون سلوكهم تقدما، وسلوك غيرهم تطهرا وتأخرا، وقرروا طرد لوط ومن آمن به من بلدهم ؛ لأنهم قوم يتطهرون.
فدعا لوط ربه، أن ينزل بهم ما يستحقون من العذاب.
ملائكة السماء :
أرسل الله الملائكة إلى إبراهيم عليه السلام، وقد سألهم إبراهيم عن وجهتهم فأخبروه أنهم في طريقهم إلى قرى قوم لوط لإرسال حجارة عليهم.
وهي حجارة من سجيل ( أي : من صوان )، وهي سجيل ولكنها منضودة ( أي : مهيأة ومعدة لهم، في أحجام منتظمة ) وهي منضودة، ولكنها مسومة ( أي : معلمة، يعرف كل حجر منها المكان الذي يقع عليه والأثر الذي يحدثه ).
ونجى الله لوطا ومن آمن به، وأهلك زوجته مع الهالكين الغابرين، الذين أصابتهم الغبرة وهي التراب، وتركهم عظة وعبرة لكل خارج على هدى الله رب العالمين.
وقد وردت قصة لوط في السور الآتية :
الأعراف ٨٠_٨٤، النمل ٥٣-٥٨، هود ٧٧-٨٣، العنكبوت ٢٦-٣٥، الشعراء ١٦٠- ١٧٥، الحجر ٥٧-٧٧، الصافات ١٣٣-١٣٨، الأنبياء ٧٤، ٧٥، الحج ٤٣، ق١٣، القمر ٣٣- ٣٩.
عناصر القصة في القرآن الكريم :
إذا قرأنا قصة لوط في عشر سور في القرآن الكريم سبق ذكرها وجدنا أن عناصر القصة كالآتي :
ارتكاب قوم لوط للفاحشة والعدوان على الاخرين.
رسالة لوط إليهم ودعوتهم إلى توحيد الله، وإلى ترك الشذوذ.
مقاومة قوم لوط واضطهادهم للمؤمنين.
استغاثة لوط بالله تعالى.
إرسال الملائكة تطلب من لوط أن يخرج مع قومه من هذه القرى الظالمة، ولا يلتفت إليهم متعطفا أو مسترحما.
إرسال العذاب بحجارة من صوان صوبت إلى كل فرد، وقلب الله القرية فجعل عاليها سافلها، وأهلكها بالعذاب.
جعل الله ذلك عظة وعبرة لكل ظالم.
آيات من قصة لوط في القرآن الكريم :
قال تعالى :
ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب * وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لي بكم قوة أو ءاوى إلى ركن شديد * قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب * فلما جاء أمرنا جعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد.
( هود : ٧٧-٨٣ ).
من سورة الشعراء :
كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسئلكم من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يا لوط لنكونن من المخرجين * قال إني لعملكم من القالين * رب نجني وأهلي مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين * وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم. ( الشعراء : ١٦٠- ١٧٥ ).
ولقد كان القرآن الكريم حكيما مربيا مرشدا معلما للبشرية حتى تتجنب طريق الشذوذ المهلك، ومعروف أن بعض الدول الأوربية أباحت الشذوذ بين البالغين الذين يزيد عمرهم عن ٢١ علما، وأباحت بعض الدول الزنا إن كان برضى الطرفين ولم تكن إحداهما زوجة.
ثم انتشر وباء الإدز وهو نقص المناعة المؤدي إلى الموت، وقد ارتعدت البشرية وتعالت الصيحات بالبعد عن الشذوذ، وعن الزنا، ووجوب الاكتفاء برجل واحد لزوجة واحدة، وكأن البشرية تعود إلى طريق القرآن وهدى الرحمن، الذي حرم الشذوذ، وحرم الزنا ونهى عنه حيث قال تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا. ( الإسراء : ٣٢ ).
المفردات :
الغابرين : الباقين في العذاب كأمثالها، والغابر : يطلق على الباقي والماضي، يقال : غبر يغبر غبورا مكث، وذهب، وهو في الأفعال التي لها معنيان متضادان.
التفسير :
٨٣- فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين.
أنجى الله لوطا وأهله المؤمنين، وأهلك امرأته مع الهالكين.
قالوا : ولم يؤمن بلوط سوى أهل بيته فقط كما قال تعالى : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين. ( الذاريات : ٣٥، ٣٦ )
وقوله : إلا امرأته استثناء من أهله، أي : فأنجيناه وأهله إلا امرأته فإننا لم ننجها ؛ لخبثها وعدم إيمانها.
قال ابن كثير : إنها لم تؤمن به بل كانت على دين قومها، تمالئهم عاليه، وتخبرهم بمن يقدم عليه من ضيفانه ؛ بإشارات بينها وبينهم، ولهذا لما أمر لوط عليه السلام ؛ ليسري بأهله – أمر ألا يعلمها ولا يخرجها من البلد.
لوط عليه السلام ابن هاران بن آزر هو ابن أخي إبراهيم وقد رحل إبراهيم عن مصر واصطحب معه في سفره لوطا، ورجعا من هذه البلاد بمال كثير وخير موفور، ونزلا بتلك الأرض المقدسة، ثم ضاقت بأنعامهما بقعة الأرض التي نزلا بها، فنزح لوط عن ديار عمه إبراهيم، واستقر به المقام في مدينة سدوم، قرب الأرض المقدسة، قرب البحر الميت وقد كان اهلها لا يتعففون عن منكر، وكانوا من أفجر الناس وأقبحهم سيرة، يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق، ويتربصون لكل سائر، فيجتمعون عليه في كل حدب وصوب، ويسلبونه ما حمل، ثم يتركونه يندب حظه، ويبكي ضياع ماله.
ثم ابتكروا فاحشة لم يسبق إليها أحد من العالمين، فكانوا يأتون الذكران، ويتركون ما خلق الله لهم من النساء، وذهبوا يحملون الناس على ذلك، ويجعلونه أمرا مألوفا في المنتديات والمجتمعات.
وقد أوحى الله إلى لوط أن يدعوهم إلى عبادته سبحانه وتعالى، وينهاهم عن اقتراف هذه الجرائم، فنهض لوط عليه السلام بدعوته، وحذرهم من العدوان على الآخرين، وبين لهم ضرر الشذوذ الجنسي، فالرجل ليس مكان الحرث، والمرأة خلقها الله تعالى ؛ لتكون موضع شهوة الرجل، وليكون ذلك وسيلة إلى إعمار الكون وتوالد الذرية.
وهكذا أخذ لوط ينكر على قومه سلوكهم، ويدعوهم إلى التطهر والاستقامة، ويبين لهم عاقبة الانحراف، والخروج على نظام الفطرة الإلهية، لكن القوم كانوا سادرين في غيهم، يعتبرون سلوكهم تقدما، وسلوك غيرهم تطهرا وتأخرا، وقرروا طرد لوط ومن آمن به من بلدهم ؛ لأنهم قوم يتطهرون.
فدعا لوط ربه، أن ينزل بهم ما يستحقون من العذاب.
ملائكة السماء :
أرسل الله الملائكة إلى إبراهيم عليه السلام، وقد سألهم إبراهيم عن وجهتهم فأخبروه أنهم في طريقهم إلى قرى قوم لوط لإرسال حجارة عليهم.
وهي حجارة من سجيل ( أي : من صوان )، وهي سجيل ولكنها منضودة ( أي : مهيأة ومعدة لهم، في أحجام منتظمة ) وهي منضودة، ولكنها مسومة ( أي : معلمة، يعرف كل حجر منها المكان الذي يقع عليه والأثر الذي يحدثه ).
ونجى الله لوطا ومن آمن به، وأهلك زوجته مع الهالكين الغابرين، الذين أصابتهم الغبرة وهي التراب، وتركهم عظة وعبرة لكل خارج على هدى الله رب العالمين.
وقد وردت قصة لوط في السور الآتية :
الأعراف ٨٠_٨٤، النمل ٥٣-٥٨، هود ٧٧-٨٣، العنكبوت ٢٦-٣٥، الشعراء ١٦٠- ١٧٥، الحجر ٥٧-٧٧، الصافات ١٣٣-١٣٨، الأنبياء ٧٤، ٧٥، الحج ٤٣، ق١٣، القمر ٣٣- ٣٩.
عناصر القصة في القرآن الكريم :
إذا قرأنا قصة لوط في عشر سور في القرآن الكريم سبق ذكرها وجدنا أن عناصر القصة كالآتي :
ارتكاب قوم لوط للفاحشة والعدوان على الاخرين.
رسالة لوط إليهم ودعوتهم إلى توحيد الله، وإلى ترك الشذوذ.
مقاومة قوم لوط واضطهادهم للمؤمنين.
استغاثة لوط بالله تعالى.
إرسال الملائكة تطلب من لوط أن يخرج مع قومه من هذه القرى الظالمة، ولا يلتفت إليهم متعطفا أو مسترحما.
إرسال العذاب بحجارة من صوان صوبت إلى كل فرد، وقلب الله القرية فجعل عاليها سافلها، وأهلكها بالعذاب.
جعل الله ذلك عظة وعبرة لكل ظالم.
آيات من قصة لوط في القرآن الكريم :
قال تعالى :
ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب * وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لي بكم قوة أو ءاوى إلى ركن شديد * قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب * فلما جاء أمرنا جعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد.
( هود : ٧٧-٨٣ ).
من سورة الشعراء :
كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسئلكم من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يا لوط لنكونن من المخرجين * قال إني لعملكم من القالين * رب نجني وأهلي مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين * وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم. ( الشعراء : ١٦٠- ١٧٥ ).
ولقد كان القرآن الكريم حكيما مربيا مرشدا معلما للبشرية حتى تتجنب طريق الشذوذ المهلك، ومعروف أن بعض الدول الأوربية أباحت الشذوذ بين البالغين الذين يزيد عمرهم عن ٢١ علما، وأباحت بعض الدول الزنا إن كان برضى الطرفين ولم تكن إحداهما زوجة.
ثم انتشر وباء الإدز وهو نقص المناعة المؤدي إلى الموت، وقد ارتعدت البشرية وتعالت الصيحات بالبعد عن الشذوذ، وعن الزنا، ووجوب الاكتفاء برجل واحد لزوجة واحدة، وكأن البشرية تعود إلى طريق القرآن وهدى الرحمن، الذي حرم الشذوذ، وحرم الزنا ونهى عنه حيث قال تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا. ( الإسراء : ٣٢ ).
٨٤- وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين
أي : وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيب أمره، فقد كان المطر حجارة من طين متجمد، قد أعد كل حجر لشخص معين، كأنما سجل عليه اسم من يهلك به.
وجعل الله أعلى القرية أسفلها ؛ لأنهم قلبوا الأوضاع ؛ وأتوا الرجال دون النساء، فقلب الله قريتهم حيث جعل أعلاها أسفلها، ثم أمطر على المجرمين حجارة من طين متجمد.
فانظر كيف كان عاقبة المجرمين.
أي : فانظر أيها العاقل نظر تأمل وتدبر واتعاظ في مآل أولئك الكافرين المقترفين لأشنع الفواحش، واحذر ان تعمل أعمالهم ؛ حتى لا يصيبك ما أصابهم.
وقد وردت أحاديث تصرح بقتل من يعمل عمل قوم لوط فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فقتلوا الفاعل والمفعول ) ( ٧١ ).
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يرجم سواء أكان محصنا أو غير محصن ( ٧٢ ).
من تفسير أبي السعود :
قيل : كانت المؤتفكة خمس مدائن، وقيل : كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة، فأمطر الله عليهم الكبريت والنار، وقيل : خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم، وقيل : أمطر عليهم ثم خسف بهم، وروى أن تاجرا منهم كان في الحرم فوقف الحجر له أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه.
وروى أن امرأة لوط التفتت نحو ديارها فأصابها حجر فماتت ( ٧٣ ).
الإسلام دين الفطرة :
قال تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين * نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين. ( البقرة : ٢٢٢، ٢٢٣ ).
روى مسلم في صحيحه : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يسكنوا معها في بيت واحد، فسأل الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) ( ٧٤ ).
وتفيد الآية : وجوب ترك الجماع بين الزوج وزوجته في أيام الحيض، والحيض دم ينفضه رحم بالغة لأداء بها ولا حبل ولا تبلغ سن اليأس وهو سن ٥٥ سنة غالبا.
وجماع الحائض يترتب عليه أضرار صحيحة جمة للرجل والمرأة، وتصاب المرأة بأضرار أكثر من الرجل، ولهذا أمر الله الرجل بترك جماع المرأة الحائض. ودم الحيض أقله ثلاثة أيام وأوسطه خمسة أيام وأكثره سبعة أيام فإذا انقطع دم الحيض، ثم اغتسلت المرأة ؛ أبيح الجماع في الفرج.
وفي الحديث الشريف :( إن الله لا يستحيي في الحق، لا تجامعوا النساء في حشاشتهن ) ( ٧٥ ) أي : في أدبارهن وفي الحديث النبوي الشريف :( ملعون من أتى امرأته من دبرها، ملعون من عمل عمل قوم لوط ) ( ٧٦ ).
والمرأة التي تجامع في دبرها يكون عند أولادها لين واستعداد لأن يفعل بهم ما فعل بأمهم. ولهذا حرم الله جماع المرأة في دبرها. وهذا الأمر محرم تحريما قاطعا عند أهل السنة وعند الشيعة مكروه كراهة تحريم.
وقد جاء في تفسير ابن كثير :
أن أهل مكة كانوا يستمتعون بالمرأة مقبلة ومدبرة وعلى جنبها وعلى قفاها ويلزون المرأة لزا، أي : أنهم يستمتعون بالمرأة في حالات كثيرة من حالات الجماع، لكن كله في القبل وهو مكان الحرث.
فلما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة تزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار. وكانت الأنصار تجاور اليهود، واليهود لا يجامعون المرأة إلى على حالة واحدة وهي أستر ما تكون عليه المرأة.
أي : عندما تكون المرأة مستقبلة على ظهرها، وزوجها فوقها.
فلما أراد أحد المهاجرين أن يستمتع بزوجته الأنصارية في حالات كثيرة من الجماع امتنعت عليه، ثم ذهبت فأخبرت السيدة عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولما أخبرت عائشة النبي عليه الصلاة والسلام أنزل الله الآية ٢٢٣ من سورة البقرة، وهي تجعل المرأة مكان الحرث فالحرث ينبت الزرع الذي قيم حياة الإنسان، والمرأة تنبت الولد الذي يعمر الحياة، ويباح للزوج جماع زوجته كيف شاء، ومن أي جهة شاء، من خلف ومن قدام، وباركة ومستلقية ومضطجعة إذا كان في موضع الحرث.
وبهذا نرى أن الإسلام كان دينا وسطا وهو دين الفطرة السليمة، فقد أباح للزوج الاستمتاع بالحائض ما عدا الجماع في الفرج، فإذا طهرت المرأة الحائض واغتسلت ؛ أباح للزوج الاستمتاع بزوجته في أي وضع من أوضاع الجماع ما دام الجماع في الفرج وهو مكان الحرث، كما حرم الإسلام جماع الزوجة في دبرها ؛ حفاظا على سلامة الفطرة، وحتى تولد أجيال سليمة بعيدة عن الشذوذ.
إن اللواط مرض نفسي، وشذوذ عن الفطرة، وسبب في أمراض فتاكة، وإن الإسلام أباح التمتع والأخذ بنصيب وافر من زينة الدنيا ومتعة الحياة بين الرجل والمرأة على السواء مع الاعتدال والسلامة والتوسط وفي الحديث الشريف :( وفي بضع أحدكم صدقة ).
وإلى مدين أخاهم شعيبا : أي : وأرسلنا إلى مدين أخاهم ( شعيبا ابن ميكيل بن يشخر بن مدين ).
قد جاءتكم بينة : البينة : الدليل، ويريد بها هنا المعجزة التي كانت له.
فأوفوا الكيل والميزان : أي : أوفوا الكيل ووزن الميزان ويصح أن يكون الميزان مصدرا بمعنى : الوزن كالميعاد بمعنى : الوعد.
ولا تبخسوا الناس أشياءهم : أي : ولا تنقصوهم حقوقهم. يقال : بخسه حقه يبخسه بخسا أي : نقصه.
ولا تفسدوا : الإفساد : شامل لإفساد نظام المجتمع بالظلم، وأكل أموال الناس بالباطل، وإفساد الخلاق، والآداب بارتكاب الإثم والفواحش، وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام.
في الأرض بعد إصلاحها : إصلاح الأرض : هو إصلاح حال أهلها بالعقائد الصحيحة، والأعمال الصالحة المزكية للأنفس، والأعمال المرقية للعمران، المحسنة لأحوال المعيشة.
فكرة ميسرة عن نبي الله شعيب :
كان أهل مدين يسكنون أرض معان، من أطراف الشام تمتد أرضهم شرقي وغربي خليج العقبة ( ٧٧ ).
وكانوا يكفرون بالله ويشركون به ؛ إذ عبدوا الأيكة من دونه ( وهي : الشجر الكثيف الملتف ) وصاروا يبخسون الناس أشياءهم ويطففون الكيل والميزان ؛ فأرسل الله إليهم نبيه شعيبا فدعاهم إلى توحيد الله تعالى وأمرهم بالعدل وعدم تطفيف الكيل والميزان، ولكنهم قاوموه وجادلوه :
قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخافكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب * ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود * قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز * قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط * ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب * ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( هود : ٨٧- ٩٥ ).
عناصر القصة :
قوم مدين يكفرون بالله ويطففون الكيل والميزان ويفسدون في الأرض.
يرسل الله إليهم نبيه شعيبا فيدعوهم إلى توحيد الله ويحذرهم من المخالفة.
قوم مدين يجادلونه ويناقشونه ويقولون : كيف يتركون عبادة ما كان يعبد آباؤهم ؟ وكيف يتركون تطفيف الكيل وفي هذا نقص لأموالهم ؟ !.
شعيب يوضح لهم بأنه يحمل هداية السماء ويدعو الإنسان إلى طاعة الرحمن ويذكره بواجباته فالشيطان حريص على امتلاك الإنسان في العبادة وفي الأعمال.
ويذكرهم شعيب بما أصاب الأمم السابقة مثل : قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط.
ويدعوهم إلى الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله ويحرك فيهم عناصر الخير، ويقاوم عوامل الشر.
يتحججون بأنهم لا يفقهون كلامه، ولا يعقلون دعوته وهكذا الطغاة والجبارون لم تتهيأ نفوسهم لتقبل كلام الهداة والمرسلين.
وفي النهاية تأتي عدالة السماء، فقد أرسل الله عليهم الرجفة العاتية فأهلكتهم وغلبت كبريائهم وتعنتهم وأصبحوا في ديارهم جاثمين هالكين.
وهكذا يقص الله علينا من قصص القرآن ويحرك دواعي الهدى، وما يحيي ذكرى الأنبياء السابقين ويمجد ذكراهم، وما ينبئ عن أخبار السابقين وهلاك المكذبين، ونجاة المؤمنين.
التفسير :
٨٥- وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين.
شعيب يأتي يوم القيامة خطيبا للأنبياء، فقد كان قوي الحجة بليل اللسان، حكيم القول، وهو هنا يدعوهم إلى عبادة الله وحده فهو الإله الحق وليس هناك إله غيره، فكل ما عداه من الآلهة، آلهة بغير حق.
ومع شعيب معجزة من الله، وقد أعطى الله كل نبي معجزة تؤيده وأعطى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وحي السماء، وهو القرآن الكريم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر الأنبياء تابعا يوم القيامة ( ٧٨ ).
وقد دعا قومه إلى عدد من المكارم ونهاهم عن عدد من المفاسد فدعاهم إلى ما يأتي :
وفاء الكيل والميزان وهذه عادة من أفضل العادات تؤدي إلى ثقة الأمة وتكافلها، وتطفيف الكيل والميزان يؤدي إلى غضب السماء وفي الحديث الشريف :( ما طفف قوم المكيال والميزان ؛ إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور الحكام ) ( ٧٩ ).
ولا تبخسوا الناس أشياءهم.
أي : لا تنقصوا الناس شيئا من حقوقهم في بيع أو شراء أو حق مادي أو معنوي.
روى أن قوم شعيب كانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه، ويقولون : هذه زيوف، فيقطعونها، ثم يشترونها منه بالبخس أي : بالنقصان.
وتلمح أن كل نبي دعا إلى توحيد الله، ثم عالج الأمراض الخلقية في قومه كما عالج لوط الشذوذ الجنسي، فإن شعيبا عالج تطفيف الكيل والميزان وأنواع الفساد الأخرى التي إذا فشت في أمة ؛ قضت عليها و أزالت ملكها وعزها.
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.
لقد أصلح الله الأرض، واستخلف الإنسان فيها لعمارتها، وأرسل إليه الرسل وأنزل الكتب ودعا سبحانه إلى الخير ونهى عن الشر.
وعقوبة المفسد تكون أشد وأكبر إذا فسد بعد أن رأى بعينه طريق الإصلاح ميسرا معبدا مع من سبقه.
وقال الأستاذ أحمد مصطفى المراغي في تفسير المراغي :
إنه تعالى أصلح حال البشر بنظام الفطرة، ومكنهم في الأرض بما آتاهم من القوى العقلية وقوة الجوارح، وبما أودع في خلق الأرض من سنن حكيمة، وقوانين مستقيمة، وبما بعث به الرسل من المكملات لنظام الفطرة من آداب وأخلاق، ونظم في المعاملات والاجتماع، وبما أرشد إليه المصلحون من العلماء والحكماء، والذين يأمرون بالقسط ويهدون الناس إلى ما فيه من صلاحهم في دينهم، والعاملون من الزراع والصناع والتجار أهل الأمانة والاستقامة، الذين ينفعون الناس في دنياهم، فعليكم ألا تفسدوا فيها ببغي، ولا عدوان على الأنفس والأعراض والأخلاق بارتكاب الإثم والفواحش ولا تفسدوا فيها بالفوضى وعدم النظام وبث الخرافات والجهالات التي تقوض نظم المجتمع، وقد كانوا من المفسدين للدين والدنيا كما يستفاد من هذه الآية وما بعدها ( ٨٠ ).
ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين. أي : ذلكم الذي تقدم من عبادة الله والوفاء بالكيل والميزان، وترك البخس والإفساد في الأرض، خير لكم في الإنسانية، وحسن الأحدوثة وهو خير لكم في الدنيا والآخرة. إن كنتم مؤمنين بالله ومصدقين برسالتي إليكم.
والبشر لم يصلوا في عصر من العصور إلى ما وصل إليه أهل هذا العصر من العلم بالمنافع والمضار، ومع هذا فالعلم وحده لم ينفعهم ؛ فكثرت الجرائم من قتل وسلب وإفساد وفسق وفجور.
فخير وسيلة للإصلاح هو حسن تربية الناشئة وإقناعهم بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل وإقناعهم بمضار الرذائل ؛ لأن الوازع النفسي أقوى من الوازع الخارجي.
كان أهل مدين يسكنون أرض معان، من أطراف الشام تمتد أرضهم شرقي وغربي خليج العقبة ( ٧٧ ).
وكانوا يكفرون بالله ويشركون به ؛ إذ عبدوا الأيكة من دونه ( وهي : الشجر الكثيف الملتف ) وصاروا يبخسون الناس أشياءهم ويطففون الكيل والميزان ؛ فأرسل الله إليهم نبيه شعيبا فدعاهم إلى توحيد الله تعالى وأمرهم بالعدل وعدم تطفيف الكيل والميزان، ولكنهم قاوموه وجادلوه :
قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخافكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب * ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود * قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز * قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط * ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب * ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( هود : ٨٧- ٩٥ ).
عناصر القصة :
قوم مدين يكفرون بالله ويطففون الكيل والميزان ويفسدون في الأرض.
يرسل الله إليهم نبيه شعيبا فيدعوهم إلى توحيد الله ويحذرهم من المخالفة.
قوم مدين يجادلونه ويناقشونه ويقولون : كيف يتركون عبادة ما كان يعبد آباؤهم ؟ وكيف يتركون تطفيف الكيل وفي هذا نقص لأموالهم ؟ !.
شعيب يوضح لهم بأنه يحمل هداية السماء ويدعو الإنسان إلى طاعة الرحمن ويذكره بواجباته فالشيطان حريص على امتلاك الإنسان في العبادة وفي الأعمال.
ويذكرهم شعيب بما أصاب الأمم السابقة مثل : قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط.
ويدعوهم إلى الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله ويحرك فيهم عناصر الخير، ويقاوم عوامل الشر.
يتحججون بأنهم لا يفقهون كلامه، ولا يعقلون دعوته وهكذا الطغاة والجبارون لم تتهيأ نفوسهم لتقبل كلام الهداة والمرسلين.
وفي النهاية تأتي عدالة السماء، فقد أرسل الله عليهم الرجفة العاتية فأهلكتهم وغلبت كبريائهم وتعنتهم وأصبحوا في ديارهم جاثمين هالكين.
وهكذا يقص الله علينا من قصص القرآن ويحرك دواعي الهدى، وما يحيي ذكرى الأنبياء السابقين ويمجد ذكراهم، وما ينبئ عن أخبار السابقين وهلاك المكذبين، ونجاة المؤمنين.
المفردات :
الصراط : طريق. جمعه : صرط وأصله : سراط.
توعدون : أي : تهددون وتخوفون.
وتصدون : أي : تمتنعون، يقال صده يصده ويصده صدا وصدودا : منعه.
تبغونها عوجا : تطلبونها معوجة أو ذات اعوجاج.
فكثركم : أي : بما بارك في نسلكم.
التفسير :
٨٦- ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين.
نهاهم في هذه الآية أيضا عن عدد من المفاسد مما يدل على أنهم كانوا عتاة في إجرامهم، وقد روى عن ابن عباس أن بلادهم كانت خصبة وكان الناس يمترون منهم، فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا، ويقولون لهم : إنه كذاب فلا يفتننكم عن دينكم.
وفي الآية نهي لهم عن ثلاثة أشياء :
قعودهم على الطرقات التي توصل إلى شعيب مخوفين من يجيئه ؛ ليرجع عنه قبل أن يراه ويسمع دعوته.
صدهم عن من وصل إليه وآمن به بصرفه عن الثبات على الإيمان، والاستقامة على الطريق الموصلة إلى سعادة الدارين.
ابتغاؤهم جعل سبيل الله المستقيمة معوجة بالطعن وإلقاء الشبهات المشككة فيها أو المشوهة لها.
واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم.
أي : اذكروا إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين موسرين، أو إذ كنتم أذلة قليلي العدد فأعزكم بكثرة العدد والعدد.
وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين.
أي : انظروا نظرة عبرة واتعاظ لما أصاب المفسدين المكذبين من الأمم قبلكم من قوم عاد وثمود وقوم لوط.
كان أهل مدين يسكنون أرض معان، من أطراف الشام تمتد أرضهم شرقي وغربي خليج العقبة ( ٧٧ ).
وكانوا يكفرون بالله ويشركون به ؛ إذ عبدوا الأيكة من دونه ( وهي : الشجر الكثيف الملتف ) وصاروا يبخسون الناس أشياءهم ويطففون الكيل والميزان ؛ فأرسل الله إليهم نبيه شعيبا فدعاهم إلى توحيد الله تعالى وأمرهم بالعدل وعدم تطفيف الكيل والميزان، ولكنهم قاوموه وجادلوه :
قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخافكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب * ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود * قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز * قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط * ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب * ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( هود : ٨٧- ٩٥ ).
عناصر القصة :
قوم مدين يكفرون بالله ويطففون الكيل والميزان ويفسدون في الأرض.
يرسل الله إليهم نبيه شعيبا فيدعوهم إلى توحيد الله ويحذرهم من المخالفة.
قوم مدين يجادلونه ويناقشونه ويقولون : كيف يتركون عبادة ما كان يعبد آباؤهم ؟ وكيف يتركون تطفيف الكيل وفي هذا نقص لأموالهم ؟ !.
شعيب يوضح لهم بأنه يحمل هداية السماء ويدعو الإنسان إلى طاعة الرحمن ويذكره بواجباته فالشيطان حريص على امتلاك الإنسان في العبادة وفي الأعمال.
ويذكرهم شعيب بما أصاب الأمم السابقة مثل : قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط.
ويدعوهم إلى الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله ويحرك فيهم عناصر الخير، ويقاوم عوامل الشر.
يتحججون بأنهم لا يفقهون كلامه، ولا يعقلون دعوته وهكذا الطغاة والجبارون لم تتهيأ نفوسهم لتقبل كلام الهداة والمرسلين.
وفي النهاية تأتي عدالة السماء، فقد أرسل الله عليهم الرجفة العاتية فأهلكتهم وغلبت كبريائهم وتعنتهم وأصبحوا في ديارهم جاثمين هالكين.
وهكذا يقص الله علينا من قصص القرآن ويحرك دواعي الهدى، وما يحيي ذكرى الأنبياء السابقين ويمجد ذكراهم، وما ينبئ عن أخبار السابقين وهلاك المكذبين، ونجاة المؤمنين.
٨٧- وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
أي : وإن اختلفتم في رسالتي، فصرتم فريقين : فريق صدقوا بالذي أرسلت به من إخلاص العبادة لله وترك معاصيه من ظلم الناس وبخسهم في المكاييل والموازيين، واتبعوني في ذلك.
وجماعة أخرى لم يصدقوني وأصروا على شركهم وإفسادهم.
فاصبروا على قضاء الله الفاصل بيننا وبينكم، وهو خير من يفصل وأعدل من يقضي ؛ لتنزهه عن الباطل والجور.
جاء في فتح البيان للعلامة صديق حسن خان :
وهذا في باب التهديد والوعيد الشديد لهم، وليس هو من باب الأمر بالصبر على الكفر، وحكم الله بين الفريقين هو نصر المحقين على المبطلين ( ٨١ ) ومثله قوله تعالى : فتربصوا إنا معكم متربصون.
( التوبة : ٥٢ ).
وقال الأستاذ سيد قطب، في ظلال القرآن :
لقد دعاهم إلى أعدل خطة، ولقد وقف عند آخر نقطة لا يملك أن يتراجع وراءها خطوة.. نقطة الانتظار والتريث والتعايش بغير أذى، وترك كل وما اعتنق من دين، حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين.
ولكن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان في الأرض وجود ممثل في جماعة من الناس، لا تدين للطاغوت، إن وجود جماعة مسلمة في الأرض، لا تدين إلا لله، ولا تعترف بسلطان إلا سلطانه، ولا تحكم في حياتها شرعا إلا شرعه، ولا تتبع في حياته منهجا إلا منهجه – إن وجود جماعة مسلمة كهذه يهدد سلطان الطواغيت، حتى لو انعزلت هذه الجماعة في نفسها، وتركت الطواغيت لحكم الله حين يأتي موعده.
إن الطاغوت يفرض المعركة فرضا على الجماعة المسلمة، حتى لو آثرت هي ألا تخوض معه المعركة، إن وجود الحق في ذاته يزعج الباطل، وهذا الوجود ذاته هو الذي يفرض عليه المعركة مع الباطل، إنها سنة الله لابد أن تجرى ( ٨٢ ).
خاتمة :
يختم الجزء الثامن بهذا المقطع في قصة شعيب مع قومه مدين، وفي صراع بين الإيمان والكفر، واعتزاز الكفر بالجبروت والقوة، وفي النهاية ينصر الله المؤمنين، ويهلك الكافرين، وهذه ظاهرة نلمحها في سورة الأعراف، التي بدأت بإنذار الكافرين، ثم قدمت دعوة لبني آدم ؛ ليحذروا من الشيطان.
ثم قدمت قصص عدد من الرسل مع قومهم، فذكرت قصص قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وقد شاهدنا هلاك المكذبين، وانتصار المؤمنين، وهذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وفي هذا القصص عظة وعبرة، وتثبيت لدعائهم الإيمان، وإحياء لذكرى المرسلين وجهادهم.
قال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ( يوسف : ١١١ ).
اللهم، وفقنا للسير على سنن العدل والرشاد.
اللهم، اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وذهاب غمنا وحزننا، اللهم علمنا منه ما جهلنا وذكرنا منه ما نسينا وارزقنا تلاوته على النحو الذي يرضيك عنا.
اللهم ربنا، آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
كان الفراغ من هذا الجزء الثامن عشية يوم الخميس ٣٠ ذوالقعدة ١٤١١ ه الموافق ١٣ يونيو ١٩٩٩م بجامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان.
اللهم ربنا ولك الحمد والشكر حمدا كثيرا طيبا طاهرا مباركا فيه، كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم، ارزقنا الإخلاص والقبول، اللهم، إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين.
*** ***
المفردات
الملأ : الرؤساء والوجهاء.
قريتنا : هي مدين.
ملتنا : ديننا.
التفسير :
﴿ ٨٨ –قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين ﴾.
تشير هذه الآية إلى رد هؤلاء الكفار على رسولهم فقد أخلص لهم النصيحة ودعاهم إلى توحيد الله تعالى ونهاهم عن الفساد في الأرض وحذرهم من التطاول على المؤمنين وذكرهم نعم الله المتعددة عليهم وهذا في الآيات السابقة من الآية ٨٥ إلى الآية ٨٧ من هذه السورة : سورة الأعراف.
وبدلا من استجابتهم لدعوة الإيمان، أو وقوفهم على الحياد فإنهم تطاولوا على نبي الله شعيب وهددوه ومن معه بالطرد من بلدتهم أو عودتهم ورجوعهم إلى ملة الكافرين.
أي : لا بد من أحد الأمرين : إما الإخراج أو العود إلى دين الكافرين.
﴿ قال أولو كنا كارهين ﴾.
أي أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها ؟ أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها، فليس لكم ذلك ولا يصح لكم أن تكرهونا على ما لا نريد، فإن المكره لا اختيار له ولا تعدّ موافقته موافقة ولا عوده عودا.
وهذا الصراع بين الحق والباطل، وبين الرسل والكفار : مشهد متكرر في جميع الرسالات من عهد آدم ونوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم.
يقف المرسلون جميعا في جانب الدعوة إلى الحق، ويقف الجاحدون جميعا في جانب التكذيب.
كأنما تواصى الكفار المحدثون والقدامى بأن يسلكوا نفس هذا المنهج قال تعالى :
{ أتواصوا به بل هم قوم طاغون* فتول عنهم فما أنت بملوم* وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين* وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون* إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. ( الذاريات ٥٤-٥٨ )
وفي الآية ٥٢من سورة الذاريات :﴿ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ﴾.
وفي سورة إبراهيم جمع الله كلام الرسل إلى قومهم كما جمع كلام الذين كفروا لرسلهم، لأنه كلام متشابه. قال تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ﴾. ( إبراهيم ١٤ )
وما يكون لنا : أي وما ينبغي وما يصح لنا.
افتح : أحكم.
الفاتحين : الحاكمين.
٨٩-﴿ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ﴾.
قال المؤمنون للكفار : لقد آمنا بالله وعرفنا أن الإيمان حق وصدق وأن الكفر والشرك كذب وباطل ومحض اختلاق ؛ إذ ليس للكون كله إلا إله هو خالقه ومدبّره ومعبوده، فمن ادعى أن لله شريكا ؛ فقد افترى على الله الكذب ؛ لأنه ادعى نقص ألوهيته وربوبيته.
فما أقبح وما أشنع أن نرجع إلى الشرك الذي أنتم عليه بعد أن خلصنا الله منه وهدانا إلى الإيمان.
﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ﴾.
أي وما يصح وما يتصور منا أن نعود ونرجع إلى ملتكم بعد أن نجانا الله منها، إلا أن يكون ذلك عن مشيئة سابقة لله فينا وعن قدر قدّره علينا، فذلك من شأن الله وحده، هو الذي يملك من أنفسنا ما لا نملك فإذا كان الله قد شاء لنا أن نعود القهقرى إليكم ونرد على أعقابنا معكم، فنحن مستسلمون لأمر الله راضون بحكمه، أما نحن في ذات أنفسنا فعلى عزم صادق ألا نعود في ملتكم أبدا إلا أن ينحل هذا العزم بيد الله، لأمر أراده الله، وقضاء قضى به.
﴿ وسع ربنا كل شيء علما ﴾.
أي أحاط علم خالقنا بكل ما كان وما سيكون من الأشياء ومن جملة ذلك أحوال عباده ونياتهم، فلا يعيدونا إلى الكفر بعد أن أنقذنا منه، ما دمنا معتصمين بحبله المتين ودينه القويم.
﴿ على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ﴾.
أي : على الله وحده توكلنا، وفوضنا إليه أمر تخليصنا من الأشرار وتثبيتنا على الإيمان.
اللهم يا ربنا، احكم بيننا وبين قومنا بالحق، بنصر المحقين على المبطلين، أو أظهر أمرنا ؛ حتى ينكشف ما بيننا وبينهم، ويتميز المحق من المبطل.
والتعبير بقوله : افتح ؛ لأن القضاء بالحق يفتح الأمر المغلق.
﴿ وأنت خير الفاتحين ﴾ : وأنت سبحانك أفضل الحاكمين وهو تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
والفتح أصله إزالة الإغلاق عن الشيء واستعمل في الحكم، لما فيه من إزالة الإشكال في الأمر، ومنه قيل للحاكم. فاتح وفتاح ؛ لفتحه إغلاق الحق.
أخرج البيهقي عن ابن عباس قال : ما كنت أدرى قوله تعالى :﴿ ربنا افتح ﴾ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها وقد جرى بينها وبينه كلام : تعال أفاتحك، تريد أقاضيك وأحاكمك.
جاء في التفسير الوسيط
" والخلاصة : أنك إذا تأملت في ردّ شعيب على ما قاله المستكبرون من قومه، تراه يمثل أسمى ألوان الحكمة وحسن البيان فهو يردّ على وعيدهم وتهديدهم، بالرفض التام لما يبغون، والبغض السافر لما يريدونه منه، ثم يكل الأمور كلها إلى الله، مظهرا الاعتماد عليه وحده، ثم يتجه إلى الله سبحانه بالدعاء ملتمسا منه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق الذي مضت به سنته في التنازع بين المرسلين والكافرين وبين سائر المحقين والمبطلين " ١.
التفسير
﴿ ٩٠ -قال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ﴾.
نلمح أن الأشراف و الكبراء قد يئسوا من استمالة شعيب ومن آمن معه، فأخذوا يحذرون الناس من السير في طريقه.
وقد حكى القرآن قولهم السابق الذي سلكوا فيه مسلك الوعيد والتهديد، ثم عطف عليه قولهم اللاحق ومعناه ما يأتي :
وقال الرؤساء المستكبرون الذين أصروا على الكفر من قوم شعيب –عليه السلام –بعدما أيقنوا بصلابته وصلابة من معه من المؤمنين، وخافوا من إقبال الناس على دعوته :
﴿ لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ﴾.
أي : إذا تركتم دينكم وملة آبائكم ودخلتم في دين شعيب، فسوف تخسرون ملتكم القديمة وتخسرون المكاسب التي تحصلون عليها من تطفيف الكيل والميزان، وتخسرون الرضى من قومكم والمزايا التي تتمتعون بها من المسالمة والتبادل التجاري.
وهكذا استمر الأشراف في طريقتهم بالإغراء حينا والتهديد والوعيد حينا آخر، فهؤلاء الأشراف لم يكتفوا بضلالهم في أنفسهم، بل عملوا على إضلال غيرهم.
الرجفة : الزلزلة الشديدة.
جاثمين : باركين على الركب أذلاء.
﴿ ٩١-فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾.
أي فأهلكتهم الزلزلة الشديدة فأصبحوا باركين على ركبهم، هالكين هلاك الذلة والصغار في أماكنهم لا ينتقلون منها.
" وقد جاء في سورة هود أن قوم شعيب أهلكوا بالصيحة. كما قال تعالى : وأخذت الذين ظلموا الصيحة. وفي الشعراء أنهم أهلكوا بعذاب يوم الظلة، ويوجه هذا الاختلاف فيما أهلكوا به بأن شعيبا أرسل إلى أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة فقد أهلكوا بعذاب يوم الظلّة، كما سيأتي بيانه في سورة الشعراء، وأما أهل مدين فقد أهلكوا بعذابين، أحدهما سبب الآخر مسبب فأما السبب : فهو الصيحة، والمراد بها صيحة جبريل –عليه السلام – بهم وأما المسبب : فهو الزلزلة فقد أصابتهم من صيحته رجفة وزلزلة قضت عليهم فنسب هلاكهم تارة إلى السبب الأول وهو الصيحة، وتارة إلى السبب الثاني وهو الرجفة التي ترتبت على الصيحة فلا تعارض بين الآيات٢ "
والهلاك بالزلازل والبراكين لا يزال قائما مشاهدا بين الناس في السابق واللاحق.
جاء في المصحف المفسر للأستاذ محمد فريد وجدي الذي ألّفه حوالي سنة ١٣٢٣ه ما يأتي :
" وقال أشراف قومه الكفار : لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ؛ فأخذتهم الزلزلة الشديدة.
فأصبحوا في دارهم أي مدينتهم باركين على ركبهم ميتين.
" لا يستبعد أن تجتاح الزلازل طائفة من الناس بعد أن رأى الناس آثار زلزلة اليابان منذ سنين٣ ".
كان لم يغنوا فيها : أي كان لم يقيموا في مدينتهم، والمراد : أنهم استئصلوا بالمرة، يقال غنى بالمكان يغنى أقام به – والمغنى – المنزل.
التفسير :
﴿ ٩٢ -الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.
يقف القرآن هنا موقف الحكم أو القاضي الذي يصدر حكمه بعد سماع أطراف القضية.
فقد دعا شعيب قومه إلى الإيمان بالله وحذرهم من الفساد ثم دافع قوم شعيب عن أنفسهم وحذروا شعيبا ومن آمن معه من عاقبة الإيمان وهي الخسران المادي وخسران الربح من تطفيف الكيل، وخسران منزلتهم عند الرؤساء.
فيقرر القرآن على سبيل التهكم أن الخسران لم يكن من نصيب من اتبع شعيبا وإنما كان من نصيب المكذبين :
﴿ الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها ﴾.
أي : هؤلاء الذين كذبوا دعوة شعيب إلى الإيمان والإصلاح كأنهم بعد إهلاكهم بالزلزلة الشديدة لم يقيموا أبدا بديارهم حيث استأصلوا بالرجفة.
قال الشوكاني : أي : أصبحت ديارهم بعد العذاب خرابا خاليا، يقال : غنيت بالمكان : إذا أقمت به، أي : كان لم يقيموا في دارهم ؛ لأن الله سبحانه استأصلهم بالعذاب٤.
﴿ الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.
لقد هددوا شعيبا زمن آمن معه بالطرد من المدينة كما حذروا من آمن به من الخسران حيث قالوا :﴿ لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ﴾.
فرد الله عليهم بأن الخسران الحقيقي هو لمن كفر بالله وباع الأسمى واشترى الأدنى.
فهاهم قوم شعيب قد خسفت بهم أرض القرية الذين هددوا المؤمنين وقالوا لهم : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا...
وهم الذين خسروا قريتهم وديارهم وخسروا دنياهم وأخراهم، وكان جزاؤهم من جنس ما كانوا يقولون ولكنه يفوقه في الشدة.
فتولى عنهم : أعرض عنهم وبعد.
آسى : أحزن.
التفسير :
﴿ -٩٣ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كافرين ﴾.
ويتلفت شعيب إلى ما حل بقومه، وما صار إليه أمرهم بعد أن أصبحوا جثثا هامدة وأشلاء مبعثرة، فيأسى عليهم ويحزن لهم، ولكن سرعان ما يدفع عنهم مشاعر الأسى والحزن، وحين يراجع حسابه مع قومه، وما كان منه ومنهم، فيجد أنهم ليسوا أهلا لدمعة رثاء تدمعها عينه عليهم.
أي فأعرض شعيب عن قومه بعد هلاكهم وناداهم في قبورهم : لقد بلغتكم رسالات السماء ودعوتكم إلى التوحيد وقدمت لكم النصائح، فقابلتم ذلك بالإعراض والتهديد والوعيد ثم أنزل بكم جزاء الله العادل فلن يطول حزني عليكم بعد كفركم، وكيف أحزن على قوم كافرين بالله مصرّين على كفرهم متمردين عن الإجابة.
وسورة الأعراف فيما سبق قد تحدثت عن جانب من قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب مع أقوامهم وستراها بعد قليل تحدثنا حديثا مستفيضا عن قصة موسى مع فرعون ومع بني إسرائيل.
ونلاحظ أن سورة الأعراف قد اتبعت في حديثها عن هؤلاء الرسل التسلسل التاريخي وذلك لأهداف من أهمها ما يأتي :
١- إثبات الوحي والرسالة وبيان أن الدين كله من عند الله من عهد نوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم.
٢- بيان أن وسائل الأنبياء واحدة وأن استقبال قومهم لهم متشابه، فكل نبي يدعو قومه إلى عبادة الله ويحثهم على الإصلاح، ولكنه يقابل بالتكذيب ويجابه بالوعيد.
٣- بيان أن الله ينصر أنبياءه في النهاية ويهلك الكاذبين ؛ فقد نجى الله نوحا من الطوفان، وأهلك قوم صالح حين عقروا الناقة فدمدم عليهم الأرض وسواها تماما بمن فيها كما أهلك قوم لوط بأن جعل أعلا أرضهم أسفلها كما أهلك قوم شعيب بزلازل مهلكة.
٤- تصديق الأنبياء السابقين، وإحياء ذكراهم، وتخليد آثارهم وبيان نعمة الله عليهم.
المفردات :
بالبأساء : بالبؤس وشدة الفقر.
والضراء : الضراء المرض.
التفسير
﴿ ٩٤-وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء... ﴾ الآية.
تحدثت آيات سابقة في سورة الأعراف عن أحوال الأمم السابقة وهي أمة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام والمقصود منها التحذير والتخويف لكفار قريش وغيرهم حتى يتركوا الضلال ويستجيبوا لله ولرسوله.
وفي هذه الآية انتقل السياق إلى بيان سنة الله في إنذار المكذبين من الأمم قبل إهلاكهم.
فإذا أرسل الله رسولا إلى أمة من الأمم فقابلته بالتكذيب والعصيان أرسل على أهلها ألوان المحن والشدة والضرر كإصابتهم بالمرض ونقص الأموال والأنفس والثمرات ؛ إنذارا لهم وتحذيرا لهم من الاستمرار في العناد والمكابرة.
﴿ لعلهم يضرعون ﴾.
أي فعلنا بهم هذا البلاء وأنزلنا بهم هذه الشدائد : لكي يتضرعوا ويتذللوا ويتوبوا من ذنوبهم.
فما يأخذ الله به الغافلين من الشذائذ والمحن، ليس من أجل التسلية والتشفى –تعالى الله عن ذلك –وإنما من أجل أن ترقّ القلوب الجامدة وتتعظ المشاعر الخامدة، ويتجه البشر الضعاف إلى خالقهم يتضرعون إليه ويستغفرونه، عما فرط منهم من خطايا.
ونلاحظ هنا ما يأتي :
١-تكذيب المكذبين للرسل هو السبب في إنزال البلاء بهم وليس مجرد إرسال الرسل.
٢- يبتلي الله المكذبين للرسل بالبلاء تارة وبالنعماء تارة أخرى.
السيئة : هي كل ما يسوء.
الحسنة : كل ما يستحسنه العقل والطبع.
عفوا : أي : كثروا عددا ومالا يقال : عفا النبات إذا كثر.
مس آباءنا : أي : أصاب آباءنا.
بغتة : فجأة.
التفسير :
﴿ ٩٥ -ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا... ﴾الآية.
المراد بالسيئة ما يسوء ويحزن كالشدائد والمرض، وبالحسنة : السعة والصحة وأنواع الخيرات.
أي : ثم بعد أن ابتلينا هؤلاء الغافلين بالبأساء والضراء، رفعنا ذلك عنهم، وابتليناهم بضدّه، بأن أعطيناهم بدل المصائب نعما فإذا الرخاء ينزل بهم مكان الشدّة، واليسر مكان العسر، والعافية بدل الضرّ والذرية بدل العقم، والكثرة بدل القلة، والأمن محل الخوف.
حتى عفوا : حتى كثروا ونموا في أموالهم وأنفسهم ومستهم العافية، فالعفو أصله من العافية التي يتبعها النماء والزيادة، كما جاء في قوله تعالى :﴿ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ﴾. ( البقرة : ٢١٩ ) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :( احفوا الشوارب واعفوا اللحى )٥. أي : قصّروا الشوارب واتركوا اللحى حتى تكثر وتنموا.
ولما زاد مالهم وكثر عددهم ؛ أبطرتهم النعمة، وأطغتهم الكثرة فلم يشكروا الله ولم يحمدوه.
﴿ وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء ﴾.
أي : قالوا جحودا للنعمة وكفرانا بالإحسان : قد أصاب آباءنا من قبلنا البأساء والنعماء ولسنا بدعا منهم فما أصابنا على نمط ما أصابهم وهذا شأن الدّهر يداول السراء والضراء بين الناس فليس ذلك إنذارا لنا.
﴿ فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾.
أي : فكان عاقبة بطرهم وأشرهم وغفلتهم أن أخذناهم بالعذاب فجأة، من غير شعور منهم بذلك، ولا خطور شيء من المكارم ببالهم.
لقد أسرفوا بدون تخرج وارتكبوا كل كبيرة تقشعر لها الأبدان بدون اكتراث، وأرسل الله لهم العير من بين أيديهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وعن شمائلهم ومع كل ذلك لم يعتبروا ولم يتعظوا، وظنوا أنهم سيعيشون حياتهم في نعيم ورغد بدون محاسبة لهم على أعمالهم القبيحة وأقوالهم الذميمة.
ثم فاجأهم العذاب بغتة بدون توقع منهم ولا استشعار لما يحيق بهم، جزاء عدو أنهم.
وفي هذا المعنى قال تعالى :﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾( الأنعام : ٤٤ ).
المفردات :
لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض : أي : ليسرنا لهم الخير من كل جانب.
التفسير :
﴿ ٩٦ – ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض.... ﴾ الآية.
بعد أن بين القرآن عاقبة المكذبين، جاءت هذه الآية وما تلاها ؛ تعقيبا على إهلاك الكافرين.
أي : ولو أن كفار مكة، والذين أهلكوا قبلهم بسبب تكذيبهم آمنوا بالله، واتقوا. المعاصي وابتعدوا عنها.
﴿ لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾.
أي : لأتيناهم بالخير من كل وجه، ويسرنا لهم سبل الأرزاق، ووسعنا عليهم من كل باب فأنزلنا عليهم من السماء ماء مباركا، فأنبت الزرع وأدر الضرع، وأخرجنا لهم الكثير من كنوز الأرض، وذللنا لهم ما على ظهرها من الدواب والأنعام.
ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.
أي : ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا بل كذبوا الرسل الذين جاءوا لهدايتهم فكانت نتيجة تكذيبهم وتماديهم في الضلال أن عاقبناهم بالعقوبة التي تناسب جرمهم واكتسابهم المعاصي، فتلك هي سنتنا التي لا تتخلف، نفتح للمؤمنين أبواب الخيرات، وننتقم من المكذبين بفنون العقوبات.
بياتا : أي : وقت بياتهم.
التفسير :
٩٧- ﴿ أفأمن أهل القرى بأسنا بياتا وهم نائمون ﴾.
أرسل الله الرسل، فأنزل الكتب، وقصّ علينا ما أصاب السابقين ؛ للعظة والاعتبار، بيد أن هذه الأمم التي أهلكت بعذاب الله لم تتعظ كل واحدة منها بما أصاب من قبلها من الأمم.
وكذلك كفار مكة لم يتعظوا ولم يعتبروا رغم تحذير الله لهم.
وهنا يوجه لهم هذا الإنذار الذي يفيد أن عذاب الله ليس له وقت يحدده، فيمكن أن يصيب العصاة ليلا وهم نائمون هادئون، فيأتيهم العذاب المخيف، فيصبحون أثرا بعد عين. فليعتبر بذلك الكافرون.
ومعنى الآية : أغفل الله أهل القرى المكذبة بالرسل عما ينتظرهم من بأس الله، أفأمنوا أن ينزل عليهم عذاب الله وقت بياتهم منازلهم وهم غارقون في النوم ؟ !.
ضحى : أي : ضحوة النهار وهي أوله.
التفسير :
٩٨ – ﴿ أو أن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ﴾.
جاءت هذه الآية بأسلوب التوبيخ والتقريع كسابقتها.
والمعنى : هل عندهم ضمان أو عهد بعدم نزول العذاب بهم وأمنوا أن ينزل عليهم عذابنا في صدر النهار وقت الضحى عند انتشار ضوء الشمس إذا ارتفعت.
وهم يلعبون. أي : وحالهم أنهم يلهون ويشتغلون بما لا ينفعهم كأنهم يلعبون لشدة غفلتهم.
مكر الله : المراد بمكره تعالى : إهلاكه لهم من حيث لا يحتسبون.
التفسير :
٩٩ – ﴿ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾.
مكر الله. ما يدبره الله لهم من العقوبة وهم لا يشعرون. وقيل : مكر الله هنا هو : استدراجه لهم بالنعمة والصحة. أي : علام يعوّل هؤلاء القوم في تماديهم في الضلال واطمئنانهم إلى ما هم فيه ؟ أهناك من يدفع عنهم عذاب الله ويرد عنهم بأسه ؟ ذلك ضلال في ضلال، وعمى بعد عمى، وفتنة بعد فتنة.
لقد حذرهم الله من إنزال العذاب بهم ليلا وهم نائمون أو نهارا وهم مشتغلون بشئون دنياهم ذاهلون عما ينتظرهم في العاقبة كأنهم يلعبون.
وما علموا أن الله تعالى يمهل ولا يهمل وأنه يستدرج العصاة حتى إذا ارتعوا وبشموا وزاد طغيانهم أخذهم بغتة.
﴿ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾.
وأي خسارة أكثر من أن يرى الإنسان نذر الشّر والهلاك مقبلة إليه ثم يخدع نفسه ويخيل إليه أن هذه النذر لن تتجه إليه ولا تنال منه... ثم يظل هكذا يرتوي من هذا السراب الخادع، حتى ينزل بساحته البلاء فلا يجد له مهربا.
ألا نجد أن الله تعالى قد حذرهم وأنذرهم بنزول العذاب ليلا أو نهارا كما حذرهم من بأس الله وانتقامه وقد جاءهم على حين غفلة، فقطع عليهم ما هم فيه من لهو ولعب، وقلب بين أيديهم مائدة الحياة وما عليها من أدوات اللعب واللهو.
وصدق الله العظيم :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ﴾ ( هود : ١٠٢ ).
أولم يهد للذين يرثون الأرض : أفلم يصنع الهداية لهم ؟ !
يرثون الأرض من بعد أهلها : يخلفون من مضى قبلهم من الأمم المهلكة.
التفسير :
١٠٠-﴿ أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ﴾.
القرآن كتاب الحياة يأخذ بيد المؤمنين إلى أسباب النصر والتمكين ويحذر الكافرين من بأس الله وعقوبته، والقرآن هنا كالطبيب الذي يأسو جراح القلوب، إنه أمام قوم قست قلوبهم من أهل مكة، فهو يقول لهم ولأشباههم في كل زمان ومكان ما يأتي :
أو لم يتبين لهؤلاء الذين يعيشون على تلك الأرض التي ورثوها بعد أهلها المهلكين.
هؤلاء الذين سكنوا مساكن القوم الظالمين الذين هلكوا، وورثوا أرضهم وديارهم وأموالهم.
ألم يهد لهم وينكشف لأبصارهم، أو بصائرهم، أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لأخذهم بذنوبهم كما أخذ القوم الظالمين قبلهم بذنوبهم ؟
فما حجتهم على الله بعد أن صرف عنهم العذاب الذي بأشباههم من الأمم السابقة، وبعد أن عافاهم من البلاء الانتقام الذي يستحقونه.
إنه لا حجة لهم على الله، ولا فضل لهم في أن عافاهم من البلاء وصرف عنهم العذاب ؟
فما صرف الله عنهم العذاب إلا لمقام نبيه الكريم بينهم، وقد وعده الله ألا يعذب قومه وهو بين ظهرانيهم.
قال تعالى :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾( الأنفال : ٣٣ ).
﴿ ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ﴾.
أي : أن العذاب إما أن يكون ظاهرا ملموسا، وإما أن يكون خفيا باطنيا، ومن هذا العذاب الخفي : البلاء الذي يغشى قلوب الظالمين فيحجب عنها الهدى فلا تهتدي إليه، ويصرف عنها الخير، فلا تعرف له وجها.
فهم لا يسمعون إنذارا ولا يتدبرون إرشادا ؛ لأن آذان قلوبهم لم تتفتح لسماع القرآن وهدايته.
قال تعالى :﴿ إذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا * وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا... ﴾( الإسراء : ٤٥، ٤٦ ).
المفردات :
بالبينات : أي : بالمعجزات الواضحة الدلالة.
التفسير :
﴿ ١٠١ – تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ﴾.
أي : تلك القرى التي طال الأمد على تاريخها، وجهل قومك – أيها الرسول الكريم – أحوالها، وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم شعيب، نقصّ عليك ما فيه من العظات والعبر من أخبارها ؛ ليكون في ذلك تسلية لك، وتثبيتا لفؤادك لصدقك في دعوتك.
﴿ ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ﴾.
أي : وتالله لقد جاء كل أمة من تلك الأمم التي خلت ؛ رسولها الذي بعثه الله إليها بالمعجزة الخاصة به الواضحة الدلالة على صدق رسالته، الموجبة للإيمان.
﴿ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ﴾.
أي فما حدث لأمة من تلك الأمم الضالة الرجوع عما هم عليه من كفر وضلال إلى هداية الرسل وإرشادهم، بل استمروا على التكذيب وعدم الإيمان طول حياتهم ولم تغنهم الآيات والنذر ؛ لكمال عتوهم وشدة طغيانهم، فاستحقوا بذلك ما نزل بهم من العذاب.
وقبل : إن المعنى : ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف ؛ ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل إهلاكهم.
قال تعالى :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ﴾. ( الأنعام : ٢٨ ).
﴿ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ﴾.
أي : مثل هذا الختم الذي أغلق الله به قلوب هؤلاء السابقين بسبب اختيارهم الكفر على الإيمان، يختم الله على قلوبهم جميع الكافرين، ويجعل عليها سدّا يغلقها، فلا يسمع هؤلاء الضالون نصحا، ولا يبصرون حقا، ولا تلين قلوبهم، إذ تركوا الحق، واتبعوا الباطل، واختاروا طريق الفساد.
وما وجدنا : أي : وما علمنا.
من عهد : أي : من وفاء بعهد. والمراد : ما عهد الله إليهم من الإيمان والتقوى.
وإن وجدنا : أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن. والتقدير : وإنه وجدنا أي : وإن الشأن وجدنا.
لفاسقين : أي : لخارجين عن الإيمان والطاعة.
التفسير :
﴿ ١٠٢ – وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾.
أي : وما علمنا لأكثر الأمم التي مضت من عهد – أي : رعاية لحرمة – أو وفاء بعهودهم في الإيمان والتقوى.
والمراد بالعهد : ما عاهدهم الله عليه من الإيمان والتقوى الصالح.
﴿ وأن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾.
أي : ما وجدنا لأكثر الناس من وفاء بعهودهم من الإيمان والتقوى بل الحال والشأن. أننا علمنا أن أكثرهم فاسقون. أي : خارجون عن طاعتنا تاركون لأوامرنا منتهكون لحرمتنا.
جاء في التفسير الوسيط لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر :
" وإن الشأن معهم أنا وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن القيم الخلقية والدينية، وما آمن وأصلح منهم إلا قليل ".
المفردات :
ملأيه : الملأ : رؤساء القوم.
التفسير :
﴿ ١٠٣ – ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملأيه... ﴾ الآية.
أي : ثم أرسلنا من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب الذين تقدمت أخبارهم ؛ موسى – عليه السلام – وآتيناه آيات، أي : معجزات تسع تدل على صدق رسالته، وهي العصا تنقلب حية، واليد تخرج من جيبه بيضاء، والسنون المجدبة، ونقص الأنفس والثمرات، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وطمس الأموال.
إلى فرعون وملأيه : أي إلى فرعون مصر ورؤساء قومه ووجهائهم، وخصوا بالذكر مع أن رسالته لفرعون وقومه أجمعين ؛ لأنهم يقومون بتدبير الأمور وغيرهم تبع لهم.
جاء في تفسير المنار : ولم يقل – سبحانه – إلى فرعون وقومه ؛ لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبني إسرائيل وبيدهم أمرهم، وليس لسائر المصريين شيء، ولأنهم كانوا مستعبدين أيضا ولكن الظلم على بني إسرائيل الغرباء كان أشدّ. فظلموا بها : أي : فكفروا بهذه الآيات ؛ تكبرا وجحودا فكان عليهم وزر ذلك.
أو المعنى : فظلموا أنفسهم إذ عرّضوها للهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة بسبب تكذيبهم بهذه الآيات، وظلموا غيرهم بمنعهم من الدخول في دين الله.
﴿ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
فتأمل بفكرك أيها الرسول الكريم، أو أيها العاقل كيف كانت عاقبة فرعون وملئه الذين أفسدوا في الأرض لقد أخذهم الله بذنوبهم في اليمّ وموسى وقومه ينظرون إليهم، وتلك عاقبة كل من طغى وبغى وظلم وفسد.
التفسير :
﴿ ١٠٤ – وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ﴾.
أجمل القرآن في بداية القصة مضمونها والعبرة منها وهي التحذير من عواقب الظلم والفساد.
وقريب من هذا ما حكاه القرآن في بداية القصص حيث قال تعالى :
{ طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون *إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون. ( القصص : ١ - ٦ ).
ومعنى الآية : قال موسى عليه السلام لفرعون في أدب واعتزاز : إني رسول من رب العالمين، أرسلني إليك ؛ لأدعوك إلى عبادته والخضوع له.
أي : جدير بألاّ أقول على الله إلا القول الحق، أو حريص على ألا أقول على الله غير الحق والصدق فلا إهمال ولا تفريط.
﴿ قد جئتكم ببينة من ربكم ﴾ : أي قد جئتكم بحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلا على صدقي فيما جئتكم به.
فأرسل معي بني إسرائيل : أي : فأطلق بني إسرائيل من أسرك، وأعتقهم من قهرك، ودعهم أحرار يعبدون الله وحده ولا تعذبهم.
التفسير :
﴿ ١٠٦ – قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ﴾.
أي : قال فرعون لموسى : أن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأتنى بها، وأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك.
ثعبان : هو الذكر من الحيات.
مبين : بين ظاهر لا يشك أحد في أنه ثعبان.
﴿ ١٠٧ - فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ﴾.
أي : فألقى موسى عصاه على الأرض فور طلب فرعون ففاجأتهم بكونها ثعبانا عظيم الجثة مفزعا لا يشك أحد في أنه ثعبان يسعى ويتحرك حقيقة لا متخيلا كما في سحرهم، وذلك لظهور أمره ووضوح شأنه، وقد أورد بعض المفسرين روايات عن ضخامة هذا الثعبان وأحواله، وهي روايات ضعيفة ينبغي أن ينقى منها تفسير القرآن الكريم٦.
ونزع يده : أي : وأخرج يده من جيبه.
بيضاء للناظرين : أي : بيضاء بياضا خارجا عن العادة ؛ يجتمع الناس عليه ؛ لينظروه ؛ تعجبا من شدته.
التفسير :
﴿ ١٠٨ - ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ﴾.
النزع : إخراج الشيء من مكانه أي : وأخرج موسى يده من جيبه بعد أن أدخلها فيه أمامهم على لونها الأصلي فإذا هي بعد إخراجها منه، قد تغيرت على الفوز من لونها الأسمر إلى لون أبيض خارج عن العادة، جعل الناس ينظرون إليها ويتعجبون من أمرها.
المفردات :
لساحر عليم : لساحر ماهر عظيم العلم في سحره يأتي بأفعال عجيبة.
التفسير :
﴿ ١٠٩ – قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ﴾.
أي : قال الأشراف من قوم فرعون : إن هذا لساحر في علم السحر ماهر فيه يقوم سحره على علم ومعرفة، وهو من أجل ذلك مصدر خطر عظيم على فرعون وعلى مكانته في قومه.
إن موسى بدعوته هذه سيغير ويجعل الضعفاء سادة أقوياء بإيمانهم بالله كما سيتحول السادة أقوياء بإيمانهم بالله كما سيتحول السادة إلى ضعفاء ؛ لأن الناس لن تخضع لهم، وسيقفون في وجه قهرهم وظلمهم، وبذلك يتغير نظام الدولة أو يقلب نظام الحكم، فينبغي أن نقف في وجه موسى قبل أن يخرجنا بدعوته هذه من أرض مصر.
فماذا تأمرون.
هو من كلام فرعون قاله للملإ لما قالوا بما تقدم، أي : بأي شيء تأمرونني وتشيرون أن نفعل به، وقيل : هو من كلام الملإ أي : قالوا لفرعون : فبأي شيء تأمرنا، وخاطبوه بما يخاطب به الجماعة ؛ تعظيما له، وكون هذا من كلام فرعون هو الأولى بدليل ما بعده وهو : قالوا أرجه وأخاه أي : أخره٧.
أرجه وأخاه : أي : أرجئهما وأخرجهما ؛ لننظر في أمرهما.
المدائن : أي : المدن حيث يوجد السحرة.
حاشرين : أي : المدن حيث يوجد السحرة.
حاشرين : جامعين.
التفسير :
﴿ ١١١ – قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين ﴾.
أي : قال الملأ من قوم فرعون، أخر الفصل في أمره وأمر أخيه، وأرسل في مدائن ملكك جماعات من رجال شرطتك وجندك.
حاشرين أي : جامعين لك السحرة منها وسائقيهم إليك.
من كتب التفسير
١- جاء في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب :
وكانت أرض مصر تموج بالكهنة في شتى المعابد، وكان الكهنة هم الذين يزاولون أعمال السحر، ففي الوثنيات كلها تقريبا، يقترن الدين بالسحر، ويزاول السحر كهنة الديانات وسدنة الآلهة ! وهذه الظاهرة هي التي يلتقطها " علماء الأديان "، فيتحدث بعضهم عن السحر كمرحلة من مراحل تطور العقيدة !
ويقول الملحدون منهم : إن الدين سيبطل كما بطل السحر ! وأن العلم سينهى عهد الدين كما أنهى عهد السحر ! إلى آخر هذا الخبط الذي يسمونه : " العلم " ٨.
٢ – من تفسير المراغي الجزء التاسع ص ٢٦ :
فذلكة في السحر وضروبه :
السحر في أعمال غريبة، وحيل تخفي حقيقتها على جماهير الناس ؛ لجهلهم لأسبابها، وقد كان فنا من الفنون التي يتعلمها قدماء المصريين في مدارسهم الجامعة مع كثير من العلوم الكونية، و اقتفى أثرهم في ذلك البابليون و الهنود و غيرهم، و لا يزال يؤثر عن الوثنيين من الهنود أعمال غريبة مدهشة من السحر، اهتم الانجليز و غيرهم بالبحث عن الحقيقة أمرها فعرفوا بعضا و جهلوا تعليل الأكثر.
و هو لا يروج إلا بين الجاهلين، و له مكانة عظيمة في القبائل الهمجية، و البلاد ذات الحضارة تسميه : بالشعوذة والدّجل وهو أنواع ثلاثة :
١ – ما يعمل بأسباب طبيعية من خواص المادة معروفة للساحر مجهولة عند من يسحرهم بها، كالزئبق. الذي قيل : إن سحرة فرعون وضعوه في حبالهم وعصيهم فلما أرسلت الشمس أشعتها ؛ خيّل للمشاهدين أن الحبال والعصى تسعى وتتحرك.
٢ – الشعوذة التي أمرها خفة اليدين وإخفاء بعض الأشياء، وإظهار بعض، وإراءة بعضها بغير صورها.
٣ – ما يكون مداره على تأثير الأنفس ذات الإرادة القوية في الأنفس الضعيفة القابلة للأوهام ومن ذلك ما يسمى : بالتنويم المغناطيسي.
وعلى الجملة فالسحر صناعة بالتعليم كما ثبت بنص الكتاب الكريم، والاختبار الذي لم يبق فيه شك بين العلماء في هذا العصر٩.
ويمكن تقديم خلاصة عن الموضوع فيما يأتي :
( أ ) ذهب الشيخ محمد عبده إلى أن السحر خيال ووهم لا حقيقة له، والساحر لا يؤثر إلا في شخص قلبه هواء وعقيدته هباء.
( ب ) وذهب بعض العلماء إلى أن السحر حقيقة تتلقى بالتعليم والتعلم، وهو يؤثر حبا وبغضا ونزيفا ومرضا... إلخ.
( ج ) ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر وأن رجلا من اليهود قد أخذ شيئا في شعر رأسه ومشاطه وعقد فيه ١١ عقدة، ووضعه تحت حجر في بئر ذكوان وأرشد الله رسوله إلى ذلك وأنزل عليه ١١ آية في سورة الفلق وسورة الناس، وأحضر علي رضي الله عنه المشط والمشاطة من البئر وقرأ النبي صلى الله لعيه وسلم سورة الفلق وسورة الناس ؛ فبطل أثر السحر منها١٠.
( د ) أنكر الشيخ محمد عبده صحة هذا الحديث وقال : إنه حديث آحاد. ولعل الحديث أضيفت إليه زيادات في لفظه ليست صحيحة.
( ه ) عند التأمل نرى أن السحر حقيقة لا خيال وهو ابتلاء من الله يمتحن به بعض الناس قال تعالى :﴿ وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ﴾.
الوقاية من السحر
مما يحفظ المؤمن من السحر والأذى ما يأتي :
١ – قراءة قل هو الله أحد، والمعوذتين.
٢ – أن يقول بعد صلاة الصبح وبعد صلاة المغرب : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير( ١٠ مرات ).
٣ – قراءة قوله تعالى :
{ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون. ( القلم ٥١ ).
٤ – قراءة الأخيرة من سورة الحشر :
من قوله تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون. ( إلى آخر السورة ).
٥ – إخراج صدقة.
٦ – قراءة قوله تعالى :﴿ ما شاء الله لا قوة إلا بالله ﴾. ١١( الكهف : ٣٩ ).
٧ – وأهم شيء هو اليقين الجازم بأن أحدا لا ينفع أو يضر إلا بإذن الله : فهذه هي الصخرة الصماء التي تنكسر عليها نظرات الساحرين والحاسدين، ومن وجد في قلبه اليقين والثقة التامة بأن الله وحده هو النافع الضار ؛ فقد وجد سبيل النجاة والحفظ، قال تعالى :﴿ فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ﴾. ( يوسف : ٦٤ ).
وعن عبد الله قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء، قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف " ١٢.
أي : سيحضر لك رجال الشرطة من سائر المدن كل ساحر ماهر بلغ الغاية في إتقانه علم السحر.
التفسير :
﴿ ١١٣- وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ﴾.
تحكي هذه الآية أن فرعون عمل بمشورة ملئه فاستدعى السحرة من المدائن، فجاءوا إليه ثم أقبل السحرة على فرعون فقالوا له بلغة المحترف الذي يجعل هدفه الأول الأجر والعطاء.
قالوا : إن لنا لأجرا عظيما إن كانت الغلبة على هذا الساحر العليم ؟
يريدون بسؤالهم هذا أن يتحققوا من جزالة الأجر وضخامته.
أي : قال فرعون : نعم لكم ما طلبتموه من الأجر، وإن لكم عندي زيادة على ذلك المكان القريب والمنزلة الرفيعة.
فهو يغريهم بالأجر المادي، ويعدهم بالقرب المعنوي من قلبه ؛ تشجيعا لهم على الإجادة.
روى أنه قال لهم : ستكونون أول من يدخل علي وآخر من يخرج من عندي.
واختلف السلف في عدد السحرة، فقيل : كانوا سبعين ساحرا، وروى عن بعض المفسرين أنهم كانوا سبعين ألفا.
التفسير :
﴿ ١١٥ – قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين ﴾.
أي : قال السحرة عن مواجهتهم لموسى في ساحة التحدي.
أنت يا موسى مخير بين أن تلقى عصاك أولا، وبين أن نلقي نحن أولا، وكان هذا التخيير في البدء ناشئا عن ثقتهم بالغلبة، سواء تأخروا عنه أن تقدموا عليه كأنهم يقولون له : وفي كلتا الحالتين فنحن على ثقة بالفوز والنصر فأرح نفسك واستسلم لما مقدما.
وذهب الزمخشري : إلى أن تخييرهم إياه أدب راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتاخذوا في الصراع١٣.
واسترهبوهم : بالغوا في إرهابهم وتخويفهم.
﴿ ١١٦- قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ﴾.
أي : قال لهم موسى عليه السلام – استهانة بشأنهم ووثوقا بتأييد الله تعالى له. ألقوا : أي : ابدءوا بإلقاء ما تريدون إلقاءه.
فلما ألقوا ما كان معهم من الحبال والعصي.
سحروا أعين الناس. أي : خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخراج، مع أنه لم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، ولذا لم يقل سبحانه، سحروا الناس.
واسترهبوهم : أي : خوّفوهم وملئوا قلوبهم رعبا وخوفا.
روى أنهم ألقوا حبالا غلاظا، وخشبا طوالا، فإذا حيّات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
جاء في تفسير المنار : قيل : إنها كانت عصيا مجوّفة قد ملئت زئبقا وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا ملئوها نارا، فلما طرحت عليها العصىّ المجوفة المملوءة بالزئبق حركها ؛ لأن شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير فأخبر الله أن ذلك كان مموها على غير حقيقته... فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحلية الصناعية.
المفردات :
تلقف : أي : تأخذ وتبتلع بسرعة.
ما يأفكون : ما يكذبون ويموهون الحقائق بقلبها – والإفك في الأصل : قلب الشيء عن وجهه ومنه قيل للكذاب : أفاك ؛ لأنه يقلب الكلام عن وجهه الحق إلى الباطل.
﴿ ١١٧ – وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك... ﴾ الآية.
بعد أن ألقي السحرة حبالهم وجاءوا بسحر بارع استولى على خيال الناس وأرهبهم، وتوجس موسى ؛ خوفا من أن يعلو جانب الباطل.
بعد ذلك أمر الله موسى – عليه السلام – بطريق الوحي ؛ تقوية لزعمه، وتسكينا لروحه – أمره أن يلقي عصاه فألقاها.
﴿ فإذا هي تلقف ما يأفكون ﴾.
أي : فانقلبت العصا حية عظيمة تلتقم حبال السحرة وتبتلع إفكهم وباطلهم.
فوقع الحق : ثبت وظهر.
وبطل ما كانوا يعملون : ظهر بطلان السحر الذي كانوا يعملونه.
التفسير :
﴿ ١١٨ – فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ﴾.
أي : ثبت الحق وظهر، وتبين أن عمل موسى حق واضح وأن ما عمله السحرة تخييل وخداع وباطل وتبين أن عمل موسى معجزة من الله له تؤيده وتصدقه، وأن عمل السحرة باطل لا يقف أمام الحق.
وانقلبوا صاغرين : وعادوا من مبارزة موسى مستسلمين وصاروا أذلاء.
التفسير :
﴿ ١١٩- فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ﴾.
أي : وترتب على ذلك أن أصابت الهزيمة المنكرة فرعون وملأه وسحرته في ذلك المجمع العظيم، وانقلب الجميع إلى بيوتهم صاغرين أذلاء بعد أن أنزل بهم موسى الخذلان والخيبة.
وتم ذلك في يوم العيد وفي وقت الضحى على ملإ من الناس وترقب السحرة للنصر وتوقعهم أن يغلب سحرهم، لكنهم فوجئوا بأن ما جاء به موسى ليس سحرا ولكنه معجزة من رب العالمين.
وفي هذا دليل على أن الباطل قد يغلب أو يتغلب، وقد يسترهب قلوب الناس لساعة من الزمان حتى ليخيّل إلى الكثيرين أنه غالب وجارف... ولكن ما إن يواجه الحق الثابت المستقر حتى يزهق الباطل ويزول، وينطفئ كشعلة الهشيم، وإذا بأتباع هذا الباطل يصيبهم الذل والصغار وهم يرون صروحهم تتهاوى أمام نور الحق المبين.
أي : خر السحرة ساجدين لله، مندفعين بقوة إلى إعلان خضوعهم للإيمان بالله حتى لكأن أحد قد دفعهم إليه دفعا وألقاهم إليه إلقاء.
أي : آمنا وصدقنا بالله تعالى، رب جميع الكائنات وإله جميع المخلوقات.
والإله الذي آمنا به وصدقناه : رب العالمين جميعا ورب موسى وهارون، أرسلهما بالرسالة الحقة وأيدهما بمعجزات صادقة.
وجملة : رب موسى وهارون. بدل من الجملة التي قبلها، أو صفة لرب العالمين، أو عطف بيان.
وفائدة ذلك : نفى توهّم أن رب العالمين قد يطلق على غير الله تعالى ؛ كقول فرعون : أنا ربكم الأعلى.
من تفسير فتح القدير للشوكاني :
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال : التقى موسى وأمير السحرة فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق ؟ قال الساحر : لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر، فو الله لئن غلبتني ؛ لأؤمنن بك، ولأشهدن أنك على حق، وفرعون ينظر إليهما وهو قول فرعون : إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة.
والمتأمل يجد أن بشاشة الإيمان خالطت قلوب السحرة، والعالم في فنّه ؛ هو أكثر الناس استعدادا للتسليم بالحقيقة حين تنكشف له، ومن هنا، فقد تحول السحرة من التحدي السافر، إلى التسليم المطلق أمام صولة الحق ؛ الذي لا يجحده إلا مكابر حقود.
التفسير :
﴿ ١٢٣ – قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ﴾.
قرئ بحذف الهمزة على الإخبار، وقرئ بإثباتها على الاستفهام التوبيخي من فرعون للسحرة.
فقد أنكر عليهم جرأتهم في إعلان الإيمان بموسى من قبل أن يأذن لهم فرعون.
فهو لغروره وجهله ظن أن الإيمان بالحق بعد أن تبين يحتاج إلى استئذان.
﴿ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها ﴾.
أي : إن ما صنعتموه من الإيمان بموسى وصدق رسالته لم يقع منكم ؛ لوضوح حجته، وصدق معجزته، بل هو حيلة احتلتم بها، وخديعة اتخذتموها بالاتفاق مع موسى في مدينة مصر ؛ لتخرجوا منها سكانها الأصليين – القبط – فيزول ملكهم، وتزول دولتهم، يستقر لكم الأمر من بعدهم وقد قصد فرعون بهذا الأسلوب أن يلقي في أسماع عامة القبط بشبهتين.
الأولى : أن إيمان لسحرة كان بناء على اتفاق سابق وتواطؤ مع موسى.
الثانية : أن ذلك كان لإخراج أهل مصر من ديارهم، وقصده تثبيت أهل مصر على ما هم عليه من عبادته والخضوع له، وإذكاء نار عداوتهم لموسى وحقدهم عليه، إذ ليس أشق على النفوس من مفارقة الأديان وترك الأوطان.
وهكذا يقف الطغاة ضد كل داعية مخلص، وعندما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم دعوته في أهل مكة، قدم عليه بعض الوفود من العرب، فقال له أحد الوافدين، أن كلامك يا أخا قريش لمما تكرهه الملوك.
لأن دعوة الرسل الحقة، يترتب عليها إحقاق الحق، وإزهاق الباطل، الحكم بالعدل، وقطع دابر الظلم، ولذلك يحتال الطغاة الظالمون في سائر مراحل التاريخ ؛ لتشويه دعوة الرسل، وإلصاق التهم بالمصلحين.
قال تعالى :
{ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننّكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامى وخاف وعيد. ( إبراهيم : ١٣، ١٤ ).
فسوف تعلمون.
أي : فسوف تعلمون الأهوال التي سأنزلها بكم جزاء إيمانكم بموسى وتواطئكم معه، ثم فصّل هذا الوعيد بقوله :
﴿ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجميعن ﴾.
أي : أقسم لأقطعن من كل شق منكم عضوا مغايرا للآخر.
أي : الرجل اليمنى واليد اليسرى، أو الرجل اليسرى واليد اليمنى.
ثم أرجلكم مصلوبين في جذوع النخل ؛ زيادة في التنكيل وإفراطا في العذاب والتشويه.
وغاية فرعون من ذلك التهديد والوعيد منعهم من الإيمان ثم أن يجعل منه عظة وعبرة لغيرهم.
وفي الآية ٧١ من سورة طه نجد قوله تعالى :
﴿ قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ﴾.
المفردات :
منقلبون : راجعون.
التفسير :
١﴿ ١٢٥– قالوا إنا إلى ربنا منقلبون ﴾.
أي : فلا نبالي بالموت لأنقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته، أو إنا جميعا – يعنون أنفسهم وفرعون. ننقلب إلى الله فيحكم بيننا.
فهو هددهم بعذاب الدنيا وهم هددوه بعذاب الآخرة.
لقد اختاروا الموت في طاعة الله ؛ استجابة لدعوته وإيمانا برسالته، وفي سورة الشعراء :
﴿ قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ﴾.
أفرغ علينا صبرا : أفضه علينا وعمّنا به.
التفسير :
﴿ ١٢٦ – وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا... ﴾ الآية.
أي : ما تكره منا وما تعيبه وتنكره إلا خير الأعمال وأصل المفاخر وهو الإيمان بالله، ومثل هذا لا يمكن العدول عنه مرضاة لك ولا طلبا للزلفى إليك.
وفي تيئيس لفرعون، وحسم طمعه في إيمانهم، ثم أعرضوا عن مخاطبته وقالوا :
﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ﴾.
أي : أفض علينا صبرا واسعا تفرغه علينا، وأيدنا بروحك ؛ حتى لا يبقى في قلوبنا شيء من خوف غيرك ولا من الرجاء في سوى فضلك.
وتوفنا إليك مذعنين لأمرك ونهيك، مستسلمين لقضائك غير مفتونين بتهديد فرعون ولا مطيعين له في قوله ولا فعله.
ونلحظ أن الإيمان بالله مصدر الشجاعة والصبر والثبات ومن ثم يحرص زعماء الشعوب على بث النزعة الدينية بين رجالات الجيوش.
المفردات :
أتذر موسى : أي : أتتك موسى ؟ !
ونستحيي نساءهم : ونستبقي نساءهم أحياء.
التفسير :
﴿ ١٢٧ - وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ﴾.
أي : وقال الأشراف من قوم فرعون مخاطبين له أتترك موسى وقومه أحرارا آمنين، فتكون عاقبتهم أن يفسدوا عليك قومك بإدخالهم في دينهم، أو يجعلهم تحت سلطانهم ورياستهم، ويتركك مع آلهتك، فلا يعبدوك ولا يعبدوها، فيظهر لأهل مصر عجزك وعجزها ؟ !
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما آمنت السحرة اتبع موسى عليه السلام ستمائة ألف من بني إسرائيل.
والتاريخ المصري المستمد من العادات المصرية يدل على أنه كان للمصريين آلهة كثيرة منها الشمس، ويسمونها : " رع " وفرعون عندهم سليل الشمس وابنها.
﴿ قال سنقاتل أبناءهم ونستحي نساءهم ﴾.
أي : قال فرعون مجيبا للملإ : سنقتل أبناء قومه تقتيلا، كلما تناسلوا، ونستبقي نساءهم أحياء كما كنا نفعل قبل ولادته ؛ حتى ينقرضوا.
﴿ وإنا فوقهم قاهرون ﴾ : أي : غالبون ومستعلون عليهم بالغلبة والسلطان، قاهرون لهم كما كنا من قبل، فلا يقدرون على أذانا، ولا الإفساد في أرضنا، ولا الخروج من عبوديتنا.
التفسير :
﴿ ١٢٨ – قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا... ﴾الآية.
أي : قال لهم : يا قوم، اطلبوا معونة الله وتأييده على رفع ذلك الوعيد عنكم، واصبروا ولا تحزنوا. فهو يحاول دعوتهم إلى التماسك والجلد أمام وعيد فرعون وتهديده.
﴿ إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ﴾.
إن الأرض ليست ملكا لفرعون وملئه، وإنما هي ملك له رب العالمين، وهو سبحانه يورثها لمن يشاء من عباده، وقد جرت سنته – سبحانه – أن يجعل العاقبة الطيبة، لمن يخشاه ولا يخشى أحدا سواه.
كان بنو إسرائيل قبل مجيء موسى مستضعفين في يد فرعون يأخذ منهم إتاوات مختلفة، ويستعملهم في الأعمال الشاقة، ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، فلما بعث الله موسى لم يستطع أن ينقذهم، إذ كان يؤذيهم ويظلمهم ويتهددهم ويتوعدهم، فاشتكوا إلى موسى ما يلقونه من سوء المعاملة وقالوا : أصابنا الأذى قبل رسالتك كما اشتد علينا بعد رسالتك !
﴿ قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض ﴾.
أي : قال موسى : إن رجائي من فضل الله أن يهلك عدوكم الذي ظلمكم، ويجعلكم خلفاء في الأرض، أي : في أرض مصر أو في أرض فلسطين، وهو استخلاف مؤقت، بدليل قوله تعالى :
﴿ فينظر كيف تعملون ﴾.
أي : فيرى ربكم كيف تعملون في عبادته ومعاملة خلقه، ليجازيكم على حسب أعمالكم، فإن استخلافكم في الأرض من بعد هلاك أعدائكم ليس محاباة لكم، وإنما هو استخلاف للاختبار والامتحان، فإن أحسنتم ؛ زادكم الله من فضله وإن أسأتم ؛ كان مصيركم كمصير أعدائكم.
المفردات :
بالسنين : السنون : جمع سنة، والمراد بها هنا : القحط والجدب. يقال : أصابتهم سنة. أي : جدب.
التفسير :
﴿ ١٣٠ – ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ﴾.
يخر الله تعالى عن حكمته السامية، حيث يأخذ المعرضين عن الهدى بألوان البلاء لعل ذلك يرشدهم إلى التضرع إلى الله والإيمان برسله.
وقد أقسم القرآن بأن الله أخذ فرعون وقومه بالقحط الشديد ولجدب وضيق المعيشة، وأنقص زروعهم وبساتينهم بتسليط الآفات والأمراض التي فتكت بأكثره لعلهم يتعظون ويتدبرون في أمرهم. فيعلموا أن ما نزل بهم إنما هو بسبب كفرهم وطغيانهم فيرجعوا عما هم فيه من العتو والفساد، ويؤمنوا بالله الواحد القهار، فإن الشدة ترقق القلوب وتهذب الطباع، وتوجه النفوس إلى مناجاة الرب سبحانه والعمل على مرضاته.
الحسنة : كل خير والأقرب هنا هي السعة والخصب.
سيئة : السيئة كل ما يسوء والأقرب هنا الجدب والقحط.
يطيروا : يتشاءموا.
طائركم : يطلق الطائر على الحظ والنصيب والعمل والرزق.
التفسير :
﴿ ١٣١ – فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه... ﴾
أي : فإذا جاءهم ما يستحسنونه من الخصب والسعة والرخاء، قالوا بغرور وصلف : ما جاء هذا الخير إلا من أجلنا ؛ لأننا أهل له، ونحن مستحقون له بكدنا واجتهادنا وامتيازنا على غيرنا، ناسين فضل الله عليهم، ولطفه لهم غافلين من شكره على نعائمه.
﴿ وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ﴾.
أي : وإن اتفق أن أصابتهم سيئة، أي حالة تسوؤهم كالجدب والقحط أو مصيبة في الأبدان أو الأرزاق، تشاءموا بموسى ومن معه من أتباعه، ونسبوا ذلك إليهم، وقالوا : ما حلت بنا الكوارث وما أصابتنا النوازل إلا بشؤم موسى ومن معه ولو لم يكونوا معنا لما أصبنا، وذلك لقسوة قلوبهم وتركهم التدبر في الآيات والنذر.
" والتطير : هو التشاؤم على عادة العرب من زجر الطير فكانوا إذا أطلقوا طائرا فطار إلى اليمين تيامنوا به واستبشروا وسموه( سانحا )، وإذا طار إلى اليسار تشاءموا به وسمّوه( بارحا ) " ١٤.
وقد نهى الإسلام عن التطير والتشاؤم وأباح التفاؤل والاستبشار.
روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا سفر. وفرّ من المجذوم فرارك من الأسد )١٥.
وفي الحديث : " لا طيرة وخيرها الفأل " قالوا : وما الفأل يا رسول الله ؟ قال : " الكلمة الطيبة يسمعها أحدكم " ١٦.
والأحاديث تنهي عن التشاؤم ؛ لأنه يضعف الهمة والعزيمة، ويجعل الإنسان يتوقع المصائب، فإذا رأى الإنسان ما يتشاءم منه قال : " اللهم ؛ لا يأتي بالخير إلا أنت ولا يذهب السوء إلا أنت، اللهم اكفني السوء بما شئت وكيف أنك على ما تشاء قدير " ١٧، ثم مضى في طرقه ولا يترك عمله.
وهذا معنى الحديث لشريف : " لا طيرة ".
أي : لا تتشاءم ولا تترك أي عمل واستعذ بالله من السوء، ثم توكل على الله.
لكن هناك الفأل الحسن، وهو أن تسمع كلمة تتفاءل بها.
كان تذهب إلى مهمة أو مصلحة فتسمع من يقول : ناجح أو فالح أو رابح أو منتصر.
فيباح لك أن تتفاءل وتستبشر وتتوقع خيرا من ذلك العمل إن شاء الله.
ألا إنما طائرهم عند الله.
أي : إن ما ينزل بهم من خير أو شر، وما يحل بهم من بلاء أو عافية هو من عند الله، وأن ليس لموسى ولا لقومه شيء في هذا الأمر كله.
وكل من الشر والخير ابتلاء من الله لعباده، قال تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة. ( الأنبياء : ٣٥ )
﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾.
أي : ولكن أكثر هؤلاء الطغاة الجبارين جهلاء، لا يعلمون أن ما حل بهم من الشدائد والنوازل، ما هو إلا بلاء من الله وحده، بسبب ذنوبهم واستعلائهم في الأرض بغير الحق، ليزدجروا، لا بسبب موسى ومن معه، وما أصابهم من الخير ما هو إلا فتنة لعلهم يتذكرون ويشكرون، لكنهم يجهلون حكمة تصرف الخالق في هذا الكون، ويجهلون أسباب الخير والشر، ويجهلون أن كل شيء في الكون بمشيئة الله وتدبيره.
التفسير :
﴿ ١٣٢ – وقالوا مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها... ﴾
أي : قال فرعون وقومه بعد أن عاينوا من أمر العصا واليد والسنين ونقص الثمرات : أي آية تأتينا بها يا موسى، وإن عظمت وكثرت لتسحر بها أعيننا وتموّه بها علينا فلسنا لك بمصدقين ولا برسالتك مؤمنين ؟ !
فقد داخلهم العناد والإصرار، وادعوا أنه لا فرق بين المعجزة والسحر.
﴿ فما نحن لك بمؤمنين ﴾ : أي : بمصدقين لك، ولا بمتبعين لرسالتك.
التفسير :
﴿ ١٣٣ – فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ﴾.
أي : فعاقبنا فرعون وقومه بأنواع العقوبات ؛ لما أصروا على الكفر ولم يعتبروا بما رأوا من الآيات.
وقد عدد سبحانه هنا من الآيات خمسا وفي سورة الإسراء تسعا١٩.
١ – الطوفان : أي : المطر الشديد الذي أغرق أرضهم وأتلف زرعهم وثمارهم، وقريب من ذلك ما أصاب مصر في شتاء ١٩٩٢ م. حيث أتلفت مياه الأمطار كثيرا من النباتات والجسور والبيوت.
٢ – الجراد : الذي أكل الزرع والغرس والثمار، وألحق بأبواب بيوتهم وسقوفها التلف.
٣ – القمّل : الذي ملأ ثيابهم وأجسامهم وشعورهم وعيونهم ؛ وهو القمّل المعروف. ويحتمل أنه البراغيث.
٤ – الضفادع : فملأت المنازل والمضاجع والأطعمة والأشربة ؛ حتى أقلقتهم وصاروا لا يطيقون الحياة معها.
٥ – الدم : الذي اختلط بالماء، فصاروا لا يستسيغون شربه، أو ابتلاهم بالرعاف.
آيات مفصلات : أي : مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله.
وقيل : إن تفصيلها : هو تفريقها في أزمان مختلفة عن بعضها بحيث تظهر السابقة عن اللاحقة.
﴿ فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ﴾.
فامتنعوا وتعالى، وأنفوا من الإيمان بموسى عليه السلام، وكانوا بكفرهم وعنادهم قوما مجرمين. مبالغين في الكفر والعدوان وإيذائهم لموسى وللمؤمنين به.
المفردات :
الرجز : العذاب.
التفسير :
﴿ ١٣٤ - ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ﴾.
أي : ولما وقع ذلك العذاب عليهم : اضطربوا وفزعوا أشد الفزع، وقالوا : يا موسى، ادع لنا ربك وتوسل إليه بعهده عندك ورسالته لك أن يكشف عنا الرجز والعذاب، ونحن نقسم لك لئن كشفته عنا لنؤمن لك ولنرسلن معك إسرائيل !
وفي التوراة : إن فرعون كان يقول لموسى حين نزول كل آية منها : ادع لنا ربك واشفع لنا عنده أن يرفع عنا هذه، ويعده أن يرسل معه بني إسرائيل ؛ ليعبدوا ربهم ثم ينكث !
ينكثون : ينقضون العهد بعد توكيده وأصل النكث : فك الغزل ثم استعير ؛ لنقض العهد كما هنا.
التفسير :
﴿ ١٣٥ - فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ﴾.
أي : فلما كشفنا عنهم ما نزل بهم من العذاب، ورفعنا عنهم الضر، ورحمناهم بذلك ؛ إجابة لدعاء موسى عليه السلام، إلى أجل هم بالغوه، ومنتهون إليه، وهو الغرق الذي هلكوا فيه، إذا هم ينكثون في عهدهم ويحنثون في قسمهم في كل مرة.
كان فرعون وقومه يظهرون الإيمان عند كل آية من آيات العذاب، وفي كتب التفسير كالطبري وابن كثير : روايات تفيد : أن العذاب تتابع عليهم لونا بعد آخر.
فقد اشتد عليهم المطر حتى خافوا منه الهلاك ؛ فقالوا لموسى : ادع لنا ربك أن يكشف عنا هذا المطر، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا موسى ربه فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، ثم كثر النبات وكثرت الزروع والثمار، وأعرضوا عن الإيمان.
فسلط الله عليهم الجراد، يتلف لهم الزرع والمحصول فاستغاثوا بموسى، فدعا ربه فكشفه الله عنهم فلم يؤمنوا !
فأرسل الله عليهم القمل والسوس الذي أتلف القمح وأفسد المحصولات ؛ فاستغاثوا بموسى وكشف عنهم العذاب ولم يؤمنوا !
فأرسل الله عليهم الضفادع تملأ بيوتهم وطعامهم وتقفز إلى أفواههم، فاستغاثوا ثم لم يؤمنوا ! فأرسل الله عليهم الدم في طعامهم وشرابهم وأوعيتهم ؛ ثم استغاثوا بموسى فدعا ربه فكشف عنهم العذاب ثم لم يؤمنوا بموسى ولم يصدقوا في وعودهم معه !
وهنا يفيد القرآن : أن الله أمهلهم كثيرا حتى إذا اشتد طغيانهم عاقبهم الله عقابا رادعا بسبب نقض العهد وعودتهم إلى تكذيب الآيات وارتكاب المعاصي.
وكان هذا الانتقام هو إغراقهم في البحر بإطباقه عليهم، حين أرادوا اللحاق بموسى وهو يعبره بقومه إلى سيناء بعد أن انشق له بضربة من عصاه.
والقرآن هنا يسوق حادث إغراق فرعون وملئه بصورة مجملة، فلا يفصل خطواته كما فصلها في مواطن أخرى، وذلك لأن المقام هنا هو مقام الأخذ الحاسم بعد الإمهال الطويل، فلا داعي إذن إلى طول العرض والتفصيل.
ولأن سورة الأعراف يغلب عليها الإنذار وتخويف المكذبين بما حل بالأمم السابقة فقد جاءت بهذه الآية زجرا لأهل مكة وسائر المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم، الجاحدين لآياته، فكأنها تقول : تلك عقبي الذين ظلموا.... لقد أغرقهم الله بذنوبهم، بسبب تكذيبهم بآيات الله، وغفلتهم عن موقع العبرة والعظة منها والسعيد من اتعظ بغيره.
المفردات :
وتمت : تحققت و مضت.
كلمت ربك : وعد ربك بالنصر.
الحسنى : تأنيث الأحسن صفة للكلمة.
التفسير :
﴿ ١٣٧ – وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها... ﴾
أي : بعد أن أغرق الله فرعون وقومه، نجّى موسى وقومه بني إسرائيل الذين كانوا يستضعفون بقتل الرجال واستخدام الإناث وإذلالهم واستعبادهم.
أورثهم الأرض التي عبروا البحر إليها وهي فلسطين، وقد أورثهم مشارقها ومغاربها، أو أورثهم مشارق أرض الشام ومغاربها.
أو مشارق أرض فلسطين من حدود الشام ومغاربها من حدود مصر، وقد بارك الله في هذه الأرض بركات مادية ومعنوية، فقد بارك الله فيها بالخصب وسعة الرزق، وجعلها موئل الرسالات والنبوات وبها المسجد الأقصى الذي دخله أعداد من الرسل والأنبياء.
قال تعالى :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله... ﴾( الإسراء : ١ ).
وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام :﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ﴾. ( الأنبياء : ٧١ )
وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام : ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها لعالمين. ( الأنبياء : ٧١ ).
وقال تعالى :﴿ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها... ﴾( الأنبياء : ٨١ ).
وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا.
أي : ونفذت كلمة الله ومضت على بني إسرائيل تامة كاملة بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه، وقد كان وعد الله تعالى إياهم مقرونا بأمرهم بالصبر والاستقامة، وقد وعد الله العاملين بالنصر والتمكين.
قال تعالى :{ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون. ( القصص : ٥، ٦ ).
وقريب من ذلك قوله تعالى :﴿ قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ﴾. ( الأعراف : ١٢٨ ).
﴿ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ﴾.
أي : وخربنا ما كان يصنع فرعون وقومه من القصور والصروح والعمارات، وما كان يهتمون بغرسه من البساتين والجنات، وتلك نهاية عادلة لطغيان فرعون واستعلائه في الأرض بغير الحق.
تنبيه
تحدث القرآن عن بني إسرائيل بأنهم عندما آمنوا بموسى واتبعوا أوامر التوراة ؛ أعطاهم الله النصر والتمكين في الأرض فأورثهم فلسطين عندما كانوا مسلمين حقا، ومؤمنين صادقين.
وفي هذا الإطار نجد آيات كريمة تتحدث عن تفضيلهم وإكرامهم ونصرهم.
مثل قوله تعالى :{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين. ( البقرة : ٤٧ ).
ومثل الآية التي نشرحها حيث يقول تعالى :{ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا. ( الأعراف : ١٣٧ ).
وعندما قست قلوبهم، وحرفوا التوراة، وأضافوا إليها ما ليس منها، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعنهم الله، وكتب عليهم الذلة والمسكنة، وسلط عليهم أعدائهم في القديم والحديث، فقد سلط عليهم بختنصر البابلي قبل الميلاد، وسلط عليهم الرومان والألمان والعرب المسلمين ؛ عقوبة على فسادهم.
قال تعالى :{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون. ( المائدة : ٧٨، ٧٩ ).
وقال تعالى :{ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا * وإن أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وأن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا. ( الإسراء : ٤ - ٨ ).
وهذه الآيات تفيد أن بني إسرائيل سيفسدون في أرض فلسطين مرتين أي : مرة بعد أخرى.
وفي المرة الأولى يسلط الله عليهم عبادا ينفذون أمره ولعل هذا الإنسان هو بختنصر البابلي، وقد حارب بني إسرائيل في سنة ٦٠٦، وفي سنة ٥٩٩، وفي سنة ٥٨٨ ق. م. ثم ساعدهم قورش ملك الفرس سنة ٥٢٦ ق. م، فعادوا لبلادهم وأعادوا بناء هيكلهم.
ولعل المسلط عليهم في المرة الثانية هم الرومان بقيادة تيطس سنة ٧٠ م.
وقد قتل منهم تيطس مليون قتيل وأسر منهم مائة ألف أسير.
ثم تفرقوا في البلاد وأصبح تاريخهم ملحقا بتاريخ الممالك التي نزلوا فيها.
ولم يرجع اليهود إلى فلسطين إلا في العصر الحديث، بعد أن ظلت فلسطين في يد العرب المسلمين ١٣٠٠ سنة، ومنذ ذلك الحين وفلسطين بلد من بلاد المسلمين علينا استرداده وتحريره بإذن الله، والله مع المتقين !
المفردات :
وجاوزنا : وعبرنا وقطعنا بهم البحر.
فأتوا : مروا.
يعكفون : يقيمون ويلازمون.
التفسير :
﴿ ١٣٨ - وجوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة... الآية ﴾.
تمهيد :
بين سبحانه نعم الله على بني إسرائيل، فقد أنجاهم من عدوهم حين ضرب موسى بعصاه البحر الأحمر " بحر القلزم " فأنفلق البحر وصار كل جانب من المياه كالجبل العظيم وسار موسى مع قومه في طريق يابس بين المياه العالية، وقد أتبعهم بجنوده ليدركهم، فتركه الله إلى أن خرج بنو إسرائيل من البحر ثم أطبق البحر على فرعون وجنوده وأغرقهم أجميعن، وتركهم عبرة وعظة لهلاك الظالمين، وخيبة المعتدين.
وبعد أن شاهد بنو إسرائيل بأعينهم هلاك عدوّهم ونجاتهم من الغرق بفضل الله، إذا بهم يعودون إلى طبيعتهم الوثنية في عبادة الأصنام.
﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر... ﴾
المعنى : وعبرنا ببني إسرائيل البحر إلى شاطئه الشرقي وسلكناه بهم بعد أن انفلق وانشق بضربة موسى عليه السلام.
﴿ فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ﴾.
أي فيمرّ بنو إسرائيل على جماعة من الناس يقيمون على عبادة أصنام صنعوها بأيديهم ويلتزمون بتعظيمها وتقديسها.
ولم يذكر القرآن شيئا يعين شأن هؤلاء القوم الذين أتى عليهم بنو إسرائيل، والراجح أنهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر، روى عن قتادة : أنهم من عرب لخم، وعن ابن جريج : أن أصنامهم كانت تماثيل بقر من نحاس.
﴿ قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ﴾.
أي : قال بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلها نختص به وننفرد بعبادته يكون مماثلا لتلك الآلهة ؛ التي اختص بها هؤلاء، وانفردوا بعبادتها من دون الله.
﴿ قال إنكم قوم تجهلون ﴾
أي : إنكم تجهلون مقام التوحيد، وما يجب من تخصيص الله بالعبادة بلا واسطة ولا مظهر من المظاهر كالأصنام والتماثيل والعجل أبيس والثعابين – فالله قد كرم البشر وجعلهم أهلا لمعرفته ودعائه ومناجاته بلا واسطة تقربه إليهم ؛ فإنه أقرب إليهم من حبل الوريد.
متبر : هالك.
وباطل : ومضمحل زائل.
التفسير :
﴿ ١٣٩ – إن هؤلاء متبّر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ﴾.
إن هؤلاء الذين تبغون تقليدهم في عبادة الأوثان محكوم على ما هم فيه بالدمار، ومقضى على ما يعملونه من عبادة الأصنام بالاضمحلال والزوال، لأن دين التوحيد سيظهر في هذه الديار، وستصير العبادة لله الواحد القهار.
من كلام المفسرين
١ – قال الإمام الرازي : والمراد من بطلان عملهم : أنه لا يعود عيهم من عبادة ذلك العجل نفع ولا دفع ضرر.
٢ – قال الأستاذ سيد قطب – في ظلال القرآن – كلاما طويلا خلاصته : أن موسى عليه السلام لا يواجه هنا طاغوت فرعون وملئه، ولكنه يواجه المعركة مع( النفس البشرية ) فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلا.
وقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلا ؛ حتى فسدت نفوسهم وفسدت طبيعتهم، والتوت طبيعتهم، وانحرفت تصوراتهم، وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب، وبالحق والقسوة من الجانب الآخر، وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية، حيثما تعرضت طويلا للإرهاب والطغيان...
٣ – قال القرطبي : ونظيره قول جهال الأعراب وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى : ذات أنواط – لأنهم كانوا ينوطون بها سلاحهم أي : يعلقونه – وكان الكفار يعظمون هذه الشجرة في كل سنة يوما، قال الأعراب : يا رسول الله : اجعل لنا ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم ءالهة. لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة٢٠ حتى إنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " وكان هذا في مخرجه إلى حنين٢١.
٤ – جاء في تفسير المراغي للأستاذ مصطفى المراغي :
وللمسلمين عبرة في هذا فإن لهم ذات أنواط في بلاد كثيرة كشجرة " الحنفي " بمصر، وقد اجتثت أخيرا، وشجرة " ست المنضوره "، ونحو ذلك مما اتخذوه من القبور والأشجار والأحجار التي يعكفون عليها ويطوفون حولها، ويقبّلونها، ويتمرغون بأعتابها، ويتمسحون بها، خاشعين ضارعين، راجين شفاء الأدواء، الانتقام من الأعداء وحبل العقيم، ورد الضالة، وغير ذلك من النفع، وكشف الضر، وهذا مخالف لنصوص كتاب الله وسنة رسوله ؛ إذ هذا عبادة وأن كانوا لايسمونها بذلك، فلا فرق بينه وبين شرك الجاهلية " إلا بالتسمية " ؛ إذ حقيقة العبادة : كل قول أو عمل يوجّه إلى معظم يرجى نفعه أو يخشى ضرّه وحده٢٢.
المفردات :
أبغيكم : أطلب لكم.
العالمين : جمع عالم وهو ما سوى الله. والمراد هنا : عالمو زمانهم وعصرهم.
التفسير :
﴿ ١٤٠ – قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين ﴾.
أي : كيف أطلب لكم غير الله إلها تعبدونه ؟ ! وقد شاهدتهم من آياته العظام ما يكفي البعض منها.
وهنا يذكّرهم موسى بأقرب النعم عليهم، من انقاذهم من أسر فرعون وقهره، وما كانوا فيه من الهوان والذلّة، وما صاروا إليه من الاستعلاء والعزة.
﴿ وهو فضلكم على العالمين ﴾.
أي : على عالمي زمانكم ؛ بهدايتكم إلى الدين الحق، وتفضيلكم على أهل زمانكم ممن كانوا أرقى منكم مدنية وحضارة وسعة ملك وسيادة مثل فرعون وقومه، حيث رسالة موسى وهارون منكم، وتجديد ملة إبراهيم فيكم.
وهذا التفضيل مقيد باتباعهم تعاليم السماء ورسالة الأنبياء.
لكنهم لم يصونوا هذه الأمانة، بتحريفهم كلام الله، وعدوانهم في السبت، واتهامهم لمريم بالسوء، وادعائهم : أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم، وغلوّهم في حب المادة، وإهمالهم روح الدين وتعالميه.
فحق عليهم اللعن والطرد، وسلك الله عليهم من ينتقم منهم في تاريخهم الطويل.
١ – جاء في ظلال القرآن ما يأتي :
ذكرهم موسى بأقرب الأشياء إليهم ؛ لأنها أقرب الحجج عليهم، وإلا فمثل موسى لا يطلب ربا سوى الله، ولا يدعوهم إلى رب سوى الله، فضّلهم أو لم يفضلهم، أنجاهم من ظلم فرعون أو أبقاهم، فله الأمر من قبل ومن بعد.
ومن بداية الآيات نشعر كيف يتسرب الانحراف، وكيف يبدأ، وكيف يكون، فها هي أمة ترى المعجزات التي رأتها، ومع ذلك فإنها تطلب أن يكون لها أصنام، تعبدها من دون الله، ورسولها بين أظهرها، وأرجلها لم تكد تجاوز البحر، الذي رأت في سيرها فيه وانشقاقه لها أعظم معجزة !
٢ – جاء في تفسير النسفي، أن يهوديا قال لعلي رضي الله عنه : اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه " يظهر أن المراد : ماء القبر الذي يرشّ عليه حين الدفن لتسويته " فقال ردا عليه : قلتم : اجعل لنا إلها ولم تجف أقدامكم.
يسومونكم : يلزمونكم إياه. يقال : سامه الأمر يسومه : كلفه إياه وألزمه به، وأكثر ما يستعمل العذاب.
بلاء : اختبار.
التفسير :
﴿ ١٤١ – وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾.
لفت موسى نظرهم إلى أجل نعم الله عليهم، فقد عاشوا زمنا طويلا أذلاء تحت عذاب فرعون وقومه، فقد كانوا يذبحون الأطفال الذكور، ويتركون الإناث للخدمة والاستفراش، ثم أرسل الله موسى وأنقذهم به من العذاب والمهانة، وعبر بهم موسى البحر، وفي هذا الابتلاء، اختبار من الله لهم، بالشدة ثم بالنصر والنعمة، ويجب عليهم أن يشكروا الله على ذلك، وأن يخلصوا في عبادته.
وهكذا تدرج موسى في تسفيه طلبهم أن يجعل لهم صنما يعبدونه، وذكّرهم بأجل النعم من الله عليهم ؛ حتى يخلصوا في عبادته، وحتى يبتعدوا عن عبادة غيره.
١ – جاء في ظلال القرآن ما يأتي :
ذكرهم موسى بأقرب الأشياء إليهم ؛ لأنها أقرب الحجج عليهم، وإلا فمثل موسى لا يطلب ربا سوى الله، ولا يدعوهم إلى رب سوى الله، فضّلهم أو لم يفضلهم، أنجاهم من ظلم فرعون أو أبقاهم، فله الأمر من قبل ومن بعد.
ومن بداية الآيات نشعر كيف يتسرب الانحراف، وكيف يبدأ، وكيف يكون، فها هي أمة ترى المعجزات التي رأتها، ومع ذلك فإنها تطلب أن يكون لها أصنام، تعبدها من دون الله، ورسولها بين أظهرها، وأرجلها لم تكد تجاوز البحر، الذي رأت في سيرها فيه وانشقاقه لها أعظم معجزة !
٢ – جاء في تفسير النسفي، أن يهوديا قال لعلي رضي الله عنه : اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه " يظهر أن المراد : ماء القبر الذي يرشّ عليه حين الدفن لتسويته " فقال ردا عليه : قلتم : اجعل لنا إلها ولم تجف أقدامكم.
المفردات :
ميقات ربه : أي : الوقت الذي وقته ربه لمناجاته وتلقى ألواح التوراة.
التفسير :
﴿ ١٤٢ – وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ربه أربعين ليلة... ﴾ الآية.
روى أن موسى عليه السلام، وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم ؛ أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون، سأل موسى ربه : الكتاب، فبينت هذه الآيات كيفية نزول هذا الكتاب وهو التوراة.
من جملة ما كرم الله به موسى وشرفه، ضرب هذه المدة موعدا لمناجاة موسى ومكالمته.
وتفيد كتب التفسير : إن الأيام الثلاثين الأولى كانت شهر ذي القعدة، والأيام العشرة التي أكملت الأربعين كانت أيام عشر ذي الحجة.
وقد مكث موسى في هذه المدة صائما قائما متبتلا فوق جبل الطور، وفي هذه المدة تربية روحية لموسى بالصفاء والنقاء والعبادة والتأمل وقوة الروح وصفاء النفس.
وفي ختام هذه المدة، وبعد أربعين ليلة من التحنّث والعبادة أنزل الله عليه التوراة وكلمه عند انتهائها. وأعطاه الألواح المشتملة على أصول الشريعة.
جاء في التوراة في سفر الخروج : " وقال الرب لموسى : اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم، فقام موسى ويشوع خادمه، وصعد موسى إلى جبل الله تعالى. وأما الشيوخ فقال لهم : اجلسوا ها هنا، وهو ذا هارون وحور معكم فمن كان صاحب دعوى فليتقدم إليها، فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل، وحل مجد الرب على جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام وفي اليوم السابع دعى موسى من وسط السحاب وكان ينظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل أمام عيون بني إسرائيل ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل وكان موسى في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة ".
﴿ وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾.
استخلف موسى أخاه هارون على رعاية يومه وإصلاح شئونهم وتفقد أحوالهم، وزوده بالنصيحة المفيدة : فهو يعلم تعنت بني إسرائيل وعنادهم فقال لهارون :
كن خليفتي في قومي، واعمل على إصلاح عيشهم وحياتهم وعقيدتهم ؛ حتى أرجع إليهم، ولا تسلك طريق الذين انغمسوا في الغواية والفساد، ولا تطعهم في ذلك، بل ردهم إلى الحق والصواب، وبين لهم طريق الهدى والرشاد.
تجلى : انكشف وظهر.
دكا : أي : مدكوكا منهارا مهدوما.
خر : سقط.
صعقا : مغشيا عليه.
التفسير :
﴿ ١٤٣ – ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك... ﴾
أي : ولما جاء موسى إلى الجبل لأجل ميقات ربه.
وكلمه ربه.
أي : بلا واسطة ولا كيفية فكلام الله الأزلي ليس كمثله شيء، وقال بعضهم : أنه كان يسمع الكلام في سائر الجهات الأربع ومن جنبات نفسه.
قال النسفي : وذكر الشيخ في التأويلات : إن موسى عليه السلام سمع صوتا دالا على كلام الله تعالى، وكان اختصاصه باعتبار أنه أسمعه صوتا تولى تخليقه من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسبا لأحد من الخلق.
﴿ قال رب أرني أنظر إليك ﴾.
عن قتادة : لما سمع موسى الكلام ؛ طمع في الرؤية – أي : اشتياقا – للجمع بين فضيلتي الكلام والرؤية. فقال : رب ذاتك المقدسة ومكني من رؤيتك بأن تتجلى لي حتى أراك.
{ قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني.
أي : قال الله لموسى : لن تراني في دنياك هذه، بالعين الفانية في هذه الدنيا الفانية، بل بعين باقية في الدار الباقية.
قال الشوكاني في فتح القدير :
معناه : أنك لا تثبت لرؤيتي ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرما وصلابة وقوة وهو الجبل فانظر إليه.
فإن استقر مكانه، ولم يتزلزل عند رؤيتي له ؛ فسوف تراني.
وإن ضعف ذلك عن الجبل فأنت منه أضعف، فهذا الكلام بمزلة ضرب المثل لموسى عليه السلام بالجبل، وقيل : هو من باب التعليق بالمجال، وعلى تسليم هذا ؛ فهو في الرؤية في الدنيا.
وقد تمسك بهذه الآية كلتا طائفتي المعتزلة والأشعرية :
فالمعتزلة استدلوا بقوله : لن تراني، وبأمره أن ينظر إلى الجبل.
والأشعرية قالوا : إن تعليق الرؤية باستقرار الجبل يدل على أنها جائزة غير ممتنعة.
ولا يخفاك أن الرؤية الأخروية هي بمعزل عن هذا كله، والخلاف بينهم هو فيها، لا في الرؤية في الدنيا، فقد كان الخلاف فيها في زمن الصحابة وكلامهم فيها معروف٢٣.
﴿ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ﴾.
تجلى : معناه : ظهر من قولك جلوت العروس : أي أبرزتها، وجلوت السيف : أخلصته من الصدإ، وتجلى الشيء : انكشف.
والمعنى : فلما ظهر ربه للجبل جعله دكا.
أي : جعله مدكوكا مدقوقا، فصار ترابا، وفي حديث أنس مرفوعا : فساخ الجبل.
﴿ وخر موسى صعقا ﴾.
أي : سقط من هول ما رأى من النور الذي حصل به التجلي مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة.
﴿ فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ﴾.
أي : فلما أفاق من غشيته وعاد إلى وعيه وفهمه وذهبت عنه تلك الشدة قال تعظيما لله وإجلالا لمقامه.
سبحانك : أنزهك يا رب عن مشابهتك لشيء من خلقك.
تبت إليك : أي : من الإقدام على السؤال بغير إذن منك.
وأنا أول المؤمنين : أي : من بني إسرائيل.
وفي رواية : عن ابن عباس : وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة.
والخلاصة :
" أن موسى لما نال فضيلة التكليم بلا واسطة فسمع من عالم الغيب ما لم يسمع من قبل ؛ تاقت نفسه أن يمنحه الرب شرف رؤيته فطلب ذلك منه وهو يعلم أنه ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته، ولكن الله تبارك وتعالى قال له : لن تراني. ولكي يخفف عليه ألم الردّ، أراه بعينيه من تجليه للجبل، ما فهم منه أن المانع من جهته، لا من جانب الفيض الإلهي ؛ حينئذ نزه الله وسبّحه، وتاب إليه من هذا الطلب ؛ فبشره الله بأنه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه، وأمره أن يأخذ ما أعطاه ويكون من الشاكرين له " ٢٤.
المفردات :
اصطفيتك : اخترتك.
التفسير :
﴿ ١٤٤ – قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي... ﴾ الآية.
قال الله تعالى : يا موسى، إني اخترتك رسولا وفضلتك على أهل زمانك ؛ بإرسالي إياك، وأنزلت عليك التوراة تبيانا لطريق الخير وإرشادا للحلال والحرام، كما آثرتك بكلامي إياك من غير واسطة.
﴿ فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ﴾.
فتقبل ما أنعمت به عليك من شرف النبوة والرسالة، وأرض بنعمة المناجاة والكلام، وطب نفسا بجعلك من المصطفين الأخيار الذين يبلغون رسالات ربهم، واندمج في عداد الشاكرين على تلك النعم ؛ حتى تنال المزيد من فضلي :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾.
وهارون كان رسولا مع موسى، لكنه كان مأمورا باتباع موسى، فلم يكن صاحب شريعة مستقلة، ولم يكن كليما لله وقد طلب موسى من ربه أن يجعل هارون معه رسولا يشدّ أزره ويصدقه ؛ مخافة أن يكذبه قومه.
قال تعالى :{ وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون * قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون. ( القصص : ٣٤، ٣٥ ).
تعليق
تفيد هذه الآيات أن الله تعالى كلّم موسى تكليما، وهي آيات صريحة في إثبات صفة الكلام لله تعالى.
ويقول علماء الكلام : لو لم يكن الله تعالى متكلما لكان أبكما، والبكم نقص، والنقص على الله تعالى محال.
أما الرؤية ففيها آيات متعارضة، كقوله تعالى :﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ﴾.
وقوله تعالى :﴿ لن تراني ﴾. وهما أصرح في النفي من دلالة قوله تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ﴾. على الإثبات، فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير في القرآن وكلام العرب، كقوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا تأويله ﴾، وقوله تعالى :﴿ ما ينظرون إلا صيحة واحدة ﴾.
والمعتزلة يقولون : أن هناك آيات محكمة تفيد عدم الرؤية وآيات متشابهة، فنحن نحمل المتشابه على المحكم. بيد أن في الأحاديث الصحيحة تصريح بإثبات الرؤية بحيث لا تحتمل تأويلا، والمرفوع منها مروي عن أكثر من عشرين صحابيا.
ولم يرد في معارضتها شيء أصرح من حديث عائشة عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أماه، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت، أي أنت من... : " ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ؛ فقد كذب، وفي رواية فقد كذب، وفي رواية فقد أعظم على الله الفرية، ثم قرأت :﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير – وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ﴾
ومن حدثك أنه يعلم ما في غد ؛ فقد كذب، ثم قرأت :﴿ وما تدري نفس ماذا تكسب غذا. ومن حدثك أنه كتم شيئا من الدين ؛ فقد كذب ثم قرأت :{ يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك ﴾.
قال مسروق : وكنت متكئا فجلست وقلت : ألم يقل الله : ولقد رءاه نزلة أخرى. فقالت : أنا أول هذه الأمة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " أنما هو جبريل " ٢٥.
ومن هذا نعلم أن عائشة تنفي دلالة سورة النجم على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بالحديث المرفوع، وتنفي جواز الرؤية مطلقا، أو في هذه الحياة الدنيا، بالاستدلال بقوله تعالى :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ وقوله :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ﴾.
وهذا الاستدلال ليس نصا في النفي حتى يرجح على الأحاديث الصريحة في الرؤية وقد قال بها بعض علماء الصحابة.
والمثبتون للرؤية يقولون : إن استنباط عائشة إنما هو لنفي الرؤية في الدنيا فقط كما قال بذلك الجمهور.
ولا تقاس شئون البشر في الآخرة على شئونهم في الدنيا ؛ لأن لذلك العالم سننا ونواميس تخالف سنن هذا العالم ونواميسه حتى في الأمور المادية كالأكل والشرب، والمأكول والمشروب، فماء الجنة غير آسن، فلا يتغير كماء الدنيا بما يخالطه أو يجاوره في مقره أو جوه، قال ابن عباس : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء..
وجمهرة المسلمين : أن رؤية العباد لربهم في الآخرة حق، وأنها أعلى وأكمل للنعيم الروحاني الذي يرتقي إليه البشر في دار الكرامة، وأنها أحق ما يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " قال الله عز وجل :{ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " ٢٦، وهي المعبر عنها بقولهم : إنها رؤية بلا كيف٢٧.
المفردات :
وكتبنا له في الألواح : أي : وخلقنا له الكتابة فيها ؛ والألواح : الصحف التي كتبت فيها التوراة.
فخذها بقوة : أي : فتناولها وتقبلها بجد وعزيمة.
التفسير :
﴿ ١٤٥ – وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء.... ﴾الآية.
هل المراد بالألواح هنا التوراة أو ألواح أعطيها موسى قبل التوراة ؟ قولان للعلماء :
جاء في تفسير المنار :
قال بعض المفسرين : إن الألواح كانت مشتملة على التوراة، وقال بعضهم : بل كانت قبل التوراة، والراجح : أنها كانت أول ما أوتيه من وحي التشريع، فكانت أصل التوراة الإجمالي، وكانت سائر الأحكام من العبادات والمعاملات الحربية والمدنية والعقوبات تنزل يخاطبه بها الله تعالى في أوقات الحاجة إليها٢٨.
والمعنى : بينا لموسى في الألواح والصحف من كل شيء يحتاج إليه ينو إسرائيل ؛ لإصلاح شئونهم في الدين والدنيا من المواعظ وتفصيل الأحكام، وبيان الحلال والحرام والحسن والقبيح وغير ذلك من أنواع الهداية والإرشاد.
﴿ فخذوها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾.
أي : خذ هذه الأحكام بالعزيمة والجد، بدون تهاون أو تفريط، وهي دعوة إلى تقديم العزيمة على الرخصة، وعدم محاولة التفلّت والانسلاخ من الأحكام الشاقة إلى أيسر الأحكام والتكاليف.
وليس في هذا غلو أو اعتساف، فنحن نعلم أن دين الله يسر لا حرج فيه.
ولكن هذه العقيدة تحتاج إلى الجد والهمة والحسم والصراحة ولا ينبغي أن تؤخذ في رخاوة ولا تميع ولا ترخيص، مع البعد أيضا عن التشدد والتعنت والتعقيد.
﴿ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾.
أي : وأمر قومك بالاعتصام بهذه الموعظة، والأحكام المفصلة في الألواح، التي هي في منتهى الكمال والحسن، وأن يختاروا أقربها إلى الصواب لو أن فيها حسنا وأحسن، كالقود والعفو، والانتصار والصبر، والمأمور به والمباح. فأمروا بأن يأخذوا بما هو أكثر ثوابا.
﴿ سأوريكم دار الفاسقين ﴾.
أي : سأرى قومك ديار الهالكين من عاد وثمود وأمثالهم ؛ ليشاهدوا ما حل بأهلها من الهلاك والدمار ؛ لأن رؤية الديار خالية من أهلها، خاوية على عروشها، تدعو إلى مزيد من الحذر والاعتبار.
قال ابن كثر : أي : سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى الهلاك والدمار.
وخوطب قوم موسى عليه السلام بقوله : سأريكم دون قوله – سأريهم – التفاتا إليهم بعد الغيبة ؛ ليكون ذلك أبلغ من حملهم على الطاعة والامتثال، وتخويفهم من اتباع طريق الظالمين.
وقيل : معنى : سأوريكم دار الفاسقين. سأورثكم حكم الوثنيين في تلك الديار التي هاجرتم إليها، بدليل قراءة :﴿ سأورثكم دار الفاسقين ﴾.
المفردات :
سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون : سأبعد عن التدبر في آياتي، والمراد : سأطبع على قلوبهم وأغلقها ؛ بسبب كبريائهم.
سبيل الرشد : طريق الحق.
سبيل الغي : طريق الضلال.
التفسير :
﴿ ١٤٦ - سَأَصْرِفُ عَنْ آياتيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ... ﴾
يسر الله للإنسان طريق الهدى والرشاد، ومنحه العقل والإرادة والاختيار، وهداه النجدين وبين له الطريقين، فإذا اختار الإنسان طريق الهدى ؛ يسر الله له الرشاد وثبته وأعانه عليه، وإذا تكبر عن الحق وبغى في الأرض وتعالى وتكبر عن دواعي الإيمان ؛ فإن الله يسلب عنه الهدى ويحجبه عن مواقع رحمته، بعد أن أخذ من آيات الله ومعجزاته هذا الموقف المعيب ثم بين صفات المستكبرين وأحوالهم فقال :
١ – ﴿ وأن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ﴾.
إن إعراضهم عن الحق حجبهم عن رؤية دلائل الإيمان، ومعجزات الرسل، وجمال التشريع الإلهي وسموه، فإذا شاهدوا آيات التنزيل أو معجزات الرسل عماهم الهوى عن الإيمان بهذه الآيات.
٢ – ﴿ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ﴾.
إذا شاهدوا طريق الحق والخير والإيمان والفلاح ؛ أبعدوا أنفسهم عنه وساروا في غيره.
٣ – ﴿ وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ﴾.
أي : إنهم إذا شاهدوا طريق الضلال والشهوات والمحرمات ؛ هرعوا إليه وساروا فيه.
ثم علل ما سلف من صرفهم عن النظر في الآيات فقال :
﴿ ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا و كانوا عنها غافلين ﴾.
لقد حجبهم الله عن مواقع رحمته، وصرفهم عن الاعتبار بآياته ؛ لأنهم أخذوا من آياته سبحانه موفقا معاديا، فأغمضوا أعينهم عنها، وكذبوا بها قبل أن ينظروا فيها ويعرفوا وجهها ولو أنهم تدبّروا ما جئنا به وعقلوه ؛ لما فعوا الأباطيل.
حبطت أعمالهم : بطلت أعمالهم فلم ينتفعوا بها.
التفسير :
﴿ ١٤٧ – وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بآياتنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانوا يَعْمَلُونَ ﴾.
إن الذين كذبوا بالرسل، وكفروا بآيات الله وباليوم الآخر، ضل سعيهم، وبطل ما عملوه في الدنيا من بر وصلة رحم، وإغاثة ملهوف وغير ذلك ؛ إذ الشرط في قبول أعمال الخير والإثابة عليها في الآخرة ؛ تحقيق الإيمان بالله وشرائعه.
﴿ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ﴾.
إنهم عملوا لغير الله، وأتبعوا أنفسهم في غير ما يرضى الله، فتصير أعمالهم وبالا عليهم، وقد مضت سنة الله أن يكون الجزاء من جزاء العمل.
وإنهم لم يعملوا إلا شرا ولم يقدموا إلا سوءا وكفرا، فلم يكن جزاؤهم إلا ما يسوؤهم.
﴿ لقد ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ﴾.
المفردات :
جسدا : جسد عجل مصنوعا من الذهب لا روح فيه.
خوار : صوت البقر.
التفسير :
١٤٨- ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ…. ﴾الآية.
ذهب موسى إلى مناجاة الله تعالى، واستمر غيابه عنهم أربعين ليلة ؛ واستخلف موسى هارون على قومه، ودعاه إلى الإصلاح والابتعاد عن المفسدين وكان السامريّ مطاعا في بني إسرائيل وله منزلة جليلة بينهم، فطلب منهم أن يجمعوا الحلي التي استعاروها من الأقباط ليلة عيد لهم، ثم غرق فرعون وقومه، وبقيت الحلي عند بني إسرائيل، فطلبها منهم السامري، بحجة أنها عارية لا يحق لهم أن يتملكوها، وكان السامري فنانا له خبرة بالنحت وصنع التماثيل بطريقة فائقة.
فوضع الحلي في النار، وصاغ منها تمثالا على صورة عجل، فيه هيئة الجسد ولا روح في، ووضع فيه أنابيب تؤدى إلى إحداث صوت الخوار، عند دخول الريح فيه.
فلما رأوا منظره وصوت البقر ينبعث منه، قال لهم السامري : هذا هو إلهكم، وإله موسى، ولكن موسى نسى هذا الإله وتركه فأقيموا أنتم على عبادته، فاتجها إليه بالعبادة، مقلدين قوم فرعون في عبادة عجل أبيس، ومقلّدين ما شاهدوه من بعض العرب الذين أقاموا على عبادة تمثال لبقرة، وطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلها يعبدونه، كما يعبد هؤلاء هذا التمثال ؛ فغضب منهم موسى، وقال لهم : كيف تعبدون إلها غير الله الذي أنعم عليكم بالعديد من النعم.
﴿ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له حوار... ﴾
أي : وصاغ بنو إسرائيل من بعد ما فارقهم موسى ماضيا إلى مناجاة ربه – من حلي القبط التي كانوا استعاروها منهم. { عجلا جسدا له خوار. أي : تمثالا له صورة العجل وبدنه وصوته.
والذي فعل ذلك هو السامري، وكان مطاعا فيهم، وإنما نسب العمل إليهم ؛ لأنه عمل برأى جمهورهم، الذين طلبوا أن يجعل لهم إلها يعبدونه.
قال ابن كثير : وقد اختلف المفسرون في ذلك العجل هل صار لحما ودما له خوار.
أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر على قولين، والله أعلم. ا ه.
ويرى الرأي الأول قتادة والحسن البصري في جماعة آخرين، وتعليل ذلك عندهم، أن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر، راكبا فرسا ما وطئ بها أرضا إلا حلت فيها الحياة، واخضر نباتها، فأخذ من أثرها قبضة، ثم نبذها بعد ذلك في تمثال العجل، فحلت فيه الحياة وصار يخور كما يخور العجل.
ويرى جماعة آخرون : أن السامري صنع تمثال عجل مجوّفا، ووضع في جوفه أنابيب على طريقة فنية مستمدة من دراسة علم الصوت، فإذا دخلت الريح في جوف التمثال ؛ انبعث منه صوت يشبه خوار العجل.
﴿ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ﴾.
أن هذا العجل فاقد لأهم صفة من صفات الإله الحق، وهي الكلام والهداية والإرشاد للعباد، وإنزال الكتب وإرسال الرسل ؛ وهو استفهام إنكاري من هؤلاء الذين ساروا وراء أهوائهم المادية، فصنعوا عجلا بأيديهم، وعبدوه مع أنه لا يتكلم، ولا يهديهم سبيل الرشاد، ولا يرشدهم إلى معالم دينهم وشرائعهم.
﴿ اتخذوه وكانوا ظالمين ﴾.
كرر القرآن نسبة اتخاذ العجل إليهم، فهم صانعوه بأيديهم، ثم عبدوه من دون الله، وكان طبعهم الظلم، وكانوا ظالمين حين عبدوا عجلا من دون الله.
سقط في أيديهم : ندموا ندما شديدا لأن النادم يعض يده ويسقط ذقنه فيها غمّا فتصير يده مسقوطا فيها.
التفسير :
﴿ ١٤٩ – ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ﴾.
أي : ولما اشتد ندمهم، وزادت على ما فرط منهم في جنب الله، وعلموا أنهم قد ضلوا ضلالا مبينا بعبادة العجل، وزجر هارون والرغبة في قتله، عندئذ ندموا ورغبوا في التوبة، والتضرع والابتهال إلى الله وقالوا : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين.
وكان ذلك بعد رجوع موسى إليهم، وبصرهم بما هم فيه من ضلال مبين، بدليل أنه لما نصحهم هارون بترك عبادة العجل قالوا :
﴿ لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ﴾.
وقد جاءت هذه الآية – معترضة – قبل ختام القصة ؛ لتكون بمثابة التوجيه إلى أهل مكة، بأن بني إسرائيل ندموا على عبادة العجل، فأولى بكم أن تندموا على عبادة الأصنام، التي لا تسمع ولا ترشد إلى الهدى.
تعقيب
عبر سبحانه وتعالى عن شدة ندمهم بقوله تعالى :
﴿ ولما سقط في أيديهم ﴾ : لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته، أن يعض يده غمّا، فتصير يده مسقوطا فيها ؛ لأن فاه قد وقع فيها.
" وهذا تعبير لم يسمع به قبل القرآن ولا عرفته العرب، وقد اتسع هذا التعبير فأصبح يطلق على كل فشل أو خيبة، تقول : كلام ساقط و " سقط " لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه.
وقد ذكر اليد ؛ لأن الندم يحدث في القلب وأثره يظهر في اليد قال تعالى :﴿ فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها ﴾ " ٢٩.
المفردات :
أسفا : شديد الغضب أو حزينا.
بئسما خلفتموني من بعدي : أي : بئس ما فعلتموه من بعد غيبتي.
أعجلتم أمر ربكم : أي : أسبقتم ما أمركم به ربكم من التوحيد فعبدتم العجل قبل أن يعود موسى من ميقات ربه ؛ ليكون أمام الأمر الواقع، يقال : عجل الأمر سبقه.
وألقى الألواح : طرحها على الأرض.
وأخذ برأس أخيه : أي : وأمسك بشعر رأس أخيه يجره به إليه.
فلا تشمت بي الأعداء : أي : فلا تفعل ما يكون سببا لشماتتهم بي.
التفسير :
﴿ ١٥٠ - وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَان أَسِفًا ﴾.... الآية.
عاد موسى إلى قومه شديد الغضب والحزن، شديد الأسف والهم، حين علم أن قومه تركوا عبادة الله الحق، وعبدوا عجلا من الذهب لا يملك الكلام ولا يقدم لهم سبيل الهداية ؛ وكان الله سبحانه وتعالى قد أخبره وهو في مكان المناجاة بما أحدثه قومه :
قال فأنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري. ( طه : ٨٥ ).
قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ.
لقد استخلف موسى هارون على قومه، وكانت وصية لهم : الاستمرار على عبادة الله، ونبذ عبادة غير الله، لكنهم لم يحسنوا خلافة موسى، فإن من واجب الخلفاء أن يسيروا على نهج المستخلف، فخاطب موسى جميع قومه بقوله :
﴿ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ ﴾.
فالذين عبدوا العجل قد أشركوا بعبادة الله غيره من المخلوقات التي لا تملك نفعا ولا ضرا.
وهارون ومن معه من المؤمنين كان عليهم واجب هو أن يبذلوا جهدا أكبر لمنع هؤلاء المرتدين من عبادة العجل، ويجوز أن يكون الخطاب لهارون والمؤمنين معه، فاللّوم لهم إذ لم يمنعوا عبدة العجل مما فعلوا، أي : بئس قيامكم مقامي ؛ إذ لم تراعوا عهدي.
﴿ أعجلتم أمر ربكم ﴾.
أي : أسبقتم ما أمرتم به من البقاء على التوحيد أو استعجلتم قضاءه وعقابه.
أو استعجلتم موعده وميقاته، حيث تركتكم إلى ميعاد مؤقت. فسارعتم إلى مخالفة أمري وغيرتم دينكم وعبدتم العجل، قبل نهاية المدة التي قضيتها في ميعاد الله ومناجاته.
﴿ وألقى الأرواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه ﴾.
طرح موسى ألواح التوراة جانيا من الغضب، أو وضع الألواح التي تحمل الوصايا والتوجيهات الإلهية، التي كتب الله له فيها المواعظ والتشريعات، وهذه الألواح تحمل وصايا الله وتوجيهاته، وكان موسى حريا أن يحافظ عليها، لكن شدة الغضب جعلته يلقى الألواح جانبا، وأمسك موسى بشعر رأس هارون يجذبه إليه منه ؛ لظنه أنه أهمل في توعية قومه، وإرشادهم وإصلاح حالهم، ونهيهم عن الإشراك بالله.
﴿ قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ﴾.
كان هارون حليما حكيما، وهنا بدأ يرقق قلب أخيه، فخاطبه خطاب المسترحم المستضعف، ولم يقل يا أخي، ولا يا ابن أبي ولكن ناجاه بقوله : ابن أم. أي : نحن أبناء أم واحدة، وشرح له موقفه حين اشتد هياج القوم واندفاعهم إلى العجل الذهب، وقد بذل هارون قصارى جهده، في ترشيدهم ونصحهم، لكنهم قهروه واستضعفوه، وهموا بقتله، واقتربوا وأوشكوا أن يؤذوه أو يقتلوه.
فلا تشمت بي الأعداء.
أي : فلا تفعل بي أمام هؤلاء الأعداء، ما يكون سبب لشماتتهم وفرحهم فيما يصيبني.
﴿ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾.
ولا تنظمني بغضبك عليّ في عداد الذين ضلوا وكفروا بربهم الحق ؛ فأنا لم أضل مثلهم ولم أكفر معهم، وأنا برئ منهم ولكني تريثت، وتراجعت عندما رأيت اتجاه القوم الشديد نحو عبادة العجل، فلم أحاول التفريق بينهم، بتصنيفهم إلى مؤمنين وكافرين، ورجوت إذا رجعت من المناجاة أن تكون أقدر على هدايتهم، ودعوتهم إلى الإيمان.
وفي سورة طه نجد هارون يقول :
{ قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي. ( طه : ٩٤ ).
عندئذ هدأت ثورة الغضب عند موسى، والتمس العذر لأخيه، وطلب من الله المغفرة له، ولأخيه، وطلب من الله الرحمة، وهو سبحانه أرحم الراحمين.
وهو دعاء هين لين يطلب فيه المغفرة له ولأخيه، والمغفرة أعم موردا من المعصية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الاستغفار وطلب المغفرة في كل يوم وليلة.
وفي هذا الاستغفار ترضية لهارون، وإعلان للشامتين بتمام رضا موسى عما فعله هارون، حتى ترد شماتتهم إليهم كمدا وحسرة.
ثم طلب موسى من الله أن يشمله مع أخيه برحمته الواسعة، التي وسعت كل شيء، فهو أرحم بالخلائق من أنفسهم، فالله هو الرحمان الرحيم، وهو سبحانه أرحم الراحمين.
المفردات :
غضب من ربهم : المراد بغضب ربهم : عذاب الآخرة.
وذلة في الحياة الدنيا : أي : وتشريد في الأرض وإخراج من الديار، بحيث لا تكون لهم عزة كعزة أصحاب الوطن.
المفترين : أي : المختلفين أشنع الكذب على الله تعالى.
﴿ ١٥٢ - إن الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا... ﴾ الآية.
تأتي هذه الآية، والآية التالية، بمثابة الجملة المعترضة ؛ لتبين عقوبة المفترين، وجزاء توبة التائبين.
والمعنى : أن الذين اتخذوا العجل إلها، وعبدوه من دون الله تعالى ؛ سينالهم غضب من الله عليهم، وعقوبة في الآخرة وذلة ومسكنة وهوان في الحياة الدنيا، أو غضب من الله وذلة ومسكنة لهم في الدنيا والآخرة.
وقد ورد هذا المعنى في سورة البقرة وغيرها.
وتفيد آيات القرآن أن الله غضب على اليهود لتحريفهم التوراة، وإدخالهم فيما ما ليس منها، وعدوانهم في السبت، ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وأكلهم الربا بعد أن نهاهم الله عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل.
كما تفيد آيات القرآن أن الله لعنهم وسلط عليهم من ينتقم منهم، وسيتكرر ذلك إلى يوم القيامة.
كما تفيد الأحاديث النبوية الصحيحة أن المسلمين سيقاتلون اليهود وينتصرون عليهم قبل قيام الساعة.
﴿ وكذلك نجزي المفترين ﴾.
ومثل ذلك العذاب الانتقام يصيب كل مفتر وينال كل ظالم، في كل زمان ومكان.
قال ابن عباس : كذلك أعاقب من اتخذ إلها دوني.
وقال مالك ابن أنس : ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلة وقرأ هذه الآية.
وقال سفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة ذليل.
من عادة القرآن أن يقابل الأشياء بأضدادها، فبعد أن ذكر جزاء الظالمين فتح باب الأمل أمام التائبين.
والمعنى : والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب وعلى رأسها الكفر والشرك، ثم تابوا عن الكفر والشرك، أو أقلعوا عن الذنوب والمعاصي، وآمنوا بالله إيمانا صادقا عن يقين ؛ فإن الله تعالى يغفر لذنوبهم، ويقبل توبتهم ويرحمهم برحمته الواسعة.
والآية عامة في توبة الكافرين والمؤمنين.
وأن وردت في سياق الحديث عن بني إسرائيل الذين اتخذوا العجل إلها، ثم فتحت باب التوبة أمام التائبين منهم، إلا أن العبرة بعموم اللفظ الوارد فيها.
سئل ابن مسعود عن الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها فتلا هذه الآية :﴿ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إن رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
فتلاها عبد الله بن مسعود عشر مرات، فلم يأمرها بها ولم ينههم عنها.
لكن يؤخذ من النحوى : إن من الفقهاء من ذهب إلى أن من زنى بامرأة حرمت عليه، ولا يجوز له الزواج منها، ومنهم من ذهب إلى أن المسلم إذا تاب قبل الله توبته وأن الحرام لا يحرم الحلال، وذكروا أنه يشبه رجلا سرق فاكهة من بستان ثم اشتراه، فيكون أوله حرام وآخره حلال.
ولعل قراءة ابن مسعود لهذه الآية ترجيح لقبول توبة التائب، وتيسير للمسلم، وتشجيع على التوبة الصادقة من الرجل والمرأة، مع الإيمان الصادق والعمل الصالح.
في هذا التعبير القرآني بلاغة وبيان، كأن الغضب كان يغريه بالاندفاع إلى معاقبة أخيه وتسفيه قومه، فلما هدأ غضبه وسكن ؛ عاد إلى طبيعته، وكان موسى سريع الغضب، سريع العودة إلى الهدوء، فلما عرف من أخيه أنه لم يقصّر في أداء الرسالة، وأن الموقف كان أعتى منه وأكبر ؛ هدأ غضبه، وعاد إلى الألواح فأخذها وبدأ يقرؤها ويشرحها، وفيها الهداية والتشريع والرحمة والفضل للمؤمنين.
جاء في ظلال القرآن :
" والتعبير القرآني يشخص الغضب فكأنما هو حي، وكأنما هو مسلط على موسى يدفعه ويحركه... حتى إذا سكت عنه، وتركه لشأنه ؛ عاد إلى نفيه، فأخذ الألواح التي كان قد ألقاها بسبب دفع الغضب له وسيطرته عليه.
ثم يقرر السياق مرة أخرى إن في هذه الألواح هدى ورحمة لمن يخشون ربهم ويرهبونه...
ورهبة الله وخشيته ؛ هي التي تفتح القلوب للهدى، وتوقظها من الغفلة، وتهيئها للاستجابة والاستقامة إن الله خالق هذه القلوب، هو الذي يقرر هذه الحقيقة، ومن أعلم بالقلوب من رب القلوب ؟ ! ٣٠ "
فقه الحياة أو الأحكام :
الحلم سيد الأخلاق، فحينما هدأت نفس موسى وعاد إلى أناته وحلمه، أخذ بتدارس الألواح، فوجد فيها الرشاد والهداية، لمن كان يخاف ربه ويخشى عقابه...
وتلك هي فترة الاستقرار في حياة موسى على ما يظهر لنا، بعد أن مر بتقلبات وأحوال شديدة التأثير، كاد بها يخسر إيمان قومه برسالته إلى الأبد، لولا عودته إلى النصح والإرشاد بما ورد في هذه الألواح، أو بما ورد في التوراة٣١.
المفردات :
لميقاتنا : الميقات : المكان الذي حدده الله ليذهب موسى وقومه إليه.
الرجفة : الزلزلة الشديدة.
التفسير :
﴿ ١٥٥ – واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا…. ﴾ الآية.
المعنى : اختار موسى من قومه سبين رجلا، وأتى بهم للميقات الذي وقته الله تعالى، وهو مكان في جبل الطور : طور سيناء، حيث ناجى ربه، وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا، ويطهروا ثيابهم. وذلك ليكون سماعهم مناجاة ربه دليلا على صدقه، فلما أتوا إلى ذلك المكان قالوا : يا موسى، لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأنك قد كلمته، ونريد أن نراه ؛ فأخذتهم رجفة الجبل وصعقوا حين ألحوا في طلب الرؤية وتختلف أقوال المفسرين في هذا الميقات إلى عدة أقوال٣٢.
نختار منها قولين :
أحدهما : أنه الميقات الذي وقته الله لموسى ؛ ليأخذ التوراة وأمره أن يأتي معه بسبعين رجلا.
الثاني : أنه ميقات وقته الله تعالى لموسى ؛ ليلقاه في ناس من بني إسرائيل فيعتذرون إليه من عبادة قومهم للعجل، فأما الرجفة وهي الزلزلة الشديدة ففي سبب أخذها إياهم عدة أقوال أرجحها قولان.
الأول : أن الزلزلة أصابتهم ؛ لأنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل ولم يرضوا.
قال قتادة وابن جريج : لم يأمرهم بالمعروف ولم ينهوهم عن المنكر، ولم يزايلوهم.
الثاني : أنهم طلبوا استماع الكلام من الله تعالى فلما سمعوه ؛ قال : أردنا الله جهرة.
قال تعالى : وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون. ( البقرة : ٥٥، ٥٦ ).
﴿ فلما أخذتهم الرجفة ﴾.
أصابت الرجفة سبعين رجلا من فضلاء بني إسرائيل ؛ لأنهم قصّروا في نهي قومهم عن عبادة العجل، أو لأنهم قالوا لموسى : أرنا الله جهرة.
ولم تكن تلك الرجفة موتا، ولكن القوم لما رأوا تلك الحالة المهيبة، أخذتهم الرعدة ورجفوا وخاف موسى عليهم الموت، فعند ذلك بكى ودعا ؛ فكشف الله عنهم تلك الرجفة.
قال وهب : ما ماتوا ولكن أخذتهم الرجفة من الهيبة، حتى كادت أن تبين مفاصلهم، وخاف موسى عليهم الموت.
{ قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي.
أي : قال موسى راجيا عفو ربه عنهم في هذا اليوم : يا رب، أنك لو شئت إهلاكهم من قبل هذا اليوم، حين قصروا في النهي عن عبادة العجل، وعدم مفارقتهم لعبدته. وكذلك لو شئت يا رب إهلاكي من قبل لفعلت.
قال الزجاح : لو شئت أمتهم قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة.
وقيل : لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا وإياي، فكان بنو إسرائيل يعانون ذلك ولا يتهمونني.
﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾.
قال المبرد : هذا استفهام استعطاف.
أي : لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا من العناد وسوء الأدب.
﴿ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ﴾.
وما هي إلا فتنتك أي : ابتلاؤك واختبارك وامتحانك حين كلمتني، فسمعوا كلامك وطلبوا الرؤية، فليس الأمر إلا أمرك، وما الحكم إلا لك، فما شئت كان.
أو ما كانت عبادتهم العجل إلا ابتلاء منك واختبارا، حين سمعوا خوارا في جوف العجل، فمنهم من ضل وعبد العجل، ومنهم من هداه الله وثبته.
قال صاحب الظلال :
وهذا هو الشأن في كل فتنة، أن يهدي الله بها من يدركون طبيعتها، ويأخذونها على أنها ابتلاء من ربهم وامتحانهم يجتازونه صاحين عارفين.
وأن يضل بها من لا يدركون هذه الحقيقة، ومن يمرون بها غافلين، ويخرجون منها ضالين.
﴿ أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ﴾.
هنا يلجأ موسى إلى ربه طالبا ولايته وعونه، راجيا مغفرته وستره، مستغيثا يطلب رحمة الله، وهو خير الغافرين ؛ لأنه يغفر لمحض الجود والكرم، أما المخلوق فقد يغفر لأسباب عديدة، كحب الثناء، أو طلب النفع، أو دفع الضرر.
وقد كان المقام مقام اعتذار فناسبه حسن التضرع والثناء على الله بما هو له أهل وطلب المغفرة والرحمة منه سبحانه، حيث لا يملك ذلك إلا الله. قال الله تعالى : ومن يغفر الذنوب إلا الله.
وأما عفو العبد فهو نفسه بتوفيق من الله تعالى.
المفردات :
واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة : المراد بحسنة الدنيا : ما يعم العيشة الراضية، والعمل الصالح، والمراد بكتابتها : تقديرها وإبرازها ؛ عبر عنها بالكتابة مجازا، أو الكتابة على حقيقتها، فإن ما يقدر الله تنفيذه يكتب في اللوح المحفوظ، أو عند الملائكة المدبرات أمرا.
هدنا إليك : تبنا إليك ورجعنا.
التفسير :
﴿ ١٥٦ - وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إنا هُدْنَا إِلَيْكَ… ﴾ الآية.
تلطف موسى في دعاء ربه وفي تفويض المشيئة إليه وفي إظهار الخضوع والتجرد لله تعالى فيما سبق من آيات وهنا يدعو ربه أن يعطيه حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة.
والمعنى : أوجب لنا وأثبت لنا بفشلك ورحمتك حسنة، أي : حياة طيبة في الدنيا بتوفير نعمة الصحة والعافية، وسعة الرزق والتوفيق في العمل والهداية إلى الخير، واجعل لنا في الآخرة حسنة بدخول جنتك والظفر برضوانك وفيض إحسانك، وذلك كقوله تعالى :
﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾. ( البقرة : ٢٠١ ).
﴿ إنا هدنا إليك ﴾ : أي : تبنا إليك ورجعنا وأنبنا. أي : ندمنا على ما فعله قومنا من عبادة العجل أو قولهم : أرنا الله جهرة، ونحو ذلك من فعل السفهاء، ورجعنا إلى الإيمان المقرون بالعمل.
جاء في تفسير القاسمي : يقال : هاد، يهود إذا رجع وتاب فهو هائد، ولبعضهم :
يا راكب الذنب هد، هد *** واسجد كأنك هدهد
وقال آخر : أني امرؤ مما جنيت هائد.
﴿ قال عذابي أصيب بن من أشاء ﴾.
أي : قال الله تعالى أن عذابي أصيب به من أشاء من الكفار والعصاة، مع عدالة الله وبعده عن الظلم.
قال تعالى :﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾.
وفي الحديث القدسي يقول النبي صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل :﴿ يا عبادي، أني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ﴾٣٣.
﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾.
أما رحمة الله فقد شملت كل شيء فالله تعالى ينعم على البر والفاجر، ويخص بالثواب المؤمن ولولا عموم الرحمة، لهلك العصاة والكفار عقل عصيانهم وكفرهم، قال تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ﴾. ( فاطر : ٤٥ ).
جاء في تفسير القاسمي عن الجشمي :
ومن تأمل هذا السؤال والجواب ؛ عرف عظيم محل هذا البيان ؛ لأنه عليه السلام، سأل نعيم الدنيا والدين عقب الرجفة، فكان من الجواب أن العذاب خاصة يصاب به من يستحقه، فأما النعم فما كان من باب الدنيا يسع كل شيء يصح عليه التنعم وما كان من باب الآخرة يكتب لمن له صفات ذكرها.
﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾.
تفضل الحق سبحانه على عباده بهذا البيان فبين صفات من يستحق الرحمة من عباده وهم :
١ – الذين يتقون الله ويراقبونه ويؤدون فرائضه ويتركون ما نهى عنه.
٢ – الذين يخرجون زكاة أموالهم طيبة بها نفوسهم والمال شقيق الروح، وإخراجه يحتاج إلى جهاد وإيمان ويقين بثواب الآخرة، ولذلك نص عليه، حيث كان اليهود يعبدون المادة وكانت نفوسهم شحيحة إخراج المال في سبيل الله.
٣ – الذين يؤمنون بالإسلام والقرآن وسمو تشريعاته وعموم هدايته وصلاحيتها للعمل والتطبيق، وصدق رسلنا.
إصرهم : الإصر في اللغة : الأمر الثقيل : والمراد به هنا : التكاليف الشاقة على اليهود بسبب ظلمهم، كتحريم بعض الطيبات عليهم.
الأغلال : المواثيق الشديدة المشبهة للأغلال في الأعناق.
وعزروه : وعظموه ووقروه، أو أعانوه.
التفسير :
{ ١٥٧ – الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل…
١ – الصفات الأولى لهذا النبي :
تتابع هذه الآية صفات هؤلاء الذين يستحقون الرحمة فتذكر أن هؤلاء المؤمنين قد آمنوا بالنبي الأمي الذي أرسل في أمة أمية، وكانت الأمية آية ومعجزة له ؛ فقد جاء بكتاب منزل عليه اشتمل على أكمل العلوم وأجداها : في العقيدة والعبادة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق والأعمال.
٢ – والصفة الثانية لهذا النبي :
أن هذا الرسول الأمي محمد صلى الله عليه وسلم قد وردت صفاته في التوراة والإنجيل، ويعرفه أحبار اليهود كما يعرفون أبناءهم، ولذلك آمن به بعض علماء اليهود، مثل : عبد الله بن سلام، وبعض علماء النصارى مثل : تميم الداري.
جاء في الباب الثالث والثلاثين في التوراة في سفر تثنية الاشتراع :
" جاء الرب من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلى من جبال فاران، ومعه ألوف الأطهار في يمنيه قبس من نار ".
ومجيئه من سيناء : إعطاؤه التوراة لموسى، وإشراقه من ساعير : إعطاؤه الإنجيل لعيسى، واستعلاؤه من جبال فاران : إنزاله القرآن ؛ لأن فاران من جبال مكة.
وقال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام :{ مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد( الصف : ٦ ).
وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص الله عنهما قال : قرأت في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم : " محمد رسول الله عبدي ورسولي سميته : المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة، بل يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العرجاء ؛ بأن يقولوا لا إله إلا الله " ٣٤.
وقد جاء في كتب التفسير قديما وحديثا جانب كبير مما نقله العلماء للدلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته٣٥.
٣ – والصفة الثالثة لهذا النبي أنه :
﴿ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ﴾.
أن هذا الرسول يأمر الناس بالمعروف حيث يدعوهم إلى الإسلام والإيمان ومكارم الأخلاق والعبادات والمعاملات والشرائع. وينهاهم عن المنكر. الذي يتناول الكفر والمعاصي وما تنكره العقول القلوب من مساوئ الأخلاق وقبيح الأفعال والأقوال.
٤ – والصفة الرابعة لهذا النبي :
﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾.
أي : أنه يحل لهم ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة وفيه فائدة في التغذية، وخاصة ما حرم على بني إسرائيل من الطيبات كالشحوم وغيرها بسب ظلمهم وفسوقهم ؛ وعقوبة لهم.
﴿ ويحرم عليهم الخبائث ﴾ : أي : ما تستقذره النفوس كالميتة، والدم المسفوح، والخنزير في المأكولات، وكأخذ الربا والرشوة، والنصب والخيانة في المعاملات.
٥ – والصفة الخامسة لهذا النبي :
﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾.
الإصر : الثقل الذي يأصر صاحبه ويحبسه عن الحركة.
الأغلال : جمع غل وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد. والمراد : أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم قد أرسله الله بشريعة سمحة سهلة لا حرج فيها ولا مشقة، وهذا الرسول جاء ؛ ليرفع عن بني إسرائيل ما قل عليهم من تكاليف كلفهم الله بها، بسبب ظلمهم كاشتراط قتل الأنفس في صحة التوبة والقصاص في القتل العمد أو الخطأ، من غير شرع الدية، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقطع موضع النجاسة من الثوب، وتحريم العمل يوم السبت.
قال الإمام ابن كثير : أي : أنه جاء بالتيسير والسماحة كما ورد في الحديث : " بعثت بالحنيفية السمحة " ٣٦. وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري، حين أرسلهما إلى اليمن : " بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، وتطاوعا ولا تختلفا " ٣٧.
والخلاصة : أن بني إسرائيل كانوا قد أخذوا بالشدة في أحكام العبادات، والمعاملات الشخصية والمدنية والعقوبات، فكان مثلهم مثل من يحمل أثقالا يئن منها، وهو موثق بالسلاسل والأغلال في عنقه ويديه ورجليه، وقد خفف المسيح عنهم بعض التخفيف في الأمور المادية، وشدد في الأحكام الروحية، إلى أن جاءت الشريعة السمحة التي أرسل الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم٣٨.
ثم بين الحق سبحانه وتعالى صفة أتباعه عليه الصلاة والسلام فقال :
فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.
فالذين آمنوا به. من اليهود أو من العرب أو من سائر الناس وصدقوا برسالته وأطاعوه فيها.
وعزروه : أي : عظموه ووقروه وأعانوه بمنع أعدائه عنه.
ونصروه : بكل وسائل النصر، باللسان والسنان.
واتبعوا النور الذي أنزل معه. أي : اهتدوا بهدى القرآن وهو نور وهداية، وهو أيضا ظاهر واضح، يهدي متبعه إلى العقيدة السليمة والعمل الصالح، كما يهدي النور الحسي من يتبعه إلى سواء السبيل.
﴿ أولئك هم المفلحون ﴾.
أي : هؤلاء الموصوفون بتلك الصفات الجليلة، هم وحدهم دون غيرهم الذين بلغوا غاية الفوز بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة.
المفردات :
الأمي : المنسوب إلى الأم ؛ لأنه لا يقرأ ولا يكتب، فهو على فطرته التي ولدته أمه عليها، من حيث عدم القراءة والكتابة.
التفسير :
﴿ ١٥٨ - قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت... ﴾
أفادت الآية السابقة : أن التوراة والإنجيل بشرت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتفيد هذه الآية : عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين.
فليست رسالته قاصرة على أمة من الأمم أو على وقت من الأوقات، أو جيل من الأجيال، بل رسالته عامة للعرب والعجم والإنس والجن، وجميع الناس إلى يوم القيامة.
والمعنى : قل يا محمد لجميع البشر كافة من عرب وغيرهم، بيض أو سود، أني رسول الله إليكم جميعا لا إلى قومي خاصة، والإله الذي أرسلني هو إله كل شيء ومليكه، وله ملك السماوات والأرض، وبيدها الخلق والأمر والإماتة والإحياء.
والآية نص في عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، وهي تؤكد ما ورد في القرآن الكريم من بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين، قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ﴾. ( سبأ : ٢٨ ).
وقال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾. ( الأنبياء : ١٠٧ ).
وجاءت الأحاديث الصحيحة مؤكدة عموم رسالته صلى الله عليه وسلم مثل حديث الصحيحين والنسائي : عن جابر ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة " ٣٩.
﴿ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾.
أفاد المقطع الأول وحدانية الألوهية فالله تعالى إله واحد ليس معه إله غيره، هو الذي يملك الموت والحياة وله ملك السماوات والأرض.
وفي هذا المقطع رتب على ذلك دعوة الناس جميعا إلى الإيمان بالله ربا وخالقا، والإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وهو النبي الأمي، ومعجزته في أنه كان أميا، وأنزل عليه كتاب علم البشرية قواعد الحياة، وأصول التشريع والآداب، وهذا النبي يؤمن بالله وبرسالته وكلماته وكتبه، واتباعه مصدر الهداية الحقة، ومصدر السعادة والفلاح.
وما على الخلق إلا الإيمان بوحدانية الله وربوبيته، واتباع كلماته وتشريعاته، وليس من التشريع أمور الدنيا العادية من تدبير شئون الزراعة والصناعة والتجارة المباحة والعلوم النافعة فتلك متروكة لعقول الناس ومعارفهم وخبراتهم لما ورد في الحديث الصحيح عند الشيخين٤٠ : " أنتم أعلم بأمور دنياكم " ٤١.
المفردات :
يهدون بالحق : يرشدونهم بكلمة الحق.
وبه يعدلون : وبالحق يعدلون في الأحكام.
التفسير :
﴿ ١٥٩ – ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾.
جاءت هذه الآية استداركا لتبين أن الضلال لم يكن شاملا لبني إسرائيل، بل منهم أمة منصفة آمنت بموسى واتبعت تعاليمه في عصر موسى وبعد عصره كما اتبعوه من جاء بعده من الأنبياء، وهم أهل هداية بالحق وعدل الحق.
قال تعالى : من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله ءاناء الليل وهم يسجدون. ( آل عمران : ١١٣ ).
وقال تعالى : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم أن الله سريع الحساب. ( آل عمران : ١٩٩ ).
وخلاصة معنى الآية :
إن من بني إسرائيل من آمن بموسى عن يقين صادق وصاروا دعاة للحق يرشدون الناس إليه، وهم أيضا يعدلون بالحق بينهم في الحكم ولا يجورون، قال تعالى :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ﴾. ( آل عمران : ٧٥ ).
أسباطا أمما : أي : قبائل صارت أمما، وأصل السبط، ولد الابن أو البنت.
فانبجست : فانفجرت.
وظللنا عليهم الغمام : وجعلنا السحاب يظلهم من الشمس.
المن والسلوى : المن : صمغة حلوة، والسلوى : السماني.
التفسير :
﴿ ١٦٠ - وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ﴾.
تمهيد :
تعود هذه الآية إلى الحديث عن بني إسرائيل فتصف ما أنعم الله به عليهم من النعم المتعددة، ومع ذلك كان منهم الجحود والعناد، ولعل ذلك أن يكون تحذيرا لأمة الإسلام ؛ حتى لا تقع فيما وقع فيه بنو إسرائيل من تحريف للتوراة، وخروج على هدى السماء، وانحراف عن روح التشريع.
المعنى : يخبر الله تعالى عن بني إسرائيل أنه صيرهم اثنتي عشرة أمة، كل أمة منهم ترجع إلى ولد من أولاد يعقوب الاثني عشر ؛ فكانوا لهذا أسباطا له، أي : أولادا لأولاده.
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أن اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أناسٍ مَّشْرَبَهُمْ ﴾.
أصاب بنو إسرائيل العطش في التيه، وهم في منطقة صحراوية بين مصر والشام، فطلبوا من موسى تيسير الماء لهم حتى لا يهلكهم العطش، فدعا موسى ربه في خضوع وتذلل، فألهمه الله أن يضرب بعصاه أي حجر فينفجر منه الماء بعدد قبائل بني إسرائيل ؛ لتعرف كل قبيلة مكان شربها ويكون ذلك أهنأ لهم، وأدعى إلى عدم التزاحم.
ويفهم من ذلك أن كل سبط منهم كان عدد أفراده كثيرا، حتى جعل لهم هذا العدد من العيون بعدد أسباطهم.
وقد وردت في التوراة روايات متعددة حول هذه الحادثة منها ما ورد في الإصحاح السابع عشر :
" وعطش هناك الشعب إلى الماء، وتذمّر الشعب على موسى. فقال الرب لموسى : مر قدام الشعب، وخذ معك شيوخ بني إسرائيل، وعصاك التي ضربت بها خذها في يدك واذهب. ها أنا أقف أمامك هناك على الصخرة في حوريب، فتضرب الصخرة منها ماء ليشرب الشعب، ففعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ بني إسرائيل... " ٤٢.
ومن المفسرين من رجح أن المراد : حجر معين اعتمادا على ما ورد في التوراة أو الإسرائيليات.
ومنهم من رجح أن المراد : أي حجر يقابل موسى.
قال الحسن : ما كان إلا حجرا اعترضه، وإلا عضا أخذها. ولعل الحق سبحانه أراد بذلك أن يكون معجزة ظاهرة لموسى ؛ حتى يزدادوا بنبوته استيقانا، ويقبلوا على العمل بما جاء في التوراة.
﴿ وظللنا عليهم الغمام والمن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾
أي : جعلنا الغمام يلقى ظلاله عليهم ويقيهم حرارة الشمس، حيث أرسل الله السحاب فوق مقامهم وسيرهم، فحال دون وصول أشعة الشمس إلى حيث يقيمون أو يسيرون.
وبقيت مشكلة الغذاء، الذي لا مصدر له في الصحراء ولا يصل إليهم به أحد.
فتفضل الله تعالى بإنزال المن والسلوى ؛ ليكون طعاما لهم.
والمن : مادة صمغية تسقط من الشجر، تشبه حلاوته حلاوة العسل.
والسلوى : طائر بري لذيذ اللحم سهل الصيد، يشبه السمان، كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء فيمسكونه قبضا بدون تعب.
وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم، كان في مدة تيههم بين مصر والشام، والمشار إليه بقوله تعالى :
﴿ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ﴾. ( المائدة : ٢٦ ).
جاء في تفسير ابن كثير :
قال السدي : " لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى – عليه السلام - : كيف لنا بما ها هنا ؟ أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السماني فقالوا : هذا الطعام فأين الشراب ؟ فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه الحجر فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فشرب كل سبط من عين، فقالوا : هذا الشراب فأين الظل ؟ فظل الله عليهم بالغمام...
فذلك قوله تعالى : وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى٤٣.
كلوا من طيبات ما رزقناكم.
أي : وقلنا لهم : كلوا من هذه الطيبات التي أنزلها الله لكم، حيث يسر لكم الطعام والحلوى والماء والغمام الذي يظللكم به، ويسر لكم سبل المعاش والإقامة فينبغي أن تعترفوا لله بذلك الفضل وتقوموا بواجب الشكر.
وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
أي : وما ظلمونا بكفرهم بهذه النعم، ولكن ظلموا أنفسهم بهذا الجحود والكفران، وقد كان هذا دأبهم وعادتهم أنا بعد آن.
وقد روى مسلم عن أبي ذر مرفوعا : " يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي، إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.... " ٤٤.
المفردات :
هذه القرية : هي بيت المقدس أو أريحاء – على ما قيل.
وقولوا حطة : من الحط وهو الوضع والطرح، والمراد بها : أن يطلبوا حط ذنوبهم وطرحها عنهم بغفران الله لهم.
وادخلوا الباب سجدا : وادخلوا باب القرية التي أمرتم بدخولها خاشعين لله ؛ شكرا له على تمكينكم من دخولها.
التفسير :
﴿ ١٦١ - وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
يعدد الله طائفة من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، فقد أكرمهم في التيه، حيث أنزل لهم المن والسلوى، وفجر لهم ينابيع الماء، وأظلهم بالغمام من حر الشمس، وبعد أن مكثوا في صحراء التيه أربعين سنة، قادهم يوشع بن نون، وأخرجهم من الصحراء إلى العمران، والقرية تطلق أيضا على المدينة، ولعلها عاصمة لما حولها من القرى أو منازل الأعراب، ومن بفتح العاصمة يستطيع السيطرة على ما حولها وما يتبعها من القرى الصغيرة أو مساكن البدو.
والمعنى : واذكروا أيها المعاصرون للعهد النبوي من بني إسرائيل، وقت أن قيل لأسلافكم : اسكنوا قرية بيت المقدس أو " أريحا " بعد خروجهم من التيه، وقيل لهم كذلك : كلوا من خيراتها أكلا واسعا كثيرا ؛ من أي مكان شئتم ؛ وينبغي أن تشكروا الله كثيرا، على هذا النصر المؤزر على أعدائكم، فلا تدخلوا مغرورين ولا متبطرين، بل ادخلوا متواضعين مستغفرين، واسألوا الله يحط عنكم سيئاتكم، وأن يغفرها لكم، وادخلوا أيضا من باب القرية خاضعين شكرا لله تعالى، فإنكم إن فعلتم ذلك قبلنا دعائكم وزدناكم نعما وفضلا.
الآيات ٢١ – ٢٦ من سورة المائدة
يتصل بهذه الآية ومضمون ما اشتملت عليه آيات سابقة في سورة البقرة، هي الآية ٥٨، ٥٩ من سورة البقرة.
وكذلك الآيات ٢١ – ٢٦ من سورة المائدة.
أما آيات سورة البقرة ففيها قوله تعالى :
﴿ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم و سنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ﴾. ( البقرة : ٥٧، ٥٩ ).
آيات المائدة
وتفيد آيات سورة المائدة جبن بني إسرائيل وتقاعسهم عن الجهاد، وخوفهم من المشركين سكان بيت المقدس، فقد رغبوا أن يجلسوا بعيدا، حتى يخرج أهل بيت المقدس تطوعا فإذا خرجوا دخل اليهود بدون تعب أو مشقة.
وقد تطوع رجلان بنصحهم، وتوجيههم إلى الجهاد، فإذا دخلوا من باب المدينة مجاهدين مخلصين انتصروا على عدوهم، لكن اليهود تقاعسوا عن ذلك، واستغاث موسى بالله أن ينقذه من هؤلاء المتقاعسين، فحرم الله عليهم دخول بيت المقدس أربعين سنة ؛ عقابا لهم.
نص الآيات
﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إن فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وإنا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإنا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلان مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإنكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ يَا مُوسَى إنا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إني لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾. ( المائدة : ٢١ – ٢٦ ).
ولما انتهت مدة التيه، دعاهم يوشع بن نون لقتال الجبارين بعد وفاة موسى " على الراجح " فاستجابوا له فنصرهم الله تعالى.
رجزا : أي : عذابا.
التفسير :
﴿ ١٦٢ – فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون ﴾.
طلب الله من بني إسرائيل الاعتراف لله تعالى بالفضل، والسجود لله تعالى بعد النصر، ولكنهم خالفوا ذلك.
فدخلوا متكبرين يزحفون على إستاهم رافعين رءوسهم، ولم يطلبوا من الله مغفرة ذنوبهم، بل بدلوا ذلك بأقوال أخرى ليس فيها مضمون الشكر ولا مضمون التواضع.
فأرسل الله عليهم عذابا شديدا من السماء، والرجز : هو العذاب الذي تضطرب له القلوب، أو يضطرب له الناس في شئونهم ومعايشهم.
﴿ بما كانوا يظلمون ﴾.
أي : بسبب ظلمهم وعنادهم وعتوهم ؛ عاقبناهم بالعذاب.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يشكر ربه كثيرا عقب النصر والفتح، فعندما دخل مكة فاتحا منتصرا انحنى على راحلته حتى أوشك أن يسجد عليها، وهو يقول : تائبون حامدون آيبون لربنا شاكرون، ثم دخل البيت الحرام فصلى ركعتين ثم طعن الأصنام بقضيب في يده وهو يقول : " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " ٤٥.
وذكر بعض الفقهاء أن رسول الله صلى الله عليه سلم صلى ثماني ركعات بعد فتح مكة، وهي صلاة الفتح.
ومن هنا استحب العلماء للفاتحين من المسلمين إذا فتحوا بلدة ؛ أن يصلوا فيها ثماني ركعات عند أول دخولها ؛ شكرا لله على نعمة الفتح، وقد فعل ذلك سعد بن أبي وقاص، عندما دخل إيوان كسرى، فقد ثبت أنه صلى بداخله ثماني ركعات.
لكن إسرائيل بعد النصر ودخول بيت المقدس، خالفوا أمر الله، وقالوا كلاما لا يحمل معنى الشكر.
قال الزمخشري : أي : وضعوا مكان حطة قولا غيرها، يعني : أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار، فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به، ولم يتمثلوا أمر الله، وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه، وهو لفظ الحطة، فجاءوا بلفظ آخر لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به ؛ لم يؤخذوا به، كما لو قالوا مكان حطة، نستغفرك ونتوب إليك، أو اللهم اعف عنا، وما أشبه ذلك.
وقال ابن كثير : " وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق، أنهم بدلوا أمر الله من الخضوع بالقول والفعل، فقد أمروا أن يدخلوا الباب سجدا، فدخلوا يزحفون على إستاهم رافعي رءوسهم، وأمروا أن يقولوا : حطة – أي : احطط عنا ذنوبنا – فاستهزءوا وقالوا : حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون في المخالفة والمعاندة، ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وخروجهم عن طاعته. ا ه. "
المفردات :
القرية : مدينة أيلة.
حاضرة البحر : قريبة منه.
يعدون في السبت : يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت.
حيتانهم : المراد بها : أنواع السمك المختلفة.
شرعا : جمع شارع أي : ظاهرة على وجه الماء، من شرع عليها إذا دنا وأشرف.
التفسير :
﴿ ١٦٣ - وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر.... ﴾ الآية.
لا يزال الحديث مستمرا عن سيئات اليهود وآثامهم، فقد أخبر القرآن عنها، وهو منزل على نبي أمي، لم يقرأ التوراة ولا كتب اليهود، وليس في التوراة ذكر لهذه الحادثة، لكنها كانت معروفة متداولة بين اليهود. فذكّرهم القرآن بما حدث لأهل قرية أيلة، وهي قرية بين مدين والطور على خليج العقبة، وقد أحيا اليهود اسمها فسموا مدينتهم على خليج العقبة أيلات.
ملاحظة : كانت أوار الله لليهود بتعظيم يوم الجمعة، فاختاروا يوم السبت، فألزمهم الله باحترامه وعدم العمل فيه.
جاء في تفسير الفخر الرازي :
قال ابن عباس : " اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به، وهو يوم الجمعة، فتركوه واختاروا السبت ؛ فابتلاهم الله تعالى به، وحرّم عليهم الصيد فيه وأمرهم بتعظميه، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر، إذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل، وذلك بلاء ابتلاهم الله به، فذلك معنى قوله تعالى :﴿ ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ﴾. اه. "
ويفيد سياق الآية أن الله تعالى أمر اليهود بالتفرغ للراحة والعبادة يوم السبت وحرم عليهم الاشتغال بغير ذلك، وكانت إحدى القرى على شاطئ البحر، ترى السمك في يوم السبت يتهادى على الشاطئ آمنا، حيث أدرك بغريزته هدوء حركة الصيد، وكان الله تعالى يبعث الحيتان على الظهور على وجه الماء ؛ لتكون كثيرة أمامهم، فيختبر مدى التزامهم.
﴿ كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ﴾.
أي : مثل هذا البلاء بظهور السمك نبتليهم ونعاملهم معاملة المختبر لحال من يراد إظهار حاله ليرتب الجزاء على عمله، بسبب فسقهم المستمر على أمر ربهم واعتدائهم على حدود شرعه.
قال الشوكاني في فتح القدير :
ابتلاهم الله تعالى بسبب ظهور الفسق فيهم، بأن تأتيهم الأسماك يوم السبت ظاهرة على وجه البحر قريبة من المأخذ يسهل صيدها، وفي سائر الأيام لا تأتي ولا يقدرون عليها، وفي ذلك امتحان لمدى قدرتهم على الصبر عن محارم الله.
وقال الإمام القرطبي :
" وروى في قصص هذه الآية : أنها كانت في زمن داود عليه السلام، وأن إبليس أوحى إليهم فقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فتخذوا الحياض، فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت فتبقى فيها فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء، فيأخذونها يوم الأحد ". ا. ه.
وفي الآية تقريع لليهود، وتذكير بعقاب الله لمن خالف أمره، وتذكير للأمة الإسلامية بألا تتحايل على أمر الله، وتستحل محارمه بحيلة ما.
المفردات :
معذرة إلى ربكم : قال الأزهري : المعذرة بمعنى : الاعتذار، وعدي بإلى متضمنة معنى : الإنهاء والإبلاغ.
التفسير :
﴿ ١٦٤ - وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا.... ﴾ الآية.
قال المفسرون : افترق أهل القرية ثلاث فرق، فرقة صادت وأكلت، وفرقة نهت وزجرت، وفرقت أمسكت عن الصيد. اه،
لقد امتحن الله أهل هذه القرية، بظهور السمك كثيرا سمينا يوم السبت واختفائه أو قلته في الأيام الأخرى، ثم وسوس الشيطان لجماعة منهم، فاصطادوا السمك بالحيلة، حيث تركوه يتقدم عند مد الماء، وعملوا أحواضا لمنعه من العودة إلى البحر عند جزر الماء.
وعندئذ تصدى لهم العلماء المخلصون بالنصح والتحذير، فقالت فئة ثالثة وقفت على الحياد واعتزلت الفريقين :
﴿ لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ﴾.
أي : أن الله قد قضى بإهلاكهم في الدنيا ؛ لتمردهم وعصيانهم، وادخر لهم عذابا شديدا في الآخرة ؛ جزاء مخالفتهم لأمر الله وعدوانهم في السبت ؛ فهو يوم عبادة وتفرغ فاحتالوا على صيد السمك، واستحقوا الهلاك أو العذاب.
﴿ قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ﴾.
أجاب الواعظون للمعترضين على الوعظ والتنبيه : أنا نعظهم لنبرئ أنفسنا من السكوت على المنكر، ونعتذر إلى ربنا بأننا أدينا واجبنا في الإنكار عليهم، ونحن لا نيأس من صلاحهم وعودتهم إلى الحق، ولعلهم بهذا الإنذار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.
بئيس : شديد.
التفسير :
﴿ ١٦٥ - فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كانوا يَفْسُقُونَ ﴾.
أي : فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة، واستمروا في المعاصي، أنجينا الذين ينهون عن السوء وهم فريق الواعظين ؛ الذين أنكروا على إخوانهم، وأخذنا الذين ظلموا واعتدوا في السبت وخالفوا أوامر الله ونواهيه بعذاب شديد لا رحمة فيه، بسبب استمرارهم على الفسوق والعصيان، والخروج عن طريق الله تعالى.
عتوا : تكبروا وأعرضوا.
خاسئين : أذلاء صاغرين.
التفسير :
﴿ ١٦٦ - فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾.
أي : فلما تمردوا على أوامره واستمرت مخالفتهم لله، ومفارقتهم لما نهو عنه ؛ غضب الله عليهم ومسخهم قردة ذليلة صاغرة.
وجمهور المفسرين : أن المسخ هنا حقيقي لما خالفتهم الأوامر وتماديهم في العصيان، لا لمجرد اصطياد الحيتان، وهل هذه القردة من نسلهم، أو هلكوا وأنقطع نسلهم ؟ لا دلالة في الآية عليه.
وذكرت روايات في التفسير : أنهم مسخوا قردة ثم ماتوا بعد ثلاثة أيام.
ومن العلماء من يرى أن ذلك من باب التمثيل، فكأن الله تعالى قال لهم : كونوا مثل القردة في عدم الفهم والإدراك وسوء تقدير العواقب.
تنبيهات
١ – أفادت الآية أن الله تعالى نجى الواعظين الذين نهوا عن السوء، وأهلك المعتدين.
وسكتت الآية عن الفرقة الثالثة الذين لاموا الواعظين، ومن المفسرين من ذهب إلى أنهم هلكوا مع الهالكين.
والراجح أنهم نجوا مع الناجين.
فالمعتدون : استحقوا العذاب الشديد والمسخ.
والناصحون : استحقوا النجاة.
وأصحاب الموقف السلبي، كان موقفهم أقل منزلة ممن جهر بالنصيحة فسكت عنهم القرآن ؛ لأنهم لا يستحقون مدحا، ولا يستحقون قدحا، فقد أنكروا بقلوبهم واعتزولوا قومهم، فسكت عنهم القرآن الراجح نجاتهم.
٢ – الإخبار بالقصة علامة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ أطلعه الله تعالى على تلك الأمور من غير تعلم منه.
٣ – إبطال الحيل الممنوعة المؤدية لتعطيل شرع الله، وهدم مبادئه، وتجاوز أحكامه، ومخالفة أوامره.
٤ – قال مجاهد : أصبحوا كالقردة في سوء الطباع والطيش والشر، والإفساد بسبب جنايتهم، وقال جمهور المفسرين : مسخوا قردة على الحقيقة.
٥ – جاء في تفسير القاسمي ما يأتي :
قال الإمام ابن القيم في " إغاثة اللهفان " :
ومن مكايد الشيطان وأهله، الحيل والمكر والخداع، الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادّته في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه....
والحيل نوعان :
نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى وترك ما نهى عنه، والتخلص من الحرام، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه.
ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالما، والظالم مظلوما، والحق باطلا والباطل حقا، فهذا الذي اتفق السلف على ذمّه.
روى أبو عبد الله بن بطّة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل )٤٦.
المفردات :
تأذن ربك : تأذن بمعنى : آذن أي : أعلم. كتوعد بمعنى أوعد.
من يسومهم : من يذيقهم.
التفسير :
﴿ ١٦٧ - وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ..... ﴾ الآية.
الحق سبحانه عادل غير ظالم، بيد أن اليهود تلاعبت بشريعة الله، وأكلت السمك بالحيلة، وأكثرت من التحايل على الأوامر والنواهي، لذلك سلط الله عليهم جماعات متعددة، في تاريخهم القديم والحديث :
﴿ و إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ.... َ ﴾
الأذان : لغة الإعلام، ومعنى تأذن ربك : أعلم ربك أسلاف اليهود على ألسنة أنبيائهم : لئن غيروا وحرّفوا كلام الله ؛ ليسلطنّ عليهم إلى يوم القيامة من يذيقهم العذاب، ويلحق بهم الذّل والصّغار، ويفرض عليهم الجوية ويبدّد ملكهم، حتى يصبحوا أذلة مشردين.
﴿ إن رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَأنهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
أي : أن الله سريع العقاب لمن خالف شرعه، واستمرأ المعصية، واطمأن إلى حلم الله.
وإنه لغفور رحيم. لمن تاب وأناب ورجع إلى طاعة الله، واستغفر وندم ؛ فإن الله يغفر له، ويرحمه برحمته الواسعة.
فهو سبحانه حكيم، ينزل عقوبته بالجاحدين المكابرين، وينزل رحمته بالطائعين التائبين.
وقد تحقق مضمون هذه الآية، فسلط الله عليهم اليونانيين والكشدانيين، والكلدانيين والبابليين ثم الروم النصارى، ثم المسلمين ثم الألمان بقيادة هتلر في العصر الحديث، الذي قتلهم وشردهم في البلاد.
وطبيعة اليهود من الظلم والعدوان تغلب عليهم كما حدث في حرب سنة ١٩٦٧ م، حيث استولوا على مساحات شاسعة من أرض جيرانهم من عرب فلسطين والأردن وسوريا ومصر، ثم سلط الله عليهم العرب المسلمين بقيادة مصر وسوريا، في العاشر من رمضان سنة ١٣٩٣ ه، الموافق ٦ أكتوبر سنة ١٩٧٣ م، فدكوا حصونهم، وحطموا أسلحتهم، في حرب خاطفة، أذهلت أمم العالم، وحملتهم على تأييد العرب ضدهم، وذلك مصداق قوله تعالى :
﴿ و إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾.
وهذه الآية بمعنى قوله تعالى في صدر سورة الإسراء :﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتلعن علوا كبيرا... ﴾ إلى أن قال تعالى :﴿ وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ﴾. ( الإسراء " ٤ – ٨ ).
ومعنى مرتين أي : كرتين. أي : مرة إثر مرة، فكلما أفسدوا في الأرض، سلط الله عليهم من ينتقم منهم، وأشهر من سلط عليهم في المرة الأولى هو بختنصر البابلي المجوسي الذي خرّب ديارهم وقتل مقاتليهم، وسبى نسائهم وذراريهم، وضرب الجزية على من بقي منهم، وقد غزاهم ثلاث مرات الأولى سنة ٦٠٦ ق. م والثانية سنة ٥٩٩ ق. م والثالثة سنة ٥٨٨ ق. م.
أما فسادهم الثاني فكان بعد ميلاد المسيح عليه السلام، حيث سلط الله عليهم الرومان بقيادة تيطس سنة ٧٠م، فشردهم وهدم هيكلهم، وقتل منهم خلقا كثيرا، حتى بلغ عدد القتلى منهم مليون قتيل، وبلغ عدد الأسرى مائة ألف أسير.
وهذا مجرد اجتهاد في تفسير أشهر مرتين، وأشهر من سلط عليهم.
ثم أخبر القرآن أنهم كلما عادوا إلى الإفساد، أعاد الله عليهم التعذيب والإذلال.
أما وجود اليهود الآن في فلسطين فهو أمر عارض مؤقت زائل بإذن الله ؛ لثقتنا بوعد الله وكلامه.
وقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لن تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فيختبئ أحدهم وراء الحجر، فيقول الحجر يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله )٤٧.
والحديث فيه كناية عن كراهية العالم لهم، حتى الأرض والحجارة ترشد المسلم إلى سبيل النصر على اليهود، ولعل في ثورة الحجارة التي استمرت بضع سنين، ما يحقق بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بالنصر على اليهود.
توعدهم الله تعالى في الآية السابقة أن يسلط عليهم إلى يوم القيامة – من يسومهم سوء العذاب.
وفي هذه الآية ذكر الحق سبحانه العقاب الثاني : وهو تفريقهم وتمزيقهم جماعات وطوائف وفرقا في أنحاء الأرض، فلا يكاد يخلو منهم قطر من الأقطار، فيهم الصالح وغير الصالح.
فالصالحون المحسنون منهم هم الذين آمنوا بموسى عليه السلام، وآمنوا بالأنبياء بعد موسى وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وآثروا الآخرة على الدنيا، مثل أولئك الذين نهوا عن الاعتداء عن السبت، ومثل عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا.
ومنهم من هو دون ذلك في الصلاح، ومنهم الفسقة الفجرة الذين كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ومنهم السمّاعون للكذب الأكالون للحست، كالرشا والربا لتبديل أحكام الله، والقضاء بغير ما أنزل الله، وفي الجملة : معنى : ومنهم دون ذلك. أي : منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم.
﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾.
أي : وامتحناهم بالنعم المختلفة من مال وخصب وعافية وولد وغير ذلك من الحسنات.
كما امتحناهم بالمحن المتنوعة من الجدب والتشريد، والقتل والأسر، وغير ذلك من السيئات التي تسوءهم.
لعلهم يرجعون إلى طاعة ربهم، ويتوبون عن فعل السيئات، وينتقلون إلى فعل الحسنات.
المفردات :
خلف : المراد بهم هنا : الأولاد، وأكثر ما يستعمل الخلف بسكون اللام في الشر ومنه : سكت ألفا ونطق خلف، وأكثر ما يستعمل الخلف بفتح اللام في الخير وأصل الخلف بصيغتيه : ما يكون وراء غيره أو بعده.
عرض هذا الأدنى : العرض : ما لا ثبات له، وفي النهاية : العرض – بالفتح – متاع الدنيا وحطامها. والمراد بهذا الأدنى : الدنيا. وأشير إلها " بهذا " وهو للمذكر، على تقدير : هذا الشيء الأدنى.
ميثاق الكتاب : المراد بالكتاب : التوراة. وبميثاقه : عهده الوثيق المؤكد.
التفسير :
﴿ ١٦٩ - فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى… ﴾ الآية.
أي : فجاء من بعد الصالحين والطالحين الأولين من بني إسرائيل ذرية خلفهم، ورثوا كتاب التوراة عن أسلافهم، وهم الذين عاصروا النبي – صلى الله عليه وسلم – ولكنهم هجروا التوراة، وآثروا الدنيا ومتاعها وزينتها، وتفانوا في جمع حطامها، لا يبالون حلالا كان أو حراما، أي : من غير طريق شرعي، كالسحت والرشوة والمحاباة في الحكم، والاتجار في الدين، وتحريف الكلم عن مواضعه.
﴿ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَأن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ﴾. زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وأن الله لا يعذبهم على أعمالهم، ومع هذا فإنهم مقيمون على المعاصي، مصرون على الذنوب، لا يتورّعون عن ضم الحرام إلى غيره، فأن يأتيهم عرض آخر من عروض الدنيا مثل الذي أخذوه أولا بالباطل، يأخذوه بلهف دون تعفف، و هم يعلمون أن وعد الله بالمغفرة مخصوص بالتائبين، الذين يقلعون عن ذنوبهم.
﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ﴾.
أي : أن الله تعالى ينكر عليهم صنيعهم هذا ؛ لأنه قد أخذ عليهم العهد والميثاق، ألا يقولوا على الله إلا الحق، فكيف يطمعون في مغفرة ذنوبهم مع إصرارهم عليها، وتكرر وقوعها منهم، بدون ندم أو إقلاع وتوبة.
وهذا هو المذكور في التوراة : من ارتكب ذنبا عظيما : فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة، ومن جملة الميثاق أن يبينوا للناس الحق ولا يكتمونه، وألا يحرّفوا الكلم، وألا يغيروا الشرائع لأجل أخذ الرشوة٤٨.
﴿ ودرسوا ما فيه ﴾.
أي : والحال أنهم قد درسوا التوراة دراسة تامة، فعرفوا ما فيها من تحريم أكل مال الغير بالباطل، والكذب على الله.
إنها دراسة نظرية لم تتغلغل في وجدانهم، ولم تؤثر في قلوبهم.
وهذا شأن كل منافق عليم اللسان، يسخّر علمه ودراسته ومعرفته، لإلباس الباطل ثوب الحق.
﴿ والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ﴾.
أن ثواب الآخرة بقى، ونعيم الآخرة أدوم، فكيف يليق بعاقل أن يبيع الباقي الدائم، ويشتري الخسيس القليل.
ولو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى ؛ لوجب إيثار ما يبقى على ما يفنى، فكيف والحال أن الآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى.
إن عقيدة الإيمان بالآخرة هي التي صنعت الرجال الأبطال، الذين مارسوا الجهاد في الميدان، وفي الفقه والتشريع والقضاء، وأن إيثار العاجلة هو الذي يوسوس للضعفاء ولذلك يقول القرآن لليهود، تحريضا لهم على العودة إلى حكم التوراة :
﴿ أفلا تعقلون ﴾، فإن متاع الدنيا قليل ومتاع الآخرة كثير دائم.
يمسكون بالكتاب : يتمسكون به.
التفسير :
﴿ ١٧٠ – والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ﴾.
أي : والذين يتمسكون في أمرهم كله بكتاب الله تعالى ويعملون بما فيه، ويعتصمون بحبله في جميع شئونهم، واهتموا بالصلاة خاصة فأقاموها في أوقاتها بأركانها وشروطها ؛ إنا لا نضيع أجرهم، لأنهم قد أصلحوا دينهم ودنياهم، والله لا يضيع أجر المصلحين.
يقول الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن :
" إن الصيغة اللفظية يمسّكون، تصور مدلولا كاملا، يكاد يحس ويرى، أنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة... الصورة التي يحب الله أن يأخذ بها كتابه وما فيه، في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت ".
وجاء في تفسير أبي السعود ما يأتي :
﴿ والذين يمسكون بالكتاب ﴾ : أي : يتمسكون في أمور دينهم، يقال مسك بالشيء وتمسك به، قال مجاهد : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه. تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام، فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة، وقال عطاء : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ٤٩ا ه.
ولعل الأنسب أن يقال :
كل من تمسك بكتاب الله تعالى، من اليهود أو المسلمين أو غيرهم، وأقام الصلاة محافظا على شروطها وآدابها، مؤمنا بالله، صالحا في ظاهره وباطنه، فإن الله يحسن مكافأته، قال تعالى :
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ﴾. ( الكهف : ٣٠ ).
من كتب التفسير :
١ – قال الدكتور وهبة الزحيلي في التفسير المنير ٩/ ١٥٢ ما يأتي :
خص الصلاة بالذكر، مع أن التمسك بالكتاب شامل لأداء كل عبادة – ومنها إقامة الصلاة – لكنه نص على الصلاة فقال :﴿ والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، إظهارا لعلو مرتبتها، وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان، وأنها عماد الدين والفارقة بين الكفر والإيمان ﴾.
٢ – وقال القرطبي في تفسير الآيتين السابقتين :
وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا، أسند الدارمي أبو محمد عن معاذ بن جبل قال : " سيبلى القرآن في صدور أقوام كما سيبلى الثوب فيتهافت، يقرءونه لا يجدون شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، أن قصروا ؛ قالوا : سنبلغ، وأن أساءوا ؛ قالوا : سيغفر لنا ؛ أنا لا نشرك بالله شيئا ".
المفردات :
نتقنا : رفعنا.
ظلة : الظلة : ما أظلك.
بقوة : بجد وعزيمة.
وظنوا : أي : تيقنوا – وكثيرا ما يستعمل الظن بمعنى التيقن.
التفسير :
{ ١٧١ – وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم... { الآية.
تذكر هذه الآية طرفا من رذائل اليهود ؛ فقد طلبوا من موسى عليه السلام أن يأتيهم بكتاب من عند الله فيه بيان للتشريعات وتوضيح لمعامل الحلال والحرام، وقد جاءهم موسى بالتوراة مكتوبة في الألواح، أو بنصائح وتشريعات وآداب، قال تعالى :{ وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها. ( الأعراف : ١٤٥ ).
فلما قرأ عليهم موسى التوراة، أو لم أخبرهم بالوصايا والتعاليم التي في الألواح ؛ بادروا نبيهم بأن ما فيها لا يتحملونه ؛ لأنه إصر وحمل ثقيل عليهم لا يطيقونه، وكان هذا منهم عنادا، فحملهم الله على العمل بما في التوراة، بأن نتق الجبل فوقهم ورفعه رفعا حقيقيا كأنه ظلة.
قال مجاهد : أخرج الجبل من الأرض ورفع فوقهم كالظلة، فقيل لهم : لتؤمنن أو ليقعن عليكم.
قال قتادة : نزلوا في أصل حبل مرتفع فوقهم فقال : لتأخذن أمرى، أو لأرمينكم به٥٠.
والمعنى : واذكر أيها النبي : إذ رفعنا فوقهم جبل الطور٥١ وأصبح كأنه سقيفة أو سحابة تظلهم، لما أبوا أن يتقبلوا التوراة لثقلها.
﴿ وظنوا أنه واقع بهم ﴾. وعلموا وتيقنوا أن الجبل سيسقط عليهم، لأن الجبل لا يثبت في الفضاء.
﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ﴾.
أي : قلنا لهم في هذه الحالة المخيفة : خذوا ما أعطيناكم من أحكام الشريعة بجد واجتهاد، وحزم وعزم على احتمال المشاق والتكاليف.
واذكروا ما فيه من الأوامر والنواهي، وتدارسوا تعاليم التوراة وأحكامها واعملوا بما فيها حتى لا تنسوها ؛ فإن القوة في أحكام الدين، والعمل بتشريع الله، والبعد عن مخالفة الله ؛ يزكى النفوس ويطهرها، ويحقق لها الهداية والتقوى، كما أن التهاون في احترام الدين ؛ يغري النفوس باتباع الشهوات.
قال تعالى :﴿ ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ﴾. ( الشمس ٧ - ١٠ ).
روى عن ابن عباس وغيره من السلف : أنهم راجعوا موسى في فرائض التوراة وشرائعها، حتى رفع الله الجبل فوق رءوسهم، فقال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي عز وجل ؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها، لأرمينكم بهذا، فخروا سجدا، فرقا من أن يسقط عليهم – رواه النسائي٥٢.
وجاء في ظلال القرآن :
لقد كانوا متقاعسين يومها عن إعطاء الميثاق، فأعطوه في ظل خارقة هائلة.... ولقد أمروا في ظل تلك الخارقة القوية، أن يأخذوا ميثاقهم بقوة وجدّية، وأن يتمسكوا في شدة وصرامة، وأن يظلوا ذاكرين لما فيه، لعل قلوبهم تخشع وتتقي، وتظل موصولة بالله لا تنساه٥٣.
المفردات :
من ظهورهم : من أصلابهم.
التفسير :
١٧٢ - وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا... } الآية.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات بعد قصة مع قومه، وحديث عن بني إسرائيل، ومن هذه الآية إلى آخر السورة نجد حديثا موضوعه : الربوبية والتوحيد، والعبودية والشرك، ويبدأ كل ذلك ببيان ما أودع الله في فطرة البشر، وعقولهم، من الاستعداد للإيمان بالله وتمجيده وشكره.
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا.... ﴾
لهذه الآية عند المفسرين طريقان أحدهما لفظي، والثاني معنوي.
التفسير الأول :
مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذريته كالذّر، وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك الإقرار، ثم أعادهم إلى ظهرهم أبيهم.
قال الشوكاني في فتح القدير :
أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره، فاستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد، وهؤلاء هم عالم الذر. ﴿ وأشهدهم على أنفسهم ﴾. أي : أشهد كل واحد منهم ألست بربكم. أي : قائلا : ألست بربكم ؟.
﴿ قالوا بلى شهدنا ﴾. أي : على أنفسنا بأنك ربنا.
التفسير الثاني :
الكلام على سبيل المجاز التمثيلي لكون الناس قد فطرهم الله تعالى على معرفته، والإيمان به، وجعلهم مستعدين جميعا للنظر المؤدى إلى الاعتراف بوحدانيته، ولا إخراج للذرية، ولا قول ولا إشهاد بالفعل، بل الأمر تعبيرا عما أودع الله في الفطرة الإنسانية من ركائز الإيمان.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
وقوله :﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ من باب التمثيل :
ومعنى ذلك : أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم، وقال :﴿ ألست بربكم ﴾ وكأنهم قالوا بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا، وأقررنا بوحدانيتك، وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى، وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي كلام العرب، ونظيره قوله تعالى :﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾ وقوله تعالى :﴿ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا وكرها قالتا أتينا طائعين ﴾.
وقوله :
إذ قالت الأنساع للبطن الحق | قالت له ريح الصبا فرقار٥٤ |
وقد أيد كل فريق رأيه بأدلة متعددة :
فأصحاب الرأي الأول : أيدوا رأيهم بأحاديث واردة في الصحيحين كما في تفسير أبي السعود وغيره :
جاء في تفسير أبي السعود :
" وقد حملت هذه المقاولة على الحقيقة، كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام، مسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها يوم القيامة، فقال ألست بربكم ؟ قالوا بلى : فنودي يومئذ : جف القلم لما هو كائن إلى يوم القيامة " ٥٥.
ابن كثير جمع بين التفسيرين :
ابن كثير لم ير أن أيا من التفسيرين يعارض الآخر، من حيث المبدإ، فقد جبل الله الفطرة على التوحيد، كما استخرج ذرية آدم من ظهورهم وأشدهم على أنفسهم.
جاء في تفسير ابن كثير :
يختبر الله تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه.
قال تعالى :﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ﴾. ( الروم : ٣٠ ).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ! " ٥٦
وفي رواية : " كل مولود يولد على هذه الملة ".
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمّار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم، وحرمت عليهم ما حللت لهم ". ٥٧
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم.
روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول : نعم، فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي " ٥٨. أخرجاه في الصحيحين.
وروى الإمام أحمد أيضا عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم ظهورهم ذريتهم وأشدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى... ﴾ الآية.
قال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال : " أن الله خلق آدم عليه السلام، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، قال خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون.... ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، قال : خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل : يا رسول الله، ففيم العمل ؟ ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا خلق الله العبد للجنة، استعمله بأعمال أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق الله العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار " ٥٩. وهكذا رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال : هذا حديث حسن.
وقال الإمام ابن القيم في كتاب الروح ما خلاصته :
أن الله سبحانه استخرج صور البشر وأمثالهم، فميّز : شقيهم وسعيدهم، ومعافاهم من مبتلاهم، والآثار متظاهرة به مرفوعة، وأن الله أقام عليهم الحجة حينئذ وأشهدهم بربوبيته، واستشهد عليهم ملائكته، كما تدل على ذلك الآية.
قال أبو إسحاق : جائز أن يكون الله سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به، كما قال :﴿ قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ﴾. ( النمل : ١٨ ). وقد سخر مع داود الجبال تسبح معه والطير، وقال ابن الأنباري : مذهب أهل الحديث وكبراء العلم في هذه الآية : أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون له، فاعترفوا بذلك وفعلوا.
وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل بالبعير لما سجد، وبالنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت٦٠. اه.
وقد نقل الإمام ابن كثير طائفة كبيرة من الأحاديث النبوية في تفسير الآية وما يتصل بها، ثم قال : " ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : أن المراد بهذا الإشهاد : إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في الأحاديث النبوية الشريفة وقد فسر الحسن الآية بذلك " ٦١اه.
ومجمل معنى الآية :
إن الله تعالى نصب للناس في كل شيء من مخلوقاته – ومنها أنفسهم – دلائل توحيده وربوبيته، وركز فيهم عقولا وبصائر، يتمكنون بها تمكنا تاما من معرفته، والاستدلال بها على التوحيد والربوبية، حتى صاروا بمنزلة من إذا دعى إلى الإيمان بها ؛ سارع إليه.
وقال الأستاذ عبد الكريم الخطيب :
ليس بعجيب أن يكون بيننا وبين الله هذا الموقف، الذي شهدت أرواحنا، ولم تشهده أجسامنا... كما شهدته المخلوقات جميعا من حي وغير حي، كما قالت السماوات والأرض أتينا طائعين.
وهذه الشهادة إقرار سابق بولائنا جميعا لله وإيمانا بوحدانيته.
وإن من شأن هذا الإقرار أن يقيم وجوهنا إلى الله بعد أن نلبس هذه الأجساد التي نعيش فيها.
فهذا الإقرار رصيد من الإيمان نستقبل به الحياة، ونتلاقى به على طريق الإيمان مع دعوة العقل الذي أوجده الله فينا ومع دعوة الرسل الذين أرسلهم الله إلينا.
﴿ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ﴾.
أي : ليقطع عليكم العذر أن تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن الإيمان بالله والتعرف عليه غافلين، فذلك عذر غير مقبول... إذ كيف تغفلون وفيكم داع يدعوكم إلى الإيمان بالله، وهي تلك الفطرة التي أشهدها الله عليكم.
وقد نصب الله لكم في كل شيء وفي مخلوقاته ما يدل على وحدانيته، وأرسل لكم الرسل مبشرين ومنذرين :﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾. ( النساء : ١٦٥ ).
فقد بطل عذركم وسقطت حجتكم،
المبطلون : المتبعون للباطل.
التفسير :
ثم بين سبحانه سببا آخر لهذا الإشهاد فقال :
﴿ ١٧٣ – أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم.... ﴾ الآية.
أي : فعلنا ذلك ؛ حتى لا تعتذروا بأن تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبلنا، وكنا ذرية لهم من بعد شركهم، فأشركنا نقتدي بهم – كما قالوا – ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون ﴾. ( الزخرف : ٢٣ ).
﴿ أفتهلكنا بما فعل المبطلون ﴾.
أي : أتؤاخذنا بما فعل المشركون من آبائنا، والذنب ذنبهم، وتجعلهم عذابنا مثل عذابهم، مع قيام عذرنا بتقليدنا لهم، وحسن الظن بهم ؟ !
ولكن هذا الاعتذار لا يجديهم.
إذا التقليد بعد قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها، مما لا يركن إليه عاقل، إذ كنتم ومعكم فطرتكم، وكنتم ومعكم عقولكم، ثم كنتم ومعكم دعوة الرسل الذين يدعونكم إلى الله.
فإذا أهلككم الله فإنما يهلككم بأفعالكم لا بأفعال آبائكم.
أي : ومثل هذا البيان البليغ الواضح، نبين الآيات ونوضحها، ونكشف للناس عن ذخائر الإيمان المطموسة في كيانهم، والتي أهملوها، وغفلوا عنها.
وذلك لعلهم يرجعون إلى أنفسهم، ويحسنون الانتفاع بتلك القوى، التي أودعها الله فيهم، فيكون لهم إلى الله عودة من قريب، أو لعلهم يرجعون عن جهلهم، وتقليد آبائهم وأجدادهم، ويعودون إلى الرشد والهداية الصحيحة.
المفردات :
واتل عليهم : واقرأ عليهم.
نبأ : خبر.
فانسلخ منها : فخرج منها وتركها.
فأتبعه الشيطان : أدركه وتمكن من الوسوسة له.
الغاوين : المبعدين في الضلال.
التفسير :
﴿ ١٧٥وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آياتنَا... ﴾ الآية.
أي : واتل على اليهود ذلك النبأ العجيب، نبأ ذلك الذي آتيناه حجج التوحيد، وأفهمناه أدلته حتى صار عالما بها، فانسلخ منها وتركها وراء ظهره، ولم يلتفت إليها ليهتدي بها.
﴿ فانسلخ منها ﴾.
أي : انخلع منها بالكلية، بأن كفر بها ونبذها وراءه ظهريا، ولم ينتفع بما اشتملت عليه من عظات وإرشادات.
وفي التعبير بالانسلاخ إيماء إلى أنه كان متمكنا منها ظاهرا لا باطنا، كالحية حين تنسلخ عن جلدها وتتركه وتمضي.
﴿ فأتبعه الشيطان ﴾.
أي : لحقه فأدركه وصار قرينا له يوسوس له بالشر، أو صار هذا العالم الضال إماما للشيطان حتى إن الشيطان يتبع خطواته، وهي مبالغة تبين مدى الضلال والشر والعتوّ، على حد قول الشاعر :
وكان فتى من جند إبليس فارتقى | به الحال حتى صار إبليس من جنده |
والخلاصة : أنه أوتى الهدى فانسلخ منه إلى الضلال، ومال إلى الدنيا فتلاعب به الشيطان، وكانت عاقبته البوار، والخذلان، وخاب في الآخرة والأولى.
جاء في تفسير المنار للسيد رشيد رضا :
هذا مثل ضربه الله تعالى، للمكذبين بآيات الله، المنزلة على رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها، حافظا لقواعدها وأحكامها، قادرا على بيانها والجدل بها، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم، بل كان عمله مخالفا تمام المخالفة لعلمه، فسلب هذه الآيات ؛ لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول، فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها، وتخرج منه وتتركه على الأرض، على حد قول الشاعر :
خلقوا، وما خلقوا لمكرمة | فكأنهم خلقوا وما خلقوا |
رزقوا، وما رزقوا سماح يد | فكأنهم رزقوا وما رزقوا |
أخلد إلى الأرض : مال وسقط.
يلهث : اللهث : التنفس الشديد مع إخراج اللسان.
التفسير :
﴿ ١٧٦ - وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.... ﴾ الآية.
أي : ولو شئنا لرفعنا هذا الإنسان إلى منازل الأبرار، بسبب تلك الآيات، فالعمل بالعلم يرفع القدر ويعلى شأن صاحبه، قال تعالى :﴿ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ﴾. ( المجادلة : ١١ ).
ولكنه مال إلى الدنيا ورغب فيها وآثرها على الآخرة والتعبير بقوله : أخلد إلى الأرض، يفيد : أنه رغب في لذائذ الأرض الفانية، وترك آفاق العلم والمعرفة، واختار الأدنى على الأعلى.
﴿ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ﴾.
أي : أن صفته في حمل العلم والانسلاخ منه إلى شهوات الدنيا، كصفة الكلب الذي يندلع لسانه. فهو دائم اللهث لأن اللهث ؛ طبيعة فيه، أن شددت عليه وأتبعته لهث، وأن تركته لهث.
قال الشوكاني :
أي : أن هذا العالم الضال أن حمل الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير.
وقيل : المعنى : أن وعظته ضل، وإن تركته ضل، فهو في ضلال ملازم لانسلاخه عن ربه، فهو كالكلب إذ كان رابضا لهث، وأن يطرد لهث.
﴿ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ﴾.
أي : ذلك المقل الخسيس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من اليهود وغيرهم، بعد أن علموا بها وعرفوها، فحرفوا وبدلوا وكذبوا بها.
﴿ فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ﴾.
أي : فاقصص أيها الرسول الكريم، قصص ذلك الرجل، الذي تشبه حاله حال أولئك المكذبين، بما جئت به من الآيات رجاء أن يحملهم ذلك على التفكر والتأمل، والنظر في الآيات بعين البصيرة، لا بعين الهوى والعداوة.
ساء : كلمة ذمّ مثل بئس ومعناها : قبح.
التفسير :
﴿ ١٧٧ – ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا.... ﴾ الآية.
أي : قبح مثلا حال المكذبين لآياتنا، التاركين لها ؛ عنادا واستكبارا.
﴿ وأنفسهم كانوا يظلمون ﴾.
أي : ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم دون غيرهم، حيث عرضوا أنفسهم للعذاب، بسبب ما اختاروا من التكذيب والعصيان، والمراد من هذه الآية : المبالغة في ذمّ هؤلاء الذين جمعوا بين التكذيب بالآيات، وظلم أنفسهم بالمعاصي.
في أعقاب الآيات :
لم يعين القرآن الكريم اسم من ضب به المثل ولا جنسه ولا وطنه، ولا جاء في السنة الصحيحة شيء من ذلك ولرواة التفسير بالمأثور روايات كثيرة في شأنه.
جاء في فتح القدير للشوكاني :
عن ابن عباس قال : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له : بلعم، تعلّم اسم الله الأكبر، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه، فقالوا : إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه، مضت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا الله فسلخ ما كان فيه، وقيل : أحد علماء بني إسرائيل.
وكانت الأنصار تقول : هو ابن الراهب الذي بني له مسجد الشقاق.
وقيل : هو أمية بن أبي الصلت، كان قد قرأ الكتب ورأى قرب ظهور نبي، فتوقع أن يكون هو، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم يئس، ولم يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم ؛ حقدا وحسدا، فأنزل الله فيه هذه الآيات، والله أعلم.
وقد روى عن أمية بن أبي الصلت أنه كان يجلس بجوار الكعبة متحنثا ويقول :
مجدوا الله وهو للحمد أهل | ربنا في السماء أمسى كبيرا |
الحمد لله ممسانا ومصبحنا | بالخير صبحنا ربي ومسانا |
إن تغفر اللهم تغفر جما | وأي عبد لك لا ألما |
فقول له أهل مكة : سحرك محمد، وهيجوه حتى عدل عن إيمانه، وادعى أن محمدا ساحر.
وفيه نزل قوله تعالى : إنه فكر وقدّر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال أن هذا إلا سحر يؤثر * أن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحة للبشر * عليها تسعة
عشر. ( المدثر : ١٨ - ٣٠ )
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب :
إن أحدا من المفسرين لم يقل بهذا القول، ولا أشار إليه، وساق الأستاذ عبد الكريم الخطيب عددا من الأدلة ترجح في رأيه أن المشار إليه في قوله تعالى. { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. وهو الوليد بن المغيرة.
ولست في المؤيدين للأستاذ الفاضل المرحوم عبد الكريم الخطيب ؛ لأن تحديد الأشخاص التي أبهمها القرآن يعتمد على النقل لا على العقل، وهذا موضوع لا مجال فيه للاجتهاد، فإما أن نعتمد على الروايات الواردة في تعيين هذا الشخص أو نقول. هو نموذج عام لكل عالم ينسلخ من رداء العلم و يؤثر العاجلة على الآجلة.
التفسير :
﴿ ١٧٨- من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون... ﴾الآية.
معنى هذه الآية مستفاد من معنى الآيات السابقة في قصة الذي أتاه الله الآيات فتركها ؛ عنادا واستكبارا ومضمون الآية ما يأتى :
من يوفقه الله للإيمان والخير واتباع الشرع والقرآن، باستعمال عقله وحواسه، فهو المهتدى حقا لا سواه، ومن يخذله ولا يوفقه، ولا يهديه إلى الخير واتباع القرآن بسبب تعطيل عقله وحواسه في فهم آياته الكونية والشرعية، فهو الخاسر البعيد عن الهدى، الذي خسر الدنيا والآخرة.
وبما أن الهداية الإلهية نوع واحد والضلالة أنواع متعددة أفرد الله المهتدى، وجمع الخاسرين، فقال : فهو المهتدي ثم قال : فأولئك هم الخاسرون.
جاء في تفسير المنار للسيد رشيد رضا ما يأتي :
وحكمة إفراد الأول : الإشارة إلى أن الحق المراد من الهداية الإلهية : نوع واحد، وهو الإيمان المثمر للعمل الصالح.
وحكمة جمع الثاني : الإشارة إلى تعدد أنواع الضلال كما تقدم بيانه مفصلا في تفسير قوله تعالى : في سورة الأنعام :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾. ( الأنعام : ١٥٣ ). وتفسير قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور٦٢.... ﴾الآية( البقرة : ٢٥٧ ).
ذرأنا : خلقنا.
لا يفقهون : لا يفهمون ولا يدركون.
الغافلون : التاركون لما ينفعهم الساهون عنه.
﴿ ١٧٩ - ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها... ﴾ الآية.
خلق الله الإنسان بقدرته، وأودع فيه وسائل الهدى وعوامل التبصر، وأكرمه بالإرادة والاختيار.
قال تعالى :﴿ إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ﴾.
أي : بينا له الطريق وأوضحنا له الصراط المستقيم، فمن الناس من اختار الضلالة، وغلب عليه الهوى، قال تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾. ( الأنعام : ١٥٣ ).
وآيات القرآن في هذا الموضوع كثيرة جدا، منها المحكم ومنها المتشابه، والمؤمن مطالب بالإيمان بالمحكم، والتفويض إلى الله في المتشابه.
ومما أحكمه القرآن وبينه، عدالة الله الحكيم العليم، فهو سبحانه قد بين للناس طريق الخير وطريق الشر، ووضح أسباب الهدى والضلالة، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، وأودع في الإنسان العقل والإدراك والضمير، ومن الناس من يستخدم بصره وبصيرته في التأمل والهدى فيعينه الله ويوفقه، ومن الناس من يؤثر العاجلة على الآجلة، ويمهل ضميره، ويغلق بصره وبصيرته، ويغرق في الشهوات، ويصم أذنه عن دواعي الهدى، وهذا هو الذي يسلب الله عنه هداه وتوفيقه، فتراه أصم لا يسمع بسمع قلبه وضميره، أعمى لا يبصر ببصر قلبه وهداية ضميره.
هذا المعنى تكرر كثيرا في القرآن الكريم مثل قوله تعالى :﴿ إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ﴾. ( يونس : ٧ - ٩ ).
وقد نقل السيد رشيد رضا في تفسير المنار كلاما نفيسا عن تفسير روح المعاني، ثم قال السيد رشيد رضا ما يأتي :
والاحتجاج بالآية على الجبر غفلة وجهل، بل هي كسائر الدالة على نوط الجزاء بالعمل.
ومعناها : أن هؤلاء المكلفين من الجن والإنس، قد تركوا استعمال عقولهم ومشاعرهم الباطنة والظاهرة في علم الهدى، الذي يترتب عليه الأعمال المزكية للنفس، فكانوا بذلك أهل جهنم، وليس فيها أنه تعالى ذرأهم لجهنم لذواتهم، فإن ذوات الجنسين كلها متشابهة، ولم يقل : إنه خلقهم عاجزين عن استعمال تلك القوى في أسباب الهدى، بل قال : إنهم لم يستعملوها في ذلك.
قال تعالى :﴿ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ﴾. ( الملك : ٩، ١٠ ).
﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ﴾.
أي : والله لقد خلقنا خلقا كثيرا من الجن والإنس، مستعدين لعمل يستحق صاحبه دخول جهنم.
وأسباب استحقاقهم دخول جهنم، هي أنهم لا يستعملون عقولهم استعمالا صحيحا للوصول إلى حقيقة الإيمان، وإدراك لذة السعادة الدنيوية والأخروية، وأن الخير فيما أمر الله به، وأن الشر فيما نهى الله عنه.
قال ابن الجوزى في زاد المسير في علم التفسير :
لهم قلوب لا يفقهون بها. لما أعرض القوم عن الحق والتفكر فيه، كانوا بمنزلة من لم يفقه ولم يبصر ولم يسمع.
وقال محمد بن القاسم النحوي : أراد بهذا أمر الآخرة، فإنهم يعقلون أمر الدنيا. اه.
كما قال تعالى :﴿ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ﴾. ( الروم : ٧ ) فهم بمنزلة من لا يفقه ؛ لأنهم لا ينتفعون بقلوبهم الواعية، ولا يعقلون ثوابا ولا يخافون عقابا.
﴿ ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾.
إنهم لم يستخدموا عقولهم في فهم الحجج والآيات التي أنزلها الله إليهم، وهم أيضا لا ينظرون بأعينهم نظر تبصر واعتبار وإمعان، في آيات الله الكونية، وآياته القرآنية التي ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم، ولا يسمعون بآذانهم سماع تدبر وإصغاء : آيات الله المنزلة على أنبيائه، ولا يسمعون أخبار التاريخ والأمم الغابرة، وكيف كان مصيرهم بسبب إعراضهم عن هداية الله وإرشاد الرسل.
وليس الغرض من نفي السمع والبصر، نفي الإدراكات عن حواسهم، وإنما المقصود : بيان حجبها عن أبصار الهدى وسماع المواعظ. وقد يكون الإنسان سليم البصر، لكنه أعمى البصيرة.
قال تعالى :﴿ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ﴾. ( الجاثية : ٢٣ ).
وقديما قال الشاعر العربي :
وإذا كان القلب أعمى | عن الرشد فماذا تفيده العينان |
أي : أولئك الموصوفون بما ذكر من تعطيل عقولهم، وحواسهم كالأنعام( البقر والإبل والغنم )، لا همّ لهم إلا الأكل والشرب والتمتع بملذات الحياة الدنيا، بل هم أضل سبيلا منها : لأن الأنعام تحرص على ما ينفعها، وتنفر مما يضرها، ولا تسرف في أكلها وشربها، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة، وهم مسرفون في جميع اللذات، ولا يهتدون إلى ثواب.
ولا قدرة للحيوانات على تفصيل الفضائل، وأما الإنسان فأعطى القدرة على تحصيلها، أولئك هم كاملو الغفلة عن آيات الله، وعن استعمال مشاعرهم وعقولهم، فيما خلقت من أجله، وهو الاستفادة من المسموعات والانتفاع من المبصرات ولقد غفلوا عن التدبر، وأعرضوا عن الآخرة.
أما العقلاء الفطنون منهم، الذين عملوا للدنيا والآخرة، كما قال تعالى :﴿ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ﴾. ( القصص : ٧٧ ).
قال النسفي : كيف يستوي المكلف المأمور والمخلى المعذور، فالآدمي روحاني شهواني، سماوي أرضي، فإن غلب روحه هواه ؛ فاق ملائكة السماء، وإن غلب هواه روحه، فاقته بهائم الأرض.
التفسير :
﴿ ١٨٠ - ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه... ﴾
أي : ولله دون غيره، جميع الأسماء الدالة على أحسن المعاني، وأكمل الصفات، فاذكروه ونادوه بها ؛ إما للثناء عليه، نحو الله لا إله إلا هو الحي القيوم، وإما لدى السؤال وطلب الحاجات مثل : " يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين " ٦٣.
وذكر الله تعالى دواء للنفوس، وشفاء لقسوة القلوب، قال تعالى :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾. ( الرعد : ٢٨ ).
وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من نزل به غم أو كرب أو أمر مهم فليقل : لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم ".
مختصر من تفسير الشوكاني
﴿ ولله الأسماء الحسنى ﴾، أي : لله أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول من الرحمة والقدرة والعلم والحكمة والخبرة والعزة وغيرها.
﴿ فادعوه بها ﴾. قائلين : يا رحمان يا حليم يا عليم، فإنه إذا دعى بأحسن أسمائه ؛ كان ذلك من أسباب الإجابة.
﴿ وذروا الذين يلحدون في أسمائه ﴾. أي : يحرفون لفظها أو معناها والإلحاد في أسمائه يكون على ثلاثة أوجه : إما بالتغيير كما فعله المشركون فإنهم أخذوا اسم اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها، أو بالنقصان منها بأن ينكروا بعضها.
قيل : نزلت في رجل من المسلمين، كان يقول في صلاته : يا رحمان يا رحيم، فقال رجل من المشركين أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو ربين اثنين ؟ !
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لله تسعة وتسعين اسما : مائة إلا واحدا، من أحصاها ؛ دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر " ٦٤ اه. رواه الشيخان.
قال الآلوسي في تفسير الآية :
والذي أراه أنه لا حصر لأسمائه – عزت أسماؤه – في التسعة والتسعين، ويدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أصابه هم أو حزن فليقل : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وذهاب همي وجلاء حزني... " ٦٥، فهذا الحديث صريح في عدم الحصر.
وحكى النووي اتفاق العلماء على ذلك، وأن المقصود من الحديث : الإخبار بأن هذه التسعة والتسعين، من أحصاها ؛ دخل الجنة، وهو لا يتنافى أن له تعالى أسماء غيرها٦٦.
وخلاصة المعنى :
لله أحسن الأسماء، الدالة على أحسن المعاني، فادعوه بها، واتركوا الذين يسمونه بأسماء لا تناسب العظمة الإلهية، اتركوا هؤلاء فأنهم سيلقون جزاء عملهم من الله رب العالمين.
من كتاب التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي :
أسماء الله توقيفية، فلا يسمى باسم لم يرد في القرآن والسنة، كالرفيق والسخي والعاقل....
وأسماء الله تعالى يجوز إطلاقها كلها على غير الله تعالى، ما عدا اسمى الله والرحمان.
وهذه الأسماء ومنها ما يمكن ذكره وحده، مثل يا الله، يا رحمان، يا حكيم، ومنها ما لا يجوز إفراده بالذكر، بل يجب أن يقال : يا محيي يا مميت، يا ضار يا نافع.
وقد أورد ابن العربي مائة وستة وأربعين اسما من أسماء الله تعالى للتضرع والابتهال، وذكر في موضع آخر زيادة ثلاثين اسما٦٧ فصار المجموع : مائة وستة وسبعين، مثل : الطيب، والمعلم، والجميل وهو الذي لا يشبهه شيء.
وجاء في تفسير المنار : إحصاء بما ورد في القرآن الكريم من أسماء الله الحسنى، واستغرق تفسير هذه الآية خمس عشرة صفحة فيها نقول مفيدة لمن أراد الرجوع إليها.
التفسير :
﴿ ١٨١ - وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.... ﴾
مناسبة الآية :
أخبر الله تعالى في الآية السابقة أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس ؛ لأنهم أهملوا طاقات المعرفة لديهم من العقل والحواس.
ثم ذكر هنا انقسام من وصلتهم الدعوة المحمدية إلى فريقين : فريق المهتدين الذين يقضون بالحق والعدل، وفريق المكذبين الضالين.
معنى الآية :
من بعض الأمم التي خلقها الله جماعة تمسكوا بالحق وعملوا به، ودعوا الناس إلى اتباعه والتزام طريقه، فكانوا كاملين في أنفسهم مكملين لغيرهم.
﴿ وبه يعدلون ﴾.
أي : يقضون بالعدل دون ميل أو جور، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بدليل ما ورد في الأحاديث الصحيحة، في تأييد ذلك، منها ما رواه الشيخان في الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك " ٦٨.
من زاد في علم التفسير لابن الجوزى :
﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق ﴾. أي : يعملون به ﴿ وبه يعدلون ﴾. أي : وبالعمل به يعدلون، وفيمن أريد بهذه الآية أربعة أقوال :
أحدها : أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان من هذه الأمة، قاله ابن عباس، وكان ابن جريج يقول : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" هذه أمتي بالحق يأخذون ويعطون ويقضون " ٦٩.
وقال قتادة : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تلا هذه الآية قال : " هذه لكم وقد أعطى القوم مثلها " ٧٠.
ثم يقرأ :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدرون بالحق وبه يعدلون ﴾. ( الأعراف/ ١٥٩ ).
والثاني : أنهم من جميع الخلق، قاله ابن السائب.
والثالث : أنهم الأنبياء.
والرابع : أنهم العلماء، ذكر القولين الماوردى.
أي : والذين كذبوا بالقرآن وهم أهل مكة، نتركهم في ضلالهم، ونستدرجهم إلى العذاب من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، ونقربهم إلى ما يهلكهم، بإمدادهم بالنعم، وفتح أبواب الرزق والخير، وتيسير سبل المعاش، كلما ارتكبوا ذنبا أو فعلوا جرما، فيزدادون بطرا وانغماسا في الفساد٧١.
من زاد المسير لابن الجوزي :
قوله تعالى :﴿ نستدرجهم ﴾ قال الخليل بن أحمد : سنطوي أعمارهم في اغترار منهم.
وقال اليزيدي : الاستدراج : أن يأتيه من حيث لا يعلم.
وقال الأزهري : سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون، وذلك أن الله تعالى يفتح عليهم من النعم ما يغبطهم به، ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون.
قال الضحاك : كلما جددوا لنا معصية ؛ جددنا لهم نعمة ا ه.
وقد روى الشيخان عن أبي موسى : " إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ٧٢.
وقال تعالى :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ﴾( الأنعام : ٤٤، ٤٥ ).
وقال عز شأنه :﴿ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ﴾. ( المؤمنون : ٥٥، ٥٦ ).
وقد تحقق ذلك بكفار قريش الذين هزموا في بدر والخندق وفتح مكة وغيرها من المعارك، وأظهر الله رسوله عليهم.
قال عمر لما حملت إليه كنوز كسرى : " اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني سمعتك تقول :﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ﴾.
﴿ وأملي لهم ﴾.
أي : سأملي وأطول لهم ما هم فيه، وأمهل هؤلاء المكذبين وأمد لهم في حبل النعم.
﴿ إن كيدي متين ﴾. إن تدبيري الخفي شديد قوى، قال ابن فارس : الكيد : المكر، فكل شيء عالجته فأنت تكيده.
قال المفسرون : مكر الله وكيده مجازاة أهل المكر والكيد فيكون الجزاء من جنس العمل، حيث يأتيه على حين غفلة، فينزل به بأس ﴿ الله بياتا أو هم قائلون ﴾.
أي : ليلا وهو مستغرق في نومه وراحته، أو نهارا في وقت القيلولة والأمن والطمأنينة.
جاء في تفسير المنار :
ومعنى هذا الإملاء : أن سنة الله تعالى في الأمم والأفراد، قد مضت بأن يكون عقابهم بمقتضى الأسباب التي قام بها نظام الخلق، فالمخذول إذا بغى وظلم، ولم ينزل به العقاب الإلهي عقب ظلمه، يزداد بغيا وظلما، ولا يحسب للعواقب حسابا، فيسترسل في ظلمه، إلى أن تحيق به عاقبة ذلك، بأخذ الحكام له، أو بتورطه في مهلكة أخرى، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى٧٣.
المفردات :
جنة : بكسر الجيم جنون.
التفسير :
﴿ ١٨٤ - أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة... ﴾
سبب النزول :
جاء في تفسير الطبري، وابن كثير، والدر المنثور للسيوطي، وغيرهم، أن سبب نزول هذه الآية، هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صعد على الصفا ليلة، ودعا قريشا فخذا فخذا : يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان فحذرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم : إن صاحبكم لمجنون ؛ بات يصوّت حتى الصباح، فنزلت هذه الآية.
ومعنى الآية :
أغفلوا عما امتاز به الرسول – صلى الله عليه وسلم – بينهم من رجاحة العقل، وصدق القول، والأمانة الكاملة، فقد عرفوه بالصادق الأمين، والمفكر السليم، وقد صاحبوه قبل الرسالة أربعين سنة، وصاحبوه بعد الرسالة، يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته وحده، كما دعاهم إلى إصلاح شئونهم، وتنظيم حياتهم الدينية والمدنية والاجتماعية.
وكل ذلك لا يصدر من مجنون، بل الذي يقتضيه العقل، ويسرع إليه الفكر، أن ما قدمه هذا النبي من قرآن وهداية وتشريع ونظام، وهو أمي لم يناظر ولم يجادل ولم يفاخر أحدا فيما مضى، إن هو إلا وحي من الله، نزل به الروح الأمين، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
﴿ إن هو إلا نذير مبين ﴾.
أي : أنه ليس بمجنون بل هو منذر ناصح ومبلغ عن الله، فهو ينذركم ما يحل لكم من عذاب الدنيا والآخرة، إذا لم تستجيبوا له، وقد دعاكم إلى ما فيه صلاح الفرد والمجتمع في الدنيا، وصلاح أمركم في الآخرة.
في أعقاب الآية :
تكرر اتهام كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم بالجنون ؛ لصرف الناس عن دعوته ورسالته.
قال تعالى :﴿ أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ﴾. ( المؤمنون : ٧٠ ).
وقال سبحانه :﴿ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ﴾.
وقال عز شأنه :﴿ ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ﴾. ( الصافات : ٣٦ ).
وقد جرت عادة الكفار أن يرموا رسلهم بالجنون ؛ لأنهم ادعوا أن الله خصهم برسالته ووحيه مع كونهم بشرا لا يمتازون عن سائر الناس بزعمهم.
فقد حكى الله عن قوم نوح أنهم اتهموه بالجنون فقالوا :
﴿ إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين ﴾. ( المؤمنون : ٢٥ ).
وقال في شأنهم :﴿ كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ﴾. ( القمر : ٩ ).
وقال حكاية عن فرعون في موسى عليه السلام : قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. ( الشعراء : ٢٧ ).
وقد بين سبحانه ذلك على وجه عام٧٤ فقال :
﴿ كذلك ما أتى من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ﴾. ( الذاريات : ٥٢ ).
ملكوت السماوات والأرض : أي : العوالم التي اشتملت عليها السماوات والأرض.
التفسير :
﴿ ١٨٥ – أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء... ﴾
أي : أكذبوا الرسول الذي علموا صدقه وأمانته وقالوا : إنه مجنون ولم ينظروا نظرة تأمل واستدلال، في هذا الملكوت العظيم، ملكوت السماوات من الشمس والقمر والنجوم وغيرها، وفي ملكوت الأرض في البحار والجبال والدواب وغيرها، ولم ينظروا كذلك في مخلوقات الله جميعا، التي لا يحصرها العدد، ولا يحيط بها الوصف، مما يشهد بأن لهذا الكون خالقا قادرا، هو المستحق وحده للعبادة والخضوع.
وقوله سبحانه :﴿ وما خلق الله من شيء ﴾. تنبيه على أن الدلالة على التوحيد غير مقصورة على السماوات والأرض بل كل ذرة من ذرات العالم دليل على توحيده :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
﴿ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ﴾.
أي : أو لم ينظروا – أيضا – في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مفاجأة الموت لهم، ونزول العذاب بهم، وهم في أتعس حال.
﴿ فبأي حديث بعده يؤمنون ﴾.
أي : إذا لم يؤمنوا بالقرآن، وهو أكمل كتاب الله بيانا، وأقواها برهانا، فمن لم يؤمن به، فلا مطمع في إيمانه بغيره.
قال تعالى :﴿ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ﴾. ( الزمر : ٥٥ ).
يذرهم : يتركهم.
يعمهون : يتحيرون.
التفسير :
﴿ ١٨٦ – من يضلل الله فلا هادي له... ﴾ الآية.
أي : إن الله قد جعل هذا الكتاب أعظم أسباب الهداية للمتقين لا للجاحدين المعاندين، وجعل الرسول المبلغ له أقوى الرسل برهانا، وأكملهم عقلا، وأجملهم أخلاقا، فمن فقد الاستعداد للإيمان بهذا الكتاب وهذا الرسول ؛ فهو الذي أضله الله، أي : الذي قضت سنته في خلق الإنسان، وارتباط أعماله بأسباب تترتب عليها مسبباتها، بأن يكون ضالا راسخا في الضلال، وإذا كان ضلاله بمقتضى تلك السنن، فمن يهديه من بعد الله ؟ ولا قدرة لأحد من خلقه على تغيير تلك السنن وتبديلها.
﴿ ويذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾.
أي : ويتركهم في تجبرهم الذي جازوا به حدود الله. ﴿ يعمهون ﴾ يتحيرون ويتخبطون.
قال تعالى :﴿ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾. ( النور : ٤٠ ).
من تفسير المراغي :
والخلاصة : أنه ليس معنى إضلال الله لهم، أنه أجبرهم على الضلال، وأعجزهم بقدرته عن الهدى، فكان ضلالهم جبرا لا اختيارا، بل المراد : أنه لما مرنت قلوبهم على الكفر والضلال، وأسرفوا فيهما، حتى وصلوا إلى حد العمه في الطغيان ؛ فقدوا بهذه الأعمال الاختيارية، ما يضادها في الهدى والإيمان، فأصبحت نفوسهم لا تستنير بالهدى، وقلوبهم لا ترعوى لدى الذكرى٧٥.
﴿ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾. ( المطففين : ١٤ ).
المفردات :
الساعة : المراد بها هنا : يوم القيامة وقد يراد بها لغة : جزء من الزمن.
أيان مرساها : أي : متى حصولها. أو متى وقوعها ؟
لا يجليها : لا يظهرها ويكشفها على وجه التحديد.
ثقلت في السماوات والأرض : عظم أمرها على أهل السماوات والأرض ؛ لما فيها من الأهوال.
بغتة : فجأة.
حفى عنها : بالغ العلم بها.
التفسير :
﴿ ١٨٧ - يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أيان مُرْسَاهَا... ﴾
سبب النزول :
كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم، إن كنت نبيا فأخبرنا عن الساعة متى تقوم ؟
وقال قتادة : إن قريشا قالت : يا محمد بيننا وبينك قرابة، فبين لنا متى الساعة ؟
وقال عروة : الذي سأله عن الساعة، عتبة بن ربيعة.
ورجح الحافظ ابن كثير أنها نزلت في قريش ؛ لأن الآية مكية، وكانوا يسألون عن وقت الساعة ؛ استبعادا لوقوعها، وتكذيبا لوجودها، أو اختبارا لصدق نبوة الرسول.
المعنى : يسألك الناس يا محمد، عن وقت مجيء الساعة التي يموت فيها الناس جميعا.
﴿ أيان مرساها ﴾.
أي : متى يكون وقوعها ومجيئها وثبوتها وفي التعبير بالإرساء الدال على الاستقرار والانتهاء، إشارة إلى أن قيام الساعة إنهاء لحركة العالم، وانقضاء عمر الأرض.
قال أبو عبيدة : أي : متى مرساها، أي : منتهاها، ومرسا السفينة : حيث تنتهي.
﴿ قل إنما عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ.... ﴾
استأثر الله تعالى بأمر الغيب، وأمر الإنسان أن ينصرف إلى عمله مجتهدا فيه، فلو تأكدنا من موعد الساعة، فربما أهمل المهملون، وربما اشتد الخوف والروع على المؤمنين، ولذلك اختص الله نفسه بعلم الساعة ؛ حتى يكون هناك مجال للاختبار والابتلاء والامتحان، وحتى يكون هناك توقع للموت في أي لحظة، وقد خبأ الله معرفة الصلاة الوسطى، وساعة الإجابة يوم الجمعة، وليلة القدر في شهر رمضان، كما خبأ معرفة الساعة ؛ ليجتهد الناس في الطاعة والعبادة ؛ فربما جاء الموت بغتة.
قال تعالى :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ﴾. ( لقمان : ٣٤ ).
﴿ لا يجليها لوقتها إلا هو ﴾.
أي : علم الساعة عند الله وحده، ولا يظهرها، ولا يأتي بها في وقتها غير الله تعالى وحده، وفي هذا القول تأكيد بليغ، وزيادة تقرير لما سبق من اختصاص علم الله تعالى بذلك.
﴿ ثقلت في السماوات والأرض ﴾.
هذه الجملة لها معنيان :
المعنى الأول : خفى علمها على أهل السماوات والأرض، ولم يعلم بها أحد من الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، فجميع من في السماوات والأرض لا يعلمون متى يكون حدوثها ووقوعها، وكل ما خفي علمه فهو ثقيل على الفؤاد، وهو قول السدّي.
المعنى الثاني : عظم أمرها واشتد وقعها على أهل السماوات والأرض ؛ بعد أن أعلمهم الله تعالى بما سيكون فيها من الشدائد والأهوال، وهو قول ابن عباس : ووجهه : أن الكل يخافونها محسنهم ومسيئهم.
﴿ ولا تأتيكم إلا بغتة ﴾.
قضى الله تعالى أنها لا تأتي إلا فجأة، وعلى حين غفلة، وحينئذ تشعرون بثقلها لهول المفاجأة، فأولى بالإنسان أن ينصرف عن السؤال عن الساعة ووقتها، فأن ذلك لا يفيد.
ويتفرغ للعمل بما يفيده ويقع في دائرة اختصاصه، وهو الاستعداد للساعة والعمل الصالح، والتسابق في اغتنام لحظات الحياة، فالموت يأتي بغتة، وفي الحديث الشريف " اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك " ٧٦.
وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس ؛ آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانهم لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا، ولتقومن الساعة، وقد انصرف الرجل بلبن لقحته٧٧ فلا يطعمه، ولتقومن الساعة والرجل يليط٧٨ حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها " ٧٩.
﴿ يسئلونك كأنك حفي عنها ﴾.
أي : كأنك دائم السؤال عنها، مكلف أن تكشف عن موعدها.
قال مجاهد : أي استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها.
وقال ابن عباس : كأنك عالم بها، وقد أخفى الله علمها عن خلقه.
﴿ قل إنما علمها عند الله ﴾.
لا يعلم وقت مجيء الساعة إلا الله وحده دون سواه، وفي هذا تأكيد وتعميق للمعنى المستفاد من الردّ الأول، مع ما يفيده ذكر لفظ الجلالة من هيبة ورهبة، في مقابلة جهلهم، وتعنتهم في طلب أمور لا يعلمها إلا الله وحده، ولم يطلع عليها أحدا من خلقه.
﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون اختصاص علمها به تعالى ولا حكمة ذلك، ولا أدب السؤال، ولا غير ذلك مما يتعلق بهذا المقام، وإنما يعلم ذلك القليلون، وهم المؤمنون بما جاء من أخبارهم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
روى الشيخان عن عمر بن الخطاب أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : يا محمد، متى الساعة ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ما المسئول عنها بأعلم من السائل، سأنبئك عن أشراطها، ( علاماتها ) : أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة، رعاء الشاء والإبل يتطاولون في البنيان " ٨٠.
وذهب الأستاذ سيد قطب : إلى أن معنى هذه الفقرة : أن أمر الغيب كله لله وحده، لا يطلع على شيء منه إلا من شاء، بالقدر الذي يشاء، وفي الوقت الذي يشاء، لذلك لا يملك العباد لأنفسهم نفعا ولا ضرا ؛ فقد يفعلون الأمر يريدون به جلب الخير لأنفسهم، ولكن عاقبته تكون هي الضر لهم، وقد يفعلون الأمر يريدون به رفع الضر عنهم، ولكن عاقبته المغيبة تجره عليهم، وقد يفعلون لأمر يكرهونه فإذا عاقبته هي الخير ويفعلون الأمر يحبونه فإذا عاقبته هي الضر.
﴿ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم * وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾.
وقال سبحانه وتعالى :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو... ﴾
من كلام المفسرين
١ – قال الآلوسي في تفسير الآية :
وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة ؛ لاقتضاء الحكمة التشريعية ذلك، فإنه أدعى إلى الطاعة، وازجر عن المعصية، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك.
٢ – جاء في تفسير المنار :
لهذه الآية كلام طويل عقب عليه السيد رشيد رضا في آخره بقوله( فصل فيما ورد في قرب الساعة وأشراطها وما قيل في عمرها ) وفي الفصل أفاد بالآتي :
أخرج الحافظ السيوطي عدة أحاديث، في أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة.
ونقل صاحب المنار نقولا عن العلماء : بأن القول بتعيين مدة الدنيا من أولها إلى آخرها بأنه سبعة آلاف سنة لم يثبت فيه نص يعتمد عليه، وإنما هي نقول مأخوذة عن أهل الكتاب.
قال صاحب المنار :
وكذلك الإمام أبو محمد علي بن حزم( المتوفى سنة ٤٥٦ ه ).
لم يعبأ بشيء من هذه الروايات في هذه المسألة على طول باعه وسعة حفظه للآثار، وقد سبق القاضي عياضا، والقاضي أبا بكر ابن العربي، وابن خلدون في رفضه لما قيل في عمر الدنيا.
قال ابن حزم :
وأما نحن – يعني المسلمين – فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا، ومن ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقل ؛ فقد قال ما لم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظة تصح، بل صح عنه صلى الله عليه وسلم خلافه، بل نقطع على أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى.
قال الله سبحانه وتعالى :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ﴾. ( الكهف : ٥١ ).
وبعد أن نقل السيد رشيد رضا كلام الإمام ابن حزم قال :
هذا كلام الأئمة المحققين، فالذين حاولوا تحديد عمر الدنيا، ومعرفة وقت قيام الساعة إرضاء لشهوة الإتيان، بما بهم جميع الناس، لم يشعروا بأنهم يحاولون تكذيب آيات القرآن الكثيرة، بأن الساعة من علم الغيب، الذي استأثر الله به، وأنها تأثيم بغتة وهم لا يشعرون، وهذا البلاء كله من دسائس رواة الإسرائيليات.
ثم يقول صاحب المنار في موضع آخر :
وأما علماء الكون في هذا العصر ؛ فلهم منهج في عمر الأرض في الماضي، ومنهج آخر في تاريخ البشر وآثارهم في القرون الخالية.
وهم يجزمون أن عمر الدنيا الماضي، يعد بألوف الألوف من السنين، وقد وجدت آثار للبشر فيها منذ مئات الألوف منها، وذلك ينقض ما في سفر التكوين في المسألتين، ولكنه لا ينقض من القرآن كلمة ولا حرفا.
﴿ ولو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾. ( النساء : ٨٢ ).
انتهى كلام السيد رشيد رضا.
مؤتمر عالمي عن عمر الكون
نقل إلي الصديق الباحث الأستاذ الدكتور محمد الشبيني – عميد كلية التربية والعلوم الإسلامية بجامعة السلطان قابوس بمسقط( سلطنة عمان ) – أنه قرأ في مجلات عالمية، بأن مؤتمرا لعلماء الطبيعة والفيزياء والفلك قد أنعقد في واشنطن في شهر أبريل سنة ١٩٩٢م ؛ لمناقشة دراسة علمية متخصصة عن أصل الكون، واستقر المؤتمر على الآتي :
١ – تشير المشاهدات والحفريات والدراسات إلى أن عمر الكون يتراوح ما بين ١٥ بليون سنة، ٢٠ بليون سنة.
٢ – الكون يتسع لتحرك الكواكب ويزداد في اتساعه وحركته ؛ لأن هناك المزيد من الكواكب.
٣ – عمر المجموعة الشمسية الآن خمسة بلايين سنة وأنها يمكن أن تبقى خمسة بلايين سنة أخرى.
٤ – الشمس ستحرق كل المواد المشتعلة التي فيها ثم تخمد، وتصبح من النجوم القزمة، وعند انتهاء عمر الشمس، ينتهي عمر الكون، ما لم تدخل إرادة إلهية عليا بأمور ليست في الحسبان. اه.
أشراط الساعة وأماراتها
قسم العلماء أشراط الساعة إلى ثلاثة أقسام :
١ – ما وقع بالفعل منذ قرون خلت، كقتال اليهود، وفتح بيت المقدس، والقسطنطينية.
٢ – ما وقع بعضه وهو لا يزال في ازدياد كالفتن والفسوق وكثرة الزنا وكثرة الدجالين وكثرة النساء، وتشبههن بالرجال، والكفر والشرك حتى في بلاد العرب.
٣ – ما سيقع بين يدي الساعة من العلامات الصغرى والكبرى، وتجد ذلك مطولا في تفسير المنار وتفسير المراغي.
المهدي المنتظر
أشهر الروايات أن اسمه محمد بن عبد الله، والشيعة بقولون : أنه محمد بن الحسن العسكري، ويلقبونه بالحجة والقائم والمنتظر، والمشهور في نسبه أنه علوي فاطمي من ولد الحسن، وهناك رواية مصرحة بأنه من ولد العباس.
وأكثر العلماء ينكرون هذه الأحاديث ويقولون : أنه موضوعة لا نصيب لها من الصحة، ومن ثم لم يعتد بها الشيخان، ومن هؤلاء ابن خلدون، فقد ضعّف هذه الأحاديث، وضعف أسانيدها، وبين أن لله سننا في النصر هي الوحدة والقوة، والقتال والاستعداد كما فعل الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم.
المفردات :
نذير : منذر بوعيد الله للعصاة والكافرين.
وبشير : ومبشر بوعد الله لكل من يؤمن بالله.
التفسير :
﴿ ١٨٨ - قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ... ﴾ الآية.
تمهيد :
بينت الآية السابقة أن علم الساعة عند الله وحده، وفي هذه الآية بيان لأساس من أسس العقيدة، إذ بينت حقيقة الرسالة وفصلت بينها وبين الربوبية، وهدّمت قواعد الشرك، واجتثت جذور الوثنية فالرسول بشر يوحى إليه، وظيفته التبليغ والتبشير للطائعين، والإنذار للعصاة والمشركين، ولا يعلم الغيب إلا بمقدار ما يريد الله إطلاعه عليه.
﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ ﴾.
أي : قل أيها الرسول لمن سألك عن الساعة ظانا أن عندك علم بالغيب، واطلاع على شئون المستقبل – قل لهم : إني بشر مثلكم، وإني لا أملك لنفسي ولا لغيري، جلب نفع ولا دفع ضر مستقلا بقدرتي على ذلك، وإنما أملكهما بقدرة الله، فإذا أقدرني على جلب النفع، جلبته بفعل أسبابه، وإذا أقدرني على منع الضر، منعته بتسخير الأسباب كذلك.
وقد كان المسلمون ولا سيما حديثو العهد بالإسلام ؛ يظنون أن منصب الرسالة يقتضي علم الساعة ؛ وغيرها من علم الغيب، وأن الرسول يقدر على ما لا يصل إليه كسب البشر من جلب النفع ومنع الضر عن نفسه، وعمن يحب أو عمن يشاء...
فأمره الله أن يبين للناس، أن منصب الرسالة لا يقتضي ذلك، وأن وظيفة الرسول هي التعليم والإرشاد، لا الخلق والإيجاد، وأنه لا يعلم الغيب إلا ما علمه الله عن طريق الوحي. ﴿ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي... ﴾
﴿ ولو كنت أعلم لغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ﴾.
أي : لو كنت أعرف أمر المستقبل ؛ لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير، واجتناب السوء والمضار ؛ حتى لا يمسني شيء منها، ولم أكن غالبا مرة، ومغلوبا أخرى.
قال الشوكاني :
أي : لاشتريت حين يكون فيما أشتريه الربح، وبعت حين يكون الربح في البيع ؛ فيكثر مالي ولا أخسر في بيع، ولتعرضت لما فيه الخير فجلبته لنفسي، وتوقّيت ما في السوء ؛ حتى لا يمسني.
قال ابن كثير :
أمره الله تعالى أن يفوض الأمر إليه وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب في المستقبل، ولا اطلاع له على شيء من ذلك، إلا ما أطلعه الله عليه، كما قال :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ﴾. ( الجن : ٢٦ ).
﴿ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ﴾. أي : لست إلا مبلغا عن الله لأحكامه، أنذر بها قوما، وأبشر بها آخرين، ولست أعلم بغيب الله سبحانه. أي : وليس الإخبار بالغيب من مهمتي، ولا العلم به من صفتي.
﴿ لقوم يؤمنون ﴾ : لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالإنذار والتبشير، فنصّ القرآن على محل النفع والفائدة على حدّ قوله تعالى :﴿ هدى للمتقين ﴾.
وقوله سبحانه : فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد.
المفردات :
زوجها : الزوجة والمراد بها : حواء.
ليسكن إليها : ليطمئن إليها.
تغشاها : غشيها وهو كناية عن الوقاع.
حلت حملا خفيفا : أي : كان حملها خفيفا لا يمنعها من القيام والقعود وقضاء المصالح.
فمرت به : فمضت به وترددت في قضاء مصالحها من غير مشقة ولا كلفة.
فلما أثقلت : صارت ذات ثقل بسبب كبر الولد وقرب وضعه.
دعوا الله : تضرّعا إليه.
التفسير :
﴿ ١٨٩ - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا... ﴾ الآية.
إن الله العلي القدير، هو الذي يستحق العبادة والخضوع والذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ومن دلائل قدرته وموجبات توحيده، وإفراده بالعبادة أنه خلقكم من نفس واحدة، هي نفس أبيكم آدم.
﴿ وجعل منها زوجها ﴾.
أي : خلق حواء من جسد آدم من ضلع من أضلاعه.
ليسكن إليها. لتكون حواء سكنا وأمنا وأنيسا ومصدرا للذرية وعمارة الكون.
وهذه الفقرة تبين الحكمة من الزواج، فالزوجة مصدر للحنان، والسكن والأمان والعطاء، ثم هي من جنس الرجل إلى الجنس أميل، خصوصا إذا كان بعضا منه، كما يسكن الإنسان إلى ولده، ويحبّه محبة نفسه ؛ لكونه بضعة منه.
وقريب من هذه الآية ما ورد في صدر سورة النساء حيث قال تعالى :
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء... ( النساء : ١ )
وقوله سبحانه :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾. ( الروم : ٢١ ).
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب :
﴿ وجعل منها زوجها ليسكن إليها ﴾.
أي : ليجتمع إليها، وليطمئن لها، ويستقر معها...
وقد أشرنا من قبل في قصة آدم وخلقه٨١ إلى أن حواء، التي قيل : أنها خلقت من ضلعه لم تكن إلا مرحلة من مراحل التطور في خلق آدم، وأن عملية التكاثر في تلك المرحلة، كانت بانقسام الكائن الحي نفسه، كما هو الشأن في بعض المخلوقات الدنيا من الديدان٨٢.
فلما تغشّاها.
أي : فلما غشي الزوج منكم زوجته، والتغشّي : كناية عن الجماع، مثل الملامسة، وغشى الشيء وتغشاه : غطّاه، ومنه قوله تعالى : والليل إذا يغشى، أي : تغطى ظلمته الأشياء.
وكذلك الرجل حين يتصل بزوجته، يغشاها أي : يغطيها ويسترها، ويقدم لها المودة والرحمة. ونرى في هذه الجملة، سمو القرآن في تعبيره، وأدبه في عرض الحقائق. أن أسلوب القرآن يلطف ويدق، عند تصوير العلاقة بين الزوجين، فهو يسوقها عن طريق كناية بديعة، تتناسب مع جو السكن، والمودة بين الزوجين، وتتسق مع جو الستر، الذي تدعو إليه الشريعة الإسلامية، عند المباشرة بين الرجل والمرأة، ولا تجد كلمة تؤدى هذه المعاني أفضل من كلمة تغشاها.
﴿ حملت حملا خفيفا فمرت به ﴾.
أي : لما تغشى الذكر الأنثى ؛ علقت منه، وكان الحمل في أول أمره خفيفا لا يمنعها من القيام والقعود وقضاء المصالح، فإن كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ؛ أخف مما يكون في المراتب التي بعد ذلك.
فمرت به.
أي : استمرت بذلك الحمل، تقوم وتقعد وتمضي في حوائجها، ولا تجد به ثقلا.
﴿ فلما أثقلت ﴾.
أي : فلما صارت ذات ثقل، بسبب نمو الحمل في بطنها، واقتراب الوضع، وأشفق آدم وحواء من أن يكون الحمل غير سوي، واهتما بهذا الأمر الذي لم يعهداه من قبل.
﴿ دعوا الله ربهم لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ﴾.
تضرع آدم وحواء في دعاء متبتل، وأقسمنا قائلين : والله لئن أعطيتنا ولدا صالحا سويا، مستقيم الخلقة ؛ لنكونن من المخلصين لك في الشكر على نعمائك التي لا تحصى، ومن أعظمها تلك النعم الجليلة، نعمة الولد الصالح.
أي : فلما استجاب الله تعالى دعاء الزوجين من ذرية آدم وحواء ؛ وأعطاهما ولدا صالحا أي : كامل التكوين والخلقة، خلا بالشكر في مقابلة هذه النعمة أسوأ إخلال، حيث نسبوا هذا العطاء إلى الأصنام والأوثان، أو إلى الطبيعة كما يزعم الطبيعيون، أو إلى غير ذلك مما يتنافى مع إفراد الله تعالى بالعبادة والشكر.
﴿ فتعالى الله عما يشركون ﴾.
أي : تعاظم وتنزه سبحانه أن يكون له شريك.
في أعقاب الآية ١٨٩، ١٩٠ :
الآية ١٨٩ كانت حديثا عن نفس واحدة جعل الله منها زوجها وهي نفس آدم وحواء.
أما الآية ١٩٠، فقد انتقل عندها الكلام عن آدم وحواء إلى ذريتهما رجلا وامرأة.
والمعنى : جعل أولادهما شركاء، في الولد الصالح في تكوينه، حيث نسباه لبركة أوثانهم مع الله تعالى، فالاشتراك وقع من ذرية آدم وحواء.
جاء في تفسير الشوكاني فتح القدير :
قالت جماعة من المفسرين : أن الجاعل شركاء فيما آتاهم هم جنس بني آدم، كما وقع من المشركين منهم، ولم يكن ذلك من آدم وحواء.
جاء في تفسير الوسيط بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر :
ويجوز أن يكون التأويل في قوله : جعلا له شركاء بتقدير مضاف محذوف، أي : جعل أولادهما لله شركاء، وجعل الكلام على حذف مضاف كثير ومعهود، ومنه قوله تعالى : واسأل القرية. أي : واسأل أهل القرية اه.
معارك بين المفسرين :
هذا المكان من التفسير، مما تدور حوله معارك كلامية كثيرة :
فبعض المفسرين٨٣ ذهب إلى أن المراد بقوله تعالى :﴿ فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ﴾ : آدم وحواء.
واستدلوا على ذلك بما رواه الإمام أحمد بسنده ؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لمّا طاف إبليس بحواء ؛ وكان لا يعيش لها ولد، فقال له : سمّيه عبد الحارث : فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث ؛ فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره٨٤.
وقد أثبت الحافظ ابن كثير في تفسيره ضعف هذا الحديث من عدة وجوه... ورجح أنه من آثار أهل الكتاب.
ثم قال : قال الحسن البصري : عنى الله تعالى بهذه الآية : ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده.
وقال قتادة : كان الحسن البصري يقول : هم اليهود والنصارى، ورزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا.
قال ابن كثير : وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية، ونحن على مذهب الحسن البصري في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء ؛ وإنما المراد من ذلك : المشركون من ذريته، ولهذا قال :﴿ فتعالى الله عما يشركون ﴾. ثم قال : فذكره آدم وحواء : أولا كالتواطئة لما بعدهما من الوالدين، كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس اه.
وقال صاحب الكشاف : أن المراد بالزوجين : الجنس لا فردان معينان، والغرض بيان حال البشر فيما طرأ عليهم من نزعات الشرك الجلي والخفي في هذا الشأن وأمثاله، والجنس يصدق ببعض أفراد. اه.
التفسير :
﴿ ١٩١ - أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون.... ﴾ الآية.
تفيد الآية السابقة أن من ذرية آدم وحواء من جعل لله شركاء تنزه الله وعلا وتمجد عن أن يكون له شركاء يعملون معه، ويشاركون في تدبير ملكه.
ثم حمل القرآن على الشرك والوثنية حملات ماحقة، وحاكم المشركين إلى الحس والواقع، فهذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تجيب، وهي حجارة صمّاء ؛ ليس لها يد أو رجل أو بصر ؛ وحتى إذا رغب عاقل دعوتها إلى الهدى فلا تملك الاستجابة ؛ لأنها لا عقل لها ولا إرادة، فكيف تعبد من دون الله ؟ !
﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ﴾.
أي : بعد أن منح الله هؤلاء المشركين العقل، وأرسل إليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا إلى توحيد الله، وسراجا منيرا، ابعد هذا كله يشركون معه في الألوهية، صنما أو غيره من المخلوقات، مما ليس له قدرة على أن يخلق شيئا ولو كان ذبابا ﴿ وهم يخلقون ﴾.
أي : والحال أن ما عبدوهم يخلقون، ولا يليق بذي العقل السليم، أن يجعل المخلوق العاجز شريكا لله القادر.
وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وأن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنفذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ﴾. ( الحج : ٧٣، ٧٤ ).
أي : ولا يستطيعون لعابديهم معونة، إذا حزبهم أمر مهم، أو خطب ملمّ، كما لا يستطيعون لأنفسهم نصرا على من يتعدى عليهم، بإهانة لهم أو أخذ شيء مما عندهم ؛ من طيب أو حلي، كما قال تعالى :﴿ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ﴾. ( الحج : ٧٣ ).
وفي هذا بيان لشدة عجزهم، ومن عجز عن نصر نفسه ؛ كان عن نصر غيره أعجز.
فالأصنام تحتاج إليكم في تكريمهم وفي النضال عنهم، وأنتم لا تحتاجون إليهم.
صامتون : تاركون دعوتهم.
﴿ ١٩٣ – وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ﴾.
أي : وإن تدعوا هذه الأصنام إلى ما هو هدى ورشاد ؛ لا يجيبوكم إلى ذلك.
ويجوز أن يكون المعنى :
وأن تدعوا هذه الأصنام إلى أن يهدوكم ؛ إلى ما تحصلون به رغباتكم، أو تنجون به من المكاره التي تحيق بكم، لا يتبعوكم، فلا يستجيبوا لكم ولا ينفعوكم.
﴿ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ﴾.
فحالهم واحدة عند ندائكم، وعند بقائكم على صمتكم وسكوتكم ؛ لأنهم مجرد أحجار منحوتة جامدة.
وهكذا حاكمهم القرآن إلى الحس المشاهد ؛ فكيف يعبد الإنسان صنما جامدا لا يسمع ولا ينفع، وهو مجرد حجر جامد، وإنما الرب المعبود هو النافع من يعبده، الضار من يعصيه، الناصر وليّه، والخاذل عدوّه، الهادي إلى الرشاد من أطاعه، السامع دعاء من دعاه.
المفردات :
تدعون : تعبدون.
التفسير :
﴿ ١٩٤ - إن الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ... ﴾الآية.
في الآيات السابقة طائفة من الحجج والبراهين ؛ لإبطال الشرك، وتسفيه عقول المشركين، ونظرا لتأصل عادة الشرك في نفوس المشركين بتقليد من قبلهم، واتباعهم إياهم.
استمرت هذه الأيام تقدم طائفة أخرى من الحجج والبراهين، والأدلة الملموسة المحسوسة المشاهدة ؛ لتستثيرهم عقولهم وتفكيرهم، ولتؤكد على أن التوحيد يكون لله وحده، والولاء يكون للإله الخالق القادر، قال تعالى :﴿ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم... ﴾
الدعاء : هنا هو النداء لدفع الضر، وجلب النفع، الذي يوجّه إلى من يعتقد الداعي أن له سلطانا يمكنه أن يجيبه إلى ما طلبه، إما بذاته وإما بحمله الرب الخالق على ذلك.
وقد اتجه المشركون بدعائهم إلى هذه الأصنام، فقالت لهم الآية : هؤلاء الذين جعلتموهم آلهة هم من عباد الله، كما أنتم من عباد الله وأطلق القرآن عليها لفظ عباد مع أنها جماد، وفق اعتقادهم فيها ؛ تبكيتا لهم وتوبيخا، أي : وإذا كانوا مثلكم عبادا خاضعين لله مثلكم ؛ فإنه يمتنع عقلا، أن تطلبوا منهم ما قد عجزتم عن مثله، مع أنكم أكمل منهم ؛ لأنكم أحياء تنطقون وتمشون وتسمعون وتبصرون ؛ وهذه الأصنام ليست كذلك ؛ ولكنها مثلكم في كونها مملوكة لله مسخرة لأمره.
﴿ فادعوهم فليستجيبوا لكم أن كنتم صادقين ﴾.
وهذه جملة مقصود منها التعجيز والسخرية والتهكم بالمشركين.
أي : إن كنتم صادقين في زعمكم قدرة الأصنام على النفع والضر ؛ فادعوهم فليردوا عليكم الجواب، إن كانوا أحياء.
هذا استفهام إنكاري.
والمعنى : أن هذه الأصنام التي تزعمون أنها تقربكم إلى الله زلفى، هي أقل منكم مستوى ؛ لفقدها الحواس التي هي مناط الكسب، إنها ليس لها أرجل ؛ تسعى بها إلى دفع ضر أو جلب نفع، وليس لها أيد تبطش بها، أي : تأخذ بها ما تريد أخذه، وليس لها أعين تبصر بها شئونكم وأحوالكم.
وليس لهم أذن تسمع بها أقوالكم، وتعرف بواسطتها مطالبكم، فأنتم أيها الناس تفضلون هذه الأصنام ؛ بما منحكم الله تعالى من حواس السمع والبصر وغيرها، فكيف يعبد الفاضل المفضول، وكيف ينقاد الأقوى للأضعف ؟ !.
﴿ قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُون ﴾.
كان الكفار يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم من بطش هذه الآلهة، فأمره الله أن يتحداهم.
والمعنى : قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء المشركين :
نادوا شركاءكم الذين زعمتموهم أولياء، ثم تعاونوا أنتم وهم على كيدي، ولا تتأخروا عن إنزال الضرر بي، إن كنتم أنتم وهم قادرين على شيء من الضرر، فإني أنا معتز بالله وملتجئ إلى حماه ومن كان كذلك ؛ فلن يخشى شيئا من المخلوقين جميعا.
وهذا نهاية التحدي من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم والحطّ من شأنهم وشأن آلهتهم. وقريب من ذلك ما فعله الرسل السابقون مع أقوامهم.
قال تعالى :{ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها أن ربي على صراط مستقيم. ( هود ٥٣ – ٥٦ ).
ولي الله : متولى أمري وناصري.
التفسير :
﴿ ١٩٦ – إن وليي الله نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ﴾.
أي : أن متولي أمري وناصري هو الله الذي نزل علي الكتاب، المؤيد لوحدانيته، ووجوب عبادته ودعائه، عند الشدائد والملمات.
﴿ وهو يتولى الصالحين ﴾. وقد جرت سنته تعالى، أن يتولى وحده رعاية الصالحين من عباده وحفظهم، وأن ينصرهم ولا يخذلهم.
المفردات :
تدعون : تعبدون.
التفسير :
﴿ ١٩٧ - وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ... ﴾ الآية.
أي : والأصنام التي تعبدونها أيها المشركون من دون الله، لا تستطيع نصركم في الشدائد والنوازل ولا تستطيع دفع الضرر عن نفسها إذا هو لحق بها.
فقد كسّر إبراهيم عليه السلام الأصنام فجعلهم جذاذا، فما استطاعوا أن يدفعوهم عن أنفسهم، ولا أن ينتقموا منه.
وقد روى عن معاذ بن الجموح، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما وكانا شابين من الأنصار قد أسلما :- لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة – أنهما كانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها، ويتخذانها حطبا للأرامل ؛ ليعتبر قومهما بذلك، ويهجروا عبادة الأصنام.
وكان لعمرو بن الجموح – وكان سيد قومه – صنم يعبده. فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة فيجيء عمرو فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفا ويقول له انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك ويعود إلى صنيعه أيضا، حتى أخذاه فقرناه مع كلب ميّت، ودلّياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء ورأى ذلك ؛ علم أن ما كان عليه من الدين باطل وأنشد :
تالله لو كنت إلها مستدن | لم تك والكلب جميعا في قرن |
تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم، وهذا التكرار للتأكيد، وهو مطلوب ؛ لاقتلاع جذور الشرك التي تأصلت في المشركين.
فهذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله لا تعقل شيئا، ولا تفرق بين خير وشر، فإذا دعاها داع إلى ما فيه خير وهداية، لم تسمع ولم تعقل، ولم تعرف ما هو هذا الخير الذي تدعى إليه.
والآية كقوله تعالى :﴿ أن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ﴾. ( فاطر : ١٤ ).
﴿ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ﴾.
أي : وتراهم أيها المخاطب ينظرون إليك بما وضع لهم من أعين صناعية، وحدق زجاجية أو جوهرية ؛ موجهة إلى من يدخل عليها كأنها تنظر إليه، وهم لا يبصرون بها ؛ لأن حاسة الإبصار لا تحصل بالصناعة، وإنما هي من خواص الحياة التي استأثر الله بها.
وهم إذ فقدوا السمع لا يسمعون نداء ولا دعاء ؛ ممن يعبدونهم ولا من غيرهم، وإذ فقدوا البصر لا يبصرون حاله. فكيف يرجى منهم نصر أو خير ؛ أو دفع شر وضرر ؟
ويجوز أن يكون الخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، والحديث فيها عن المشركين، فهم إذا دعاهم النبي إلى الإيمان لا يسمعون سماع فهم وإدراك وتبصر في الهدى، وهم ينظرون للنبي بعيونهم، ولا يبصرون الهدى ببصيرتهم ؛ لأن قلوبهم قد طمس نورها وغاب فقهها.
وقريب من ذلك قوله تعالى :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ﴾. ( محمد : ١٦ ).
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب :
قد يكون المشار إليه بضمير الجمع هنا هم أولئك المشركون، أو تلك الأصنام التي يعبدونها، أو هم هؤلاء وأولئك جميعا، فالمشركون وما يشركون بهم سواء، في أنهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون.
المفردات :
العفو : السهل اليسير من أخلاق الناس.
بالعرف : بالمعروف وهو ما شرعه الله لعباده وعرف حسنه شرعا وعقلا من عادات الناس.
التفسير :
﴿ ١٩٩ - خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ﴾.
المناسبة :
في آيات سابقة نهى القرآن عن عبادة الأوثان، وندد بعبادة الأصنام.
وتجئ هذه الآية وما بعدها إلى آخر سورة الأعراف دعوة إلهية كريمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمن معه من المؤمنين، إلى منهج سمح سهل ليّن في معاملة المشركين.
﴿ خذ العفو وأمر بالعرف ﴾.
جمعت هذه الآية أصول الفضائل ومكارم الأخلاق.
عن عبد الله بن الزبير قال : ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس ا. ه.
ونجد في هذه الآية ثلاث فضائل :
١ – الأخذ بالعفو :
وهو اليسير والسهل من أخلاق الناس وأعمالهم، دون تكليفهم بما يشق عليهم، ومن غير تجسس، وإنما يؤخذ بالسمح السهل، واليسر دون العسر.
جاء في ظلال القرآن : " خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب إليهم الكمال، ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق، واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم.... ".
روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا " ٨٦.
ويدخل في العفو صلة القاطعين أرحامهم، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين.
وهذا هو الصنف الأول من الحقوق التي تستوفي من الناس، وتؤخذ منهم بطريق المساهلة والمسامحة.
ويشمل ترك التشدد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية، والتخلق مع الناس بالخلق الطيب، وترك الغلظة والفظاظة.
قال تعالى :﴿ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾. ( آل عمران : ١٥٩ ).
ومن هذا القسم : الدعوة إلى الدين الحق بالرفق واللطف.
كما قال تعالى :﴿ جادلهم بالتي هي أحسن ﴾. ( النحل : ١٢٥ ).
٢ – الأمر بالعرف :
وهو المعروف والجميل من الأفعال : وهو كل ما أمر به الشرع، وتعارفه الناس من الخير، واستحسنه العقلاء ؛ فالمعروف اسم جامع لكل خير.
ولا يذكر المعروف في القرآن إلا في الأحكام المهمة ؛ مثل قوله تعالى في وصف الأمة الإسلامية :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾. ( آل عمران : ١١٠ ).
وفي تبيان الحقوق الزوجية قال تعالى :﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهم درجة ﴾. ( البقرة : ٢٢٨ ).
وأمر المعروف حتى في حالات الفرقة والطلاق. قال تعالى : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ( البقرة : ٢٢٩ ).
" ويشمل المعروف الخير الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال، والذي تلتقي عليه الفطر السليمة، والنفوس المستقيمة ؛ والنفس حين تعتاد هذا المعروف ؛ يسلسل قيادها بعد ذلك ؛ وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف " ٨٧.
٣-الإعراض عن الجاهلين :
ويشمل تجاهلهم، وعدم الرد عليهم، أو الدخول معهم في خصومة وجدل، كما يشمل كظم الغيظ والمقابلة بالصفح والعفو.
قال تعالى في وصف المؤمنين :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ﴾. ( آل عمران : ١٣٤ ).
وقال تعالى في فضيلة العفو :﴿ وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم ﴾( البقرة : ٢٣٧ ).
من كلام المفسرين
١ – جاء تفسير المنار :
فأنت ترى أن المعروف في هذه الآية معتبرة في هذه الأحكام المهمة، وأن المعروف هو المعهود بين الناس في المعاملات والعادات، ومن المعلوم بالضرورة أنه يختلف باختلاف الشعوب، والبيوت والبلاد والأوقات، فتحديده وتعيينه باجتهاد بعض الفقهاء بدون مراعاة عرف الناس، مخالف لنص كتاب الله تعالى، ولشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيره من فقهاء الحديث والحنابلة أقوال حكيمة في المعروف ؛ منها : أنه يجب على كل من الزوجين من أعمال البيت والأسرة ما جرى العرف به.
وأنه إذا كان من المعروف عن بعض البيوت أنهن لا يزوجن بناتهن لمن يتزوج عليهن ويضارهن، كان هذا كالشرط ؛ فلا يجوز للرجل أن يتزوج على المرأة منهن٨٨.
٢ – جاء في هامش زاد المسير لابن الجوزي نشر المكتب الإسلامي ما يأتي :
روى البخاري ٨/ ٢٢٩ : أن ابن عباس قال : قدم عيينة بن حصين ابن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدينهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبابا، فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال : سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس : فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال : هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل ؛ فغضب عمر حتى هم به، فقال الحر : يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ﴾. وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها وكان وقافا عند كتاب الله٨٩.
٣ – من التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي :
وهذه المبادئ الثلاثة هي أصول الفضائل ومكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان مع الغير.
قال عكرمة : لما نزلت هذه الآية، قال عليه الصلاة والسلام : يا جبريل، ما هذا ؟ قال : إن ربك يقول : هو أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك٩٠.
وروى الطبري وغيره عن جابر مثل ذلك :
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه : أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها٩١.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن : قال علماؤنا : هذه الآية من ثلاث كلمات، قد تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات، حتى لم يبق فيها حسنة إلا أوعتها، ولا فضيلة إلا شرحتها، ولا أكرومة إلا افتتحتها٩٢.
التفسير :
﴿ ٢٠٠ - وإما ينزغنك من الشيطان نزغ استعذ بالله أنه سميع عليم ﴾.
جاء في تفسير الطبري وابن كثير، عن عبد الرحمان بن زيد بن أسلم قال :
لما نزلت خذ العفو قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا رب كيف بالغضب ؟ " ٩٣ فنزلت هذه الآية.
والمعنى : وأن يوسوس لك الشيطان أيها المؤمن وسوسة شديدة، ويدفعك إلى فعل الشر والإفساد دفعا قويا فاستعذ بالله أي : فالتجئ إلى الله، وتحصن واستعن به، على دفع وساوس الشيطان ونزغاته، إنه سميع عليم، يسمع دعاء الداعين، ويستجيب للمؤمنين.
وهو سبحانه عليم بسفاهة الجاهلين، وحسب المؤمن أن الله يسمع دعاءه ونداءه ويحيط بكل ما حوله ؛ فإن العبد إذا التجأ إلى الله، دخل في مقام العبودية الخالصة ؛ فيتحصن بها من الشيطان.
قال تعالى :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾. ( الأعراف : ٢٠١ ).
وقال سبحانه وتعال :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾.
ويلاحظ ابن كثير عند تفسير قوله تعالى :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ﴾.
إنه ما من مرة ورد الأمر بالاستعاذة من شيطان الجن ؛ إلا وكان في سياقها الإرشاد إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف، أي : بالتي هي أحسن، فإن ذلك يكفّه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى، ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به، من شيطان الجن، فإنه لا يكفّه عنك الإحسان، وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية، فإنه عدو لك ولأبيك من قبلك.
جاء في تفسير المنار :
النزغ كالنسغ والنخس والنخز والنكز والوكز والهمز : ألفاظ متقاربة، وأصله : إصابة الجسد برأس شيء محدد، كالمهما والرمح.
والمراد من نزغ الشيطان : إثارة داعية الشر والفساد ؛ في غضب أو شهوة حيوانية، أو معنوية، بحيث تقتحم صاحبها إلى العمل بتأثيرها، كما تنخس الدابة بالمهماز لتسرع.
وحكمة إخبار الله تعالى إيانا على ألسنة رسله بهذا العالم الغيبي المعادي لنا، الضار بأرواحنا، أن نراقب أفكارنا وخواطرنا، فمتى فطنا بميل من أنفسنا إلى الشر أو الباطل، عالجناه بما وصفه الله تعالى بقوله :﴿ فاستعذ بالله أنه سميع عليم ﴾.
أي : الجأ إلى الله بقلبك ولسانك، فإنه تعالى يستجيب لك ويصرف عنك وسوسة الشيطان.
قال تعالى :{ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. ( النحل : ٩٨، ٩٩ ).
والخطاب في هذه الآية وأمثالها من آيات التشريع ؛ موجه إلى كل مكلف وأولهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المفسرين من يقول : إنه هنا للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ والمراد : أمته... والمختار عندي الآن : عصمته صلى الله عليه وسلم من نزغ الشيطان بدليل ما ورد في صحيح مسلم : " ما منكم أحد إلا وقد وكّل به قرينه من الجنّ ؛ قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم " ٩٤.
المفردات :
مسهم : أي : أصابهم.
طائف : أي : خاطر.
التفسير :
﴿ ٢٠١ - إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾.
إن مس الشيطان ظلمة، والالتجاء إلى الله نور وهداية، والإنسان في هذه الحياة فيه لمّة للملك يأمره بالخير ويساعده لعيهن ولمّة للشيطان يوسوس له بالشر ويحثه عليه.
قال تعالى :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ﴾. ( البقرة : ٢٦٨ ).
وتفيد الآية : أن الذين اتقوا ربهم، وامتثلوا أوامره ؛ من عادتهم أنهم إذا نالهم خاطر من خواطر الشيطان ؛ وأصابتهم منه وسوسة وتزيين للمعاصي، تذكروا مقام ربهم، واستحضروا هيبته وجلاله، ووعده ووعيده ؛ فإذا هم مبصرون بنور ربهم طريق الهدى والرشاد.
وإن الإنسان ليشعر بتنازع دواعي الخير والشرّ في نفسه، وقوي الروح بالإيمان والتقوى غير قابل لتأثير الشيطان في نفسه، لكن الشيطان دائما يتحين الفرص، وعروض بعض الأهواء النفسية، من شهوة أو غضب أو داعية حسد أو انتقام، حتى إذا وجد الفرصة سانحة افترصها، ولا بس النفس وقوّى فيها داعي الشر.
فإذا تنبه المؤمن لذلك ؛ استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ولاذ بحصن الله واستعان بالدعاء والإيمان ومن دعاء النبوة : " اللهم آت نفسي تقواها وزكاها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها " ٩٥.
الغي : الضلال والفساد.
التفسير :
﴿ ٢٠٢ – وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ﴾.
بعد أن نبه الله تعالى، وحذر من وسوسة شياطين الجن، جاءت هذه الآية للتحذير من إخوانهم شياطين الإنس.
أي : وإخوانهم شياطين الإنس، مثلهم في الإفساد، يساعدونهم في الإغواء يزالون يعضدونهم بتزيين المعاصي لبعض الناس.
ثم لا يقصرون.
أي : لا يمسكون عن إغوائهم، حتى يصر من وقع في حبائلهم على تنفيذ غوايتهم، وسلوك طريق الضلال.
جاء في ظلال القرآن :
" وإخوانهم الذين يمدونهم في الغي هم شياطين الجن، وقد يكونون هم شياطين الإنس أيضا... أنهم يزيدون لهم في الضلال، لا يكلّون ولا يسأمون ولا يسكتون، وهم من ثم يحمقون ويجهلون، ويظلون فيما هم فيه. "
وجاء في تفسير المراغي : وهو مختصر من تفسير المنار – ما يأتي :
﴿ وإخوانهم يمدونهم في الغي لا يقصرون ﴾.
أي : أن إخوانهم الشياطين – الذين لا يتقون الله – يتمكن الشياطين من إغوائهم، فيمدونهم في غيهم وإفسادهم ؛ لأنهم لا يذكرون الله إذا شعروا بالنزوع إلى الشر، ولا يستعيذون به من نزغ الشيطان ومسه.
والخلاصة : أن المؤمنين إذا مسهم طائف من الشيطان يحملهم على المعاصي ؛ تذكروا فأبصروا، وحذروا فسلموا وإن ذلوا ؛ تابوا وأنابوا.
وإن إخوانهم الشياطين، تتمكن الشياطين من إغوائهم ؛ فيمدونهم في غيهم، ولا يكفون عن ذلك، ومن ثم تراهم يستمرون في شرورهم وآثامهم لفقد الوازع النفسي٩٦.
المفردات :
اجتبيتها : طلبتها.
بصائر : ما تبصر به عقولكم من الآيات.
التفسير :
﴿ ٢٠٣ - وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآية قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا... ﴾ الآية.
كان المشركون لا يكفون عن طلب الخوارق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية تحكي بعض أقوالهم ؛ الدالة على جهلهم بطبيعة الوحي والرسالة ؛ فقد كانوا يتصورون أن في مقدرة النبي معرفة الغيب ؛ أو الاقتراح على الله أن ينزل بعض المعجزات، أو بعض الآيات من القرآن.
ومعنى الآية :
وإذا لم تأت أيها الرسول أهل مكة بآية مما اقترحوا حدوثه، أو بآية من القرآن.
﴿ قالوا لولا اجتبيتها ﴾.
أي : لولا ألححت على ربك حتى ينزلها !...
أو هلا فعلتها أنت من نفسك ؟ ألست نبيّا ؟ !
﴿ قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ﴾.
أي : إنما أنا بشر يتلقى الوحي، ولا يطلب ولا يقترح ؛ فإن الله هو الذي ينزل الوحي وهو العليم الحكيم الخبير بما يحتاج إليه العباد.
ونظير ذلك قوله تعالى :{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقائي نفسي أن أتبع إلا ما يوحي إلي إني أخاف أن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. ( يونس : ١٥ ).
ثم نبههم الحق تعالى، إلى هذا القرآن أعظم المعجزات، وكأنه يقول لهم : ما لكم تطلبون شيئا لا يفيدكم ؟ وإنما لديكم هذا القرآن الذي يشتمل على آيات الله الكونية ويرشد إلى الهوى، وينير الطريق للسالكين.
﴿ هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾.
أي : خذ القرآن بصائر وحجج ناهضة من ربكم ؛ يعود من تأملها وعقلها بصير بما تدل عليه من الحق ؛ إذ هي أدلّ عليه من الآيات الكونية التي تطلبونها.
قال تعالى :﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ﴾. ( الأنعام : ١٠٤ ).
﴿ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾.
وهذا القرآن هذى للحيارى إلى طريق الاستقامة ؛ وهو أيضا رحمة في الدنيا والآخرة لمن يؤمن به، فمن آمن به وعمل بأحكامه ؛ فهو من المفلحين.
قال تعالى :﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ﴾. ( الأنعام : ١٥٥ ).
جاء في التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي :
هذا القرآن أعظم المعجزات، وأبين الدلالات وأصدق الحجج والبينات فهو متصف بخصائص ثلاث :
١ – مبصّر بالحق في دلالاته على التوحيد والنبوة والمعاد، وتنظيم الحياة بأحسن التشريعات.
٢ – هاد ومرشد إلى طريق الاستقامة.
٣ – رحمة في الدنيا والآخرة للمؤمنين به.
وجاء في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب ما خلاصته :
إنه هذا القرآن بصائر تهدى، ورحمة تفيض... لمن يؤمن به ويغتنم هذا الخير العميم.
إنه هذا القرآن الذي لا تبلغ خارقة مادّية من الإعجاز ما يبلغه... من أي جانب من الجوانب شاء الناس.
هذا جانبه التعبيري كان وما يزال إلى اليوم معجزا لا يتطاول إليه أحد في البشر، تحدّاهم الله به وما يزال هذا التحدّي قائما...
ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد... ويبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة، متى خلى بينه وبينها لحظة...
منهج هذا القرآن العجيب في مخاطبته الكينونة البشرية بحقائق الوجود، وهو منهج يواجه هذه الكينونة بجملتها...
منهج هذا القرآن العجيب، وهو يتناول قضايا الوجود، فيكشف منها ما تتلقاه فطرة الإنسان وقلبه وعقله بالتسليم المطلق.
منهج هذا العجيب في النظرة الكلية في هذا الوجود وطبيعته، وحقيقته ونشأته، في النظرة الكلية إلى الإنسان ونفسه وأصله ونشأته، وطبيعة تركيبه وانفعالاته واستجاباته وأحواله، تلك الموضوعات التي تطرق جوانب منها علوم الحياة والنفس والتربية والاجتماع والعقائد والأديان... ٩٧
فاستمعوا : فاقصدوا سماعه.
وأنصتوا : واسكتوا متأملين معناه.
التفسير :
﴿ ٢٠٤ – وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ﴾.
المعنى : وإذا قرئ القرآن فأصغوا إليه أسماعكم لتفهموا آياته وتتعظوا بمواعظه، وأنصتوا له عن الكلام، مع السكون والخشوع ؛ لتعقلوه وتتدبروه، ولتتوصلوا بذلك إلى رحمة الله، بسبب تفهمه، والاتعاظ بمواعظه.
والآية تدل على وجوب الاستماع والإنصات، سواء أكانت التلاوة في الصلاة، أم في خارجها، وهي عامة في جميع الأوضاع كل الأحوال، ويتأكد ذلك في الصلاة المكتوبة، إذا جهر الإمام بالقراءة.
القراءة خلف الإمام
تفيد الآية وجوب الإنصات للقرآن ومحاولة الفهم والتدبر ؛ حتى يخشع القلب ويستقر الإيمان، وهذه الأمور من وسائل رحمة الله وهدايته، سواء كانت القراءة في الصلاة أم في خارجها. لكن اختلف العلماء على ثلاثة آراء في قراءة المأموم خلف الإمام ؛ هل يسقط عن المأموم فرض القراءة في الصلاة الجهرية والسرية، أو يجب، وهل الوجوب خاص في السرية دون الجهرية.
١ – ذهب الحنفية : إلى أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام مطلقا، جهرا كان يقرأ أم سرا ؛ لظاهر الآية، ولما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا ".
وفي كتب الفقه عند الحنفية " ولا يقرأ المؤتم بل يستمع وينصت وأن قرأ ؛ كره تحريما ".
٢ – المالكية والحنابلة : رأوه أن المأموم يقرأ خلف الإمام إذا أسر ولا يقرأ إذا جهر.
وهو قول وسط يؤيده الواقع وفقه الحديث، وأنا شخصيا أطبقه في صلاتي، وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد والزّهري.
٣ – الشافعية : يقرأ المصلى بفاتحة الكتاب مطلقا، سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا، في صلاة جهرية أو سرية.
لما رواه الجامعة وأحمد وأصحاب الكتب الستة ؛ عن عبادة الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " ٩٨.
القرآن اليوم
إن المسلمين في أمس الحاجة إلى تلاوة القرآن وتدبره، وتدريب أبنائهم وبناتهم وزوجاتهم على تلاوة القرآن الكريم، ساعة في كل يوم ؛ وهذا طريق للهداية والإيمان ؛ كما يجب الإنصات إلى القارئ في المحافل والمآثم، " وما يفعله جماهير الناس في المحافل التي يقرأ فيها القرآن ؛ كالمآثم وغيرها، من ترك الاستماع والاشتغال بالأحاديث المختلفة، فمكروه كراهة شديدة، ولا سيما لمن كانوا على مقربة من القارئ٩٩ ".
" ويجب على كل مؤمن بالقرآن أن يحرص على استماعه عند قراءته، كما يحرص على تلاوته، وأن يتأدب في مجلس التلاوة... ".
وتستحب القراءة بالترتيل والنغم الدالة على التأثير والخشوع من غير تكلف ولا تصنع.
روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن١٠٠ "
وأذن هنا بمعنى : استمع أو سمع. وروى البخاري عن أبي هريرة مرفوعا " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " ١٠١ وستحب البكاء عند القراءة والخشوع، وإلا فالتباكي والتخشع، وأن يستعيذ بالله قبلها، ويدعو الله في أثنائها، بجسب معأني الآيات. كسؤال الرحمة عند ذكرها، والاستعاذة من العذاب عند ذكره. " وكان أنس رضي الله يجمع أهله وولده عند ختم القرآن " فاستحبوا الاقتداء به١٠٢.
في أعقاب الآية :
جاء في ظلال القرآن ما خلاصته :
" تختلف الروايات المأثورة في موضع الأمر بالاستماع والإنصات ؛ إذا قرئ القرآن... بعضهم يرى موضع هذا الأمر هو الصلاة المكتوبة حين يجهر الإمام بالقرآن، فيجب أن يستمع المأمور وينصت. "
وبعضهم يرى أن هذا كان توجيها للمسلمين ؛ ألا يكونوا كالمشركين ؛ حين قالوا :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾. ( فصلت : ٢٦ ).
وبعضهم يرى أنها في الصلاة وفي الخطبة، كذلك في الجمع والعيدين.
وقال القرطبي في التفسير : قال النقاش : أجمع أهل التفسير، أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة، ونحن نرى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؛ والأقرب أن يكون ذلك عاما لا يخصصه شيء ؛ فالاستماع إلى هذا القرآن، والإنصات له حيثما قرئ هو الأليق بجلال هذا القول، وبجلال قائله سبحانه١٠٣.
تضرعا : تذللا.
وخيفة : وخوفا.
الغدو : أول النهار.
الآصال : جمع أصيل : وهو آخر النهار والمقصود من الغدو والآصال هنا : جميع الأوقات.
التفسير :
﴿ ٢٠٥ – واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ﴾.
تكمل هذه الآية مع ما سبقها منهج حياة المسلم، وكيف سما القرآن بنفوس العرب، فجعل حياتهم وسلوكهم في هدى القرآن وذكر الرحمان.
والآية السابقة أمرت المسلمين بالاستماع والإنصات للقرآن، فلعل آية واحدة يتأمل فيها المسلم أو يستمتع وينصت، تفتح له أبوابا من فضل الله ورحمته.
والآية معنا توصى بالآتي :
ينبغي أن يذكر المؤمن ربّه سرا في نفسه بذكر أسمائه وصفاته ونعمائه وفضله حتى يعترف بشكره كما ينبغي أن يذكره ضارعا متذللا ؛ خائفا راجيا ثوابه وفضله، وينبغي أن ينوع ذكره لله ؛ فمرة سرا وفكرا ومرة ذكرا متوسطا بين الإسرار والجهر وفي كل حال ينبغي أن يكون ذكر اللسان مقرونا باستحضار القلب، وملاحظة المعاني، فذكر اللسان وحده ضعيف الأثر، والواجب الجمع بين ذكر القلب وذكر اللسان، وأن يكون الذاكر راغبا في الثواب راهبا من العقاب.
وفي معنى الآية يقول الله تعالى :﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ﴾. ( الإسراء : ١١٠ ).
وقال سبحانه وتعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا ﴾. ( الأحزاب : ٤١ ؛ ٤٢ ).
وقال سبحانه :﴿ واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ﴾. ( الإنسان : ٢٥ ).
الغدو والآصال
الغدو : جمع غدوة : وهي ما بين صلاة الغداة( الفجر ) إلى طلوع الشمس.
الآصال : جمع أصيل : وهو العشيّ ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، والمقصود : الذكر أوائل النهار وأواخره، أي : في كل وقت.
إن القرآن بذلك يحرّك القلوب للنظر في ملكوت السماوات والأرض، ولذكر الله عند بروق الفجر وانتشار الضوء وظهور النور في الأفق، وهذه آية يذكر المؤمن فيها ربه.
قال تعالى :﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب * ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ﴾. ( ق : ٣٩، ٤٠ ).
أي : اذكر ربك في كل حين خصوصا عند انبلاج الصبح قبل شروق الشمس وعند الأصيل قبيل الغروب، وفي ظلام الليل ورؤية النجوم، وبعد الصلاة والسجود.
وبهذا يظل قلب المؤمن متعلقا بفضل الله فالذكر نعمة وتذكر.
قال تعالى :﴿ والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾. ( الأحزاب : ٣٥ ).
في أعقاب الآية :
روى عن ابن عباس أنه قال : يعني بالغدوّ : صلاة الفجر، والآصال : صلاة العصر. اه.
وقد ورد في الصحيح : تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة العصر وفي صلاة الفجر، اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى : إن قرآن الفجر كان مشهودا١٠٤. ( الإسراء : ٧٨ ).
الأفضل في الذكر التوسط وعدم الجهر، وكذلك في الدعاء.
قال تعالى في الآية : ودون الجهر من القول. يقال : رجل جهير الصوت ؛ إذا كان صوته عاليا.
روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس، أربعوا على أنفسكم أنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم " ١٠٥. وفي الأثر " خير الذكر الخفي ".
إن الملائكة المقربين من الله تعالى، لا يتكبرون عن عبادة الله، وينزهونه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه، وله وحده يصلّون ويسجدون فلا يشركون معه أحدا.
وهذا تذكير بفعل الملائكة ؛ لنقتدي بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم.
إن العبادة وذكر الله عنصر أساسي في منهج هذا الدين، إنه ليس مجرد معرفة نظرية، إنه منهج حركة واقعية، ولذلك يحتاج إلى العبادة والذكر والصبر والسلوك والإيمان، فإنها زاد الطريق إلى مرضاة الله رب العالمين، وقد شرع الله لنا السجود عند تلاوة هذه الآية الأخيرة ؛ من سورة الأعراف أو عند سماعها ؛ إرغاما لمن أبى ذلك من المشركين، واقتداء بالملائكة المقربين.
ومثلها آيات أخرى في القرآن مجموعها ١٤ آية ؛ ينبغي للمسلم أن يسجد للتلاوة عند قراءتها أو سماعها.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سجود التلاوة : " اللهم لك يجد سوادي، وبك آمن فؤادي، اللهم ارزقني علما ينفعني، وعملا يرفعني " ١٠٦.