تفسير سورة الأعراف

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

اتباع القرآن الكريم
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣)
الإعراب:
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ كِتابٌ إما خبر المص على قول من جعله مبتدأ، أي أنا الله أفصل، وإما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا كتاب، والثاني أولى.
لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ اللام متعلقة بأنزل، وتقديره: كتاب أنزل إليك لتنذر به، وفصل بينهما بقوله: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ. وَذِكْرى إما مرفوع عطفا على كِتابٌ، أو خبر مبتدأ تقديره: هذه ذكرى وإما منصوب عطفا على موضع لِتُنْذِرَ بِهِ أي إنذارا وذكرى، أو عطفا على موضع هاء بِهِ وإما مجرور عطفا على لِتُنْذِرَ بمعنى:
للإنذار والذكرى.
قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ قَلِيلًا منصوب بفعل تَذَكَّرُونَ، وما زائدة، وتقدير النصب من وجهين: إما لأنه صفة لمصدر محذوف تقديره: تذكرون تذكرا قليلا، أو لأنه صفة لظرف زمان محذوف، تقديره: زمانا قليلا.
البلاغة:
حَرَجٌ مِنْهُ أي ضيق من تبليغه، ففيه حذف مضاف.
مِنْ رَبِّكُمْ وصف الربوبية مع الإضافة لضمير المخاطبين فيه إشعار بمزيد اللطف بهم، وترغيب في امتثال الأوامر.
المفردات اللغوية:
المص تقرأ كما تقرأ الحروف الأبجدية، أي ألف، لام، ميم، صاد، وقد ذكرت في أول سورة البقرة ومثلها آل عمران: أن هذه الحروف المقطعة يراد من افتتاح السور بها الإشارة إلى أن القرآن الكريم مركب من هذه الحروف العربية وأمثالها، فهل يستطيع العرب المعروفون بالفصاحة
136
والبلاغة الإتيان بمثله، وبما أنهم قد عجزوا، فيدل ذلك على أنه كلام الله، فحكمتها بيان إعجاز القرآن، وتنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه من أحكام.
والغالب أن السور التي بدئت بها وبذكر الكتاب مثل: «مريم والعنكبوت والروم وص ون» هي سور مكية لدعوة المشركين إلى الإسلام وإثبات النبوة والوحي. وأما السور المدنية التي بدئت بها كالبقرة وآل عمران (الزهراوين) فالدعوة فيها موجهة إلى أهل الكتاب.
حَرَجٌ ضيق مِنْهُ من تبليغه، مخافة أن يكذبك الناس لِتُنْذِرَ متعلق بأنزل أي للإنذار به وَذِكْرى تذكرة نافعة وموعظة حسنة مؤثرة. قَلِيلًا ما ما حرف يؤكد معنى القلة تَذَكَّرُونَ أصله: تتذكرون.
التفسير والبيان:
بدأ الله تعالى هذه السورة المكية بالحروف الأبجدية المقطعة كغيرها من السور التي نزلت بمكة لإثبات النبوة والوحي.
هذا القرآن كتاب عظيم الشأن، أنزل إليك يا محمد من عند ربك، بقصد الهداية والخير، ووصفه بالإنزال للدلالة على عظيم قدره وقدر من أنزل عليه. فلا يكن في صدرك ضيق من الإنذار به وتبليغه للناس، وتذكير أهل الإيمان به ذكرى تنفعهم وتؤثر فيهم.
ومن المعلوم أن كل نبي ومصلح يلقى عادة إيذاء ومقاومة لدعوته، وصدودا وإعراضا عن رسالته، وما على الداعية إلا الصبر والمثابرة ومتابعة الطريق:
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف ٤٦/ ٣٥]. لذا كان المراد من هذا النهي شد العزيمة والاجتهاد في مقاومة الصعاب، وتحمل الشدائد، انتظارا لما عند الله على ذلك من وعد بالخير والفضل.
وبما أن هذا الكتاب ذو مهام خطيرة، فقد خاطب الله تعالى العالم بقوله:
اتبعوا أيها الناس ما أنزل إليكم من ربكم رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره وراعيه، فهو وحده صاحب الحق في التشريع وفرض العبادات والتحليل
137
والتحريم لأنه العليم بما هو مصلحة، الخبير بما هو مضرة لكم، فلا يشرع إلا الخير والسداد.
ولا تتبعوا من دون الله أولياء، كأنفسكم أو الشياطين التي توسوس لكم بما فيه الضرر والخطر، والضلال والفساد، والشر والسوء، والإيهام بأن الأصنام شركاء ذات تأثير عند الله، مع أنها أحجار لا تضر ولا تنفع، أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره، فتكونوا قد عدلتم عن الحق إلى الضلال، وعن حكم الله إلى حكم الشيطان والأهواء. ولكنكم تتذكرون قليلا، وتنسون الواجب عليكم نحو ربكم، وهذا مثل قوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف ١٢/ ١٠٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، والعقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا بطريق الوحي من عند الله تعالى لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمي لا يقرأ ولا يكتب ولأنه كلام معجز لا يصدر عن بشر ولأن الأحداث ومرور الأزمنة تثبت تفوقه وصلاحه لكل الأوقات، وهذا لا يمكن أن يتصف به تشريع وضعي.
٢- واجب النبي صلّى الله عليه وسلّم وسائر الأنبياء تبليغ الوحي المنزل، وأما النتائج والآثار وانتصار الدعوات الإلهية فمردها إلى الله تعالى. وقد سرّى الله عن نبيه فنهاه عن أن يضيق صدره لعدم الإيمان به، فإنما عليه البلاغ، وليس عليه سوى الإنذار به، من شيء من إيمانهم أو كفرهم، كقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الكهف ١٨/ ٦] وقوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء ٢٦/ ٣].
138
٣- المقصود بالقرآن إنذار الكافرين والعصاة بسبب إعراضهم عنه، وتذكير المؤمنين به لأنهم المنتفعون به.
٤- الأمر العام لجميع الناس باتباع ملة الإسلام والقرآن، وإحلال حلاله، وتحريم حرامه، وامتثال أمره، واجتناب نهيه.
واتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم داخل في ذلك لأن الله تعالى أمرنا باتباعه وطاعته بقوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل ١٦/ ٤٤] فدلت الآية على وجوب اتباع الكتاب والسنة.
٥- تحريم اتباع أحد من الخلق في الدين، كما فعل أهل الكتاب في طاعة رهبانهم: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣١].
٦- ترك اتباع الآراء الشخصية أو الاجتهادية مع وجود النص الشرعي.
٧- المنع من عبادة أحد مع الله، واتخاذ من عدل عن دين الله وليا، علما بأن كل من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه.
عاقبة تكذيب الرسل في الدنيا
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤ الى ٥]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥)
الإعراب:
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها... كَمْ مبتدأ، وجملة: أَهْلَكْناها صفة لقرية.
وفَجاءَها بَأْسُنا خبر المبتدأ، ومعنى: أَهْلَكْناها: قارب إهلاكنا إياها. حتى لا يكون تكرار مع قوله: فَجاءَها بَأْسُنا. ويجوز أن تكون كَمْ في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه: فَجاءَها بَأْسُنا، لا أهلكنا لأن أهلكنا صفة، والصفة لا تعمل في الموصوف.
139
وبَياتاً منصوب على المصدر في موضع الحال.
أَوْ هُمْ قائِلُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من أهل القرية.
البلاغة:
فَجاءَها على حذف مضاف تقديره: فجاء أهلها، لقوله: أَوْ هُمْ قائِلُونَ ولا حاجة لتقدير المضاف الذي هو الأهل قبل قَرْيَةٍ أو قبل الضمير في أَهْلَكْناها لأن القرية تهلك كما يهلك أهلها.
بَياتاً... وقائِلُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَكَمْ اسم يفيد التكثير، وهي خبرية قَرْيَةٍ مكان اجتماع الناس، أو الناس أنفسهم أَهْلَكْناها أردنا إهلاكها أو قاربنا إهلاكها. بَأْسُنا عذابنا بَياتاً ليلا، البينات:
الإغارة على العدو ليلا، والإيقاع به على غرّة قائِلُونَ نائمون بالظهيرة، من القيلولة: وهي استراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم، أي مرة جاءها ليلا، ومرة جاءها نهارا.
دَعْواهُمْ قولهم ودعاؤهم.
المناسبة:
لما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام بالإنذار والتبليغ، وأمر القوم بالقبول والاتباع، ذكر في هذه الآية ما يترتب على المخالفة من عقاب ووعيد، من طريق التذكير بإهلاك الأمم السابقة، لمخالفتهم الرسل وتكذيبهم.
التفسير والبيان:
كثير من القرى وأهلها أهلكناهم بمخالفة رسلنا وتكذيبهم، فجاءهم العذاب أو الهلاك مرة ليلا كقوم لوط، ومرة نهارا كقوم شعيب، أتاهم العذاب على غرّة أو حين القيلولة: وهي الاستراحة وسط النهار، وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ
140
أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى، وَهُمْ يَلْعَبُونَ
[الأعراف ٧/ ٩٧- ٩٨] وقال:
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ، فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ
[النحل ١٦/ ٤٥- ٤٧].
فما كان قولهم عند مجيء العذاب، إلا أن اعترفوا بذنوبهم، وأنهم حقيقون بهذا، أي لم يصدقوا بشيء عند الإهلاك إلا بالإقرار بأنهم كانوا ظالمين.
قال ابن جرير: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قوله: «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى الآتي:
١- إن عصيان أوامر الرسل وتكذيبهم موجب للخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. وعذاب الدنيا يأتي في وقت الغفلة واللهو، إما ليلا أو حين القيلولة نهارا.
٢- كل مذنب حين توقيع العقاب الدنيوي عليه يعترف بجرمه، ويندم على ما فرط منه.
٣- المقصود بالآية الإنذار والتخويف والعبرة بما حل بالأمم السابقة، فيحملهم الخوف على إصلاح أمورهم، والإقلاع عن معاصيهم: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد ١٣/ ١١].
٤- الجزاء أو العقاب الإلهي في الدنيا حق وعدل ومطابق للواقع، ولا يجيء العذاب إلا بعد العصيان وإعذار الناس من أنفسهم.
141
عاقبة الكفر في الآخرة والحساب الدقيق على الأعمال
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦ الى ٩]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
الإعراب:
اللام في فَلَنَسْئَلَنَّ وفَلَنَقُصَّنَّ لام القسم، المراد بها التوكيد.
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ: الْوَزْنُ مبتدأ، ويَوْمَئِذٍ خبره.
والحق: مرفوع من ثلاثة أوجه: إما لأنه صفة للوزن، أو لأنه بدل من الضمير المرفوع في الظرف الذي هو خبر للمبتدأ، أو لأنه خبر عن المبتدأ، ويَوْمَئِذٍ: ظرف ملغى منصوب بالوزن.
البلاغة:
ثَقُلَتْ وخَفَّتْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي الأمم عن إجابتهم الرسل، وعملهم فيما بلغهم وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عن الإبلاغ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ لنخبرنهم عن علم بما فعلوه وَما كُنَّا غائِبِينَ عن إبلاغ الرسل، والأمم الخالية فيما عملوا.
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ للأعمال يوم القيامة الْحَقُّ العدل، صفة الوزن فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بالحسنات فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بالسيئات فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتصييرها إلى النار يَظْلِمُونَ يجحدون آيات الله.
المناسبة:
بعد أن أنذر الله تعالى المخالفين رسلهم بعذاب الاستئصال في الدنيا، أتبعه
142
بالتهديد بعذاب آخر يوم القيامة، وأبان أنه يسأل جميع الناس عن أعمالهم، سواء أهل العقاب وأهل الثواب. ولما بيّن في الآية الأولى أن من جملة أحوال القيامة:
السؤال والحساب، بيّن أن من جملة أحوال القيامة أيضا وزن الأعمال.
التفسير والبيان:
يسأل الله تعالى الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ الرسالات.
فيسأل الله كل فرد من أفراد الأمم في الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته، ويسأل الرسل عن تبليغهم وعن مدى إجابة أقوامهم لهم، وعما صدر منهم من إيمان أو كفر، فهي مسئولية تضامنية عامة كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ، فَيَقُولُ: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص ٢٨/ ٦٥] وقال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ: ماذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا: لا عِلْمَ لَنا، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة ٥/ ١٠٩] وقال: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟
[الأنعام ٦/ ١٣٠] ويوضح هذه المسؤولية بين الراعي والرعية
ما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته».
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ: نسأل الناس عما أجابوا المرسلين، ونسأل المرسلين عما بلّغوا.
143
والمراد بالسؤال حينئذ تقريع الكفار وتوبيخهم، فلما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين، سئلوا بعد ذلك عن سبب ذلك الظلم والتقصير.
والتوفيق أو الجمع بين قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن ٥٥/ ٣٩] وقوله: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص ٢٨/ ٧٨] : هو أن ليوم القيامة مواقف وأحوالا متعددة، فقد يكون السؤال والجواب في بعضها دون بعض، وقد يكون السؤال لأجل الاسترشاد والاستفادة، وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة.
وقال الرازي: إن القوم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب مشتملة عليها، ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال، وعن الصوارف التي صرفتهم عنها «١»، أي الموانع التي حالت بينهم وبين التزام الأحكام الشرعية.
فلنخبرن عن علم ومعرفة وإحاطة تامة الرسل وأقوامهم بكل ما حدث منهم، فلا يغيب عنا شيء قليل أو كثير، وإن كان مثقال ذرة من خردل في صخرة أو في السموات أو في الأرض. قال ابن عباس في آية: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ:
يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما كان يعملون.
وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم في وقت أو حال، بل كنا معهم نسمع قولهم، ونبصر فعلهم، ونعلم ما يسرون وما يعلنون، ونخبر العباد يوم القيامة بمنا قالوا وبما عملوا من قليل وكثير، وجليل وحقير لأنه تعالى الشهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء، ولا يغفل عن شيء، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، كما قال: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ
(١) تفسير الرازي: ١٤/ ٢٣ [.....]
144
الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام ٦/ ٥٩] فقوله: وَما كُنَّا غائِبِينَ يعني كنا شاهدين لأعمالهم.
وهذا دليل على أن السؤال ليس للاستعلام والاستفهام عن شيء مجهول عن الله تعالى، بل للإخبار بما حدث منهم توبيخا وتقريعا على تقصيرهم وإهمالهم.
والمخبر به هو المحاسب عنه، وهو الذي يعقبه الجزاء. ثم بيّن تعالى قانون الحساب والجزاء فقال: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ....
أي وزن الأعمال للرسل وأقوامهم والتمييز بين راجحها وخفيفها يوم القيامة يكون على أساس من الحق والعدل التام، فلا يظلم تعالى أحدا، كقوله:
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء ٢١/ ٤٧] وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء ٤/ ٤٠].
فمن ثقلت موازينه، أي رجحت موازين أعماله بالإيمان والحسنات على السيئات، فأولئك هم الفائزون بالجنة، الناجون من العذاب. والموازين جمع ميزان أو موزون، أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات أو ما توزن به حسناتهم.
ومن خفت موازين أعماله بسبب كفره وكثرة سيئاته، فأولئك الذين خسروا أنفسهم، إذ حرموها السعادة والفوز بالنعيم الأبدي، وصيروها إلى عذاب النار.
والفريق الأول وهم المؤمنون على تفاوت درجاتهم في الأعمال هم المفلحون، وإن عذاب بعضهم بقدر ذنوبه، والفريق الثاني وهم الكافرون على تفاوت دركاتهم هم الخاسرون حقا.
145
وهذا المعنى مكرر في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ: نارٌ حامِيَةٌ [القارعة ١٠١/ ٦- ١١].
والذي يوضع في الميزان يوم القيامة: هو الأعمال، وهي وإن كانت أعراضا معنوية إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما، كما يروى عن ابن عباس.
جاء في حديث البراء في قصة سؤال القبر: فيأتي المؤمن شاب حسن اللون، طيّب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح»
وفي حديث آخر أخرجه ابن ماجه والنسائي وابن خزيمة عن ابن مسعود: يتمثل المال الذي لم تؤدّ زكاته لصاحبه بصورة ثعبان شجاع أقرع له زبيبتان، ثم يأخذ بلهزمتيه ويقول:
أنا مالك، أنا كنزك، ونصه: «ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع حتى يطوّق به عنقه، ثم قرأ النّبي صلّى الله عليه وسلّم: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران ٣/ ١٨٠] الآية.
والدليل على أن الأعمال هي التي توزن:
ما أخرجه أبو داود والترمذي عن جابر مرفوعا: «توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة، دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة، دخل النار، قيل: ومن استوت حسناته وسيئاته؟ قال:
أولئك أصحاب الأعراف»
.
ونقل القرطبي عن ابن عمر أن التي توزن: صحائف أعمال العباد. وعقب عليه بقوله: وهذا هو الصحيح، وهو الذي
ورد به الخبر وهو: «أن ميزان بعض بني آدم كاد يخف بالحسنات، فيوضع فيه رقّ مكتوب فيه: لا إله إلا الله، فيثقل»
فدل على وزن ما كتب فيه الأعمال، لا نفس الأعمال، وأن الله سبحانه يخفّف الميزان إذا أراد، ويثقله إذا أراد بما يوضع في كفّتيه من الصحف التي فيها الأعمال.
146
وهل هناك ميزان حقيقة؟ اختلف العلماء، فقال مجاهد والضحاك والأعمش: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذكر الوزن ضرب مثل كما تقول: هذا الكتاب في وزن هذا وفي وزانه، أي يعادله ويساويه، وإن لم يكن هناك وزن، أي أن المراد ظهور العدل التام في تقدير الجزاء على الأعمال.
وقال الجمهور: هناك وزن حقيقي وميزان، لإظهار علم الله تعالى بأعمال عباده وجزائهم عليها. قال الزجّاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفّتان، ويميل بالأعمال.
والأولى في الغيبيات أن نؤمن بها كما وردت في القرآن والسنة، ونترك البحث عن صورتها وكيفيتها إلى الله عز وجل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى: فَلَنَسْئَلَنَّ... على أن الكفار يحاسبون، جاء في التنزيل: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [الغاشية ٨٨/ ٢٦] بل إن المسؤولية أو الحساب شيء عام لجميع العباد حتى الرسل: وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وسؤال الرسل سؤال استشهاد بهم وإفصاح أي عن جواب القوم لهم، وهو معنى قوله: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب ٣٣/ ٨] وسؤال القوم سؤال تقرير وتوبيخ وإفضاح، فهذه الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا رسلا أو مرسلا إليهم.
وأما قوله تعالى في سورة القصص: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [٧٨] فهو إذا استقروا في العذاب. والآخرة مواطن: موطن يسألون فيه للحساب، وموطن لا يسألون فيه.
وقوله تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ يدل على أنه تعالى عالم بالعلم، وأن قول من يقول: إنه لا علم لله قول باطل.
147
وقوله تعالى: وَما كُنَّا غائِبِينَ يدل على وجود المراقبة والمشاهدة الإلهية لأعمال الخلائق.
والخلاصة: هذه الآية تثبت وجود السؤال والحساب لكل العباد يوم القيامة.
وأرشدت الآية الثانية إلى وزن أعمال العباد بالميزان، وهو الحق لخبر جابر المتقدم، وقيل: وزن صحائف أعمال العباد، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح.
والمراد من الميزان في قول مجاهد والضحاك والأعمش: العدل والقضاء، والمراد به في رأي الجمهور: الميزان الحقيقي لإظهار علم الله تعالى بأعمال عباده وعدله في حسابهم وجزائهم عليها، فمن رجحت حسناته على سيئاته فهو من الناجين، ومن رجحت سيئاته على حسناته، فهو من الهالكين المعذبين. قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفّتان فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفة الميزان، فتثقل حسناته على سيئاته فذلك قوله:
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة، فيوضع في كفّة الميزان، فيخف وزنه حتى يقع في النار.
كثرة نعم الله على عباده
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠)
الإعراب:
مَعايِشَ مفعول جَعَلْنا وهي جمع معيشة، وأصلها معيشة على وزن مفعلة، إلا أنه نقلت كسرة الياء إلى العين، ولا يجوز همزها لأن الياء فيها أصلية، وأصلها في الواحد أن تكون متحركة. فإن كانت زائدة أصلها في الواحد السكون، نحو كتيبة على فعلية، همزت في الجمع، فيقال: كتائب، ونحو مدائن وصحائف وبصائر. وقد قرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج «معائش» بالهمز على تشبيه الأصلية بالزائدة، وهي قراءة ضعيفة قياسا.
148
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ يا بني آدم، أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها مَعايِشَ جمع معيشة، وهي ما تكون به العيشة والحياة من المطاعم والمشارب وغيرها قَلِيلًا ما ما لتأكيد القلة تَشْكُرُونَ تلك النعم.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى الخلق بمتابعة الأنبياء عليهم السلام وبقبول دعوتهم، ثم خوفهم بعذاب الدنيا: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وبعذاب الآخرة من وجهين: السؤال والحساب: فَلَنَسْئَلَنَّ.. ووزن الأعمال: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ رغبهم في هذه الآية بقبول دعوة الأنبياء عليهم السلام عن طريق التذكير بكثرة نعم الله عليهم، وكثرة النعم توجب الطاعة.
التفسير والبيان:
أقسم الله تعالى بقوله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ ليظهر امتنانه على عبيده بكثرة إنعامه عليهم، بأن جعل الأرض لهم مكانا وقرارا، وسلطهم أو أقدرهم على التصرف فيها، وأباح لهم منافعها، وسخر لهم السحاب والمطر لإخراج أرزاقهم منها، وجعل فيها رواسي وأنهارا.
وجعل لهم فيها معايش من وجهين: إما بخلق الله تعالى ابتداء كخلق الثمار وغيرها، أو بطريق العمل والاكتساب واتخاذ الأسباب والاتجار فيها، وكلاهما في الحقيقة إنما حصل بفضل الله وإقداره وتمكينه، فيكون الكل إنعاما من الله تعالى، وكثرة النعم لا شك أنها توجب الطاعة والانقياد.
ولكن أكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أنتم قليلو الشكر على هذه النعم التي أنعمت بها عليكم، كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم ١٤/ ٣٤] وقال:
149
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ ٣٤/ ١٣].
وشكر النعمة: يكون بمعرفة الله المنعم معرفة تامة، وحمده والثناء عليه بما هو أهله، وأداء حقوق النعم وصرفها فيما خلقت من أجله، بأداء حقوق الله تعالى، واستعمال أعضاء الإنسان في مناحي الخير ورضوان الله وصرفها عن وجوه الشر والمعاصي، وبالشكر بهذا المعنى تدوم النعم ويسعد الإنسان.
فقه الحياة أو الأحكام:
التذكير بنعم الله تعالى موجب للطاعة والانقياد عند أهل الإيمان، لذا قلّ الشاكرون، وكثر الجاحدون.
ومن أجلّ النعم تمكين الإنسان من الاستقرار في الأرض والتصرف بما فيها من خيرات، والانتفاع بمنافعها الكثيرة، وقد أثبتت رحلات الطيران والفضاء، وصعود الإنسان إلى القمر وبعض الكواكب الأخرى في العصر العلمي الحديث مدى تعلق الإنسان بالأرض وحبّه لها وحنينه إليها عند بعده عنها.
ومن هذه النعم: تهيئة أسباب المعيشة في الأرض وتوفير ما يعاش به من ألوان المطاعم والمشارب وغيرها كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة ٢/ ٢٩].
وهذا يدل على أنه لم تخلق هذه النعم إلا لخير الإنسان، والحفاظ على الحياة البشرية، فردا أو جماعة، فأحرى بنا أن تكون هذه الحياة الجسدية أو المادية سببا أو عونا على تزكية الحياة الروحية وتطهير النفس، وإعدادها للحياة الأخروية الأبدية.
فما أسعد أهل الإيمان والطاعة بالتزام الأوامر الإلهية، واجتناب المعاصي والموبقات لأنه بالإيمان تطمئن النفس وبالطاعة تحفظ الأعضاء والطاقة الجسدية، والكرامة الإنسانية.
150
وما أشقى أهل الكفر والفسوق والعصيان لأن الكفر يلازمه القلق والحيرة والاضطراب، ولأن الفسق والمعصية يدمران الإنسان ماديا ومعنويا، فيصبح حائر النفس، ذليلا مهينا على الناس.
تكريم البشرية بالسجود لآدم وإغواء الشيطان وطرده من الجنة
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١ الى ١٨]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
الإعراب:
ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ما استفهامية مبتدأ، مَنَعَكَ جملة فعلية خبر المبتدأ، وأَلَّا تَسْجُدَ في موضع نصب بمنعك، وأَلَّا صلة زائدة، والتقدير: ما منعك أن تسجد، كما في آية أخرى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص ٣٨/ ٧٥] وتزاد كثيرا في كلام العرب. وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه. صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ منصوب بفعل لَأَقْعُدَنَّ على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأقعدن لهم على صراطك، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه.
اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مذءوما: حال من الضمير المرفوع في اخْرُجْ.
151
البلاغة:
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ على حذف مضاف، أي خلقنا أباكم وصورنا أباكم. ما مَنَعَكَ السؤال مع علمه تعالى بما منعه من السجود للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم.
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ استعار الصراط لطريق الهداية الموصل إلى الجنة.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ أوجدنا أباكم آدم بتقدير حكيم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي صورناه وأنتم ذرأت في ظهره اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحية واحترام إِلَّا إِبْلِيسَ أبا الجن الذي كان بين الملائكة أَلَّا تَسْجُدَ لا زائدة لتأكيد السجود إِذْ أَمَرْتُكَ حين الأمر فَاهْبِطْ مِنْها أي من الجنة، وقيل: من السموات، والهبوط: الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه، أو من منزلة إلى ما دونها أَنْ تَتَكَبَّرَ أن تجعل نفسك أكبر مما هي عليه مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين من الصغار: وهو الذل والهوان.
أَنْظِرْنِي أخرني وأمهلني مِنَ الْمُنْظَرِينَ المؤخرين، وفي آية أخرى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أي يوم النفخة الأولى فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي بإغوائك لي، والإغواء: الإيقاع في الغواية: وهي ضد الرشاد، والباء للقسم، وجوابه: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ أي لبني آدم صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أي على الطريق الموصل إليك.
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي من كل جهة، فأمنعهم من سلوكه، قال ابن عباس: ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى. مَذْؤُماً معيبا أو ممقوتا، من ذأم: عاب. مَدْحُوراً مبعدا مطرودا عن الرحمة لَمَنْ تَبِعَكَ من الناس، واللام: للابتداء أو موطئة للقسم وهو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ أي منك بذريتك ومن الناس، وفيه تغليب الحاضر على الغائب. وفي الجملة معنى جزاء لَمَنْ الشرطية أي من تبعك أعذبه.
المناسبة:
رغّب الله تعالى في الآيات السابقة بقبول دعوة الأنبياء عليهم السلام، بالتخويف أولا، ثم بالترغيب ثانيا بالتنبيه على كثرة نعم الله تعالى على الخلق،
152
ثم أتبعه ببيان أنه خلق أبانا آدم وكرّمه بأمر الملائكة بالسجود له، والإنعام على الأب إنعام على الابن، لكن قد يتعرض الناس لوسوسة الشيطان وإغوائه، ولا يليق بهم مع هذه النعم العظيمة التمرد والجحود.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى قصة آدم عليه السلام مع قصة إبليس في سبعة مواضع في القرآن: في البقرة، والأعراف (هذه السورة) والحجر، وبني إسرائيل (الإسراء) والكهف، وسورة طه، وسورة ص.
ومضمون القصة هنا: التنبيه على تكريم آدم، وبيان عداوة إبليس لذريته، وحسده لهم ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، وليشكروا الله على نعمه العظيمة.
والمعنى: لقد خلقنا أيها الناس أباكم آدم من الماء والطين اللازب، ثم صورناه بشرا سويا، ونفخنا فيه من روحنا، ثم أمرنا الملائكة بالسجود له سجود تحية.
وظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلق ذريته وتصويرهم، وليس الأمر كذلك، لذا تأول المفسرون الآية تأويلات أربعة، اختار منها الرازي القول الأول وهو: خلقنا أباكم آدم وصورناه، وبعد خلقه وتصويره أمرنا الملائكة بالسجود له، ولم يتأخر هذا الأمر عن خلقنا وتصويرنا، وذلك لأن آدم أصل البشر، فالخطاب لنا من باب الكناية، مثل قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة ٢/ ٩٣] أي ميثاق أسلافكم من بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام، وقال تعالى مخاطبا لليهود في زمان محمد صلّى الله عليه وسلّم: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة ٢/ ٤٩] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة ٢/ ٧٢]، والمراد من جميع هذه الخطابات أسلافهم «١».
(١) تفسير الرازي: ١٤/ ٣٠
153
فالمراد بذلك كله آدم عليه السلام، وهو اختيار ابن جرير الطبري أيضا «١».
قال ابن كثير: وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر.
وروى الحاكم عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أنه قال: «خلقوا في أصلاب الرجال، وصوروا في أرحام النساء» وقال أي الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. فيكون معنى الآية: ولقد خلقناكم في ظهر آدم عليه السلام أمثال الذّر، ثم صورناكم أي في الأرحام.
قال القرطبي: الصحيح من الأقوال ما يعضده التنزيل، قال الله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون ٢٣/ ١٢] يعني آدم. وقال:
وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء ٤/ ١] ثم قال: جَعَلْناهُ أي جعلنا نسله وذريته نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون ٢٣/ ١٣] فآدم خلق من طين ثم صوّر وأكرم بالسجود، وذريته صوّروا في أرحام الأمهات بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء «٢». وهذا موافق لرأي الرازي والطبري، ومبيّن تصوير بني آدم، وهو جمع حسن بين الخلقين.
وأما السجود لآدم فمتفق عليه لقوله تعالى: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ أي وبعد إتمام خلق آدم أمرنا الملائكة بالسجود له سجود تحية وتكريم له ولذريته لا سجود عبادة إذ لا معبود إلا الله وحده، وذلك حتى يعرفوا نعم الله عليهم، فيشكروها، وليحذروا إبليس ووساوسه بعد ما فعله قديما.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس الذي كان من الجن لا من الملائكة أبى واستكبر، ولم يكن مع الساجدين.
فسأله الله: ما منعك ألا تسجد؟ أي ما منعك وحال بينك وبين السجود؟
(١) تفسير الطبري: ٥/ ٩٤
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ١٦٩
154
ولا هنا زائدة للتأكيد بدليل اية أخرى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص ٣٨/ ٧٥].
فأجاب معتذرا متعللا: إني أنا خير منه، خلقتني من النار، وخلقته من الطين، والنار بما فيها من خاصية الارتفاع والعلو والنور أشرف من الطين الذي يتسم بالركود والخمود والذبول، والشريف لا يعظّم من دونه، وإن خالف أمر ربه. هذا قياس إبليس، وهو أول قياس، لكنه باطل، إذ لا يستدل على الخيرية بالطبيعة المادية، وإنما تكون الخيرية بالمعاني والخصائص المفيدة فائدة أكثر، وقد حبا الله آدم من العلوم والمعارف والتكريم ما لا يجهله إبليس نفسه.
وهذا كله مبني على أن الأمر بالسجود أمر تكليف، وأنه قد وقع حوار أو سؤال وجواب بين الله وإبليس، وما علينا إلا الإيمان بما دل عليه ظاهر الكتاب، وندع أمر الغيب والحقيقة لله عزّ وجلّ.
وكان جزاء المخالفة وعصيان الأمر الإلهي أنه تعالى أمر إبليس بالهبوط من الجنة التي خلقه الله فيها، وكانت على مرتفع من الأرض لأن الجنة مكان المخلصين المتواضعين، لا مكان المتمردين المتجبرين، لذا قال تعالى: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أي فما ينبغي لك أن تتكبر في هذه الجنة المعدة للكرامة والإسعاد، لا للتكبر والشقاء والعصيان.
فاخرج من هذا المكان، إنك من الذليلين الحقيرين، معاملة له بنقيض مقصوده، ومكافأة لمراده بضده.
فاستدرك اللعين وسأل الإمهال إلى يوم الدين، قال: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي أمهلني إلى يوم يبعث فيه آدم وذريته، فأكون معهم حال الحياة للأخذ بالثأر من طريق الإغواء، وأشهد انقراضهم وبعثهم.
فأجابه الله إلى مطلبه، فقال له: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ المؤجلين إلى وقت النفخة الأولى حيث تصعق الخلائق، وهي نفخة الفزع لقوله تعالى:
155
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل ٢٧/ ٨٧] وتسمى أيضا نفخة الصعق لقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزّمر ٣٩/ ٦٨].
أي إن إبليس يموت عقب النفخة الأولى، كما قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة ٦٩/ ١٣- ١٤].
ولما أنظر إبليس إلى يوم البعث واستوثق بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال: فَبِما أَغْوَيْتَنِي.. أي كما أغويتني أو أضللتني. لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية آدم على طريق الحق وسبيل النجاة والسعادة، ولأضلنهم عنها، لئلا يعبدوك ولا يوحدوك، بسبب إضلالك إياي، وذلك بأن أزيّن لهم طرقا أخرى كلها ضلال وانحراف.
ثم لا أدع جهة من الجهات الأربع (اليمين والشمال والأمام والخلف) إلا أتيتهم منها، مترصدا لهم كما يترصد قاطع الطريق للمارّة.
ولا تجد أكثرهم شاكرين لك نعمتك، ولا مطيعين أوامرك، وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم، وقد وافق في هذا الواقع، وأصاب ما هو حاصل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ، فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ ٣٤/ ٢٠- ٢١].
ثم أكد تعالى عليه اللعنة والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً أي اخرج من الجنة معيبا ممقوتا، مبعدا مطرودا من رحمة الله.
156
وأقسم الله على أن من تبعك من بني آدم فيما تزينه له من الشرك والفسوق والمعصية، لأملأن جهنم منك ومن أتباعك أجمعين. وذلك كما في آية أخرى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص ٣٨/ ٨٥] وآية: قالَ: اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً. وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء ١٧/ ٦٣- ٦٥].
واستثنى الله تعالى من إغوائه عباده المخلصين، فقال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر ١٥/ ٤٢] وقال أيضا: قالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص ٣٨/ ٨٢- ٨٣].
والمراد من كل هذا بيان طبيعة البشر وطبيعة الشيطان، واختيارهما في أعمالهما.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- تكريم النوع الإنساني بسجود الملائكة لأصل الإنسان وهو آدم أبو البشر.
٢- الخلق والتصوير لله وحده، ولا يستطيع أحد من البشر فعل شيء منهما.
والخلق لغة: التقدير، وتقدير الله: عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين. والتصوير: عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ.
٣- رفض إبليس أمر الله بالسجود لآدم، تكبرا منه واستعلاء لأنه رأى أن النار المخلوق منها أشرف من الطين الذي خلق منه آدم، لعلوها وصعودها
157
وخفتها، ولأنها جوهر مضيء. قال ابن عباس والحسن البصري وابن سيرين:
أول من قاس إبليس، فأخطأ القياس، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس. وقال ابن سيرين: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس أي المقاييس الفاسدة التي منها تفضيل النار على الطين، وهو خطأ، لما يأتي:
أما جوهر الطين ففيه الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر، وهذا ما دعا آدم عليه السلام إلى التوبة والتواضع والتضرع.
والنار سبب للعذاب، وهي عذاب الله لأعدائه، وليس التراب سببا للعذاب. وذلك يدل على أن التراب أفضل من النار.
إن قياس إبليس هو القياس الفاسد المصادم للنص، أما القياس الصحيح الموافق للنص فيجب العمل به شرعا لانسجامه مع النصوص. قال الطبري:
الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله، وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وإجماع الأمة، هو الحق الواجب، والفرض اللازم لأهل العلم. وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعن جماعة الصحابة والتابعين. وقال أبو تمام المالكي: أجمعت الأمة على القياس فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة.
٤- إن جزاء الرفض لأمر الله من إبليس استوجب طرده من الجنة، ذليلا معيبا ممقوتا مطرودا مبعدا من رحمته،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم عن أبي هريرة: «من تواضع لله رفعه الله»
وقال أيضا فيما رواه الديلمي في الفردوس: «من تكبر وضعه الله»
وقال بعضهم: لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار.
٥- سأل إبليس النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب، وطلب ألا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده، فأنظره الله إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية، حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه. لكن إنظار الله تعالى إبليس إلى يوم القيامة
158
لا يقتضي إغراءه بالقبيح لأنه تعالى كان يعلم منه أنه يموت على أقبح أنواع الكفر والفسق، سواء أعلمه بوقت موته أو لم يعلمه بذلك، فلم يكن ذلك الاعلام موجبا إغراءه بالقبيح.
٦- للشيطان دور في إغواء بعض الناس من طريق الوسوسة لهم، والإغواء: إيقاع الغي في القلب، والغي: هو الاعتقاد الباطل. ودل قوله تعالى: فَبِما أَغْوَيْتَنِي على أن الله تعالى أضلّ إبليس وخلق فيه الكفر، لذا نسب الإغواء إلى الله تعالى، وهو الحقيقة ومذهب أهل السنة، فلا شيء في الوجود إلا وهو مخلوق له، صادر عن إرادته تعالى.
٧- المراد من قوله تعالى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ: أن الشيطان يواظب على الإفساد مواظبة لا يفتر عنها. وتدل هذه الآية على أن إبليس كان عالما بالدين الحق، والمنهج الصحيح لأن صراطك الله المستقيم هو دينه الحق.
٨- محاولات إغواء الشياطين لا تقتصر على وجه واحد، وإنما تأتي من كل أوجه الحياة، فينبغي الحذر من الشيطان، لذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها،
كما روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو: «اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي»
أي من الخسف.
٩- دلت آية: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ.. على أن التابع والمتبوع تملأ جهنم منهما، وهذا يشمل الكافر والفاسق، مما يدل قطعا على دخول الفاسق النار، والمذكور في الآية أنه تعالى يملأ جهنم ممن تبعه، وليس في الآية أن كل من تبعه يدخل جهنم. وتدل الآية أيضا على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأنهم كلهم تابعون لإبليس.
159
قصة آدم في الجنة وخروجه منها
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
الإعراب:
ما نَهاكُما لَهُمَا نافية عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ الشَّجَرَةِ صفة لهذه، وهي اسم جنس، وأسماء الإشارة توصف بالأجناس.
إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ لَكُما متعلق بمحذوف، وتقديره: ناصح لكما لمن الناصحين. ولا يجوز أن يكون متعلقا بالناصحين لأن الألف واللام فيه بمنزلة الاسم الموصول، واسم الفاعل صلة له، والصلة لا تعمل في الموصول، ولا فيما قبله. فإن جعلت الألف واللام للتعريف، لا بمعنى الذين، جاز أن يتعلق بالناصحين، وهو قول أبي عثمان المازني. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَمْ:
تردّ الفعل المستقبل إلى معنى الماضي، ودخلت إن الشرطية على لَمْ لتردّ الفعل إلى أصله وهو الاستقبال لأن إِنْ الشرطية ترد الماضي إلى معنى الاستقبال، فلما صار لفظ الفعل المستقبل بعد لَمْ بمعنى الماضي، ردّتها إلى الاستقبال لأنها ترد الماضي إلى الاستقبال.
160
البلاغة:
وَيا آدَمُ فيه إيجاز بالحذف، أي وقلنا: يا آدم.
وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ عبر عن الأكل بالقرب مبالغة في النهي عن الأكل منها.
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما أكد الخبر بالقسم وبأنّ واللام لدفع شبهة الكذب.
فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
اسْكُنْ أَنْتَ تأكيد للضمير في اسْكُنْ ليعطف عليه وَزَوْجُكَ هي حواء وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ بالأكل منها، وهي الحنطة. فَوَسْوَسَ الوسوسة: الصوت الخفي المكرر، والمراد منها هنا: ما يجده البشر في أنفسهم من الخواطر التي تزين ما يضر وُورِيَ من المواراة أي ما غطّي وستر مِنْ سَوْآتِهِما السوءة: ما يسوء الإنسان ويؤلمه، وسوأة الإنسان:
عورته لأنه يسوؤه ظهورها، قال العلماء: في الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور.
وأنه مستهجن طبعا وعرفا أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أي الذين لا يموتون أبدا لأن الخلود لازم عن الأكل منها، كما في آية أخرى: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ، وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه ٢٠/ ١٢٠].
وَقاسَمَهُما أقسم لهما بالله بكل تأكيد على ذلك حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله.
قال الألوسي: وإنما عبّر بصيغة المفاعلة للمبالغة لأن من يباري أحدا في فعل يجدّ فيه.
فَدَلَّاهُما حطهما عن منزلتهما في الجنة بِغُرُورٍ بخداع منه بالباطل ذاقَا الشَّجَرَةَ أي أكلا منها بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي ظهر لكل منهما قبله ودبره، وسمي كل منهما سوأة لأن انكشافه يسوء صاحبه، كما ذكر وَطَفِقا أخذا وشرعا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما يلزقان ويرقعان من ورق الجنة ورقة فوق ورقة ليستترا به عَدُوٌّ مُبِينٌ بين العداوة. والاستفهام بقوله: أَلَمْ أَنْهَكُما للتقرير.
المناسبة:
الآيات استمرار في الكلام عن النشأة الأولى للبشر ودور شياطين الجن في إغواء الناس. والقصد من القصة إرشاد الناس إلى طرق الهداية، وتحذيرهم من وساوس الشياطين، فإن الشيطان بسبب حسده لآدم وحواء سعى في المكر
161
والوسوسة والخديعة، ليسلبهما ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن. وقد ذكرت هذه القصة في القرآن في سبعة مواضع، كما بينت في الآيات السابقة.
وكيف وسوس الشيطان لآدم، الذي كان في الجنة، وإبليس أخرج منها؟
قال الحسن البصري: كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى فيه.
التفسير والبيان:
أباح الله تعالى لآدم عليه السلام وزوجه حواء المخلوقة منه سكنى الجنة، وأن يأكلا من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة، فالأمر هنا أمر إباحة لا أمر تكليف.
وتلك الجنة في رأي الجمهور هي جنة الخلد، وقيل: جنة من جنان السماء، أو جنة من جنان الأرض.
وخاطب الله آدم أولا بطريق الوحي، ثم خاطبه مع زوجته، لتساويهما في الأكل من ثمار الجنة.
وما روي في الصحيحين عن أبي هريرة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج»
من باب التمثيل المراد به المنع من تقويم المرأة بالشدة والغلظة في المعاملة.
وأباح الله بقوله: فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما لهما الأكل من مختلف ثمار الجنة، ونهاهما عن الأكل من شجرة خاصة لم يعينها لنا في كتابه، وقد علل النهي بأنهما إذا أكلا منها كانا من الظالمين لأنفسهما، بفعلهما ما يعاقبان عليه.
وهذا امتحان من الله في إباحة الكثير وتحريم القليل.
فحسدهما الشيطان، وسعى في المكر والوسوسة والخديعة، ليسلبهما ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن، فزيّن لهما ما يضرهما ويسوؤهما، بأن تمثّل لهما
162
وكلّمهما، لتنكشف عورتهما التي يؤثران سترها، أي لتكون عاقبة ذلك ظهور العورة. قال الحسن البصري: كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى له. وهذا هو الرد على أن إبليس أخرج من الجنة وكان آدم فيها.
وقال كذبا وافتراء: ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا لأحد أمرين: أن تكونا ملكين أو خالدين هاهنا لا تموتان وتبقيان في الجنة ساكنين، أي لئلا تكونا ملكين «١» أو خالدين في الجنة، ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلك كقوله: قالَ: يا آدَمُ، هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه ٢٠/ ١٢٠]. وقال الزمخشري: إلا كراهة أن تكونا ملكين.
والسبب في اختيار هاتين الخاصتين: أن للملائكة مزايا وخصائص كالقوة والبطش، وطول البقاء، وعدم التأثر بأحوال الكون، وأن الخلود في الجنة بدون موت البتة هو أمل الإنسان. أي أن إبليس أوهمهما أن الأكل من هذه الشجرة:
إما ليتصف الآكل بصفات الملائكة، أو لتحقيق الخلود في الحياة.
وفي هذه إشارة إلى تفضيل الملائكة على آدم.
ثم حلف لهما بالله وأقسم قسما مؤكدا: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فإني من قبلكما هاهنا وأعلم بهذا المكان.
وقوله: قاسَمَهُما من باب المفاعلة المراد بها أحد الطرفين، بقصد المبالغة وتغليظ القسم، فإنه حلف لهما بالله على ذلك، حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله.
(١) وهذا مثل قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء ٤/ ١٧٦] أي لئلا تضلوا، وقوله: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل ١٦/ ١٥ ولقمان ٣١/ ١٠] أي لئلا تميد بكم.
163
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أي ما زال يخدعهما ويغريهما بالترغيب في الأكل من الشجرة، وبالوعد، وبالقسم بالأيمان المغلّظة، حتى نسيا أن الله أخبرهما أنه عدو لهما، وتمكن من زحزحتهما وإسقاطهما من منزلتهما عند الله بسبب طاعتهما، بما غرهما به من اليمين وزيّن لهما، كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ، فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه ٢٠/ ١١٥]. ومعنى فَدَلَّاهُما فنزلهما إلى الأكل من الشجرة بما غرهما به من القسم بالله.
فلما ذاقا ثمرة الشجرة، ظهرت عوراتهما، وزال النور عنهما، وشرعا يجعلان ورقة على ورقة من ورق أشجار الجنة العريض لستر العورة.
وناداهما ربهما معاتبا لهما وموبخا بقوله: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أي ألم أنهكما من الاقتراب من هذه الشجرة والأكل منها، وأقل لكما: إن الشيطان ظاهر العداوة لكما، فإن أطعتماه أخرجكما من دار النعيم وهي الجنة إلى دار الدنيا وهي دار الشقاء والتعب في الحياة، فاحذروا الشيطان كما قال: فَقُلْنا: يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَشْقى [طه ٢٠/ ١١٧].
قالا: رَبَّنا ظَلَمْنا.. أي قالا: ربنا إننا ظلمنا أنفسنا بمخالفة أمرك وطاعة الشيطان عدوك وعدونا، وإن لم تستر ذنبنا وترض عنا وتقبل توبتنا، لنكونن من الذين خسروا الدنيا والآخرة: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، فَتابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة ٢/ ٣٧].
ثم خاطب الله آدم وحواء وإبليس بقوله: قالَ: اهْبِطُوا.. أي أنزلوا من هذه الجنة، بعضكم عدو لبعض، يعني أن العداوة ثابتة بين الجن والإنس لا تزول البتة، فإبليس يعاديهما أي آدم وحواء وهما يعاديانه. فعلى الإنسان أن يحذر من وساوس الشيطان، كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر ٣٥/ ٦].
164
والإخراج من الجنة كان هو العقاب على تلك المعصية، أما العقاب الأخروي فقد عفا الله عنه بالتوبة التي أذهبت أثره وقبلها الله تعالى، كما قال: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى، ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى [طه ٢٠/ ١٢١- ١٢٢].
ثم أبان تعالى أجل الإنسان في الدنيا فقال: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ..
أي لكم قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة، قد جرى بها القلم، وأحصاها القدر، وسطرت في الكتاب الأول، فيها تحيون مدة العمر المقدر لكل منكم، وفيها تموتون حين انتهاء الأجل، ومنها تخرجون إلى البعث والجزاء بعد الموت حينما يريد الله: مِنْها خَلَقْناكُمْ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه ٢٠/ ٥٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
بعد إخراج إبليس من موضعه في السماء، قال الله لآدم: اسكن أنت وحواء الجنة، وهو أمر تعبد، أو أمر إباحة وإطلاق، من حيث إنه لا مشقة فيه، فليس هو أمرا تكليفيا، ولا يتعلق به تكليف.
وهذا دليل على أن سكنى آدم في الجنة كانت في مبدأ حياتهما، ثم أمرا بالنزول إلى الأرض، بسبب كيد الشيطان وحسده ووسوسته، وكان أخطر سلاح استخدمه هو تغريرهما بالحلف المؤكد بالله، فانخدعا، وقد يخدع المؤمن بالله.
وقد فهم من آية: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ تفضيل الملائكة على البشر، كما في آيات كثيرة منها: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام ٦/ ٥٠] ومنها:
لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النساء ٤/ ١٧٢] وقال الكلبي: فضلوا- أي المؤمنون- على الخلائق كلهم، غير طائفة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت لأنهم من جملة رسل الله.
165
واختار ابن عباس والزجاج وكثير من العلماء تفضيل المؤمنين على الملائكة.
وأما هذه الآية أو الواقعة: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ فكانت قبل النبوة.
ودلت آية: لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما على أن كشف العورة من المنكرات، وأنه لم يزل مستهجنا في الطباع، مستقبحا في العقول، وأن الله أوجب ستر العورة، ولذلك ابتدر آدم وحواء إلى سترها، فمن دعا إلى كشف العورات سواء عند الرجال أو النساء فقد هتك ستر الحياء، وأعاد الإنسان إلى البدائية الهمجية، وجعل المرأة سلعة للمتعة والتسلية ولم يرع صون العرض الذي أمر به الدين واقتضته الفطرة السليمة، وكان صنيعه مثل الشيطان:
يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما.
وكان ترغيب إبليس لآدم في مجموع الأمرين: الاتصاف بصفات الملائكة، والخلود من غير موت البتة.
وكانت عقوبة آدم وحواء على المخالفة هي الهبوط إلى الأرض، أما عقاب الآخرة فقد أسقطه الله تعالى بالعفو عنهما وبقبول توبتهما. وقد اختار الرازي أن هذا الذنب إنما صدر عن آدم قبل النبوة.
وأما آية: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.. فدلت على أمرين:
١- وجود العداوة الدائمة بين الإنسان والشيطان، ولما كانت العمدة في العداوة آدم وإبليس، قال تعالى في سورة طه: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [١٢٣].
٢- توقيت بقاء الإنسان في الدنيا، بحسب الأجل من الميلاد إلى الوفاة، وفي الأرض يعيش الإنسان وذلك نعمة عظمي، لأنها موضع قرار واستقرار، واستمتاع بزخارف الحياة، وتنعم بمختلف نعم الحياة، ثم يأتي الموت، ثم يأتي البعث والإخراج من القبور، ثم يكون الحساب والجزاء في عالم الآخرة.
166
ومغزى هذه القصة كما أشرت في المناسبة: هو إرشادنا إلى ما فطرنا عليه، وإلى ما يجب علينا من شكر الله وطاعته، وتنفيذ أوامره، واجتناب معاصيه، والحذر من وساوس الشيطان.
فإذا عرفنا غرائزنا وميولنا، وعرفنا خطر عدونا وهو الشيطان، وربّينا أنفسنا على تذكر عهد الله وميثاقه بأن نعبده وحده دون سواه، ونزكي النفس بالأخلاق والآداب الحسنة ونعمل على تهذيبها، كنا سعداء الدنيا والآخرة، وأدينا رسالتنا في هذه الحياة.
توفير حوائج الدنيا لبني آدم وتحذيرهم من فتنة الشيطان
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)
الإعراب:
وَلِباسُ التَّقْوى قرئ بالنصب عطفا على قوله: وَرِيشاً أي أنزلنا ريشا ولباس التقوى، وقرئ بالرفع لخمسة أوجه: الرفع على أنه مبتدأ ثان، وخَيْرٌ خبره، والمبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول وهو ذلِكَ. أو يكون ذلِكَ فصلا، وخَيْرٌ خبر المبتدأ، أو يكون ذلِكَ وصفا للباس التقوى، أو يكون بدلا، أو عطف بيان، كأنه قال:
ولباس التقوى المشار إليه خير. ورأى الزمخشري أنه مبتدأ، وخبره إما جملة ذلِكَ خَيْرٌ وإما المفرد وهو خَيْرٌ، وذلِكَ صفة للمبتدأ، كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير.
يَنْزِعُ عَنْهُما.. جملة فعلية في موضع نصب حال من الضمير في أَخْرَجَ.
167
مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ حَيْثُ مبنية على الضم، لوجهين: إما لأنها مقطوعة عن الإضافة إلى المفرد لأنها لا تضاف إلا إلى الجمل، فنزلت منزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة مبني.
وإما لأنها أشبهت الحرف، والحرف مبني، فكذلك ما أشبهه.
البلاغة:
قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً مجاز مرسل، أي أنزلنا مطرا ينبت القطن والكتان، ويقيم البهائم ذات الأصواف والأوبار والأشعار.
وَلِباسُ التَّقْوى تشبيه بليغ، من إضافة المشبه به إلى المشبه، كما أضيف إلى الجوع في قوله: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ.
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة.
المفردات اللغوية:
قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي خلقناه لكم، واللباس: كل ما يلبس في السلم والحرب يُوارِي سَوْآتِكُمْ يستر عوراتكم وَرِيشاً الريش هنا والرياش: ما يتجمل به من الثياب فهو لباس الحاجة والزينة، وأكثر أهل اللغة: أن الريش: ما ستر من لباس أو معيشة. وَلِباسُ التَّقْوى أي لباس الورع والخشية من الله تعالى، بالعمل الصالح والسمت الحسن. ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ دلائل قدرته لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي يتذكرون فيؤمنوا.
لا يَفْتِنَنَّكُمُ لا يضلنكم، وأصل الفتنة: الابتلاء والاختبار، والمعنى: لا تتبعوا الشيطان فتفتنوا وَقَبِيلُهُ جنوده وجماعته، والقبيل كالقبيلة. مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ للطافة أجسادهم أو عدم ألوانهم إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ أعوانا وقرناء.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض، وجعل الأرض مستقرا لهما، أبان أنه تعالى أنزل كل ما يحتاجون إليه في شؤون الدين والدنيا، ومن جملتها اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا. وذلك يقتضي شكر الله على نعمه العظيمة وعبادته بحق.
168
التفسير والبيان:
يمتن الله تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش، فاللباس ستر العورات، والريش: ما يتجمل به، والأول من الضرورات، والثاني من التكملات والتحسينات.
يا بني آدم، اذكروا نعمة الله عليكم وعلى أبيكم آدم من قبل، بما وفرته لكم من حوائج الدين والدنيا كاللباس والرياش، لستر العورات، والاستمتاع بالزينة والجمال، واتقاء الحر والبر. ومعنى إنزاله من السماء: خلقه وإنتاج مادته من القطن والصوف والوبر والحرير وريش الطير وغيرها مما اقتضته الحاجة، ثم تعلم صنعته وخياطته بإلهام من الله. وهذا الامتنان بنعمة اللباس والزينة دليل على الإباحة، وهو مطابق لفطرة الإنسان بحب الزينة والتظاهر أمام الناس.
ويسن الحمد والشكر عند ارتداء الثوب الجديد،
لما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من استجد ثوبا، فلبسه، فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به، كان في ذمة الله، وفي جوار الله، وفي كنف الله، حيا وميتا».
وروى الإمام أحمد أيضا عن علي قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول عند الكسوة: «الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي».
ثم فضل الله تعالى على اللباس المادي أو الحسي لباس التقوى المعنوي فقال:
وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ وهو كما قال ابن عباس: الإيمان والعمل الصالح، وقيل: هو السمت الحسن، فهذا لا شك خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله تعالى، مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به.
ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ معناه: ذلك المذكور وهو إنزال اللباس عليهم من
169
آيات الله الدالة على قدرته وفضله ورحمته على عباده. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي أن هذه النعم تؤهلهم لتذكر فضل الله عليهم وشكره، ومعرفة عظيم النعمة فيه، والبعد عن فتنة الشيطان، وإبداء العورات.
ثم حذر الله تعالى بني آدم من إبليس وجنوده، مبينا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه السلام، في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء، والتسبب في هتك عورته، بعد ما كانت مستورة عنه، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة، وهذا كقوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي، وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف ١٨/ ٥٠].
كرر الله النداء لبني آدم على وفق الأسلوب العربي في مقام التذكير والوعظ، فقال: لا يَفْتِنَنَّكُمُ أي لا تغفلوا عن أنفسكم، ولا يصرفنكم الشيطان عن الدّين، كما فتن أبويكم بالإخراج من الجنة، فلا تصغوا لوسوسة الشيطان، ولا تهملوا تحصين أنفسكم بالتقوى، وصلوها دائما بذكر الله، فيترتب على فتنة الشيطان ألا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم ووسوس لهما، وزين لهما معصية ربهما، فأكلا من الشجرة التي نهاهما عنها، فأخرجهما من الجنة دار النعيم، وتسبب في هبوطهما إلى الأرض.
أخرجهما من الجنة، وتسبب أيضا في نزع ما اتخذاه لباسا لهما من ورق الجنة، لأجل أن يريهما سوءاتهما، واللام في لِيُرِيَهُما هي لام العاقبة أو الصيرورة، مثل اللام في لِيُبْدِيَ لَهُما.
احذروا إبليس فإنه هو وجنوده من الجن يرونكم وأنتم لا ترونهم، والضرر الناجم من العدو الذي لا يرى أخطر من العدو الظاهر المرئي.
والوقاية منه تكون بالاستعاذة بالله منه، وبتقوية الروح بالإيمان بالله والصلة به، وبمجاهدة النفس وعدم إصغائها للوساوس، ثم محاولة طردها من
170
النفس وتصفية آثارها منها، من طريق التزام قواعد الشرع وآدابه وأخلاقه.
ثم أكد التحذير من الشيطان، فأبان أنه تعالى جعل الشياطين أنصارا وأعوانا للكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى إيمانا حقا تزكوا به نفوسهم وتصلح أعمالهم، وذلك بسبب استعدادهم لقبول وسوسة الشيطان، كاستعداد ضعفاء الأجسام لتقبل الأمراض بسرعة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آية: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ على وجوب ستر العورة لأنه قال: يُوارِي سَوْآتِكُمْ أي أنه تعالى جعل لذرية آدم لباسا يسترون به عوراتهم، وفيه دلالة على الأمر بالتستر. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس.
واختلفوا في العورة ما هي؟ فقال الظاهرية والطبري: هي من الرجل الفرج نفسه: القبل والدّبر، دون غيرهما لقوله تعالى: لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ، بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما. لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما
وفي البخاري عن أنس: «فأجرى- ركض- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في زقاق خيبر- وفيه- ثم حسر الإزار عن فخذه، حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلّى الله عليه وسلّم».
وقال مالك: السرة ليست بعورة، وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته. وحجة مالك
قوله صلّى الله عليه وسلّم لجرهد: «غطّ فخذك، فإن الفخذ عورة» خرّجه البخاري
تعليقا، وقال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد «١» أحوط، حتى يخرج من اختلافهم، يعني أن الفخذ على الصحيح عند المالكية ليس بعورة، لأنها ظهرت من النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر، ولكن يكره كشفها، لحديث جرهد.
(١) هو جرهد بن خويلد، وهو صحابي.
171
وقال أبو حنيفة: الركبة عورة.
وقال الشافعي: ليست السرة ولا الركبتان من العورة على الصحيح، لكن يجب سترهما عند الشافعية من قبيل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وأما المرأة الحرة: فعورة كلها إلا الوجه والكفين، عند أكثر أهل العلم، بدليل قول جمهور الفقهاء: من أراد أن يتزوّج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفّيها ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام.
ودلت آية أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً.. وَرِيشاً على مزيد نعمة الله تعالى بتوفير ما يحتاجه الإنسان في الدنيا، وليعينه على أمر الدين والآخرة.
لكن لباس التقوى: وهو الإيمان والعمل الصالح والسّمت الحسن في الوجه هو خير وأبقى، وأخلد وأنقى، وبه النجاة عند الله، وهو طريق القربى إلى الله عز وجل، لأن المعنى: ولباس التقوى المشار إليه، الذي علمتموه، خير لكم من لبس الثياب التي تواري سوءاتكم، ومن الرياش التي أنزلنا إليكم فالبسوه.
وقوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ يدل على تحذير الناس من قبول وسوسة الشيطان لأن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم، وبيّن فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده، أتبعها بأن حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان بدليل تأثيره على آدم وحواء وإيقاعهما في الزلة الموجبة لإخراجهما من الجنة، فإذا أثر على آدم فكيف يكون حال آحاد الناس؟
واللباس الذي نزعه الشيطان عن آدم وحواء: هو ثياب الجنة.
وقوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يدل على أن الإنس لا يرون الجن، ويؤكده
الخبر الذي أخرجه أحمد: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى
172
الدم»
وقوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس ١١٤/ ٥]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان عن ابن مسعود: «إن للملك لمّة وللشيطان لمّة- أي بالقلب- فأما لمّة الملك: فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، وأما لمّة الشيطان: فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق».
وفيما عدا هذا جاء في رؤية الجن أخبار صحيحة في البخاري ومسلم.
وعقيدتنا أنه لا قدرة للشيطان على البشر بوجه من الوجوه، بدليل قوله تعالى:
ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم ١٤/ ٢٢].
واحتج أهل السنة بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ على أن الله هو الذي سلّط الشيطان الرجيم على الكافرين حتى أضلهم وأغواهم، زيادة في عقوبتهم، وتسوية بينهم في الذهاب عن الحق، فأصبح الشيطان وليا لمن لا يؤمن.
تشريع المشركين تقليد الآباء وتشريع الله الوحي إلى رسوله
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
173
الإعراب:
كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ: الكاف في كَما في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف، تقديره: تعودون عودا مثل ما بدأكم.
فَرِيقاً هَدى، وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ: فَرِيقاً الأول منصوب بهدى.
وفَرِيقاً الثاني منصوب بتقدير فعل دلّ عليه ما بعده، وتقديره: وأضل فريقا حق عليهم الضلالة. ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من ضمير تَعُودُونَ وتقديره: كما بدأكم تعودون في هذه الحالة.
المفردات اللغوية:
فاحِشَةً الفاحشة: هي الفعلة المتناهية في القبح، وهي كل معصية كبيرة، كالشرك وطوافهم بالبيت عراة، قائلين: لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فنهوا عنها أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أنه قاله، وهو استفهام إنكاري.
بِالْقِسْطِ العدل والاعتدال والتوسط في جميع الأمور. وَأَقِيمُوا معطوف على معنى:
بالقسط، أي قال: أقسطوا وأقيموا. وإقامة الشيء: إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه، كإقامة الصلاة، وإقامة الوزن بالقسط. وُجُوهَكُمْ الوجه معروف وهو أشرف أعضاء الإنسان، والمراد هنا: إما العضو المعروف من الإنسان مثل قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة ٢/ ١٤٤] وإما كناية عن توجه القلب وصحة القصد، مثل قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الروم ٣٠/ ٣٠].
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي أخلصوا له سجودكم. وَادْعُوهُ اعبدوه. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك. كَما بَدَأَكُمْ خلقكم ولم تكونوا شيئا. تَعُودُونَ أي يعيدكم أحياء يوم القيامة.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلطين عليهم، ذكر هنا أثرا من آثار تسلط الشياطين على الذين لا يؤمنون، وهو طاعتهم لهم.
التفسير والبيان:
وإذا فعل المشركون فعلة فاحشة قبيحة ينكرها الشرع والعقل والطبع السليم
174
كالشرك والطواف بالبيت عراة رجالا ونساء، والأولى الحكم بتعميم معنى الفاحشة: وهي كل معصية كبيرة، فيدخل فيه جميع الكبائر، قالوا: نحن في هذا مقلدون للآباء، متبعون للأسلاف، ويعتقدون أنها طاعات، وأن الله أمرهم بها، وهي في أنفسها فواحش، فكانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحش وهم لا يدركون فحشها بأمرين: أحدهما: أنا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا والثاني:
أن اللَّهُ أَمَرَنا بِها.
أما الحجة الأولى- فلم يجب الله عنها لأنها إشارة إلى محض التقليد، وهو عقلا طريقة فاسدة، وفسادها ظاهر جلي لكل أحد، فلم يحتج إلى الجواب عنه.
وأما الحجة الثانية وهي قولهم: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فقد أجاب عنه تعالى بقوله: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أي إن هذه الأفعال منكرة قبيحة على لسان الأنبياء والمرسلين، والله بكماله منزه عن أن يأمر بها، فكيف يمكن القول بأن الله تعالى أمر بها؟! والواقع إنما يأمر بها الشيطان، كما قال تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [البقرة ٢/ ٢٦٨].
ثم أنكر الله تعالى عليهم قولهم باستفهام إنكاري فقال: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ... أي أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته؟! فتشريع الله لا يثبت إلا بوحي منه إلى رسوله، وأنتم تعملون بوحي الشيطان، وتفترون على الله الكذب، فهذا إنكار لإضافتهم القبيح إلى الله، وشهادة على أن مبني قولهم الجهل المفرط.
وبعد أن أنكر تعالى صدور الأمر عنه بالفحشاء، أعلن أنه إنما يأمر بالقسط والعدل: قُلْ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي قل يا محمد لهم: إنما يأمر ربي بالعدل والاستقامة والتوسط في الأمور دون إفراط ولا تفريط.
175
وأمر ربي بإيفاء عبادته حقها، وأن تقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها، في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود، وهو الصلاة، واعبدوه (ادعوه) مخلصين له الدين، أي الطاعة، مبتغين بها وجه الله خالصا.
أي إن هذه الآية تأمر بشيئين: ١- الاستقامة في العبادة في أوقاتها ومحالّها، كما جاء بها الأنبياء والمرسلون المؤيدون بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله، وما جاؤوا به من الشرائع. ٢- الإخلاص لله في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابا موافقا للشريعة، وأن يكون خالصا من الشرك «١».
ثم احتج تعالى عليهم في إنكارهم الإعادة والبعث: بابتداء الخلق، فقال:
كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أي كما أنشأكم ابتداء يعيدكم، فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة.
وأنتم حال البعث والحساب بين فريقين: فريق هداه الله ووفقه للعبادة والإيمان والإخلاص، وهم الذين أسلموا، وفريق حقت عليه كلمة العذاب والصرف عن طريق الثواب، وحق عليه الضلالة لاتباعه إغواء الشيطان وإعراضه. عن طاعة الله، وعلم الله أن أفراد هذا الفريق يضلون ولا يهتدون.
فسبب ثبوت الضلالة على هذا الفريق: هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، فقبلوا ما دعوهم إليه، ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل.
إن الفريق الذين حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين أولياء أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به. وهذا دليل على أن علم الله بضلالهم لا أثر له في ضلالهم، وأنهم- كما قال الزمخشري المعتزلي- هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين، دون الله سبحانه.
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٠٨
176
وأما على رأي أهل السنة القائلين بأن الهدى والضلال من الله تعالى، فالمعنى أن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء، ولكن الداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هي أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله.
والفريق الثاني يتصف بصفة أخرى هي أنهم يظنون أنهم مهتدون أي على بصيرة وهداية، وهم في الحقيقة ضالون مخطئون: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف ١٨/ ١٠٣- ١٠٤].
ويؤكد معنى الآية في الفريق الثاني
ما رواه مسلم عن عياض بن حمار قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يقول الله تعالى: «إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم، عن دينهم».
وفسّر بعضهم: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ بأنه كما خلقناكم فريق مهتدون وفريق ضلال، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم. قال ابن عباس:
إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا، كما قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن ٦٤/ ٢] ثم يعيدهم كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا. وهذا موافق
لحديث ابن مسعود في صحيح البخاري: «فو الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها».
وبناء على هذا التأويل يكون هناك تعارض بينه وبين قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم ٣٠/ ٣٠] ومثله ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل
177
مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» وما جاء في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المتقدم.
والتوفيق بين آية: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ... وآية: فِطْرَتَ اللَّهِ...
وما يؤيد كليهما من الأحاديث: هو أن الله تعالى فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك، وجعله في غرائزهم وفطرهم.
وبعد هذا الخلق على هذا النحو الفطري السليم، قدّر تعالى، وعلم في علمه الأزلي القديم السابق أنه سيكون من الخلق المؤمن والكافر، والشقي والسعيد، وسيطرأ تغير على الحالة الأصلية التي فطروا عليهم، وهو معنى قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أي سيؤول أمره في ثاني الحال إلى الكفر بعد الإيمان، وقدر الله نافذ في بريته، فإنه هو وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى ٨٧/ ٣] والَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى [طه ٢٠/ ٥٠] «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- تقليد الآباء والأسلاف مرفوض عقلا وطبعا لأن الله ميّز الإنسان بالعقل الذي يستطيع به التمييز بين الحق والباطل، فإن كان الآباء على حق وخير، جاز اتباعهم وتقليدهم، وإن كانوا على ضلالة وشر، وجب البعد عن منهجهم وطريقهم، وإلا كانوا على جهل وخطأ.
٢- لا يأمر الله إلا بالعدل والاستقامة، وهو منزّه عن الأمر بالفحشاء والمنكر والمعاصي.
(١) انظر تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٠٩
178
٣- الواجب على المؤمن في عبادة ربه أمران: أن يكون فعله موافقا للصواب الذي قررته الشريعة، وأن يكون خاليا من الشرك، أي بأن يخلص العبادة لله والطاعة، وينأى عن وجوه الخطأ والانحراف.
٤- إعادة الخلق بالبعث مثل ابتداء الخلق الأول، بل هو أهون: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم ٣٠/ ٢٧].
٥- قال الرازي: إنه تعالى أمر في هذه الآية: قُلْ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ... بثلاثة أشياء:
أولها: أنه أمر بالقسط: وهو قول: لا إله إلا الله، وهو يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه، ثم على معرفة أنه واحد لا شريك له.
وثانيها: أنه أمر بالصلاة، وهو قوله: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.
وثالثها: أنه أمر بعبادته مخلصين له الدين «١».
٦- الناس جميعا عند خلقهم مخلوقون مفطورون على فطرة التوحيد ومعرفة الله تعالى، ثم يتغير حال بعضهم بمؤثرات البيئة والتعليم والتوجيه في البيت والمدرسة والمجتمع.
٧- يزيد الله تعالى المؤمنين هداية وتوفيقا إلى الخير، بعد هداية أصل التوحيد ومعرفة الله، وثبوت الضلالة على الكافر بسبب إصغائه لوساوس الشيطان: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال ابن جرير الطبري: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها،
(١) تفسير الرازي: ١٤/ ٥٧
179
فيركبها عنادا منه لربه فيها لأنه لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ، وهو يحسب أنه مهتد، وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية «١»، أي أن العذاب لا يكون فقط على حالة العناد والعلم بالصواب، بل قد يكون على حالة الجهل والانحراف والخطأ في تبين الصواب.
إباحة الزينة والطيبات من المآكل والمشارب
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)
الإعراب:
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: يجوز أن يكون ظرفا للخبر الذي هو لِلَّذِينَ آمَنُوا ويجوز أن يكون خبرا.
خالِصَةً حال من الضمير الذي في لِلَّذِينَ الذي هو الخبر، وهو العامل في الحال، والعامل في الحال على الحقيقة هو الفعل المحذوف، والتقدير: قل هي استقرت للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة.
ومن قرأ بالرفع خالِصَةً فهي خبر ثاني للمبتدأ وهو هِيَ والخبر الأول: لِلَّذِينَ آمَنُوا.
البلاغة:
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ المراد بالمسجد هنا الطواف والصلاة، فهو مجاز مرسل علاقته المحلية لأنه لما كان المسجد مكان الصلاة أطلق الطواف والصلاة عليه، من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال.
(١) تفسير الطبري ٨/ ١٥٩، ط البابي الحلبي.
180
المفردات اللغوية:
خُذُوا زِينَتَكُمْ ما يزينكم ويستر عورتكم، والمراد هنا الثياب الحسنة. عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عند الصلاة والطواف، أطلق مكان السجود وأريد به الصلاة والطواف.
قُلْ إنكارا عليهم. زِينَةَ اللَّهِ اللباس. الطَّيِّباتِ المستلذات. هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا أي مستحقة لهم، وإن شاركهم فيها غيرهم. خالِصَةً خاصة. نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها مثل ذلك التفصيل. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يتدبرون، فإنهم المنتفعون بها.
سبب النزول:
روى مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية، وهي عريانة، وعلى فرجها خرقة، وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحلّه
فنزلت: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ونزلت: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الآيتين.
وفي صحيح مسلم عن عروة قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس «١»، - والحمس: قريش وما ولدت- كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا، فيعطي الرجال الرجال، والنساء النساء، وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات.
وفي غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا، ولا يسار يستأجره به، كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه، فلم يمسّه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللّقى.
(١) الحمس: سموا بهذا الاسم لأنهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا، والحماسة: الشجاعة.
181
فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ الآية. وأذّن مؤذّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا لا يطوف بالبيت عريان.
قال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما في أيام حجهم، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: يا رسول الله، نحن أحق بذلك، فأنزل الله تعالى: وَكُلُوا أي اللحم والدسم وَاشْرَبُوا.
المناسبة:
بعد أمر الله تعالى عباده بالقسط: العدل والاستقامة في كل الأمور، طلب إلينا أخذ الزينة في كل مجتمع للعبادة، صلاة أو طوافا، وأباح لنا الأكل والشرب من غير إسراف.
قال ابن عباس: إن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى، طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة. وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب.
التفسير والبيان:
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل عبادة من صلاة أو طواف، والبسوا ثيابكم حينئذ، والمراد بالزينة: الثياب الحسنة، وأقلها ما به تستر العورة. فستر العورة واجب في الصلاة والطواف، وما بعد العورة يسن ستره ولا يجب. وعورة الرجل كما عرفنا في الآيات السابقة: ما بين السرة والركبة، وعورة المرأة جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين.
182
واللباس مظهر حضاري رفيع، والأمر بارتداء الثياب وستر العورة من محاسن الإسلام، والإسلام هو الذي نقل القبائل العربية وغيرها من الأفارقة من البدائية والتخلف والتوحش إلى المدينة والحضارة.
ويؤيد مدلول الآية في إيجاب الستر
ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله عز وجل أحق من تزيّن له، فإن لم يكن له ثوبان، فليتّزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود».
وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء».
ثم أباح الله الأكل والشرب من غير إسراف فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا..
أي كلوا واشربوا من الطيبات المستلذات، ولا تسرفوا فيها، بل عليكم بالاعتدال من غير تقتير ولا إسراف، ولا بخل ولا زيادة إنفاق، ولا تجاوز الحلال إلى الحرام في المأكل والمشرب، إن الله لا يحب المسرفين، في الطعام والشراب، أي يعاقبهم على الإسراف الذي يؤدي إلى الضرر.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلوا، واشربوا، والبسوا، وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده».
وروى النسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أيضا بلفظ: «كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة».
وروى الإمام أحمد والنسائي والترمذي عن المقدام بن معديكرب قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، حسب
183
ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان فاعلا لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه».
قال بعض السلف: جمع الله الطبّ كله في نصف آية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، وَلا تُسْرِفُوا.
يذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان، فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال: قوله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي: جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه» الحديث، فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا «١».
وقال البخاري: قال ابن عباس: «كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة» أي كبر وإعجاب بالنفس.
والإسراف: تجاوز الحد في كل شيء. والله تعالى يحب إحلال ما أحل، وتحريم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به، فلا يصح تجاوز الحد الطبيعي كالجوع والعطش والشّبع والرّي، ولا المادي بأن تكون النفقة بنسبة معينة من الدّخل لا تستأصله كله، ولا الشرعي فلا يجوز تناول ما حرم الله من الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله، والخمر، إلا للضرورة، ولا يحل الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، ولا لبس الحرير الطبيعي أو تشبه الرجال بالنساء أو بالعكس.
وبناء عليه يكون فعل كل من البخلاء والمترفين المسرفين حراما لا يسوغ
(١) تفسير القرطبي: ٧/ ١٩٢، محاسن التأويل للقاسمي: ٧/ ٢٦٦٤
184
شرعا،
أخرج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت».
وأكد تعالى سنته وشريعته القائمة على الاعتدال، فرد على من حرم شيئا من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله، فقال:
قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ... ؟
أنكر الله تعالى على أولئك الذين حرموا المباحات، وأمر نبيه أن يقول مستفهما استفهام إنكار من هؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: من حرم الزينة والطيبات من الرزق التي خلق الله موادها لعباده، وعلّمهم بما ألهمهم وأودع في فطرهم كيفية صنعها والانتفاع بها، فهي مستحقّة مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وغيرهم تبع لهم، فإن أشركهم فيها الكفار فعلا في الدنيا، فهي للمؤمنين خاصة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد من الكفار فإن الجنة محرمة على الكافرين.
ومثل هذا التفصيل التام لحكم الزينة والطيبات، نفصل الآيات الدالة على كمال الشرع والدين وصدق النبي وإتمام الشريعة لقوم يعلمون علوم الاجتماع والنفس والطب ومصالح البشر، فيتدبرون ويتعظون، لا لقوم يجهلون هذه العلوم والمعارف اللازمة لتقدم الإنسان والحضارة والمدينة والعمران، فمعنى قوله:
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصّل لكم ما تحتاجون إليه.
وكل هذا دليل على أن الإسلام دين الكمال الروحي والعقيدة السليمة، والسمو الخلقي، وقوة الجسد والنفس للتغلب على مصاعب الحياة، وتأدية رسالة الإنسان الذي جعله الله خليفة عنه في الأرض، وسخر له كل ما في السموات والأرض فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة ٢/ ٢٩] وقال:
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [لقمان ٣١/ ٢٠].
185
فقه الحياة أو الأحكام:
لم يترك الإسلام أو القرآن شيئا من شؤون الحياة المادية والمعنوية إلا أبانها وأوضح أحكامها ومقاصدها، فلم يقتصر على وضع أنظمة التشريع للعلاقات الاجتماعية فحسب، وإنما وضع أنظمة الحياة كلها، مما يدل على أن القرآن شريعة الحياة.
ومن هذه الأنظمة وجوب ارتداء الملابس والثياب الحسنة وستر العورة لأنه مظهر حضاري رفيع، ومنها إباحة المآكل والمشارب وطيبات الرزق من غير تقتير ولا إسراف، ولا بخل ولا ترف. وهذا دليل على منهج الإسلام في التوسط بالأمور لأنه دين الوسطية.
ومن ألزم حالات الستر: أثناء الصلاة وعند تجمع الناس للطواف بالبيت الحرام وغيره.
وقد دلت آية خُذُوا زِينَتَكُمْ على وجوب ستر العورة. وذهب جمهور العلماء إلى أنه فرض من فروض الصلاة. بل هو- كما قال الأبهري- فرض في الجملة، وعلى الإنسان ستر عورته عن أعين الناس في الصلاة وغيرها، وهو الرأي الصحيح:
لقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه مسلم- للمسور بن مخرمة: «ارجع إلى ثوبك، فخذه، ولا تمشوا عراة».
ودلّ قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا على إباحة الأكل والشرب، ما لم يكن سرفا أو مخيلة، أي كبر. قال الجصاص: ظاهر الآية يوجب الأكل والشرب من غير إسراف، وقد أريد به الإباحة في بعض الأحوال، والإيجاب في بعضها، أما الإباحة ففي الحال التي لا يخاف الضرر بتركهما، وأما الإيجاب ففي الحال التي يخاف لحوق الضرر بترك الأكل والشرب أو الضعف عن أداء الواجبات. وظاهر الآية يقتضي جواز أكل سائر المأكولات وشرب سائر
186
الأشربة مما لا يحظره دليل، بعد أن لا يكون مسرفا فيما يأتيه من ذلك، لأنه أطلق الأكل والشرب على شريطة ألا يكون مسرفا فيهما «١».
فأما ما تدعو الحاجة إليه: وهو ما سد الجوعة، وسكّن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا لما فيه من حفظ النفس والجسد ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال لأنه يضعف الجسد، ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وهو أمر يمنع منه الشرع، ويدفعه العقل.
وأما تناول الزائد عن الحاجة فقيل: حرام، وقيل: مكروه. قال ابن العربي: وهو الأصح فإنّ قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطّعمان «٢».
وقد رغب النّبي صلّى الله عليه وسلّم في تقليل الطعام،
فقال فيما رواه الترمذي عن المقدام بن معديكرب: «ما ملأ آدمي ووعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه».
وروى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معى واحد»
المعى: المعدة. والمعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء، والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد، فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثاله لأن فقد الإيمان يجعله مقبلا على انتهاب اللذات والمتع المادية.
والإسراف بكثرة الأكل والشرب ممنوع شرعا لأن التخمة بالأكل تربك أعضاء الهضم، وتذهب الفطنة، وكثرة الشرب تثقل المعدة، وتثبط الإنسان عن
(١) أحكام القرآن: ٣/ ٣٣
(٢) أحكام القرآن: ٢/ ٧٧١
187
القيام بواجبه الديني والدنيوي، فإن أدى الإسراف إلى المنع من القيام بالواجب حرم، وكان في عداد المسرفين الذين يعاقبهم الله تعالى.
ومن الإسراف: تحريم ما لم يحرمه الله على الناس. وقد أنكر الله على من حرّم من تلقاء نفسه من الزينة وهي الملبس الحسن، ما لم يحرّمه الله على أحد.
ودلت آية: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ على مشروعية لباس الرفيع من الثياب، والتجمّل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان.
قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجمّلوا.
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلّة سيراء «١» تباع عند باب المسجد، فقال:
يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة»
فما أنكر عليه ذكر التجمّل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء.
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده».
وليس لبس الخشن من الثياب سببا في زيادة التقوى، بالتذرع بقوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ فإن كبار الصالحين كانوا يتجملون بالثياب الجياد للجمعة والعيد ولقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود قبيحا عندهم، وقد اشترى تميم الداري حلّة بألف درهم، كان يصلي فيها، وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد.
وروى مسلم عن ابن مسعود في النظافة وتحسين الهيئة: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس».
(١) سيراء: نوع من البرود فيه خطوط صفر، أو يخالطه حرير. [.....]
188
وطيبات الرزق حلال، وهي اسم عام لكل ما طاب كسبا وطعما. وهي مستحقة في الأصل للمؤمنين المصدقين بوجود الله، الموحّدين له، وغيرهم تبع لهم يستمعون بها في الدنيا مع المؤمنين. أما في الآخرة فهي خاصة بالذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء، كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها.
والخلاصة: الإسلام دين الواقع والحياة، فهو يجمع بين المادة والروح، ويستهدف الكمال المعنوي بالإيمان والأخلاق، والكمال المادي بقوة الأجساد التي تكون عونا على أداء العبادات والجهاد في سبيل الله، فالاستغناء عن الطعام والشراب فيه إضعاف البدن، ويؤدي إلى التقصير في الواجبات.
وليست المظاهر من لبس الثياب الجميلة مخلّة بالتقوى والتدين، كما أن التقشف والزهد المبالغ فيه لحرمان النفس من متع الحياة المباحة ليس مرغوبا فيه شرعا.
وإنما المهم إصلاح النفس بالأخلاق، وعمارة القلب بالإيمان، وتزكية النفس بالعمل الصالح والجهاد.
ولا يعقل أن يكون دين الله سببا لإضعاف أحد، أو لتأخر الأمة، وإنما الضعف أو التخلف ناجم من كسل الناس وتراخيهم وجهلهم، وتفكك جماعتهم، وتنافرهم وتباغضهم.
فالإنسان مستخلف عن الله في الأرض، وهو أمين على ما فيها من خيرات وكنوز ومنافع، ومسئول عن القيام بواجبه في تقدم الحياة وإصلاح العمران، والسبق في الحياة بمختلف أنماطها الزراعية والصناعية والاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية.
189
أصول المحرّمات على النّاس
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٣]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)
الإعراب:
ما ظَهَرَ مِنْها: إِنَّما: في موضع نصب على البدل من الْفَواحِشَ. وَأَنْ تُشْرِكُوا في موضع نصب بالعطف على الْفَواحِشَ، وكذلك قوله: وَأَنْ تَقُولُوا.
البلاغة:
ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ يوجد طباق بين ظَهَرَ وبَطَنَ.
ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً فيه تهكم لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره.
المفردات اللغوية:
الْفَواحِشَ الأفعال الزائدة في القبح، التي تنفر منها الفطر السليمة والعقول الراجحة، وهي الكبائر مثل الزنى والقذف والسّب القبيح والبخل ونحوها. ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي الجهرية والسرية. وَالْإِثْمَ المعصية مطلقا، وهي تشمل الكبائر كما ذكر والصغائر مثل النظر بشهوة لغير الزوجة. وَالْبَغْيَ الظلم وتجاوز الحدود في الفساد والحقوق. سُلْطاناً حجّة.
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من تحريم ما لم يحرم وغيره.
المناسبة:
وجه الرّبط بين هذه الآية وما قبلها واضح، فلما أنكر تعالى على المشركين وغيرهم تحريم ما ليس بحرام كالزينة وطيبات الرّزق، ذكر هنا أنواع المحرّمات وأصولها وهي خمسة، جميعها مما يكسبه الإنسان لا من الخلقة والموهبة الفطرية.
190
قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت عيّرهم المشركون، فنزلت هذه الآية.
التفسير والبيان:
قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين حرّموا ما أحلّ الله من الطّيبات، واللّباس: إنما حرّم الله خمسة أشياء هي أصول المحرّمات، وهي ما يأتي:
١- الفواحش الظاهرة والباطنة- الجهرية والسرية: وهي الأعمال المفرطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن، أو هي عبارة عن الكبائر، لأنه قد تفاحش قبحها، أي تزايد، مثل الزنى والسرقة والخروج على الجماعة.
٢- والإثم أي ما يوجب الإثم والذّنب: وهو المعاصي الصغائر، فكان معنى الآية: أنه حرّم الكبائر والصغائر، مثل النظر بشهوة لغير الزوجة. وقيل:
الإثم: المعصية أو الذّنب مطلقا، وهو عطف عام على خاص.
٣- والبغي: أي الظّلم وتجاوز الحدّ في الفساد والحقوق، بالاعتداء على حقوق الناس الآخرين أفرادا وجماعات. وقيد البغي بكونه بغير الحق، لأن التّجاوز إذا كان لمصلحة عامة أو مع التراضي، فلا شيء فيه.
٤- والشّرك بالله: وهو أقبح الفواحش، وهو أن يجعل مع الله إله آخر من صنم أو وثن أو شخص، لم تقم عليه حجّة من عقل ولا برهان من وحي، وسميت الحجّة سلطانا، لأنها ترجح قول الخصم على غيره، ويكون لها تأثير على عقل السامع وفكره، وهي مثل قوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١١٧].
وفي هذا دلالة على أن البرهان أساس الاستدلال على صحة العقيدة، وأن الإيمان لا يقبل بغير وحي من الله، يدعمه الدّليل والبرهان.
191
٥- التّقول على الله بغير علم ولا حجّة: كالافتراء والكذب على الله، بادّعاء أنّ له ولدا، أو شريكا من الأوثان: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج ٢٢/ ٣٠]، وتحليل الحرام وتحريم الحلال بلا سند ولا حجّة، وهو القول بالرّأي المحض دون دليل من الشرع، وهو سبب تحريف الأديان، والابتداع في الدين الحق، واتباع الهوى والشيطان، كما فعل أهل الكتاب: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ [النحل ١٦/ ١١٦]، وهو منهج أدعياء التجديد، وتخطي الشريعة باسم الاجتهاد،
كما روى الشيخان: «لتتبعنّ سنن من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟».
وطريق الاجتهاد معروف في الشريعة: وهو النظر في القرآن والسّنة والإجماع نظرا صحيحا على أصول شرعية، ثم القياس عليها، أو الأخذ بالرأي الشامل للاستحسان والاستصلاح ونحوهما، وهو الرأي المتفق مع روح الشريعة وأصولها ومبادئها العامة.
وقد أثير تساؤل حول هذه الآية، مضمونه أن كلمة إِنَّما تفيد الحصر، فقوله: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ كذا وكذا يفيد الحصر، والمحرّمات غير محصورة في هذه الأشياء.
وأجيب: بأن الجنايات محصورة في خمسة أنواع: أحدها- الجنايات على الأنساب، وهي إنما تحصل بالزنى، وهي المراد بقوله: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ. وثانيها- الجنايات على العقول، وهي شرب الخمر، وإليها الإشارة بقوله: الْإِثْمَ. وثالثها- الجنايات على الأعراض. ورابعها- الجنايات على النفوس وعلى الأموال، وإليهما الإشارة بقوله: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وخامسها- الجنايات على الأديان، وهي من وجهين: أحدها- الطّعن
192
في توحيد الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ. وثانيها- القول في دين الله من غير معرفة، وإليه الإشارة بقوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فلما كانت أصول الجنايات هي هذه الأشياء، وكانت البواقي كالفروع والتوابع، جعل ذكر هذه المحرمات جاريا مجرى ذكر الكلّ، فأدخل فيها كلمة: إِنَّما المفيدة للحصر «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت هذه الآية كما اتّضح من تفسيرها على تحريم أصول الأعمال المحرّمة، وهي تشمل الانحراف عن العقيدة (الشرك بالله) ومصادمة الشريعة: (القول في دين الله بغير علم ولا معرفة، والجنايات على العقول (تحريم الإثم وهو يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة) بدليل قول الشاعر:
شربت الإثم حتى ضلّ عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول
والإثم كما قال الحسن البصري: الخمر، وقال الجوهري في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثما. والجنايات على الأنساب (الزنى) والجنايات على النفوس والأموال (القتل والسرقة) والأعراض (القذف) وهو الظلم الاجتماعي والفردي المشار إليه بقوله تعالى: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
ويظهر من ذلك أن أصول المحرّمات تتناول العقيدة والشريعة والأخلاق أو السلوك والآداب، سواء ما تعلّق بالخطايا المقتصرة على النفس، وهو الإثم، والمتعدية ضررها إلى الناس وهو البغي.
(١) تفسير الرازي: ١٤/ ٦٧
193
أجل كلّ أمّة وفرد
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٤]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)
المفردات اللغوية:
أَجَلٌ وقت محدد، أو مدّة معلومة في علم الله. ساعَةً أقل وقت يقضى فيه عمل ما.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى الحلال والحرام وأحوال التّكليف، فأوضح مباحات الزّينة وطيّبات الرّزق من غير إسراف، وأعقبه بذكر أصول المحرّمات لما فيها من الضّرر والفساد، ذكر هنا أنّ لكل فرد أو جماعة أجلا معيّنا لا يتقدّم ولا يتأخّر، فإذا جاء الأجل مات كل واحد حتما، وفي أثناء الحياة يعرف مدى اتّباع منهج الله في الحلال والحرام، والغرض منه التّخويف، ليتشدد المرء في القيام بالتّكاليف كما يلزم.
التفسير والبيان:
لكلّ أمّة، أي قرن وجيل، ولكلّ فرد وشيء في الوجود أيضا أجل معلوم وهو الوقت المحدد لانقضاء المهلة، وهو يشمل الوقت المحدد للحياة الدّنيا، ومدّة العزّة والسّعادة، أو الذّل والشقاوة بين الأمم.
فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي ميقاتهم المقدّر لهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً أي أقلّ مدة من الزمن وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عنها، أي لا يتأخّرون عن ذلك الأجل المعيّن ولا يتقدّمون، لا بساعة ولا بما هو أقل من ساعة، إلا أنه تعالى ذكر الساعة، لأن هذا اللفظ أقل أسماء الأوقات.
194
وفي تعيين المراد بالأجل قولان:
الأول- لابن عباس والحسن البصري ومقاتل: وهو أن الله تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين، فإذا جاء وقت عذاب الاستئصال، نزل ذلك العذاب لا محالة.
والثاني- أن المراد بهذا الأجل: العمر، فإذا انقطع ذلك الأجل وكمل امتنع وقوع التقديم والتأخير فيه.
قال الرازي: والقول الأول أولى، لأنه تعالى قال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ولم يقل ولكلّ أحد أجل. وعلى القول الثاني: إنما قال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ولم يقل: لكلّ أحد، لأن الأمّة هي الجماعة في كلّ زمان، وهي مكوّنة من الأفراد، وهي متقاربة في الأجل، لأن ذكر الأمّة فيما يجري مجرى الوعيد أفحم وأبلغ.
وعلى القول الثاني: يلزم أن يكون لكل أحد أجل، لا يقع فيه التّقديم والتّأخير، فيكون المقتول ميتا بأجله.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن آجال الأمم والجماعات والأفراد مؤقتة محددة بوقت معين، فإذا جاء أجل الموت، لم يتأخّر ولم يتقدّم لحظة. وأجل الموت: هو وقت الموت، وأجل الإنسان: هو الوقت الذي يعلم الله أنه يموت الحي فيه لا محالة، وهو وقت لا يجوز تأخير موته عنه، لا من حيث إنه ليس مقدورا تأخيره، فليس المراد منه أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص، ولا يقدر على أن يميته في ذلك الوقت، لأن هذا يقتضي خروجه تعالى عن كونه قادرا مختارا.
وفي هذا دليل على أن المقتول إنما يقتل بأجله.
195
أما الأجل المعنوي فللأمم دورات في التاريخ، فقد تكون عزيزة سعيدة، وقد تصبح ذليلة شقية.
وفي المقياس الشرعي: عزّة الأمّة وسعادتها بامتثال الشّرع، والالتزام بالدّين، والتّمسك بالأخلاق والفضائل، وذلك لأجل معين.
وشقاء الأمة بإعراضها عن الدّين، وابتعادها عن الفضائل والأخلاق، وانتشار الرّذائل والمنكرات والمفاسد والمظالم في أوساطها، وذلك يعجل دمارها، ولها فيه أجل معيّن.
وقد تفضّل الله على الأمم بعد بعثة النّبي صلّى الله عليه وسلّم فرفع عنها عذاب الاستئصال والإبادة الجماعية، لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٧].
وهذا ينطبق على الأمة الإسلامية وغيرها، والآية تهديد ووعيد بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله، لكلّ من يخالف أمر الله، ويسير في الضلالة على غير هدى، كأهل مكة ونحوهم من الأمم الباغية.
ما خوطبت به كلّ أمّة على لسان رسولها وإنذار المكذّبين بآيات الله
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)
196
المفردات اللغوية:
إِمَّا أدغمت نون: إن الشرطية في ما الزائدة، أي إن يأتكم. وضمّت «ما» إلى «إن» الشرطية تأكيدا لمعنى الشرط، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة. يَقُصُّونَ القصص: اتّباع الحديث بعضه بعضا. آياتِي أي فرائضي وأحكامي. فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ شرط وما بعده جوابه، وهو جواب الشرط الأول: إِمَّا. وقوله: وَأَصْلَحَ أي وأصلح منكم ما بيني وبينه. وقيل: جواب: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ: ما دلّ عليه الكلام، أي فأطيعوهم، فمن اتّقى وأصلح.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن لكلّ أحد أجلا معيّنا لا يتقدّم ولا يتأخّر، بيّن أحوال بني آدم بعد الموت، إن كانوا مطيعين فلا خوف عليهم ولا حزن، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشدّ العذاب.
التفسير والبيان:
أنذر الله تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته ويخبرونهم بأحكامه وفرائضه، فقال: يا بني آدم إن أتاكم رسول منكم ومن جنسكم يخبركم بما أوجبته عليكم، وما وضعته لكم من أنظمة في العبادات والمعاملات والأخلاق، وما أمرتكم به من صالح الأعمال، وما نهيتكم عنه من الشّرك وقبائح الأفعال، فأنتم في أحد حالين، أحدهما يبشّر والآخر يحذّر:
فمن اتّقى الله وأصلح ما بيني وبينه، فترك المحرّمات وفعل الطّاعات، فلا خوف عليه من عذاب الآخرة، ولا يطرأ عليه حزن حين الجزاء على ما فاته، أو فلا خوف عليه من أحوال المستقبل، ولا حزن عليه من أحوال الماضي.
وإنما قال: مِنْكُمْ لأن كون الرّسول من جنس المرسل إليهم أقطع لعذرهم، وأبين للحجّة عليهم، إذ معرفتهم بأحواله ترشدهم إلى أن المعجزات التي يؤيده الله بها بقدرة الله لا بقدرته، وأن الجنس يألف جنسه.
197
والمقصود بقوله بِآياتِنا أي القرآن، ودلائل التوحيد والألوهية، والأحكام والشرائع، فهي لفظ عام يدخل فيه كل ما ذكر، لأن جميع هذه الأشياء آيات الله تعالى، والرّسل إذا جاؤوا فلا بدّ وأن يذكروا جميع هذه الأقسام.
ومن كذّبت قلوبهم بآيات الله واستكبروا عن قبولها والعمل بها، ورفضوها كبرا وعنادا للرّسل، كما حدث من زعماء قريش حين تكبّروا على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأولئك أصحاب النّار، ماكثون فيها مكثا دائما مخلّدا.
فقه الحياة أو الأحكام:
ينقسم الناس بعد دعوة الرّسل فريقين: فريق المؤمنين الطائعين المصدّقين دعوة الرّسل، وفريق الجاحدين المتمّردين المكذّبين الدّعوة.
أمّا الفريق الأوّل فيهنأ ويسعد بما يلقى من الجزاء الحسن يوم القيامة. ودلّ قوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على أنّ المؤمنين يوم القيامة لا يخافون ولا يحزنون، ولا يلحقهم رعب ولا فزع من أهوال يوم القيامة، ولكنهم آمنون مطمئنون.
وأما الفريق الثاني فيجازى جزاء السّوء بالخلود في نار جهنّم. وقد استدلّ أهل السّنة بقوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ على أن الفاسق من المسلمين أهل الصلاة لا يبقى في النار مخلّدا، لأنه تعالى بيّن أنّ المكذّبين بآيات الله، والمستكبرين عن قبولها، هم الذين يبقون مخلّدين في النّار. وكلمة هُمْ تفيد الحصر، فاقتضى ذلك أن من لا يكون موصوفا بذلك التّكذيب والاستكبار لا يبقى مخلّدا في النّار.
198
عاقبة الكذب ومشهد دخول الكفار إلى النّار
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
الإعراب:
حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا: حَتَّى ابتدائية يبتدأ بعدها الكلام، وهو هاهنا الجملة الشرطية. يَتَوَفَّوْنَهُمْ حال من الرّسل، ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ في موضع الحال، أي كائنين في جملة أمم.
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً: ادَّارَكُوا: أصله تداركوا على وزن تفاعلوا، ثم أبدلت التاء دالا، وأدغمت الدّال في الدّال، فسكّنت الدّال الأولى، والابتداء بالسّاكن محال، فأدخلت ألف الوصل، لئلا يبتدأ بالساكن.
جَمِيعاً: منصوب على الحال من الضمير في ادَّارَكُوا.
المفردات اللغوية:
فَمَنْ أَظْلَمُ... فمن أشنع ظلما ممن تقوّل على الله ما لم يقله أو كذّب ما قاله، أي لا أحد
199
أظلم ممن افترى على الله الكذب، بنسبة الشريك والولد إليه. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ القرآن.
يَنالُهُمْ يصيبهم. نَصِيبُهُمْ حظّهم. مِنَ الْكِتابِ مما كتب لهم في اللوح المحفوظ من الرّزق والأجل وغير ذلك. حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملائكة الموت، وحَتَّى ليست غاية، بل هي ابتداء خبر عنهم، ابتدئ بها الكلام. قالُوا لهم تبكيتا. تَدْعُونَ تعبدون.
ضَلُّوا عَنَّا غابوا عنّا، فلم نرهم. وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ عند الموت.
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ في جملة أمم سابقة. فِي النَّارِ متعلّق بادخلوا. كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ النّار. لَعَنَتْ أُخْتَها التي قبلها لضلالها بها. ادَّارَكُوا تلاحقوا واجتمعوا في النّار.
أُخْراهُمْ منزلة وهم الأتباع. لِأُولاهُمْ منزلة أي لزعمائهم وقادتهم وهم المتبوعون، ومعنى لِأُولاهُمْ: لأجل أولاهم، لأن خطابهم مع الله، لا معهم. عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا على مثله مرّة أو مرّات. لِكُلٍّ ضِعْفٌ لكلّ منكم ومنهم عذاب مضاعف، لأن كلّا من القادة والأتباع كانوا ضالّين مضلّين. وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما لكلّ فريق.
فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسّفلة: لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا، لأنكم تكفرون بسببنا، فنحن وأنتم متساوون في استحقاق الضّعف.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى عاقبة المكذّبين بآيات الله، المستكبرين عن قبولها، ذكر هنا أن من أشنعهم ظلما وأعظمهم بغيا من يتقوّل على الله ما لم يقله، أو يكذّب ما قاله، والأوّل: مثل من يثبت الشّريك لله من أصنام أو كواكب أو بنات وبنين، أو ينسب الأحكام الباطلة إلى الله تعالى، والثاني كمن ينكر أن القرآن نزل من عند الله تعالى على رسوله، أو أنكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
التفسير والبيان:
لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، بأن أوجب ما لم يوجبه، أو حرّم ما لم يحرّمه، أو نسب إلى دينه حكما لم ينزله، أو نسب إلى الله ولدا أو شريكا.
أو كذّب بآيات الله المنزلة بأن أنكر القرآن مثل كفار العرب، أو لم يؤمن بالنّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو استهزأ بالآيات أو تركها مفضلا عليها غيرها.
200
أولئك جميعا ينالهم ما كتب عليهم في كتاب المقادير الذي سجل فيه نظام العالم كلّه، وقدّر لهم من الأرزاق والأعمار، وكتب لمن كذب على الله أن وجهه مسود، أي لهم ما وعدوا به من خير أو شرّ، بالرّغم من ظلمهم وافترائهم على الله.
حتى إذا جاءتهم الرّسل وهم ملائكة الموت يتوفّونهم ويقبضون أرواحهم، قالوا لهم أي سألهم الرّسل تأنيبا وتوبيخا: أين الشّركاء الذين كنتم تدعونهم وتعبدونهم في الدّنيا من دون الله؟! ادعوهم يخلصونكم مما أنتم فيه! أجابوهم:
غابوا عنّا وذهبوا، فلا ندري مكانهم، ولا نرجو منهم النّفع والخير، ولا دفع الضّرّ.
وأقرّوا واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا بدعائهم وعبادتهم إيّاهم كافرين.
ومفاد هذا زجر الكفار عمّا هم عليه من الكفر، ودفعهم إلى النّظر والتّأمل في عواقب أمورهم القائمة على الكفر والضّلال.
ونظير المعنى في هذه الآية قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [يونس ١٠/ ٦٩- ٧٠]، وقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ، إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان ٣١/ ٢٣- ٢٤].
ثمّ أخبر الله تعالى عمّا تقوله الملائكة لهؤلاء المشركين به، المفترين عليه، المكذّبين بآياته: ادخلوا النّار مع أمم أمثالكم وعلى صفاتكم، قد سبقتكم في الكفر، سواء من الجنّ والإنس، فالقائل: إما مالك خازن النّار، أو هو الله عزّ وجلّ، أي قال الله: ادخلوا.
كلّما دخلت جماعة منهم النّار، ورأت العذاب والخزي والنّكال، لعنت أختها في الملّة والدّين التي ضلّت بالاقتداء بها، إذ هي قد ضلّت باتّباعها وتقليدها في الكفر، كما قال تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ
201
بَعْضاً
[العنكبوت ٢٩/ ٢٥]، وهكذا يلعن أصناف الكفار بعضهم بعضا، ويتبرّأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا، كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ، وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة ٢/ ١٦٦- ١٦٧].
حتى إذا تداركوا وتلاحقوا في النّار، واجتمعوا فيها كلّهم، قالت أخراهم دخولا أو منزلة، وهم الأتباع والسّفلة، لأولاهم منزلة أو دخولا، وهم المتبوعون والقادة والرؤساء، لأنهم أشدّ جرما من أتباعهم، فدخلوا قبلهم، قالت قولا يتضمن شكوى الأتباع إلى الله يوم القيامة، لأنهم هم الذين أضلّوهم عن سواء السّبيل. قال الزّمخشري: معنى لِأُولاهُمْ: لأجل أولاهم، لأن خطابهم مع الله، لا معهم. أي قالوا في شأنهم وحقّهم ولأجل إضلالهم.
وتلك الشكوى أنهم يقولون مخاطبين الله: ربّنا هؤلاء السّادة أضلّونا عن الحقّ، فأعطهم عذابا مضاعفا من النّار، أي ضاعف عليهم العقوبة، كما قال تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٦٦- ٦٨].
فأجابهم الله: لكلّ منكم ومنهم عذاب مضاعف، وقد فعلنا ذلك، وجازينا كلّا بحسبه إما بالإضلال أو بالتقليد والضلال، لأن كلّا من القادة والأتباع كانوا ضالّين مضلّين، ولكنّكم لا تعلمون عذابهم. والضّعف: المثل الزّائد على مثله مرّة أو مرّات. وهو مثل قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل ١٦/ ٨٨]، وقوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت ٢٩/ ١٣]، وقوله: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل ١٦/ ٢٥].
202
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ... أي قال المتبوعون للأتباع: إذا كنا قد أضللناكم، فليس لكم فضل علينا، فقد ضللتم كما ضللنا، فنحن وأنتم سواء في استحقاق الضعف، أي قد كفرتم وفعلتم كما فعلنا، فليس تستحقون تخفيفا من العذاب.
فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون، أي تلقوا عذاب الله بما تسببتم به من الكفر والضلال. وهذا من قول القادة، أو من قول الله لهم جميعا. وهو مثل قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ. قالُوا: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا: إِنَّا لَذائِقُونَ. فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الصّافات ٣٧/ ٢٧- ٣٣]. والمقصود من قوله:
فَذُوقُوا الْعَذابَ التّخويف والزّجر، لأنه تعالى لما أخبر عن الرؤساء والأتباع أن بعضهم يتبرأ من بعض، ويلعن بعضهم بعضا، كان ذلك سببا لوقوع الخوف الشديد في القلب.
فقه الحياة أو الأحكام:
أيّ ظلم أشنع من الافتراء على الله تعالى بالتّحليل والتّحريم من غير حكم الله، والتّكذيب بآيات الله قولا أو استهزاء أو استكبارا عن اتّباعها؟! وبالرغم من هذا فإنّ هؤلاء المكذّبين ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر وعمل، وما وعدوا به من خير وشرّ.
ومعنى: ما كتب لهم في اختيار الطّبري، وهو المروي عن ابن زيد وابن عباس وابن جبير: ما قدر لهم من خير وشرّ ورزق وعمل وأجل.
والمقرر أن السّادة والأتباع في الكفر سواء، يدخلون النّار، ويضاعف لهم العذاب، إما بالإضلال وهو فعل السّادة، أو بالتّقليد وإهمال العقل، وهو فعل
203
الأتباع. والتّعذيب ليس تشفّيا وانتقاما، وإنما هو بسبب اقتراف السّيئات واعتقاد الكفر.
جزاء الكافرين
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
الإعراب:
وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ: غَواشٍ: مبتدأ مرفوع، وخبره: وَمِنْ فَوْقِهِمْ. وأصل غَواشٍ: ألا ينصرف، لأنه جمع بعد ألفه حرفان على وزن فواعل، وهو جمع غاشية، إلا أن التّنوين دخلها عوضا عن حذف الياء.
البلاغة:
لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ كناية عن عدم قبول العمل يوم القيامة. حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ فيه تشبيه ضمني، أي لا يدخلون الجنة إلا إذا دخل الجمل في ثقب الإبرة، وهو تمثيل للاستحالة.
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ استعارة لما يحيط بهم من كلّ جانب مثل قوله:
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر ٣٩/ ١٦].
المفردات اللغوية:
بِآياتِنا أدلّتنا على أصول الدّين وأحكام الشّرع، كأدلّة إثبات وجود الله ووحدانيته، وإثبات النّبوة، والبعث والحساب والجزاء في الآخرة. وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها تكبّروا عنها فلم يؤمنوا بها. لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاء، أو لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء إذا عرج بأرواحهم إليها بعد الموت، فيهبط بها إلى سجّين (جهنم) بخلاف المؤمن، فتفتح له، ويصعد بروحه إلى السماء السابعة، كما ورد في الحديث.
يَلِجَ يدخل. الْجَمَلُ البعير الذي نبت نابه. سَمِّ الْخِياطِ ثقب الإبرة، وهو غير ممكن، فكذا دخولهم الجنة مستحيل. وَكَذلِكَ الجزاء. نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ بالكفر،
204
والمراد بالإجرام: كلّ إفساد، كإفساد الفطرة بالكفر. مِهادٌ فراش. غَواشٍ أغطية من النّار، جمع أغشية، وتنوينه عوض من الياء المحذوفة.
المناسبة:
المقصود من هذه الآيات إتمام وعيد الكفار لأنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة عن خلود المكذّبين بالقرآن في النّار، المستكبرين عن الإيمان بالله والنّبي والمعاد، ثم أخبر عن استحالة دخولهم الجنة، وعدم قبول أعمالهم الصالحة.
التفسير والبيان:
إن الذين كذبوا بآياتنا الدّالة على وحدانيتنا وصدق نبيّنا وصحّة النّبوات وإثبات المعاد، لا يصعد لهم عمل صالح لخبث أعمالهم، وإنّما يتقبّل الله من المتّقين، ويقبل العمل الصالح، ويرفع إليه الكلم الطيّب: لقوله تعالى:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ٣٥/ ١٠]، وقوله:
كَلَّا، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين ٨٣/ ١٨]، فلا تفتح لأعمالهم وأرواحهم أبواب السّماء، وهذا فيه جمع بين القولين في تفسير هذه الآية.
ولا يدخلون الجنّة أبدا بحال، فهم مطرودون من رحمة الله، فدخولهم الجنة مستحيل، لقوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وهذا أسلوب شائع بين العرب للدّلالة على الاستحالة، فهم يقولون: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، وحتى يبيضّ القار (الزّفت) وحتى يدخل الجمل في سمّ الخياط. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنّ المراد: حتى يدخل الجمّل أي الحبل الغليظ في خرق الإبرة، قال ابن عباس رضي الله عنه: إن الله أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل، يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سمّ الإبرة، والبعير لا يناسبه. قال الزّمخشري: إلا أن قراءة العامة الْجَمَلُ أوقع، لأنّ سمّ الإبرة مثل في ضيق المسلك، يقال: أضيق من خرت الإبرة، والجمل مثل في عظم الجرم.
205
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي ومثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كلّ من أجرم في حقّ الله، وفي حقّ نفسه، وفي حقّ إخوانه المسلمين، ليدلّ على أنّ الاجرام هو السّبب المؤدّي إلى العقاب، وأن كلّ من أجرم عوقب. ثم كرر ذلك في آخر الآية التالية فقال: وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ لأن كلّ مجرم ظالم لنفسه.
ولهؤلاء المجرمين من نار جهنّم فراش يفترشونه من تحتهم، وأغطية من فوقهم، والمراد أن النّار محيطة بهم، مطبقة عليهم من كلّ جانب، كما قال تعالى: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ [الهمزة ١٠٤/ ٨]، وقال: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [التوبة ٩/ ٤٩]، وقال: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ [الزمر ٣٩/ ١٦].
وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ومثل هذا الجزاء نجزي الظالمين لأنفسهم ولغيرهم من الناس. وهذا دليل على أن المجرمين والظالمين هم الكافرون: لقوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة ٢/ ٢٥٤]، وبدليل أن الذين تقدّم ذكرهم هم المكذبون بآيات الله.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على ما يلي:
١- أعمال الكافرين المكذبين بآيات الله، المستكبرين عنها غير مقبولة، فلا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم أبواب السماء.
٢- إنّ الجنّة في السّماء لأنّ المعنى: لا يؤذن لهم في الصّعود إلى السّماء، ولا تطرق لهم ليدخلوا الجنّة.
٣- يستحيل على الكفار دخول الجنة، فلا يدخلونها البتة، ويحرمون منها أبدا وفي كلّ الأحوال.
206
٤- عذاب النّار يحيط بالكافرين من كلّ جانب، فلا يجدون فيها منفذا للخروج منها، أو التّخفيف من العذاب، فلهم منها غطاء ووطاء، وفراش ولحاف.
٥- المجرمون: هم الكافرون لأن الذين تقدّمت صفتهم هم المكذبون بآيات الله، المستكبرون عنها. والظالمون أيضا: هم الكافرون لأنهم الذين أشركوا بالله واتّخذوا من دونه إلها.
جزاء المؤمنين المتقين
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَأَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
الإعراب:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ... الَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ، وخبره: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ. ولا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اعتراض وقع بين المبتدأ وخبره. ويجوز أن يكون التقدير فيه: لا نكلف نفسا منهم، فحذف «منهم» كقوله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى ٤٢/ ٤٣] أي إن ذلك الصبر منه، أي من الصابر. وقال الرازي: إنما حسن وقوع هذا الكلام المعترض بين المبتدأ والخبر، لأنه من جنس الكلام لأنه لما ذكر عملهم الصالح، ذكر أن ذلك العمل في وسعهم.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ تَجْرِي جملة فعلية حال من الضمير صُدُورِهِمْ في صُدُورِهِمْ.
أَنْ هَدانَا اللَّهُ: أن وصلتها: في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، أي: لولا
207
هداية الله موجودة، لهلكنا أو شقينا. ولا يجوز إظهار خبر المبتدأ بعد: لطول الكلام بها، كما لا يجوز إظهاره بعد القسم في قوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر ١٥/ ٧٢] أي لعمرك قسمي، فلا يجوز إظهار الخبر لطول الكلام بجواب القسم.
أَنْ تِلْكُمُ أن مخففة من الثقيلة تقديره: ونودوا بأنه تلكم الجنة، والضمير ضمير الشأن، أو مفسرة، أي معنى تفسير النداء، والمعنى: ونودوا، أي تلكم الجنة، وهو الأجود عند الرازي.
المفردات اللغوية:
وُسْعَها طاقتها من العمل في الأحوال العادية، لا في وقت الشدة والضيق.
وَنَزَعْنا قلعنا. غِلٍّ حقد أو حسد وعداوة كان بينهم في الدنيا. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ تحت قصورهم. وَقالُوا عند الاستقرار في منازلهم. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم، وهو الإيمان والعمل الصالح. وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ اللام لتوكيد النفي، يعنون: وما كان يستقيم أن نكون مهتدين، لولا هداية الله وتوفيقه.
لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فكان لنا لطفا وتنبيها على الاهتداء، فاهتدينا، يقولون ذلك سرورا واغتباطا بما نالوا، وتلذذا بالتكلم به، لا تقربا وتعبدا.
أُورِثْتُمُوها صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله.
المناسبة:
جرت سنة القرآن الجمع بين الوعيد والوعد، فبعد أن ذكر سبحانه وعيد الكافرين والعصاة، أتبعه بوعد المؤمنين الطائعين.
التفسير والبيان:
لما ذكر الله تعالى حال الأشقياء وجزاءهم، عطف عليه بيان حال السعداء وجزاءهم، ليتميز المؤمن عن الكافر، والمحق عن المبطل، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا.. أي والذين صدقوا بالله ورسله، وعملوا الصالحات، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، هم أهل الجنة دون سواهم، وهم المخلدون فيها أبدا.
وجاء قوله تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة اعتراضية، للتنبيه
208
على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب، وأن العمل الصالح الموصل إلى الجنة سهل غير صعب، فهو ليس شاقا ولا خارجا عن طاقة البشر، بل يسهل على كل إنسان فعله، متى توافر الإيمان، وتأيد بهدي القرآن.
ومعنى الوسع: ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة، لا في حال الضيق والشدة.
ومن نعم الله تعالى على أهل الجنة صفاء نفوسهم وسلامة صدورهم، لا يكدرهم كدر، ولا يؤلمهم ألم، ولا يحزنهم فزع، ولا يحدث بينهم شر لأن الله نزع ما في صدورهم من حسد وحقد وعداوة وغل ونحوها من أمراض النفوس في الدنيا.
جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خلص المؤمنون من النار، حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى اذهبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، فو الذي نفسي بيده، إن أحدهم بمنزلة في الجنة أدل منه بمسكنة الذي كان في الدنيا».
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: بلغني أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط، حتى يؤخذ لبعض من بعض ظلاماتهم في الدنيا، فيدخلون الجنة، وليس في قلوب بعضهم على بعض غلّ».
وروى ابن جرير الطبري عن قتادة قال: قال علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم:
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر ١٥/ ٤٧].
209
وروى عبد الرزاق عن الحسن قال: قال علي: فينا والله أهل بدر نزلت:
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.
وقال المؤمنون شاكرين نعمة الله وفضله: الحمد الله الذي هدانا في الدنيا للإيمان الصحيح والعمل الصالح، الذي كان جزاؤه هذا النعيم، وما كان من شأننا ومستوى تفكيرنا أن نهتدي إليه بأنفسنا، لولا هداية الله وتوفيقه إيانا لاتباع رسله.
وقالوا أيضا حين رأوا مطابقة كل شيء لما أخبر به الرسل: لقد جاءت رسل الله بالحق، وهذا مصداق وعد الله على لسان رسله.
ونادتهم الملائكة: سلام عليكم طبتم، فادخلوها خالدين، هذه الجنة التي أورثكم الله إياها جزاء أعمالكم الصالحة.
أخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار، ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي:
١- الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
٢- التكليف على قدر الطاقة والوسع، سواء في التكاليف الشرعية من عبادات وفرائض، أو في التكاليف المالية كنفقات الزوجات ونحوها.
٣- من نعم الله عز وجل على أهل الجنة: نزع الغلّ الذي كان في الدنيا من صدورهم. والنزع: الاستخراج، والغلّ: الحقد الكامن في الصدر.
210
٤- استحقاق إرث الجنة من جهة العدل بالعمل الصالح، ففي قوله تعالى:
أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دليل على أن الإنسان يدخل الجنة بعمله. لكن دخولها يكون برحمة الله وفضله، كما قال تعالى: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ [النساء ٤/ ٧٠] وقال: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ [النساء ٤/ ١٧٥].
وجاء في صحيح مسلم: «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».
يتبين من هذا أن إرث منازل الجنة بالعمل، ودخولها بالرحمة والفضل الإلهي وهذا رأي القرطبي الذي قال: وبالجملة فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمته، فإذا دخلوها بأعمالهم، فقد ورثوها برحمته، ودخلوها برحمته، إذا أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل عليهم «١». وهذا قريب من رأي ابن كثير، فإنه قال: بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم «٢».
ويمكن التوفيق بنحو آخر أولى وهو أن عمل الإنسان مهما كثر لا يستحق به الجنة لذاته، لولا رحمة الله وفضله، فإنه جعل الجزاء العظيم على العمل القليل، فصار دخول الجنة برحمة الله وفضله.
والخلاصة: العمل الصالح في رأي أهل السنة لا بد منه لدخول الجنة في ميزان العدل وإيجاد تكافؤ الفرص بين جميع الناس، لكن لا بد أن ينضم إليه رحمة الله وفضله، فإنه جعل الجنة جزاء العمل فضلا منه ورحمة، وكافأ على القليل بالكثير فضلا منه ورحمة، لا أن ذلك مستحق عليه وواجب للعبادة وجوب الديون التي لا اختيار في أدائها، كما فهم المعتزلة لأنه يستحيل عقلا إيجاب شيء على الله تعالى.
(١) تفسير القرطبي: ٧/ ٢٠٨- ٢٠٩
(٢) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢١٥
211
محاورة بين أهل الجنة وبين أهل النار والأعراف
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)
الإعراب:
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ أَنْ بالتخفيف، مخففة من الثقيلة، وتقديره: أنّه لعنة الله، فخفف وحذف اسمها وإحدى النونين وهي الأخيرة لأنها الطرف. ويجوز أن تكون أَنْ المخففة بمعنى «أي» مفسرة، ولا موضع لها من الإعراب.
وتقرأ أنّ بالتشديد أيضا مع الفتح، وتنصب اللعنة بها. ومن قرأ: إنّ بكسر الهمزة مع التشديد، فإنه قدر القول كأنه قال: إن لعنة الله. وبَيْنَهُمْ منصوب على الظرف، والعامل مُؤَذِّنٌ عند البصريين لأنه أقرب إليه من أذن، وهو أذن عند الكوفيين، لأنه الأول والعناية به أكثر.
يَعْرِفُونَ كُلًّا جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة لرجال.
وَهُمْ يَطْمَعُونَ بِسِيماهُمْ مبتدأ، ويَطْمَعُونَ جملة فعلية في موضع خبر المبتدأ، والمبتدأ وخبره في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في يَدْخُلُوها. ومعناه: أنهم يئسوا من الدخول، فلم يكن لهم طمع فيه، ولكنهم دخلوا وهم على يأس من ذلك.
المفردات اللغوية:
وَنادى للتقرير والتبكيت. ما وَعَدَنا رَبُّنا من الثواب، والوعد يشمل الخير
212
والشر. ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب وتسميته هنا وعدا تهكم أو من قبيل المشاكلة. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد، والأذان: رفع الصوت بالإعلام بالشيء. لَعْنَةُ اللَّهِ اللعنة: الطرد من رحمة الله مع الإهانة والخزي. وَيَبْغُونَها يطلبون السبيل. عِوَجاً معوجا أو ذا عوج أي غير مستقيم، والعوج: للمرئيات، والعوج: لغير المرئي كالقول والرأي. حِجابٌ حاجز أو سور بين الجنة والنار. وَعَلَى الْأَعْرافِ جمع عرف وهو أعلى الشيء وكل مرتفع من الأرض وغيرها، والمراد هنا: سور الجنة. رِجالٌ استوت حسناتهم وسيئاتهم. بِسِيماهُمْ بعلامتهم، وهي بياض وجوه المؤمنين، وسواد وجوه الكافرين، لرؤيتهم لهم، إذ موضعهم عال. لَمْ يَدْخُلُوها أي أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها الجنة. وَهُمْ يَطْمَعُونَ في دخولها. صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ حوّلت أبصار أهل الأعراف. تِلْقاءَ جهة.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى وعيد الكفار وثواب أهل الطاعة والإيمان، أتبعه بذكر المناظرات التي تدور بين الفريقين، بعد استقرار كل فريق في موضعه من النار أو الجنة.
وهذه المناظرة تشعر بأن أهل الجنة يشرفون من علو على أهل النار، وأن بعضهم يخاطب بعضا ليزداد أهل الجنة معرفة بمقدار النعمة، ويزداد أهل النار حسرة على ما فرطوا في الدنيا.
ومع أن الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرضين، فيمكن حصول هذا النداء مع هذا البعد الشديد، لأن لعالم الآخرة أحوالا تختلف عن عالم الدنيا، فيستطيع الإنسان أن يسمع ويرى من بعيد، ولأن البعد والقرب ليس من موانع الإدراك، كما قال الرازي.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى بما يخاطب به أهل النار تقريعا وتوبيخا، وأن هذا النداء:
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ إنما يحصل بعد استقرار الفريقين في
213
الجنة والنار، بدليل ما ذكر في الآية المتقدمة من قوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها.
وقوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ يفيد العموم، فهل النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار، أو من البعض للبعض؟ الجواب أن الجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، وكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في الدنيا.
والمعنى: إن أصحاب الجنة بعد استقرارهم فيها ينادون أهل النار بعد استقرارهم فيها أيضا، قائلين: قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة الرسل من النعيم والتكريم حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من الخزي والنكال حقّا؟
والسؤال يتضمن تقرير أهل الجنة بصدق ما بلّغهم الرسل من وعد ربهم، وتقريع وتوبيخ أهل النار على ما حدث منهم من جناية على أنفسهم بتكذيب الرسل. قالُوا: نَعَمْ قال سيبويه: «نعم: عدة أو تصديق» والمعنى أنهم أجابوا بالإيجاب، فإنا وجدنا ما وعدنا به ربنا على الكفر، وها نحن نتلظى في عذاب النار. وهذا يدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة، بأن وعد الله ووعيده حق وصدق.
وهذا التقريع من الله يعقبه تقريع من الملائكة يقولون لهم: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور ٥٢/ ١٤- ١٦].
وقد قرّع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا قتلى القليب (البئر) من الكفار يوم بدر فنادى: «يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة- وسمى رؤوسهم- هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» وقال عمر: يا رسول الله، تخاطب قوما قد جيفوا، فقال: «والذي نفسي
214
بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا».
وكانت نتيجة الحوار أو المناظرة أن أذن مؤذن، أي أعلم معلم ونادى مناد:
أن لعنة الله على الظالمين، أي لعنة الله (الطرد من رحمته) مستقرة عليهم لأنهم ظلموا أنفسهم بعدم الإيمان. والمؤذن: إما مالك خازن النار، وإما ملك غيره.
ثم وصف الظالمين بقوله: الَّذِينَ يَصُدُّونَ... أي الذين يمنعون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء، ويطلبون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة، حتى لا يتبعها أحد.
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون، أي جاحدون مكذبون بذلك، لا يصدقونه ولا يؤمنون به، فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل لأنهم لا يخافون حسابا عليه ولا عقابا، فهم شر الناس أقوالا وأعمالا.
وبين الفريقين: أهل الجنة وأهل النار حجاب أي حاجز مانع من وصول أهل النار، وهو السور الذي قال الله تعالى فيه: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ، لَهُ بابٌ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [الحديد ٥٧/ ١٣].
وأعالي السور هي الأعراف التي قال الله تعالى فيها: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ.. أي على أعالي ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار، ويعرفون كلا منهم بعلامتهم من بياض وجوه المؤمنين وسواد وجوه الكافرين، كما وصفهم الله بها في قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس ٨٠/ ٣٨- ٤٢].
وأهل الأعراف: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهم موحدون قصرت
215
بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم النار، وقفوا هناك حتى يقضى الله فيهم.
روى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمن استوت حسناته وسيئاته فقال: «أولئك أصحاب الأعراف، لم يدخلوها وهم يطمعون».
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري والبيهقي وغيرهما عن حذيفة قال: «هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس، فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم ربك فقال لهم:
اذهبوا فادخلوا الجنة، فإني قد غفرت لكم»
.
وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ... أي ونادى أصحاب الأعراف أهل الجنة قائلين لهم: سلام عليكم، وهو تحية خالصة بعد دخول الجنة لقوله تعالى:
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً [الواقعة ٥٦/ ٢٥- ٢٦].
نادوهم مسلّمين عليهم، حال كونهم لم يدخلوا الجنة، ولكنهم يطمعون في دخولها، لما بدا لهم من يسر الحساب، ولعلهم بسعة رحمة الله وفضله. تلا الحسن البصري هذه الآية: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ فقال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم. والناس في ذلك الموقف يكونون بين الرجاء والخوف، روى أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
لو نادى مناد: يا أهل الموقف، ادخلوا النار إلا رجلا واحدا، لرجوت أن أكون ذلك الرجل، ولو نادى: ادخلوا الجنة إلا رجلا واحدا، لخشيت أن أكون ذلك الرجل.
وإذا حولت أبصار أهل الأعراف نحو أهل النار من غير قصد، فرأوا وجوههم مسودة، وأعينهم مزرقة، قالوا متضرعين إلى الله تعالى: ربنا لا تجعلنا مع هؤلاء القوم الظالمين أنفسهم.
216
والآية تدل على أنهم ينظرون إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة، ويسلّمون عليهم، ويكرهون رؤية أهل النار، فإذا صرفت أي حولت أعينهم من غير قصد ولا رغبة إلى جهة أهل النار، استغاثوا وتضرعوا ألا يكونوا معهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- تستهدف المناظرة أو الحوار أو المناداة بين أهل الجنة وأهل النار تقريع الكفار وتعييرهم، ثم تحسم المناظرة بصوت مناد ينادي من الملائكة بأعلى صوته:
لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
٢- الآية تدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة بأن وعد الله ووعيده حق وصدق، ولا يمكن ذلك إذا كانوا عارفين يوم القيامة بذات الله وصفاته.
٣- أوقع المؤذن لعنة الله على من كان متصفا بصفات أربع:
أ- هي كونهم ظالمين أي مشركين أو كفارا بدليل وقوع المناظرة بين أهل الجنة وبين الكفار.
ب- وكونهم يصدون عن سبيل الله، أي يمنعون الناس من قبول الدين الحق، إما بالزجر وإما بالحيل.
ج- كونهم يبغونها عوجا أي يلقون الشكوك والشبهات في دلائل الدين الحق.
د- وهم بالآخرة كافرون، وهذا تصريح بأن تلك اللعنة ما وقعت إلا على الكافرين.
٤- إن أصحاب الأعراف أي السور القائم بين الجنة والنار، يترددون بين
217
حالين: ينادون أصحاب الجنة ويسلّمون عليهم ويتأملون دخول الجنة فضلا من الله ورحمة، وهم لم يدخلوها بعد، ولكنهم يعلمون أنهم يدخلون. ويرون أهل النار فجأة من غير قصد ولا رغبة، فيسألون الله تذللا وتضرعا ألا يجعلهم معهم، وقد علموا أنه لا يجعلهم معهم.
وأصحاب الأعراف: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، في رأي جماعة من الصحابة والتابعين، قال ابن عطية:
وفي مسند خيثمة بن سليمان حديث عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة «١»، دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار. قيل:
يا رسول الله، فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون».
المناظرة بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
الإعراب:
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ الهمزة في أَهؤُلاءِ: همزة الاستفهام، وهؤُلاءِ: مبتدأ، والَّذِينَ: خبر مبتدأ محذوف تقديره: أهؤلاء هم الذين أقسمتم عليهم،
(١) الصؤابة: بيض القملة.
218
فحذف عليهم. ولا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ: جواب أَقْسَمْتُمْ، والقسم وجوابه في صلة الَّذِينَ.
لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ.. جملة النفي حال، أي مقولا لهم ذلك.
المفردات اللغوية:
رِجالًا من أصحاب النار. ما أَغْنى عَنْكُمْ من النار. جَمْعُكُمْ المال أو كثرتكم واجتماعكم. وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي واستكباركم عن الإيمان. أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ... أي ويقول أصحاب الأعراف لأهل النار مشيرين لهم إلى ضعفاء المسلمين.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى أثر التفاتة أصحاب الأعراف على أصحاب النار بقوله:
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ... أتبعه أيضا بأن أصحاب الأعراف ينادون رجالا من أهل النار. واستغنى عن ذكر أهل النار لأجل أن الكلام لا يليق إلا بهم، وهو قولهم: ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ وذلك لا يليق إلا بمن يبكت ويوبخ، ولا يليق أيضا إلا بأكابرهم.
التفسير والبيان:
هذا نداء آخر من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبرين الذين يعتمدون على قوتهم وغناهم، ويحتقرون ضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعفهم، مضمونه الإخبار عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم، يعرفونهم في النار بسيماهم وعلامتهم المميزة لهم.
ينادي بعض أهل الأعراف رجالا من المشركين يعرفونهم بعلاماتهم وهي سواد الوجوه وما عليها من الغبرة وزرقة العيون، وتشوية الخلقة، فيقولون لهم: ما أغنى عنكم جمع المال، أو اجتماعكم وكثرتكم، ولا استكباركم عن الإيمان برسالة محمد، أي لم تنفعكم كثرتكم، ولا جموعكم ولا تكبركم عن الإيمان من عذاب
219
الله، بل صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب والنكال، وكذلك لم ينفعكم تكبركم على الفقراء والمستضعفين المؤمنين.
وتبددت أفكاركم التي تزعم أن من أغناه الله في الدنيا، وجعله قويا هو الذي له نعيم الآخرة، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ، وَقالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ ٣٤/ ٣٤- ٣٥].
ثم سألوهم سؤال توبيخ وتأنيب عن حال المستضعفين الذين كانوا يضطهدونهم في الدنيا بسبب إيمانهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم كصهيب الرومي وخبيب بن عدي وبلال الحبشي وآل ياسر، وأشاروا إليهم:
أهؤلاء هم الذين حلفتم في الدنيا ألا ينالهم الله برحمة لفقرهم وضعفهم وقلة أتباعهم، وهم يرتعون في نعيم الجنة ويتمتعون بخيراتها، والكفار يتحرقون في سعير جهنم؟! ثم قال الله تعالى أو قالت الملائكة لأصحاب الأعراف الموقوفين على السور:
ادخلوا الجنة، لا خوف عليكم في المستقبل، ولا يطرأ عليكم حزن في حاضركم.
وفائدة المحاورة والقول: تبيان أن الجزاء على قدر العمل، والترغيب في التسابق في أعمال الخير، وأن المعول عليه ليس هو المال والغنى والقوة، وإنما المنظور إليه هو العمل الصالح، وأن الطائعين يتميزون بالنضرة، وأن العصاة يعرفون بالغبرة والزّرقة وتشوه الخلقة.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن معايير التفاضل وموازين التقدم والتفوق في الآخرة تختلف عما هي عليه في الدنيا، فليس المال والقوة والتجمع أساس العزة والسعادة والنجاة في الآخرة،
220
وإنما الأساس هو الإيمان والعمل الصالح، ففريق الزعماء المشركين الأشداء المتكبرين والأغنياء هم في النار، وفريق المؤمنين الأتقياء الضعاف المتواضعين لله هم في أعالي الجنان.
وفضل الله ورحمته يشملان المقصرين أهل الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهو رد على أهل النار الذين يحلفون أن أصحاب الأعراف يدخلون معهم النار، فتقول الملائكة لأهل الأعراف: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ.
ما يقوله أهل النار لأهل الجنة أو استغاثة أهل النار بأهل الجنة لإمدادهم بالطعام والشراب
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)
الإعراب:
حَرَّمَهُما فعل ماض، لم يقل: حرّمه، وإن كان التقدير: أفيضوا علينا أحد هذين، لأن أو هاهنا للإباحة، وهي لتجويز الجمع كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين. فيجوز أن يجمع بينهما، فأشبهت الواو التي للجمع، فحملت عليها. أي أنه ثنّى الفعل لأنه أقام أَوْ مقام الواو، وإن كانت أَوْ لتجويز الجمع، والواو لإيجاب الجمع.
كَما نَسُوا.. وَما كانُوا كَما في الحالين في تأويل المصدر، والأولى هي في موضع جر بالكاف، وتقديره: فاليوم ننساهم كنسيانهم لقاء يومهم هذا. والثانية في موضع جر بالعطف على كَما الأولى.
221
المفردات اللغوية:
أَفِيضُوا عَلَيْنا أفاض الماء: صبه، ثم استعمله في الشيء الكثير. أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من الطعام. حَرَّمَهُما منعهما. نَنْساهُمْ نتركهم في النار. كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا بتركهم العمل له. وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي وكما جحدوا أي أنكروا.
المناسبة:
الآيتان استمرار في محاورة الناس يوم القيامة، فبعد أن بيّن الله تعالى الحوار بين أهل الجنة وأهل النار، والحوار بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار، وما قاله الفريق الأول للثاني، أتبعه بذكر ما يقوله أهل النار لأهل الجنة.
التفسير والبيان:
هذا مشهد من مشاهد سوء أهل النار يوم القيامة، فالله يخبر عن ذلة أهل النار وسؤالهم الطعام والشراب من أهل الجنة، وأنهم لا يجابون إلى ذلك.
ومعنى الآية: إن أهل النار يطلبون من أهل الجنة أن يفيضوا عليهم من النعم الكثيرة التي يتمتعون بها من شراب وطعام. وقوله: أَفِيضُوا معناه صبوا علينا من الماء أو النعم الشيء الكثير، ومعنى قوله: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي من غيره، فيشمل الطعام والأشربة غير الماء. وقد استغاثوا بهم مع علمهم بأنهم لا يجابون أبدا، بسبب الحيرة في أمرهم، ولشدة حاجتهم إلى الماء، كما يفعل كل مضطر، كالغريق وغيره. وقوله: أَفِيضُوا فيه دليل على أن الجنة فوق النار.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة، طمع أهل النار بفرج بعد اليأس، فقالوا: يا ربنا، إن لنا قرابات من أهل الجنة، فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فأمر الله الجنة فتزحزحت، ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم، وقد اسودّت وجوههم وصاروا خلقا آخر، فنادى
222
أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ. وإنما طلبوا الماء خاصة لشدة ما في بواطنهم من الاحتراق واللهيب، بسبب شدة حر جهنم.
وهذا القول يدل على أنهم طلبوا الماء مع جواز الحصول. وقال آخرون: بل مع اليأس لأنهم قد عرفوا دوام عقابهم.
وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: ينادي الرجل أباه أو أخاه، فيقول له: قد احترقت، فأفض علي من الماء، فيقال لهم: أجيبوهم، فيقولون: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ.
ومعنى قوله تعالى: قالُوا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ: قال أهل الجنة: إن الله منع الكفار شراب الجنة وطعامها.
ثم وصف الله تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا، باتخاذهم الدين لعبا ولهوا، واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفتها، عما أمروا به من العمل للآخرة، فقال: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ....
أي إن هؤلاء الكفار تلاعبوا بدينهم وما كانوا به مجدين، أو اتخذوا اللهو واللعب دينا لأنفسهم، وجعلوا ديدنهم أعمالا لا تزكي الأنفس ولا تفيد، بل هي لهو يشغل الإنسان عن الجد، أو لعب لا يقصد منه فائدة صحيحة، فهي كأعمال الأطفال.
واغتروا في الحياة الدنيا بشهواتها وزخارفها وزينتها ولذاتها من الحرام والحلال. قال الرازي: وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا مجاز لأن الحياة الدنيا لا تغر في الحقيقة، بل المراد أنه حصل الغرور عند هذه الحياة الدنيا لأن الإنسان يطمع في طول العمر، وحسن العيش، وكثرة المال، وقوة الجاه، فلشدة رغبته
223
في هذه الأشياء يصير محجوبا عن طلب الدين، غرقا في طلب الدنيا «١».
وكان جزاء التلاعب واللهو والغرور ما قاله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ...
أي يعاملهم معاملة من نسيهم من الخير لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه، كما قال تعالى: فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه ٢٠/ ٥٢] وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة كقوله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة ٩/ ٦٧] وقوله: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه ٢٠/ ١٢٦].
فمعنى قوله فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ: نعاملهم معاملة الشيء المنسي، فلا يذكرون بخير، وإنما يتركون في النار. ومعنى كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا: كما فعلوا بلقائه فعل الناسين، فلم يخطر لهم ببال ولم يهتموا به، وكما أنكروا آيات الله، ورفضوا ما جاءت به الرسل.
والحاصل: أن الله تعالى يتركهم في عذاب النار، كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة، وكما جحدوا بآيات الله.
وقد سمى الله جزاء نسيانهم بالنسيان من قبيل المشاكلة، كما في قوله تعالى:
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠] والمراد من هذا النسيان: أنه لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى على أن شراب أهل الجنة وطعامهم ممنوع حرام على الكافرين. وهو تحريم قهر وعقاب.
ودلت الآية الثانية على إهمال الكافرين في عذاب جهنم ومعاملتهم معاملة المنسيين، لنسيانهم واجباتهم نحو ربهم في الحياة الدنيا، وعلل تعالى ذلك
(١) تفسير الرازي: ١٤/ ٩٣
224
بتعليلات مجملها أنهم كانوا كافرين، وتفصيلها ووصف أحوالهم: أنهم اتخذوا دينهم لهوا أولا، ثم لعبا ثانيا، ثم غرتهم الحياة الدنيا ثالثا، ثم صار عاقبة هذه الأحوال أنهم جحدوا بآيات الله، وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة، كما
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البيهقي عن الحسن مرسلا، وهو ضعيف: «حب الدنيا رأس كل خطيئة».
وأما من الناحية الفقهية بالمعنى الخاص فقد دلت الآية الأولى على أن سقي الماء من أفضل الأعمال. وقد سئل ابن عباس: أي الصدقة أفضل؟ فقال:
الماء، ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ، أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.
وروى أبو داود أن سعدا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: الماء»
فدل على أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله تعالى. وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء.
وقد غفر الله ذنوب الذي سقى الكلب فيما رواه البخاري عن أبي هريرة، فكيف بمن سقى رجلا مؤمنا موحدا وأحياه؟!
وفي حديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن ماجه في السنن- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من سقى مسلما شربة من ماء حيث يوجد الماء، فكأنما أعتق رقبة، ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها».
واستدل بهذه الآية من قال: إن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه، وأن له منعه ممن أراده لأن معنى قول أهل الجنة: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ لا حق لكم فيها.
وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لأذودنّ رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض»
قال المهلّب: لا خلاف أن صاحب الحوض أحق بمائه
لقوله عليه الصلاة والسلام: «لأذودنّ رجالا عن حوضي».
225
فضل القرآن على البشر وحال المكذبين يوم القيامة بإظهار الندم وطلب الشفاعة
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
الإعراب:
هُدىً وَرَحْمَةً منصوبان على الحال من هاء فَصَّلْناهُ وتقديره: فصلناه هاديا ذا رحمة.
يَوْمَ يَأْتِي يَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه يَقُولُ.
فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَيَشْفَعُوا: منصوب بتقدير أن بعد فاء الجواب لأنه جواب الاستفهام. أَوْ نُرَدُّ: مرفوع معطوف على الاستفهام قبله، على تقدير: أو هل نردّ لأن معنى: هل لنا من شفعاء: هل يشفع لنا أحد أو هل نردّ؟ فعطفه على المعنى.
فَنَعْمَلَ منصوب على جواب التمني بالفاء، بتقدير (أن) حملا على مصدر ما قبله، فالفاء في المعنى تعطف مصدرا على مصدر.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ أي أهل مكة، وغيرهم مثلهم. بِكِتابٍ هو القرآن الكريم.
فَصَّلْناهُ بيّناه أتم بيان بالأخبار والوعد والوعيد. عَلى عِلْمٍ أي عالمين بما فصل فيه.
هَلْ يَنْظُرُونَ ما ينتظرون. إِلَّا تَأْوِيلَهُ ما يؤول إليه أمره، أي عاقبة ما فيه وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ هو يوم القيامة. يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ تركوا الإيمان به. بِالْحَقِّ أي بالأمر
226
الثابت. أَوْ نُرَدُّ أو هل نرد إلى الدنيا. فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ نوحد الله ونترك الشرك، فيقال لهم: لا.
قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ غبنوها إذ صاروا إلى الهلاك. وَضَلَّ عَنْهُمْ أي غاب عنهم وذهب. ما كانُوا يَفْتَرُونَ من ادعاء الشرك.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى أحوال أهل الجنة، وأهل النار، وأهل الأعراف، وما يدور بين هذه الفرق الثلاث من حوار يحمل المكلف على الحذر والاحتراس والتأمل في العواقب، أردف ذلك ببيان شرف هذا الكتاب الكريم وعظيم فضله ونفعه وحجيته على البشر كلهم، وأنه أبطل معاذيرهم، ثم ذكر حال المكذبين وما يحدث منهم يوم القيامة من ندم وحسرة، وتمني العودة إلى الدنيا لإصلاح أعمالهم، أو إنقاذهم بشفاعة الشفعاء.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى بهذه الآية عن إبطال معاذير المشركين بإرسال الرسل إليهم بالكتاب الذي هو مفصّل مبيّن، كقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود ١١/ ١].
لقد جئنا هؤلاء المشركين من أهل مكة وأمثالهم بكتاب كامل البيان وهو القرآن، فصلنا آياته بالحكم والمواعظ والقصص والأحكام والوعد والوعيد، على علم تام منا بما فصلناه به، كقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء ٤/ ١٦٦] تصحيحا لعقيدتهم، وتزكية لنفوسهم، وسببا لسعادتهم، وهدى ورحمة لمن يؤمن به، ويعمل بأحكامه.
أوضح أصول الدين، وندد بالشرك والوثنية، ووضع الأنظمة الصالحة للبشر، وحض على البناء والتقدم والحضارة من طريق تمجيد النظر والتأمل
227
والتفكير، والحث عليها، وذم التقليد دون بحث ولا تمحيص في آيات كثيرة، منها ما يحث على النظر والتأمل مثل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد ١٣/ ٤] ومثل: قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة ٢/ ١١١] ومنها ما يذم التقليد مثل: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٢٣].
هل ينتظر أي ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا تأويله، أي ما وعدوا به من العذاب والنكال والجنة والنار، قال الربيع: لا يزال يجيء من تأويله أمر، حتى يتم يوم الحساب، حين يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيتم تأويله يومئذ.
ويوم يأتي تأويله يوم القيامة، كما قال ابن عباس، وتظهر حقائق ما أخبر به وصدق ما جاء به، فيقول الذين تركوا العمل به وتناسوه في الدار الدنيا، أي جعلوه كالشيء المنسي وأعرضوا عنه: قد جاءت رسل ربنا بالحق، أي صدقوا في كل ما قالوا، وصح أنهم جاؤوا بالحق، وظهر أنه متحقق ثابت، ولكنا نحن الذين أعرضنا عنه، فجوزينا هذا الجزاء.
وأصبحوا يتمنون الخلاص بكل ما يمكن من أحد أمرين: إما شفاعة الشافعين، وإما الرجوع إلى الدنيا لإصلاح العمل وتجديد السلوك والمنهج الذي يرضي الله تعالى.
والسبب في تمني الشفعاء: تذكرهم أساس الشرك وهو أن النجاة عند الله إنما تكون بوساطة الشفعاء فعند ما أفلسوا وعرفوا أن النجاة بالإيمان والعمل الصالح، تمنوا الرجوع إلى الدنيا، ليعملوا بما أمر به الرسل غير علمهم السابق، كقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ
228
رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ
[الأنعام ٦/ ٢٧- ٢٨].
وهذا كقوله هاهنا: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي غبنوا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، وذهب عنهم ما كانوا يفترون من خبر الشفعاء التي كانوا يعبدونهم من دون الله، قائلين: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس ١٠/ ١٨] فلا يشفعون فيهم، ولا ينصرونهم، ولا ينقذونهم مما هم فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
القرآن الكريم أعظم نعمة على الإنسان لأنه بيان للإيمان الصحيح والحق الثابت، والعبادة المرضية لله تعالى، ولأنه هدى ورحمة للمؤمنين، كقوله تعالى:
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الأنعام ٦/ ١٥٥].
وتظهر في كل حين في الدنيا عاقبة ما أنذر به وحذّر، وما أعلم به وأخبر لقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت ٤١/ ٥٣] وكذا في الآخرة لقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي عاقبة ما فيه. وعاقبة القرآن: ما وعد الله فيه من البعث والحساب وجزاء التكذيب به.
وتبدو عواقبه يوم القيامة، فيعترف منكروه بأنه الحق الثابت والصدق الأبلج، ويتمنون الخلاص بأي وسيلة ممكنة: إما بشفاعة الشفعاء، أو الرد إلى الدنيا لتصحيح الأعمال بما يتفق مع مرضاة الله، ولكن لا يجابون إلى مطلبهم، فيندمون ولات حين مندم.
ولكن هؤلاء الكفار المنكرين قد خسروا أنفسهم بتعريضها للعقاب والعذاب في النار، وبطل ما كانوا يقولون من أن مع الله إلها آخر، ولم ينتفعوا بالأصنام التي عبدوها في الدنيا، ولم ينتفعوا أيضا بنصرة الأديان الباطلة التي بالغوا في نصرتها.
229
إثبات الربوبية والألوهية لله بالخلق والأمر
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)
الإعراب:
حَثِيثاً منصوب إما لأنه حال أي حاثا، وإما لأنه صفة لمصدر محذوف، تقديره:
يطلبه طلبا حثيثا.
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يقرأ بالنصب والرفع، فالنصب بالعطف على السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي وخلق الشمس والقمر.. والرفع على الابتداء، وخبره: مُسَخَّراتٍ.
البلاغة:
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فيه ما يسمى «إيجاز قصر» وهو جمع المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة.
المفردات اللغوية:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الرب: هو السيد المالك المدبر والمربي، واللَّهُ: اسم الذات الأقدس خالق الخلق أجمعين، والإله: هو المعبود المرتجى لجلب النفع وكشف الضر، ويتقرب إليه بما يرضيه من العبادة والدعاء. وليس للمؤمنين الموحدين سوى إله واحد ورب واحد هو الله عز وجل. وأكثر المشركين يقولون: إنه أعظم الآلهة، وكان مشركو العرب لا يعترفون برب سواه، وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه السَّماواتِ وَالْأَرْضَ المراد بهما العالم العلوي والعالم السفلي، ولم يرد خبر ببيان حقيقتهما. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ جمع يوم، وهو الوقت المحدود بطلوع الشمس إلى غروبها، والمراد بالأيام الستة: أنها من أيام الدنيا، أي في قدرها، لأنه لم يكن ثمّ شمس، ولو شاء لخلقهن في لمحة، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت.
230
اسْتَوى في اللغة: استقر، أو قصد أو استولى وملك، والمراد أنه يتصرف فيه بما يريد وقد استوى استواء يليق به الْعَرْشِ لغة: سرير الملك، أو كل شيء له سقف، أو هودج المرأة، أو الملك والسلطان، يقال: ثلّ عرشه، أي ذهب ملكه وزوال أو هلك. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يغطي كلا منهما بالآخر، ويجعل الليل كالغشاء، أي يذهب نور النهار يَطْلُبُهُ يطلب كل منهما الآخر حَثِيثاً أي طلبا سريعا من غير فتور مُسَخَّراتٍ مذلّلات خاضعات لتصرفه بِأَمْرِهِ بقدرته وتدبيره وتصرفه الْخَلْقُ إيجاد الأشياء من العدم بقدر، فله الخلق جميعا وَالْأَمْرُ كله، أي التدبير والتصرف كما يشاء تَبارَكَ اللَّهُ تعاظم وتنزّه، أو كثر خيره وإحسانه رَبُّ الْعالَمِينَ مالك العوالم من الجن والإنس.
المناسبة:
إن مدار القرآن على إثبات أسس أربعة: وهي التوحيد، والنبوة، والمعاد، والقضاء والقدر. وإثبات المعاد متوقف على إثبات التوحيد والقدرة والعلم.
فلما قرر الله تعالى أمر المعاد، وذكر ما يدور من حوار بين أصحاب النار وأصحاب الجنة وأصحاب الأعراف، عاد إلى ذكر أدلة التوحيد، وكمال القدرة، والعلم، لتكون دليلا على الربوبية والألوهية وإثبات المعاد.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه خالق الكون أو العالم كله سماواته وأراضيه السبع، وما بين ذلك في ستة أيام، وهي ما عدا السبت، وقد اجتمع الخلق كله في الجمعة، الذي فيه خلق آدم عليه السلام. وأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت وهو القطع، وهذا من الأخبار الإسرائيلية.
والمتبادر إلى الأذهان أن هذه الأيام مقدرة بأيام الدنيا لأنه لم يكن ثمّ شمس، ووجدت هذه الأشياء المخلوقة بعد خلق هذه الأرض. ورأى مجاهد وأحمد بن حنبل: أن كل يوم كألف سنة، كما قال تعالى:
231
وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج ٢٢/ ٤٧] وأما يوم القيامة فقال الله في وصفه: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج ٦٩/ ٤].
ومعنى الآية: إن ربكم ومالك أمركم أيها الناس هو الله وحده لا شريك له، وهو الذي أوجد السموات والأرض، وقدرهما، ودبر أمورهما وأحكم نظامهما في ستة أيام، إما مقدرة بأيام الدنيا، وإما أن الله أعلم بمقدارها وحدودها، ولو شاء خلّقها في لحظة لخلقها، وإنما أراد تعليم خلقه التثبت في الأمور: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس ٣٦/ ٨٢] وذلك الخلق والتكوين ليس بالهين وهو دليل على القدرة التامة: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر ٤٠/ ٥٧].
وكان خلق الأرض في يومين، وخلق الجبال الرواسي وأنواع النبات والحيوان في يومين آخرين، كما قال تعالى: قُلْ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت ٤١/ ٩- ١٠].
وخلق السموات وما فيها من أجرام وكواكب في يومين، كما قال تعالى:
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت ٤١/ ١٢].
ثم إنه تعالى بعد هذا الخلق استوى على عرشه، يدبر أمره، ويصرف نظامه، على نحو يليق به، غير مشابه لشيء من المخلوقات والحوادث. فاستواؤه على العرش: هو انفراده بتدبير السموات والأرض، واستيلاؤه على زمام الأمور والسلطة فيهما. ونحن نؤمن كإيمان الصحابة باستواء الله على العرش بكيفية تليق به، من غير تشبيه ولا تكيف، أي من غير تحديد بجهة، ولا تقدير بكيف أو
232
وصف، وتترك معرفة الحقيقة إلى الله، وهذا ما قرره الإمام مالك ومن قبله شيخة ربيعة، فقال: الاستواء معلوم (أي في اللغة) والكيف (أي كيفية الاستواء) مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وهذا القدر كاف في الموضوع.
وقال الحافظ ابن كثير: مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، هو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل.
والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبّهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى ٤٢/ ١١].
بل الأمر كما قال الأئمة، منهم نعيم بن حمّاد شيخ البخاري قال: من شبّه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى «١».
وأما الخلف فيتأولون ويقولون: استوى على عرشه بعد تكوين خلقه، بمعنى أنه يدبر أمره، ويصرّف نظامه، على حسب تقديره وحكمته، كما قال:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [يونس ١٠/ ٣].
ثم بيّن الله تعالى بعض مظاهر تدبيره الكون فقال: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ... أي أنه تعالى يلحق الليل بالنهار، أو النهار بالليل، يحتملهما جميعا على التعاقب، ويذهب ظلام الليل بضياء النهار، وضياء النهار بظلام الليل، وكل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، أي سريعا لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٢٠
233
جاء هذا وعكسه. والمراد أنه يعقبه سريعا دون وجود فاصل أو تأخر، مثل قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس ٣٦/ ٣٧- ٤٠].
وفي تعاقب الليل والنهار منافع كثيرة، إذ بتعاقبهما يتم أمر الحياة، وتتحقق مصالح الناس.
وقد تأيد هذا الطلب السريع بما أثبته العلم الحديث من كروية الأرض ودورانها على محورها حول الشمس، فيكون نصف كرتها مضيئا بالشمس، والنصف الآخر مظلما، فإذا كان الوقت نهارا في الشرق الأوسط مثلا، كان الوقت ليلا في أمريكا الجنوبية وطوكيو- اليابان. وقد سبق إلى ما قرره العلماء المعاصرون كثير من علماء الإسلام كالغزالي والرازي وابن تيمية وابن قيّم الجوزية.
ومن مظاهر التدبير الإلهي للكون: خلقه الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب، وكونها جميعا تحت قهره وتسخيره ومشيئته، أي أنها خاضعة لأمره وتصرفه. لذا قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أي أنه هو الخالق المبدع المالك، المتصرف المدبر، فمعنى لَهُ الْخَلْقُ أي له ملك المخلوقات كلها كبيرها وصغيرها، ومعنى له الْأَمْرُ أي التصرف والتدبير، ليس لأحد شيء.
تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي تعاظم وتنزّه، وانفرد بالربوبية، وكل ما في العالم من الخيرات الكثيرة منه، فعلى عباده شكره عليها، وعبادته دون غيره. كقوله: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك ٦٧/ ١] وقوله: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً، وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان ٢٥/ ٦١].
234
روى ابن جرير الطبري عن عبد العزيز الشامي عن أبيه، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح، وحمد نفسه، فقد كفر وحبط عمله. ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه، لقوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ».
وفي الدعاء المأثور عن أبي الدرداء، وروي مرفوعا: «اللهم لك الملك كله، ولك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يلي:
١- الله عز وجل هو المنفرد بقدرة الإيجاد، وخالق السموات والأرض، فهو الذي يجب أن يعبد.
٢- استوى الله تعالى على العرش، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، ورأي السلف الصالح: أنه استوى على عرشه حقيقة، لكن كيفية الاستواء مجهولة، فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم (يعني في اللغة) والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها.
وأكثر المتقدمين والمتأخرين من علماء المتكلمين على تنزيه الله تعالى عن الجهة والتحيّز في مكان، لأنه يلزم من ذلك أنه متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيّز، ويلزم على المكان والحيّز: الحركة والسكون للمتحيّز، والتغيّر والحدوث.
وقد يؤوّل العرش في الآية بمعنى الملك والسلطان، أي ما استوى الملك
235
المطلق إلا له جل وعز. قال القرطبي: وهو قول حسن، وفيه نظر «١».
٣- الليل والنهار متعاقبان، وتعاقبهما دليل على كروية الأرض وحركتها ودورانها. ولم يذكر في هذه الآية دخول النهار على الليل، واكتفى بأحدهما عن الآخر، مثل: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل ١٦/ ٨١] أي والبرد. ومثل:
بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران ٣/ ٢٦] أي والشر.
٤- الشمس والقمر والنجوم وسائر الكواكب مخلوقة لله، بدليل أنها معطوفة على السموات، أي وخلق السموات، وهي مذللات خاضعات لتصرف الله.
٥- لله الخلق والأمر، وقد دلت الآية على صدق الله في خبره، فله الخلق وله الأمر، خلقهم وأمرهم بما أحب، وهذا الأمر يقتضي النهي. قال سفيان بن عيينة: فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر. فالخلق: المخلوق، والأمر: كلامه الذي هو غير مخلوق، وهو قوله: كُنْ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس ٣٦/ ٨٢].
وفي تفرقته بين الخلق والأمر دليل بيّن على فساد قول من قال بخلق القرآن إذ لو كان كلامه الذي هو أمر مخلوقا، لكان قد قال: ألا له الخلق والخلق.
وذلك عيّ من الكلام ومستهجن، والله يتعالى عن التكلم بما لا فائدة فيه. ولو كان الأمر مخلوقا لافتقر إلى أمر آخر يقوم به، وذلك الأمر إلى أمر آخر إلى ما لا نهاية له، وذلك محال، فثبت أن أمره الذي هو كلامه قديم أزلي غير مخلوق ليصح قيام المخلوقات بأمره، بدليل قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم ٣٠/ ٢٥] وقوله هنا: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فأخبر سبحانه أن المخلوقات قائمة بأمره.
(١) تفسير القرطبي: ٧/ ٢٢١
236
والأمر ليس من الإرادة في شيء. والمعتزلة تقول: الأمر نفس الإرادة. قال القرطبي: وليس بصحيح، بل يأمر بما لا يريد، وينهى عما يريد. ألا ترى أنه أمر إبراهيم بذبح ولده، ولم يرده منه، وأمر نبيه أن يصلّي مع أمّته خمسين صلاة، ولم يرد منه إلا خمس صلوات. وقد أراد شهادة حمزة حيث يقول:
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ [آل عمران ٣/ ١٤٠] ونهى الكفار عن قتله، ولم يأمرهم به «١».
٦- الله تعالى متعاظم منزه عن الدنايا، باق دائم ثابت، كثير الخيرات والآثار الفاضلة والنتائج الشريفة، واسع الفضل والإحسان تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
مشروعية الدعاء وآدابه وتحريم الإفساد في الأرض
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
الإعراب:
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إما منصوبان على المصدر، أو على الحال على معنى: ذوي تضرع وخفية.
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ إنما قال: قريب بالتذكير لثلاثة أوجه: أنه ذكره حملا على المعنى، لأن الرحمة بمعنى الرّحم أو الترحم، وهو مذكر، أو لأن المراد بالرحمة: المطر، وهو مذكر، أو ذكّره على النّسب، أي: ذات قرب، كقولهم: امرأة طالق وطامث وحائض، أي ذات طلاق وطمث وحيض (ابن الأنباري: ١/ ٣٦٥). وأضاف الزمخشري: أو لأنه صفة موصوف محذوف، أي شيء قريب، أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي (الكشاف: ١/ ٥٥١) وذكر الرازي في تفسيره (١٤/ ١٣٦- ١٣٧) أربعة وجوه من هذه.
وذكر القرطبي في تفسيره: ٧/ ٢٢٧ سبعة أوجه لقوله: قَرِيبٌ ولم يقل: قريبة، هي
(١) المرجع السابق: ٧/ ٢٢٣
237
أن الرّحمة والرّحم واحد، وهي بمعنى العفو والمغفرة، وقيل: أراد بالرحمة الإحسان، وقيل:
مالا يكون تأنيثه حقيقيا جاز تذكيره، وقيل: أراد بالرحمة هنا المطر، وقيل: على تذكير المكان أي مكانا قريبا، وقيل: ذكّر على النسب، كأنه قال: إن رحمة الله ذات قرب. وقيل: في غير النسب يجوز التذكير والتأنيث، يقال: دارك منا قريب، وفلانة منا قريب.
المفردات اللغوية:
تَضَرُّعاً تذللا، وهو إظهار ذل النفس وخضوعها خُفْيَةً سرا، وهو ضد العلانية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت، والمراد: عدم الثواب وعدم الرضا عن الداعي.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالشرك والمعاصي بَعْدَ إِصْلاحِها ببعث الرسل خَوْفاً من عقابه، والخوف: توقع الشر والمكروه وَطَمَعاً في رحمته، وهو توقع الخير.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة على توحيد الربوبية من كمال القدرة والتدبير، والحكمة والتصرف، أتبعه بالأمر بتوحيد الألوهية بإفراده تعالى بالعبادة والاشتغال بالدعاء والتضرع، فإن الدعاء مخ العبادة.
التفسير والبيان:
أرشد الله تعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم، فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي ادعوا ربكم ومتولي أموركم والمنعم عليكم، متضرعين متذللين مستكينين، مع إسرار الدعاء وإخفائه، فالدعاء مخ العبادة. وفيه إيماء إلى ندب الدعاء خفية لأنه أبعد عن الرياء، ولقوله تعالى:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الأعراف ٧/ ٢٠٥] وقوله بالثناء على زكريا: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم ١٩/ ٣].
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس
238
أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيها الناس، اربعوا «١» على أنفسكم، فإنكم لا تدعون وأصمّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم».
وروى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري في الثواب عن أنس رضي الله عنه:
«دعوة في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية».
وروى أبو الشيخ ابن حبان في الثواب عن أنس رضي الله عنه: «دعوة في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية».
وقال الحسن البصري رحمه الله: «ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً.
وذكر بعض العلماء: أن الأولى الإسرار بالدعاء في حال اجتماع الناس في المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد فيه رفع الصوت من الجميع كالتلبية في الحج وتكبير العيدين.
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في الدعاء ولا في غيره، بتجاوز الحدود المأمور بها، والتجاوز هنا في ترك هذين الأمرين المذكورين: وهما التضرع والإخفاء.
وعدم المحبة: أي أن الله لا يثيبه البتة، ولا يحسن إليه، فظهر أن قوله تعالى:
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء.
روى أحمد وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وقرأ هذه الآية:
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً الآية،
وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك
(١) أي ارفقوا بأنفسكم.
239
الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل».
وكما أمر الله بدعائه والتضرع إليه، نهى عن الإفساد في الأرض، فقال:
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ... أي لا تفسدوا شيئا في الأرض بعد الإصلاح بما بناه المرسلون وأتباعهم المصلحون، وشيّده العقلاء المخلصون، من النواحي المادية والمعنوية، كتقوية وسائل الحياة من زراعة وصناعة وتجارة، وتهذيب الأخلاق، والحث على العدل والشورى والتعاون والتراحم.
والإفساد شامل إفساد الأديان بالكفر والبدعة، وإفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة والاحتيال، وإفساد العقول بشرب المسكرات ونحوها، وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنى واللواطة والقذف.
وبعد أن أبان الله تعالى شرط الدعاء وهو التضرع والخفية، نبّه إلى بواعث الدعاء وموجباته، وأشعر أن من لا يدعو ربه على هذا النحو يكون أقرب إلى الإفساد، فقال: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً.
أي ادعوا الله خوفا من عقابه، وطمعا في جزيل ثوابه، فإن الدعاء مخ العبادة ولبّها، لذا صرح بفائدة الدعاء، وأنه مرجو الإجابة متى استكمل شرائطه وآدابه، فقال: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ.. أي إن رحمة الله تعالى قريبة من المحسنين أعمالهم، وهي مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ [الأعراف ٧/ ١٥٦].
فمن أحسن الدعاء أعطي خيرا مما طلبه، أو مثله، أو دفع عنه من الشر مثله.
240
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي من الأحكام:
١- الأمر بالدعاء والتعبد به، وهو نوع من أنواع العبادة، ويفيد معرفة ذل العبودية، ومعرفة عزة الربوبية، ويكون سببا لجلب الخير ودفع الضر لأن هناك أمورا معلقة بالأسباب، والدعاء سبب.
٢- للدعاء آداب وصفات تحسن معه: وهي الخشوع والاستكانة والتضرع، وكونه سرا في النفس ليبعد عن الرياء، وأن يكون الإنسان في حالة بين الرجاء والخوف، فيدعو خوفا من عقاب الله، وطمعا في ثوابه، قال الله تعالى:
وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء ٢١/ ٩٠].
قال بعض أهل العلم: ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طوال الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء.
أخرج مسلم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله».
وينبغي عدم الاعتداء في الدعاء: بالجهر الكثير والصياح، أو يدعو الإنسان أن تكون له منزلة نبي، أو يدعو في محال ونحو هذا من الشطط، أو يدعو طالبا معصية وغير ذلك، أو يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فيتخير ألفاظا مفقّرة، وكلمات مسجّعة، وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء، والأولى ترك كل ذلك.
ومجمل آداب الدعاء: أن يكون على طهارة، وأن يستقبل القبلة، وتخلية القلب من الشواغل، وافتتاحه واختتامه بالصلاة على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ورفع اليدين نحو السماء، وإشراك المؤمنين فيه، وتحري ساعات الإجابة كثلث الليل الأخير، ووقت إفطار الصائم، ويوم الجمعة، وحال السفر والظلم وغير ذلك «١».
(١) روح المعاني للالوسي: ٨/ ١٤٠
241
٣- ودل قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ على أن كل من خالف أمر الله ونهيه، فإنه يكون معاقبا إذا ارتكب محرما، فإن لم يكن من المحرمات فالأولى تركه.
٤- استدل الحنفية بقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً على أن إخفاء التأمين «آمين» أولى من الجهر بها لأنه دعاء. وقال الشافعي رحمه الله:
إعلانه أفضل.
وأما رفع اليدين في الدعاء، فكرهه طائفة من العلماء مثل عطاء وطاوس ومجاهد وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير عملا بحديث أنس أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء، فإنه كان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه.
وأجاز جماعة آخرون من الصحابة والتابعين رفع الأيدي،
ذكر البخاري عن أبي موسى الأشعري: دعا النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه.
ومثله عن أنس.
وقال ابن عمر: رفع النّبي صلّى الله عليه وسلّم يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد».
وفي صحيح مسلم عن عمر قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين، وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلّى الله عليه وسلّم القبلة مادّا يديه، فجعل يهتف بربه.
وروى الترمذي عن عمر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع يديه، لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه
، وقال: هذا حديث صحيح غريب. وهذه الأحاديث- كما ذكر القرطبي- أصح طرقا، وأثبت من حديث أنس المتقدم. ثم قال: والدعاء حسن كيفما تيسر، فإن شاء استقبل القبلة ورفع يديه فحسن، وإن شاء فلا، فقد فعل ذلك النّبي صلّى الله عليه وسلّم حسبما ورد في الأحاديث.
٥- نهى سبحانه عن كل فساد قل أو أكثر بعد صلاح قل أو كثر. ودل قوله
242
تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها على أن الأصل في المضار الحرمة والمنع على الإطلاق. وبان في الآية المتقدمة: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ أن الأصل في المنافع واللذات الطيبة الإباحة والحل.
٦- دل قوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ.. على أن كل ما كان رحمة فهي قريبة من المحسنين، ويفهم منه: ليس لله في حق الكافر رحمة ولا نعمة لأنه يلزم من الآية أن كل ما لا يكون قريبا من المحسنين ألا يكون رحمة.
إنزال المطر وإخراج النبات ودلالتهما على القدرة الإلهية وإثبات البعث
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
الإعراب:
بُشْراً منصوب على الحال.
إِلَّا نَكِداً حال من الضمير في يَخْرُجُ.
البلاغة:
سُقْناهُ فيه التفات عن الغيبة.
لِبَلَدٍ مَيِّتٍ استعارة، إذ شبه جدب البلد وعدم نباته بالجسد الذي لا روح فيه، من حيث عدم الانتفاع به.
243
كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى تشبيه مرسل مجمل، ذكر فيه الأداة ولم يذكر وجه الشبه، شبّه إخراج الموتى من قبورهم بإخراج النبات من الأرض.
المفردات اللغوية:
الرِّياحَ جمع ريح، وهو الهواء العاصف الشديد الحركة، وإذا جمعت كانت في معنى الخير، كما هنا، وإذا أفردت كانت في معنى الشر، كما في قوله تعالى: أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر ٥٤/ ١٩] وكان عليه الصلاة والسلام يقول: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا».
بُشْراً مبشرات متفرقة قبل نزول المطر بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قبل نزول المطر أَقَلَّتْ حملت ورفعت أي الرياح سَحاباً جمع سحابة وهي الغيوم ثِقالًا مشبعة ببخار الماء سُقْناهُ سيرناه أي السحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أرض لا نبات فيها ولا مرعى، أي لإحيائها فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بالماء الثَّمَراتِ جمع ثمرة، وهي ما تحمله الشجرة، سواء أكان مأكولا أم لا كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أي كذلك الإخراج للنبات بالمطر نخرج الموتى من قبورهم بالإحياء.
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتؤمنوا.
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ العذب التراب يَخْرُجُ نَباتُهُ حسنا بِإِذْنِ رَبِّهِ هذا مثل للمؤمن، يسمع الموعظة، فينتفع بها وَالَّذِي خَبُثَ ترابه لا يَخْرُجُ نباته إِلَّا نَكِداً عسرا بمشقة، لا خير فيه، وهذا مثل للكافر كَذلِكَ نُصَرِّفُ كما بينا ما ذكر نبيّن الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ الله فيؤمنوا.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أنه خالق السموات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبر للعالم العلوي والسفلي، والمسخّر للإنسان ما في الكون، وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قادر، ونهى عن الإفساد في الأرض، وأبان أن رحمته قريبة من المحسنين، نبّه تعالى إلى أنه الرزاق، وأن أهم مصادر الرزق هو المطر الذي يترجم إلى خيرات كثيرة ويكون سببا للنبات الحسن، وأنه يعيد الموتى أحياء يوم القيامة كإحياء الأرض بعد موتها.
244
التفسير والبيان:
الله الذي يرسل الرياح قبل نزول المطر، مبشرات بها، فقوله: بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي مقدم إنزال المطر، كما قال: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى ٤٢/ ٢٨] وقال: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم ٣٠/ ٥٠].
فإذا حملت الرياح سحابا ثقالا، أي من كثرة ما فيها من الماء، تكون ثقيلة قريبة من الأرض، سقناه لإحياء أرض مجدبة لا نبات فيها، كقوله تعالى:
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها.. [يس ٣٦/ ٣٣].
فأنزلنا بالسحاب الماء، إذ من المعروف علميا أن الهواء القريب من سطح البحر يسخن بتأثير الحرارة، فيصعد في الجو ويبرد بتأثير منطقة باردة، أو بالهواء البارد، فإذا برد تكاثف منه بخار الماء، وتكوّن السحاب، ثم يتحرك السحاب بقوة الريح، ثم ينزل مطرا بمشيئة الله وإرادته.
وهذا المعنى كثير متردد في الآيات مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، كَذلِكَ النُّشُورُ [فاطر ٣٥/ ٩] ومثل الآية ٤٣ من سورة النور، والآية ٤٨ من سورة الروم.
فأخرجنا بالمطر أنواع النبات والثمار من الأرض، على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها وروائحها، مما يدل على قدرة الله وتمام رحمته، كما قال تعالى:
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد ١٣/ ٤].
245
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، والأمثال تقرن ببعضها لمعرفة تماثلها في الحكم، فإنه تعالى أشار إلى إنكار البعث، فقال: كَذلِكَ نُخْرِجُ.. أي مثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة الجدبة بالماء، نخرج الموتى ونبعثهم، فالله على كلّ شيء قدير، يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وقد بينا هذا الشبه لتتذكروا وتتعظوا، فتؤمنوا بالبعث أو اليوم الآخر. كما قال تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس ٣٦/ ٧٨- ٧٩] وقال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء ٢١/ ١٠٤] وقال: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف ٧/ ٢٩].
ولكن استعداد الناس للإيمان بالبعث مختلف باختلاف الطبائع والنفوس، فمنها الطيب الذي يتجاوب لنداء الإيمان، ومنها الخبيث الذي يعرض عن الإيمان، لذا قال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ... أي إن الأرض الطيبة التربة يخرج نباتها سريعا حسنا، والأرض الخبيثة التربة كالسّبخة ونحوها، لا يخرج نباتها القليل إلا بعسر وصعوبة.
قال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر. أي إنه تعالى شبه المؤمن بالأرض الخيّرة، والكافر بالأرض السبخة، ومثله
الحديث الذي رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا، فكانت منها نقيّة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبث كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».
246
هذه الأمثال والمقارنات وعقد أوجه الشبه بين الأشياء لإقناع الناس وحملهم على الإيمان والتفكير بالحقائق، لذا قال تعالى: كَذلِكَ نُصَرِّفُ... أي مثل ذلك البيان والتصريف نردد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها ونبينها لقوم يشكرون نعمة الله، وهم المؤمنون ليكفروا فيها ويعتبروا بها.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الله تعالى مصدر الرزق، فهو الذي ينزل المطر، فينبت الزرع والعشب والشجر والنبات والثمار، فيستفيد منها الإنسان والحيوان ثم يعود نفع الحيوان في النهاية إلى الإنسان. والإنزال والإنبات دليل على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته.
٢- إخراج الموتى أحياء من القبور مثل إخراج النبات الحي من الأرض الجدبة الميتة التي لا حراك فيها، وفي ذلك ذكرى، تذكر الناس فيؤمنوا بالبعث والنشور يوم القيامة.
٣- ضرب الله تعالى للمؤمن والكافر مثلا، فإنه شبّه المؤمن بالأرض الخيّرة التي نزل عليها المطر، فيحصل منها أنواع الأزهار والثمار، والكافر بالأرض السّبخة التي لا تنبت إلا النزر القليل، وإن نزل عليها المطر، وشبّه نزول القرآن بنزول المطر، فالروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل بها نور القرآن، ظهرت فيها أنواع الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة، والروح الخبيثة وإن اتصل بها نور القرآن، لم يظهر فيها من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل.
٤- يضرب الله الأمثال للناس ليتذكروا ويتعظوا فيؤمنوا، ويصرّف الآيات ويرددها، ويأتي بالحجج والدلالات لإبطال الشرك، كما يصرف الآيات
247
في كل ما يحتاج إليه الناس، لعل الشاكرين يتذكرون فيشكروا الله على ما أنعم عليهم. وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك، مثل قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة ٢/ ٢].
قصة نوح عليه السلام
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٤]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
الإعراب:
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ غَيْرُهُ: وصف لإله على الموضع لأن موضعه رفع. وقرئ بالجر صفة لإله على اللفظ.
يا قَوْمِ نداء مضاف، ويجوز: يا قومي على الأصل أُبَلِّغُكُمْ إما كلام مستأنف بيان لكونه: رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أو يكون صفة لرسول. وَأَنْصَحُ لَكُمْ زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة.
أَوَعَجِبْتُمْ فتحت الواو لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير. والهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم.
248
المفردات اللغوية:
لَقَدْ جواب قسم محذوف عَذابَ يَوْمٍ المراد هنا يوم القيامة الْمَلَأُ أشراف القوم ورؤساؤهم رِسالاتِ رَبِّي ما أوحي إليّ من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر ضَلالٍ عدول عن طريق الحق مُبِينٍ بيّن وَأَنْصَحُ لَكُمْ أريد الخير، وأرشد إلى المصلحة مع إخلاص النية ذِكْرٌ موعظة عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ، أي على لسان رجل من جنسكم لِيُنْذِرَكُمْ العذاب إن لم تؤمنوا الْفُلْكِ السفينة عَمِينَ جمع عم، أي ذو عمى عن الحق، والأعمى: أعمى البصر.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى قصة آدم في أول السورة وما يتصل به، شرع في ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام الأول فالأول، مبتدئا بنوح عليه السلام الذي هو أبو البشر الثاني، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام.
والهدف من إيراد قصص الأنبياء: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول دعوة الأنبياء ليس مقتصرا على قريش قوم محمد عليه الصلاة والسلام، بل هذا موقف متبع في جميع الأمم السابقة، والمصيبة إذا عمت خفت، وفي ذلك تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتخفيف على قلبه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ.. [هود ١١/ ١٢٠]. وفي القصص بيان العاقبة: عاقبة المنكرين وهي اللعن في الدنيا والخسارة في الآخرة، وعاقبة المؤمنين وهي العزة في الدنيا والسعادة في الآخرة.
وفي إيراد القصص أيضا التنبيه إلى أن الله وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين، فلا يهملهم، بل ينتقم منهم. وفي هذا من العظة والعبرة للأجيال ما يكفي:
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف ١٢/ ١١١].
وسرد القصة من غير تحريف ولا خطأ دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كان
249
أميا لا يقرأ ولا يكتب، إذ يدل ذلك على أنه إنما عرف القصة بالوحي من الله، مما يدل على صحة نبوته.
أضواء على قصة نوح من التاريخ:
نوح عليه السلام: هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ: وهو إدريس «١» بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر.
وهو أول الرسل إلى المشركين، كما
في حديث الشفاعة في صحيح مسلم عن أبي هريرة: «يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض»
وهو أول الرسل بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات. قال محمد بن إسحاق: ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل. وقد أرسله الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، وكان نجارا.
وقال ابن عباس: وكان ابن أربعين سنة. ثم عاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.
وقال يزيد الرقاشي: إنما سمي نوح لكثرة ما ناح على نفسه. وقد كان بين آدم إلى زمن نوح عليهما السلام عشرة قرون، كلهم على الإسلام.
وذكر الترمذي وغيره أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام. ذكر الزهري أن العرب وفارس والروم وأهل الشام وأهل اليمن من ولد سام بن نوح.
والسند والهند والزنج والحبشة والزط والنوبة وكل السود من ولد حام بن نوح.
والترك والبربر ووراء الصين ويأجوج ومأجوج والصقالبة كلهم من ولد يافث بن نوح.
(١) من قال من المؤرخين: إن إدريس النبي عليه السلام كان قبل نوح عليه السلام، فقد وهم،
كما ذكر القرطبي بدليل الحديث الصحيح في الإسراء حين لقي النّبي صلّى الله عليه وسلّم إدريس قال له:
«مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح»
ولم يقل له: «بالابن الصالح» كآدم ونوح وإبراهيم.
250
وكان أول ما عبدت الأصنام: أن قوما صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صورهم، ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام، وسموها بأسماء أولئك الصالحين: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا.
فلما تفاقم الأمر بعث الله تعالى رسوله نوحا، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ....
وذكر نوح في (٤٣) ثلاثة وأربعين موضعا من القرآن الكريم، وذكرت قصته مفصلة في سورة الأعراف وهود والمؤمنون والشعراء والقمر ونوح. ومضمون قصته: أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يتركوا عبادة الأصنام، ولكنهم عاندوه وعارضوه وآذوه، واتبعوا بعض زعمائهم، ومكروا مكرا عظيما، وصمموا ألا يذروا عبادة: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وقالوا في حماقة وكبرياء: إنك جادلتنا فأكثرت جدالنا، وإنا لن نترك ما نحن عليه، فأتنا بالعذاب الذي تهددنا به، فرد عليهم بأن تعذيبهم بيد الله تعالى.
ولما يئس نوح من إيمان قومه بعد دعوتهم إليه ألف سنة إلا خمسين، أمره الله تعالى بصناعة سفينة أداة النجاة، وكانوا كلما مروا عليه سخروا منه ومن عمله.
فلما أتمها، وأمره الله تعالى أن يأخذ معه أهله إلا زوجته، وأن يأخذ من آمن معه من قومه، وكانوا ستة فقط، وقيل: أربعين رجلا وامرأة، وأن يصحب معه من أجناس الحيوان والطير والوحش زوجين اثنين.
ثم فار تنور أهله بالماء، وبدأ تفجر الماء الكثير من كل مكان حتى عمّ الطوفان قومه وكل ما على الأرض من إنسان وحيوان، فهلكوا حتى ابنه الذي أبى الركوب في السفينة قائلا: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ
251
[هود ١١/ ٤٣]. واستوت السفينة على جبل الجودي في نواحي ديار بكر من جبال أرمينية جنوب تركيا: وَقِيلَ: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، وَقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود ١١/ ٤٤].
وللعلماء رأيان في عموم طوفان الأرض، فقال جماعة: لقد عمّ جميع أنحاء الأرض، بدليل وجود بقايا حيوانية مائية في أعالي الجبال. وقال آخرون: لم يكن الطوفان عاما، وإنما كان على الجهة التي كان يسكنها نوح وقومه، وهي بلاد الشرق الأوسط وما جاورها.
ومن المعلوم أن البلاء يعم والرحمة تخص، والنقمة لا تقتصر على الظالمين، فتشمل الأطفال الأبرياء والوحوش والطيور: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال ٨/ ٢٥].
وكان نوح قد دعا بدعوتين: الأولى للمؤمنين والثانية على الكافرين، أما الأولى فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ.. [نوح ٧١/ ٢٨].
والثانية هي: وَقالَ نُوحٌ: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح ٧١/ ٢٦- ٢٧].
وكان ابن نوح في عداد الهالكين لأنه كان ظالما كافرا، بدليل تمام الآية الأولى:
وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً والظلم هو الكفر. وهذا ابن نوح حقيقة في رأي جماعة، وقال آخرون: إنه كان ابن امرأته من غيره، ولم يكن ابنا حقيقيا له.
وكانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، كما كانت امرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ،
252
كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ، فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَقِيلَ: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ
[التحريم ٦٦/ ١٠].
ولم ينص القرآن الكريم على حجم السفينة، وإنما أشير إليها بأنها الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس ٣٦/ ٤١] وبأنها ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ [القمر ٥٤/ ١٣] أي مسامير، وبأن صناعتها بوحي من الله وإلهام: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [هود ١١/ ٣٧].
التفسير والبيان:
أقسم الله تعالى لأهل مكة وغيرهم بأنه أرسل نوحا إلى قومه لإنذارهم، ودعوتهم إلى توحيد الله، وعبادته دون سواه، فقال لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي توجهوا بعبادتكم إلى الله وحده لا شريك له، إذ ليس لكم إله غير الله، تتوجهون إليه بالعبادة والدعاء وطلب الخير، فالله هو خالق كل شيء، وبيده ملكوت السموات والأرض، وهو الإله الحق القائم على هذا الكون، وهو المستحق للعبادة والتقديس والتعظيم.
إِنِّي أَخافُ... إني أخاف عليكم بسبب الشرك عذاب يوم عظيم من عذاب يوم القيامة إذا لقيتم الله، وأنتم تشركون به. فاليوم العظيم: هو يوم القيامة، أو يوم نزول العذاب عليهم، وهو الطوفان.
وموقع الجملتين بعد قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ: أن الأولى: بيان لوجه اختصاصه بالعبادة، والثانية: بيان للداعي إلى عبادته.
قال الملأ من قومه أي أشراف القوم والسادة والقادة: إنا لنراك في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة الأصنام لفي غمرة من الضلال أحاطت بك، وهكذا حال الفجار يرون الأبرار في ضلالة، وهم أعداء دائما للهداة، كقوله تعالى: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا: إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ [المطففين ٨٣/ ٣٢] وقوله: وَقالَ الَّذِينَ
253
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، فَسَيَقُولُونَ: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ
[الأحقاف ٤٦/ ١١].
قال نوح مجيبا لهم: يا قوم، ما أنا فيما أمرتكم به من توحيد الله وعبادته دون الأنداد بضال عن جادة الحق، ولكن أنا رسول من رب العالمين إليكم، ربّ كل شيء ومليكه، أهديكم إلى سبيل الرشاد، وأدعوكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة. والضلالة كما ذكر الزمخشري أخص من الضلال، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال.
أبلغكم ما أرسلني به ربي من الدعوة إلى التوحيد الخالص، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما اشتمل عليه من جنة ونار، وثواب وعقاب، وأبيّن لكم أصول العبادات والمعاملات وأحكامها العامة وفضائل الأخلاق والآداب، وفي الجملة: كل الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر.
وأنصح لكم نصحا خالصا من شوائب المصلحة والمكر، بتحذيركم من عقاب الله على كفركم وتكذيبكم لي.
روي مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم».
وأنا في هذا التبليغ والنصح أعلم من الله وشؤونه مالا تعلمون من مصير هذا العالم، وإن إنذاري عاقبة الشرك بعذاب الدنيا، ونصحي لكم ناشئ عن علم يقيني لا تعلمونه. وهذا شأن الرسول: أن يكون مبلّغا فصيحا ناصحا عالما بالله.
ويكون المقصود من قوله: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب العلوم المتعلقة بتوحيد الله وصفات جلاله، وعقابه الشديد في الدنيا والآخرة على عصيان أوامره.
254
جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال لأصحابه يوم عرفة، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا: «أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا:
نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء، وينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد»
.
ثم أخبر الله تعالى عن نوح أنه قال لقومه: أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ذكر يذكّركم، ووعظ من ربكن، على لسان رجل منكم، ليحذّرنكم عاقبة كفركم، وينذركم عاقبة الشرك في العبادة، وليعدّكم بالتقوى (أي التزام الأوامر واجتناب النواهي) لرحمته تعالى التي ينزلها على المؤمنين، أو ليوجد فيكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار، ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.
ليس هذا بعجب أن يوحي الله إلى رجل من جنسكم، رحمة بكم، ولطفا وإحسانا إليكم، لينذركم، ولتتقوا نقمه ولا تشركوا به، وليرحمكم ربكم بطاعته والإيمان برسله.
لكنهم لم يصغوا لنداء الحق والإخلاص هذا، وتمادوا في تكذيبه ومخالفته من قبل الأكثرية، وما آمن معه منهم إلا قليل، كما قال تعالى في موضع آخر:
وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود ١١/ ٤٠] قيل: كانت عدتهم ثلاثة عشر: نوح وبنوه: سام وحام ويافث وزوجاتهم، وستة آخرون آمنوا به. وقيل: كانوا أربعين أو ثمانين: أربعين رجلا وأربعين امرأة.
فكان العقاب إغراقهم بالطوفان: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا... أي وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا أو جحدوا بها بالطوفان، بسبب كفرهم وتماديهم في ضلالهم وشركهم، إنهم كانوا قوما عميا عن الحق، لا يبصرونه ولا يهتدون له.
فقوله: عَمِينَ يراد به عمى القلوب غير مستبصرين، والفرق بين العمى والأعمى أن الأول بسبب عمى البصيرة، والثاني بسبب عمى البصر.
255
ونجّى الله رسوله نوحا والمؤمنين القائل معه.
وهكذا بيّن الله تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله والمؤمنين، وأهلك أعداءهم من الكافرين، كقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٤٠/ ٥١].
فاحذروا أيها المخاطبون بدعوة الإسلام أن تكونوا مثلهم، أو تسيروا على منوالهم. وسيأتي في سورة هود تفصيل أشمل لهذه القصة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة نوح عليه السلام على أنه اهتم في دعوة قومه بثلاثة عناصر:
أحدها: أنه أمرهم بعبادة الله تعالى.
والثاني: أنه حكم أن لا إله غير الله. والمقصود من الكلام الأول: إثبات التكليف، والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد، والثاني كالعلة للأول.
والثالث: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ: وهو إما عذاب يوم القيامة، أو عذاب يوم الطوفان. والمراد من الخوف: اليقين لأنه كان جازما بنزول العذاب بهم إما في الدنيا وإما في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين. وقال آخرون: بل المراد منه الظن والشك.
وظاهر هذه الآية يدل على أن الإله هو الذي يستحق العبادة لأن قوله:
اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إثبات ونفي، يجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام، فكان المعنى: اعبدوا الله ما لكم من معبود غيره، حتى يتطابق النفي والإثبات.
ودلت الآية أيضا على أن الفجار والكفار يرون الأبرار والمؤمنين عادة في
256
ضلال، ويكونون دائما أعداء للهداة، فقد نسبوا نوحا عليه السلام في ادعاء النبوة إلى الضلال، وكذبوه وتمردوا على دعوته، وأمعنوا في إيذائه، وأصروا على عبادة الأصنام.
ومهمة الأنبياء عادة هي تبليغ الرسالة. وهناك فرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة وهو أن التبليغ معناه: التعريف بأنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه. وأما النصيحة: فهو الترغيب في الطاعة، والتحذير من المعصية، بالاعتماد على وسائل الترغيب والترهيب.
وذكرت الآيات الغاية التي من أجلها يبعث الله الرسول، فقال تعالى:
لِيُنْذِرَكُمْ وما لأجله ينذر، وقال: وَلِتَتَّقُوا وما لأجله يتقون، وقال وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ إذ طاعة الرسول سبيل لاستدرار الرحمة الإلهية. فالمقصود من البعثة: الإنذار، والمقصود من الإنذار: التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى: الفوز بالرحمة في دار الآخرة. قال الجبائي والكعبي والقاضي عبد الجبار المعتزلي: هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم: التقوى، والفوز بالرحمة.
والنبي أو الرسول يكون عادة من جنس المرسل إليهم، فهو بشر من جنس البشر الذين يدعوهم إلى الله. ولو كان ملكا فربما كان في اختلاف الجنس تنافر الطباع. لذا تكرر في قصة كل نبي: رَجُلٍ مِنْكُمْ رَسُولًا مِنْهُمْ إلخ.
وكانت عاقبة قوم نوح المكذبين الجاحدين المشركين إغراقهم بالطوفان العظيم.
257
قصة هود عليه السلام
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٥ الى ٧٢]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
الإعراب:
أَخاهُمْ عطف على: نُوحاً، وهُوداً عطف بيان له.
آلاءَ اللَّهِ نعماؤه، واحدها: إليّ، وألىّ، وإليّ. وهي بمنزلة آناء الليل وهي ساعاته.
وآلاءَ: مفعول به منصوب.
258
وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ عطف على: كَذَّبُوا. وعادٍ: من لم يصرفه جعله اسما للقبيلة، ومن صرفه جعله اسما للحي.
البلاغة:
قَطَعْنا دابِرَ كناية عن استئصالهم وإهلاكهم جميعا.
المفردات اللغوية:
وَإِلى عادٍ وأرسلنا إلى عاد الأولى أَخاهُمْ أي واحدا من جنسهم أو منهم، كقولك:
يا أخا العرب للواحد من إخوة الجنس، وإنما جعل واحدا منهم لأنهم أفهم عن رجل منهم، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فهي أخوة في النسب لا في الدين.
قالَ لم يقل: فقال كما في قصة نوح لأنه على تقدير سؤال سائل، قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: قال: يا قوم اعبدوا الله. وكذلك: قالَ الْمَلَأُ أي أشراف القوم. ووصف الملأ بالذين كفروا دون الملأ من قوم نوح لأنه كان في أشراف قوم هود من آمن به سرا مثل مرثد بن سعد الذي أسلم وكان يكتم إسلامه، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن، فأريدت التفرقة بالوصف.
سَفاهَةٍ خفة حلم وسخافة عقل ناصِحٌ أَمِينٌ أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة، فما حقي أن أتهم، وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم، لا أكذب فيه.
خُلَفاءَ أي خلفتموهم في الأرض، أو جعلكم ملوكا في الأرض، قد استخلفكم فيها بعدهم فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي زاد أجسامكم في الطول والقوة والبدانة قيل: كان طويلهم مائة ذراع وقصيرهم ستين. آلاءَ اللَّهِ نعمه في استخلافكم وبسطة أجسادكم، وما سواهما من عطاياه، وواحد الآلاء: أليّ تُفْلِحُونَ تفوزون. وَنَذَرَ نترك بِما تَعِدُنا به من العذاب قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ حق عليكم ووجب أو قد نزل عليكم. رِجْسٌ عذاب وَغَضَبٌ سخط وانتقام أَتُجادِلُونَنِي المجادلة: المماراة والمخاصمة فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أي سميتم بها أصناما تعبدونها. أي في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات، لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الألوهية فيها معدوم محال وجوده.
سُلْطانٍ حجة وبرهان فَانْتَظِرُوا العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ذلكم بتكذيبكم لي، فأرسلت عليهم الريح العقيم.
فَأَنْجَيْناهُ أي هودا وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين وَقَطَعْنا دابِرَ الدابر: الآخر، أي
259
أهلكناهم جميعا بعذاب الاستئصال، أو استأصلناهم. فمعنى قطع دابر القوم: استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم.
المناسبة وتاريخ القصة:
قبيلة عاد قوم هود من أقدم الأمم وجودا وآثارا في الأرض، وهم على ما يظهر أقدم من إبراهيم، لذا ناسب ذكرها بعد قصة نوح مع قومه، بدليل قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ فأصبح الناس على علم بواقعة قوم نوح العظيمة وهي الطوفان العظيم، لذا كان قول هود لقومه عاد:
أَفَلا تَتَّقُونَ إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المتقدمة المشهورة في الدنيا.
أخرج ابن إسحاق عن الكلبي قال: إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها، اتخذوها على مثال ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فاتخذوا صنما يقال له «صمود» وآخر يقال له: «الهتار»، فبعث الله إليهم هودا وكان من قبيلة يقال لها «الخلود»، وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحّدوه، وأن يكفوا عن ظلم الناس، فأبوا ذلك وكذبوه وقالوا:
مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت ٤١/ ١٥] ؟ كما جاء في تفسير المنار.
وكانت منازلهم أي مساكنهم باليمن بالأحقاف: وهي جبال الرمل، فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها، وقهروا أهلها، بفضل قوتهم التي آتاهم الله تعالى.
فعاد: قبيلة عربية، كانت باليمين بالأحقاف شمال حضرموت، وكانوا قد تبسطوا في الدنيا ما بين عمان إلى حضرموت، وكانت لهم أصنام يعبدونها: صداء وصمود والهتار. وهم عاد الأولى، وأما عاد الثانية فهم سكان اليمن من قحطان وسبأ. ولم تذكر عاد فيما سوى القرآن الكريم من الكتب المقدسة.
فبعث الله إليهم هودا نبيا، وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن
260
نوح. وكان من أوسطهم وأفضلهم حسبا، فكذبوه، وازدادوا عتوا وتجبرا، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين، حتى جهدوا، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء، طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرم، مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية بن بكر.
فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا، منهم: قيل بن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه، فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان (قينتان كانتا لمعاوية) فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له، أهمّه ذلك، وقال: قد هلك أخوالي وأصهاري، وهؤلاء على ما هم عليه، وكان يستحيي أن يكلمهم، خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به، لا يدرون من قاله، فقال معاوية:
ألا يا قيل، ويحك قم فهينم لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا قد امسوا ما يبينون الكلاما
فلما غنّتا به قالوا: إن قومكم يتغوّثون «١» من البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا الحرم، واستسقوا لقومكم، فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وتبتم إلى الله سقيتم، وأظهر إسلامه.
فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثدا، لا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا، ثم دخلوا مكة، فقال قيل: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم.
(١) غوّث الرجل تغويثا: قال: وا غوثاه.
261
فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا: بيضاء، وحمراء، وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: يا قيل، اختر لنفسك ولقومك، فقال: اخترت السوداء، فإنها أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث، فاستبشروا بها، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريح عقيم، فأهلكتهم، ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا «١».
وذكر هود في القرآن الكريم سبع مرات، في سورة الأعراف في الآية ٦٥، وفي سورة هود في الآيات: ٥٠، ٥٣، ٥٨، ٦٠، ٨٩، وفي سورة الشعراء في الآية ١٢٤.
وظل هود عليه السلام ينذر قومه ويحذرهم بأس الله، ويذكرهم بقوم نوح وبنعم الله تعالى عليهم: طول القامة وقوة البدن، والإقامة في أرض كثيرة الخير من الزروع والماشية، ويدعوهم إلى نبذ عبادة الأصنام، ثم توحيد الله تعالى، والتوبة والاستغفار من الشرك في العبادة.
ولكن أغلب القوم كذبوه، ووصفوه بالسفاهة، لتركه ما ورثوه عن الآباء من عبادة الأصنام، وإفراد الله تعالى بالعبادة.
ثم اشتطوا فاتهموه بالجنون والخبال والعته، وأن آلهتهم مستة بسوء، فتبرأ من تلك الآلهة، وتحداهم وسخر من تأثيرها المزعوم، وأعلن أن الله وحده هو المؤثر الآخذ بنواصي كل ما على الأرض من دابة، وأنذرهم أنه إن لم يستمعوا لنصيحته، فإن الله تعالى سيبيدهم ويستخلف قوما غيرهم، وسيحل بهم عذاب قريب: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ.
وعتا قوم هود وتجبروا وعصوا هودا وكذبوه وجحدوا بآيات الله التي أيده الله بها لتصديقه في أنه رسول من ربه. ومع ذلك ظل هود عليه السلام يحذرهم
(١) الكشاف: ١/ ٥٥٤ وما بعدها.
262
ويذكرهم بأن نجاتهم بالإيمان بدعوته والعمل بنصائحه، فزادهم ذلك عتوا إلى أن دمرهم الله بالريح العقيم، سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما.
ونجىّ الله هودا والذين آمنوا معه برحمة منه، وظل هود بعد هلاك عاد ساكنا بلاد حضرموت، إلى أن مات، ودفن في شرقي بلادهم، على نحو مرحلتين من مدينة «تريم» قرب وادي برهوت. روى ابن جرير عن علي كرم الله وجهه أنه مدفون في كثيب أحمر وعند رأسه سمرة (سدر) في حضرموت.
التفسير والبيان:
وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هودا، ليس أخا في الدين، وإنما كان واحدا من تلك القبيلة أو من جنسهم جنس بني آدم، لا من جنس الملائكة، وذلك ليفهموا كلامه ويأنسوا بمنطقه وأفعاله، ولتكون أخلاقه دليلا معروفا على سلوكه، فيكونوا أقرب إلى تصديقه.
قال هود: يا قوم، اعبدوا الله وحده، ولا تجعلوا معه إلها آخر. أفلا تتقون ربكم، وتبتعدون عما أنتم عليه من الشرك والمعصية؟
فقال الملأ أي الجمهور والسادة والقادة منهم: إنا لنراك في خفة حلم، وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر. وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز، للإشارة إلى تمكنه فيها. ووصف الملأ هنا بالكفر دون ملأ قوم نوح لأن منهم من كان قد آمن وكتم إسلامه مثل مرثد بن سعد.
وإنا لنظنك في كلامك وادعائك أنك رسول من رب العالمين أنك أحد الكاذبين الذين يكذبون على الله في ادعائهم الرسالة من الله.
قال لهم غاضا عن اتهامهم بأدب حسن وخلق عظيم: ليس بي سفاهة أي ضلالة وحماقة، ولكني بحق رسول من رب العالمين، أرسلني إليكم لتبليغكم
263
ما أرسلت به من التكاليف الإلهية، وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين فيما أبلغكم إياه، فلا أكذب على الله. وهذه هي صفات الرسل: التبليغ والنصح والأمانة.
ولا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه، بل احمدوا الله على ذاكم. فقوله: أَوَعَجِبْتُمْ معطوف على محذوف تقديره:
أكذبتم وعجبتم من إنزال وحيه بتذكيركم وعظتكم على لسان رجل منكم، لينذركم عقابه ويحذركم من بأسه؟! واذكروا فضل الله عليكم ونعمته، إذ جعلكم ورثة نوح، ومنحكم طولا في القامة وقوة في الجسد تفوق أمثالكم من أبناء جنسكم.
واذكروا آلاء الله، أي نعمه ومننه عليكم، واشكروه عليها بإخلاص العبادة وترك الشرك به لتفوزوا بجنان الخلد والنعيم الأبدي.
فردوا عليه متمردين بقولهم: أجئتنا لأجل أن نعبد الله وحده، ونفرده بالتعظيم، ونترك ما كان عليه آباؤنا من اتخاذ الأصنام شركاء معه؟ أي أنهم أنكروا عليه دعوته، واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه، حبا لما نشؤوا عليه، وإلفا لما يتدين به آباؤهم.
وازدادوا طغيانا وعنادا وإنكارا على هود عليه السلام، بل اشتطوا في الحماقة والتحدي فطلبوا إنزال العذاب عليهم على ترك الإيمان به، قائلين: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي استعجل إنزال العذاب علينا إن كنت صادقا في تهديدك ووعيدك.
فأجابهم هود عليه السّلام: إنه قد وجب عليكم وحقّ بمقالتكم هذه من ربّكم عذاب وسخط وطرد من رحمته، أو قد نزل عليكم، جاعلا المتوقع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا (شديدة الصوت) عاتية تلقي
264
الناس على الأرض كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر ٥٤/ ٢٠] أي أصول نخل قلع من جذره.
أتحاجونني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، وما أنزل الله من حجّة ولا برهان أو دليل على عبادتها؟! ثم هددهم وأوعدهم بقوله: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي انتظروا نزول العذاب الشديد من الله الذي طلبتموه بقولكم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إني معكم أحد المنتظرين لنزوله بكم.
وقد نزل بهم العذاب ونجّى الله هودا والذين آمنوا معه برحمة عظيمة من الله، واستأصل الكافرين، وقطع دابر الذين جحدوا بآيات الله لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالله تعالى، وكذبوا بآيات الله، فهاتان صفتان استوجبتا التّعذيب، وهما: التّكذيب بآيات الله، والكفر أو عدم الإيمان.
وكان العذاب كما في آيات أخرى بالأعاصير الهوجاء والرّيح العاتية: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذّاريات ٥١/ ٤١- ٤٢]، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة ٦٩/ ٦- ٨]، فلما تمرّدوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرّجل منهم، فترفعه في الهواء، ثمّ ترميه على رأسه، فتخلع رأسه ممن بين جثّته تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف ٤٦/ ٢٥].
ومظاهر عتوّهم: عبادة الأوثان، وظلم الناس، والاغترار بالقوّة: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ [فصلت ٤١/ ١٥]، وبناء الأبنية الضخمة في كلّ مكان عبثا بغير نفع، فعاتبهم هود
265
وكلمهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ... [الشعراء ٢٦/ ١٢٨- ١٣١]، قالُوا: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، إِنْ نَقُولُ: إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود ١١/ ٥٣- ٥٤] أي بجنون.
فقه الحياة أو الأحكام:
في قصة هو مع قومه عبر وعظات أهمها ما يأتي:
١- ضرورة التّحلّي بالصبر بسبب معاناة الأنبياء الشديدة في دعوة أقوامهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ورفض الإشراك به معه إلها آخر. فقد دعا هود قومه إلى عبادة الله وحده، وذكّرهم بنعم الله وأفضاله عليهم من التّمكين في الأرض وزيادة القوة البدنية وطول القامة، قال ابن عباس: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعا.
٢- خيبة الآمال بالتّفوق حين استمر عناد القوم (قوم عاد) وتمرّدهم وإنكارهم دعوة نبيّهم، فقد حملهم غرورهم بقوتهم الجسدية والمادية في البناء والمصانع على الاستهانة بتهديد النّبي ووعيده، فاستعجلوا إنزال العذاب عليهم.
٣- النّبي يكون عادة من جنس قومه، فهو بشر مثلهم، وهو أيضا واحد من القبيلة، لكنه يكون من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا، وأكرمهم معشرا، وأرفعهم خلقا وأدبا. وهذا كلّه كان منطبقا على هود عليه السّلام، بدليل إجابته لقومه الذين اتّهموه بالسّفاهة إجابة صادرة عن الحكمة، والتّرفّع عمّا قالوا ووصفوه بالسّفاهة والضّلالة. وهذا منهج أصحاب السّمو والرّفعة، يقابلون السّفهاء بالحلم، ويغضون عن قول السّوء بالصّفح والعفو والمغفرة.
266
٤- إنّ نتيجة التّمرّد والعتو والطّغيان هي الانهيار والدّمار، وقد دمّر الله عادا بسبب تكذيبهم بآيات الله، وكفرهم وعدم إيمانهم، فعصف بهم بالرّيح العاتية.
٥- نجّى الله هودا وجماعة الإيمان لاستحقاقهم الرّحمة بسبب إيمانهم، وأنزل على عاد عذاب الاستئصال الذي هو الرّيح، معجزة لهود عليه السّلام.
قصة صالح عليه السّلام
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٩]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
267
الإعراب:
آيَةً حال، عاملها معنى الإشارة، وكانوا سألوه أن يخرجها من صخرة عينوها بُيُوتاً حال مقدرة لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النّحت. لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بإعادة العامل الجارّ، كقوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ [الزّخرف ٤٣/ ٣٣] : فقوله: لِبُيُوتِهِمْ بدل من قوله: لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ وهذا يدلّ على أن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه.
أما الضمير مِنْهُمْ فإن رجع إلى قَوْمِهِ فهو بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، وإن رجع إلى لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فهو بدل بعض من كلّ. وعلى الأوّل يكون المعنى: أن استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين، وعلى الثاني لم يكن الاستضعاف مقصورا عليهم، ويدلّ على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين.
البلاغة:
هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ إضافة تشريف وتكريم.
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ التّنكير للتّقليل والتّحقير، أي لا تمسّوها بأدنى سوء.
مُؤْمِنُونَ وكافِرُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
ثَمُودَ قبيلة عربية كانت تسكن الحجر بين الحجاز والشّام، إلى وادي القرى قرب تبوك، سمّوا باسم جدّهم: ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح. فإذا كانت ممنوعة من الصّرف فيراد بها القبيلة، وإذا صرفت يراد بها الحي، أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر.
أَخاهُمْ صالِحاً هو نبيّهم، وكان من أشرفهم نسبا وأعلاهم حسبا، وأخوته لثمود كأخوة
268
هود لقومه: أخوة في القبيلة أو الجنس، أي من بني آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة، فهي أخوة في النّسب لا في الدّين.
بَيِّنَةٌ معجزة ظاهرة الدّلالة من الله على صدقه. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ بعقر أو ضرب.
وَاذْكُرُوا تذكّروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ أي في الأرض. وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أسكنكم فيها أو أنزلكم فيها، والأرض: أرض الحجر بين الحجاز والشام. مِنْ سُهُولِها قُصُوراً تسكنونها في الصيف. وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً تسكنونها في الشتاء. والنّحت: نحر الشيء الصّلب.
فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ تذكّروا نعم الله الكثيرة. وَلا تَعْثَوْا من العثيّ والعثو: الفساد.
اسْتَكْبَرُوا تكبّروا عن الإيمان به.
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نحروها بالذّبح، وأصل العقر: الجرح، وعقر الإبل: قطع قوائمها، وكانوا يفعلون ذلك بها قبل نحرها لتموت في مكانها ولا تنتقل. والذي عقرها هو: «قدار بن سالف» حيث قتلها بأمرهم بالسّيف، وإنّما نسب الفعل إليهم جميعا لأن العقر كان برضاهم وأمرهم، والآمر والرّاضي بالفعل: شريك في الجريمة.
وَعَتَوْا تمرّدوا مستكبرين. الرَّجْفَةُ الزّلزلة الشديدة من الأرض أو الحركة والاضطراب، والصّيحة من السّماء. جاثِمِينَ باركين على الرّكب، أو قاعدين لا حراك بهم، والمراد: أنهم أصبحوا جثثا هامدة ميتة لا تتحرّك.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله في أوّل السّورة قصة آدم الدّالة على قدرته وتوحيده وربوبيته، وأقام الأدلّة الدّامغة على صحّة البعث بعد الموت، أتبع ذلك بقصص الأنبياء وموقف أقوامهم المعاندين لهم، فذكر قصة نوح ثمّ قصة هود، ثم قصة ثمود، وكان قوم ثمود يتلون قوم عاد في الوجود والظّهور بين الأمم، كما قال تعالى على لسان صالح عليه السّلام: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ.
أضواء من التاريخ:
ثمود بن عاثر بن إرم بن نوح، وهو أخو جديس بن عائز، وكذلك قبيلة طسم، كلّ هؤلاء من العرب العاربة البائدة قبل إبراهيم الخليل عليه السّلام.
269
وكانت ثمود- قوم صالح- بعد عاد، ورثوا أرضهم وديارهم، وكانت مساكنهم بالحجر بين الحجاز والشّام، إلى وادي القرى وما حوله. ومدائن صالح ظاهرة إلى اليوم، تعرف ب «فجّ النّاقة». وحجر ثمود في الجنوب الشرقي من أرض مدين، وهي مصاقبة لخليج العقبة. وقد كان يقال لعاد: عاد إرم، إلى أن هلكوا، فقالوا: ثمود إرم.
وقد مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ديارهم ومساكنهم، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع، قال الإمام أحمد عن ابن عمر قال: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس على تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا لها القدور، فأمرهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم، حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها النّاقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، وقال:
«إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم».
وروى أحمد أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم»
وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من غير وجه.
وكانت قبيلة ثمود مثل قوم نوح وعاد تدين بعبادة الأصنام يشركونها مع الله في العبادة، وآتاهم الله نعما كثيرة، فأرسل الله إليهم صالحا نبيّا عليه السّلام، واعظا لهم ومذكّرا لهم بنعم الله وآياته الدّالة على توحيده وأنه لا شريك له، وأنه يجب إفراده بالعبادة دون سواه.
فآمن به المستضعفون من قومه، وكفر الملأ (السّادة والأشراف والقادة) ولم يؤمنوا به، وعصوا وتكبروا وكفروا، وأنكروا نبوته: أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر ٥٤/ ٢٥]، وقالوا للمستضعفين: أَتَعْلَمُونَ
270
أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
[الأعراف ٧/ ٧٥]، فأجاب المستكبرون: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف ٧/ ٧٦].
وطلب المستكبرون منه آية على صدقه، فأيّده الله بالنّاقة وقال لهم: لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء ٢٦/ ١٥٥]، إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر ٥٤/ ٢٧- ٢٨]، فكانت تشرب ماء البئر أو النّهر الصغير في يوم، ويشربون منه في اليوم التالي، ويحلبون منها ما شاؤوا فلا ينضب حليبها.
وأمرهم ألا يمسّوها بسوء، وأن يذروها تأكل في أرض الله، وبذل صالح عليه السّلام قصارى جهده في تذكير قومه بنعم الله تعالى عليهم، ونهاهم عن أن يعثوا في الأرض مفسدين.
فتكبّروا عن الإيمان به، واستخفّوا به، وعاندوه، وعتوا عن أمر ربّهم، وعقروا النّاقة، عقرها قدار بن سالف بأمرهم: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَقالُوا: يا صالِحُ: ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف ٧/ ٧٧]، فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر ٥٤/ ٢٩].
فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود ١١/ ٦٥]، فَتَوَلَّى عَنْهُمْ، وَقالَ: يا قَوْمِ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف ٧/ ٧٩]، ثم نزل عليهم العذاب عذاب الرّجفة (الواقعة الشديدة من صوت الرّعد، المصحوبة بقطعة من نار تحرق ما أتت عليه) أو عذاب الصيحة: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الأعراف ٧/ ٧٨]، وقال تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً، فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر ٥٤/ ٣٠- ٣١]، وعبّر تعالى عنها أيضا بالصاعقة، وتارة بالطاغية. وكلّ ذلك صحيح لأن الصاعقة تكون
271
مصحوبة بصوت شديد، وقد تصحب برجفة أشبه بالزّلزال، وقد تكون في مكان ويطغى تأثيرها إلى مكان آخر.
ونجّى الله صالحا والذين آمنوا معه من العذاب، فذهبوا إلى الرّملة بنواحي فلسطين لأنها بلاد خصبة. وكان عددهم كما ذكر الألوسي مائة وعشرين، وأما الهالكون فكانوا أهل خمسة آلاف بيت: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ [هود ١١/ ٦٨].
وذكر اسم صالح في القرآن تسع مرّات، في سورة الأعراف في الآيات:
(٧٣، ٧٥، ٧٧)، وفي سورة هود في الآيات: (٦١، ٦٢، ٦٦، ٨٩)، وفي سورة الشعراء في الآية (٤٢). وصالح كما ذكر البغوي: هو صالح بن عبيد بن أسف بن ماشخ بن عبيد بن حاذر بن ثمود.
التفسير والبيان:
ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا، ليس أخا في الدين، وإنما من القبيلة أو من جنسهم البشري لا من الملائكة.
فقال صالح ثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم من إله تعبدونه غيره، وهكذا جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥] وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦].
قد جاءتكم حجة وبرهان على صدق ما جئتكم به، وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها: الكاتبة. فأخذ عليهم العهود والمواثيق: لئن أجابهم الله إلى سؤالهم ليؤمنن به وليتبعنّه، فلما أعطوه على
272
ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح عليه السلام إلى صلاته، ودعا الله عز وجل، فتحركت تلك الصخرة، ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، والله على كل شيء قدير.
فآمن عندئذ رئيسهم جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره، وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا، فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والحباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صعر بن جلهس.
وأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبون، فيملئون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم «١»، كما قال في الآية الأخرى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر ٥٤/ ٢٨] وقال أيضا: هذِهِ ناقَةٌ، لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء ٢٦/ ١٥٥] قال ابن عباس: كانوا يستعيضون عن الماء يوم شربها بلبنها.
قال لهم: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي أنها دليل قاطع على صدق نبوتي، وأضاف الناقة إلى الله للتشريف والتكريم وتعظيم شأنها لأنها جاءت من عنده مكونة من غير أم ولا أب، بل من صخرة عظيمة.
ثم أمرهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ما شاءت، وألا يتعرضوا لها بسوء في نفسها ولا في أكلها، فإنكم إن فعلتم ذلك أصابكم عذاب أليم.
ثم ذكّرهم بنعم الله عليهم وبوجوب شكرها وعبادته تعالى فقال:
وَاذْكُرُوا... أي تذكروا نعم الله وأفضاله وإحسانه عليكم، إذ جعلكم خلفاء لعاد في الحضارة والعمران وقوة البأس، وأورثكم أرضهم وديارهم، وأسكنكم منازلهم، تتخذون من سهولها قصورا عالية، بما ألهمكم من حذق الصناعة
(١) تفسير الكشاف: ١/ ٥٥٥- ٥٥٦، تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٢٨ [.....]
273
والاستفادة من التراب بصنع اللبن والآجر ومن سهولة الأرض، وتنحتون من الجبال أحجارا تبنون بها بيوتا محصنة، يسكنونها في الشتاء لقوتها، فلا تؤثر فيها الأمطار والعواصف، ويسكنون في السهول بقية الفصول للزراعة.
فتذكروا هذه النعم الكثيرة العظيمة، واشكروا الله عليها بتوحيده وإفراده بالعبادة، وإياكم أن تفسدوا في الأرض، بأي نوع من أنواع الفساد.
فقال الملأ أي الأشراف والسادة والزعماء للفقراء المستضعفين الذين هم أسرع الناس عادة إلى إجابة دعوة الرسل، وهم المؤمنون منهم: أتعلمون أن صالحا رسول من عند الله؟ وهو سؤال يراد به التهكم والسخرية والاستهزاء بهم. فأجابهم هؤلاء: نحن نعلم يقينا أنه رسول من عند ربه بلا ريب ولا شك، وإنا بما أرسل به صالح من الحق والهدى مؤمنون مصدّقون ومقرون بأنه من عند الله. سألوهم عن العلم بإرساله، فجعلوا إرساله أمرا معلوما لا شك فيه، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فنخبركم أنا به مؤمنون. وقوله: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الذين استضعفوا، كما بينا لأن المستضعفين هم المؤمنون، وهو بدل البعض من الكل، وهو الراجح.
فأجاب الكفرة الذين استكبروا عن الإيمان برسالة صالح: إنا بالذي صدقتم وآمنتم به من نبوة صالح جاحدون منكرون.
وإنما لم يقولوا: إنا بما أرسل به صالح كافرون لأن ذلك يتضمن شهادتهم على أنفسهم بإثبات رسالته، ثم بإنكارها وجحودها عنادا. وقال الزمخشري:
وضعوا: آمَنْتُمْ بِهِ موضع: أرسل به ردّا لما جعله المؤمنون معلوما وجعلوه مسلّما.
ولما اشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام عزموا على قتل الناقة، ليستأثروا بالماء كل يوم، فاتفقوا على قتلها، وعقروا الناقة أي نحروها، ونسب
274
الفعل إليهم جميعا مع أن قاتلها واحد، كما جاء في سورة القمر فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [٢٩] لرضاهم جميعا بفعله، وكما قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها، فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها، وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس ٩١/ ١٤- ١٥]
وجاء في صحيح البخاري مرفوعا: «فانتدب لها رجل ذو عزة ومنعة في قومه كأبي زمعة».
وعتوا عن أمر ربهم أي تمردوا عن اتباع رسالة صالح وأعرضوا عن امتثال أمر ربهم، وأمر ربهم: ما أمر به على لسان صالح عليه السلام، من قوله:
فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ... أو شأن ربهم وهو دينه. وقالوا: يا صالح، ائتنا بما وعدتنا به من العذاب والانتقام، إن كنت رسولا، وتدعي الصدق فيما تبلغ به عن الله، وهذه سمة الحمقى والسفهاء والأغرار.
روى الإمام أحمد والحاكم عن جابر قال: لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح، فكانت- يعني الناقة- ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها. وكانت تشرب ماءهم يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة، أخمدهم الله بها من تحت أديم السماء، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله، فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه».
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وفي سورة هود: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وفي سورة فصلت: فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ وفي سورة الذاريات: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ والمراد بالجميع واحد: وهو الصيحة الشديدة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها. وسببها اصطكاك الأجرام السماوية.
فأصبحوا في دارهم أي في بلادهم أو في مساكنهم جثثا هامدة موتى لا يتحركون.
275
فتولى عنهم صالح عليه السلام، والظاهر أنه كان مشاهدا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين، تولّي مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم، حزنا عليهم.
وقال: يا قوم، لقد بذلت فيكم منتهى وسعي وجهدي في إبلاغكم النصيحة لكم، ولكنكم لا تحبون الناصحين، فوجبت عليكم كلمة العذاب. وهذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه، وتمردهم على الله، وإبائهم عن قبول الحق.
روي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت.
وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي، فالتفت فرأى الدخان ساطعا، فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفا وخمسمائة دار، وروي غير ذلك.
ونداء صالح عليه السلام لقومه بعد الموت
كنداء النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعض قتلى قريش ببدر، بعد دفنهم في القليب (البئر غير المطوية أو غير المبنية) :«يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، ويا فلان بن فلان، أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟!».
قال راوي الحديث أبو طلحة الأنصاري- فيما أخرجه البخاري وغيره- قال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أقوام قد جيّفوا؟ - أي أجساد لا أرواح لها أو فيها وقد أنتنوا- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون.
276
فقه الحياة أو الأحكام:
ثمود «١» مثل عاد من القبائل العربية العاربة، بعث الله إليهم صالحا نبيا، فهم قوم صالح عليه السلام، وكان صالح من أوسطهم نسبا، وأفضلهم حسبا، فدعاهم إلى الله تعالى حتى شاب، فلم يتبعه إلا قليل مستضعفون. وقال المستكبرون: نحن كافرون بما جاء به صالح.
قال الرازي: وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن الفقر خير من الغنى، وذلك لأن الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه، والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما، فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد، والإباء، والإنكار، والكفر. وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان، والتصديق والانقياد، وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى «٢».
واستدل بقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تنبون القصور بكل موضع، وقوله: وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، استدل بهذه الآية من أجاز البناء الرفيع كالقصور ونحوها. وبقوله: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف ٧/ ٣٢]
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن أبي الدنيا عن علي بن زيد بن جدعان مرسلا: «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده في مأكله ومشربه».
ومن آثار النعمة: البناء الحسن، والثياب الحسنة.
وكره ذلك آخرون، منهم الحسن البصري وغيره. واحتجوا
بقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني والخطيب عن جابر وهو ضعيف: «إذا أراد الله بعبد شرا، خضر
(١) ثمود: لم ينصرف لأنه جعل اسما للقبيلة كما ذكر سابقا، وقال أبو حاتم: لم ينصرف لأنه اسم أعجمي، قال النحاس: وهذا غلط لأنه مشتق من الثّمد: وهو الماء القليل.
(٢) تفسير الرازي: ١٤/ ١٦٥
277
له في الطين واللّبن حتى يبنى»
وفي خبر آخر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال فيما رواه الطبراني وأبو نعيم عن ابن مسعود: «من بنى فوق ما يكفيه، كلّف يوم القيامة أن يحمله على عنقه»
وأخرج الدارقطني عن جابر بن عبد الله قال: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «وما أنفق المؤمن من نفقة، فإن خلفها على الله عز وجل، إلا ما كان في بنيان أو معصية».
ودل قوله تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ على أن الكفار منعم عليهم.
وفي قوله: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا..
دلالة على أن السادة والزعماء هم الذين تكبروا عن الإيمان، شأنهم في ذلك أمثالهم مع كل نبي ومصلح يتمردون ويستعلون عليه. وفيه دلالة أيضا على أن المستضعفين هم الذين آمنوا برسالة صالح عليه السلام، وهو الشأن الغالب أيضا مع كل نبي، يبادر الضعفاء والفقراء إلى الإصغاء لكلمة الحق والهدى والإيمان، فيكونون أهل الجنة، وأولئك المتكبرون هم أهل النار والعذاب في الدنيا.
وأما قول صالح: وَقالَ: يا قَوْمِ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ...
فيحتمل أنه قال ذلك قبل موتهم، ويحتمل أنه قاله بعد موتهم،
كقوله صلّى الله عليه وسلّم لقتلى بدر: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟» فقيل: أتكلم هؤلاء الجيف؟ فقال: «ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يقدرون على الجواب».
قال القرطبي: والأول أظهر، يدل عليه: وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ أي لم تقبلوا نصحي. وذكر ابن كثير وغيره:
أن صالحا قال لهم ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا.
وقوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ والفاء للتعقيب: يدل على أن الرجفة أخذتهم عقيب ما ذكروا ذلك الكلام، لكن ليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال في آية أخرى: فَقالَ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود ١١/ ٦٥].
ولا تناقض بين تعبير الرجفة هنا، والطاغية والصيحة والصاعقة، كما ذكرنا
278
في آيات أخرى، لأن الرجفة هي الزلزلة في الأرض، وهي حركة خارجة عن المعتاد، فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها. والطاغية: اسم لكل ما تجاوز حده، والهاء للمبالغة. وأما الصيحة: فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة. وأما الصاعقة: فالغالب أنها الزلزلة، وكذلك الزجرة، قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات ٧٩/ ١٣- ١٤].
وفي هذه القصة معجزات هي: أن القوم قد شاهدوا خروج الناقة من الصخرة، وشاهدوا أن الماء الذي كان شربا لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين، كان شربا لتلك الناقة الواحدة في اليوم الثاني، ثم إن القوم لما نحروها، وكان صالح عليه السلام قد توعدهم بالعذاب الشديد إن نحروها، فلما شاهدوا بعد إقدامهم على نحرها آثار العذاب، اقتضاهم العدول عن إصرارهم على الكفر والتوبة منه. روي أنهم احمروا في اليوم الأول، ثم اصفروا في اليوم الثاني، ثم اسودوا في اليوم الثالث.
وأما الناقة فكانت تسرح في الأودية، ترد من فج (طريق) وتصدر (تعود) من غيره، ليسعها لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت على ما ذكر خلقا هائلا، ومنظرا رائعا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها.
قصة لوط عليه السلام
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
279
الإعراب:
وَلُوطاً منصوب بتقدير فعل، تقديره: واذكروا لوطا، أو أرسلنا لوطا. إِذْ قالَ بدل مما سبق. قال النحويون: إنما صرف لوط ونوح لخفته، فإنه مركب من ثلاثة أحرف، وهو ساكن الوسط.
أإِنَّكُمْ الهمزة الأولى همزة الاستفهام، والثانية همزة: «إن».
شَهْوَةً منصوب على المصدر، أي تشتهونهم شهوة، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال.
البلاغة:
أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ استفهام إنكار وتوبيخ.
إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ هذا تعريض بما يوهم الذم، قال ابن عباس: عابوهم بما يمدح به.
المفردات اللغوية:
وَلُوطاً لوط: هو ابن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام، ولد في «أور الكلدانيين» في الطرف الشرقي من جنوب العراق، وكانت تسمى أرض بابل. هاجر بعد موت والده مع عمه إبراهيم إلى ما بين النهرين إلى جزيرة قورا، حيث توجد مملكة آشور، ثم ذهب معه إلى الأرض الشام، حيث أسكنه إبراهيم شرقي الأردن، وعاش في المكان المسمى بعمق السديم قرب البحر الميت (أو بحر لوط) وهي قرى خمس، سكن لوط في إحداها المسماة بسدوم، ثم بعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى، يدعوهم إلى الله عز وجل، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر وما يرتكبونه من الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور دون الإناث، وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، حتى صنع ذلك أهل سدوم. لَتَأْتُونَ الرِّجالَ يقال: أتى المرأة: غشيها. مُسْرِفُونَ متجاوزون الحلال إلى الحرام. أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا وأتباعه. يَتَطَهَّرُونَ من أدبار الرجال. الْغابِرِينَ الباقين في العذاب.
280
المناسبة:
هذه هي القصة الرابعة: قصة لوط مع قومه: أهل سدوم، ذكرت بعد قصة نوح، وهود، وصالح عليهم السلام، لبيان ما حلّ بهم من العذاب والنكال حينما أعرضوا عن نصح الأنبياء، وعتوا عن أوامر الله.
أضواء من التاريخ:
لوط: هو لوط بن هاران- أخي إبراهيم بن تارح، آمن بإبراهيم واهتدى بهديه، كما قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ، وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [العنكبوت ٢٩/ ٢٦] وتبع إبراهيم في رحلاته، فكان معه فيما بين النهرين، ثم بمصر، ثم ببلاد الشام، حيث سكن في سدوم في شرقي الأردن.
وذكرت قصة لوط في عدة سور باختلاف يسير، وبعضها يكمل بعضا.
وكان أهل سدوم يعملون الخبائث دون حياء ولا عفة، وأمام الناس، ويقطعون الطريق على التجار، ويأخذون بضائعهم، كما قال تعالى على لسان لوط: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت ٢٩/ ٢٩].
وقد وعظهم لوط عليه السلام ونصحهم ونهاهم وخوفهم بأس الله تعالى، فلم يأبهوا له ولم يرتدعوا، فلما ألح عليهم بالموعظة هددوه تارة بالرجم وتارة بالإخراج، إلى أن جاء لوط الملائكة، بعد أن مرّوا بإبراهيم وأخبروه أنهم ذاهبون للانتقام من قوم لوط، وهم أهل سدوم وعامورة، فخاف أن يمس لوط بأذى، فأخبروه بأنه ناج هو ومن آمن معه، وأخبروه بأن العذاب بالقوم أمر حتم:
يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود ١١/ ٧٦].
281
جاء هؤلاء الملائكة إلى لوط بهيئة غلمان مرد حسان الوجوه، فجاء جماعة من سدوم إلى لوط، طالبين ضيوفه، ليفعلوا فيهم الفاحشة، فحاول لوط جاهدا في ردهم، وبالغ في ذلك حتى طلب إليهم أن يأخذوا بناته بطريق العرض غير المؤكد وبالزواج المشروع، اعتمادا على استحيائهم منه، ليحمي ضيوفه. فلم يرضوا. ثم قال لوط للملائكة الذين لم يعلم أنهم ملائكة: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود ١١/ ٨٠] أي لجاهدتهم بكم وعاقبتهم بما يستحقون، وحينئذ أعلموه بحقيقة أمرهم، وأنهم جاؤوا للتنكيل بأولئك القوم.
ولما حاول أهل القرية أخذ هؤلاء المردان بالقوة، وهجموا على بيت لوط، طمس الله أعينهم، فلم يبصروا، ولم يهتدوا إلى مكان الاقتحام. ثم أخرج الملائكة لوطا وابنتيه وزوجه من القرية، وأمروهم ألا يلتفت منهم أحد، وأن يحضروا حيث يؤمرون، فصدعوا بالأمر إلا امرأته فإنها التفتت إلى القرية لترى ما يحل بها، وكانت متعلقة بهم، وكانت كافرة، فحل بها من العذاب ما حل بهم، وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل، وقلبت ديار القوم، وكانوا ألفا أو أكثر «١».
قال تعالى: قالُوا: يا لُوطُ، إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، إِلَّا امْرَأَتَكَ، إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ... [هود ١١/ ٨١- ٨٢].
التفسير والبيان:
واذكر لوطا حين قال لقومه موبخا لهم: أتفعلون الفعلة الفاحشة التي ما فعلها أحد قبلكم في أي زمان، بل هي مبتدعة منكم، وعليكم وزر كل من
(١) قصص الأنبياء للأستاد عبد الوهاب النجار: ١١٣، ط الرابعة.
282
يفعلها. وهذا يدل على أنها أمر مناقض للفطرة. وقوله: ما سَبَقَكُمْ بِها الباء للتعدية. وقوله مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ من الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق، والثانية للتبعيض.
إنكم تأتون الرجال في أدبارهم وتدعون الزواج بالنساء في أقبالهن، أي إنكم عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن، إلى إتيان الرجال، وهذا شذوذ وإسراف منكم وجهل لأنه وضع الشيء في غير محله، ولهذا قال لهم في الآية الأخرى: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ [الحجر ١٥/ ٧١]. فأرشدهم إلى جنس النساء، فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن.
وقوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ بيان لقوله: تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ.
وفي هذا تقريع لهم وتوبيخ شديد، وقوله: مِنْ دُونِ النِّساءِ إشارة إلى أنهم تجاوزوا النساء، وهن محل قضاء الشهوة عند ذوي الفطر السليمة.
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي إنكم لا تأتون الفاحشة ثم تندمون على فعلها، بل إنكم قوم عادتكم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثم أسرفوا في حال قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد، ونحوه قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشعراء ٢٦/ ١٦٦] أي في جمعكم إلى الشرك هذه الفاحشة.
ووصفهم بصفة أخرى في سورة النمل: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [٥٥].
وفي هذا دليل على إسرافهم في اللذات، وتجاوزهم حدود العقل والفطرة، وجهالتهم عواقب الأمور إذ أنهم لا يقدرون ضرر ذلك على الصحة، وما يحدثه من مرض ثبت في العصر الحديث أنه مميت.
وما كان جوابهم عن هذا الإنكار والنصح شيئا مقنعا، أو رجوعا عن الخطأ والضلال وإنكار الفاحشة وتعظيم أمرها، وإنما هموا بإخراج لوط ونفيه ومن معه
283
من المؤمنين من قريتهم تضجرا منهم وبما يسمعون من وعظهم ونصحهم وقولهم، فهم لم يجيبوه بما يناسب كلامه، ولكنهم جاؤوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته بالأمر بإخراجه. وقوله: أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا وأتباعه.
وقالوا لبعضهم: إن هؤلاء أناس يتطهرون ويتنزهون عن مشاركتكم في فعلكم وعن الفواحش وعن أدبار الرجال والنساء. وهذا صادر منهم على سبيل السخرية بهم والتهكم، والافتخار بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظوهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذا المتزهد.
فقوله: يَتَطَهَّرُونَ أي الإتيان في هذا المأتى.
وكانت نتيجة الأمر أن الله تعالى أنجى لوطا وأهل بيته الذين آمنوا معه، إلا امرأته، فإنها لم تؤمن، فكانت من جماعة الهالكين الباقين مع قومها في العذاب لأنها كانت على دين قومها تمالئهم عليه، وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم، وهذا كقوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات ٥١/ ٣٥- ٣٦] أي لم يكن آمن به أحد من قومه سوى أهل بيته فقط.
وأمطر عليهم مطرا كثيرا عجيبا أمره وهو الحجارة التي رموا بها، وقد فسرتها آية أخرى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ، وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود ١١/ ٨٢- ٨٣] وآية: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر ١٥/ ٧٤] ومعنى قوله:
مسومة أي معلمة ببياض في حمرة، والسّجيل: طين طبخ بالنار كالفخّار.
وربما تكون تلك الحجارة محمولة بإعصار من الريح العاتية، أو من النيازك وهي الحجارة المنفصلة من بقايا كوكب محطم تجذبه الأرض إليها.
فانظر يا محمد وكل معتبر بهذا القصص للانزجار، كيف كان عاقبة المجترئ
284
على معاصي الله عزّ وجلّ، ويكذب رسله، لتعلم عقاب الأمة على ذنوبها في الدنيا قبل الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن تحريم اللواط لأسباب كثيرة:
١- الضرر بالمفعول به، فإنه يحدث مرضا ثبت أنه مميت وهو المسمى «الإيدز» أي فقد المناعة لأنه تعالى أودع في الرحم جاذبية شديدة لامتصاص المني، وليس في عضو المفعول به قوة جاذبية للمني، فيتسمم الدم ويحدث الضرر.
٢- إفساد خلق اللائط وإسرافه في الشهوة، إذ لا يقدر آنيا المخاطر.
٣- إلحاق العار والعيب بكل من الفاعل والمفعول به، واستحكام العداوة بينهما.
٤- إفساد النساء بالإعراض عنهن إلى الرجال.
٥- إقلال النسل، لما في الفاحشة من رغبة عن الزواج، والرغبة عن الزوجات في غير محل الإنجاب. أما الإتيان في محل الحرث فيحقق الإنجاب، شاء الرجل أم أبى.
لهذا كان عذاب القوم هو الاستئصال في الدنيا، ثم إن عذاب الآخرة أعظم وأدوم من ذلك.
أما مذاهب العلماء المسلمين في عقاب اللواط فهي ما يأتي:
١- قال أبو حنيفة: يعزر اللوطي فقط، سواء كان محصنا أو غيره إذ ليس في اللواط اختلاط أنساب، ولا يترتب عليه غالبا حدوث منازعات تؤدي إلى قتل اللائط، وليس هو زنى.
285
٢- وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : إن اللواط يوجب الحد لأن الله سبحانه غلّظ عقوبة فاعله في كتابه المجيد، فيجب فيه حد الزنى، لوجود معنى الزنى فيه.
وحد اللائط عند المالكية، والحنابلة في أظهر الروايتين عن أحمد: هو الرجم بكل حال، سواء أحصن (تزوج) أو لم يحصن، أي سواء أكان ثيبا أم بكرا
لقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم-: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وفي لفظ: «فارجموا الأعلى والأسفل».
وحد اللائط عند الشافعية هو حد الزنى، فإن كان اللائط محصنا (متزوجا) وجب عليه الرجم، وإن كان غير محصن، وجب عليه الجلد والتغريب،
لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا جاء الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان»
ولأنه حد يجب بالوطء، فاختلف فيه البكر (غير المتزوج) والثيّب (المتزوج) قياسا على حد الزنى، بجامع أن كلا منهما إيلاج محرم في فرج محرم «١».
أما إتيان البهيمة: فاتفق أئمة المذاهب الأربعة على أن واطئ البهيمة يعزره الحاكم بما يردعه لأن الطبع السليم يأبى هذا الوطء، فلم يحتج إلى زاجر بحد، بل يعزر. وفي سنن النسائي وأبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس على الذي يأتي بهيمة حد» «٢».
وأما حديث أبي داود والدارقطني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه»
فلم يثبت،
(١) كتابي موسوعة الفقه الإسلامي «الفقه الإسلامي وأدلته» : ٦/ ٦٦
(٢) المرجع والمكان السابق.
286
بدليل قول ابن عباس: ما أراه قال ذلك، إلا أنه كره أن يؤكل لحمها بعد ذلك العمل «١».
قصة شعيب عليه السلام
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٥ الى ٨٧]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)
الإعراب:
بَعْدَ إِصْلاحِها على حذف مضاف أي بعد إصلاح أهلها.
تُوعِدُونَ محل الجملة وما عطف عليها النصب على الحال، أي ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله وباغيها عوجا. وضمير مَنْ آمَنَ بِهِ يرجع إلى كل صراط، وتقديره:
توعدون من آمن به وتصدون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سَبِيلِ اللَّهِ موضع الضمير: زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدون عنه.
(١) قال ابن العربي في أحكام القرآن: ٢/ ٧٧٧: هذا الحديث متروك بالإجماع، فلا يلتفت إليه.
287
المفردات اللغوية:
وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين، ومدين قبيلة عربية كانت تسكن أرض معان في شرقي الأردن، من طريق الحجاز، وهم من سلالة مدين بن إبراهيم، وكانوا يكفرون بالله، وعبدوا الملائكة من دونه، وكانوا يبخسون الناس في الكيل والوزن. وكما تطلق مدين على القبيلة، تطلق- كما ذكر ابن كثير- على المدينة المعروفة قرب معان، بدليل قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص ٢٨/ ٢٣] وهم أصحاب الأيكة، كما ذكر ابن كثير.
أَخاهُمْ شُعَيْباً أي ليس أخا في الدين، وإنما هو من قبيلتهم أو من جنسهم البشري، لا من جنس الملائكة، فهي أخوة في النسب لا في الدين، وشعيب: هو ابن ميكيل بن يشجر، واسمه بالسريانية «يثرون» بعثه الله إلى أهل مدين.
بَيِّنَةٌ حجة ظاهرة أو معجزة. مِنْ رَبِّكُمْ على صدقي. فَأَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لا تنقصوهم حقهم. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ شامل لإفساد نظام المجتمع بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وإفساد الأخلاق، بارتكاب الفواحش، وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام. بَعْدَ إِصْلاحِها إصلاح الأرض: هو إصلاح أهلها وما فيها بغرس العقيدة الصحيحة، والأعمال الصالحة، وإعمارها بما يرقي الحالة المعيشية.
بِكُلِّ صِراطٍ طريق. تُوعِدُونَ تخوفون الناس بأخذ ثيابهم وأموالهم أو أخذ المكس منهم. وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تصرفون عن دين الله من آمن به بتوعدكم إياه بالقتل.
وَتَبْغُونَها عِوَجاً تطلبون الطريق معوجة. فَكَثَّرَكُمْ أي بارك في نسلكم. عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي من كان قبلكم بتكذيب رسلهم، كان آخر أمرهم الهلاك.
أضواء من التاريخ:
هذه هي القصة الخامسة من قصص الأنبياء بعد نوح وهود وثمود ولوط عليهم السلام، وهي قصة شعيب عليه السلام مع قومه شعب مدين.
أما شعيب فهو ابن ميكيل بن يشجر، وهو من أنبياء العرب، وذكر في القرآن عشر مرات: في سورة الأعراف في الآيات ٨٥، ٨٨، ٩٠، ٩٢ وفي سورة هود في الآيات ٨٤، ٨٧، ٩٠، ٩٥، وفي سورة الشعراء في الآية ١٧٧، وفي سورة العنكبوت في الآية ٣٦. وكانت بعثته قبل زمن موسى عليه السلام لأن
288
الله تعالى قال بعد ذكر قصص هؤلاء الأنبياء الخمسة: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الأعراف ٧/ ١٠٣].
وأما مدين أو مديان فهم من سلالة مدين بن إبراهيم عليه السلام، كانوا يسكنون مدينة مدين قرب معان جنوب شرقي الأردن على طريق الحجاز.
وكانوا يعبدون غير الله تعالى، ويبخسون المكيال والميزان، فنهاهم شعيب عن كل ذلك، وحذرهم بأس الله، بما أوتي من قوة البيان والبراعة في إيراد الحجة عليهم، حتى إنه يسمى «خطيب الأنبياء» وهم أصحاب الأيكة في رأي ابن كثير.
وكانوا يقعدون على الطرق يصدون الناس عن دين الله، قال ابن عباس:
كانوا يجلسون في الطريق، فيقولون لمن أتى إليهم: إن شعيبا كذاب، فلا يفتننّكم عن دينكم. ويقولون أيضا: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [الأعراف ٧/ ٩٠].
وقد حاولوا إبطال دعوته، وإلحاق الأذى به، واحتقار شأنه، وتهديده:
قالُوا: يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود ١١/ ٩١]. بل عابوا عليه صلاته التي تأمره بنهيهم عن عبادة غير الله، والعدل في الكيل والميزان: قالُوا: يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود ١١/ ٨٧].
ولما أفحمهم بدعائهم إلى الإيمان بالله وحسن المعاملة، هدده الملأ (السادة) من قومه بإخراجه ومن معه من المؤمنين من القرية إذا لم يعتنقوا دين قومهم، فعاتبهم بقوله: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟! [الأعراف ٧/ ٨٨].
ولما أصروا على كفرهم، واشتطوا في مجادلة شعيب وإيذائه بالقول والفعل، أهلكهم الله بالرجفة وهي الزلزال مثل قبيلة ثمود، فبادوا جميعا: فَكَذَّبُوهُ
289
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ
[العنكبوت ٢٩/ ٣٧].
وبعد أن نجّى الله شعيبا والذين آمنوا معه، أرسله إلى أصحاب الأيكة:
وهي غيضة من الأشجار قرب مدين، وكانوا على منهج أهل مدين، فلما نهاهم عما هم عليه اتهموه بالكذب والسحر، ولم يصدقوا بنبوته لأنه بشر مثلهم:
قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ [الشعراء ٢٦/ ١٨٥- ١٨٦].
ثم طلبوا من شعيب أن يسقط عليهم كسفا من السماء، أي قطعة منها، إن كان من الصادقين، وأمعنوا في الإعراض عن الحق، فأخذهم عذاب يوم الظّلّة:
بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت مياههم، ثم ساق إليهم غمامة، فاجتمعوا للاستظلال بها من وهج الشمس، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا:
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء ٢٦/ ١٨٩].
التفسير والبيان:
وأرسل الله إلى مدين أخاهم شعيبا، وهي أخوة نسب لا أخوة دين، وأمرهم بتكاليف خمسة ترجع إلى أصلين: تعظيم أمر الله، ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة، والشفقة على خلق الله، ويدخل فيه ترك البخس، وترك الإفساد، ويجمعهما ترك الإيذاء.
وتلك التكاليف هي:
١- الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة غير الله: اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء، ودعوة الرسل كلهم.
٢- ادعاؤه النبوة فقال: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي قد أقام الله
290
الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به، والبينة تشمل المعجزة الكونية، والبرهان العقلي، وخوارق العادات. وهذا مثل قول صالح عليه السلام، إلا أنه تعالى ذكر الآية له وهي الناقة، ولم يذكر آية شعيب، ولا بد من آية تصدقه
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثلها آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
قال الزمخشري: ومن معجزات شعيب: أنه دفع إلى موسى عصاه، وتلك العصا حاربت التنّين (ضرب من الحيات) وأيضا قال لموسى: إن هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد وبياض، وقد وهبتها منك، فكان الأمر كما أخبر عنه.
وهذه الأحوال كانت معجزات لشعيب عليه السلام لأن موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة «١».
وهذا على رأي المعتزلة: وهو عدم ظهور المعجزة قبل النبوة، وأما على رأي أهل السنة، فيجوز أن يظهر الله على يد من يصير نبيا ورسولا بعد ذلك أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي، ويسمى ذلك إرهاصا للنبوة، فتكون هذه الأحوال التي ذكرها الزمخشري إرهاصات لموسى عليه السلام «٢».
٣- إيفاء الكيل والميزان، فقال: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وهذا مرتب على ما سبق: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ على تحريم الخيانة بالشيء القليل، والمعنى: أتموا الكيل والميزان إذا بعتم. وهذا وعظ لإحسان معاملتهم الناس، نابع من العدل الذي يجب أن تكون عليه المعاملة بين المبيع والثمن. وقد عني شعيب بعلاج هذه المفسدة أو الانحراف، لشغف أهل مدين بنقص المكيال والميزان،
(١) الكشاف: ١/ ٥٥٩
(٢) تفسير الرازي: ١٤/ ١٧٣
291
وأراد بالكيل هنا: آلة الكيل وهو المكيال، كما قال في سورة هود: أَوْفُوا الْمِكْيالَ.
٤- منع الخيانة للناس في أموالهم وأخذها دون حق، قال تعالى إخبارا عن شعيب الذي يقال له: «خطيب الأنبياء» لفصاحة عبارته وجزالة موعظته:
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، أي لا تنقصوهم شيئا في البيع خفية تدليسا، كما قال تعالى في تهديده ووعيده: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ- إلى قوله- لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين ٨٣/ ١- ٦] والبخس: النقص بالتعييب والتزهيد، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيد في الكيل أو النقص منه.
والمراد أنه لما منع قومه من بخس (أي نقص) في الكيل والوزن في البيع، منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه، ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة، وأخذ الرشوة، وقطع الطريق، وسلب الأموال بطرق الاحتيال، ونحو ذلك من المساومات، والغش ولو في غير البيع، ويشمل أيضا هضم الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل، فلا يجوز لإنسان نقص آخر حقه في علم أو خلق أو فضيلة أو أدب، وادعاء التفوق عليه حسدا وبغيا وكراهية. روي عن قوم شعيب أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم، أخذوا دراهمه الجياد، وقالوا:
هي زيوف، فيقطعونها قطعا، ثم يأخذونها منه بنقصان ظاهر، أو أعطوه بدلها زيوفا.
٥- منع الإفساد، قال: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها أي لا تفسدوا في الأرض بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائهم، وهو على حذف مضاف أي بعد إصلاح أهلها.
والإصلاح عام يشمل العقيدة والسلوك والأخلاق ونظام المجتمع والحضارة والعمران وسائر وجوه التقدم الزراعي والصناعي والتجاري.
292
ويلاحظ أن قوله: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ منع عن مفاسد الدنيا، وقوله: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ منع من مفاسد الدين، حتى تكون الآية جامعة للنهي عن مفاسد الدنيا والدين.
ذلِكُمْ إشارة إلى هذه التكاليف الخمسة من عبادة الله، والتصديق بنبوتي، والوفاء بالكيل والميزان، وترك البخس والإفساد في الأرض. والمعنى:
كل ما ذكر خير لكم في الإنسانية وحسن السمعة وما تطلبونه من الربح المادي، لأن الناس أرغب في معاملتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والعدل. وخير لكم في الآخرة بالثواب والرضا الإلهي، إن كنتم مؤمنين بوحدانية الله وبرسوله وبشرعه وهداه وبالآخرة، فالإيمان يقتضي الامتثال والعمل بما جاء به الرسول من عند الله.
ويجوز أن يكون ذلِكُمْ إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه، فإن الله لا يأمر إلا بالنافع، ولا ينهى إلا عن الضارّ.
وفي هذا دلالة واضحة على أن العلم وحده لا يكفي للإصلاح، وإنما لا بد في إصلاح الأمم والشعوب من تربية دينية، تقنع الأجيال بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل، وبمضار الانحراف والرذائل لأن الوازع النفسي أقوى من أي ردع أو وازع خارجي.
ثم نهاهم شعيب عن قطع الطريق الحسي والمعنوي بقوله: وَلا تَقْعُدُوا...
أي ولا تقعدوا في مفارق الطرقات تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم، أو تخوفون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه، قال ابن كثير: والأول أظهر، لأنه قال: بِكُلِّ صِراطٍ وهو الطريق. أما المعنى الثاني فهو مستفاد من قوله: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ. أي تصرفون من يريد الإيمان عن دين الله، وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة، ففي هذه الآية نهاهم
293
عن ثلاثة أمور: قطع الطريق على المارّة لأخذ الأموال، والصد عن دين الله، وطلب جعل سبيل الله المستقيمة معوجّة مائلة بالأكاذيب والضلالات وتشوية الحقائق والشبهات والشكوك الملقاة منكم.
والمراد من الآية أن شعيبا منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاث.
ويلاحظ أن شعيبا ركّز في دعوته أولا على الإصلاح الداخلي بإيفاء المكيال والميزان وعدم الإفساد في البلد، ثم انتقل إلى الإصلاح الخارجي بإزالة الموانع والعقبات أمام نشر دعوته للذين يزورون أرضهم.
وبعد قمع الفساد وتطهير البلد من المنكرات انتقل إلى النواحي الإيجابية الملازمة لهم وهي تذكر النعم، فقال: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ.. أي وتذكروا كثرة إنعام الله عليكم، ليحملهم على الطاعة ويبعدهم عن المعصية، ومن تلك النعم أنكم كنتم مستضعفين قليلي العدد، فصرتم أعزة كثيري العدد بما بارك الله في نسلكم، واشكروا له نعمه بعبادته وحده.
روي أن مدين بن إبراهيم تزوج رئيا بنت لوط، فولدت أولادا كثيرين، حتى كثر عددهم، لأن الله بارك في نسلها.
ويجوز أن يكون المعنى أنكم كنتم فقراء ضعفاء، فجعلكم موسرين أقوياء.
وتأملوا واعتبروا بمصير السابقين من الأمم الخالية والقرون الماضية والشعوب المجاورة لكم كقوم نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط، كيف أهلكهم الله بفسادهم وبغيهم في الأرض، واجترائهم على معاصي الله، وتكذيب رسله، فتذكروا عاقبة فسادهم وما لحقهم من الخزي والنكال.
والمقصود من تذكر نعم الله، والتأمل في عقاب المفسدين، حملهم على
294
الطاعة وترك المعصية بطريق الترغيب أولا، والترهيب ثانيا.
وإن كان طائفة «١» منكم آمنوا بما أرسلت به، ولم تؤمن طائفة أخرى، أي قد اختلفتم علي فاصبروا أي فتربصوا وانتظروا حكم الله الذي يفصل بين الفريقين، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم. وهذا وعيد وتهديد للكافرين بانتقام الله منهم، كقوله تعالى: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة ٩/ ٥٢] أو هو عظة للمؤمنين وتسلية لقلوبهم وحث على الصبر واحتمال ما يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم، وينتقم لهم منهم. والظاهر أنه خطاب للفريقين يراد منه حمل المؤمنين على الصبر على أذى الكفار، وزجر من لم يؤمن، حتى يحكم الله، فيميز الخبيث من الطيب.
وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ فإنه سيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين لأن حكمه حق وعدل، لا يخاف فيه الحيف أو الظلم.
فقه الحياة أو الأحكام:
ماذا يفعل الأنبياء؟ إنهم لا يملكون غير الدعوة إلى الله بالكلمة الحسنة، والإقناع والإتيان بالبراهين الكونية والعقلية، ثم النهي عن الفساد والإفساد، ثم التذكير بنعم الله تعالى على البشر، ثم حملهم على الطاعة والانقياد لأوامر الله بدعوتهم إلى الاعتبار والاتعاظ بتدمير الأمم والشعوب المفسدة، وانتظار الحكم الفاصل النهائي لله رب العالمين، وحكمه حق وعدل لا جور فيه.
هذا ما فعله شعيب عليه السلام وغيره من الأنبياء مع أقوامهم، دعاهم إلى أصلين: تعظيم أمر الله ويشمل الإقرار بالتوحيد وتصديق النبوة، والشفقة على خلق الله ويشمل ترك البخس وترك الإفساد وكل أنواع الإيذاء، وتلك هي التكاليف الخمسة.
(١) ذكّر لفظ الفعل وهو «كان» مراعاة للمعنى، ولو راعى اللفظ قال: «كانت».
295
وكان يقال لشعيب خطيب الأنبياء، لحسن مراجعة قومه. وكان قومه أهل كفر بالله وبخس للمكيال والميزان. والكفر جرم عظيم لا يتفق مع إنعام الله، والبخس وهو النقص في آلة الكيل والوزن جرم اجتماعي، يشمل تعييب السلعة، والمخادعة في القيمة، والاحتيال في زيادة الكيل والنقصان منه، وكل ذلك من أكل المال بالباطل، وهو منهي عنه في الأمم جميعها على لسان الرسل عليهم السلام.
والإفساد في الأرض بعد الإصلاح جرم اجتماعي آخر في حق الإنسانية، لأن صلاح الأرض بالعقيدة والأخلاق فيه خير للجميع، وإفساد الأرض عدوان على الناس. قال ابن عباس: كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا يعمل فيها بالمعاصي، وتستحلّ فيها المحارم، وتسفك فيها الدماء، فذلك فسادها، فلما بعث الله شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض. وكل نبي بعث إلى قومه فهو صلاحهم.
وحرم شعيب عليهم القعود على الطرقات لأخذ أموال الناس بالباطل، فقد كانوا عشّارين، ومثلهم اليوم المكّاسون (موظفوا الجمرك) الذين يأخذون من الناس مالا يلزمهم شرعا من الرسوم الجمركية بالقهر والجبر، وذلك غصب وظلم وعسف على الناس وعمل للمنكر. وهذا يشبه عمل قطاع الطرق والمحاربين.
ومنعهم شعيب من محاولة ثني الناس عن قبول دعوته بالتهديد والوعيد والإنذار بقتل من يؤمن به، وبإلقاء الشكوك والشبهات في دعوته، وافتراء الكذب عليه.
وذكّرهم بنعم الله عليهم إذ كانوا قلة فكثروا، وفقراء فاغتنوا، وضعفاء فتقووا. ولفت نظرهم إلى ضرورة الاتعاظ بأحوال من سبقهم أو جاورهم من
296
الأمم والشعوب الخالية، فإنهم حين كذبوا الرسل وكفروا بالله، دمّرهم الله واستأصلهم وأبادهم.
ثم حسم شعيب عليه السلام الموقف بانتظار حكم الله والتهديد والوعيد بهذا الحكم لأن انقسام الناس بسبب دعوته إلى فريقين: فريق المؤمنين وفريق الكافرين، يتطلب قضاء الله الفاصل النهائي بين الطرفين، والله خير من يفصل، وأعدل من يقضي.
وحكم الله بين عباده نوعان: حكم يوحي به إلى رسله، كما في قوله تعالى في أول سورة المائدة:: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ، وحكم يفصل فيه بين الخلائق إما في الدنيا وإما في الآخرة، كما في قوله تعالى في آخر سورة يونس: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ».
والمقصود من كل هذه الأوامر والنواهي بالترغيب أولا، والترهيب ثانيا هو حمل القوم على الإيمان والطاعة والعمل الصالح. والناس جميعا الذين يسمعون هذه القصة مطالبون بما طولب به هؤلاء، فإن العاقل يتعظ بالأمثال والنظائر والأشباه، وهو مدرك تماما أن ما جرى على النظير يجري على نظيره، فالمؤمن يخصه الله بالدرجات العالية، والكافر الشقي بأنواع العقوبات: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ [ص ٣٨/ ٢٨].
297

[الجزء التاسع]

[تتمة سورة الأعراف]
بقية قصة شعيب مع قومه محاورته الملأ وعقابهم بالزلزلة
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٨ الى ٩٣]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)
الإعراب:
أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للاستفهام، والاستفهام هنا للإنكار، والواو واو الحال، تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا؟.
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ: أن وصلتها في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، تقديره: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا بمشيئة الله. وقوله: نعود فيها: أي نصير، ولا يريد به أن يرجع لأنه لم يكن في ملة الكفر، فخرج منها حتى يعود عِلْماً تمييز منصوب لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ اللام لام القسم.
5
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً الذين: في موضع رفع لأنه صفة أو بدل من الذين كفروا في قوله تعالى: وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.... ويجوز أن يكون في موضع مبتدأ مرفوع، وخبره جملة كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا واسمها محذوف أي كأنهم ويجوز أن يكون خبره جملة الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ وكَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا في موضع نصب على الحال.
البلاغة:
عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا: تقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر، وإظهار الاسم الجليل للمبالغة في التضرع.
المفردات اللغوية:
أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ترجعن إلى ديننا، وغلبوا في الخطاب الجمع على الواحد لأن شعيبا لم يكن في ملتهم قط. وعلى نحوه أجاب بقوله: أنعود فيها ولو كنا كارهين؟ والاستفهام للإنكار.
وما يكون لنا ينبغي وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي وسع علمه كل شيء، ومنه حالي وحالكم رَبَّنَا افْتَحْ احكم، والفاتح: الحاكم الْفاتِحِينَ الحاكمين. والفتاح: الحاكم، بطريق المبالغة. وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي قال بعضهم لبعض.
الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة، وأصل معنى الرجفة: الحركة والاضطراب جاثِمِينَ باركين على الركب، ميتين لم يغنوا فيها يقيموا في ديارهم.
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ التأكيد بإعادة الموصول وغيره للرد عليهم في قولهم السابق: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ.
فَتَوَلَّى أعرض وَنَصَحْتُ لَكُمْ فلم تؤمنوا فَكَيْفَ آسى أحزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ استفهام بمعنى النفي.
التفسير والبيان:
هذه تتمة قصة شعيب مع قومه تضمنت موضوعين: الأول- محاورة شعيب لأشراف قومه، وبيان عاقبة الكافرين بإنزال العذاب العام عليهم.
أما المحاورة: فقال زعماء القوم الذين تكبروا عن الإيمان وعن اتباع ما أمرهم
6
به وما نهاهم عنه من عبادة الله وحده، وإيفاء الكيل والميزان، وعدم الفساد في الأرض، وإنذارهم بالعذاب بقوله: فاصبروا، قالوا في توعدهم شعيبا ومن معه من المؤمنين: قسما لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ ومن آمن معك من بلادنا كلها، أو لترجعن إلى ملتنا وديننا الموروث عن الآباء.
وهذا تهديد منهم بأحد أمرين: إما النفي والطرد من القرية، وإما الإكراه والقهر على الرجوع في ملتهم. وهذا الخطاب مع الرسول شعيب، والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة.
قال شعيب مستفهما استفهاما إنكاريا ومتعجبا: أتفعلون ذلك وتأمروننا بالعود في ملتكم، ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه من أحد الأمرين؟.
إنكم تجهلون ما نحن عليه من ثبات العقيدة في القلب، فلا ينزعها أحد، وتجهلون أن حب الوطن لا يزعزع العقيدة، ولا يجعلنا نؤثر الإقامة في بلادنا على مرضاة الله بتوحيده وعبادته واتباع أوامره.
ثم أعلن رفضه التام العودة إلى ملة الكفر قائلا: إنا إذا رجعنا إلى ملتكم واتبعنا دينكم القائم على الشرك، فقد أعظمنا الفرية على الله في جعل الشركاء معه أندادا، بعد أن نجانا الله من تلك الملة الباطلة، وهدانا إلى ملة التوحيد واتباع الصراط المستقيم.
إن هذا لأمر عجيب. وهذا تنفير من شعيب عن اتباعهم.
وقوله: إِذْ نَجَّانَا أي نجّى أصحابنا منها، من طريق التغليب بإدخال نفسه في زمرتهم، مع أن الأنبياء معصومون من الكفر.
وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها... أي ما ينبغي لنا وليس من شأننا أن نعود في ملتكم أبدا، ولن يحوّلنا أحد عما نحن فيه من الاستقامة، لاعتقادنا الجازم أننا على الحق الأبلج، وأنتم على الملة الباطلة- ملة الكفر والشرك. لكن إيمانا منا بمشيئة الله يجعلنا نفوض الأمر لله، فإن شاء الله الذي يعلم كل شيء، وله
7
الحكمة البالغة في كل شيء، أن يفعل شيئا، فذلك مرجعه إلى الله لأنه المتصرف في أمورنا كلها. وهذا تأكيد لرفض العود إلى ملتهم بأبلغ التأكيد. ولا طمع لكم في مشيئة الله الذي يثبّت عباده المخلصين على الإيمان والقول الثابت في الحياة الدنيا أن يعيدنا إلى الضلال لأن الله متعال عن أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم إلى الكفر، فذلك خارج عن الحكمة.
إن الله تعالى أحاط علمه بكل شيء، فهو واسع العلم، كثير الفضل، يتصرف بحكمة، ومشيئته تكون بحسب الحكمة، ولا يشاء إلا الخير للناس. ومعنى الآية: أنه عالم بكل شيء مما كان ومما يكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول، وقلوبهم كيف تتقلب، وكيف تقسو بعد الرقة، وتمرض بعد الصحة، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان.
وعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أمورنا، مع القيام بما يجب علينا من الحفاظ على شرعه ودينه، وتوكلنا في أن يثبتنا على الإيمان، ويوفقنا لازدياد اليقين: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق ٦٥/ ٣] ومن شروط التوكل الصحيح تنفيذ الأحكام الشرعية ومراعاة السنن المطلوبة في الحياة من اتخاذ الأسباب ثم تفويض الأمر إلى الله تعالى.
سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيعقل ناقته أم يتركها سائبة ويتوكل على الله؟ فأجابه فيما روى الترمذي: «اعقلها وتوكل».
وهذا رفض آخر للمساومة ومحاولة إعادتهم إلى ملتهم بالدليل.
ثم دعا شعيب على قومه لما يئس منهم فقال: ربنا احكم بيننا وبين قومنا بالحق، وانصرنا عليهم، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ مثل قوله: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الأعراف ٧/ ٨٧] أي إنك العادل الذي لا يجور أبدا، تحكم بالحق في النزاع بين المرسلين والكافرين، وبين المحقين والمبطلين.
ثم بعد أن يئس الكفار من عودة المؤمنين برسالة شعيب إلى ملتهم، لجؤوا إلى
8
استخدام التهديد والوعيد، فقال أشرافهم لمن دونهم من المستضعفين المؤمنين، لتثبيطهم عن الإيمان: تالله لئن اتبعتم شعيبا فيما يقول وآمنتم به إنكم لخاسرون خسارة معنوية في فعلكم بترككم ملة الآباء والأجداد العريقين إلى دين جديد يدعوكم إليه، لم تألفوه، ولم تعرفوا مصداقيته، وخاسرون خسارة مادية إذ لم تزيدوا ثروتكم بتطفيف الكيل والميزان وأخذ أموال الآخرين وتخسرون باتباع شعيب فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنهما، ويحملكم على الإيفاء والتسوية.
ويلاحظ أن القرآن وصف الأشراف والسادة أولا بالاستكبار عن الإيمان بالله وبرسالة شعيب عليه السلام، ثم وصفهم بالإغواء والإضلال ومحاولة تكفير المؤمنين بشعيب، ثم وصفهم بالكفر والإرهاب ثم أعقب ذلك ببيان عاقبة أمرهم وتعذيبهم فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ... أي إنهم أبيدوا وأهلكوا بالزلزلة الشديدة، والصيحة المرعبة، كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالطرد والإجلاء، فأصبحوا منكبين على وجوههم ميتين. وقد عبر عن عذابهم هنا بالرجفة، وفي سورة هود بالصيحة كعذاب ثمود لأن الرجفة أي الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود ١١/ ٩٥].
وفي سورة الشعراء بيّن سبحانه أنه أرسل شعيبا إلى أصحاب الأيكة وهم إخوة مدين في النسب، والأيكة: الغيضة بين ساحل البحر ومدين، وكان عذاب مدين بالصيحة والرجفة المصاحبة لها. وعذاب أصحاب الأيكة بالسّموم والحر الشديد بعد أن تجمعوا تحت ظلّة من السحاب يتفيئون بظلها من وهج الشمس، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. فالظلة: هي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم. والخلاصة: لقد اجتمع على قوم شعيب ذلك كله، أصابهم عذاب يوم الظلة، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من
9
أسفل منهم، فزهقت أرواحهم وجمدت أجسامهم «١».
فمن الخاسر إذن؟ الحقيقة أن الذين كذبوا شعيبا هم الخاسرون على سبيل الحصر، وهم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا، كأن لم يقيموا في دارهم، وهو رد على قولهم السابق: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ والمراد من هذا الرد:
المبالغة في الذم والتوبيخ، وأما الإعادة فهي لتعظيم الأمر وتفخيمه وتهويل ما يستحقون من الجزاء على جهلهم، لذا كرر قوله: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً.
الحق أن الكافرين هم الذين خسروا خسرانا عظيما في الدنيا والآخرة، دون المؤمنين لأن الذين اتبعوا شعيبا قد أنجاهم الله، فهم الرابحون. كما قال تعالى:
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ [هود ١١/ ٩٤].
وفي هذا دلالة واضحة على أن العاقبة للمتقين، والربح الحقيقي لمن يأكل الحلال، ويترفع عن الحرام، وأن الدمار والهلاك والإفلاس للكافرين الذين ينغمسون في الحرام، ويأكلون أموال الناس بالباطل.
وأما شعيب فقد أدبر عنهم وتولى عنهم بعد ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال، وقال موبخا لهم ومقرعا: يا قَوْمِ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ أي قد أديت إليكم ما أرسلت به، فلا آسف عليكم، وقد كفرتم بما جئتكم به، كما قال: فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ؟! أي فكيف أحزن على قوم أنكروا وحدانية الله، وكذبوا رسوله، ولقد أعذر من أنذر. قال الكلبي:
خرج من بين أظهرهم، ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم.
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٣٢.
10
فقه الحياة أو الأحكام:
كان من أثر دعوة شعيب خطيب الأنبياء قومه إلى عبادة الله وترك أكل أموال الناس بالباطل، أنهم واجهوه بالتخيير بين أمرين خطيرين: إما الطرد والجلاء، وإما الصيرورة إلى ملتهم، وهذا هو المقصود بقولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ أي لتصيرن إلى ملتنا، فوقع العود بمعنى الابتداء، تقول العرب: قد عاد إليّ من فلان مكروه، يريدون قد صار إلي منه المكروه، ولا يعني ذلك أن شعيبا كان قبل النبوة على ملتهم، فهو معصوم من الكفر، وكذلك كان خطاب شعيب من قبيل التغليب، فإنهم خاطبوه بخطاب أتباعه، وأجروا عليه أحكامهم.
والحزم يقابله الحزم والإصرار، فكان رد شعيب حاسما وقاطعا بأنه لن يفعل ما يريدون، ولن يعود أي يصير إلى ملتهم، فإنه إن فعل ذلك بعد أن تبين له الحق، فقد افترى على الله، وكذلك كان أتباعه صريحين صارمين، وجوابه جوابهم. وهذا نابع من أصل النبوة والرسالة، فإنها تتميز بصدق اللهجة، والبراءة عن الكذب، فالعود في ملتهم يبطل النبوة، ويزيل الرسالة.
وقد نظم شعيب نفسه مع قومه بقوله: إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها أي من الملة، وإن كان بريئا منها، إجراء للكلام على حكم التغليب، كما ذكروا في كلامهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا.
وتمسك الأشاعرة بقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ على أنه تعالى قد يشاء الكفر لأن المعنى: إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى ملتكم، وكانت تلك الملة كفرا. وقال المعتزلة: لا يشاء تعالى إلا الخير والصلاح لأن هذا الاستثناء وهو: إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى ملتكم قضية شرطية، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء، وهذا أيضا مذكور على سبيل التبعيد، كما يقال:
لا أفعل ذلك إلا إذا ابيضّ القار (الزفت) وشاب الغراب.
11
ووجه تعلق قوله تعالى: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً بما قبله: أنه ربما كان في علمه تعالى حصول أمر ثالث غير الإخراج والعود إلى الملة، وهو البقاء في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم، ويجعلكم مقهورين تحت أمرنا، خاضعين تحت حكمنا.
ودل قوله تعالى: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً على أنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء لأن قوله: وسع فعل ماض، فيتناول كل ماض، بل إنه يتناول علم الحاضر والمستقبل وعلم المعدوم لأن التعبير بالماضي يفيد الجزم بحصول العلم بكل الأشياء.
ودل قوله تعالى: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا، رَبَّنَا افْتَحْ... على أن النبي وكل مؤمن ينبغي أن يظل على صلة بالله وتفويض كامل في أموره له، فقوله:
عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا يفيد الحصر، أي عليه توكلنا لا على غيره، وقوله: رَبَّنَا افْتَحْ... يراد به تفويض الحكم إلى الله والدعاء له واللجوء إليه، وقوله:
وأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ يراد به الثناء على الله تعالى.
واستدل الأشاعرة بقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ على أنه تعالى هو الذي يخلق الإيمان في العبد.
ودلت آية لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً على أن قوم شعيب استحقوا عذاب الإهلاك أو الاستئصال بأمرين: الكفر أو الضلال، والإضلال لغيرهم أو الإغواء.
وتعذيبهم كان بالرجفة (وهي الزلزلة الشديدة المهلكة) وبالصيحة (وهي الصوت الشديد المهلك) معا التي تلازم الرجفة ولا تنفك عنها. وذلك العذاب كان مختصا بأولئك المكذبين، ونجّى الله المؤمنين، وذلك يدل على ثلاثة أمور:
أن ذلك العذاب إنما حدث بخلق فاعل مختار، وليس أثر الكواكب والطبيعة، وإلا لعم أتباع شعيب، وذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات، حتى يمكنه
12
التمييز بين المطيع والعاصي، واختصاص العذاب بقوم دون قوم من أعظم المعجزات لشعيب عليه السلام.
سنة الله في التضييق والتوسعة قبل إهلاك الأمم
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥)
البلاغة:
مِنْ نَبِيٍّ فيه حذف وإضمار، والتقدير: من نبي فكذّب أو كذبه أهلها.
مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وبِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
قَرْيَةٍ مدينة جامعة تجمع الزعماء كالعاصمة، وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين يبعث الرسل إليهم، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة لأنها مجتمع الأقوام من نبي أي فكذبوه أَخَذْنا عاقبنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ البأساء: الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر، والضراء: ما يضر الإنسان في نفسه أو معيشته كالمرض، وقيل: في كل بالعكس. لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ يتذللون فيؤمنوا. وقوله لعلهم لا يمكن حمله على الشك في حق الله تعالى، فيحمل على أن المراد أنه تعالى فعل هذا الفعل لكي يتضرعوا. والتضرع: إظهار الضراعة أي الضعف والخضوع.
ثُمَّ بَدَّلْنا أعطيناهم مَكانَ السَّيِّئَةِ العذاب الْحَسَنَةَ الغنى والصحة حَتَّى عَفَوْا كثروا ونموا، من قولهم: عفا النبات والشعر: إذا كثر وَقالُوا كفرا للنعمة قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ كما مسنا، وهذه عادة الدهر، وليست بعقوبة من الله، فكونوا على ما أنتم عليه فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أخذناهم بالعذاب فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت مجيئه قبله.
13
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أحوال الأنبياء مع أقوامهم، وما حلّ بهم من العذاب، بيّن في هذه الآية أن جنس هذا الهلاك أو الاستئصال لم يقتصر على زمن هؤلاء الأنبياء فقط، وإنما قد فعله بغيرهم، وبيّن أيضا سنته الإلهية في الانتقام ممن كذّب الأنبياء، وهي التدرج بهم من التضييق عليهم بالبأساء (شدة الفقر) والضراء (المرض ونحوه) ثم إلى السعة والرخاء والرفاه، ثم يأتي إنزال العذاب فجأة من غير شعور بمجيئه. وفي ذلك تحذير لقريش وأمثالهم وتخويفهم، وحمل لهم على الإيمان برسالة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن سنته المتبعة في تعذيب الأمم والشعوب الضالة، سواء في زمن الأنبياء أو في غير زمنهم، وتلك السنة فيها إنذار وإعذار، ومقدمات توحي بضرورة تغيير الأوضاع، والانتقال من الكفر والضلال إلى الإيمان والهدى.
والمعنى: إننا إذا أرسلنا نبيا إلى قوم، فكذبوه، فلا نعاجلهم بالعذاب، وإنما نتدرج في إمهالهم وتذكيرهم بتقليب الأحوال، فنبدؤهم بالعقاب بإنزال شيء من الشدة والمكروه، بتعريضهم لسوء الحال المادية وإفقارهم، ثم بتسليط الأمراض والبلايا والأسقام عليهم، أو بالعكس، المرض أولا، ثم الفقر، لكي يتضرعوا أي يدعوا الله ويخشعوا ويبتهلوا إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم.
ثُمَّ بَدَّلْنا... : ثم حولنا الحال من شدة إلى رخاء، ومن فقر إلى غنى، ومن مرض إلى صحة وعافية، ليشكروا على ذلك فما فعلوا. فالسيئة: كل ما يسوء صاحبه، والحسنة: ما يستحسنه الطبع والعقل.
14
حَتَّى عَفَوْا أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال: عفا الشيء: إذا كثر، وذلك لأن الرخاء يكون عادة سببا في كثرة النسل.
وَقالُوا: قَدْ مَسَّ... أي ابتليناهم بالشدة والرخاء ليتضرعوا وينيبوا إلى الله، فما أفاد هذا ولا هذا، وقالوا غير معتبرين بالأحداث: قد مسّنا من البأساء والضراء، وما بعده من الرخاء، مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان، ولم يتفهموا سنن الله في تهيئة الأسباب للسعادة والشقاء في البشر. وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء ويصبرون على الضراء،
كما ثبت في الصحيحين: «عجبا لأمر المؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرا له»
فالمؤمن يتنبه لما ابتلاه لله به من الضراء والسراء،
كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد: «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه، والمنافق مثله كمثل الحمار، لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيم أرسلوه».
وتغيير الحال من سوء إلى حسن أمر ضروري للتخلص من البلاء، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد ١٣/ ١١].
أما مصير غير المعتبرين بأحداث الزمان وتقلباته فكما ذكر تعالى:
فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً.. أي فكان عاقبة أمرهم أنا أخذناهم أي عاقبناهم بالعقوبة على بغتة، أي فجأة، من غير شعور منهم بما سينزل بهم من العقاب، ليكون أكثر حسرة، كما في قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام ٦/ ٤٤]
وكما جاء في الحديث الذي رواه أحمد والبيهقي عن عائشة: «موت الفجأة رحمة للمؤمن، وأخذة أسف للكافر».
فما على الناس مؤمنين وكفارا إلا الاتعاظ بما حل بغيرهم، فالمؤمن بالله
15
لا يغتر بالزمان، وتكون الشدائد والمصائب صقلا له، وتمحيصا لنفسه، وتربية لها، والكافر إذا مسه الشر يئس، وإذا مسه الخير بطر واستكبر وبغى في الأرض، فكانت عاقبته الدمار.
فقه الحياة أو الأحكام:
الحلم والإمهال من خصائص صنع الله وسنته الدائمة في خلقه، لكي يتعظوا بالأحداث ويصححوا مسيرتهم في الحياة، ويقلعوا عما هم عليه من معاص وموبقات. والابتلاء يكون بالشر وبالخير: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [الأنبياء ٢١/ ٣٥] والعاقل المفكر المتدبر أحوال الماضي وتقلبات المستقبل هو الذي يستفيد من دروس الحياة: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف ٧/ ١٦٨].
ودل قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ في رأي المعتزلة: على أنه تعالى أراد من كل المكلفين الإيمان والطاعة. وقال أهل السنة: إن الله يدبر أهل القرى بما يكون إلى الإيمان أقرب، لقوله تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ لأن ورود النعمة في البدن والمال بعد البأساء والضراء، يدعو إلى الانقياد والاشتغال بالشكر.
ولكن الناس لا يعتبرون، فبالرغم من أنه تعالى أخذهم بالشدة والرخاء، فلم يزدجروا ولم يشكروا، وهذا يدل على أنهم لم ينتفعوا بما دبرهم الله عليه من رخاء بعد شدة، وأمن بعد خوف، بل رأوا أن هذه عادة الزمان في أهله، فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة.
أما الحق تعالى فقد أزال عذرهم وأمهلهم، لكنهم لم ينقادوا ولم ينتفعوا بذلك الإمهال.
16
الترغيب بالإيمان لزيادة الخير والترهيب من الكفر بالعذاب المبكّر
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٦ الى ١٠٠]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
الإعراب:
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى بفتح الواو، تكون الهمزة للاستفهام، والواو حرف عطف.
وبإسكان الواو: تكون أو التي يراد بها أحد الشيئين، والمعنى: أو كان الأمر من أحد هذين الشيئين من إتيان العذاب ليلا أو ضحى. أَنْ لَوْ نَشاءُ أن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي أنه، والجملة فاعل يَهْدِ. والهمزة في المواضع الأربعة في الآيات للتوبيخ، والفاء والواو الداخلة عليها للعطف.
البلاغة:
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى تكرار الجملة للإنذار، ويسمى هذا في البلاغة إطنابا.
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ هذا تكرير لقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وتكرار الإنكار للتأكيد وزيادة التقرير، ومكر الله: استعارة لاستدراج العبد والتمهيد لعقابه. قال الزمخشري في الكشاف: ٢/ ٥٦٣، مكر الله: استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ولاستدراجه، فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة.
17
المفردات اللغوية:
أَهْلَ الْقُرى الذين أرسل إليهم الرسل فكذبوا آمَنُوا بالله ورسلهم وَاتَّقَوْا الكفر والمعاصي لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ لسهلنا عليهم بركات من السماء بالمطر ونحوه من حرارة الشمس لتوفير الخصب في الأرض وَالْأَرْضِ بالنبات والمعادن ونحوها وَلكِنْ كَذَّبُوا الرسل فَأَخَذْناهُمْ عاقبناهم.
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى المكذبون بَأْسُنا عذابنا بَياتاً ليلا وَهُمْ نائِمُونَ غافلون عنه ضُحًى نهارا، وأصل معنى الضحى: وقت ارتفاع الشمس وإضاءة الدنيا أول النهار يَلْعَبُونَ يلهون أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ استدراجه إياهم بالنعمة وأخذهم بغتة. والمكر: التدبير الخفي الذي يؤدي إلى ما لا يحتسبه الإنسان.
أَوَلَمْ يَهْدِ يتبين، يقال: هداه السبيل، وهداه له وإليه، أي دلّه عليه وبيّنه له يَرِثُونَ الْأَرْضَ بالسكنى مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي بعد هلاك أهلها أَصَبْناهُمْ بالعذاب وَنَطْبَعُ نختم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الموعظة سماع تدبر.
المناسبة:
لما أبان الله تعالى في الآية السابقة أن الذين عصوا وتمردوا من أهل القرى أخذهم الله بغتة، أبان في هذه الآية أنهم لو أطاعوا لفتح الله عليهم أبواب الخير، ثم أنذرهم بالعذاب المبكّر ليلا أو نهارا، إذا كذبوا الرسل، تأكيدا لما سبق.
التفسير والبيان:
هذا إخبار عن سنة أخرى من سنن الله في عباده، وتلك السنة أنه لو آمن أهل القرى كأهل مكة وغيرهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، واتقوا ما نهى الله عنه وحرمه من الشرك والفساد في الأرض بارتكاب الفواحش والآثام، لأنزل عليهم الخيرات الكثيرة من السماء كالمطر، وأخرج لهم خير الأرض من نبات ومعادن وكنوز، وآتاهم من العلوم والمعارف والإلهامات الربّانية لفهم سنن الكون.
18
أي فلو آمنوا ليسّر الله لهم كل خير من كل جانب من فوقهم ومن تحتهم ومن ذواتهم وأفكارهم.
وفي هذا دلالة على أن الإيمان الصحيح سبب للسعادة والرخاء.
ولكنهم كذبوا رسلهم ولم يؤمنوا ولم يتقوا، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم والشرك المفسد نظام الحياة.
وفيه دلالة على أن العقاب نتيجة لازمة لكسب المعاصي.
ثم إنه تعالى أعاد التهديد والتخويف بعذاب الاستئصال، والتحذير من مخالفة أوامره، والتجرؤ على زواجره فقال: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وهو استفهام بمعنى الإنكار عليهم، والمقصود التعجب من حالهم وغفلتهم، والمراد: أبعد ذلك أمن أهل القرى الكافرة كأهل مكة وأمثالهم نزول العذاب والنكال بهم في حال الغفلة وهو النوم ليلا.
أو هل أمنوا أن ينزل بهم العذاب في حال شغلهم وغفلتهم وهو أثناء اللعب واللهو في النهار. ويلاحظ أن انشغالهم في أعمالهم التي لا فائدة منها كأنها ألعاب أطفال.
وذلك في الحالين تخويف من نزول العذاب بهم في أوقات الغفلة: وهو حال النوم بالليل، وحال الضحى بالنهار لأنه يغلب على المرء التشاغل باللذات فيه. والمعنى المراد: فإن أمنتم حالا لم تأمنوا الحال الآخر.
قال الرازي: قوله: وَهُمْ يَلْعَبُونَ يحتمل التشاغل بأمور الدنيا، فهي لعب ولهو، ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه لا يضر ولا ينفع «١».
(١) التفسير الكبير للرازي: ١٤/ ١٨٥.
19
ثم كرر الله تعالى الاستفهام الإنكاري لزيادة التوبيخ، بعد قوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وعطف عليه بالفاء، فقال: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم. ومكر الله: جزاؤه وأخذه العبد من حيث لا يشعر، مع استدراجه. إن كانوا أمنوا مكر الله وعقابه، فلا يأمن مكر الله إلا الذين خسروا أنفسهم، قال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.
ومجموع معنى الآيتين: أكان سبب أمنهم أن يأتيهم العذاب في وقت غفلتهم ليلا أو نهارا، أو كان سبب أمنهم غفلتهم عن مكر الله بهم، أي جزاؤه الذي ينزله بهم؟ إن ظنوا ذلك فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أنفسهم.
وبعد بيان حال الكفار الذين أهلكهم الله بالاستئصال، أبان تعالى أن الهدف من ذكر هذه القصص حصول العبرة لجميع المكلفين في مصالح أديانهم وطاعاتهم، فقال: أَوَلَمْ يَهْدِ....
أي أو لم يتبين للناس، وخصوصا قريشا الذين يخلفون غيرهم في سكنى الأرض ووراثتها مع الديار، بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها: أن شأننا معهم كشأننا مع من سبقهم، فلو نشاء أصبناهم وعذبناهم بذنوبهم وأعمالهم السيئة، كما عذبنا أمثالهم من قبل، وفعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين.
فإن لم نهلكهم بالعذاب نختم على قلوبهم، فهم لا يسمعون الموعظة والتذكير سماع تدبر، ولا يقبلون ولا يتعظون ولا ينزجرون، كما قال تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس ١٠/ ١٠١] وأما المؤمنون فشأنهم الاتعاظ والاعتبار بما حدث لمن قبلهم، كما قال تعالى في آيات كثيرة موضوعها واحد،
20
منها: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [طه ٢٠/ ١٢٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات ترغيبا للمؤمنين وترهيبا للكافرين. أما ترغيب المؤمنين فهو إفاضته الخيرات والبركات الإلهية من السماء بالمطر والرياح المباركة، ومن الأرض بالنبات والثمار، والمعادن والكنوز، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة، وإلهام الإنسان رشده وفكره إلى اكتشاف وسائل الراحة والرخاء.
وأما ترهيب الكافرين فهو إنذارهم بتعذيبهم عذاب استئصال ودمار، كعذاب الأمم الأخرى وأهل القرى والمدن الذين أرسل إليهم الرسل، فكذبوهم وآذوهم.
وحذرهم تعالى بألا يغتروا بحلم الله وإمهاله وتأجيله العقاب، فربما يأتي العقاب في حال الغفلة ليلا أو نهارا، ومن اغتر بحلم الله وأمن مكره، أي جزاءه، فلا يأمن الجزاء إلا الخاسرون.
أولم يتبين لهم أن سنة الله واحدة في تعذيب الكافرين؟ وسنة الله لا تتغير، إنه يعذب العصاة والمتمردين بسبب ذنوبهم وسيئاتهم، كما عذب الذين من قبلهم الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، وإن لم نهلكهم بالعقاب نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الموعظة سماع فهم وتدبر.
واستدل أهل السنة بقوله تعالى: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ على أنه تعالى قد يمنع العبد عن الإيمان، أي بعد أن علم عدم إيمان ذلك العبد. وقال الجبائي المعتزلي: المراد من هذا الطبع أنه تعالى يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن أصحابها لا يؤمنون، وتلك العلامة غير مانعة من الإيمان.
21
العبرة من قصص أهل القرى
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)
الإعراب:
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ تلك: مبتدأ، القرى: صفة، ونَقُصُّ عَلَيْكَ خبر المبتدأ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا معنى اللام تأكيد النفي، وأن الإيمان كان منافيا لحالهم في التصميم على الكفر.
بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ الباء سببية وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ الضمير للناس على الإطلاق، أي ما وجدنا لأكثر الناس من عهد.
وَإِنْ وَجَدْنا إن مخففة من الثقيلة. قال الزمخشري: وإن الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة مارقين. والآية اعتراض.
المفردات اللغوية:
تِلْكَ الْقُرى هي قرى الأقوام الخمسة التي وصفت سابقا، وهم قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها نذكر لك شيئا من أخبارها كيف أهلكت.
والخطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام. وقوله: مِنْ أَنْبائِها أي بعض أخبار أهلها بِالْبَيِّناتِ المعجزات الظاهرات. فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيئهم بِما كَذَّبُوا كفروا به مِنْ قَبْلُ قبل مجيئهم، بل استمروا على الكفر كَذلِكَ يَطْبَعُ أي مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية، يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم ألا يؤمنوا.
لِأَكْثَرِهِمْ أكثر الناس مِنْ عَهْدٍ أي وفاء بعهدهم يوم أخذ الميثاق، أي أن أكثرهم نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى.
22
والعهد: قد يكون بين طرفين كالمعاهدة، أو من طرف واحد بأن يعهد لآخر بشيء، أو يلزم به. والميثاق: العهد المؤكد.
لَفاسِقِينَ لخارجين عن الطاعة وعن كل عهد، إما فطري أو شرعي، بنقضه ونكثه والغدر بأحكامه. وَما وَجَدْنا أي ألفينا وَإِنْ وَجَدْنا علمنا.
المناسبة:
بعد أن قص الله تعالى على نبيه أخبار قرى الأقوام الخمسة (قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب) وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين، وإعذاره إليهم ببيان الحق بالأدلة على ألسنة رسلهم، أراد الله تسلية نبيه، وتثبيته على الصبر على دعوته، وتذكيره بالعبرة من قصص الماضين، وأن ما يلاقيه من قومه ليس جديدا، وإنما هو طريق قديم سلكه كثير من أقوام الأنبياء.
التفسير والبيان:
تلك القرى: قرى الأقوام الخمسة الذين وصفوا بما سبق نقص عليك يا محمد بعض أخبارها كيف أهلكت، مما فيه العبرة والعظة لقومك، والتسلية لك والتثبيت على دعوتك. وإنما خص الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم، فتوهموا أنهم على الحق، وذكرها الله تنبيها لقريش وأمثالهم عن الاحتراز من مثل تلك الأعمال.
ثم إن هذه القرى كانت في بلاد العرب، وكان أهل مكة يتناقلون بعض أخبارها، وهي جميعا متشابهة في تكذيب الرسل، وعذاب الاستئصال، فكانت العبرة منها واحدة، لذا فصلت عن قصة موسى الآتية لأن قومه آمنوا به، وإنما كذب به فرعون وجماعته فعذّبوا.
وسبب عقاب تلك الأقوام هو تكذيب الرسل، فبالرغم من أنهم أقاموا لهم الحجج على صدقهم فيما أخبروهم به، ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب
23
تكذيبهم بالحق من قبل مجيء الرسل وأول ما ورد عليهم، أي في بدء الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله، ومن قبل مجيء المعجزات، فظلوا على حالهم، ولم تؤثر فيهم الآيات الدالة على صدق الرسل، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل، أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم، إلى أن ماتوا مصرّين على كفرهم وعنادهم، مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات.
ومثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية، يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم ألا يؤمنوا أبدا. وبإيجاز: مثل ذلك الطبع الشديد نطبع على قلوب الكافرين.
وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيت له على دعوته، وإخباره بأن هذا العناد والتمرد من أهل مكة قد سبقهم إليه أمثالهم من الأمم الغابرة، فلا تأس ولا تحزن على كفرهم.
وما وجدنا لأكثر الأمم الماضية عهدا وفوا به، سواء عهد فطرة الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم، أو عهد شرع بالإيمان وأداء التكاليف، أو عهد عرف متعارف عليه بأداء الالتزامات واحترام العقود التي يبرمونها فيما بينهم. ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. وفي التعبير بالأكثر إشارة إلى أن بعضهم قد آمن، ونفذ كل عهد مع الله أو مع الناس. وهذا من دقة القرآن ومصداقيته.
ومخالفة عهد الفطرة السليمة القائم على الإقرار بتوحيد الله وأنه لا إله إلا هو، وعبادة غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع، كان كلاهما بتأثير البيئة،
جاء في صحيح مسلم: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم»
وفي
24
الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» الحديث.
وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن مخالفة الفطرة السليمة وعن الشرك، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
الكفر عناد وتصميم بالرغم من معرفة الحق والاقتناع بالبرهان. ولقد كان إيراد قصص القرى التي أهلكها الله، وهي قرى نوح وعاد ولوط وهود وشعيب للعبرة والاتعاظ، وما كان أهل تلك القرى ليؤمنوا الآن حقيقة بسبب تكذيبهم السابق قبل مجيء الرسل، وظلوا إلى آخر أعمارهم مستمرين على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم، إلى أن ماتوا مصرّين على كفرهم وعنادهم.
والختم والطبع على قلوب الكفار القدامى والمعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن يأتي بعدهم إنما هو بسبب كفرهم وإصرارهم على موقفهم.
وهناك حقيقة أخبرت عنها الآية وهي أن أكثر الناس لا أمانة لهم ولا وفاء لديهم لعهد الله وميثاقه، وعهود الناس ووعودهم، وأن أكثرهم في الواقع فاسقون مارقون خارجون عن حدود الطاعة المطلوبة منهم نحو ربهم.
25
قصة موسى عليه السلام مع فرعون والملأ من قومه
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٣ الى ١١٦]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)
الإعراب:
حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ أن في موضع جر بعلى بمعنى الباء، وتقديره: حقيق بأن لا أقول. وقرئ بتشديد الياء في: على، فيكون: ألا أقول: في موضع رفع بالابتداء، وما قبله
26
خبره وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ معطوف على محذوف، سد مسده حرف الإيجاب: نعم، كأنه قال:
نعم إن لكم لأجرا، وإنكم لمن المقربين.
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ: إذا للمفاجاة: مبتدأ، وثعبان: خبره.
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ: أن فيهما: في موضع نصب بفعل مقدر، على تقدير: إما أن تفعل الإلقاء، وإما أن نفعل الإلقاء.
البلاغة:
وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ فيه تأكيد الجملة بمؤكدين: إن واللام، لإزالة الشك من نفوس السحرة، ويسمى هذا الخبر إنكاريا.
المفردات اللغوية:
مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد الرسل المذكورين مُوسى هو كليم الله موسى بن عمران أعظم أنبياء بني إسرائيل فِرْعَوْنَ لقب كل ملك لمصر في العهد القديم، وقيل: كان اسمه منپتاح بن رمسيس، سنة ١٢٢٥ ق. م من الأسرة ١٩، مثل لقب كسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم بِآياتِنا الآيات هنا: المعجزات الدالة على صدق النبي مثل العصا واليد. وَمَلَائِهِ أشراف قومه، والمراد هنا قومه فَظَلَمُوا بِها كفروا وجحدوا بها عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ بالكفر وتلك العاقبة هي إهلاكهم حَقِيقٌ جدير أو خليق به عَلى أَنْ لا أَقُولَ أي بأن لا أقول ثُعْبانٌ مُبِينٌ حية عظيمة.
وَنَزَعَ يَدَهُ أخرجها من جيبه بَيْضاءُ ذات شعاع لِلنَّاظِرِينَ خلاف ما كانت عليه من الجلد الهامد لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر. وفي سورة الشعراء: كان هذا من قول فرعون نفسه، فكأنهم قالوه معه على سبيل التشاور. تَأْمُرُونَ تشيرون علي أَرْجِهْ وَأَخاهُ أخر أمرهما ولا تفصل في شأنهما الآن الْمَدائِنِ أي مدن المملكة حاشِرِينَ جامعين السحرة منها. ساحِرٍ عَلِيمٍ أي ماهر بفنون السحر، يفضل موسى في علم السحر، فجمعوا. تُلْقِيَ عصاك نَحْنُ الْمُلْقِينَ ما معنا.
قالَ: أَلْقُوا أمر بالإذن بتقديم إلقائهم توصلا به إلى إظهار الحق فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ صرفوها عن حقيقة إدراكها وَاسْتَرْهَبُوهُمْ خوفوهم حيث تخيلوها حيات تسعى.
27
المناسبة
هذه هي القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وفيها من الإيضاح والبيان ما لم يذكر في غيرها من القصص لأن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات الأنبياء السابقين، وجهل قوم فرعون الذين أرسل إليهم كان أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام، كما أن موسى أرسل أيضا لغير قومه، أما الأنبياء السابقون فإنهم أرسلوا لأقوامهم.
أضواء من التاريخ:
ذكر اسم موسى في القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة، وله قصص كثيرة مثيرة وعجيبة منذ بداية ولادته حينما كان جماعة فرعون يقتلون أولاد بني إسرائيل ويبقون نساءهم أحياء، فألقته أمه في النيل في صندوق، ثم رده الله إليها لإرضاعه، فهذه قصته مع أمه وأخته في سورتي القصص وطه، ثم قصة خروجه من مصر إلى أرض مدين وهو شاب، بسبب قتله مصريا إغاثة لعبراني، وقصته مذكورة في سورة القصص (١٥- ٢١) وفي سورة طه (الآية ٤٠) ثم سقايته الماشية لابنتي شعيب (القصص ٢٢- ٢٥) ثم مصاهرته لشعيب عليه السلام (القصص ٢٦- ٣٨، وطه ٤١) ثم رعيه ماشية شعيب مهرا لابنته عشر سنين بالوادي المقدس: طوى.
ثم بعثته عليه السلام بينما ذهب لإتيان أهله بنار للاستدفاء وذلك في سورة الإسراء (٢- ٣) وسورة طه (٩- ٦ و١٧- ٣٦، و٤٢- ٤٧) وسورة القصص (٤٥- ٤٦ و٢٩- ٣٥) وسورة الفرقان (٣٥- ٣٦) وسورة الشعراء (١٢- ١٦) وسورة النمل (٧- ١٢) وسورة السجدة (٢٣- ٢٥) وسورة النازعات (١٥- ١٩).
ثم عودته إلى مصر مع أخيه هارون ودعوته فرعون إلى الإيمان برسالته،
28
وذلك في سورة الأعراف (١٠٤- ١٠٥) وسورة الشعراء (١٧، ٢٢).
ثم محاورته فرعون في ربوبية الله وإظهاره الآيات البينات الدالة على صدق نبوته في سورة طه (٥٥) وسورة الشعراء (٢٤- ٢٨) وموقف فرعون الطاغية بتجاهل ألوهية الله وادعائه الألوهية، وأمره ببناء صرح يصعد به إلى السماء في سورة القصص (٣٨) وسورة غافر (٣٦- ٣٧) التي قال الله فيها: وَقالَ فِرْعَوْنُ: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً....
وإظهاره معجزتي العصا واليد أمام فرعون في سورة الأعراف (١٠٦- ١٢٦) وسورة يونس (٧٥- ٨٩) وسورة طه (٥٧- ٧٦) وسورة الشعراء (٢٩- ٥٢).
ووصف الله رد فعل فرعون وقومه وتماديهم في الضلال وإصرارهم على الكفر في سورة الأعراف (١٠٧- ١٢٩) وغافر (٢٣- ٢٧) وائتمار آل فرعون بموسى لقتله ودفاع مؤمن عنه في سورة غافر (٢٨- ٣٥، و٣٨- ٤٦) واستخفاف فرعون بموسى في سورة الزخرف (٥١- ٥٤) والنازعات (٢٢- ٢٦).
وكانت آيات العذاب التسع لفرعون وقومه لما كذبوا موسى هي العقاب الفاصل، وتلك الآيات: الجدب (السنون)، ونقص الأموال، ونقص الأنفس، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
أما العصا واليد وفلق البحر وانبجاس الماء لبني إسرائيل فكانت معجزات لموسى عليه السلام.
أما الآيات التسع فهي مذكورة في سورة الأعراف (١٣٠- ١٣٥) وسورة الإسراء (١٠١- ١٠٢) وسورة طه (٥٩) وسورة النمل (١٣- ١٤) وسورة القصص (٣٦- ٣٧) وسورة الزخرف (٤٦- ٥٠) وسورة القمر (٤١- ٤٢) وسورة النازعات (٢٠- ٢١).
29
وإغراق فرعون وملئه في البحر الأحمر مذكور في سورة الأعراف (١٣٦- ١٣٧) وسورة يونس (٩٠- ٩٢) وسورة الإسراء (١٠٣- ١٠٤) وسورة طه (٧٧- ٧٩) وسورة الشعراء (٥٢- ٦٨) وسورة القصص (٣٩- ٤٠) وسورة الزخرف (٥٥- ٥٦) وسورة الدخان (١٧- ٣١) وسورة الذاريات (٣٨- ٤٠).
وأما عقاب فرعون وقومه في الآخرة ففيه عبرة لكل من ادعى الألوهية وتغطرس واستكبر عن قبول دعوة الأنبياء، وهو مذكور في سورة هود (٩٦- ٩٩) وسورة القصص (٤١- ٤٢) وسورة غافر (٤٥- ٥٢) وسورة الدخان (٤٣- ٥٠).
وقد قلّد بنو إسرائيل في عهد موسى وثنية المصريين، ولم يؤمن بموسى إلا ذرية من قومه على حال رهبة من فرعون أن يفتنهم عن دينهم ويردهم إلى الوثنية، كما قال تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وطلبوا من موسى حينما رأوا عباد الأصنام أن يتخذ لهم إلها كما لهؤلاء القوم آلهة، وكذلك طلبوا الاستبدال بالمن والسلوى الحبوب والبصل والثوم والبقول، وذلك مذكور في سورة البقرة: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ (٦١) وفي سورة الأعراف: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (١٣٨- ١٤٠) وضرب الحجر وانفجار العيون الاثنتي عشرة في سورة الأعراف (١٥٩- ١٦٠) وإنزال المن والسلوى في سورة طه (٨٠- ٨٢).
ثم ذهب موسى تاركا بني إسرائيل لميقات ربه، وكتب له الألواح المتضمنة الوصايا التي طلب إلى بني إسرائيل العمل بها، وذلك مذكور في سورة الأعراف:
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً... (١٤٢- ١٤٧).
وفي أثناء غيبة موسى في جبل الطور اتخذ السامري عجلا إلها لبني إسرائيل
30
يعبدونه، صنعه من ذهب بعد أن جمعه من حلي النساء، وجعله بفعل تأثير الرياح والرمال أو أثر قدم فرس جبريل ذا خوار أي كصوت الثور، وقال لهم: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى. ولم يفلح هارون في ردهم عن عبادة العجل: قالُوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه ٢٠/ ٩١]. وبعد عودة موسى غضب على أخيه هارون وأخذ بلحيته ورأسه يجره إليه، وكان فيه حدة، فاعتذر إليه هارون بأنه بذل أقصى جهده. ثم عاتب موسى النبي، موسى السامري فقال السامري: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طه ٢٠/ ٩٦] فعاقبه موسى بالطرد والتشرد وأن يقول في حياته: لا مِساسَ.
وقصة عبادة العجل مذكورة في سورة البقرة (٥٤، و٩٢- ٩٣) وسورة الأعراف (١٤٨- ١٥٤) وسورة طه (٨٤- ٩٨).
ثم أمر الله على لسان موسى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة وهي فلسطين أرض الموعد، فتمردوا، فحرمت عليهم، وتاهوا في الأرض أربعين سنة يعيشون في البرية، من عهد خروجهم من مصر، إلى أن مات موسى، وعبروا نهر الأردن، وملكوا أريحاء وما حولها غرب الأردن أربعين سنة. وتلك القصة مذكورة في سورة المائدة (٢٠- ٢٦).
وفي صحراء التيه ذكر الله تعالى في سورتي البقرة والأعراف أنه رفع جبل الطور فوق بني إسرائيل حتى صار كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع عليهم أو أيقنوا ذلك، وأمرهم أن يأخذوا ما آتاهم من الأحكام بقوة بأن يفعلوها دون تذمر أو توقف. وقصة نتق الجبل مذكورة في سورة البقرة (٦٣- ٦٤) وسورة الأعراف (١٧١).
وبالرغم من أعجوبة قصة البقرة (البقرة ٦٧- ٧٤) التي ذكرناها في الجزء الأول، فإن بني إسرائيل لم يتعظوا بها، وبقيت قلوبهم على قساوتها كأنها الحجارة أو أشد قسوة، ولم تفلح مواعظ موسى فيهم.
31
ولموسى عليه السلام موقف متشدد مع قارون الثري الطاغية، وقد ذكرت قصته في سورة القصص (٧٦- ٨٣) كما ذكر ما آل إليه أمر طغيانه بخسف الأرض به وبداره، وإبادة أعداء موسى المقدر عددهم مائتين وخمسين.
ويلاحظ أن موسى أوذي من بني إسرائيل وأظهر الله براءته من عيب اتهموه به وهو الأدرة (ورم في الخصية) أو البرص، وذلك في سورة الأحزاب (٦٩) وسورة الصف (٥).
ولما رأى بنو إسرائيل اقترافهم الإثم الكبير بعبادة العجل، اختار موسى من القوم سبعين رجلا يذهبون معه إلى الجبل الذي اعتاد مناجاة الله فيه وهو جبل الطور، ليقدموا الطاعة لله ويندموا على ما اقترفوا من إثم، ويتوبوا من عبادة العجل، فلما كلم الله تعالى موسى وهم شهود يسمعون كلام الله، عاد جماعة منهم إلى التمرد والعصيان، ولم يؤمنوا أن الله تعالى هو الذي يكلم موسى وأنه أعطاه التوراة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظر بعضهم إلى بعض، ثم بعثهم الله من بعد موتهم، بعد تضرع موسى وتذلله، وطلبه العفو عما صدر من سفهائهم، والقصة مذكورة في سورتي البقرة (٥٥- ٥٦) والأعراف (١٥٥- ١٥٧).
ولموسى قصة طريفة مع العبد الصالح الخضر، مذكورة في سورة الكهف (٦٠- ٨٢).
وتكرر في القرآن تذكير الله تعالى بني إسرائيل بنعمه عليهم مثل آيات سورة البقرة (٤٧- ٥٧، و٦٠- ٦١) وفي سورة الأعراف (١٤١) وسورة إبراهيم (٦- ٨).
وقد مات هارون أولا في جبل «هور» ودفنه موسى، ثم مات موسى في جبل «نبو» ودفن على الكثيب الأحمر.
32
وبعد وفاة موسى قام بأمر بني إسرائيل يوشع بن نون من سبط يوسف، بعد خروجهم من التيه، أمرهم الله أن يدخلوا مدينة بفلسطين هي بيت المقدس أورشليم» أو أريحا، وذلك بأن يدخلوا باب المدينة سجّدا، أي خاشعين متذللين، وأن يقولوا: حطة فخالفوا ودخلوا على هيئة غير التي أمروا بها، فغضب الله عليهم وأنزل عليهم العذاب، والقصة مذكورة في سورة البقرة (٥٨- ٥٩) وسورة الأعراف (١٦١- ١٦٢).
وأثنى الله على موسى وهارون في سورة مريم (٥١- ٥٣) وسورة الصافات (١١٤- ١٢٢) وسورة غافر (٥٣- ٥٤).
ما يستفاد من قصة موسى عليه السلام:
شريعة موسى في أصلها الموحى به كشريعة الإسلام في الجملة، وأمته ذات تاريخ مليء بالاضطرابات والقلاقل والأحداث العنيفة، وكانت ذات سلطة أحيانا، وساهمت بشيء من المدنيّة. وكان لقصة موسى مع بني إسرائيل عبر وعظات هي:
١- أنقذ الله موسى من القتل وهو طفل رضيع، وألقته أمه في النيل، ثم ردّه الله إليها لإرضاعه، وتلك عصمة الله ورعايته له ورحمته بأمه.
٢- تربّى موسى في قصور فرعون وكان مؤمنا ونبيا من أولي العزم، وموسى السامري الذي ربّاه جبريل كافر شقي ابتدع عبادة العجل.
٣- هجرة موسى أو خروجه من أرض مصر بنصيحة رجل من أقصى المدينة بالابتعاد عن مصر، كانت خيرا كلها، فإنه صاهر شعيبا عليه السلام، وأوحى الله إليه بالنبوة، وكانت نصيحة الرجل له من تيسير الله له وفضله عليه لأنها كانت سببا في نجاته وبعثته. وهكذا فإن من توكل على الله صانه وحماه.
33
٤- لا أثر لقوة البشر وتآمرهم على الإنسان إذا لازمته العناية الإلهية، فإن بأس فرعون وملأه لم يلحق ضررا بموسى. وانظر إلى هذه المحاورة الحادة، إذ قال له فرعون: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً [الإسراء ١٧/ ١٠١] فأجابه موسى بعد تلطف كثير وصبر على الجدال بالباطل: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء ١٧/ ١٠٢].
٥- الفرج الإلهي يأتي بعد الشدة، ونصرة الحق تأتي عند اشتداد الأزمة، فقد دافع رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه عن موسى، وحذر فرعون وآله بطش الله، غير خائف ولا مبال به وبسلطته، ضاربا الأمثال بالأمم الخالية، كما جاء في قوله تعالى في سورة غافر: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ...
[٢٨- ٣٥].
٦- إذا فاضت مشاعر الإيمان في النفس، هانت أمامها كل الصعاب، فإن السحرة آمنوا برب موسى، غير مبالين بفرعون وسطوته.
٧- الصبر مفتاح الفرج وحميد العاقبة، فإن بني إسرائيل صبروا على أذى فرعون بتقتيل الأبناء واستحياء النساء ثم أعقبهم الله الحسنى بما صبروا: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الأعراف ٧/ ١٣٧].
وتعرضوا لهجوم الرومان بقيادة «طيطس» الروماني، فخربوا بيتهم المقدس وهيكلهم الضخم، بعد سنة ٧١ م فتركوا فلسطين ثم عادوا إليها بعد وفاة موسى وأسسوا مملكة أريحا، واحتلوا جهات من الحجاز، كتيماء ووادي القرى وفدك وخيبر ويثرب، وبنوا فيها المصانع والحصون، انتظارا لظهور النبي الذي
34
وعدوا به من العرب الإسماعيليين في يثرب، وأملا في مؤازرتهم ومناصرتهم، فأقاموا على الطريق بين يثرب وفلسطين.
٨- حلم موسى على قومه بني إسرائيل، فبالرغم من غضب الله عليهم بسبب عبادة العجل، وطلب شيوخهم الذين جاؤوا للتوبة رؤية الله تعالى جهلا وتعنتا، فإن موسى تضرع إلى ربه طالبا العفو عن زلات سفهائهم، وقال:
رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ، أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ، تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ، وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ، أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ [الأعراف ٧/ ١٥٥].
التفسير والبيان:
يذكر الله تعالى أنه بعث بعد الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، موسى، بالآيات أي الحجج والدلائل البينة والمعجزات الدالة على صدقه ورسالته، إلى فرعون: وهو ملك مصر في زمن موسى، وملئه أي قومه، فجحدوا وكفروا بها، ظلما منهم وعنادا، فانظر أيها الرسول (أي محمد) كيف كان مصير المفسدين في الأرض بالظلم واستعباد البشر، وهم فرعون وملؤه الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله، أي انظر يا محمد كيف فعلنا بهم، وأغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه، وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه، وأشفى لقلوب أولياء الله: موسى وقومه المؤمنين به.
ونظير الآية قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها، وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ، ظُلْماً وَعُلُوًّا، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل ٢٧/ ١٤].
وقال: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ولم يقل: وقومه لأن الذين استعبدهم فرعون وعاضدوه هم أتباع الحكم والسلطان، وليس سائر الشعب المصري، وإنما كان الشعب تبعا للحكام، فلو آمن فرعون لتبعه الشعب كله.
35
وقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ فيه تشويق واجتذاب الأنظار إلى ما سيذكره تعالى من المصير المشؤوم لفرعون وملئه، ونجاة موسى وبني إسرائيل.
ثم بدأ الله تعالى بعد هذا التشويق ببيان فصول القصة، وأول فصل منها:
إخباره تعالى عن مناظرة موسى لفرعون وتغلبه عليه بالحجة والمنطق، وإظهاره الآيات البيّنات في مجلس فرعون وقومه قبط مصر.
وقال موسى: يا فرعون أي يا ملك مصر، إني رسول من رب العالمين، أي مالك كل شيء وخالقه ومدبره، وجدير بي «١» ألا أقول على الله إلا الحق، فإن الرسول لا يكذب على الله الذي بيده ملكوت كل شيء، لذا فإني لا أخبر عن الله إلا بما هو حق وصدق لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه.
وهاتان الجملتان تتضمنان عقيدة التوحيد: وهي أن للعوالم كلها إنسها وجنّها ربا واحد، وعقيدة النوبة والرسالة المؤيدة منه تعالى بالعصمة في التبليغ.
ومن المؤيدات قوله: قد جئتكم ببرهان وحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلا وشاهدا على صدقي فيما أخبرتكم عنه.
وقوله: مِنْ رَبِّكُمْ إشارة إلى أن جميع الناس مربوبون لله ومخلوقون به، وأن فرعون ليس ربا ولا إلها، وإلى أن البينة ليست من صنع موسى.
ثم رتب على إثباته نبوته بالبينة الواضحة طلب موسى من فرعون إطلاق سراح بني إسرائيل من أسره واستعباده وقهره، وتركهم حتى يذهبوا معه راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم، ليتفرغوا إلى عبادة ربهم وربه فإنهم من سلالة
(١) الباء وعلى يتعاقبان، فعلى في قوله تعالى: «حَقِيقٌ عَلى» بمعنى الباء، يقال: رميت بالقوس وعلى القوس، وجاء على حال حسنة وبحال حسنة.
36
نبي كريم: إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن.
وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرضت الأسباط، تغلب فرعون على نسل بني إسرائيل واستعبدهم، فأنقذهم الله بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر، واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام.
قال فرعون مجيبا موسى: إن كنت مؤيدا بآية من عند ربك، فأظهرها لنراها، إن كنت صادقا فيما ادعيت.
فأجابه موسى على الفور إلى ما طلبه بالفعل لا بالقول: فألقى عصاه من يمينه على الأرض أمام فرعون فإذا هي ثعبان (ذكر الحيات) مبين، أي ظاهر واضح حقيقي يتحرك ويسير من مكان إلى مكان.
وأخرج يده من جيب قميصه بعد ما أدخلها فيه، فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير برص ولا مرض، كالشمس المضيئة، كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل ٢٧/ ١٢].
وهذا هو الفصل الثاني من القصة.
ولا داعي للاسترسال في أوصاف الثعبان والعصا واليد، بأكثر مما دلت عليه الآيات القرآنية إذ ليس لها سند يوثق به، وإنما هي من الروايات الإسرائيلية التي دسها بعض الدخلاء غير المتورعين ولا المدققين، مثل كعب الأحبار الإسرائيلي، ووهب بن منبّه الفارسي الأصل.
ومن المعلوم أن إثارة الفتن السياسية في صدر الإسلام يعود أمرها إلى جماعة السابئيين (أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي) وجماعات الفرس الذين دخلوا في الإسلام لهدمه من الداخل، وقد قتل عمر على يد أبي لؤلؤة الفارسي المرسل من جماعة سرية في فارس، وقتل عثمان بدسائس عبد الله بن سبأ.
37
ثم جاء الفصل الثالث من القصة ومضمونه مقالة ملأ فرعون: قال السادة من قوم فرعون الموافقون له وأهل مشورته: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي خبير بفنون السحر وأنواعه، وله خطره إذ قد يستميل الناس بسحره، فيكون ذلك سببا لغلبته علينا، ونزع ملكنا، وإخراجنا من أرضنا بسحره، وذلك كله مصرح به في آية أخرى خاطبوا بها موسى وأخاه هارون: قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا، وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ [يونس ١٠/ ٧٨] وهو في الواقع صدى لما قاله فرعون وحكاه الله عنه بقوله: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، فَماذا تَأْمُرُونَ [الشعراء ٢٦/ ٣٤- ٣٥].
ثم وقع ما خافوا منه، كما قال تعالى: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص ٢٨/ ٦].
وتابع الملأ كلامهم وإبداء رأيهم: قال الملأ لفرعون بعد أن استشارهم بقوله السابق: فَماذا تَأْمُرُونَ؟: أخّر الفصل في أمره وأمر أخيه، وأرسل في الأقاليم ومدائن ملكك فئة من جندك حاشرين، أي جامعين لك السحرة من سائر البلاد. وإنما قال: في المدائن لأن السحر ينشط في المدن الجامعة المأهولة بكثرة الناس.
وكان السحر في زمانهم غالبا كثيرا، فتوهموا أن ما جاء به موسى عليه السلام من قبيل شعوذة الساحرين، فجمعوا له السحرة، ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات، كما أخبر تعالى فرعون حيث قال: قالَ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ، مَكاناً سُوىً. قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى، فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه ٢٠/ ٥٧- ٦٠].
38
يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أي إن ترسلهم يأتوك بكل ساحر ماهر بفنون السحر. وواضح أن الهدف الإتيان بالمهرة لتحقيق الغلبة والتفوق. قال الزمخشري: وكانت هذه مؤامرة مع القبط.
ثم جاء الفصل الرابع وهو دور السحرة.
وجاء السحرة من كل مكان، وقالوا لفرعون: هل لنا أجر لقاء الغلبة على موسى؟ فقال فرعون: نعم لكم أجر عظيم، وتصبحون من المقرّبين إلى في المركز والمجلس، وهذا إغراء في الجمع بين المركز المالي والأدبي.
قال السحرة لموسى في اليوم المخصص: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ بسحرك أولا، وإما أن نلقي ما عندنا؟ وفي هذا التخيير اعتزاز شديد بأنفسهم، وثقة بخبرتهم، وعدم مبالاة بعمله.
فأجاب موسى جواب الذكي الخبير لأن المتأخر في العمل يكون أدرى بما تقتضيه الحال، وهو واثق أيضا بشأنه وغلبته عليهم: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، وهذا إذن بتقديم الفعل، لا أمر يقرهم به على فعل السحر، وهو بقوله المذكور يريد أن يري الناس صنيعهم ويتأملوه، ويستفرغ ما عندهم من طاقات، فإذا فرغوا من زيفهم وشعوذتهم، جاءهم الحق الواضح، فيكون أوقع في النفوس. لذا قال تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا، سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف ٧/ ١١٦] أي خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه، له حقيقة واقعية، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، كما قال تعالى: قالَ: بَلْ أَلْقُوا، فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. قُلْنا: لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه ٢٠/ ٦٦- ٦٩].
وتتجلى ثقة موسى بنفسه وبأن ما لديه معجزة إلهية ليست من جنس
39
السحر، في قوله تعالى: قالَ مُوسى: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ، إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس ١٠/ ٨١- ٨٢].
ومعنى قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ... أي لما ألقوا حبالهم وأخشابهم، سحروا أعين المتفرجين، ومنهم موسى الذي خيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وجاؤوا بسحر عظيم المظهر، كبير التأثير في أعين الناس.
روي أنهم لوّنوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة، قيل: جعلوا فيها الزئبق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آيات قصة موسى على ما يأتي:
١- آية ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا دلت على أن النبي لا بد له من آية ومعجزة يمتاز بها عن غيره إذ لو لم يكن مختصا بهذه الآية لم يكن قبول قوله أولى من قبول قول غيره.
ودلت أيضا على أنه تعالى آتاه آيات كثيرة ومعجزات كثيرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول آياته: العصا ثم اليد.
ودلت كذلك على أن فرعون وجماعته ظلموا بالآيات التي جاءتهم، فاستحقوا العقاب الشامل وهو الإغراق في البحر لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وإنهم وضعوا الإنكار في موضع الإقرار. والكفر في موضع الإيمان، فكان ذلك ظلما منهم لتلك الآيات.
٢- دل قوله: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ على وجود الإله لأن العالم
40
محتاج إلى إله يوجده ويخلقه، ومتصف بصفات كالضعف والتغير ونحوها تجعله مفتقرا إلى ربّ يربّيه.
٣- وقوله: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يشير إلى أن الرسول لا يقول إلا الحق.
٤- إن طلب موسى عليه السلام إرسال شعب بني إسرائيل معه الذي رتبه على كونه رسولا طلب ليس من السهل على حاكم تلبيته، لاحتمال تكوين خصوم ضده، من طريق تبليغهم الحكم الإلهي، وإعدادهم لمجابهة فرعون.
٥- قوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ هو المعجزة الظاهرة القاهرة، وقد طلب فرعون من موسى إظهار تلك المعجزة: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها.. دليلا على صدقه فيما يدعيه من الرسالة المرسل بها من الله. وكانت المعجزة قلب العصا ثعبانا، وإظهار اليد البيضاء.
٦- اختار الطاغية الكافر: فرعون وجماعته تكذيب هذه المعجزة الخارقة، وادعى كون موسى ساحرا، فتشاور مع كبار رجال دولته، فأشاروا بالمبارزة بين سحرة صعيد مصر المهرة وبين موسى.
وتم جمع السحرة من أنحاء المملكة، قيل: كانوا سبعين رجلا أو ثلاثة وسبعين. ودل قوله: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان.
٧- دل قوله: فَأَلْقى عَصاهُ... وقوله: وَنَزَعَ يَدَهُ على أنه تعالى يجعل معجزة كل نبي من جنس ما كان غالبا على أهل ذلك الزمان، فلما كان السحر غالبا على أهل زمان موسى عليه السلام، كانت معجزته شبيهة بالسحر، وإن كان مخالفا للسحر في الحقيقة. ولما كان الطب غالبا على أهل زمان عيسى
41
عليه السلام كانت معجزته من جنس الطب، ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد عليه الصلاة والسلام كانت معجزته القرآن أبلغ الكلام من جنس الفصاحة.
٨- دل قوله: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا... على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبدا ذليلا مهينا عاجزا، وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى عليه السلام. ودل أيضا على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان أو الأشياء، فلم يتمكنوا من قلب الحبال والعصي حيات فعلية، كما لم يتمكنوا من قلب التراب ذهبا، وأن يجعلوا أنفسهم ملوك العالم، ولو كانوا قادرين على ذلك لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون.
والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق، وألا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب.
٩- قوله: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله، من قولهم: نَكُونَ وتأكيد الضمير المتصل بالمنفصل وهو نَحْنُ وتعريف الخبر وهو الْمُلْقِينَ بقصد كسب الشهرة واجتذاب أنظار الناس.
وقد جاراهم موسى في رغبتهم ازدراء لشأنهم وقلة المبالاة بهم، وثقته بالتأييد الإلهي، وأن المعجزة لن يغلبها شيء.
١٠- دل قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ على أن السحر محض التمويه. ولو كان السحر حقا، لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم. وكل ما في الأمر أنهم تخيلوا أحوالا عجيبة، مع أن الأمر في الحقيقة خلاف ذلك. ودل قوله: وَاسْتَرْهَبُوهُمْ على أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي.
42
وأما خوف موسى فليس كخوف العوام، وإنما لعله خاف من وقوع التأخير في ظهور حجته على سحرهم.
١١- السحر كما دلت الآية مجرد خيال وتمويه لا حقيقة فيه، لذا يسمى بالشّعوذة والدجل، وهو إما أن يعتمد على بعض خواص المادة كتمدد الزئبق الذي وضعه سحرة فرعون في حبالهم وعصيهم، وإما أن يستعان فيه بخفة اليد في إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعضها، وإما أن يلجأ فيه إلى تأثير النفس القوية في إرادة النفس الضعيفة، وقد يستعان حينئذ بأرواح الشياطين، ومنه ما يسمى في عصرنا بالتنويم المغناطيسي.
١٢- الفرق بين السحر والمعجزة: أن المعجزة حقيقة تظهر على يد مدعي النبوة، والسحر خيال يحدث على يد رجل فاسق.
لذا أخطأ من زعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سحر، وأن السحر أثّر فيه، حتى قال:
«إنه يخيّل إلي أني أقول الشيء وأفعله، ولم أقله ولم أفعله» وإن امرأة يهودية سحرته في وعاء طلع النخل ووضعته تحت الحجر الذي يقف عليه المستقي من البئر، حتى أتاه جبريل فأخبره بذلك، فاستخرج وزال عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. وهذا كله من وضع الملحدين الذين يحاولون العبث بالنبوة وإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام.
وهذا ينافي قوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى. وجائز أن تفعل المرأة اليهودية ذلك بجهلها، ثم أطلع الله نبيه على فعلها، لا أن ذلك ضره وخلط عليه أمره.
43
إيمان السّحرة بربّ العالمين
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٧ الى ١٢٢]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)
الإعراب:
أَنْ أَلْقِ عَصاكَ أَنْ: إما مصدرية في موضع نصب، وتقديره: بأن ألق عصاك، فحذف حرف الجر فاتّصل الفعل بها، وإما أن تكون مفسّرة بمعنى أي، فلا يكون لها موضع من الإعراب، كقوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا [ص ٣٨/ ٦] أي: امشوا.
ما يَأْفِكُونَ ما: موصولة، أي: زال وذهب الذي عملوا به السّحر، أو مصدرية بتقدير:
فإذا هي تلقف إفكهم، تسمية للمأفوك بالإفك. صاغِرِينَ حال منصوب.
البلاغة:
فَوَقَعَ الْحَقُّ استعارة أستعير لوقع للثبوت والظهور والحدوث.
المفردات اللغوية:
تَلْقَفُ تتناول وتبتلع بسرعة. ما يَأْفِكُونَ يقلبون بتمويههم، أو يكذبون ويموهون، مأخوذ من الإفك: وهو قلب الشيء عن وجهه الأصلي، وهو إما أن يكون بالقول الكاذب، وإما أن يكون بالفعل كالسحر. والمأفوك: المصروف عن وجهته الأصلية، قال تعالى:
أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة ٥/ ٧٥ وموضع أخرى] أي يصرفون عن الحقّ في الاعتقاد إلى الباطل، ومنه سمّيت الرياح المعدولة عن مهبها مؤتفكة، كما قال تعالى: وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ [الحاقة ٦٩/ ٩] أي أهل تلك القرى. وهي قرى قوم لوط.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الخامس من قصة موسى مع فرعون، وهو موقفه من
44
السّحرة. وهو إخبار من الله تعالى إلى رسوله موسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم الذي فرّق فيه بين الحق والباطل، ومضمون الإخبار: إلقاء ما في يمينه وهي عصاه.
أوحى الله إلى موسى وأمر بإلقاء عصاه، التي تحولت إلى ثعبان عظيم، فإذا هي تبتلع ما ألقوه، وموّهوا به أنه حق وهو باطل، أو ما يقلبونه من الحقّ إلى الباطل ويزوّرونه. قال ابن عباس: فجعلت لا تمرّ بشيء من حبالهم ولا من خشبهم إلا التقمته، فعرفت السّحرة أن هذا شيء من السّماء، ليس بسحر، فخرّوا سجّدا، وقالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ.
وكانوا قد جعلوا الحبال مجوّفة محشوّة بالزئبق، وقد تحرّكت بتأثير الحرارة:
إما بحرارة الشّمس حين أصابتها، وإما بنار أعدت لها.
فَوَقَعَ الْحَقُّ.. أي فثبت الحقّ وظهر كالشّمس، وفسد ما كان السّحرة يعملون من الحيل والتّخييل، وذهب تأثيره، وأدركوا أن فعل موسى فوق السّحر.
وغلب السّحرة في ذلك الجمع العظيم بأمر الله وقدرته، وانقلب فرعون وقومه معه صاغرين أذلّة، بما لحقهم من عار الهزيمة والخيبة والخذلان، لكن السّحرة آمنوا.
وألقي السّحرة عند ذلك وعند معاينة المعجزة سجّدا لربّهم لأنّ الحق بهرهم وحملهم على السجود، وقالوا: صدّقنا وآمنا برب العالمين، رب موسى وهارون، أي ربّ جميع الأشياء والخلائق من الإنس والجنّ.
وكان هؤلاء منسجمين مع أنفسهم، منطقيين في تصرّفهم، فلم يكابروا، وإنما كانوا صادقين مع نفوسهم، بدليل أن فرعون قبل المبارزة دعا رؤساء السّحرة
45
ومعلميهم، فقال لهم: ما صنعتم؟ قالوا: قد عملنا سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض، إلا أن يكون أمرا من السّماء، فإنه لا طاقة لنا به.
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات إظهار واضح لقدرة الله تعالى بإعدام الحبال والعصي وإذهابها من الوجود، مما يدلّ على وجود الإله القادر المختار، وعلى المعجز العظيم لموسى عليه السّلام، والحسم القاطع بين الحقّ والباطل.
ولكن المشكلة تكمن في مواقف البشر، فالمعاندون وهم فرعون وقومه، بالرغم من عار الهزيمة والخذلان، ظلّوا على وضعهم من الكفر والعناد والتكذيب، وهو طيش وخفّة عقل ومكابرة للحقّ. وأما السّحرة البسطاء في الظاهر، والعقلاء في الحقيقة والواقع، فإنهم عرفوا أن فعل موسى ليس من قبيل السّحر، وإنما هو معجزة سماوية إلهية، فلم يتمالكوا أنفسهم، وخرّوا ساجدين لربّهم، خاضعين لإله الكون.
فما أحرى الناس بتقليد هؤلاء ونبذ أولئك!! ذلك لأنّ السّحرة كانوا مهرة في علم السّحر، متقنين لفنونه وأنواعه، ولأجل مهارتهم وإتقانهم وكمال علمهم بالسّحر انتقلوا من الكفر إلى الإيمان.
واحتجّ أهل السّنّة بقوله تعالى: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ على أن غيرهم ألقاهم ساجدين، وما ذاك إلا الله رب العالمين. وهذا يدلّ على أن فعل العبد من خلق الله تعالى، فهو سبحانه هو خالق الميل إلى الإيمان في قلوبهم.
ولما ظفروا بمعرفة الله تعالى في الحال، جعلوا سجودهم شكرا لله تعالى على الفوز بالمعرفة والإيمان، وعلامة أيضا على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان، وإظهار الخضوع والتّذلل لله تعالى.
46
ولما قالوا: وَهارُونَ زالت الشّبهة في أن المقصود ليس فرعون مربّي موسى، وإنما المقصود هو إله السّماء، وإعلان الكفر بفرعون إذ أنهم لما قالوا:
آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ قال لهم فرعون: إياي تعنون؟ فلما قالوا: رَبِّ مُوسى قال: إياي تعنون لأني أنا الذي ربّيت موسى، فلما قالوا:
وَهارُونَ زالت الشّبهة وعرف الكلّ أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السّماء.
تهديد فرعون للسّحرة وإصرارهم على الإيمان بالله
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٦]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
المفردات اللغوية:
آمَنْتُمْ استفهام معناه الإنكار والاستبعاد لمكر، المكر: صرف الإنسان غيره عما يريده بحيلة، والمعنى: إن هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر، قد تواطأتم على ذلك لغرض لكم، وهو أن تخرجوا منها القبط، وتسكنوها بني إسرائيل. وكان هذا الكلام من فرعون تمويها على الناس، لئلا يتّبعوا السّحرة في الإيمان.
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ما ينالكم منّي. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي يد كلّ واحد اليمني ورجله اليسرى وبالعكس، والصّلب: الشدّ على خشبة ونحوها. مُنْقَلِبُونَ راجعون في الآخرة. تَنْقِمُ تنكر. أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أفض علينا صبرا يغمرنا كغمرة الماء، أي هب لنا صبرا واسعا، عند فعل ما توعدنا به فرعون، لئلا نرجع كفارا. وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام.
47
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل السادس من قصّة موسى مع فرعون، فيه يخبر الله تعالى عمّا توعّد به فرعون السّحرة لما آمنوا بموسى عليه السّلام، وبما ردّوا به عليه من تسليم أمرهم لله لأن مصيرهم إليه في الآخرة.
ومعنى آمَنْتُمْ على أنه إخبار بخبر: صدقتم، ويراد به التّوبيخ، وعلى أنه استفهام يراد به الإنكار والاستبعاد، أي آمنتم بموسى واتبعتموه في رسالته قبل أن آذن لكم بذلك.
إن صنعكم هذا وغلبته لكم في هذا اليوم، إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك، كقوله في الآية الأخرى: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه ٢٠/ ٧١]. إنكم دبّرتم هذه المؤامرة في هذه المدينة لتخرجوا المصريين منها بسحركم، وتسكنوا فيها مع بني إسرائيل، فسوف تعلمون ما أصنع بكم من العذاب والنّكال على هذا المكر.
وهذا القول من فرعون مجرّد تمويه وتدليس وتغطية للهزيمة، لئلا يتّبعوا السّحرة في الإيمان، كما قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ [الزّخرف ٤٣/ ٥٤] إذ إنه يعلم أن هذا قول باطل، فهو الذي أرسل جنوده في مدائن مملكته، لجمع السّحرة المتفرّقين من سائر الأقاليم بمصر، ووعدهم بالعطاء الجزيل، وموسى عليه السّلام لا يعرف أحدا منهم، ولا رآه ولا اجتمع به، وفرعون يعلم بذلك.
وقد استفاد فرعون هذه الفكرة أي الاتّهام بالمكر والمؤامرة من مناقشة دارت بين موسى وكبير السّحرة قبل المبارزة، روي أن موسى عليه السّلام قال لأمير السّحرة أو للسّاحر الأكبر: أتؤمن بي إن غلبتك؟ قال: لآتين بسحر لا يغلبه سحر، وإن غلبتني لأومننّ بك. وفرعون يسمع ذلك، فلذلك قال ما قال.
48
وبعد أن أجمل الوعيد السابق بقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فصله بقوله:
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ يعني قسما لأقطعنّ الأيدي والأرجل من خلاف، ثم لأصلبنّ كل واحد على جذوع الشّجر، كما قال: فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه ٢٠/ ٧١] أي على الجذوع، لتكونوا عبرة لمن يكيد لنا ويخرج عن سلطاننا، قال ابن عباس: وكان أوّل من صلب، وأوّل من قطّع الأيدي والأرجل من خلاف: فرعون.
فأجابه السّحرة على تهديده ووعيده: إنّنا لا نأبه بالقتل ولا نبالي بالموت لأننا قد تحقّقنا أنا إلى الله راجعون، ففي الآخرة يوم الجزاء، فيثيبنا على شدائد القطع والصّلب، ونريد أن نفدي أنفسنا من عذاب الله، فعذابه أشدّ من عذابك، ونكاله على ما تدعونا إليه اليوم، وما أكرهتنا من السّحر، أعظم من نكالك، فلنصبرنّ اليوم على عذابك، لنخلص من عذاب الله، كما قال تعالى:
قالُوا: لا ضَيْرَ، إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء ٢٦/ ٥٠- ٥١].
ويحتمل- كما ذكر الزّمخشري- أن يكون المعنى: إنّا جميعا نحن وأنت يا فرعون، سننقلب إلى الله، فيحكم بيننا. وفي هذا إيماء إلى تكذيبه في ادّعاء الرّبوبيّة، وإيثار ما عند الله على ما عنده من شهوات الدّنيا الفانية.
وما تعيب منّا إلا الإيمان بآيات الله، الذي هو خير الأعمال، وأصل المناقب والمفاخر كلها. وفي هذا إعلان لقرار لا رجعة فيه، وكأنّهم يقولون: لا أمل لك في رجوعنا عن إيماننا.
ربنا هب لنا صبرا واسعا، وعمّنا بالصبر على دينك والثّبات عليه، واغمرنا به حتى يفيض علينا كما يغمر الماء الأشياء.
والظاهر أنّ فرعون نفّذ تهديده ووعيده فعلا، بدليل قوله تعالى في بداية
49
القصّة: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي فرعون وجماعته. قيل: إنّ فرعون أخذ السّحرة، وقطعهم على شاطئ النهر، وإنه آمن بموسى عند إيمان السّحرة ستمائة ألف.
وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي ثابتين على الإسلام، متابعين لنبيّك موسى عليه السّلام، وقالوا لفرعون: فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى. إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى. وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى [طه ٢٠/ ٧٢- ٧٥].
قال ابن كثير نقلا عن ابن عباس وغيره: فكانوا في أوّل النهار سحرة، فصاروا في آخره شهداء بررة.
فقه الحياة أو الأحكام:
حاول فرعون إنقاذ نفسه من عار الهزيمة، فلما علم أن أمهر الناس بالسحر أقر بنبوّة موسى عليه السّلام أمام الخلق الكثير، والحشد العظيم، خاف أن يصير ذلك حجّة قويّة عند قومه على صحّة نبوّة موسى عليه السّلام، فألقى في الحال نوعين من الشّبهة إلى إسماع العوام «١» :
الشّبهة الأولى:
قوله: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ أي إن إيمان هؤلاء بموسى عليه السّلام ليس لقوّة الدّليل، بل لأجل التّواطؤ مع موسى على الإيمان به والإقرار بنبوّته.
(١) تفسير الرّازي: ١٤/ ٢٠٧- ٢٠٨.
50
والشّبهة الثانية:
أنّ الهدف من التّواطؤ إخراج قوم فرعون من المدينة وإبطال ملكهم والاستيلاء على مصر. ولا شكّ أن مفارقة الوطن والنّعمة المألوفة من أصعب الأمور، فجمع فرعون بين الشّبهتين، لتغطية آثار الهزيمة، وإبقاء التّماسك حوله.
ثم أتبع فرعون التّدليس والتّمويه بالتّهديد والوعيد للسّحرة، وبالتّنكيل الشّديد بهم، وتقطيع أطرافهم، وصلبهم، قال ابن العربي: هذا يدلّ على أنّ الصّلب وقطع اليد والرّجل من خلاف كان عقوبة متأصّلة عند الخلق، تلقّفوها من شرع متقدّم، فحرّفوها حتى أوضحها الله في ملّة الإسلام، وجعلها أعظم العقوبات لأعظم الاجرام أي عقوبة المحاربين «١».
ولكن غباء فرعون وجماعته وكلّ الكفار جعلهم لا يدركون ما الذي يفعله الإيمان الحقّ من الأعاجيب، فلم يبالوا بالموت، وطلبوا الثّبات على الإسلام، والعون على إفراغ الصّبر عليهم عند القطع والصّلب.
وإذا كان الإيمان بالدّين الحقّ والصّبر على الشّدائد من خلق الله تعالى، كما يقول أهل السّنة، فإنّ اتّجاه إرادة الإنسان للأخذ بهما، والاستعانة بالله للثّبات على الإسلام، دليل على استحقاق العبد الثّواب على ما اتّجهت إليه إرادته، إذ لو كان الإيمان مجرّد منحة من الله، لما كان هناك داع لإثابة المؤمن، وتعذيب الكافر.
وموقف السّحرة وإعلان إيمانهم بجرأة وصراحة يدلّ على أنّ الإنسان إذا تجرّد عن هواه، وأذعن للعقل والفكر السّليم، بادر إلى الإيمان عند ظهور الأدلّة عليه.
(١) أحكام القرآن: ٢/ ٧٧٩. [.....]
51
وصلابة السّحرة ومن تابعهم في إيمانهم أحد المظاهر التي تدلّ على أنّ الإيمان الرّاسخ في النّفس يكون أعزّ وأمنع من الجبال الرّاسيات.
وقد دلّت التّجارب وأثبت التاريخ قديما وحديثا أنّ أهل الإيمان بالله واليوم الآخر هم أشدّ الناس حزما، وأكثرهم شجاعة وصبرا في أوقات الأزمات والمحن والحروب، والأمثلة كثيرة في تاريخ الإسلام قديما في الفتوحات، وحديثا في لقاء اليهود وأمثالهم في فلسطين والجزائر والهند وأفغانستان وغيرها.
تمالؤ فرعون وملئه على موسى وقومه ونصيحة موسى لقومه وحوارهم معه
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
الإعراب:
وَيَذَرَكَ معطوف على: يفسدوا، والواو عاطفة، ويصحّ أن تكون حالية.
المفردات اللغوية:
الْمَلَأُ كما تقدّم: السّادة والأشراف. أَتَذَرُ أتترك. لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالدّعوة إلى مخالفتك. وَيَذَرَكَ يتركك. وَآلِهَتَكَ كان صنع لهم أصناما صغارا يعبدونها، وقال:
52
أنا ربّكم وربّها، ولذا قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. والواو في قوله وَيَذَرَكَ: قيل: إنّها حالية، أي أتذروه وقومه يفسدون وقد ترك عبادتك؟ وقيل: هي عاطفة، أي أتدعهم يصنعون من الفساد ما قد أقررتهم عليه وعلى ترك آلهتك.
سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ المولودين. وَنَسْتَحْيِي نستبقي. نِساءَهُمْ أحياء كما فعلنا بهم من قبل. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ قادرون، ففعلوا بهم ذلك، فشكا بنو إسرائيل. يُورِثُها يعطيها. وَالْعاقِبَةُ المصير المحمود. لِلْمُتَّقِينَ الله.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل السّابع من قصّة موسى مع فرعون، يخبر فيه الله تعالى عن تمالؤ فرعون وملئه على موسى وقومه، وما أضمروه لهم من الأذى والبغضاء، بعد إيمان السّحرة بموسى وانضمامهم له على مشهد من الجموع الغفيرة.
والمعنى: وقال أشراف قوم فرعون لفرعون: أتترك موسى وقومه أحرارا، فيتمكّنوا من إفساد رعيّتك، بإدخالهم في دينهم، أو جعلهم تحت سلطانهم وقيادتهم، ويدعوهم إلى عبادة ربّهم دونك، ويتركك مع آلهتك فلا يعبدونك ولا يعبدونها كما قررت؟! ومن المعروف في التّاريخ المصري القديم أنه كان للمصريين آلهة كثيرة منها (الشمس) ويسمّونها (رع) وفرعون عندهم سليل الشّمس وابنها.
قال الحسن البصري: كان فرعون يعبد الأصنام، فكان يعبد ويعبد. قال التّيمي: كان يعبد شيئا كان قد جعله في عنقه. فأجابهم فرعون: سنقتّل أبناء بني إسرائيل تقتيلا، ونستبقي نساءهم أحياء، كما كنّا نفعل من قبل، فلا يتكاثرون حتى ينقرضوا، وإنّا مستعلون عليهم، قاهرون لهم، فلا يقدرون على أذانا ولا الإفساد في أرضنا، ولا الخروج من سلطاننا.
وفي موقف آخر همّ فرعون بقتل موسى كما جاء في قوله تعالى: وَقالَ
53
فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى، وَلْيَدْعُ رَبَّهُ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ
[غافر ٤٠/ ٢٦].
وحين قال فرعون: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وسمع الإسرائيليّون ذلك، فزعوا وجزعوا وتضجّروا، فطمأنهم موسى ونصحهم وقال لهم: استعينوا بالله وحده، واطلبوا العون والتّأييد منه على رفع ذلك الوعيد عنكم، واصبروا ولا تحزنوا، فالله هو المعين على الشّدائد، والصّبر سلاح المؤمن ومفتاح الفرج، واعلموا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وهذا وعد لهم بالنّصر، وأنّ الدّار ستصير لهم.
واللام في إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يجوز أن تكون للعهد، ويراد أرض مصر خاصة، كقوله تعالى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزّمر ٣٩/ ٧٤]، ويجوز أن تكون للجنس، فيتناول أرض مصر لأنها من جنس الأرض. ثمّ بشّرهم بحسن الخاتمة والعاقبة، فقال:
واعلموا أن العاقبة الحسنى والخاتمة المحمودة لمن اتّقى الله، والنّصر للمؤمنين، لا كما يتوهّم فرعون وقومه.
ثم دار حوار بين بني إسرائيل وموسى، وكأنّ الوصية لم تؤثّر فيهم، ولشدّة فزعهم من فرعون وقومه، فقالوا: أوذينا من قبل مجيئك وقبل ولادتك، ومن بعد إرسالك، وفعلوا بنا مثلما رأيت من الهوان والإذلال من قبل ما جئت يا موسى، ومن بعد ذلك، فقتلوا أولادنا، وعذّبونا وأساؤوا لنا، واليوم يتكرر ما كان في الماضي، وتعود المأساة، كما تسمع من الوعيد والتّهديد.
فأجابهم موسى مؤكّدا نصر الله لهم، وما يصيرون إليه في المستقبل القريب، وثقته بالله تعالى، ومبشّرا بهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر: أملي بالله ورجائي بفضله، والله محققه بمشيئته: أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون وقومه،
54
ويجعلكم خلفاء في الأرض من بعدهم، فينظر عملكم الكائن منكم، حسنه وقبيحه، وشكر النّعمة وكفرانها، وسيجازيكم على حسب ما يوجد منكم، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.
وهذا حضّ لهم على العزم على الشكر عند حلول النّعمة، وزوال النّقمة.
وعبّر بالرّجاء دون الجزم بذلك، لتفويض المشيئة لله تعالى، ولئلا يتركوا العمل ويتّكلوا على ذلك. قال سيبويه: عسى: طمع وإشقاق. وقال الزّجاج: وما يطمع الله تعالى فيه فهو واجب.
فقه الحياة أو الأحكام:
لم يختلف واقع التّاريخ في الماضي والحاضر والمستقبل بالنّسبة للأقوياء والضّعفاء، فإن صاحب القوّة والسّلطة يعتمد على سلطانه وبأسه، فيشيع بين الناس الرّهبة والذّعر والخوف، ويعلن الإنذار والتّهديد والوعيد.
المنتفعون من السّلطة لسان حالهم ومقالهم وفعلهم فعل تلك السّلطة، لذلك حرّض السّادة والأشراف من قوم فرعون على موسى وبني إسرائيل.
وكانت استجابة فرعون الطاغية للتحريض فورية، فجدّد تنكيله ببني إسرائيل وهو قتل أولادهم بعد الولادة، وتشديد قبضة السّلطة عليهم، ليظلّوا مقهورين أذلّاء خائفين خاضعين له.
أمّا موسى فكان فرعون كلما رآه خافه أشدّ الخوف، لذا لم يتعرّض له، مع أنّ قومه لم يعرفوا ذلك، فحملوه على أخذه وحبسه، ولكنه لم يحبسه لعدم الاهتمام به، ولعدم خوفه في الظاهر منه.
وأمّا المستضعفون بقيادة موسى فلا أمل لهم إلا بالله، ولا ملجأ إلا إليه، لذا طلب موسى من قومه أن يطلبوا العون والتّأييد من الله تعالى، وأن يتذرّعوا
55
بالصّبر، فإن صدقوا في إيمانهم، وصبروا على بلائهم، حقّق الله لهم الغلبة والنّصر، وجعل العاقبة الحسنة لهم لتقواهم.
أمرهم موسى بشيئين، وبشّرهم بشيئين:
أمّا اللّذان أمر موسى عليه السّلام بهما: فهما الاستعانة بالله تعالى، والصّبر على بلاء الله. وإنّما أمرهم أوّلا بالاستعانة بالله، فلأن من عرف أنه لا مدبّر في العالم إلا الله تعالى، انشرح صدره بنور معرفة الله تعالى، وحينئذ يسهل عليه أنواع البلاء، ولأنه يرى عند نزول البلاء أنّه إنما حصل بقضاء الله تعالى وتقديره.
وأمّا اللّذان بشّر بهما، فالأوّل: وراثة الأرض، وهذا إطماع من موسى قومه في أن يورثهم الله تعالى أرض فرعون بعد إهلاكه، وذلك معنى الإرث: وهو جعل الشيء للخلف بعد السّلف.
والثّاني: قوله: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أي العاقبة الحسنى والمصير الأفضل لكلّ من اتّقى الله تعالى وخافه، سواء في الدنيا والآخرة، أما في الدّنيا فهو الفتح والنّصر على الأعداء، وأمّا في الآخرة فهو نعيم الجنة «١».
ولكن النّفس البشرية تخاف عادة من تهديد صاحب السّلطة، فخاف بنو إسرائيل لأنهم كانوا قبل مجيء موسى عليه السّلام مستضعفين في يد فرعون، فكان يأخذ منهم الجزية، ويستعملهم في الأعمال الشّاقة، ويمنعهم من التّرفّه والتّنعّم، ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم. فلما بعث موسى عليه السّلام قوي رجاؤهم في زوال تلك المضار والمتاعب، فلما سمعوا إعادة تهديد فرعون، عظم خوفهم وحزنهم، فقالوا: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ....
(١) تفسير الرّازي: ١٤/ ٢١٢.
56
أمّا نبيّ الله موسى فأعلن بشارته بإهلاك فرعون، وقوّى قلوبهم بما وعدهم من خلافة الأرض، ليتمسّكوا بالصبر، ويتركوا الضّجر والجزع المذموم، ثم بيّن بقوله: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ما يريده من حثّهم على التّمسّك بطاعة الله، والاستعداد لشكر النّعمة، وزوال النّقمة. وقد تحقّق الوعد بالإغراق وبأنواع العذاب الآتية في الآيات التّالية.
أنواع عذاب الدّنيا بآل فرعون
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٣]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)
الآيات التّسع
الإعراب:
مَهْما تَأْتِنا مَهْما: اسم شرط، والدّليل على أنه اسم عود الضمير إليه من قوله تعالى: تَأْتِنا بِهِ وهو منصوب بفعل: تَأْتِنا على قول من قال: زيدا ضربته، ويجوز أن يكون في موضع رفع، على قول من قال: زيد ضربته، وتَأْتِنا: مجزوم بمهما لأنه شرط، وجواب الشّرط قوله تعالى: فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ.
آياتٍ مُفَصَّلاتٍ حال منصوب مما قبله من الأشياء المذكورة في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ... والعامل: أرسلنا.
57
البلاغة:
بين الْحَسَنَةُ وسَيِّئَةٌ طباق.
وبين طائِرُهُمْ ويَطَّيَّرُوا جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ أَخَذْنا كثر استعمال الأخذ في العذاب، كقوله: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود ١١/ ١٠٢]. آلَ فِرْعَوْنَ قومه وخاصته، وهم الملأ من قومه، ولا يستعمل الآل إلا فيمن يختص بقرابة مثل: وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ [آل عمران ٣/ ٣٣] أو يختصّ بموالاة ومتابعة في الرّأي مثل: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر ٤٠/ ٤٦].
بِالسِّنِينَ جمع سنة وهي الحول، لكن كثر استعمالها في حول الجدب والقحط، كما هنا، فيكون المراد منها القحط، بدليل نقص الثّمرات يَذَّكَّرُونَ يتّعظون فيؤمنوا. الْحَسَنَةُ الخصب والنّماء والرّخاء. قالُوا: لَنا هذِهِ أي نستحقها ولم يشكروا عليها. سَيِّئَةٌ جدب أو بلاء في الأنفس والأرزاق. يَطَّيَّرُوا يتشاءموا ويتطايروا، وأطلق التّطير على التّشاؤم أخذا بعادة العرب في زجر الطّير، فكانوا يتأمّلون الخير إذا طار الطائر يمينا ويسمّونه (السّائح) ويتوقّعون الشّرّ إذا طار شمالا، ويسمّونه (البارح). طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ما قضي لهم وقدّر، والمراد به أن شؤمهم: هو عقابهم الموعود به في الآخرة. وعند الله: أي يأتيهم به وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ما يصيبهم به من عنده.
الطُّوفانَ هو ماء دخل بيوتهم، ووصل إلى حلوق الجالسين سبعة أيّام. الْجَرادَ طائر معروف يأكل النبات، وقد أكل زرعهم وثمارهم أيضا. وَالْقُمَّلَ هو السّوس الذي ينخر الحنطة، وقيل: هو الدّود أو القراد الذي يأكل الزرع، ويتبع ما أكله الجراد. وَالضَّفادِعَ المعروفة، فملأت بيوتهم وطعامهم. وَالدَّمَ هو الرّعاف، وقيل: هو دمّ كان يحدث في مياه المصريين. مُفَصَّلاتٍ بيّنات. فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بها.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الثّامن من قصّة موسى مع فرعون، وهو فصل الجزاء والعقاب أو الآيات التي أنزلها الله على فرعون وقومه، فبعد أن بشّر موسى عليه السّلام قومه بإنزال العذاب على فرعون وقومه بقوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
58
يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
ذكر هنا ألوان العذاب قبل حلول عذاب الاستئصال، للتّحذير والزّجر وتنبيه السّامعين من خطر الكفر والتّكذيب. وأما عذاب الاستئصال فهو إغراق فرعون في اليمّ ونجاة بني إسرائيل.
وقد ذكر الله تعالى في سورة الإسراء أن الآيات أي آيات العقاب تسع، بقوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ... [١٠١].
وذكر هنا سبع آيات، ويضاف إليها المذكور في سورة يونس، وهو:
وَقالَ مُوسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [٨٨]، والطّمس على الأموال: هو محقها وهلاكها.
وفسّر البيضاوي الآيات التّسع بأنها آيات أرسل بها موسى إلى بني إسرائيل، وهي أحكام أمروا بالأخذ بها آيات عقاب، عوقب بها فرعون وجنوده، وهي:
العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وانفجار الماء من الحجر، وفلق البحر، ونتق الطّور على بني إسرائيل. وقيل: الطّوفان، والسّنون، ونقص الثّمرات مكان الثّلاث الأخيرة.
والواقع أنّ فلق البحر إنّما كان بعد تمام الآيات، وانبجاس الحجر بالماء إنما كان بعد هلاك فرعون، فلا يصحّ أن يكون آية لفرعون وقومه. وأمّا العصا واليد فهما معجزتان لموسى عليه السّلام، وليستا آيتي عذاب. فيكون في تقديري مجموع الآيات هكذا: السّنون، نقص الأموال، نقص الأنفس، نقص الثّمرات، الطّوفان، الجراد، القمّل، الضّفادع، الدّم «١». سبع منها مذكور هنا في سورة الأعراف، وواحدة مذكورة في سورة يونس، كما أبنت، أمّا نقص الأنفس فهو
(١) قصص الأنبياء للنّجار: ص ١٩٨.
59
ناجم عادة عن الجدب، ونقص الثّمار، والطّوفان، قال مجاهد وعطاء:
الطّوفان: الموت.
ومعنى الآيات هنا: ولقد اختبرنا آل فرعون وامتحنّاهم وابتليناهم بسنين الجوع بسبب قلّة الزّروع، أي في البادية، وبنقص الثّمرات، أي في الأمطار، قال رجاء بن حيوة: «كانت النّخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة»، ثم قال تعالى:
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي ليتذكّروا ويتّعظوا ويرجعوا عن كفرهم وتكذيبهم لآيات الله وعن ظلمهم لبني إسرائيل، ويؤمنوا بالله ربّا، ويستجيبوا لدعوة موسى عليه السّلام لأنّ من سنّته تعالى أن يرسل الزّواجر تنبيهات، ودلّت التّجارب على أنّ الشّدائد تليّن النّفوس، فتكون المصائب والآفات ونقص الثّمرات سببا في رجوع الناس إلى الله تعالى، فإن عادوا إلى ربّهم واهتدوا كان الخير والرّخاء، وإن أعرضوا كان القحط والجدب والهلاك المحتوم، وقد أعرض آل فرعون عن الاستجابة لدعوة موسى بعد أن أنذرهم، فكانوا من الهالكين.
ثم بيّن الله تعالى أنّ المصائب زادت آل فرعون عتوّا وبغيا، فقال: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ... أي إذا جاءهم الخصب والرّزق وزيادة الثّمار والمواشي قالوا:
لنا هذه، يعني هذا لنا بما نستحقّه من العمل والمعرفة والتّفوّق، وإن أصابتهم سيئة، أي جدب وقحط، تشاءموا بموسى ومن معه، وقالوا: هذا بسببهم وما جاؤوا به، وغفلوا عن واجب شكر نعمة الله، وعن سيئاتهم وفساد أعمالهم وشرور أنفسهم، كما قال تعالى في حقّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء ٤/ ٧٨].
ثمّ ردّ الله عليهم بقوله: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي إن كلّ ما يصيبهم من خير أو شرّ، فهو بقضاء الله وقدره، فالله جعل الخير ابتلاء ليعرف الشاكر
60
من الجاحد، وجعل الشّر ابتلاء أيضا ليعرف الصابر من الساخط، وليرجع أهل الغي والفساد عن غيّهم وفسادهم، ويقلعوا عن طغيانهم وضلالهم. والله تعالى أيضا جعل أعمال العباد سببا لما ينزل بهم من خير وشرّ غالبا. قال الزّمخشري في تفسير طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ: أي سبب خيرهم وشرّهم عند الله، وهو حكمه ومشيئته، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسّيئة، وليس شؤم أحد ولا يمنه بسبب فيه، كقوله تعالى: قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ويجوز أن يكون معناه: ألا إنما سبب شؤمهم عند الله، وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوؤهم لأجله، ويعاقبون عليه بعد موتهم بما وعدهم الله في قوله سبحانه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها [غافر ٤٠/ ٤٦]. «١»
ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكمة الله في تصريف الكون، ولا يعلمون كيفية ارتباط الأسباب بالمسببات، ولا أن الأمور تجري بالمقادير، وأنّ كل شيء عنده بمقدار، فليس الشؤم بسبب موسى وقومه، وإنما بسبب سوء العمل، وبمقتضى النظام الإلهي في قانون السّببية المذكور.
وفضلا عن أن كلّا من الحسنات والسيئات لم تذكّرهم بما يجب عليهم نحو ربّهم، فإنهم تمرّدوا وعتوا، وعاندوا الحق، وأصرّوا على الباطل بقولهم لموسى: إن أي آية جئتنا بها، وأي حجّة ودلالة أظهرتها لنا، وأثبتها لإقناعنا وصرفنا عما نحن عليه من ديننا، رددناها ولم نقبلها منك، ولا نؤمن بك ولا بما جئت به، ولا نصدّق برسالتك وقولك أبدا.
لذا عاقبهم الله على كفرهم وتكذيبهم وجرائمهم، فأرسل عليهم الطّوفان:
وهو كثرة الأمطار المتلفة للزروع والثمار، كما قال ابن عباس، فالطّوفان:
ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل.
(١) الكشاف: ١/ ٥٦٨- ٥٦٩.
61
وأرسل عليهم الجراد، فأكلت كلّ زروعهم وثمارهم، ثم أكلت كل شيء، حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب. ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء، ففزعوا إلى موسى، فكشف عنهم بعد سبعة أيام. خرج موسى عليه السّلام إلى الفضاء، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجع الجراد إلى النّواحي التي جاء منها، فقالوا: ما نحن بتاركي ديننا.
فأقاموا شهرا، فسلّط عليهم القمّل: وهو كبار القراد، أو السّوس، فأكل ما أبقاه الجراد، ولحس الأرض، أو صغار الذّباب أو البراغيث أو القمل المعروف الذي يلدغ ويمصّ الدّم، أي أنّه سلّط عليهم بعد الجراد من الآفات الزراعية من صغار الذّر كالدودة، فأكلت الزّروع واستأصلت كلّ شيء أخضر. ثم فزعوا إلى موسى فكشف عنهم، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه.
فأرسل الله الضّفادع، فدخلت بيوتهم، وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلّم وثبت الضفدع إلى فمه، وامتلأت منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرّقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، فشكوا إلى موسى، وقالوا: ارحمنا هذه المرة، فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح، ولا نعود، فأخذ عليهم العهود، ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد.
فأرسل الله عليهم الدّم، أي تحوّلت مياههم إلى دم، فكانوا إذا ما استقوا من الأنهار والآبار، وجدوه دما عبيطا، فشكوا إلى فرعون، فقال: إنه قد سحركم، فكان يجمع بين القبطي والإسرائيلي على إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء، وما يلي القبطي دما.
كلّ ذلك آيات مفصّلات أي واضحات بيّنات ظاهرات، لا يشكل على عاقل أنها من عند الله، ولا يقدر عليها غيره، وأنها عبرة ونقمة على كفرهم، وهي دالّة
62
على صدق موسى، إذ قد توعّدهم بوقوع كلّ واحدة منها تفصيلا.
أما فرعون وقومه فظلّوا على عنادهم وكبريائهم فاستكبروا عن عبادة الله، ولم يتّعظوا، وكانوا قوما مجرمين في حقّ أنفسهم وغيرهم، مصرّين على الجرم والذّنب.
فقه الحياة أو الأحكام:
ترشد الآيات في الجملة إلى قانون السّببيّة: وهو ربط الأسباب بالمسبّبات والنتائج على حسب مشيئته تعالى، وإلى أن ما يتعرّض له الناس من آفات زراعية ومصائب فهو بسبب أعمالهم.
وأما تفصيلا فدلّت الآيات على أنه تعالى إنما أنزل عليهم هذه المضار، لأجل أن يتركوا العناد والتّمرد، ويرجعوا إلى الانقياد والعبودية لله، لأن أحوال الشدّة ترقّق القلب، وترغّب فيما عند الله، كما قال تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء ١٧/ ٦٧]، وقال: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت ٤١/ ٥١].
وقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي ليتّعظوا وترقّ قلوبهم، يدلّ على أنه تعالى فعل ذلك إرادة منه أن يتذكّروا، لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر.
وأول آية على فرعون وقومه من آيات العقاب: السّنين أي الجدوب، يقال: أصابتهم سنة أي جدب،
وفي الحديث الثابت: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنّي يوسف».
يروى أنه كان بين الآية والآية ثمانية أيام، وقيل:
شهر، وقيل: أربعون يوما.
والثانية: نقص محصول الثّمار وغلاته نقصا شديدا مريعا، لا يكفي أحدا.
63
وهذان عقابان، كلّ منهما أخفّ من أنواع العقاب الأخرى، بدءا بالتّدرج في العذاب لعلّهم ينزجروا، ولكن القوم عند نزول تلك المحن عليهم لم يتّعظوا ولم يرعووا، وإنما أقدموا على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم، فقال تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ الآية.
فهم ينسبون الخير من الخصب والثّمار وسعة الرّزق والعافية والسّلامة والمواشي إلى أنفسهم، مدّعين أنهم جديرون بذلك، مستحقّون للإكرام والإنعام، لتفوّقهم وذكائهم، وعملهم ومعرفتهم. أمّا الشّر من الجدب والقحط والمرض والضّر والبلاء فهو بسبب موسى وقومه وشؤمهم.
والحقّ أن ما لحقهم من القحط والشدائد إنما هو من عند الله عزّ وجلّ بذنوبهم، لا من عند موسى وقومه، ولكنّهم قوم يجهلون هذا المعنى، فطائرهم عند الله، أي ما قدّر لهم وعليهم.
أمّا التّطيّر والتّشاؤم فجاء الإسلام بالنّهي عنه عند سماع صوت طائر ما كان، وعلى أي حال كان، لأن الواحد من أهل الجاهلية كان كثيرا إذا أراد الحاجة أتى الطّير في وكرها فنفّرها، فإذا أخذت ذات اليمين مضى لحاجته، وهذا هو السّائح عندهم. وإن أخذت ذات الشمال رجع، وهذا هو البارح عندهم،
فنهي النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن هذا بقوله فيما رواه أبو داود والحاكم عن أم كرز: «أقرّوا الطّير على مكناتها»
أي بيضها أو على تمكنها فلا تنفّروها. وقال عكرمة: كنت عند ابن عباس، فمرّ طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شرّ.
وقال عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد ومسلم عن جابر: «لا طيرة ولا هام».
قال العلماء: وأما أقوال الطّير فلا تعلّق لها بما يجعل دلالة عليه، ولا لها علم
64
بكائن، فضلا عن مستقبل فتخبر به، ولا في الناس من يعلم منطق الطّير، إلا ما كان الله تعالى خصّ به سليمان صلّى الله عليه وآله وسلم من ذلك، فالتحق الطّير بجملة الباطل «١».
وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الطّيرة شرك- ثلاثا- وما منّا إلا «٢»، ولكن الله يذهبه بالتّوكل».
واشتدّ تمادى قوم فرعون في عنادهم، فقالوا لموسى: مهما تأتنا من آية لتصرفنا عما نحن عليه، فلن نصدق بك. ففي الآية الأولى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ أسندوا حوادث هذا العالم، لا إلى قضاء الله تعالى وقدره، ثم وقعوا بجهالة وضلالة أخرى في الآية الثانية: وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ وهي أنهم لم يميزوا بين المعجزات وبين السّحر، وجعلوا جملة الآيات الدّالة على صدق موسى مثل انقلاب العصا حيّة من باب السّحر منهم، وقالوا لموسى: إنّا لا نقبل شيئا منها البتة.
قال ابن عباس: إن القوم لما قالوا لموسى: مهما أتيتنا بآية من ربك، فهي عندنا من باب السّحر، ونحن لا نؤمن بها البتة، وكان موسى عليه السّلام رجلا حديدا، فعند ذلك دعا عليهم، فاستجاب الله له، فأرسل عليهم الطّوفان الدّائم ليلا ونهارا، سبتا إلى سبت، ثم ذكر بقية الآيات الخمسة، وهي: الجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
أمّا الطّوفان: فهو المطر الشّديد حتى عاموا فيه، وأمّا الجراد فأكل النّبات، وأما القمّل فلم يبق في أرضهم عودا أخضر. إلا أكلته، وأما الضّفادع فخرج من
(١) تفسير القرطبي: ٧/ ٢٢٦.
(٢) قال ابن الأثير: هكذا جاء في الحديث مقطوعا، ولم يذكر المستثنى، أي إلا وقد يعتريه التّطيّر، وتسبق إلى قلبه الكراهة، فحذف اختصارا واعتمادا على فهم السّامع.
وقوله: «ولكن الله يذهبه بالتّوكل»
: معناه أنه إذا خطر له عارض التّطيّر، فتوكل على الله وسلّم إليه، ولم يعمل بذلك الخاطر، غفره الله له ولم يؤاخذه به.
65
البحر مثل الليل الدّامس ووقع في الثّياب والأطعمة، فكان الرّجل منهم يسقط وعلى رأسه ذراع من الضّفادع، وأما الدّم فجرت أنهارهم دما، فلم يقدروا على الماء العذب. وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطّيّب.
فاشتكوا إلى موسى وفرعون، فقال فرعون لموسى: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ.. إلى آخر الآية الآتي بيانها.
وتلك الآيات البيّنات لا يخفي على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره. ومع ذلك استكبروا عن عباده الله وعن الإيمان به وكانوا قوما مجرمين أي مصرّين على الجرم والذّنب.
واختلف العلماء في قتل الجراد إذا حلّ بأرض فأفسد، فقيل: لا يقتل، وقال أكثر الفقهاء: يقتل.
احتجّ الأوّلون: بأنه خلق عظيم من خلق الله، يأكل من رزق الله ولا يجري عليه القلم، أي لا تبعة عليه،
وبما روى الطبراني والبيهقي عن أبي زهير، وهو ضعيف: «لا تقتلوا الجراد فإنه من جند الله الأعظم».
واحتجّ الجمهور: بأن في ترك الجراد فساد الأموال، وقد رخّص النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم بقتال المسلم إذا أراد أخذ ماله، فالجراد إذا أرادت فساد الأموال، كانت أولى أن يجوز قتلها.
وروى ابن ماجه عن جابر وأنس بن مالك أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان إذ دعا على الجراد قال: «اللهم أهلك كباره، واقتل صغاره، وأفسد بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء»، قال رجل:
يا رسول الله، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ قال: «إن الجراد نثرة «١» الحوت في البحر».
(١) النّثرة: شبه العطسة.
66
وأما أكله فجائز في السّنّة، ثبت
في صحيح مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم سبع غزوات، كنّا نأكل الجراد معه.
وأكله جائز باتّفاق الأمة، وأنه إذا أخذ حيّا وقطعت رأسه أنه حلال بالاتّفاق، وذلك بمنزلة الذّكاة (الذّبح). واختلفوا هل يحتاج إلى اصطياد؟ فقال الجمهور: لا يحتاج إلى ذلك، ويؤكل كيفما مات، كالحيتان،
لما روى الدارقطني عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «أحلّ لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطّحال».
وذهب مالك إلى أنه لا بدّ للجراد من سبب يموت به، كقطع رؤوسه أو أرجله أو أجنحته إذا مات من ذلك، أو يطرح في النّار، لأنه عنده من حيوان البرّ، فميتته محرّمة.
وأما الضّفادع فلا تؤكل إلا في مذهب مالك.
اللجوء إلى موسى لرفع العذاب ونقض العهد وإغراق فرعون وقومه
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٤ الى ١٣٦]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)
67
الإعراب:
بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ما: مصدرية، والمعنى: بعهده عندك، وهو النبوة، والباء إما أن تتعلق بقوله: ادْعُ لَنا أي أسعفنا بالدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة، وإما أن يكون قسما جوابه: لَنُؤْمِنَنَّ أي أقسمنا بعهد الله عندك لنؤمنن لَئِنْ اللام لام القسم.
إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ: هم بالغوه: جملة اسمية في موضع جر صفة أَجَلٍ.
إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب فَلَمَّا كَشَفْنا.
المفردات اللغوية:
الرِّجْزُ العذاب الشديد الذي يضطرب له الناس في شؤونهم. بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي من كشف العذاب عنا إن آمنا، والعهد: النبوة والرسالة، وكشف العذاب من إكرام الله لنبيه.
فَلَمَّا كَشَفْنا بدعاء موسى العذاب عنهم لأجل مؤقت. يَنْكُثُونَ ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم. الْيَمِّ البحر المالح. بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم. غافِلِينَ متجاهلين لها لا يتدبرونها.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل التاسع من فصول قصة موسى مع فرعون، وهو أنه لما نزلت آيات العذاب المتقدمة على فرعون وجماعته الكافرين، اضطربوا وتضايقوا، وطلبوا من موسى عليه السّلام أن يرفع الله عنهم العذاب، وعاهدوه على الإيمان برسالته إن فعل، فلما دعا موسى ربه، فكشف عنهم، نقضوا العهد، كل مرة طلبوا فيها ذلك، حتى استأصلهم الله بالإغراق في البحر.
والمعنى: ولما نزل العذاب الشديد بجماعة فرعون واضطربوا واشتد فزعهم، طلبوا من موسى أن يدعو ربه بسبب ما عهد عنده من النبوة والرسالة والكرامة والمحبة أن يكشف عنهم ما نزل بهم، وأقسموا له: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا ذلك العذاب لنصدقن برسالتك، ونؤمننّ بما جئت به من عند ربك، ولنرسلن معك بني إسرائيل إلى أرض الميعاد: فلسطين، كما طلبت منا، ليعبدوا ربهم كما شاؤوا.
68
فلما رفع الله عنهم العقاب وكشف العذاب، مرة بعد أخرى، إلى أجل محدود منتهون إليه حتما، فمعذبون فيه، وهو الغرق، إذا هم ينقضون العهد ويخنثون في كل مرة. أي أنا لم نزل عنهم العذاب مطلقا، بل إنما أزلنا عنهم العذاب إلى أجل معين، وعند حلول ذلك الأجل لا نرفع عنهم العذاب، بل نهلكهم به. والدليل أنهم بادروا بعدئذ إلى النكث بالعهد.
وقد روي أنهم كانوا يمكثون في العذاب الواحد من الطوفان والجراد والقمل والضفادع، وصيرورة مياههم دما فاسدا أسبوعا، ثم يطلبون من موسى الدعاء برفعه، ويعدونه بالإيمان بالله تعالى، ثم ينقضون العهد.
ولما كشف عنهم العذاب من قبل مرات وكرات، ولم يمتنعوا عن كفرهم وجهلهم، ثم حان الأجل المؤقت، انتقم الله منهم، بأن أهلكهم بالغرق، بسبب تكذيبهم بآيات الله التي نزلت عليهم كلها، وكانوا غافلين عما يتبعها من العذاب في الدنيا والآخرة. والمراد بالغفلة هنا: الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها، فهم أعرضوا عنها، حتى صاروا كالغافلين عنها.
أغرق الله الكافرين منهم ونجّى المؤمنين الذين كانوا يكتمون إيمانهم، أغرقهم في اليم وهو البحر الذي فرقه لموسى، فجاوزه وبنو إسرائيل معه، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم، فلما أصبحوا في وسط البحر، أطبقه الله عليهم، فغرقوا عن آخرهم بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أمور أربعة:
١- اللجوء إلى موسى عند الشدة والضيق بدافع نداء الإيمان الفطري، وهذا شأن الناس غالبا لا يجدون في وقت المحنة غير الله ملجأ وملاذا.
69
٢- سمة جماعة فرعون: تكرار نقض العهود وخلف الوعود، وتمرير المصالح إلى وقت محدود.
٣- كان الجزاء المحتم لقوم فرعون هو عذاب الاستئصال بالإغراق في البحر.
٤- الواجب في الآيات النظر فيها وتدبرها والتأمل بأسبابها ونتائجها، ولذلك ذمهم بأن غفلوا عنها، وذلك يدل على أن التقليد طريق مذموم.
وراثة بني إسرائيل أرض مصر والشام بعد الفراعنة والعمالقة
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٧]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)
الإعراب:
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا: منصوب إما على أنه مفعول به لأورثنا، أي جعلنا ملوك الشام ومصر، وإما على الظرف، والعامل: يُسْتَضْعَفُونَ. الَّتِي بارَكْنا فِيها: الَّتِي إما في موضع نصب على الوصف لمشارق الأرض ومغاربها، وإما في موضع جر على الوصف للأرض.
والضمير في فِيها: إما أن يعود إلى مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا، وإما أن يعود إلى الْأَرْضِ وتقديره: مشارق الأرض التي باركنا فيها ومغاربها. ففصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف على المضاف إلى الموصوف، وهذا جائز لغة، كقولك: أكرمت صاحب زيد وجاريته العاقل.
ما كانَ يَصْنَعُ اسم كانَ مضمر فيها، وهو يعود على بِما: ويَصْنَعُ:
خبرها، والهاء منه محذوفة، وتقديره: يصنعه، وهو عائد على اسم كانَ الضمير العائد على:
70
بِما. وقيل: إن كانَ زائدة، وتقديره: ودمّرنا ما يصنع فرعون، وقد جاء زيادة: كان في كلامهم، فقالوا: زيد كان قائم، أي زيد قائم.
البلاغة:
ما كانَ يَصْنَعُ ووَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ: عدل فيهما عن الماضي إلى المضارع لاستحضار الصورة في ذهن المخاطب، والأصل: ما صنعوا وما عرشوا.
المفردات اللغوية:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ هم بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه.
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا المراد جميع نواحيها أو جهاتها، والمراد بالأرض: أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا كيف شاؤوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية. بارَكْنا فِيها بالماء والشجر والخصب وسعة الأرزاق، وهي صفة للأرض.
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي وصلت إلى آخر الحد، والمعنى: مضت عليهم واستمرت، من قولك: تم على الأمر: إذا مضى عليه، وكلمة الله: هي وعده لبني إسرائيل بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض، في قوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الأعراف ٧/ ١٢٩] وقوله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص ٢٨/ ٥].
بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على أذى عدوهم. وَدَمَّرْنا أهلكنا وخربنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ: ما كانوا يعملون ويبنون من العمارات والقصور. وَما كانُوا يَعْرِشُونَ ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره، أو ما يرفعون من السقائف والمباني للنبات والشجر المتسلق، كعرائش العنب، ومنه: عرش الملك.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل العاشر من قصة موسى مع فرعون، فبعد أن بيّن الله تعالى جزاء فرعون وملئه من أهل مصر على تكذيبهم بموسى، بالرغم من توالي الآيات الدالة على صدقه، وهو جزاء الظالمين، أبان تعالى جزاء المؤمنين الصابرين من بني إسرائيل، إذ أصبحوا ملوك مصر والشام بعد الفراعنة والعمالقة.
71
والمعنى: وأورثنا القوم المستضعفين من بني إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم وتعذيبهم واستخدامهم وأخذ الجزية منهم، أورثناهم أرض مصر والشام التي باركنا فيها بالخصب والنماء، وسعة الأرزاق والخيرات، ووفرة الأنهار، تحقيقا لوعدنا السابق وهو: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص ٢٨/ ٥- ٦]. ومشارق الأرض ومغاربها: جهات الشرق والغرب بها، والمراد بالأرض: أرض مخصوصة، وهي أرض الشام ومصر لأنها هي التي كانت تحت سلطة فرعون، ولوصفها بالبركة، وذلك لا يليق إلا بأرض الشام، وقيل: المراد جنس الأرض لأن داود وسليمان من بني إسرائيل قد ملكا الأرض.
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى.. أي مضت واستمرت ونفذت كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل، بسبب صبرهم على أذى فرعون وملئه، وما كابدوه من الشدائد منهم، كما أمرهم موسى: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف ٧/ ١٢٨] وهكذا فإن الصبر مفتاح الفرج. والحسنى: صفة للكلمة، تأنيث الأحسن. وقيل: معنى تمام الكلمة الحسنى: إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض لأنه إذا حصل الموعود به، فقد تم لك الوعد وكمل.
تم وعد الله لهم حينما استقاموا، ثم سلبهم تلك الأرض بظلمهم لأنفسهم وللناس، ولم يصدر وعد آخر من الله بالعودة إلى الأراضي المقدسة مرة أخرى.
وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع، وما كانوا يقيمونه من العرائش والسقف في البساتين، أو يبنونه من القصور الشاهقة.
72
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات واردة على سبيل المقارنة والموازنة بين المؤمنين والكافرين، وجزاء كل منهم، فلما بيّن الله تعالى إهلاك قوم فرعون معه بالغرق على وجه العقوبة، بيّن ما فعله بالمؤمنين من الخيرات، وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم.
لقد أنقذ الله موسى وهارون وبني إسرائيل من ظلم فرعون وقومه، وكان عبورهم في البحر معجزة خارقة لموسى، إذ أوحى الله إليه بأن يضرب بعصاه البحر: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ، فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء ٢٦/ ٦٣].
وذلك لصموده مع أخيه في وجه الطاغية فرعون، أكبر ملك في أكبر دولة في الأرض، استعبدت شعب مصر عدة قرون، فما زالا يجادلانه بالحجج والبينات، حتى نصرهما الله، وهكذا فلا تستعظم قوة أي دولة كبري أمام قوة الحق، ويفعل الإيمان القوي في القلب المليء باليقين ما لا تفعله قوى الشر المتكاثرة، وهكذا يتصدى موسى وأخوه هارون لعدو الله، وقومهما أذلة مستضعفون، وفرعون مصر صاحب السلطة والمال والجند والأتباع، ثم ينتصر الضعفاء، ويتلاشى الأقوياء: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران ٣/ ١٣] إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق ٥٠/ ٣٧].
73
جحود بني إسرائيل نعم الله عليهم
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٨ الى ١٤١]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
الإعراب:
كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ما: اسم موصول بمعنى الذي، ولَهُمْ: صلته، والعائد الضمير في لَهُمْ. وآلِهَةٌ: مرفوع إما على أنه بدل من الضمير المرفوع في لَهُمْ، وإما على أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: هي الهة، وإما على أنه مرفوع ب لَهُمْ على تقدير: كما استقر لهم آلهة. ما كانُوا يَعْمَلُونَ: كانُوا: صلة زائدة.
أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً تقديره: أبغي لكم إلها غير الله، وغَيْرَ اللَّهِ: منصوب على الحال: لأن صفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصب على الحال.
البلاغة:
إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أتى بالمضارع بدل الماضي إشعارا بأن ذلك منهم بمثابة الطبع الملازم لهم، لا يتخلون عنه ولو في المستقبل.
المفردات اللغوية:
وَجاوَزْنا عبرنا، يقال: جاز الشيء وجاوره وتجاوزه: انتقل عنه فَأَتَوْا فمروا.
يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ يقيمون على عبادتها. والأصنام: جمع صنم، وهو ما يصنع من خشب أو حجر أو معدن مثالا لشيء حقيقي أو خيالي، بقصد تعظيمه تعظيم العبادة، وهو شرك. أما
74
التمثال: فلا بد أن يكون مثالا لشيء حقيقي، فإن عبد فهو صنم. وقد يتخذ التمثال للزينة كالمتخذ على جدران الأبنية أو في مداخل الجسور، وقد يكون التمثال لتذكر سيرة بعض القادة بقصد التعظيم غير الديني، كتماثيل بعض الزعماء والعلماء في الساحات العامة.
اجْعَلْ لَنا إِلهاً صنما نعبده. إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ حيث قابلتم نعمة الله عليكم بما قلتموه.
مُتَبَّرٌ هالك، والتتبير: الإهلاك والتدمير. وَباطِلٌ زائل لا بقاء له. أَبْغِيكُمْ إِلهاً مثل أبتغيكم: أي أطلب لكم.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنواع نعمه على بني إسرائيل، بأن أهلك عدوهم، وأورثهم أرضهم وديارهم، أتبع ذلك بالنعمة العظمى: وهي أن الله جاوز بهم البحر مع السلامة. وهذا تكملة الفصل العاشر من قصة موسى مع فرعون.
ثم ارتدوا وجهلوا وطلبوا من موسى عبادة الأصنام. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عما رآه من يهود المدينة، فقد فعلوا ما هو أعظم مع نبيهم موسى عليه السلام. وفي بيان ذلك تذكير للمؤمنين أن يشكروا نعمة الله، وألا يكونوا مثل بني إسرائيل.
التفسير والبيان:
أنقذ الله بني إسرائيل من كيد فرعون وملئه، فعبروا البحر آمنين بالسير في أرضه دون سفن، بعد أن أوحى الله لنبيه موسى بضرب البحر فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، ثم أغرق الله فرعون وقومه حينما لحقوا بهم، وفي وسط البحر أطبق عليهم الماء، كما وصف تعالى هذا الحادث العجيب بقوله: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء ٢٦/ ٦٣- ٦٧].
75
وبعد أن جاوز بنو إسرائيل البحر، وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا، وشاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده، وخصهم بالنجاة والسلامة، كانوا في غاية الجهالة والضلالة وجحود النعمة، إذ طلبوا من موسى اتخاذ إله من الأصنام، تأثرا بما رأوه من بعض العرب أو من غيرهم يعبدون الأصنام ويعظمونها ويلازمونها ويقبلون عليها، وتشبها بالمصريين الذين كانوا يعبدون التماثيل. وكأنهم لم يدركوا معنى التوحيد الذي دعاهم إليه موسى عليه السّلام.
أما القوم الذين رأوهم فهم من الكنعانيين (وهم الذين أمر موسى عليه السّلام بقتالهم) وقيل: كانوا من لخم. قال الطبري: وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر، فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعدئذ.
فقالوا: يا مُوسَى، اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، أي اجعل لنا صنما نعكف عليه ونلازمه، كَما لَهُمْ آلِهَةٌ أصنام يعكفون عليها، والمراد أنهم طلبوا منه أن يعين لهم أصناما. وهذا يدل على تأثرهم بالبيئة المصرية وحنينهم لها، وعلى نزعتهم المادية بتجسيد الإله في صورة معدن أو حجر.
فأجابهم موسى تعجبا من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى، فوصفهم بالجهل المطلق وأكده لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع، فإنهم جهلوا مقام التوحيد، وما يجب من إفراد الله بالعبادة بلا واسطة من إنسان أو مادة، جهلوا عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل.
واتخاذ الواسطة إلى الله بهذه الأصنام كفر فقد أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم،
76
ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام «١».
وهذه طريقة السذّج والجهلة، وقد حدث في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل ذلك،
روى أحمد والنسائي عن أبي واقد الليثي قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل حنين، فمررنا بسدرة، فقلت: يا رسول الله، اجعل لنا هذه ذات أنواط «٢»، كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها، فقال: الله أكبر، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، إنكم تركبون سنن من قبلكم».
وتتمة ردّ موسى: إن هؤلاء يعني عبدة تلك التماثيل مدمّر مكسّر ما هم فيه، وزائل ما كانوا يعملون من عبادتها فيما سلف، فكل ما عملوه مضمحل الأثر، لا ينتفعون به، بل يعاقبون عليه، وإن كان في زعمهم تقربا إلى الله، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣].
وفي عبارة القرآن: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ إشارة إلى أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك، وأن عملهم إلى زوال، وهذا بشارة بزوال عهد الوثنية من تلك الأرض.
ثم قال لهم موسى: أغير الله خالق السموات والأرض المنعم عليكم بهذه النعم أطلب لكم معبودا؟ وهو الذي فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، أي عالمي زمانهم بالتوحيد وهداية الدين وتجديد ملة إبراهيم عليه السلام.
ثمّ ذكّرهم موسى عليه السّلام نعم الله العظمى عليهم، من إنقاذهم من أسر
(١) تفسير الرازي: ١٤/ ٢٢٣.
(٢) كان للكفار سدرة أي شجرة السدر، يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها:
ذات أنواط.
77
فرعون وقهره وما كانوا فيه من الهوان والذلة، وما صاروا إليه من العزّة والسيادة وخلافة الملك والسلطان، والاشتفاء أو الانتقام من عدوهم والنظر إليه وقت هلاكه وغرقه ودماره، بعد أن كان يسومكم سوء العذاب، بتقتيل أبنائكم، وترك نسائكم أحياء، وتسخيركم للخدمة. وفي ذلكم المذكور من الإنجاء من فرعون وعمله، والإنعام عليكم بهذه النعم بلاء عظيم، أي أن النعمة أو المحنة اختبار مهم جدا، فأنتم أجدر الناس بعبادة ربكم الذي منحكم نعمة الحياة والإنقاذ والعزة، وأولى من غيركم بشكر تلك النعم الجليلة، وهل هناك عجب أشد من هذا العجب أن تطلبوا جعل آلهة مزيفة عاجزة خسيسة ضعيفة واسطة بينكم وبين الله الذي فضلكم عليها وعلى من يعبدونها.
والمراد بقوله: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ أي اذكروا ذلك الوقت، والقصد ذكر ما حصل فيه، حتى يشكروا الله عليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى: وَجاوَزْنا على جهالة بني إسرائيل بحقيقة التوحيد الذي جاء موسى عليه السّلام من أجل إرشادهم إليه، فقد طلبوا منه أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، وهذا تماما مشابه لفعل عبدة الأوثان حيث قالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر ٣٩/ ٣].
قال قتادة: كان أولئك القوم من لخم، وكانوا نزولا بالرّقة. وقيل: كانت أصنامهم تماثيل بقر ولهذا أخرج لهم السامري عجلا.
ونظيره قول جهال الأعراب في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى «ذات أنواط» «١» يعظمونها في كل سنة يوما: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط.
فقال عليه الصلاة والسلام- كما
(١) ينوطون بها سلاحهم، أي يعلقونه.
78
تقدم-: «الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً، كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، لتركبنّ سنن من قبلكم حذو القذّة «١» بالقذّة، حتى إنهم لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه»
وكان هذا في مخرجه إلى حنين.
وإن طلب إله آخر هو في غاية الجهل لأن المعبود المستحق للعبادة والتعظيم هو القادر على خلق الأجساد والحياة والقدرة والعقل، وخلق الأشياء المنتفع بها، ولا يقدر على ذلك غير الله تعالى، فلا تليق العبادة إلا به.
ودلت آية: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ على أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك، وأن عملهم إلى زوال، وأن عهد الوثنية من الأرض سينتهي، لمناقضته العقل والفطرة.
وقد ندد موسى عليه السّلام بطلب بني إسرائيل من نواح أربع:
أولها- أنه حكم عليهم بالجهل، فقال: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.
وثانيها- أنه قال: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ أي سبب للخسران والهلاك.
وثالثها- أنه قال: وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي هذا العمل الشاق لا يفيدهم نفعا في الدنيا والدين.
ورابعها- التعجب منهم على وجه يوجب الإنكار والتوبيخ فقال: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي أن الإله ليس شيئا يطلب ويلتمس ويتخذ، بل الإله هو الله الذي يكون قادرا على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة
(١) القذّة: ريش السهم، قال ابن الأثير: يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان.
79
وجميع النعم، وهو المراد من قوله: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي على عالمي زمانهم.
ومن المعروف أن بني إسرائيل يجحدون نعم الإله عليهم، فالله أنعم عليهم بتفضيلهم على عالمي زمانهم، وهي نعمة عظيمة، فكيف يليق بهم الاشتغال بعبادة غير الله تعالى؟! وأنعم عليهم بالعزة بعد الذلة، وبالسلطان والحكم والخلافة في الأرض بعد العبودية والاستعمار والتبعة، وبالنجاة من ظلم فرعون الذي كان يقتل أبناءهم ويبقي نساءهم أحياء. والخطاب وإن كان ليهود عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو تذكير لهم بإنجاء أسلافهم.
مناجاة موسى لربه أو مكالمة موسى ربه وطلبه رؤية الله وإنزال التوراة عليه
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٥]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)
80
الإعراب:
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً أي تمام ثلاثين ليلة، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وهو في موضع المفعول الثاني لواعدنا. ولا يجوز أن يكون ثَلاثِينَ منصوبا على الظرف لأن الوعد لم يكن في الثلاثين.
وأَرْبَعِينَ لَيْلَةً: حال، كأنه قال: فتم ميقات ربه معدودا أربعين ليلة، وليلة:
تمييز.
وهارُونَ مجرور على البدل من لِأَخِيهِ أو على عطف البيان.
جَعَلَهُ دَكًّا إما منصوب على المصدر من: دككت الأرض دكّا، إذا جعلتها مستوية.
وإما أن يكون منصوبا على المفعول، وفيه حذف مضاف لأن الفعل الذي قبله ليس من لفظه وهو «جعل» وتقديره: فجعله ذا دكّ، أي ذا استواء.
لِكُلِّ شَيْءٍ بدل من الجار والمجرور قبله وهو مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
البلاغة:
سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ فيه التفات من الغيبة أي (سأريهم) إلى الخطاب، للمبالغة في الحض على انتهاج طريق الصالحين.
المفردات اللغوية:
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً أي وعدناه بأن نكلمه عند انتهائها، وبعد أن يصومها، وهي ذو القعدة، فصامها، فلما تمت أنكر خلوف- رائحة- فمه، فاستاك، فأمره الله بعشرة أخرى، ليكلمه، بسبب إزالة خلوف فمه وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذي الحجة. فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ وقت وعده بكلامه إياه، والميقات: ما قدر فيه عمل من الأعمال، كمواقيت الصلاة والصوم والحج. أما
81
الوقت: فهو وقت للشيء قدر فيه عمل أو لم يقدر. وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ عند ذهابه للجبل للمناجاة اخْلُفْنِي كن خليفتي وَأَصْلِحْ أمرهم وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ بموافقتهم على المعاصي.
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي للوقت الذي وعدناه للكلام فيه وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة لَنْ تَرانِي لن تقدر على رؤيتي، والتعبير به دون (لن أرى) يفيد إمكان رؤيته تعالى.
فَإِنِ اسْتَقَرَّ ثبت فَسَوْفَ تَرانِي أي تثبت لرؤيتي، وإلا فلا طاقة لك فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ انكشف وظهر نوره، قدر نصف أنملة الخنصر، كما في حديث صححه الحاكم دَكًّا مدكوكا مستويا بالأرض صَعِقاً مصعوقا مغشيا عليه لهول ما رأى أَفاقَ عاد إليه رشده وعقله وفهمه سُبْحانَكَ تنزيها لك تُبْتُ إِلَيْكَ من سؤال ما لم أؤمر به أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ في زماني.
اصْطَفَيْتُكَ اخترتك عَلَى النَّاسِ أهل زمانك وَبِكَلامِي أي تكليمي إياك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ من الفضل وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لأنعمي الْأَلْواحِ أي ألواح التوراة، وكانت سبعة أو عشرة، وهي من سدر الجنة، أو زبرجد أو زمرّد مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدين وَتَفْصِيلًا تبيينا بِقُوَّةٍ أي يجد وعزيمة واجتهاد سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ فرعون وأتباعه، وهي مصر، لتعتبروا بها.
المناسبة:
بعد أن عدد الله تعالى طائفة من النعم على بني إسرائيل، كإنجائهم من عبودية فرعون، وجعلهم أمة مستقلة، ذكر هنا كيفية نزول التوراة على موسى، التي هي دستور حياتهم، وتبيان شريعتهم والأحكام التي أمر ربهم بها.
وسبب الآيات: هو ما روي أن موسى عليه السّلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر: إن أهلك الله عدوهم، أتاهم بكتاب من عند الله، فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فهذه الآيات في بيان كيفية نزول التوراة «١».
(١) تفسير الرازي: ١٤/ ٢٢٦.
82
وموضوع الآيات: تحديد موعد لموسى لمكالمة ربه، واستخلاف هارون على بني إسرائيل في غياب موسى، وطلب موسى رؤية الله عز وجل، وإنزال التوراة المتضمنة أصول الشريعة.
التفسير والبيان:
امتن الله على بني إسرائيل بما ظفروا به من الهداية، بتكليمه موسى عليه السلام، وإعطائه التوراة وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم.
والمعنى: وعد الله تعالى موسى مكالمته، في تمام ثلاثين ليلة، وأمره بصومها، فصامها، وهي شهر ذي القعدة، فلما تمت أنكر موسى رائحة فمه، فاستاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل صيام عشرة أيام أخرى من ذي الحجة، وأن يلقى الله صائما، فأصبح موعد اللقاء في تمام أربعين ليلة، ذكرت في سورة البقرة مجملة، وفصلت هنا.
وإنما قال: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إزالة لتوهم أن ذلك العشر من الثلاثين: لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين، كأنه كان عشرين، ثم أتمه بعشر، فصار ثلاثين، فأزال هذا الإيهام «١».
روي عن أبي العالية أنه قال في بيان زمان الموعد: يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة، فمكث على الطور ليلة، وأنزل عليه التوراة في الألواح، فقرّبه الرب نجيا، وكلمه وسمع صريف القلم.
قال ابن كثير: فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر، وحصل فيه التكليم لموسى عليه السلام، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى:
(١) تفسير الرازي: ١٤/ ٢٢٦، أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٣٤.
83
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة ٥/ ٣] «١».
وقال موسى حين أراد الذهاب إلى الطور لميقات ربه لأخيه هارون الأكبر منه سنا: كن خليفتي في القوم مدة غيابي، وأصلح أمر دينهم، ولا تتبع سبيل أهل الفساد والضلال، وهو يشمل مشاركتهم في أعمالهم الفاسدة. وهذا تنبيه وتذكير وتأكيد، وإلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على الله.
وكان هارون وزيرا لموسى بسؤاله ربه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه ٢٠/ ٢٩- ٣٢]. وكانت الرياسة في بني إسرائيل لموسى عليه السلام.
ولما جاء موسى لميقات الله تعالى المحدد له للكلام مع ربه وإعطائه الشريعة، وكلمه ربه بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة وسمعه السبعون المختارون للميقات، رغب في الجمع بين فضيلتي الكلام والرؤية، فقال: أرني ذاتك المقدسة، وقوّني على النظر إليك، فقال الله له: لن تراني الآن ولا في المستقبل في الدنيا إذ ليس لبشر القدرة على النظر إلى في الدنيا،
لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه- أنواره- ما انتهى إليه بصره من خلقه».
ثم أبان له أنه لا يطيق الرؤية فقال مستدركا: ولكن انظر إلى الجبل، فإن ثبت مكانه عند التجلي الأعظم عليه، فسوف تراني. وإذا كان الجبل في قوته وثباته لم يستطع أن يثبت، فكيف أنت يا موسى؟
فلما تجلى ربه للجبل، وما تجلى منه إلا قدر الخنصر، جعله ترابا مدكوكا، وخرّ- سقط- موسى مغشيا عليه.
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٤٣.
84
فلما أفاق من إغماءته وغشيانه أو صعقته، قال: سبحانك، أي تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراك أحد في الدنيا إلا مات.
إني تبت إليك من طلب الرؤية أي أن أسألك الرؤية، وأنا أول المؤمنين في زماني من بني إسرائيل بعظمتك وجلالك، وفي رواية عن ابن عباس: وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة.
ثم طيب الله خاطره وأبان له مكانته، فقال له: يا موسى إني اخترتك على ناس زمانك وآثرتك عليهم بتكليمي إياك وبإعطائك رسالاتي المتنوعة، فخذ ما أعطيتك من الشريعة وهي التوراة، وكن من جماعة الشاكرين نعمي، المظهرين لإحساني إليك وفضلي عليك.
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ الموعظة: تشمل كل ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة من المعصية، والتفصيل: بيان أقسام الأحكام، أي وأعطيناه ألواحا كتبنا له فيها أنواع الهداية والمواعظ المؤثرة، والأحكام المفصلة المبينة للحلال والحرام وأصول العقيدة والآداب، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة، وهي أول ما أوتيه من التشريع.
فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي فقلنا له: خذها عطفا على كَتَبْنا أي فخذها بقوة وجد وعزيمة، أي وعزم على الطاعة ونية صادقة، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها، أي يعملوا بالأوامر ويتركوا النواهي، ويتدبروا الأمثال والمواعظ.
ومعنى بِأَحْسَنِها أي بحسنها وكلها حسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر، فليأخذوا بما فيه الحسن والصواب، كقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر ٣٩/ ٥٥].
سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، وكيف يصير إلى الهلاك والدمار.
85
قيل: أراد بها مصر، أي سأريكم ديار القبط ومساكن فرعون خالية منهم.
وقال قتادة: سأريكم منازل الكفار التي سكنوها قبلكم من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها يعني الشام وأهل الشام، أي منازل عاد وثمود والشعوب التي أهلكها الله بسبب الفسق، وتمرون عليها في أسفاركم. قال ابن كثير: وهذا هو الأولى لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه.
وإذا كان المراد مصر فإن الله تعالى لما أغرق فرعون، أوحى إلى البحر أن اقذف بأجسادهم إلى الساحل، ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل، فأراهم هلاك الفاسقين. وهذا رأي أكثر المفسرين.
قال ابن جرير الطبري: وإنما قال: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ كما يقول القائل لمن يخاطبه: سأريك غدا إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره. أي أن في آية سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ وجهين: إما التهديد الوعيد على مخالفة أمر الله تعالى، وإما الاعتبار بمن أهلكهم الله، وهم إما فرعون وجنوده، وإما منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- تعظيما لشأن الميقات أو الموعد بتكليم الله أمر الله موسى أن يصوم ثلاثين يوما وأن يعمل فيها ما يقربه إلى الله تعالى، ثم أنزلت التوراة عليه في العشر البواقي في رأي، أو أنه أزال خلوف فمه بنهاية صوم الثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة في رأي الكثيرين، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة. فهذا هو فائدة تفصيل الأربعين إلى الثلاثين وإلى العشرة.
86
٢- إنه تعالى كلّم موسى عليه السلام، وكلام الله تعالى في قول أكثر أهل السنة والجماعة صفة أزلية قديمة، مغايرة للحروف والأصوات، فليس كلام الله حرفا ولا صوتا، وقد سمع موسى عليه السلام تلك الصفة الحقيقية الأزلية التي ليست بحرف ولا صوت، وإلا كان كلامه محدثا.
٣- قد سمع السبعون المختارون للميقات أيضا كلام الله تعالى لأن الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك، وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكلام، ثم إن حادثة التكليم معجزة لموسى، فلا بد من اطلاع غيره عليها.
٤- أنزل الله تعالى على موسى في هذه المكالمة الألواح وفيها التوراة المشتملة على أصول العقيدة والأخلاق والآداب والشريعة والأحكام المفصلة المبينة للحلال والحرام، عن مقاتل: كتب في الألواح: «إني أنا الله الرحمن الرحيم، لا تشركوا بي شيئا، ولا تقطعوا السبيل، ولا تحلفوا باسمي كاذبين، فإن من حلف باسمي كاذبا، فلا أزكيه، ولا تقتلوا، ولا تزنوا، ولا تعقّوا الوالدين».
٥- يجب تلقي الشريعة بحزم وجد وعزم على الطاعة وتنفيذ ما ورد فيها من الصلاح والإصلاح ومنع الفساد والإفساد، وتكوين الأمة تكوينا جديدا.
والأخذ بأحسن ما في التوراة وكل ما فيها حسن وهو الأخذ بالفرائض والنوافل، دون المباح الذي لا حمد فيه ولا ثواب «١».
٦- اعتز شعب إسرائيل حين أقام شريعته، فلما غلب عليه الغرور، وظن أنه شعب الله المختار، وظلم وفسق، سلط الله عليه البابليين، فأزالوا ملكه، ثم تاب فعاد إليه بعض ملكه، ثم ظلم وأفسد، فسلط عليه النصارى، فهزموه وشتتوه.
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٣٥. [.....]
87
وكذلك المسلمون لما عصوا كتاب ربهم وأهملوه، سلط الله عليهم الأعداء من كل جانب، فأفسدوا أفكارهم وعقيدتهم وأخلاقهم، وأوقعوا الشقاق والنزاع بينهم.
والخلاصة: أن الأمة تكون عزيزة الجانب مرهوبة ما دامت متمسكة بدينها، فإذا أهملته انهارت وضاعت ولا يغترن أحد بدول أوربا وأمريكا وروسيا واليهود، فإن ذلك لأجل محدود، ولحكمة يعلمها الله تعالى.
٧- الآراء في رؤية الله عز وجل: استدل المعتزلة بهذه الآية: لَنْ تَرانِي وبقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام ٦/ ١٠٣] على نفي رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة، وما كان طلب موسى عليه السلام الرؤية إلا تبكيت السفهاء الذين طلبوا الرؤية، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله بامتناع ذلك.
وأثبت أهل السنة إمكان رؤية الله في الآخرة، بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة ٧٥/ ٢٢- ٢٣] وبالأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها:
ما أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة عن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته... »
ومنها ما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»
وهي المعبر عنها بقولهم: إنها رؤية بلا كيف.
أما الآية هنا: لَنْ تَرانِي فتدل على أنه تعالى جائز الرؤية لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أرى ولأنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز وهو استقرار الجبل، وما علق على جائز الوجود فهو جائز ولأن موسى عليه
88
السلام سأل الرؤية، ولا يسأل إلا الجائز، فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها، وحيث سألها، علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى.
ثم إن التجلي في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا هو إما ظهور بالرؤية أو الدلالة، وبما أن الرؤية غير مقدورة للإنسان، فكان المراد ظهور آياته التي أحدثها لحاضري الجبل، أي أن المقصود تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى، بدليل أن الجبل مع عظمته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه.
وفي نهاية الحادثة تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية، وكأنه قال له:
إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا، فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية. وهذا أيضا يدل على أن الرؤية جائزة على الله تعالى «١».
عقوبة التكبر والكفر بصرف المتكبرين عن فهم أدلة العظمة الإلهية
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٧]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
(١) تفسير الرازي: ١٤/ ٢٢٩- ٢٣٥، أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٣٤- ٣٥.
89
الإعراب:
بِغَيْرِ الْحَقِّ فيه وجهان: أن يكون حالا، بمعنى يتكبرون غير محقين لأن التكبر بالحق لله وحده، وأن يكون صلة لفعل التكبر، أي يتكبرون بما ليس بحق.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ ذلِكَ: في محل الرفع مبتدأ، على معنى: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم أو في محل النصب، على معنى: صرفهم الله ذلك الصرف بسببه.
وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به، أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها، أو من إضافة المصدر إلى الظرف، بمعنى ولقاء ما وعد الله في الآخرة.
المفردات اللغوية:
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم، ومنعهم فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي، فلا يفكرون فيها، ويتكبرون عن طاعتي. وآياتي: دلائل قدرتي من المصنوعات وغيرها يَتَكَبَّرُونَ أي يتكبرون عن طاعتي، ويتكبرون على الناس بغير حق. والتكبر: غمط الحق بعدم الخضوع له، مع احتقار الناس غالبا. وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ طريق الرُّشْدِ الهدى الذي جاء من عند الله، والصلاح والاستقامة، وضده الغي والسفه، والرّشد والرّشد في اللغة: أن يظفر الإنسان بما يريد، وهو ضد الخيبة.
الغَيِّ الضلال ذلِكَ الصرف كَذَّبُوا بِآياتِنا أي الآيات المنزلة من عندنا المشتملة على الهدى وتزكية النفوس. فالآيات هنا غير الآيات الأولى التي هي الدلائل والبينات.
وَلِقاءِ الْآخِرَةِ البعث وغيره حَبِطَتْ بطلت أَعْمالُهُمْ ما عملوه في الدنيا من خير كصلة رحم وصدقة، فلا ثواب لهم لانعدام شرط القبول وهو الإيمان.
هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ما يجزون إلا جزاء عملهم من التكذيب والمعاصي.
المناسبة:
هذه الآيات تتحدث عن طبائع المتكبرين القدامى والمعاصرين، فبعد أن بيّن الله تعالى ما لحق بفرعون وقومه من الهلاك بسبب استكباره وظلمه، ذكر أن امتناع قريش عن الإيمان إنما هو بسبب التكبر أيضا، وهذا يدل على أن منشأ
90
الإعراض عن الإيمان والإصرار عن الكفر هو التكبر، والكبر يصرف الإنسان عادة عن النظر في الحق ويؤدي إلى التكذيب به، ويجعل المتكبر غافلا عن آيات الله الدالة عليه.
التفسير والبيان:
سأمنع قلوب المتكبرين عن طاعتي والمتكبرين على الناس بغير حق من فهم الدلائل الدالة على عظمتي وشريعتي، كما قال تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف ٦١/ ٥]. والمراد بآياتي هنا: الأدلة والبينات.
وهذا خطاب شامل كل أمة وفرد، مثل فرعون وقومه الذين منعهم الله من فهم آيات موسى، وقد يفهمون بعض الآيات ويجحدونها غرورا وتعاليا وتكبرا مثل قوم فرعون الذين قال الله فيهم: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل ٢٧/ ١٤] ومثل كفار قريش الذين حجبهم الكبر عن النظر في الآيات مع يقينهم بصدق محمد.
هؤلاء المتكبرون من صفاتهم أولا- أنهم لا يؤمنون بأي آية تدل على الحق وتثبته إذ لا تفيد الآيات إلا من كان مستعدا للفهم وقبول الحق، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس ١٠/ ٩٦- ٩٧].
وثانيا- أنهم يبتعدون عن طريق الهدى والرشاد، وهي الطريق الممهدة المؤدية إلى النجاة، فإذا رأى أحدهم هذه السبيل لا يسلكها ويسلك غيرها، وهذا عن تعمد وعناد، وقد يكون بعضهم عن جهل، وحكم الفريقين واحد.
وثالثا- أنهم إذا ظهر لهم سبيل الغي والضلال والفساد، بادروا إليه مسرعين، بما تزينه لهم أهواؤهم ونفوسهم الأمارة بالسوء، وهذا سلوك شر مما سبقه.
91
ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بعلة ثابتة وهي تكذيبهم بآيات الله المنزلة على رسله، وغفلتهم عن النظر بما فيها، وإعراضهم عن العمل بها.
ومجمل حال هؤلاء المتكبرين أن الله لم يخلقهم مطبوعين على الكفر والضلال، ولم يجبرهم عليه، بل حدث ذلك باختيارهم إذ أنهم كذبوا بالآيات، وانغمسوا بأهوائهم وشهواتهم في بؤر الضلال والانحراف، وحجبوا أفهامهم عن إدراك الحق والهدى وسلوك سبيل السعادة والنجاة، فهم كما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف ٧/ ١٧٩].
ثم أوضح الله تعالى مآل ما قد يعملونه من أعمال خيّرة في الدنيا: وهو إحباطها وإبطالها وتلاشي آثارها، وعدم ترتيب الثواب عليها، فقال: والذين كذبوا بآياتنا المنزلة على رسلنا، ولم يؤمنوا بها، ولم يصدقوا بالآخرة والبعث وما فيه من جزاء على الأعمال ثوابا على الخير وعقابا على الشر، واستمروا على وضعهم هذا إلى الممات، بطلت أعمالهم، وذهبت سدى، لفقد شرط القبول وهو الإيمان، ولأن من سنته تعالى جعل الجزاء في الآخرة بحسب أعمالهم التي أسلفوها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وكما تدين تدان.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه أحوال المتكبرين عن طاعة الله وعلى الناس، الظانين أنهم أفضل الخلق، وهو ظن باطل، لقوله تعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ فلا يتبعون نبيا، ولا يصغون إليه لتكبرهم.
يصرفهم الله تعالى عن التفكير في آيات الله الدالة على عظمته وشريعته
92
وأحكامه، بالطبع على قلوبهم، وإلقاء الغفلة على نفوسهم، وشغلهم بأهوائهم وشهواتهم، وهم في تركهم تدبر الحق كالغافلين عنه.
إنهم يمنعون في معاداة الأنبياء، ويكذبون بالآيات المنزلة على الرسل، وينكرون وجود الآخرة، ولا يصدقون بكل آية، ويتركون طريق الرشاد، ويتبعون سبيل الغي والضلال، أي يتخذون الكفر دينا.
واحتج أهل السنة بآية سَأَصْرِفُ على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه.
وقالت المعتزلة: لا يمكن حمل الآية على ذلك، فليس المراد منها صرفهم عن الإيمان بآيات الله ولا خلق الكفر فيهم لأن قوله: سَأَصْرِفُ يتناول المستقبل، والكفر حدث منهم في الماضي، مما يدل على أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر بالله، وإنما المراد العقوبة على التكبر والكفر.
ولأنه لو صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه، فكيف يمكن أن يقول مع ذلك:
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا؟ [الانشقاق ٨٤/ ٢٠، المدثر ٧٤/ ٤٩، الإسراء ١٧/ ٩٤] «١».
ودل قوله تعالى: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ على أن الجزاء من جنس العمل، فمن آمن وعمل الصالحات فله الجنة، ومن كفر وعمل السيئات فله النار.
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ٢- ٣.
93
قصة اتخاذ السامري العجل
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٨ الى ١٤٩]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩)
الإعراب:
مِنْ حُلِيِّهِمْ جار ومجرور متعلق بفعل وَاتَّخَذَ والحلي: جمع حلي، وأصله حلوي على فعول، نحو فلس وفلوس، فاجتمعت الواو والياء، والسابق منهما ساكن، فقلبوا الواو ياء، وجعلوهما ياء مشددة. ومفعول (اتخذ) الثاني محذوف أي إلها.
البلاغة:
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ كناية عن شدة الندم لأن النادم يعض على يده عادة ألما وحزنا.
قال في (تاج العروس) : هذا نظم لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب. وذكرت اليد لأن الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر فيها بالعضّ أو بالضرب بها على اليد الأخرى، كما قال سبحانه في النادم: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها [الكهف ١٨/ ٤٢].
المفردات اللغوية:
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي بعد ذهابه إلى جبل الطور للمناجاة مِنْ حُلِيِّهِمْ حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم لعرس فبقي عندهم، والحلي: ما يتخذ للحلية من ذهب أو فضة عِجْلًا صنع لهم السامري عجلا من الحلي بعد إذابته، والعجل: ولد البقرة كالمهر لولد الفرس، والحوار لولد الناقة جَسَداً جسما لَهُ خُوارٌ صوت يسمع، بوضع التراب الذي أخذه من حافر فرس جبريل في فمه. والخوار: صوت البقر كالرّغاء لصوت الإبل اتَّخَذُوهُ إلها وَكانُوا ظالِمِينَ باتخاذه.
94
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ندموا على عبادته وَرَأَوْا علموا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا بها بعد رجوع موسى.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة مناجاة موسى لربه وإنزال التوراة عليه، ذكر هنا ما حدث أثناء المناجاة من اتخاذ قومه على يد السامري عجلا مصوغا من الحلي (الذهب والفضة) تقليدا للمصريين في عهد الفراعنة الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان من شمس وغيرها، ثم عبدوه من دون الله.
وهذا هو الفصل الأول من قصة عبادة العجل.
التفسير والبيان:
اتخذ بنو إسرائيل بعد خروج موسى إلى جبل الطور، لمناجاة ربه، على حسب الموعد الذي وعده الله به، اتخذوا من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم، عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ، أي تمثالا بصورة العجل وصوته، ثم عبدوه.
وكان بقاء حلي القبط في أيدي بني إسرائيل بعد أن أغرق الله القبط، وأهلك قوم فرعون.
وقد جمع موسى السامري تلك الحلي، وكان رجلا مطاعا فيهم، وصاغ لهم عجلا، واتخذوه إلها لهم، ثم عبدوه. وإنما نسب إليهم جميعا لأنه عمل برأي جمهورهم، ولم ينكر عليه أحد، فصاروا مجمعين عليه، مريدين لاتخاذه، راضين به.
وكانوا قد سألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها يعبدونه، كما لغيرهم من المصريين والشعوب التي مروا بها في فلسطين آلهة.
واختلف المفسرون على قولين في هذا العجل، هل صار لحما ودما له خوار،
95
أو استمر على كونه من ذهب، إلا أنه يدخل فيه الهواء، فيصوت كالبقر «١» ؟.
قال جماعة مثل قتادة والحسن البصري بالرأي الأول: وهو أن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر راكبا فرسا، ما وطئ بها أرضا إلا حلّت فيها الحياة، واخضرّ نباتها، فأخذ كفا من أثرها، فألقاها في جوف ذلك العجل، فانقلب لحما ودما، وظهر منه الخوار مرة واحدة، فقال السامري: هذا إلهكم وإله موسى!.
وقال أكثر مفسري المعتزلة بالرأي الثاني: إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوّفا، ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص، وكان قد وضع ذلك التمثال على مهب الرياح، فكانت الريح تدخل في جوف الأنابيب، ويظهر منه صوت مخصوص يشبه خوار العجل.
ورأى آخرون أن ذلك الخوار كان تمويها يشبه عمل السحرة (الحواة) وذاك أنه جعل التمثال أجوف، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس، فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار، والناس يفعلون مثل هذا في النافورات التي تقذف المياه «٢».
ثم رد الله على اتخاذهم العجل إلها بقوله: أَلَمْ يَرَوْا.. أي ألم ينظروا أنه فاقد لمقومات الإله، فلا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير، ولا يهديهم سبيل السعادة، فهو تعالى ينكر عليهم ضلالهم وذهولهم عن خالق السموات والأرض أن عبدوا معه عجلا فاقدا صفة الإله الحق، وهي الكلام الذي يصدر عنه الهداية والإرشاد، وهذا كقوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً [طه ٢٠/ ٨٩] ولكن الجهل والعمى حجبهم عن إدراك الحقيقة،
روى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «حبّك
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٤٧.
(٢) تفسير الرازي: ١٥/ ٥ وما بعدها.
96
الشيء يعمي ويصمّ».
لذا قال تعالى مؤكدا ضلالهم: اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ أي إنهم اتخذوه إلها بلا دليل ولا برهان، بل عن جهل وتقليد لغيرهم، كالمصريين الذين يعبدون العجل: «أبيس» والأقوام العاكفين على عبادة الأصنام في فلسطين، فكانوا بذلك ظالمين لأنفسهم إذ عبدوا ما لا ينفعهم، وإنما يضرهم.
ولما عاد موسى من مناجاة ربه أو من الميقات، وكان قد أخبره الله تعالى، وهو على الطور، باتخاذ قومه عبادة العجل كما قال تعالى: قالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه ٢٠/ ٨٥] لما عاد، ندم بنو إسرائيل على ما فعلوا، وهذا هو معنى قوله: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ورأوا أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل، فتابوا واستغفروا ربهم، وقالوا: إن لم يرحمنا ربنا بقبول توبتنا، ومغفرة ذنبنا، لنكونن من الهالكين، ومن الذين خسروا سعادة الدنيا وهي الحرية والاستقلال في أرض الموعد، وخسروا سعادة الآخرة وهي الإقامة في جنات النعيم.
وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عز وجل.
فقه الحياة أو الأحكام:
يتبين من الآية أن بني إسرائيل يصعب عليهم الاستقرار على حال واحدة، وإن كانت هذه الحال من أسعد الأحوال، فهم قوم متناقضون، مترددون، متحيرون لا يدرون ماذا يفعلون، كثيرو الشكوى والضجر، قليلو الحمد والشكر على النعمة، نظرتهم أحيانا سطحية ساذجة، وتفكيرهم بدائي متأثر بالتقليد، والتقليد داء يسري في الأمة كما يسري في الفرد من حيث لا يشعر، أرادوا تقليد المصريين الذين عاشوا معهم في عبادة الأصنام والأوثان، وأكد حنينهم للوثنية ما وجدوه من عكوف على الأصنام عند الأقوام الذين سبقوهم في فلسطين.
ووجد موسى السامري رغبتهم باتخاذ العجل إلها، فصاغه لهم بذكائه من الحلي، ولكنهم لم يفكروا في جدارة العجل للألوهية، وظلموا أنفسهم إذ إن هذا
97
العجل لا يمكنه أن يكلمهم، ولا يمكنه أن يهديهم إلى الصواب والرشد، فهو إما جماد وإما حيوان عاجز، وفي الحالين فإنه لا يصلح للألوهية.
ثم تابوا وندموا على سوء فعلهم، واستغفروا ربهم، وطلبوا منه قبول التوبة والمغفرة على ذنبهم العظيم، وتأكدوا كونهم من الخاسرين إن لم يغفر الله لهم.
وهذا إقرار واضح بالعبودية، واعتراف بألوهية الإله الحق، وفي قراءة حمزة والكسائي: لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا معنى الاستغاثة والتضرع والابتهال في السؤال والدعاء. وفي ذلك أيضا دلالة على اعترافهم بعظيم الجرم الذي أقدموا عليه، وأنه لا ملجأ من الله في إقالة عثرتهم إلا إليه.
واحتج أهل السنة بآية: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ... على أن من لا يكون متكلما ولا هاديا إلى السبيل، لم يكن إلها لأن الإله هو الذي له الأمر والنهي، وذلك لا يحصل إلا إذا كان متكلما، فمن لا يكون متكلما لم يصح منه الأمر والنهي. وبما أن العجل عاجز عن الأمر والنهي لم يكن إلها.
وبمناسبة اتخاذ السامري العجل إلها لبني إسرائيل يذكر علماء التوحيد مقارنة لطيفة تدل على أن السعادة والشقاوة في علم الله من الأزل، فموسى بن عمران عليه السلام ربّاه فرعون، فكان مؤمنا بإلهام من الله تعالى، وموسى السامري ربّاه جبريل وكان في النهاية كافرا، وقال بعضهم:
إذا المرء لم يخلق سعيدا من الأزل... فقد خاب من ربّى وخاب المؤمّل
فموسى الذي ربّاه جبريل كافر... وموسى الذي رباه فرعون مرسل
وهذا لا يعني أن التربية والتوجيه لا أثر لهما، وإنما للبيئة كما هو معروف
في حديث «كلّ مولود يولد على الفطرة» «١»
تأثير كبير، وللتربية دور مهم جدا،
(١) رواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع.
98
فلولا المربي ما عرفت ربي، ولكن الإرادة الإلهية فوق كل شيء، والله غالب على أمره، ولله في خلقه شؤون، وله الحكمة العليا، وقد تجنح نفس الإنسان إلى السوء والفساد والانحراف، بالرغم من حسن التربية ورقابة المربي، كما نشاهد في بعض أولاد العلماء والصلحاء والأشراف.
غضب موسى وتعنيفه هارون لاتخاذ العجل إلها
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٠ الى ١٥١]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)
الإعراب:
ابْنَ أُمَّ أمّ: تقرأ بكسر الميم وفتحها، فمن كسر الميم فعلى الأصل لأن الأصل فيه:
أمّي، وتكون فتحة ابْنَ فتحة إعراب لأنه منادى مضاف.
ومن فتح الميم بنى ابن مع أم، وجعلهما بمنزلة اسم واحد، كخمسة عشر، وتكون فتحة ابْنَ فتحة بناء، وليست بإعراب.
المفردات اللغوية:
غَضْبانَ بسبب فعل قومه أَسِفاً شديد الحزن، ومن استعمال الأسف بمعنى الحزن قول يعقوب: وَقالَ: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يوسف ١٢/ ٨٤] وقد يستعمل الأسف بمعنى الغضب مثل: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف ٤٣/ ٥٥] قال أبو الدرداء: الأسف: أشد الغضب.
99
بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خروجي إلى ميقات ربي لمناجاته.
أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ استعجلتم، والعجلة: التقدم بالشيء قبل وقته أما السرعة فهي عمل الشيء في أول أوقاته وَأَلْقَى الْأَلْواحَ طرح ألواح التوراة غضبا لربه، فتكسرت وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعره بيمينه، ولحيته بشماله يَجُرُّهُ إِلَيْهِ غضبا على وجه المعاتبة لا على وجه الإهانة ابْنَ أُمَّ ذكر الأم أعطف لقلبه وَكادُوا قاربوا فَلا تُشْمِتْ تفرح، والشماتة: الفرح بالمصيبة، ولا تشمت بي الأعداء: بإهانتك إياي. وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بعبادة العجل في المؤاخذة.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة السامري باتخاذ العجل إلها لبني إسرائيل، ذكر أثر ذلك ووقعة على موسى إذ أنه في حال رجعته، كان غضبان أسفا، واشتد أساه وحزنه حين رأى الواقع المؤلم من ضلال قومه وغيهم، فبادر إلى تعنيف أخيه هارون بسبب عبادة قومه العجل، ولامه على سكوته على قومه. وهذا هو الفصل الثاني من قصة عبادة العجل.
التفسير والبيان:
أخبر الله موسى بفعل بني إسرائيل، وهو على الطور، بقوله: قالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً، قالَ: يا قَوْمِ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً، أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي [طه ٢٠/ ٨٥- ٨٦].
فكان موسى أثناء رجوعه من الميقات غضبان أسفا، أي ساخطا شديد الحزن والأسى، وقال لقومه: بئسما فعلتم من بعد غيبتي، وبئست الخلافة التي خلفتموها من بعد ذهابي إلى جبل الطور لمناجاة ربي، حيث عبدتم العجل واتبعتم السامري، وتركتم عبادة الله وتوحيده، وقد كنت أوضحت لكم عقيدة التوحيد، وغرست في قلوبكم تلك العقيدة، وطهرت نفوسكم من الشرك والوثنية، وحذرتكم من ضلال القوم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم من
100
تماثيل البقر. وكان موسى في ذلك كله شديد الشكيمة، قوي العزيمة، لقنهم التوحيد الخالص، وأنكر عليهم حين طلبوا منه أن يجعل لهم إلها كغيرهم.
وقال موسى: أعجلتم أمر ربكم؟ أي استعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له، وهو ما وعدكم من الأربعين، وذلك لأنهم قدروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين، فقد مات «١»، أي تعجلتم في الحكم علي. قال الزمخشري: المعنى: أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حافظين لعهده، وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم، فحدثتم أنفسكم بموتي، فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وروي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى [طه ٢٠/ ٨٨] إن موسى لن يرجع وأنه قد مات «٢».
وطرح موسى الألواح من يده، لما اعتراه من فرط الدهشة، وشدة الضجر عند استماعه حديث العجل، غضبا لله، وحمية لدينه، وكان في نفسه حديدا (ذا حدة) شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانبا، ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل من موسى.
وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها، وبقي منها سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء، وفيما بقي الهدى والرحمة.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يرحم الله موسى، ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده، فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح».
وأخذ بشعر رأس أخيه يجره إليه بذؤابته، لشدة ما استفزه من الأمر،
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ١١.
(٢) تفسير الكشاف: ١/ ٥٧٨.
101
وذهب بفطنته، وظنا بأخيه أنه قصر في خلافته، وفرط في كفّ القوم عن عبادة العجل، ومن حق الخليفة اتباع سيرة سلفه: قالَ: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه ٢٠/ ٩٢] أي أن تتبعني إلى جبل الطور.
ولقد كان موسى عليه السّلام معذورا فيما فعل فهو غضب للحق، فقد كان نبينا عليه الصلاة والسّلام لا يغضب لنفسه، فإذا انتهكت حرمات الله، كان أشد ما يكون غضبا لله.
فأجابه هارون قائلا: يا ابن أمي، لا تتعجل بلومي وتعنيفي واتهامي بالتقصير في واجبي نحو الله تعالى، فإني أنكرت عليهم، ونصحتهم، ولكن القوم استضعفوني فوجدوني فردا واحدا، ولم يلتفتوا إلى كلامي، بل قاربوا أن يقتلوني.
يا ابن أمي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ، أي لا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إلى، ولا تجعلني في حنقك علي، وعقوبتك لي قرينا لهم وصاحبا، أو ولا تعتقد أني واحد من زمرة الظالمين لأنفسهم، يعني الذين عبدوا العجل، مع براءتي منهم ومن ظلمهم.
ولما اعتذر إليه أخوه واستعطف قلبه قال موسى: رَبِّ اغْفِرْ لِي ما قد فرط مني من قول أو فعل فيهما غلظة وجفوة لأخي، واغفر لأخي ما قد فرط أثناء خلافته عني، من مؤاخذة القوم على ما ارتكبوه من جرم وإثم، وأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ الواسعة، فأنت أرحم الراحمين، أي اجعل رحمتك ملازمة لنا لا تفارقنا في الدنيا والآخرة.
دعا موسى بهذا الدعاء ليرضي أخاه، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه، فلا يشمتون به.
102
ودل ذلك على أن هارون كان دون موسى في شدة العزيمة وقوة الإرادة وأخذ الأمور بالحزم.
وأرشد اعتذار هارون أنه بريء من جريمة اتخاذ العجل إلها، وأنه لم يقصر في نصحهم والإنكار عليهم، وقد غفر الله له. وهذا مخالف لما في التوراة أن هارون هو الذي صنع العجل لهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
تختلف أحوال الناس وطبائعهم في سياسة الآخرين والاحتكاك بهم، فمنهم الحاد الطبع، السريع الانفعال كموسى عليه السّلام، الذي غضب للحق، وهو محق فيما فعل، ومتوقع منه كل ما فعل، ومنهم الهادي الطبع، اللين العريكة، الحليم مثل هارون عليه السّلام الذي لم يأل جهده في الإنكار على قومه، ولكنهم لم يرعووا لنصحه وهمّوا بقتله.
ولم يغضب موسى لخبر ربه غضبا مماثلا لما شاهده من الواقع المر لأنه ليس الخبر كالعيان، والشاهد يتألم ويتأثر عادة أكثر مما يتأثر به الغائب لأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.
وكل هذه أحوال نفسية فطرية، لا سلطان للإنسان عليها، ومن المعروف أن الأمور الجبليّة من غضب وسرور ونحوهما لسنا مكلفين بها.
أما إلقاء موسى الألواح فكان بسبب دهشته واستفزازه ومن غير شعور منه تأثرا بما رأى، ففعل ما فعل، ولم يدر ما صنع. ولم يتعمد كسر الألواح، بل كان في غيبة وانفعال شديد، حتى لو كان بين يديه بحر من نار لخاضه.
وأما أخذه برأس أخيه يجره إليه من شعره ولحيته فلا يتنافى مع عصمة الأنبياء لأنه لم يفعل ذلك على سبيل الإهانة والإذلال والاستخفاف، وإنما على
103
سبيل الإكرام والتعظيم، كما تفعل العرب عادة من قبض الرجل على لحية أخيه إكراما وتعظيما. ولكن هارون كره ذلك لئلا يظن بنو إسرائيل أنه إهانة.
وكان هارون أكبر من موسى عليهما السّلام بثلاث سنين، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان ليّن الغضب. ثم إن موسى فعل ذلك بأخيه لظنه أو توهمه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل، ومثل هذا الميل لا يجوز على الأنبياء.
وزال الإشكال باعتذار هارون أن عبدة العجل استضعفوه، وقاربوا يقتلونه، فقبل موسى عذره ودعا له ولأخيه بالمغفرة وطلب الرحمة، المغفرة له على ما كان من الغضب الذي ألقيت من أجله الألواح، والمغفرة لأخيه لما ظنه أنه مقصّر في الإنكار عليهم، وإن لم يقع منه تقصير، أي اغفر لي طرح الألواح، ولأخي إن قصر.
قال الحسن البصري: عبد كلهم العجل غير هارون، إذ لو كان ثمّ مؤمن غير موسى وهارون، لما اقتصر على قوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي، ولدعا لذلك المؤمن أيضا.
وإنما أقام هارون ولم يتبع أخاه موسى إلى الطور، خوفا على نفسه من القتل، فدلت الآية على أن من خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر له أن يسكت.
قال ابن العربي: هذا دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام، كما زعم بعض الناس، فإن موسى عليه السّلام لم يغيّر غضبه شيئا من أفعاله، بل اطّردت على مجراها من إلقاء لوح، وعتاب أخ، وصكّ ملك «١». قال المهدوي: لأن غضبه كان لله عز وجل، وسكوته عن بني إسرائيل خوفا أن يتحاربوا ويتفرقوا.
(١) أحكام القرآن: ٢/ ٧٨٣.
104
وكان موسى لشدة حدته فيما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة، أنه لما أرسل ملك الموت إليه، صكّه صكّة، ففقأ بها عينه، فرجع إلى ربه، فقال:
أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فقال: ارجع إليه، فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بكل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: الموت، قال:
فالآن... الحديث.
جزاء الظالمين باتخاذ العجل وقبول توبة التائبين
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٢ الى ١٥٣]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)
الإعراب:
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ المفعول الثاني محذوف، والتقدير: اتخذوا العجل إلها ومعبودا.
وَالَّذِينَ عَمِلُوا... وَالَّذِينَ: مبتدأ مرفوع، والجملة من إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ باسمها وخبرها في موضع رفع، خبر المبتدأ.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ عذاب وهو ما أمروا به من قتل أنفسهم، أي قتل بعضهم بعضا، كما تقدم في سورة البقرة. وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا شعور بهوانهم على الناس، واحتقارهم لهم، وخروجهم من ديارهم وَكَذلِكَ أي كما جزيناهم نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ على الله بالإشراك وغيره ثُمَّ تابُوا رجعوا عن السيئات وَآمَنُوا بالله مِنْ بَعْدِها أي التوبة لَغَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم.
105
المناسبة:
الربط بين هذه الآيات وما قبلها واضح، فبعد أن ذكر تعالى عتاب موسى لأخيه هارون عليهما السّلام، ثم استغفاره لنفسه ولأخيه، ذكر جزاء الظالمين باتخاذ العجل إلها ومعبودا، وقبول توبة التائبين. وهذا هو الفصل الثالث من قصة عبادة العجل.
التفسير والبيان:
إن الذين اتخذوا العجل من بني إسرائيل إلها ومعبودا بعد غيبة رسولهم موسى عليه السّلام، وبقوا على تأليهه واستمروا على عبادته كالسامري وأتباعه، سيصيبهم عذاب شديد من ربهم، وهو المذكور في سورة البقرة، وهو أن الله تعالى لن يقبل توبتهم حتى يقتتلوا، ويقتل بعضهم بعضا: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ، فَتابَ عَلَيْكُمْ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة ٢/ ٥٤].
وسينالهم أيضا ذلة وصغار في الحياة الدنيا، بخروجهم من ديارهم وتشردهم، وهوانهم على الناس واحتقارهم لهم، وتهالكهم على حب الدنيا، فهم الماديون المنبوذون المكروهون في كل أمة، وتلك هي ذلة عظيمة المعنى، ونظيره قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة ٢/ ٦١] والذلة بمعناها القريب والبعيد. وأما قيام دولتهم في فلسطين فهي محنة للمسلمين، فربما أناس سلّط عليهم من هو شر لهم، وقد أثبتت الدراسات العلمية أن بقاء دولة الصهاينة في فلسطين شيء مستحيل، ولا تؤيده الظروف والقرائن المشاهدة، وقد بشرت الأحاديث النبوية بقتلهم وطردهم منها، ولكل أجل كتاب.
ومثل ذلك الجزاء الذي نزل بالظالمين من بني إسرائيل في الدنيا نجزي القوم
106
المفترين على الله في كل زمان، والمعنى: أن كل مفتر في دين الله جزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا.
ويشمل ذلك كل من افترى بدعة وخالف الرشاد، وقال الحسن البصري:
إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البغلات، وطقطقت بهم البراذين «١».
وروى عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الآية: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ فقال: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة.
وقال سفيان بن عيينة: كل صاحب بدعة ذليل «٢».
ومن عادة القرآن مقابلة الأشياء بأضدادها، فبعد أن ذكر جزاء الظالمين، فتح باب الأمل أمام التائبين، فنبه الله تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبتهم من أي ذنب كان، حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق، فقال:
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ... أي والذين ارتكبوا الأعمال السيئة والمعاصي المنكرة شرعا وعلى رأسها الكفر والشرك، ثم تابوا أي رجعوا من بعدها إلى الله، بأن آمن الكافر، وأقلع العاصي عن عصيانه، واستقام المؤمن على منهج ربه، وآمنوا إيمانا خالصا من الشوائب، وقرنوا الإيمان بالعمل الصالح، إن ربك يا محمد من بعد تلك الفعلة لغفور لهم، ستار لذنوبهم، رحيم بهم يجزي بالحسنة عشر أمثالها، ويكافئ على القليل بالجليل الكثير.
سئل ابن مسعود عن الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها، فتلا هذه الآية:
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ، ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها، وَآمَنُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فتلاها عبد الله عشر مرات، فلم يأمرهم بها ولم ينههم عنها.
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٤٨.
(٢) المرجع والمكان السابق.
107
وهذا يفيد أن من عمل السيئات فلا بد وأن يتوب عنها أولا، وذلك بأن يتركها ويرجع عنها، ثم يؤمن بعد ذلك، يؤمن بالله تعالى، ويصدق بأنه لا إله غيره. وهذه الآية تدل على أن جميع السيئات قابلة للغفران بالتوبة، وهذه بشارة عظمي للمذنبين.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيتان مبدأين مهمين: مبدأ العدل في العقاب، ومبدأ الرحمة بالعصاة التائبين.
أما المبدأ الأول- وهو عدالة العقاب فهو ما قامت عليه شريعة الله، فمن أشرك بالله إلها آخر، كما فعل بنو إسرائيل في غيبة موسى عليه السّلام، فهو ظالم لنفسه، يستحق غضب الإله عليه، ومصاحبة الذلة والهوان له في الحياة الدنيا.
ومن ابتدع شيئا ليس في دين الله فهو مفتر يناله من الجزاء مثل جزاء الظالمين الكافرين لقوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ أي المبتدعين، قال الإمام مالك رحمه الله: ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلّة.
وينطبق ذلك على الناس كلهم في الماضي والحاضر والمستقبل، فهو يشمل فعلة بني إسرائيل في عهد موسى عليه السّلام، وكل من رضي بفعلهم كاليهود في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي كل زمن على ممر الأجيال.
وأما المبدأ الثاني- مبدأ الرحمة بالعصاة التائبين فهو فضل عظيم من الله تعالى على هذه الأمة المسلمة وعلى الأمم كلها، ففي الآية خبر قاطع وقرار حاسم وحكم دائم وهو أن الله يقبل توبة التائب من الشرك وغيره من المعاصي لأن قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ يشمل الكفر وسائر المعاصي. ورحمة الله سبقت غضبه، ورحمته وسعت كل شيء، فمن آمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن دستورا، وتاب من كفره أو معصيته، وعمل صالحا فإن الله من بعد توبته غفور له رحيم به.
108
نهاية قصة اتخاذ العجل إلها
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٤]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)
الإعراب:
وَلَمَّا سَكَتَ لَمَّا: ظرف زمان، ويفتقر إلى جواب، وجوابها أَخَذَ الْأَلْواحَ وهو العامل فيها.
وَفِي نُسْخَتِها هُدىً مبتدأ وخبر في موضع نصب على الحال من الْأَلْواحَ والعامل فيه أَخَذَ.
لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أدخل اللام على المفعول لتقدمه.
البلاغة:
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ استعارة مكنية، شبه الغضب بإنسان ثائر يرعد بصوته، طالبا الانتقام، ثم حذف المشبه به، وصرح بشيء من لوازمه وهو: سَكَتَ أي اختفى الصوت. وهو تشبيه لطيف رائع بليغ.
المفردات اللغوية:
سَكَتَ سكن، والسكون لغة: ترك الكلام، نسب إلى الغضب على طريقة تصويره بصورة شخص ثائر يأمر وينهى. قال الزمخشري: هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء.
109
أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها وَفِي نُسْخَتِها أي ما نسخ أو كتب فيها هُدىً بيان للحق من الضلالة وَرَحْمَةٌ بالإرشاد إلى الخير والصلاح. لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يخافون، والرهبة:
أشد الخوف.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى لنا ما كان من موسى حال الغضب، وانقسام قومه قسمين:
مصر على عبادة العجل، وتائب إلى الله من ذلك، بيّن في هذه الآية ما كان منه عند سكوت الغضب، وسكون النفس وهدأة البال. وإذا كان موسى سريع الغضب حاد الطبع، فهو أيضا سريع العودة إلى الحلم حينما يعود الحق إلى نصابه، ويعدل الظالم عن ظلمه.
وهذا هو الفصل الرابع والأخير من قصة عبادة العجل.
التفسير والبيان:
ولما سكن غضب موسى على قومه، وهدأت نفسه بتوبة أكثرهم، أخذ الألواح التي كتبت فيها التوراة، والتي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل، غيرة لله وغضبا له، فوجد فيها هدى للحيارى، ورحمة بالعصاة التائبين الذين يخافون من ربهم أشد الخوف على ما يصدر منهم من ذنوب، ويخشون عذابه وحسابه. وقد ضمن الرهبة معنى الخضوع، فعداها باللام.
ذكر ابن عباس: أنه لما تكسرت الألواح صام موسى أربعين يوما، فردّت عليه، وأعيدت له تلك الألواح في لوحين، ولم يفقد منها شيئا. قال القشيري:
فعلى هذا: وَفِي نُسْخَتِها هُدىً أي وفيما نسخ من الألواح المتكسرة، ونقل إلى الألواح الجديدة هدى ورحمة. وقال عطاء: وفيما بقي منها. وذلك أنه لم يبق منها إلا سبعها، وذهب ستة أسباعها. ولكن لم يذهب من الحدود والأحكام شيء.
110
فقه الحياة أو الأحكام:
الحلم سيد الأخلاق، فحينما هدأت نفس موسى عليه السلام، وعاد إلى أناته وحلمه، أخذ يتدارس الألواح التي كتبت فيها التوراة، فوجد فيها بيان الحق من الضلال، والهدى من الانحراف، والرحمة من العذاب، ببيان وجه الرشاد وسلوك طريق الخير والصلاح، لمن كان يخاف ربه ويخشى عقابه.
وفي ضوء ما وجد فيها من حدود وأحكام، أخذ يرشد قومه إلى ما فيها، ويحملهم على العمل بها لأنها شريعة الله لبني إسرائيل. وتلك هي فترة الاستقرار في حياة موسى على ما يظهر لنا، بعد أن مرّ بتقلبات وأحوال شديدة التأثير، كاد بها يخسر إيمان قومه برسالته إلى الأبد، لولا عودته إلى النصح والإرشاد بما نزل في التوراة.
اختيار موسى سبعين رجلا لميقات الكلام والرؤية ومناجاته ربه
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٥]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥)
الإعراب:
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا: قَوْمَهُ، وسَبْعِينَ: منصوبان باختار، إلا أنه تعدى إلى سَبْعِينَ من غير تقدير حذف حرف جر، وتعدى إلى قَوْمَهُ بتقدير حذف حرف جر، والتقدير فيه: واختار موسى من قومه سبعين رجلا، فحذف حرف الجر، فتعدي الفعل إليه.
111
البلاغة:
تُضِلُّ وتَهْدِي بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي اصطفى من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا أي ممن لم يعبدوا العجل في رأي أكثر المفسرين، اختارهم بأمره تعالى لِمِيقاتِنا للوقت الذي وعدناه بإتيانهم فيه، ليعتذروا من عبادة أصحابهم العجل فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي فخرج بهم، فلما أصابتهم الصاعقة أو الزلزلة الشديدة التي هزت القلوب والأبدان لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ أي قبل خروجي بهم، ليعاين بنو إسرائيل ذلك ولا يتهموني.
أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا استفهام استعطاف، أي لا تعذبنا بذنب غيرنا. إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي ما هي أي الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك وامتحانك مَنْ تَشاءُ إضلاله مَنْ تَشاءُ هدايته أَنْتَ وَلِيُّنا متولي أمورنا.
المناسبة:
هذه الآية استمرار في بيان ما حدث لموسى عليه السلام أثناء مناجاة ربه، فقد بدأ الله تعالى قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية بقوله: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الآية: ١٤٣] ثم استطرد لبيان قصة عبادة العجل، ثم عاد لإتمام ما حدث في ذلك الميقات، فهو ميقات الكلام والرؤية نفسه، وليس ميقاتا آخر، كما رجح الرازي لأنه تعالى قال: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا ثم قال:
وَاخْتارَ مُوسى.. لِمِيقاتِنا فدل على أن المراد بهذا الميقات هو عين ذلك الميقات «١».
التفسير والبيان:
أوحى الله إلى موسى أن يختار معه لميقات الكلام والرؤية سبعين رجلا من
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ١٧- ١٨
112
قومه بني إسرائيل، ففعل، وأتى بهم للميقات الذي وقّته الله تعالى وهو مكان في جبل الطور: طور سيناء حيث ناجى ربه، وقد أمرهم أن يصوموا، ويتطهروا، ويطهروا ثيابهم.
والظاهر من ترتيب سرد الآيات أن اختيار هذا العدد كان عند طلب موسى رؤية الله عز وجل قبل اتخاذ عبادة العجل، وذلك ليكون سماعهم مناجاة موسى ربه دليلا على صدقه، فلما أتوا ذلك المكان قالوا: يا موسى، لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته فأرناه، فأخذتهم رجفة الجبل وصعقوا حينما ألحوا في طلب الرؤية.
ولم تكن تلك الرجفة موتا، ولكن القوم لما رأوا تلك الحالة المهيبة، أخذتهم الرعدة ورجفوا، وخاف موسى عليه السلام الموت، فعند ذلك بكى ودعا، فكشف الله عنهم تلك الرجفة. قال وهب: ما ماتوا، ولكن أخذتهم الرجفة من الهيبة حتى كادت أن تبين مفاصلهم، وخاف موسى عليهم الموت.
ولما أخذتهم الرجفة قال موسى: رب أتمنى لو كانت مشيئتك قد سبقت بإهلاكهم قبل هذا الوقت وقبل خروجهم معي إلى هذا المكان، أي حين طلب الرؤية، وأهلكتني معهم كذلك قبل أن أرى ما رأيت من رعدتهم، كيلا أحرج مع قومي، فيقولوا: قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم.
ثم أردف موسى قائلا: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا أي حيث طلبوا الرؤية لك جهارا لسماعهم كلامك، وهو قولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا من العناد وسوء الأدب.
وما هي إلا فتنتك أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك حين كلمتني، فسمعوا كلامك وطلبوا الرؤية، فليس الأمر إلا أمرك، وما الحكم إلا لك، فما شئت كان، تضل بالمحنة من تشاء من عبادك وهم الجاهلون غير المتثبتين في معرفتك،
113
ولست بالظالم لهم أبدا في تقديرك، بل هذا موافق لطبعهم وكسبهم واختيارهم، وتهدي بالمحنة أيضا من تشاء من عبادك، وهم المؤمنون المتثبتون في معرفتك، ولست بالمحابي لهم في توفيقك للهداية، بل هذا متفق مع طبعهم وكسبهم واختيارهم، ولو ترك الفريقان وشأنهم لاختار كل منهم ما هو فيه وما قدر له.
وإنما استفاد ذلك موسى عليه السلام من قوله تعالى له: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [طه ٢٠/ ٨٥] وجعل ذلك إضلالا من الله وهدى منه لأن محنته لما كانت سببا لأن ضلوا واهتدوا، فكأنه أضلهم بها وهداهم، على الاتساع في الكلام.
أنت ولينا، أي المتولي أمورنا والمهيمن علينا، فاغفر لنا أي استر ذنوبنا ولا تؤاخذنا بها، وارحمنا وإن قصرنا وفرطنا، وأنت خير الغافرين، أي الساتر ذنوب العباد، العافي عن السيئات، ورحمتك وسعت كل شيء، ومغفرتك ورحمتك بلا سبب ولا علة ولا لمصلحة ولا لعوض، أما غيرك فإنما يغفر لأغراض عديدة كحب الثناء وطلب النفع أو لدفع الضرر، وأنت تغفر لمحض الفضل والجود والكرم، فهو حقا وقطعا خير الغافرين.
قال ابن كثير: والرحمة إذا قرنت مع الغفر، يراد بها ألا يوقع العبد في مثل الذنب في المستقبل «١».
وقوله: أَنْتَ وَلِيُّنا يفيد الحصر، ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت.
وقيل: في تفسير الآية وطلب موسى إهلاكهم وقوله إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ:
أن الفتنة يراد بها عبادة العجل، وأن طلب الإهلاك حينما عبدوا العجل، وأن الذين عبدوه هم السفهاء وهم الأكثرون، وأما عقلاء بني إسرائيل فلم يعبدوه.
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٥٠
114
فقه الحياة أو الأحكام:
على المؤمن أن يلتزم الأدب مع الله وألا يسلك مسلك العناد، فطلب القوم رؤية الله عز وجل قياسا منهم على سماع كلامه، أدى بهم إلى إنزال الصاعقة أي الزلزلة الشديدة في الجبل الذي كانوا عليه.
وإذا كان هذا سبب الرجفة، فإن عبادة العجل تستحق عذابا أشد وأنكى.
والمراد بالإضلال في قوله: تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ ليس الإجبار أو الإكراه على الوقوع في الضلال كما تقول الجبرية لأنه لم يقل: تضل بها من تشاء من عبادك عن الدين، ولأنه تعالى قال: تُضِلُّ بِها أي بالرجفة، ومعلوم أن الرجفة لا يضل الله بها، فوجب التأويل، وتأويل ذلك أنك تعاقب من تشاء بشرط ألا يؤمن، أو تهلك من تشاء بهذه الرجفة.
وكذلك الهداية في قوله: وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ يراد بها التوفيق والإرشاد إلى وجوه الهداية ومسالكها.
ولا شك أن خالق الداعية إلى الإيمان والكفر إنما هو الله تعالى، والعبد بقدرته الصالحة للإيمان والكفر يرجح أحد الجانبين على الآخر لما خلق الله فيه، وحينئذ تكون الهداية من الله تعالى، والإضلال من الله تعالى «١»، أي بالخلق والإيجاد، لا بالكسب والتحصيل، فالأول فعل الله والثاني فعل الإنسان.
فبنو إسرائيل هم الذين أظهروا العناد، فطلبوا رؤية الله جهرة، وهم الذين اخترعوا عبادة العجل.
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ١٩.
115
بقية دعاء موسى عند مشاهدة الرجفة وربط الإيمان برسالته برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٧]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
البلاغة:
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وكذا وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فيهما ما يسمى بالمقابلة: وهي الإتيان بمعنيين فأكثر، ثم الإتيان بما يقابلها بالترتيب.
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ استعار الإصر والأغلال لتكاليفهم الثقيلة أو الشاقة، فالإصر والأغلال مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة.
المفردات اللغوية:
وَاكْتُبْ أوجب حَسَنَةً الحسنة في الدنيا: الصحة والغنى عن الناس، والاستقلال، والحسنة في الآخرة: الجنة ونيل الرضوان هُدْنا رجعنا وتبنا، فهو هائد، وقوم هود مَنْ
116
أَشاءُ
تعذيبه وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ عمت كل شيء في الدنيا فَسَأَكْتُبُها أحكم بها في الآخرة، أي سأوجب حصول رحمتي، منّة مني وإحسانا إليهم، كما قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام ٦/ ٥٤].
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات، وهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهم الذين يتقون الشرك والعظائم من الذنوب وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يخرجون زكاة الأموال التي تتزكى بها نفوسهم.
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ النبي لغة مأخوذ من النبوة وهي الارتفاع، ومن النبأ: وهو الخبر المهم العظيم الشأن، وفي الشرع: هو من أوحى الله إليه بشرع ولم يأمره بتبليغه. والرسول: هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه. ولا يشترط الاستقلال بالشرع أو بالكتاب، بل قد يكون تابعا لشرع غيره كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يتبعون التوراة. والأمي: الذي لم يقرأ ولم يكتب، ولقب العرب بالأميين كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة ٦٢/ ٢] وحكى تعالى عن أهل الكتاب: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
[آل عمران ٣/ ٧٥] والنبي الأمي: هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ باسمه ووصفه بِالْمَعْرُوفِ ما تعارفت العقول السليمة والفطر النقية على حسنه، وذلك موافق لما ورد الأمر به في الشرع.
الْمُنْكَرِ ما تنكره النفوس والشرائع لمصادمته للفطرة والمصلحة.
الطَّيِّباتِ ما تستطيبه الأنفس والطباع السليمة من الأطعمة، ومعنى قوله: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ أي مما حرم في شرعهم الْخَبائِثَ ما تستخبثه الطباع السليمة وتنفر منه كالميتة والدم المسفوح، أو يكون سببا في الضرر البدني كالخنزير الذي يسبب أكله الدودة الوحيدة وغيرها من المضار، أو الضرر الديني كالمذبوح الذي يتقرب به لغير الله. والخبيث من الأموال: ما يؤخذ بغير حق كالربا والرشوة والسرقة والغضب ونحو ذلك من المكاسب الخبيثة.
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحركة لثقله، مثل اشتراط قتل الأنفس بالتقاتل في صحة توبتهم وَالْأَغْلالَ الشدائد أو التكاليف الشاقة، والأغلال جمع غل: وهو القيد الذي تربط به يد الجاني إلى عنقه. والمراد هنا: ما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، مثل إيجاب القصاص في القتل مطلقا، عمدا كان أو خطأ، من غير شرع الدية، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريم السبت أي تحريم العمل فيه.
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ منهم وَعَزَّرُوهُ أي أعانوه ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدو، أي
117
حاموا عنه النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي القرآن، وإنما أنزل مع جبريل، فالمراد: أنزل مع نبوته، وصارت نبوته مصحوبة بالقرآن.
التفسير والبيان:
هذا من تتمة دعاء موسى عليه السلام عند مشاهدة الرجفة، فأعلن أولا أنه لا ولي إلا الله بقوله: أَنْتَ وَلِيُّنا والمتوقع من الولي والناصر أمران: دفع الضرر، وتحصيل النفع، ولما كان دفع الضرر مقدما على تحصيل النفع، بدأ بطلب دفع الضرر، فقال: فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ثم أتبعه بطلب تحصيل النفع بقوله: وَاكْتُبْ.
أي أوجب لنا وأثبت لنا بفضلك ورحمتك حسنة، أي حياة طيبة في الدنيا بتوفير نعمة الصحة والعافية، وسعة الرزق، والتوفيق في العمل، والاستقلال في الأمور العامة، ومثوبة حسنة في الآخرة بدخول جنتك والظفر برضوانك وفيض إحسانك، وذلك كقوله تعالى: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة ٢/ ٢٠١].
إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك، أي ندمنا على ما طلبه قومنا من اتخاذ الآلهة وعبادة العجل ورؤية الله جهرة ونحو ذلك من فعل السفهاء، ورجعنا إلى الإيمان المقرون بالعمل.
قال الله: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ من الكفار والعصاة، أما رحمتي فقد وسعت كل شيء في العالمين، والعذاب مما يترتب على صفة العدل، ولكن الرحمة أشمل، ولولا عموم الرحمة لهلك الكفار والعصاة عقب كفرهم وعصيانهم، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر ٣٥/ ٤٥] وقال عز وجل: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف ١٨/ ٥٨].
118
والمراد من آية العذاب هنا: أني أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك. ثم قرن ذلك بما يطمئن العباد وهو أن الرحمة تسبق الغضب، وهي أعم وأشمل منه، فهذه آية عظيمة الشمول والعموم، كقوله تعالى عن حملة العرش ومن حولهم أنهم يقولون: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غافر ٤٠/ ٧].
ثم وصف الله تعالى مستحقي الرحمة وذكر من تثبت لهم: وهم الذين يتصفون بهذه الصفات وهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي:
١- الذين يتقون الشرك والمعاصي أو الذنوب.
٢- والذين يؤتون الزكاة التي تتزكى بها نفوسهم، وتشمل زكاة الأنفس وزكاة الأموال. وخصت الزكاة بالذكر لعلاج مرض الماديين النفعيين وهم اليهود وأمثالهم، ولأن النفوس شحيحة بها غالبا.
٣- والذين يؤمنون، أي يصدّقون بآياتنا الدالة على توحيدنا، وكفاية شريعتنا وسموها وصلاحيتها للعمل والتطبيق، وصدق رسلنا.
وهؤلاء الموصوفون بهذه الصفات الثلاث هم متبعو ملة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وها هي صفاته في كتب الأنبياء، بشروا أممهم ببعثته، وأمروهم بمتابعته، وأوصافه عندهم سبعة وهي:
١- الرسول النبي الأمي: أي الذي لم يقرأ ولم يكتب، فالأمية آية من آيات نبوته، وأن القرآن المعجز منزل عليه من عند الله، فهو مع أميته أتى بأكمل العلوم وأجداها في العقيدة والعبادة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق والأعمال. واتباعه: باعتقاد نبوته والعمل برسالته. وهذه الصفة يمكن أن تتنوع إلى صفات ثلاث: هي الرسول: أي المرسل من الله إلى الخلق لتبليغ التكاليف.
والنبي وهو يدل على كونه رفيع القدر عند الله تعالى، والأمي.
119
٢- وهو الذي يجدون اسمه وصفته كتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لذا آمن به بعض علماء اليهود مثل عبد الله بن سلام، وبعض علماء النصارى مثل تميم الداري. فأما المستكبرون فكانوا يكتمون البشارات به في كتبهم، ويؤولونها.
روى الإمام أحمد عن أبي صخر العقيلي قال: حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما فرغت من بيعي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال:
فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت، كأجمل الفتيان وأحسنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟» فقال برأسه هكذا، أي لا، فقال ابنه: إي، والذي أنزل التوراة، إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله فقال: «أقيموا اليهودي عن أخيكم» ثم تولى كفنه والصلاة عليه «١».
وجاء في الباب الثالث والثلاثين في التوراة من سفر تثنية الاشتراع: «جاء الرب من سينا، وأشرق من ساعير، واستعلى من جبال فاران ومعه ألوف الأطهار، في يمينه قبس من نار» ومجيئه من سينا: إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام، وإشراقه من ساعير: إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه، واستعلاؤه من جبال فاران: إنزاله القرآن لأن فاران من جبال مكة.
وجاء في الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا: «فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق، فهو يشهد لي، وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء» والفارقليط بالعبرية: معناه أحمد، كما
(١) قال ابن كثير في تفسيره (٢/ ٢٥١) : هذا حديث جيد قوي، له شاهد في الصحيح عن أنس. [.....]
120
قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف ٦١/ ٦].
٣، ٤- إنه يأمر بالمعروف: وهو ما تعرفه العقول الرشيدة وتألفه الطباع السليمة، وقد ورد به الشرع، وهو ينهاهم عن المنكر: وهو ما تنكره النفوس الصافية. فهو عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن الشر، كما قال عبد الله بن مسعود: إذا سمعت الله يقولها: يا أيها الذين آمنوا، فأرعها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه.
ومن أهم ما أمر الله به: عبادة الله وحده لا شريك له ومن أهم ما نهى عنه: عبادة ما سواه، كما أرسل به جميع الرسل قبله، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦].
٥، ٦- وإنه يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث: أي يحل لهم ما تستطيبه الأنفس من الأطعمة: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة ٢/ ٥٧، ١٧٢، والأعراف ٧/ ١٦٠، وطه ٢٠/ ٨١] ويحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحام ونحو ذلك مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم، ويحرم عليهم ما تأباه النفوس، كالميتة والخنزير والدم المسفوح، وما يؤخذ من الأموال بغير حق كالربا والرّشوة والغصب والخيانة. قال ابن عباس: الخبائث كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى. قال بعض العلماء: فكل ما أحل الله تعالى من المآكل، فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه فهو خبيث ضار في البدن والدين.
٧- وإنه يضع عنهم الإصر والأغلال: أي يرفع عنهم التكاليف الشاقة، كالقصاص في القتل، العمد أو الخطأ، من غير شرع الدية، وقتل النفس عند التوبة، أي التقاتل وإهدار الدماء، وقطع الأعضاء المذنبة، وقرض موضع
121
النجاسة من الجلد والثوب، وتحريم السبت.
أي إنه جاء بالتيسير والسماحة، كما
ورد في الحديث الذي رواه الخطيب عن جابر: «بعثت بالحنيفية السمحة»
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: «بشّرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا».
ومن مظاهر التيسير:
قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب الستة عن أبي هريرة: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل به
وقوله فيما رواه الطبراني عن ثوبان: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»
.
ولهذا أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً، كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة ٢/ ٢٨٦]. وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه: قد فعلت، قد فعلت.
أما اليهود فقد شدد الله عليهم في الأحكام الشرعية في العبادة والمعاملة والعقوبة، ثم خفف المسيح عليه السلام في بعض الأمور المادية، وشدد في الأحكام الروحية.
فالذين آمنوا بالنبي الأمي وبرسالته، وعزروه أي منعوه من الأعداء، ونصروه أي عظموه ووقروه، وأيدوه باللسان والسّنان، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أي القرآن والوحي الذي جاء به مبلّغا إلى الناس، أولئك هم المفلحون في الدنيا والآخرة، الناجون الفائزون بالرحمة والرضوان، دون من سواهم من حزب الشيطان الذين يخذلهم الله في الدنيا والآخرة. ويدخل في ذلك قوم موسى الذين يتحقق فيهم هذا الوصف العام.
122
فقه الحياة أو الأحكام:
بعد أن أقر موسى بأن لا إله إلا الله تعالى، أعلن أن الله ولينا أي القائم بأمورنا والمتولي شؤوننا، والولي يدفع الضر ويجلب النفع، لذا طلب منه المغفرة والرحمة لدفع الضر، المقدم على تحصيل النفع، ثم طلب منه تحقيق النفع وهو سؤاله الحسنة في الدنيا والآخرة.
ويناسب هذه الأشياء اشتغال العبد بالتوبة والخضوع والخشوع، لذا قال موسى عليه السلام: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا ورجعنا إليك.
فتحقق بهذا مجموع أمرين لا بد منهما: وهما تقرير عزة الربوبية، أي كون الله تعالى إلها وربا ووليا، والاعتراف بذل العبودية أي كون العباد له تائبين خاضعين خاشعين.
ثم أجاب الله موسى مبينا أن عذابي أعذب به من أشاء، وليس لأحد على اعتراض لأن الكل ملكي، ومن تصرف في خالص ملكه، فليس لأحد أن يعترض عليه.
وأما رحمتي فهي عامة لا نهاية لها، ولا حد لسعتها، وسعت كل شيء، حتى إن البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها.
روى الإمام أحمد وأبو داود عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: جاء أعرابي، فأناخ راحلته، ثم عقلها (ربطها بالحبل) ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى راحلته، فأطلق عقالها (حبلها)، ثم ركبها، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا تشرك في رحمتنا أحدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أتقولون: هذا أضل أم بعيره، ألم تسمعوا ما قال؟» قالوا: بلى، قال: «لقد حظّرت رحمة واسعة، إن الله عز وجل خلق مائة
123
رحمة، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنّها وإنسها وبهائمها، وأخّر عنده تسعا وتسعين رحمة، أتقولون: هو أضل أم بعيره».
وروى مسلم عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله عز وجل مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة».
ثم ذكر الله تعالى أوصافا ثلاثة لمن يستحق رحمته، وهم المتقون، المؤتون الزكاة، المؤمنون بآيات الله تعالى.
قال بعض المفسرين: طمع في هذه الآية- أي وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ كل شيء حتى إبليس، فقال: أنا شيء فقال الله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ فقالت اليهود والنصارى: نحن متقون فقال الله تعالى:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الآية. فخرجت الآية عن العموم.
وهذه الأوصاف الثلاثة التي خصصت بها الآية شملت كل ما يصدر عن الإنسان وهو التروك والأفعال، أما التروك فهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها، والاحتراز عنها والاتقاء منها، وأما الأفعال فهي إما متوجهة على مال الإنسان أو على نفسه، الأول- الزكاة، والثاني- الإيمان، وهو يدخل فيه ما يجب على الإنسان علما وعملا، أما العلم فالمعرفة بالله، وأما العمل فبالإقرار باللسان والعمل بالأركان، ويدخل فيها الصلاة.
وأما صفات محمد صلى الله عليه وآله وسلم المقررة في التوراة والإنجيل فهي:
١- كونه رسولا نبيا أميا: والرسول أخص من النبي، وقدم الرسول اهتماما بمعنى الرسالة، وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا لأن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ، وافترقا في أمر خاص وهي الرسالة.
124
وأميته لإبطال دعاوى اختلاق القرآن من عند نفسه، فكانت من المعجزات، كما قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٤٨] ومع أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يكتب وما كان يقرأ، كان يتلو كتاب الله بتعليم الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير، فكان ذلك أيضا معجزة، كما قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى ٨٧/ ٦].
وكانت أمة العرب أميّة،
روي في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنا أمة أميّة، لا نكتب ولا نحسب».
٢- صفاته موجودة في التوراة والإنجيل: وهذا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب في التوراة والإنجيل لأن ذلك لو لم يكن مكتوبا، لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفّرات لليهود والنصارى عن قبول قوله لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات، ويترفع عنه العاقل، وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته.
٣، ٤- مهمته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال عطاء: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ بخلع الأنداد (الشركاء)، ومكارم الأخلاق، وصلة الأرحام.
وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ عبادة الأصنام، وقطع الأرحام.
ويجمع الأمر بالمعروف
قوله عليه الصلاة والسلام: «التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله»
والنهي عن المنكر يشمل النهي عن عبادة الأوثان، والقول في صفات الله بغير علم، والكفر بما أنزل الله على النبيين، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين.
٥- وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ: قيل: المراد بالطيبات: الأشياء التي حكم الله بحلها. ومذهب مالك: أن الطيبات هي المحلّلات، فكأنه وصفها بالطيب
125
إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا. ورد الرازي على ذلك باستبعاد هذا القول لأنه يترتب عليه التكرار، فتصير الآية: ويحل لهم المحللات، وبه تخرج الآية عن الفائدة لأنا لا ندري أن الأشياء التي أحلها الله ما هي وكم هي؟
بل الواجب أن يكون المراد من الطيبات: الأشياء المستطابة بحسب الطبع، وذلك لأن تناولها يفيد اللذة، والأصل في المنافع الحل فكانت هذه الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع السليم الحل، إلا لدليل. وهذا مذهب الشافعي أن الطيبات هي من جهة الطعم.
واحتج بهذه الآية بعض العلماء الذين ذهبوا إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها. وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته.
٦- وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ: أي يمنعهم من اقتراب المستخبثات وهي كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس، ويكون تناوله سببا للألم، والأصل في المضار الحرمة. ومقتضاه: أن كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا لدليل.
والخبائث في مذهب مالك هي المحرمات، ويقتضي ذلك أنه أحل المتقذرات كالحيات والعقارب والخنافس ونحوها. وقد عرفنا وجه الضعف في ذلك، وأن مذهب الشافعي هو تحريم المحرمات والمتقذرات، فتحرم العقارب والخنافس والوزغ ونحوها.
٧- وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أي يرفع عن بني إسرائيل التكاليف والأحكام الشاقة التي كانت مقررة عليهم، مثل تحريم الغنائم، وتحريم مجالسة الحائض وقرض موضع النجاسة، والقصاص من القاتل بلا دية، وقتل النفس علامة للتوبة، فكانوا إذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء
126
فأكلتها، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها، وإذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضة، وروي: وجلد أحدهم، فأحل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم، وأباح مجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها، ورخص بغسل البول، وشرع الدية، وقيّد القصاص في القتل العمد، وجعل التوبة باللسان والقلب مع الله. ودلت الآية على أن من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأيده وحماه وعظمه واتبع القرآن فهو من المفلحين أي الفائزين بالمطلوب في الدنيا والآخرة.
عموم الرسالة الإسلامية
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٨]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
المفردات اللغوية:
قُلْ خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وَكَلِماتِهِ القرآن. تَهْتَدُونَ ترشدون.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى وجود صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل، وذكر أن من يتبعه، فله سعادة الدنيا والآخرة، أوضح مزية الرسالة الإسلامية وهي أنها عامة شاملة، وأن بعثته صلى الله عليه وآله وسلم للناس كافة، يدعوهم فيها إلى الإيمان به وبرسالته، وأن كل من يتبعه تشمله تلك السعادة.
127
التفسير والبيان:
قل يا محمد لجميع البشر من عرب وغيرهم، بيض أو سود: إني رسول الله إليكم جميعا، لا إلى قومي العرب خاصة، وإلى كل وقت وزمن إلى يوم القيامة، وهذا يقتضي أن يكون مبعوثا إلى جميع الناس، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٧] وقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ ٣٤/ ٢٨] وقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام ٦/ ١٩] أي وأنذر كل من بلغه. ومطلع سورة الفرقان يؤكد عالمية الرسالة.
وجاءت الأحاديث الثابتة مؤكدة عموم الرسالة النبوية،
مثل حديث الصحيحين والنسائي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ، وأحلّت لي الغناء ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة».
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ الذي له الملك التام والتصرف الكامل في السموات وفي الأرضين جميعها، وله القدرة التامة على الإحياء والإماتة.
وقد تضمنت هذه الآية عناصر العقيدة الثلاثة: وهي توحيد الربوبية بالإيمان، وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل، أي بعبادة الله وحده، ثم الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم الإيمان بالبعث بعد الموت، وذلك معنى الإحياء والإماتة.
ورتب على ما سبق الدعوة إلى الإيمان فقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ... أي فصدقوا أيها الناس قاطبة بالله الواحد الأحد الفرد الصمد في ربوبيته وألوهيته، وآمنوا برسوله النبي الأمي الذي بعثه إلى الخلق أجمعين.
128
وهو النبي الذي يؤمن بوحدانية الله وكلماته التشريعية التي أنزلها الله لهداية البشر، وكلماته التكوينية الدالة على قدرته وإرادته وحكمته، ويصدق قوله عمله، ويؤمن بما أنزل إليه من ربه. فالمراد من كلماته: ما تضمنته كتبه من التوراة والإنجيل والقرآن من أحكام وإرشادات وأدلة على وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته.
وهذا أمر بالإيمان أتبعه بالأمر بالإسلام، أي اتبعوا منهج هذا النبي، واسلكوا طريقه في كل ما جاء به، لتهتدوا إلى الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه، أو رجاء أن تهتدوا بالإيمان واتباع الشرع إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة.
والحق أنه لأهدي صحيحا ثابتا إلا في القرآن، ولا خير إلا في الدين، ولا سعادة إلا باتباع شريعة خاتم النبيين، وبمقدار الالتزام بالشريعة يكون النجاح في الدنيا والآخرة.
روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أن محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث إلى جميع الخلق، وأن رسالته عامة للناس أجمعين، بل لكل العالمين من الإنس والجن.
والمراد بالناس: هم المكلفون أي البالغون العقلاء
لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر: «رفع القلم عن ثلاث:
عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق»
.
129
والمقصود بالناس أيضا كل من وصل إليه خبر وجوده وخبر معجزاته وشرائعه، وقلّ أن تجد قوما لم يبلغهم خبر ظهور محمد عليه الصلاة والسلام.
ودلت الآية أيضا على ما يثبت كونه عليه الصلاة والسلام رسولا إلى الناس جميعا، وهو أنه مرسل من خالق العالم المتصف بالحياة والعلم والقدرة والوحدانية، المنزه عن الشريك والوالد والولد، القادر على الحشر والنشر والبعث والقيامة، مالك السموات والأرضين، المتصرف في الكون كيفما يشاء، وأن الخلق كلهم عبيده، وهو المنعم عليهم بأعظم النعم، وأنه المجازي لهم بعد موتهم، مما يقتضي تكليف الخلق بما يريد.
وما على الخلق إلا الإيمان بوحدانية الله وبربوبيته، واتباع كلماته أي تشريعاته، وليس من التشريع أمور الدنيا العادية من تدبير شؤون الزراعة والصناعة والتجارة المباحة والعلوم النافعة، فتلك متروكة لعقول الناس ومعارفهم وخبراتهم،
لما ورد في الحديث الصحيح عند الشيخين: «أنتم أعلم بأمور دنياكم».
ومن كلمات الله: المعجزات الدالة على كونه نبيا حقا لأن كل شيء غريب يسمى كلمة، والمعجزات نوعان:
معجزات ظهرت في ذاته عليه الصلاة والسلام، وأشرفها وأهمها كونه رجلا أميا، لم يتعلم من أستاذ، ولم يطالع كتابا، ولم يجالس أحدا من العلماء.
ومعجزات صدرت عنه مثل انشقاق القمر، ونبوع الماء من بين أصابعه.
وبه يكون المراد بقوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أي يؤمن بالله وبجميع المعجزات التي أظهرها الله عليه، وبما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه.
130
اتباع الحق لدى بعض قوم موسى ونعم الله على بني إسرائيل في صحراء التيه
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٠]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)
الإعراب:
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً: إنما أنث اثنتي عشرة على تقدير أمة، وتقديره:
اثنتا عشرة أمة. واثْنَتَيْ عَشْرَةَ: حال. وأَسْباطاً: بدل منصوب من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ. ولا يجوز أن يكون أَسْباطاً منصوبا على التمييز لأنه جمع، والتمييز لما عدا العشرة إنما يكون مفردا. وأُمَماً: صفة لقوله: أَسْباطاً كما ذكر ابن الأنباري. وقال الزمخشري عن كلمة «أمما» : بدل من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ بمعنى: وقطعناهم أمما لأن كل سبط كان أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد. وقال: أَسْباطاً تمييز، ووجه كونه مجموعا أنه وضع أَسْباطاً موضع قبيلة وكل قبيلة أسباط لا سبط.
المفردات اللغوية:
أُمَّةٌ جماعة. يَهْدُونَ يرشدون الناس ويدلونهم. وَبِهِ يَعْدِلُونَ في الحكم، أي يحكمون بين الناس بالعدل. قَطَّعْناهُمُ فرقنا بني إسرائيل وصيرناهم فرقا وقطعا. أَسْباطاً قبائل، والأسباط: أولاد الأولاد، جمع سبط وهو عندهم كالقبيلة في ولد إسماعيل. وأسباط بني إسرائيل: سلائل أولاده العشرة ما عدا لاوى، وسلائل ولدي ابنه يوسف وهما إفرايم ومنس لأن سلائل لاوى قامت بخدمة الدين في جميع الأسباط.
131
إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ طلبوا منه الماء للسقيا في التيه. فَانْبَجَسَتْ انفجرت. اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً بعدد الأسباط. كُلُّ أُناسٍ سبط منهم. وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ جعلنا الغمام يظلهم في التيه، والغمام: سحاب رقيق أو أبيض أو السحاب مطلقا. الْمَنَّ مادة بيضاء تنزل على ورق الشجر وغيره كالندى، حلوة المذاق كالعسل. وَالسَّلْوى طير يشبه السّماني، لكنه أكبر منه.
المناسبة:
بعد أن رغب الله سبحانه بني إسرائيل باتباع ملة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق إنزال الرحمة عليهم ووصفهم بأنهم المفلحون، ذكر ثلاثة أحوال لهم، الحال الأولى: أن بعضهم اتبعوا موسى بحق واتبعوا أيضا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، والتزموا الحق وقضوا به، والحال الثانية: قسمتهم اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباطهم الاثني عشر، والحال الثالثة: انفجار الحجر اثنتي عشرة عينا بقدر عدد الأسباط لما طلبوا السقيا من موسى عليه السلام، وتظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى عليهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى بأن طائفة من بني إسرائيل يتبعون الحق ويعدلون به، وهم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل، آمنوا بموسى عليه السلام، وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فهم جماعة قوموا أنفسهم بالإيمان، وأرشدوا الناس إليه ودلوهم عليه، وهدوهم بالحق الذي جاءهم من عند الله، ويعدلون بالحق بينهم في الحكم، لا يجورون، كما قال تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ، يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ، وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران ٣/ ١١٣] وقال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ... الآية [آل عمران ٣/ ١٩٩] وقال عز وجل: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [آل عمران ٣/ ٧٥].
132
والخلاصة: الخبر في هذه الآية متعلق بجماعة مؤمنة من بني إسرائيل في عصر موسى، وبعد عصره، وهم أصناف ثلاثة: صنف أدركوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وآمنوا به، وهم المشار إليهم في آية: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة ٢/ ١٢١]. وصنف آمنوا بموسى واتبعوا من بعده من الأنبياء، وهم المذكورون في الآية هنا، وصنف محتمل للقسمين، كما في الآية المتقدمة:
يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ....
وهذه شهادة عظيمة من الله تعالى تثبت وجود أهل الحق والعدل في كل أمة، وهذه هي الحال الأولى لبني إسرائيل.
والحال الثانية: أنه تعالى صيّر قوم موسى اثنتي عشرة فرقة أو قبيلة تسمى أسباطا، أي أمما وجماعات، تمتاز كل جماعة منهم بنظام خاص بها في المعيشة وممارسة شؤون الحياة.
والحال الثالثة: حال الأسباط إزاء نعم الله تعالى عليهم، والنعمة الأولى:
إغاثة الله لهم، حينما طلبوا من موسى السقيا، وقد عطشوا في التيه، فأوحى الله إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ، فضربه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من الماء بقدر عدد أسباطهم، كل سبط له عين خاصة به قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي سبط مشربهم منه. والفرق بين الانبجاس والانفجار أن الأول:
خروج الماء بقلة، والثاني: خروجه بكثرة.
والنعمة الثانية: تظليل الغمام، فكانوا إذا اشتد عليهم الحر في الصحراء، يسخر الله تعالى لهم الغمام أي السحاب، يظلهم بظله الظليل، رحمة من الله.
والنعمة الثالثة: إنزال المن والسلوى: فكان الطعام الشهي ينزل عليهم بسهولة، دون عناء ولا مشقة، وهو المن الذي كان يقوم مقام الخبز عندهم وهو
133
مادة حلوة الطعم يجتمع كالندى على ورق الشجر وغيره صباحا، والسلوى: يقوم مقام سائر اللحوم، وهو طير أكبر من السّمانى.
ثم قيل لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، فهي نعم خصصناها بكم، فما عليكم إلا شكر النعمة.
وَما ظَلَمُونا بكفرهم بهذه النعم، ولكنهم ظلموا أنفسهم وأضروها بهذا الجحود والإنكار لأن المكلف إذا أقدم على المعصية، فهو ما أضر إلا نفسه، حيث عرّض نفسه للعقاب الشديد، ومن ظلم نفسه كان لغيره أظلم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ.. على أن الإسلام لا عصبية فيه. وأن الله تعالى يعلمنا طريق الحكم على الناس والأشياء، وهو طريق الحق والعدل، فهو الحكم الموضوعي المجرد، وهو الحكم الأبقى والأخلد. إنها شهادة عظيمة من الله تعالى لجماعة من بني إسرائيل أنهم التزموا الحق والعدل في أنفسهم ومع غيرهم، فآمنوا بالنبي موسى عليه السلام وبمن بعده من الأنبياء، وقضوا بين الناس بالعدل، ودعوا الناس إلى الهداية بالحق.
وهذه المزية أيضا قائمة في أمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقد أنزل الله على نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء بعد رجوعه إلى الدنيا: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف ٧/ ١٨١] يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فالله يعلمه أن الذي أعطيت موسى في قومه أعطيتك في أمتك.
ودلت آية وَقَطَّعْناهُمُ على قسمة بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة لأنهم كانوا من اثني عشر رجلا من أولاد يعقوب، فميزهم وفعل بهم ذلك، لئلا يتحاسدوا، فيقع بينهم الهرج والمرج. ولا شك أن القسمة تريح من عناء
134
الاختلاف والنزاع في استيفاء المنافع، وليكون أمر كل سبط معروفا من جهة رئيسهم، فيخف الأمر على موسى.
وأرشد قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى... إلى النعم العظمى التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، وهي: أولا- الشرب في التيه من ينابيع تفجرت اثنتي عشرة عينا بعدد الأسباط، بضرب موسى الحجر، وهذه معجزة خارقة له، كمعجزة العصا واليد وفلق البحر لإنجائهم من فرعون وقومه. وثانيا- تظليل الغمام. وثالثا- إنزال المن والسلوى، وقد أباح الله لهم تلك الطيبات، وسهل لهم الطعام والشراب.
ولكن بني إسرائيل لم يشكروا تلك النعم العظيمة، وجحدوا بها، وظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي، وكانوا فاسقين لخروجهم عن طاعة الله تعالى.
أمر بني إسرائيل بسكنى القرية (بيت المقدس)
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦١ الى ١٦٢]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
الإعراب:
نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ هذا مفعول به منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم. ومن قرأ يغفر وتغفر، رفع خطيئاتكم على أنه نائب فاعل. ومن قرأ يغفر بالياء بالتذكير فلوجود الفصل ب لَكُمْ. ومن قرأ بالتاء بالتأنيث فعلى الأصل، ولم يعتبر الفصل.
135
المفردات اللغوية:
وَإِذْ قِيلَ واذكر إذ قيل الْقَرْيَةَ بيت المقدس حِطَّةٌ أي أمرنا حطة أي حط عنا أوزارنا وخطايانا الْبابَ أي باب القرية سُجَّداً سجود انحناء سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ بالطاعة ثوابا فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا... فقالوا: حبة في شعرة، ودخلوا يزحفون على أستاههم رِجْزاً عذابا.
المناسبة:
بعد أن عدد الله تعالى أحوال بني إسرائيل وأصناف النعم التي أنعم بها عليهم، وجحودهم لها وظلمهم أنفسهم، ناسب أن يذكر نوعا آخر من أنواع العصيان أو الظلم ومخالفة أمر الله، وهو دخول القرية بقول معين (حطة) وهيئة معينة (ساجدين) فالمناسبة بين الآيات واضحة وهي تبيان أحوال الظلم من هؤلاء القوم، لذا ختمت الآيتان بإثبات صفة الظلم فيهم.
التفسير والبيان:
سبق بيان هذه القصة في سورة البقرة في الآيتين (٥٨، ٥٩) مع اختلاف في الألفاظ فقط، ليتناسب ذلك مع بلاغة القرآن وكمال الإعجاز لأن تكرار اللفظ نفسه غير بليغ، والبلاغة تقتضي إبراز المعنى الواحد بأساليب مختلفة وألفاظ متنوعة.
وقد ذكر الرازي ثمانية وجوه للمخالفة في الألفاظ بين السورتين «١»، وهي ما يأتي، علما بأنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض فيهما:
١- هنا قال: اسْكُنُوا وهناك قال ادْخُلُوا والفائدة هنا أتم
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ٣٤ وما بعدها.
136
لأن السكنى تستلزم الدخول دون العكس، فمن يسكن يدخل قطعا، وليس العكس.
٢- قال هنا: وَكُلُوا وهناك قال: فَكُلُوا لأن بدء الأكل يكون عقب الدخول، فيحسن ذكر فاء التعقيب بعده. وأما الواو فيدل على أن الأكل حاصل مع السكنى لا بعده.
٣- وصف الأكل هناك بقوله: رَغَداً أي واسعا هنيئا، ولم يذكر الوصف هنا لأن الأكل للقادم في أول الدخول يكون ألذ وأمتع، وتهفو النفس إليه عادة، أما بعد طول المقام والانتظار فلا يحدث إلا عند الحاجة الشديدة وتكامل اللذة، فترك قوله: رَغَداً فيه.
٤- قدم هنا قول حِطَّةٌ على الدخول، وعكس الأمر هناك، ولا فرق بين التعبيرين لأن الواو لا تقتضي الترتيب، فسواء دعوا أولا ثم أظهروا الخضوع بالسجود أي تنكيس الرؤوس، أو أعلنوا التواضع والخضوع أولا ثم دعوا بقولهم:
حِطَّةٌ لأن المقصود تعظيم الله تعالى، وإظهار الخضوع والخشوع.
٥- قال هنا: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ وقال هناك: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وكلا الجمعين سواء، وفيهما إشارة إلى أن مغفرة الذنوب تشمل القليل والكثير.
٦- قال هنا: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ بدون واو، وهناك ذكر الواو:
وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ بالعطف، والمعنى واحد، لكن ترك الواو الذي يفيد الاستئناف أدل على أن زيادة الإحسان مستقلة عن المغفرة بعد الدعاء، تفضلا من الله تعالى، وأن الموعود به شيئان: المغفرة وزيادة الحسنة.
٧- قال هنا: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً وقال هناك في سورة البقرة
137
فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا والإنزال لا يشعر بالكثرة، والإرسال يشعر بها، فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل، ثم جعله كثيرا.
٨- قال هنا: بِما كانُوا يَظْلِمُونَ وقال هناك: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ إشارة إلى حصول الوصفين منهم، فهم ظالمو أنفسهم، وهم فاسقون خارجون عن طاعة الله تعالى، ثم إن الظلم فيه معنى الاعتداء على الغير، والفسق فيه معنى الخروج عن الدين.
وزيد هنا كلمة مِنْهُمْ في قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ولم تذكر هناك، وزيادتها تأكيد في البيان. ومعنى التبديل أنهم تجرؤوا على المخالفة التامة بالقول والفعل، دون اجتهاد ولا تأويل.
والمعنى العام للآية: أن الله تعالى يذكّر بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم بما حصل من أسلافهم، وهم ملومون مثلهم لرضاهم بأفعال الأسلاف، فقد أمرهم الله بأن يدخلوا القرية وهي بيت المقدس أو قرية غيرها، والعرب تسمي المدينة قرية، داعين الله أن يغفر ذنوبهم، ومظهرين الخضوع والخشوع لله تعالى، وقد وعدهم الله بشيئين: الغفران وزيادة الإحسان. ولكن طبيعة اليهود التي يغلب عليها العصيان والتمرد أبت عليهم إلا تحدي الأمر الإلهي، والتنكر له، والتجرؤ على المخالفة بالقول والفعل، فقالوا: حبّة في شعرة، بدل حطة وزحفوا على أستاههم، بدل تنكيس رؤوسهم وخشوعهم وتواضعهم لله، شكرا له على نعمه عند دخول القرية، والتنعم بخيراتها من طعام وفاكهة وشراب.
وماذا كانت النتيجة المنتظرة؟ النتيجة أن الله تعالى صب عليهم عذابا من السماء صبا، بسبب ظلمهم أنفسهم وغيرهم، وفسقهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى إلى طاعة أهوائهم وشياطينهم، ولسخريتهم من أوامر الله تعالى.
138
فقه الحياة أو الأحكام:
إن العبرة واضحة من هذه الواقعة أو القضية، وهي أن الله تعالى يعاقب الناس على ذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة، فما عليهم إلا الابتعاد عن الظلم والفسق فقد عاقب الله بني إسرائيل على ظلمهم وفسقهم، بالرغم من فضائلهم، ككثرة الأنبياء فيهم، وتفضيلهم على العالمين، أي عالمي زمانهم.
حيلة اليهود على صيد الأسماك يوم السبت وعقاب المخالفين
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٦]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)
الإعراب:
إِذْ يَعْدُونَ يتعلق بسأل، وتقديره: سلهم عن وقت عدولهم في السبت، وهو مجرور بدل من القرية، وإِذْ تَأْتِيهِمْ: بدل من إِذْ الأولى، ويجوز نصبه بيعدون، وشُرَّعاً: منصوب على الحال من حِيتانُهُمْ، والعامل فيه: تَأْتِيهِمْ.
مَعْذِرَةً مفعول لأجله، فكأنهم لما قالوا: لم تعظون؟ قالُوا: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي لمعذرة إلى ربكم. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: موعظتنا معذرة.
بِعَذابٍ بَئِيسٍ على وزن فعيل، مصدر «بيس» وتقديره: بعذاب ذي بيس، أي: ذي بوس، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
139
المفردات اللغوية:
وَسْئَلْهُمْ يا محمد توبيخا عما وقع لأهل القرية عَنِ الْقَرْيَةِ هي أيلة، وخليج أيلات معروف اليوم وقيل: مدين، وقيل: طبرية، والمراد بالقرية: أهلها، والعرب تسمى المدينة قرية، وعن أبي عمرو بن العلاء: ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعني رجلين من أهل المدن حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة مجاورة للبحر الأحمر (بحر القلزم) على شاطئه، وهي أيلة إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يعتدون ويتجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه. والسَّبْتِ: مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت سبتها بترك الصيد وغيره من الأعمال، والاشتغال بالعبادة، والمعنى: يعدون في تعظيم السبت. وكذلك قوله: يَوْمَ سَبْتِهِمْ معناه يوم تعظيمهم أمر السبت.
حِيتانُهُمْ سمكهم، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة شُرَّعاً ظاهرة على الماء وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا يعظمون السبت أي سائر الأيام لا تَأْتِيهِمْ ابتلاء من الله كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم، ومعنى نَبْلُوهُمْ نختبرهم.
ولما صادوا السمك يوم السبت بحيلة حجزه وراء حواجز يوم الجمعة، افترقت القرية أثلاثا: ثلث صادوا معهم، وثلث نهوهم، وثلث أمسكوا عن الصيد والنهي.
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ معطوف على إِذْ قبله، والأمة منهم: الجماعة منهم وهي التي لم تصد ولم تنه كمن نهى قالُوا: مَعْذِرَةً أي موعظتنا معذرة نعتذر بها إلى الله، لئلا ننسب إلى تقصير في ترك النهي، أي قياما منا بعذر أنفسنا عند ربنا بقصد التنصل من الذنب وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الصيد.
فَلَمَّا نَسُوا تركوا ما ذُكِّرُوا بِهِ وعظوا به، أي تركوه ترك الناس، وأعرضوا عنه إعراضا تاما، فلم يرجعوا عن المخالفة السُّوءِ العمل الذي تسوء عاقبته بَئِيسٍ شديد، مأخوذ من البأس وهو الشدة، أو من البؤس وهو المكروه يَفْسُقُونَ يخرجون عن الطاعة.
عَتَوْا تكبروا عن ترك ما نهوا عنه خاسِئِينَ صاغرين. أما الفرقة الساكتة فقال ابن عباس: ما أدري ما فعل بالفرقة الساكتة. وقال عكرمة: لم تهلك لأنها كرهت ما فعلوه، وقالت:
لِمَ تَعِظُونَ؟ وروى الحاكم عن ابن عباس: أنه رجع إلى قول عكرمة وأعجبه.
المناسبة:
تذكر الآيات نوعا آخر من مخالفات اليهود وعصيانهم، فبعد أن ذكرت قصتهم في دخول القرية، ذكرت قصة احتيالهم على صيد الأسماك. وقد ذكرت
140
هذه القصة في سورة البقرة إجمالا في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [٦٥] وأشير إليها في سورة النساء أيضا في الآيتين [٤٧، ١٥٤]. وذكرت قبل ذلك هنا في سورة الأعراف التي نزلت بمكة قبل ملاقاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أحدا من اليهود، للدلالة على الإعجاز لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان رجلا أميا، لم يتعلم علما، ولم يطالع كتابا، فإخباره بالقصة معجز، ودليل على أن ذلك من إخبار الله وكلامه.
وهناك فائدة أخرى من إيراد القصة: وهو التنبيه على أن الكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم وبمعجزاته ليس شيئا جديدا حادثا في هذا الزمان، وإنما كان الكفر والإصرار حاصلا في أسلافهم من الزمان القديم.
أضواء من التاريخ على القصة:
روي أن اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به، وهو يوم الجمعة، فتركوه، واختاروا يوم السبت، فابتلوا به، وحرّم عليهم فيه الصيد وأمروا بتعظيمه، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرّعا بيضا سمانا، كأنها المخاض، لا يرى الماء من كثرتها، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ، فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم جاءهم إبليس، فقال لهم: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فاتخذوا حياضا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها، وتأخذونها يوم الأحد.
وأخذ رجل منهم حوتا، وربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل، ثم شواه يوم الأحد، فوجد جاره ريح السمك، فتطلع في تنوره، فقال له: إني أرى الله سيعذبك، فلما لم يره عذب، أخذ في السبت القادم حوتين، فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم، صادوا وأكلوا، وملّحوا، وباعوا، وكانوا نحوا من سبعين ألفا.
فصار أهل القرية أثلاثا: ثلث نهوا وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا، وثلث قالوا: لم تعظون قوما؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة.
141
فلما لما ينتهوا، قال المسلمون: إنا لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار، للمسلمين باب، وللمعتدين باب، ولعنهم داود عليه السلام، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم، ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس شأنا، فنظروا، فإذا هم قردة، ففتحوا الباب، ودخلوا عليهم، فعرفت القرود أنسباءهم من الإنس، والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود، فجعل القرد يأتي نسيبه، فيشم ثيابه ويبكي، فيقول: ألم ننهك؟ فيقول برأسه: بلى. وقيل: صار الشباب قردة والشيوخ خنازير.
وعن الحسن البصري: أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها، أثقلها خزيا في الدنيا، وأطولها عذابا في الآخرة، هاه، وايم الله، ما حوت أخذه قوم فأكلوه، أعظم عند الله من قتل رجل مسلم، ولكن الله جعل موعدا، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ «١».
التفسير والبيان:
واسأل يا محمد يهود عصرك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، والسؤال للتوبيخ والتقريع، وبيان أن كفر المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليس جديدا، بل هو موروث، فإن أسلافهم ارتكبوا الذنب العظيم، وخالفوا أوامر الله تعالى.
وحذرهم من مخالفتك لئلا يحل بهم ما حل بسلفهم.
اسألهم عن أهل المدينة التي كانت قريبة من البحر على شاطئه، وهي أيلة على شاطئ البحر الأحمر، بين مدين والطور، حين اعتدوا حدود الله، وتجاوزوها يوم السبت الذي يعظمونه، بترك العمل فيه، وتخصيصه للعبادة،
(١) انظر القصة في الكشاف: ٢/ ٥٨٤- ٥٨٥.
142
فخالفوا أمر الله فيه بالوصية لهم به إذ ذاك، واصطادوا السمك فيه، وقد نهوا عنه.
فكان السمك يأتيهم كثيرا على سطح الماء يوم تعظيم السبت، ولا يحتاج صيده إلى عناء.
ويوم لا يسبتون، في سائر الأيام غير السبت، تختفي الأسماك ولا تظهر، ولا تأتيهم كما كانت تأتيهم يوم السبت.
فاحتالوا على صيدها بإقامة الأحواض حيث يأتي المد بالسمك ثم إذا انحسر الماء بالجزر، تبقى الأسماك في الأحواض، فيأخذونها يوم الأحد.
مثل ذلك البلاء بظهور السمك يوم السبت المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في الأيام التي يحل لهم صيده، نبلو أي نختبر السابقين والمعاصرين، ونعاملهم معاملة من يختبر حالهم، ليجازى كل واحد على عمله، بسبب فسقهم المستمر وخروجهم عن طاعة الله لأن من سنة الله أن من أطاعه، سهل له أمور الدنيا، وأثابه في الآخرة، ومن عصاه، ابتلاه بأنواع المحن والمصائب.
وحين ظهور المعصية فيهم، انقسم أهل تلك القرية فرقا ثلاثا، هي فرقة المؤيدين، وفرقة المعارضين الواعظين، وفرقة المحايدين الذين لم يجدوا فائدة من الوعظ ولاموا الواعظين قائلين لهم: لم تعظون قوما قد قضى الله بإهلاكهم وإفنائهم، وقد علمتم أن الله سيهلكهم ويعاقبهم في الدنيا والآخرة.
فأجابهم الواعظون: نعظهم لنبرئ أنفسنا من السكوت عن المنكر، ونعتذر إلى ربكم بأننا أدينا واجبنا في الإنكار عليهم، ونحن لا نيأس من صلاحهم وعودتهم إلى الحق، ولعلهم بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.
143
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة، أنجينا الناهين عن السوء وهم فريق الواعظين وفريق اللائمين، إلا أن الفريق الأول كانوا أحزم وأقوى لأنهم أنكروا بالقول والفعل، لذا صرح القرآن بنجاة الناهين، والفريق الثاني أنكر بالقلب فقط، لذا سكت القرآن عن الساكتين، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا، ولا ارتكبوا ذنبا، فيذموا.
وعذبنا الظالمين الذين ارتكبوا المعصية بعذاب شديد.
وذلك العذاب أنهم لما عتوا أي تمردوا وتكبروا عن ترك ما نهوا عنه، وأبوا سماع نصيحة الواعظين، جعلهم الله قردة صاغرين أذلاء منبوذين مبعدين عن الناس. هذا عذاب الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
والظاهر وهو رأي الجمهور أنهم مسخوا قردة على الحقيقة لمخالفتهم الأوامر وتماديهم في العصيان، لا لمجرد اصطياد الحيتان. وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا وانقطع نسلهم؟ لا دلالة في الآية عليه.
وقال مجاهد: أصبحوا كالقردة في سوء الطباع والطيش والشر والإفساد، بسبب جناياتهم.
والراجح رأي العلماء الذين قالوا: إن الساكتين كانوا من الناجين لرجوع ابن عباس إلى رأي عكرمة في نجاة الساكتين، وقد رجح ابن كثير هذا الاتجاه، قائلا: وهذا أولى من القول بأنهم من الهالكين لأنه تبين حالهم بعد ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات في هذه القصة على ما يأتي:
١- الإخبار بالقصة علامة لصدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم. وكانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة ٥/ ١٨] لأنا
144
من سبط خليله إبراهيم، ومن سبط إسرائيل، ومن سبط موسى كليم الله، ومن سبط ولده عزيز، فنحن من أولادهم، فقال الله عز وجل لنبيه: سلهم يا محمد عن هذه القرية: أما عذبتهم بذنوبهم؟
٢- إبطال الحيل الممنوعة المؤدية لتعطيل شرع الله، وهدم مبادئه، وتجاوز أحكامه، ومخالفة أوامره.
٣- القول بسدّ الذرائع، أي تحريم كل وسيلة تؤدي إلى الممنوع أو المحظور شرعا، فما أدى إلى الحرام فهو حرام.
٤- إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتزال أهل الفساد ومجانبتهم، وأن من جالسهم، كان مثلهم.
٥- دل قوله: كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ على أن من أطاع الله تعالى، خفف الله عنه أحوال الدنيا والآخرة، ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن. وهذا يعني أن المعاصي سبب النقمة.
٦- واحتج أهل السنة بالآية على أنه تعالى لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح، لا في الدين ولا في الدنيا لأنه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السبت، ربما يحملهم على المعصية والكفر، فلو وجب عليه رعاية الصلاح والأصلح، لوجب أن لا يكثر هذه الحيتان في ذلك اليوم، صونا لهم عن ذلك الكفر والمعصية.
٧- الفرقة التي عصت أوامر الله، وتمادت في معصية الله، كانت هالكة، والفرقة التي أنكرت العصيان ووعظت العصاة، كانت ناجية. وأما الفرقة الساكتة فكانت على الراجح من الناجين، لإنكارها بالقلب، ويأسها من الإصلاح.
145
٨- قد لا يأتي العذاب الشديد فجأة، وإنما بالتدريج، فقد عاقب الله بني إسرائيل أولا بتنكيل البابليين، ثم النصارى بهم، وسلبوا ملكهم. ومن ألوان عذاب الدنيا: المسخ قردة وخنازير بسبب التمادي في العصيان، ثم يأتي عذاب الآخرة.
رفع الجبل فوق اليهود وإذلالهم إلى يوم القيامة وتفريقهم في الأرض واستثناء الصالحين
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٧ الى ١٧١]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
146
الإعراب:
وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ دون: صفة لموصوف محذوف، وتقديره: ومنهم جماعة دون ذلك، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، وهو منصوب على الظرف. أُمَماً مفعول ثان أو حال مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ صفة أو بدل منه.
وَرِثُوا الْكِتابَ: جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة فَخَلَفَ.
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو وَرِثُوا.
وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الجملة حال من وَيَقُولُونَ...
وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنا معطوف على يَأْخُذُونَ.
وَدَرَسُوا معطوف على وَرِثُوا الْكِتابَ.
أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ اعتراض وقع بين: ورثوا ودرسوا. أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ عطف بيان لميثاق الكتاب.
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ في موضع رفع لأنه مبتدأ، وخبره: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ وتقديره: إنا لا نضيع أجر المصلحين منهم، ليعود من الخبر إلى المبتدأ عائد. ويجوز أن يكون ذكر الْمُصْلِحِينَ من قبيل وضع المظهر موضع المضمر أي أجرهم، تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع.
وَإِذْ نَتَقْنَا وإذ: في موضع نصب بتقدير فعل، وتقديره: واذكر إذ نتقنا.
كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ في موضع نصب على الحال من الْجَبَلَ. وقيل: في موضع رفع بتقدير مبتدأ محذوف.
البلاغة:
أَفَلا تَعْقِلُونَ التفات من الغيبة إلى الخطاب، لزيادة لتوبيخ.
المفردات اللغوية:
تَأَذَّنَ مثل أذّن: أي أعلم ونادى للإعلام لَيَبْعَثَنَّ ليسلطن عَلَيْهِمْ أي على اليهود يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ يذيقهم سوء العذاب بالذل وأخذ الجزية، فبعث عليهم سليمان، وبعده البابليين المجوس بقيادة بختنصر، فقتلهم وسباهم وضرب عليهم الجزية، ثم النصارى، ثم
147
المسلمين، ثم الألمان في العصر الحديث لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ لأهل طاعته رَحِيمٌ بهم.
وَقَطَّعْناهُمْ فرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً أي جماعات وفرقا وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي ناس منحطون عنهم وهم الكفار والفساق وَبَلَوْناهُمْ اختبرناهم بِالْحَسَناتِ بالنّعم وَالسَّيِّئاتِ النقم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن فسقهم. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ بسكون اللام:
من يخلف غيره في الشر، ومنه قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ...
[مريم ١٩/ ٥٩] وبفتح اللام: من يخلف غيره بالخير، والخلف: مصدر نعت به، ولذلك يقع على الواحد والجمع، وقيل: جمع وَرِثُوا الْكِتابَ التوراة عن آبائهم يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى العرض: متاع الدنيا وحطامها، والأدنى: الشيء الدني وهو الدنيا، والمراد يأخذون المال أو هذا الشيء الدنيء من حلال وحرام.
وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الجملة حال، أي يرجون المغفرة، وهم عائدون إلى ما فعلوه، مصرون عليه، وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار، وإنما غفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة، والمصرّ لا غفران له.
أَلَمْ يُؤْخَذْ استفهام تقرير مِيثاقُ الْكِتابِ الإضافة بمعنى في، وهو قوله في التوراة:
من ارتكب ذنبا عظيما، فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة. وَدَرَسُوا ما فِيهِ عطف على: يُؤْخَذْ أي قرءوه وفهموه، فهم عارفون الحكم ذاكرون له. فلم كذبوا عليه بنسبة المغفرة مع الإصرار لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الحرام. أَفَلا تَعْقِلُونَ أو بالياء: أنها خير، فتؤثروها على الدنيا.
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بالتشديد والتخفيف أي يتمسكون به ويعملون وَأَقامُوا الصَّلاةَ كعبد الله بن سلام وأصحابه.
وَإِذْ نَتَقْنَا واذكر إذ رفعنا الجبل من أصله ظُلَّةٌ أي مظلة وهي كل ما أظلك من سقف أو سماء أو جناح طائر وَظَنُّوا أيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ساقط عليهم، بإنذار الله لهم بوقوعه إن لم يقبلوا أحكام التوراة، وكانوا أبوها لثقلها، فقبلوا. خُذُوا ما آتَيْناكُمْ أي قلنا لهم:
خذوا ما آتيناكم بجد واجتهاد. وَاذْكُرُوا ما فِيهِ بالعمل به.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى بعض قبائح اليهود وعقابهم عليها بالمسخ قردة، ذكر في هذه الآية أنه تعالى حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة، عقابا على
148
أفعالهم، ثم ذكر أنه فرقهم جماعات مشردين في الأرض، وأن خلفهم جماعة ماديون تهمهم الدنيا فقط، وأن أسلافهم قبلوا الأخذ بالتوراة بعد إنذارهم بإسقاط الجبل عليهم. وهذا كله للعبرة، فكل أمة تفسق عن أمر الله وتخالف أحكام الدين مهددة بمثل هذا العقاب.
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد حين أعلم ربك أسلاف اليهود على لسان أنبيائهم أنه قضى عليهم في علمه وأوجب على نفسه، ليسلطنّ عليهم إلى يوم القيامة من يذيقهم العقاب الشديد، ويلحق بهم الذل والصغار، ويفرض عليهم الجزية، ويبدد ملكهم، ويفرق شملهم، حتى يصبحوا أذلة مشردين.
إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه وخالف شرعه، وإنه لغفور لمن تاب إليه وأناب، ورحيم بأهل الطاعة والإنابة.
وقد تحقق مدلول الآية، فكان موسى عليه السلام أول من فرض الخراج عليهم، وألزمهم به، ثم قهرهم اليونانيون والكشدانيون والكلدانيون والبابليون، ثم الروم النصارى، أخذوا منهم الجزية والخراج، ثم المسلمون الذين أخذوا منهم الجزية والخراج، ثم الألمان بقيادة هتلر في العصر الحديث، الذي قتلهم وشردهم في البلاد.
والآية بمعنى قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً إلى أن قال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء ١٧/ ٤- ٨] أي وإن عدتم إلى الإفساد بعد المرة الآخرة، عدنا إلى التعذيب والإذلال.
وأما وجود اليهود في فلسطين الآن فهو أمر عارض مؤقت زائل بإذن الله، لثقتنا بوعد الله وكلامه.
149
هذا هو العقاب الأول على معاصي اليهود المتكررة وتمردهم على أحكام الله، وهو تسليط الأمم عليهم لإذلالهم وتعذيبهم.
والعقاب الثاني: هو تفريقهم وتمزيقهم جماعات وطوائف وفرقا في أنحاء الأرض، فلا يخلو منهم قطر من الأقطار، فيهم الصالح وغير ذلك.
فمنهم الصالحون المحسنون الذين يؤمنون بالأنبياء بعد موسى، ويؤمنون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، ويؤثرون الآخرة على الدنيا، مثل أولئك الذين نهوا عن الاعتداء في السبت، ومثل عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا.
ومنهم من هو دون غيره في الصلاح، ومنهم الفسقة الفجرة الكفرة الذين كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ومنهم السماعون للكذب الأكّالون للسّحت كالرشا والربا لتبديل الأحكام والقضاء بغير ما أنزل الله. وفي الجملة: معنى وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم.
والله يعامل الفريقين كما يعامل غيرهم، فيختبرهم بالحسنات أي بالنعم وبالسيئات أي بالنقم، لعلهم يرجعون عن ذنبهم، ويشكروا النعمة، ويصبروا على النقمة.
ثم ظهر من الصالحين ومن دونهم خلف ورثوا التوراة عن أسلافهم، أي تلقفوا ما فيها من الأحكام وقرءوها واطلعوا على ما فيها. وهم الذين كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم هجروها وآثروا الدنيا ومتاعها وزينتها وتفانوا في جمع حطامها، لا يبالون، حلالا كان أو حراما أي من غير طريق شرعي، كالسحت والرشوة والمحاباة في الحكم والاتجار في الدين وتحريف الكلم عن مواضعه، وزعموا أن الله سيغفر لهم ولا يؤاخذهم على أفعالهم وسيئاتهم، قائلين: إننا أبناء الله وأحباؤه، وسلائل أنبيائه، وهم مقيمون على المعاصي، مصرون على الذنوب، لا يتورعون عن ضم الحرام إلى غيره، فإن يأتهم عرض آخر من عروض الدنيا مثل
150
الذي أخذوه أولا بالباطل، يأخذوه بلهف دون تعفف، وهم يعلمون أن وعد الله بالمغفرة مخصوص بالتائبين الذين يقلعون عن ذنوبهم.
فرد الله تعالى عليهم بقوله: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ... أي أن الله تعالى ينكر عليهم صنيعهم هذا لأنه قد أخذ عليهم العهد والميثاق ألا يقولوا على الله غير الحق، فيما يتمنون على الله من غفران ذنوبهم التي يصرون عليها ولا يتوبون منها، وهذا هو المذكور في التوراة: من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة، ومن جملة الميثاق أن يبينوا للناس الحق ولا يكتمونه، وألا يحرفوا الكلم ولا يغيروا الشرائع لأجل أخذ الرشوة، وهم قد درسوا الكتاب (التوراة) وفهموا ما فيه، من تحريم أكل مال الغير بالباطل والكذب على الله.
ثم رغبهم الله في جزيل ثوابه، وحذرهم من وبيل عقابه، فقال:
ألم يعلموا أن الدار الآخرة وما فيها من نعيم خالد خير للذين يتقون المعاصي ومحارم الله، ويتركون هوى نفوسهم، ويقبلون على طاعة ربهم، إنها خير من حطام الدنيا الفاني الذي يؤخذ بطريق الحرام كالرّشا والسحت وغير ذلك، أفلا تعقلون؟ أي أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي من ثواب عقل يردعهم عماهم فيه من السفه والتبذير؟! والخلاصة: أن الدار الآخرة خير من ذلك العرض الخسيس.
وفي هذا إيماء إلى أن الطمع في متاع الدنيا هو الذي أفسد بني إسرائيل، وفي هذا عبرة للمسلمين الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة.
ثم أثنى الله تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، كما هو مكتوب فيه، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ... أي والذين يستمسكون بأوامر الكتاب الإلهي، ويعتصمون به، ويقتدون بمنهجه، ويتركون زواجره، وأقاموا الصلاة، وخصها بالذكر مع أن الكتاب يشتمل على كل عبادة،
151
ومنها إقامة الصلاة إظهارا لعلو مرتبتها، وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان، وأنها عماد الدين، والفارقة بين الكفر والإيمان.
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ أي لا نضيع أجرهم لأن المصلحين في معنى الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف ١٨/ ٣٠].
وبعد أن بيّن الله تعالى مخالفة بني إسرائيل لأحكام دينهم ذكّر ببدء حالهم في إنزال الكتاب عليهم، فقال: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ... أي واذكر أيها النبي إذ رفعنا فوقهم جبل الطور لقوله: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة ٢/ ٦٣- ٩٣] وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ [النساء ٤/ ١٥٤]، وأصبح كأنه سقيفة، لما أبوا أن يقبلوا التوراة لثقلها، وعلموا وأيقنوا أنه ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو، ولأنهم كانوا يوعدون به، وقلنا لهم: خذوا ما أعطيناكم من أحكام الشريعة بجد واجتهاد، وحزم وعزم على احتمال المشاق والتكاليف.
واذكروا ما فيه من الأوامر والنواهي، ولا تنسوه، أو: واذكروا ما فيه من الإعداد للثواب والعقاب، فترغبوا في الثواب العظيم، وترهبوا من العقاب الشديد، رجاء أن تتحقق التقوى في قلوبكم، فتصبح أعمالكم متفقة مع الدين، وفي ذلك الفلاح لكم، أو لتتقوا ما أنتم عليه، فإن قوة العزيمة في إقامة الدين تزكي النفوس وتهذيب الأخلاق، كما أن التهاون في احترام الدين يغري النفوس على اتباع الشهوات، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس ٩١/ ٩- ١٠].
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات واردة في حق اليهود الذين بقوا على الكفر واليهودية، فأما الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم فخارجون عن هذا الحكم.
152
وقد دلت الآيات على ما يلي:
١- إعلام اليهود الأسلاف ومن باب أولى الخلف أنهم إن غيروا نصوص التوراة، ولم يؤمنوا بالنبي الأمي، بعث الله عليهم من يعذبهم إلى يوم القيامة.
وهذا تنصيص على أن ذلك العذاب مستمر إلى يوم القيامة، وهو يقتضي أن العذاب إنما يحصل في الدنيا. وللعذاب ألوان ومظاهر، فهو إما أخذ الجزية، وإما الاستخفاف والإهانة والإذلال لقوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا [آل عمران ٣/ ١١٢] وإما الإخراج والإبعاد من الوطن. وقد أذاقهم العذاب أمم كثيرة في الماضي من عهد بختنصّر، إلى العهد الإسلامي، وإلى العصر الحديث. وأما دولة إسرائيل فلا يحسد موقفها فهي تبع لإمريكا والغرب، وتعيش في قلق واضطراب ومخاوف، فلا تنعم بالأمن والاستقرار، ولا تهدأ ساحتها، لا في الداخل ولا في الخارج، وزوالها محقق مع الزمن، كما يثبت أهل العلم، فإن مرور الزمان ليس في صالحهم إطلاقا.
٢- اليهود أمة مشتتة ممزقة مفرقة في أنحاء الأرض، لا يخلو منهم قطر، منهم الصلحاء ومنهم الكفرة الفسقة الفجرة، وقد اختبرهم الله بأنواع عديدة من الاختبارات، أو عاملهم معاملة المختبر، فأمدهم بالحسنات أي بالخصب والعافية، والسيئات، أي الجدب والشدائد، ليرجعوا عن كفرهم ويتوبوا من فسقهم. قال أهل المعاني: وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة، أما النعم فلأجل الترغيب، وأما النقم فلأجل الترهيب.
٣- أولاد الذين فرّقهم الله في الأرض، ورثوا التوراة كتاب الله، فقرءوه وعلموه، وكانوا خلف سوء، خالفوا أحكامه وارتكبوا محارمه، مع دراستهم له، فاستحقوا التوبيخ والتقريع من الله تعالى.
ومن قبائحهم: ماديتهم الطاغية، وربما هم الذين علّموا أوربا وأمريكا
153
النزعة المادية الشديدة، فهم كانوا يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا من حلال أو حرام، لشدة حرصهم ونهمهم: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى ويزعمون أنه سيغفر لهم مع بقائهم على المعاصي، بل إنهم لا يتوبون، وقد ذمهم الله على اغترارهم بقولهم: سَيُغْفَرُ لَنا مع أنهم مصرون على الذنوب.
وإن جاءتهم عروض أخرى دنيوية وهي الرّشا والمكاسب الخبيثة، أخذوها أيضا. وفي هذا دلالة على أن الطمع في الدنيا هو سبب فساد اليهود. قال الحسن البصري: هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا، وأنهم لا يستمتعون منها «١».
وقال القرطبي: وهذا الوصف الذي ذمّ الله تعالى به هؤلاء موجود فينا، أسند الدارمي أبو محمد عن معاذ بن جبل قال: «سيبلى القرآن في صدور أقوام كما سيبلى الثوب فيتهافت، يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصّروا قالوا:
سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا: سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا»
«٢».
٤- أخذ الله العهد والميثاق على بني إسرائيل في التوراة وفي جميع الشرائع على اتباع قول الحق في الشرع والأحكام، وألا يميل الحكام بالرّشا إلى الباطل. وهذا عهد أيضا على المسلمين في كتاب ربنا وسنة نبينا.
ثم خالف اليهود الميثاق، مع أنهم قرءوا التوراة، وهم قريبو عهد بها. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحقّ برشوة، فيخرجون له كتاب الله، فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة، وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم، وحكموا له.
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ١٤
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ٣١١- ٣١٢
154
٥- المتمسكون بكتاب الله، والمقيمو الصلاة، لهم أجرهم الجزيل عند ربهم، لا يضيع من حسناتهم شيء.
٦- من قبائح اليهود أنهم رفضوا الأخذ بالتوراة لغلظها وثقلها، ولم يعودوا للعمل بما فيها إلا بتهديدهم بإسقاط جبل الطور عليهم. وقد سبق بيان قصة الجبل في سورة البقرة (٦٣، ٩٣) وفي سورة النساء (١٥٤).
الميثاق العام المأخوذ على بني آدم
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٤]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
الإعراب:
وَإِذْ أَخَذَ إذ: في موضع نصب لأنه يتعلق بقولهم: قالُوا: بَلى وقيل: بتقدير:
اذكر. ومِنْ ظُهُورِهِمْ: بدل من بَنِي آدَمَ بإعادة الجار، وهو بدل بعض من كل، وتقديره: وإذ أخذ ربك من ظهورهم من بني آدم ذرياتهم.
أَنْ تَقُولُوا في موضع نصب على المفعول له أي لأجله، وتقديره: لئلا يقولوا، أو كراهة أن تقولوا.
البلاغة:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ فيه التفات من المتكلم إلى المخاطب، والأصل: وإذ أخذنا، والمقصود تعظيم شأن الرسول بتوجيه الخطاب له. والإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام: رَبُّكَ فيها تكريم وتشريف.
155
المفردات اللغوية:
وَإِذْ أَخَذَ: واذكر حين أخذ أي أخرج، وإنما عبّر به، لما فيه من الاصطفاء والانتقاء مِنْ ظُهُورِهِمْ جمع ظهر: وهو ما فيه العمود الفقري للإنسان ذُرِّيَّتَهُمْ سلالتهم ذكورا وإناثا، بأن أخرج بعضهم من صلب بعض، من صلب آدم، نسلا بعد نسل، كنحو ما يتوالدون كالذر وَأَشْهَدَهُمْ أخذ منهم شهادة على أنفسهم، والشهادة: إما قولية، كما قال:
ِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
[الأنعام ٦/ ١٣٠] أو حالية، كما قال: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ، شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة ٩/ ١٧] أي حالهم شاهدة عليهم بذلك، لا قائلين.
بَلى شَهِدْنا أي بلى أنت ربنا، شهدنا بذلك أَنْ تَقُولُوا أي أن الإشهاد لئلا تقولوا أيها الكفار عَنْ هذا التوحيد غافِلِينَ لا نعرفه.
وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أي فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم به لا يصلح عذرا أَفَتُهْلِكُنا تعذبنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ من آبائنا بتأسيس الشرك. المعنى:
لا يمكنهم الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد. والتذكير به على لسان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قائم مقام ذكره في النفوس.
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ مثل ذلك البيان للميثاق نبينها، ليتدبروها وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم أو عن التقليد واتباع الباطل.
المناسبة:
لما شرح الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع توابعها، ذكر في هذه الآية ما هو حجة على جميع المكلفين. وبعد أن ذكر الميثاق الخاص على اليهود بقوله:
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة ٢/ ٦٣] وقوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ذكر هنا الميثاق العام الذي أخذه على بني آدم جميعا وهم في صلب آدم.
والمقصود من هذا الكلام هاهنا إلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج النقلية والعقلية، ومنعهم عن التقليد، وحملهم على النظر والاستدلال.
156
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد للناس جميعا ما أخذه الله على البشر كافة من ميثاق يتضمن الاعتراف على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا الله، وذلك حين أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم كما تثبت الآية، ومن آدم نفسه كما ثبت في الخبر «١»، أي استخرج من بني آدم ذريتهم أو سلالتهم، وخلقهم على فطرة التوحيد والإسلام.
وأشهد كل واحد على نفسه من هؤلاء الذرية قائلا لهم قول إرادة وتكوين، لا قول وحي وتبليغ: ألست بربكم؟ فقالوا بلسان الحال، لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا المستحق وحدك للعبادة.
وسبب هذا الإشهاد هو ألا يعتذروا يوم القيامة إذا أشركوا: إنا كنا عن التوحيد غافلين، أي لم ينبهنا إليه أحد، فلا عذر لكم بعد إقامة الأدلة على وحدانية الله، ووجود العقل، وتكوين الفطرة.
وخلق الناس على فطرة التوحيد مقرر في آية أخرى هي قوله تعالى:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم ٣٠/ ٣٠]
وفي الصحيحين ما يؤيد ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة»
وفي رواية: «على هذه الملة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسّون فيها من جدعاء»
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم».
والجمعاء: السليمة الخلقة، والجدعاء: المقطوعة بعض الأعضاء.
(١) وهو
ما رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لما خلق الله آدم مسح ظهره. فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة... ».
157
وقد اختلف العلماء في هذه الآية آية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ... على رأيين:
رأي السلف، ورأي الخلف. أما السلف من المفسرين فقالوا: إن الله خلق آدم وأخرج من ظهره ذريته كالذر، وأحياهم وجعل لهم عقلا وإدراكا، وألهمهم ذلك الحديث وتلك الإجابة، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم، فأقروا بذلك، وقد روي هذا المعنى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من طرق كثيرة لا يخلو بعضها من ضعف وانقطاع، وقال به جماعة من الصحابة «١».
وأما الخلف فقالوا: هذا من قبيل التمثيل والتصوير، والمجاز والاستعارة فلا سؤال ولا جواب، وإنما أقام الله الأدلة الكونية على وحدانيته وربوبيته للكون كله، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه قال للخلق: أقروا بأني ربكم، ولا إله غيري، وكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى «٢». وهذا ما اختاره الزمخشري وأبو حيان وأبو السعود والبيضاوي. وقال عنه الرازي: لا طعن فيه البتة.
وحدد ابن كثير دلالة الأحاديث، فقال: هذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه، وميّز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم، فما هو إلا في حديث ابن عباس، وفي حديث عبد الله بن عمرو، وهما موقوفان لا مرفوعان، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد، إنما هو فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي، وقد فسر الحسن الآية بذلك.
قالوا: ولهذا قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ولم يقل: من آدم،
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ٤٦، تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٦١- ٢٦٤.
(٢) روي عن ابن عباس أنه قال: «لو قالوا: نعم، لكفروا» لأن «نعم» تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب، فكأنهم أقروا أنه ليس ربهم، بخلاف «بلى» فإنها حرف جواب، وتختص بالنفي وتفيد إبطاله، والمعنى: بلى أنت ربنا، ولو قالوا: نعم، لصار المعنى: نعم لست ربنا.
158
مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل: من ظهره ذرياتهم أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن. ثم قال: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى أي أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا، والشهادة تكون بالقول، كقوله: الُوا: شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
الآية، وتارة تكون حالا، كقوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ، شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة ٩/ ١٧] أي حالهم شاهد عليهم بذلك، لا أنهم قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ [العاديات ١٠٠/ ٧].
فالمراد من الآية أن الله تعالى جعل الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد حجة مستقلة عليهم، ولهذا قال: أَنْ تَقُولُوا أي لئلا تقولوا يوم القيامة: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا أي التوحيد غافِلِينَ أي لم ننبه إليه أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا الآية.
وإني لميّال لهذا الرأي، وهو أولى الآراء بالصواب.
أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا... أي إن سبب الإشهاد لمنع اعتذارهم يوم القيامة بغفلتهم عن التوحيد، أو بادعائهم التقليد، وقولهم: إن آباءنا أشركوا من قبلنا، ونحن خلف لهم، نجهل بطلان شركهم، وقد قلدناهم في أعمالهم واعتقادهم، مع حسن الظن بهم، ولم نهتد إلى التوحيد.
أفتهلكنا بالعذاب وتؤاخذنا بما فعله المبطلون من آبائنا؟! ولكن الله لا يقبل عذرهم أبدا لأن التقليد في الاعتقاد وأصول الدين لا يجوز.
ومثل ذلك التفصيل البليغ الواضح للميثاق، نفصل للناس الآيات البينات، ليتدبروها بعقل وبصيرة، ولعلهم يرجعون بها عن شركهم، وجهلهم، وتقليدهم الآباء والأجداد.
159
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- خلق الله البشر على فطرة التوحيد أي الإقرار بأن الله ربهم وأنه واحد لا شريك له.
٢- لا يعذر الإنسان بالجهل بخالقه، لما يرى من الدلائل، فمن لم تبلغه دعوة رسول لا يعذر يوم القيامة في الشرك بالله، ولا بفعل الفواحش التي تنفر منها الطباع السليمة وتدرك ضررها العقول الرشيدة.
٣- إن من مات صغيرا دخل الجنة لإقراره في الميثاق الأول، ومن بلغ عاقلا لم يغنه الميثاق الأول، وبناء عليه: أطفال المشركين في الجنة.
٤- إبطال حجة المشركين يوم القيامة بأنه لم يأتهم رسول ينبههم إلى التوحيد، وإبطال التقليد للآباء والأجداد في أصول العقيدة والدين، فكما لا يقبل الاعتذار بالجهل لقيام الأدلة على التوحيد، لا يقبل الاعتذار بالتقليد، بعد قيام الأدلة الفطرية والعقلية على معرفة الله ووحدانيته.
٥- في كتاب الله تعالى وهو القرآن تفصيل كل شيء، فكما فصل الله في الآية بناء الإنسان على فطرة التوحيد، بيّن سائر الآيات ليتدبرها الناس، فيرجعوا إلى الحق، ويعرضوا عن الباطل.
160
قصة بلعم بن باعوراء وأمثاله الضالين المكذبين
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٥ الى ١٧٧]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)
الإعراب:
يَلْهَثْ في الموضعين، حال، أي لاهثا ذليلا بكل حال.
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ: فاعل ساءَ مقدر فيها، وتقديره: ساء المثل مثلا.
والْقَوْمُ: أي مثل القوم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وارتفع بما كان يرتفع به «مثل». وهو يرتفع إما لأنه مبتدأ وما قبله خبره، وإما لأنه خبر مبتدأ محذوف، كقولهم: بئس رجلا زيد، أي هو زيد، ومَثَلًا: منصوب على التمييز.
وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ إما معطوف على قوله كَذَّبُوا فيصير المعنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم، وإما كلام منقطع بمعنى: وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب.
البلاغة:
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ تشبيه تمثيلي، شبه حاله التي هي مثل في السوء كحال أخس الحيوانات، وهي حالة الكلب في دوام لهثه، سواء في حالة التعب أو الراحة، والتشبيه التمثيلي: هو حالة انتزاع الصورة من متعدد.
أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ تشبيه مرسل مجمل.
161
المفردات اللغوية:
وَاتْلُ اقرأ نَبَأَ خبر مهم فَانْسَلَخَ مِنْها خرج من الآيات بكفره، كما تخرج الحية من جلدها، وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني إسرائيل، الذي دعا على موسى مقابل هدية من اليهود. وعبر بالانسلاخ للدلالة على كمال مباينته للآيات، بعد أن كان بينهما كمال الاتصال، كما قال أبو السعود.
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أدركه ولحقه فصار قرينه الْغاوِينَ الراسخين في الغواية والضلالة، بعد أن كان من المهتدين وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها لو شئنا لرفعناه إلى منازل العلماء، بأن نوفقه للعمل أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ركن إلى الدنيا ومال إليها وَاتَّبَعَ هَواهُ في دعائه إليها، فأصبح من الحقيرين فَمَثَلُهُ صفته إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ تشد عليه بالطرد والزجر يَلْهَثْ للهث: التنفس الشديد مع إخراج اللسان. والقصد: التشبيه في الخسة والحقارة.
ذلِكَ المثل مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بعد أخذ الميثاق عليهم وعلى الناس فَاقْصُصِ الْقَصَصَ على اليهود ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ أي بئس وقبح، والمثل: الصفة يَظْلِمُونَ بالتكذيب.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أخذ الميثاق على الناس قاطبة، وإقرارهم بأن الله ربهم، ضرب المثل للمكذبين بآياته المنزلة على رسوله، ومضمون هذا المثل أن العالم بآيات الله غير العامل بها كالحية تنسلخ من جلدها وتتركه على الأرض.
قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله: نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء.
التفسير والبيان:
واقرأ أيها الرسول على اليهود خبر الذي علمناه آياتنا، ولكنه لم يعمل بها، وتركها وراءه، وتجرد منها إلى الأبد، فلحقه الشيطان وأدركه وصار قرينا له، وتمكن من الوسوسة له، فأصغى إليه، فصار من الظالمين الكافرين، لميله إلى الدنيا واتباع الهوى والشيطان.
162
وهو عالم من علماء بني إسرائيل، وقيل: من الكنعانيين، وروي عن ابن عباس أنه رجل من اليمن، اسمه بلعم بن باعوراء، أوتي علم بعض كتب الله، فانسلخ منها، وكفر بآيات الله، ونبذها وراء ظهره.
وذلك أن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه، وغزا أهله وكانوا كفارا، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه، وكان مجاب الدعوة، وعنده اسم الله الأعظم، فامتنع منه، فما زالوا يطلبونه منه، حتى دعا عليه، فاستجيب له، ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه «١». وقال مالك بن دينار: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى عليه السلام إلى ملك مدين، يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه، وترك دين موسى عليه السلام «٢».
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بالآيات، وجعلنا له منزلة عظيمة من منازل العلماء الأبرار، بأن نوفقه للهداية والعمل بالآيات.
ولكنه ركن إلى الدنيا ومال إليها ورغب فيها واهتم بلذائذها، واتبع هواه، فلم يوجه همّه إلى نعيم الآخرة، ولم يهتد بآياتنا، ولم ترق نفسه إلى سلّم الكمال الروحي، ولم يحترم نعمة الله عليه باستعمالها في مرضاته.
وأصبح مثله أو صفته في الذلة والحقارة، والخسة والدناءة كمثل الكلب أو صفته في أخس أحوالها وأذلها، وهي حال دوام اللهث به، سواء حمل عليه أي شد عليه وطرد، أو ترك دون طرد.
وهذه الصفة هي أقبح حالات الكلب وأخسها، وقد شبّه بها حال عجيبة غريبة، هي حال ذلك الذي تجرد من معرفة آيات الله تعالى.
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ٥٤.
(٢) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٦٤.
163
ذلك المثل الغريب هو مثل هؤلاء القوم الذين كذبوا بآيات الله، واستكبروا عنها، ولم تنفعهم الموعظة، وهم اليهود بعد ما قرءوا نعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في التوراة، وبشروا الناس باقتراب مبعثه، وكانوا يستنصرون أو يستفتحون به، وجاء القرآن المعجز كاشفا هذه الحقيقة التي أنكرها اليهود بعد بعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
فاقصص أيها الرسول قصص ذلك الرجل الذي تشبه حاله حال المكذبين بآياتنا، لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعم وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته، بسبب استعماله نعمة الله في تعليمه الاسم الأعظم- الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب- في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن، لعلهم يتفكرون فيحذروا أن يكونوا مثله، فإن الله أعلمهم بصفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته.
ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، أي قبحت أشد القبح صفة المعرضين عن النظر في آيات الله أن شبهوا بالكلاب التي لا هم لها إلا تحصيل أكلة أو شهوة، وهم بهذا الإعراض كانوا ظالمين لأنفسهم بالتكذيب، فما ظلمهم الله، ولكن هم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهدى، وطاعة المولى.
وقد ذكر سوء هذا المثل في السنة، فقد ثبت
في الصحيح وفي الكتب الستة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه».
فقه الحياة أو الأحكام:
الهدف من هذه القصة ضرب مثل لجميع الكفار، المعرضين عن الإيمان بالله والرسول بعد ما عرفوا الحق، فمن آتاه الله العلم والدين، فمال إلى الدنيا، وأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ، كان مشبّها بأخس الحيوانات، وهو الكلب اللاهث، حيث واظب على العمل الخسيس والفعل القبيح، لا لحاجة أو ضرورة.
164
وشبّه حال كل كافر بحال رجل عرف آيات الله، ثم تركها وراء ظهره، وهذا ينطبق على بلعم بن باعوراء أو غيره ممن اتصف بهذه الصفة، فلم تعين الآية اسم من ضرب به المثل، وحينئذ لا يهم سواء أكان ذلك مطابقا لبعض الروايات بأنه رجل من بني إسرائيل أم الكنعانيين أم أهل اليمن، أم من غيرهم.
وتكون الآية تحذيرا للناس عن اتباع أهوائهم، وركونهم إلى الدنيا وشهواتها، واتباع الأغراض الدنيئة، وترك ما أرشدتهم إليه آيات الله من الإيمان بالله وبرسوله وبالآخرة.
والآية واضحة الدلالة على أن المعرض عن آيات الله، واقع في الضلالة والغواية، بسبب سوء فعله، واختياره العمل بما هو قبيح شرعا ومروءة.
وعلى الإنسان الاعتبار بهذه القصة، والتأمل والتفكر في آيات الله بعين البصيرة والعقل، لا بالهوى والحقد والعداوة. وفي إيراد هذا المثل والتشبيه بالصورة الواقعية إشارة إلى أن للأمثال تأثيرا قويا في إقناع السامعين، وأنها أقوى أثرا من إيراد الحجج والبراهين.
وفيها إشارة أيضا إلى أهمية التفكر، وأنه مبدأ الوصول إلى الحقيقة والعلم والمعرفة الصحيحة، كما قال تعالى في مناسبات كثيرة في كتابه، مثل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر ٣٩/ ٤٢] ومثل: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس ١٠/ ٢٤].
وهذه الآية- كما قال الرازي- من أشد الآيات على أصحاب العلم، فإن العالم إذا لم يعمل بعمله، حرم بركة العلم، وكان بعده عن الله أعظم،
كما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال فيما رواه الديلمي في الفردوس عن علي رضي الله عنه: «من ازداد علما، ولم يزدد زهدا، لم يزدد من الله إلا بعدا»
أو كما قال.
165
أسباب الهداية والضلالة
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٨ الى ١٧٩]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)
الإعراب:
فَهُوَ الْمُهْتَدِي حمل على اللفظ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حمل على المعنى، والقصد من الإفراد في الأول والجمع في الثاني: هو التنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم، بخلاف الضالين.
البلاغة:
أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ التشبيه هنا مرسل مجمل.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ ذَرَأْنا خلقنا وأوجدنا الْجِنِّ مخلوقات خفية لا تدرك بالحواس لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها أي لا يفهمون بها الحق، والقلب هنا هو الذي يسمونه أحيانا (الضمير) ويراد به هنا العقل أو الوجدان أي محل الحكم على الأشياء المدركة، وسبب هذا الاستعمال أن آثار الأحداث من خوف أو سرور تنعكس عليه، فيحدث الانقباض أو الانشراح. وكثيرا ما يستعمل في القرآن بمعنى دقة الفهم والتعمق في العلم.
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها دلائل قدرة الله، بصر عظة واعتبار وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في عدم الفهم والبصر والاعتبار بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام لأنها تحرص على ما ينفعها، وتهرب مما يضرها، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة.
166
المناسبة:
بعد أن ضرب الله المثل للمنسلخ من الدين الخارج منه، ليتعظ أولئك الضالون، ويتركوا ضلالهم، ويعودوا إلى الحق، بيّن أسباب الهدى والضلال، من استعمال العقل والحواس، واستخدام هداية الفطرة في سلوك أحد السبيلين:
الخير والشر، كما قال تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد ٩٠/ ١٠].
التفسير والبيان:
من يوفقه الله للإيمان والخير واتباع الشرع والقرآن باستعمال عقله وحواسه، فهو المهتدي حقا لا سواه، ومن يخذله ولا يوفقه، ولا يهديه إلى الخير واتباع القرآن، بسبب تعطيل عقله وحواسه في فهم آياته الكونية والشرعية، فهو الخاسر البعيد عن الهدى، الذي خسر الدنيا والآخرة.
وبما أن الهداية الإلهية نوع واحد والضلالة أنواع متعددة، أفرد الله المهتدي، وجمع الخاسرين، فقال: فَهُوَ الْمُهْتَدِي ثم قال: فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
ثم أوضح تعالى ما أجمله بالنسبة لأهل الضلالة فقال: وَلَقَدْ ذَرَأْنا أي أن الله تعالى يقسم بأنه خلق أو أوجد خلقا كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مستعدين لعمل يستحق دخول جهنم، وخلق أيضا خلقا آخرين مستعدين لعمل يدخلهم الجنة، كما قال في بيان مآل الفريقين: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى ٤٢/ ٧] وقال في بيان مصيرهم يوم القيامة: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود ١١/ ١٠٥].
وأسباب استحقاق أهل النار دخول جهنم: هي أنهم لا يستعملون عقولهم استعمالا صحيحا للوصول إلى حقيقة الإيمان، وإدراك لذة السعادة الدنيوية
167
والأخروية، وأن الخير فيما أمر الله به، وأن الشر فيما نهى عنه الله، وإنما نظرتهم ظاهرية، كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم ٣٠/ ٧] فهم بمنزلة من لا يفقه لأنهم لا ينتفعون بقلوبهم الواعية، ولا يعقلون ثوابا ولا يخافون عقابا.
وهم أيضا لا ينظرون بأعينهم نظر تبصر واعتبار وإمعان في آيات الله الكونية وآياته القرآنية التي ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم.
ولا يسمعون بآذانهم سماع تدبر وإصغاء آيات الله المنزلة على أنبيائه، ولا يسمعون أخبار التاريخ والأمم الغابرة، وكيف كان مصيرهم بسبب إعراضهم عن هداية الله وإرشاد الرسل. وليس الغرض من نفي السمع والبصر نفي الإدراكات عن حواسهم، وإنما المقصود بيان حجبها عن إبصار الهدى وسماع المواعظ.
ونظير ذلك قوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ، أَفَلا يَسْمَعُونَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ، أَفَلا يُبْصِرُونَ [السجدة ٣٢/ ٢٦- ٢٧].
أولئك الموصوفون بما ذكر من تعطيل عقولهم وحواسهم هم كالأنعام (البقر والإبل والغنم) لا همّ لهم إلا الأكل والشرب والتمتع بلذات الحياة والدنيا، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا منها لأن الأنعام تحرص على ما ينفعها، وتنفر مما يضرها، ولا تسرف في أكلها وشربها، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة، وهم مسرفون في جميع اللذات، ولا يهتدون إلى ثواب، ولا قدرة للحيوانات على تحصيل الفضائل، وأما الإنسان فأعطي القدرة على تحصيلها.
أولئك هم كاملو الغفلة عن آيات الله وعن استعمال مشاعرهم وعقولهم فيما
168
خلقت من أجله، وهو الاستفادة من المسموعات، والانتفاع من المبصرات، وهم الأغبياء الجاهلون الذين لا ينظرون إلى المستقبل، وإنما انصرفوا إلى الحياة الدنيا، وتركوا الاشتغال بما يؤهلهم للخلود في نعيم الحياة الآخرة. وعلى هذا تكون غفلتهم بمعنى ترك التدبر، والإعراض عن الجنة والنار.
أما العقلاء الفطنون فهم الذين عملوا للآخرة، ولم يهملوا ما تتطلبه الدنيا، كما قال تعالى: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا، وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص ٢٨/ ٧٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
يرى المعتزلة أن الهداية والضلالة باختيار الإنسان، وأما هذه الآية:
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ فهي في المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم، ونظرا لإيغالهم في الكفر وإصرارهم عليه، وأنه لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار، جعلهم الله مخلوقين للنار، فالآية تدل على توغلهم في موجبات النار، وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخولها «١».
ويرى أهل السنة أن الآية تدل على أن الهداية من الله، وأن الضلال من الله تعالى، فمن هداه الله، فإنه لا مضل له، ومن أضله فقد خاب وخسر لا محالة، فإنه تعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولهذا جاء في حديث ابن مسعود الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وغيرهم: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
(١) الكشاف: ١/ ٥٨٨.
169
لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» «١».
قال البيضاوي عن قوله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ: تصريح بأن الهدى والضلال من الله، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض «٢».
وأما قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا فيدل في رأي أهل السنة على أن الله تعالى خلق الأفعال أو الأعمال، فإن أولئك الكفار استعملوا عقولهم وحواسهم في مصالح الدنيا، ولم يستخدموها في مصالح الدين، فما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يحقق مصالح الدين، وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين. والمعنى أن الله خلق في المؤمن القدرة على الإيمان، وخلق في الكافر القدرة على الكفر «٣»، والعبد وجّه تلك القدرة إما إلى الإيمان وإما إلى الكفر، ولم يجبره تعالى على اختيار أحد الأمرين، وإلا لما كان عدلا حسابه وعقابه.
قال ابن كثير في تفسير آية: وَلَقَدْ ذَرَأْنا أي خلقنا وهيأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، وبعمل أهلها يعملون، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون قبل كونهم، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة،
كما ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء».
والخلاصة: يرى المعتزلة أن الإنسان يخلق أفعال نفسه، وأن الإنسان مخيّر مطلقا، ويرى أهل السنة والجماعة أن الله تعالى هو الذي يخلق أفعال العبد، وأن
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٦٧.
(٢) تفسير البيضاوي: ص ٢٢٩.
(٣) تفسير الرازي: ١٥/ ٦٠- ٦٣.
170
للإنسان تخييرا وكسبا في أمور ما عدا الحياة والموت والعز والذل والرزق ونحوها من الأصول وذلك لأن الله هو خالق الخلق ومتصف بالعدل، فيخلق أفعال الإنسان، ومن الظلم أن يحاسبه على فعل أكره عليه أو قهر عليه، والهداية من الله لها مفهومان: الدلالة، والتمكين من الوصول إلى الغاية، أي أن تعالى أرشد الإنسان ودلّه على طرق الخير: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد ٩٠/ ١٠] ثم وفقه لهدفه ومكنه من الوصول إليه بهداية أخرى، فمن سأل شرطيا عن طريق فدله عليه، فتلك الهداية الأولى، وإذا ركب معه في سيارته، وأوصله إلى المكان المطلوب فذلك هو التمكين من الهداية الثانية، والإنسان هو الذي يوجّه ما خلق الله فيه من قدرات في الخير والشر إلى كل منهما، وبهذا التوجيه يحاسب وعليه يعاقب.
واستدل العلماء بقوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف ٧/ ١٧٩] على أن محل العلم هو القلب لأنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم، مما يدل على أن محل الفهم والفقه هو القلب.
أسماء الله الحسنى
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٠]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
المفردات اللغوية:
الْأَسْماءُ جمع اسم: وهو ما يدل على الذات أو هو كل لفظ جعل للدلالة على المعنى إن لم يكن مشتقا، فإن كان مشتقا فهو صفة الْحُسْنى مؤنث الأحسن فَادْعُوهُ بِها سمّوه ونادوه بها للثناء عليه أو لطلب الحاجات منه وَذَرُوا اتركوا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ يميلون عن الحق، حيث اشتقوا منها أسماء لآلهتهم، كاللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة: من المنان.
171
صل الإلحاد في كلام العرب: العدول عن القصد، والميل والجور والانحراف. ومنه اللحد في القبر انحرافه إلى جهة القبلة سَيُجْزَوْنَ سيلقون في الآخرة جزاء أعمالهم.
المناسبة:
لما وصف الله تعالى المخلوقين لجهنم بأنهم هم الغافلون، لتعطيل عقولهم ومشاعرهم في فهم آيات الله وتزكية نفوسهم بالإيمان والعلم النافع، أمر بعده بذكر لله تعالى، فهو الدواء لتلك الغفلة، فقال: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وهو كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله تعالى، والمخلّص عن عذاب جهنم هو ذكر الله تعالى.
وقد ذكرت أسماء الله تعالى الحسنى في سور أربعة: أولها: هذه السورة، وثانيها: في آخر سورة الإسراء (بني إسرائيل) في قوله: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء ١٧/ ١١٠]، وثالثها: في أول طه، وهو قوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [طه ٢٠/ ٨]، ورابعها: في آخر الحشر، وهو قوله: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الحشر ٥٩/ ٢٤].
سبب النزول:
روي أن بعض المسلمين دعا الله أو الرحيم في صلاته، ودعا الرحمن مرة أخرى فقال المشركون: محمد وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو اثنين، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، أي أن هذه الأسماء إله واحد، وليست بآلهة متعددة.
التفسير والبيان:
لله دون غيره جميع الأسماء المشتملة على أحسن المعاني، فنادوه بها إما للثناء عليه، مثل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة ٢/ ٢٥٥] ومثل: هُوَ
172
اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ
[الحشر ٥٩/ ٢٢] وإما للسؤال وطلب الحاجات.
وأسماء الله الحسنى تسع وتسعون، جاء
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن لله تسعا وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر»
ومعنى «أحصاها» عدها وحفظها وتفكر في مدلولها.
وقد ذكر الترمذي والحاكم هذه الأسماء من طريق الوليد بن مسلم عن شعيب، فقال بعد قوله: «يحب الوتر» :«هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفار، القهار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البرّ، التواب، المنتقم، العفوّ، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المانع «١»، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور» «٢».
(١) وفي رواية: المغني. [.....]
(٢) قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة. والراجح لدى المحدثين أن سرد هذه الأسماء مدرج من الراوي، كما حقق الحافظ ابن حجر.
173
والمراد من الأسماء في الآية والحديث: التسميات بلا خلاف، وهي عبارات عن كون الله تعالى على أوصاف شتى، منها ما يستحقه لنفسه، ومنها ما يستحقه لصفة تتعلق به، ومنها صفات لذاته، ومنها صفات أفعال.
وهذه الأسماء عند العلماء توقيفية، فلا يسمى باسم لم يرد في القرآن والسنة كالرفيق والسخي والعاقل.
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي اتركوا أولئك الذين يلحدون في أسمائه بالميل بألفاظها أو معانيها عن الحق، إلى سبل أخرى من تحريف أو تأويل، أو شرك، أو تكذيب، أو زيادة أو نقصان، أو ما ينافي وصفها بالحسنى.
والإلحاد يكون بثلاثة أوجه:
أحدها- بالتغيير فيها كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدلوا بها عما هي عليه، فسمّوا بها أوثانهم، فاشتقوا اللّات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان.
الثاني- بالزيادة فيها، أي التشبيه، فالمشبهة وصفوه بما لم يأذن فيه.
الثالث- بالنقصان منها أي التعطيل، فالمعطلة سلبوه ما اتصف به، كما يفعل الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الله تعالى بغير أسمائه، ويذكرونه بغير ما يذكر من أفعاله، إلى غير ذلك مما لا يليق به.
والسبب في تركهم أنهم سيلقون جزاء عملهم، ويعاقبون في الدنيا قبل الآخرة.
174
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
١- الأسماء الحسنى ليست إلا لله تعالى لأن قوله وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يفيد الحصر.
٢- أسماء الله ليست إلا لله، والصفات الحسنى ليست إلا لله، فيجب كونها موصوفة بالحسن والكمال، وهذا يفيد أن كل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال، فإنه لا يجوز إطلاقه على الله سبحانه.
والأسماء: ألفاظ دالة على المعاني، فهي إنما تحسن بحسن معانيها ومفهوماتها، ولا معنى للحسن في حق الله تعالى إلا ذكر صفات الكمال ونعوت الجلال، وهي محصورة في نوعين: عدم افتقاره إلى غيره، وثبوت افتقار غيره إليه.
وأسماء الله تعالى يجوز إطلاقها كلها على غير الله تعالى، ما عدا اسمي: الله والرحمن.
وهذه الأسماء منها ما يمكن ذكره وحده، مثل: يا الله، يا رحمن، يا حكيم. ومنها ما لا يجوز إفراده بالذكر، بل يجب أن يقال: يا محيي يا مميت، يا ضار يا نافع.
ولا يجوز إطلاق اسم على الله غير وارد في القرآن والسنة، فهي أسماء توقيفية، ولا تنحصر في تسع وتسعين، بدليل
ما رواه الإمام أحمد، وأبو حاتم بن حبان البستي في صحيحة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ما أصاب أحدا قط همّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته
175
أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدل مكانه فرجا» فقيل: يا رسول الله، أفلا نتعلمها؟ فقال: «بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها».
وقد أورد ابن العربي مائة وستة وأربعين اسما من أسماء الله للتضرع والابتهال، وذكر في موضع آخر زيادة ثلاثين اسما «١». فصار المجموع مائة وستة وسبعين، مثل الطيّب والمعلّم والجميل: وهو الذي لا يشبهه شيء.
٣- لله أسماء حسنة، يجب على الإنسان أن يدعو الله بها، وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية، كما تبين، فيجوز أن يقال: يا جواد، ولا يجوز أن يقال: يا سخي، يا عاقل، يا طبيب، يا فقيه.
٤- الاسم غير المسمى لأن أسماء الله كثيرة، ولا شك أن الله واحد منها، فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى.
لذا قال جماعة من العلماء: المراد بهذه الأسماء التسميات لأنه سبحانه واحد، والأسماء جمع. ذكر ابن عطية في تفسيره أن الأسماء في الآية بمعنى التسميات إجماعا من المتأولين لا يجوز غيره.
فمعنى قوله: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي التسميات الحسنى التي يدعى بها لا بغيرها. وقيل: ولله الصفات. والاسم هو المسمى، أو صفة له تتعلق به، وهو غير التسمية.
٥- سمى الله سبحانه أسماءه بالحسنى لأنها حسنة في الأسماع والقلوب فإنها تدل على توحيده وجوده ورحمته وإفضاله.
(١) أحكام القرآن: ٢/ ٧٩٨- ٨٠٥
176
٦- ليس للإنسان أن يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى، وهذه الدعوة تتطلب فهم معاني تلك الأسماء. وقد ذكر ابن العربي في أحكام القرآن «١» وغيره تلك المعاني، فيطلب بكل اسم ما يليق به، يقول: يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رزاق ارزقني، يا هادي اهدني. وإن دعا باسم عام قال: يا مالك ارحمني، يا عزيز احكم لي، يا لطيف ارزقني، وإن دعا بالاسم الأعظم قال:
يا الله، فهو متضمن لكل اسم، قال ابن العربي: وهكذا، رتّب دعاءك تكن من المخلصين.
٧- يجب تنزيه الله تعالى عن الإلحاد في أسمائه، وذلك على ثلاثة أوجه:
الأول- إطلاق أسماء الله المقدسة الطاهرة على غير الله، كتسمية الكفار الأوثان آلهة، وتسمية أصنام لهم باللات والعزى ومناة، من الإله، والعزيز، والمنان. وكان مسيلمة الكذاب لقب نفسه بالرحمن.
والثاني- أن يسمى الله بما لا يجوز تسميته به، مثل تسميته أبا للمسيح، وقول النصارى: الأب، والابن، وروح القدس.
والثالث- أن يذكر العبد ربه بلفظ لا يعرف معناه، ولا يتصور مسماه، فإنه ربما كان مسماه أمرا غير لائق بجلال الله تعالى.
وقد ختمت الآية بقوله تعالى: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وهو تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله تعالى.
قالت المعتزلة: الآية قد دلت على إثبات العمل للعبد، وعلى أن الجزاء مفرع على عمله وفعله.
(١) المرجع والمكان السابق.
177
والدعاء مشروع وعبادة، قال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة ٢/ ١٨٦].
ولا يكون الدعاء لغير الله تعالى من أي مخلوق حي أو ميت، فالله وحده هو الذي يقصد في الدعاء، فهو الصمد أي الذي لا يقصد في المطالب غيره، وقال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل ٢٧/ ٦٢] أي لا يجيب المضطر إلا هو، فهو المستحق وحده للعبادة، المقصود بالدعاء.
وفوائد الأمر بذكر الله في الآية: فَادْعُوهُ بِها كثيرة: منها ترسيخ معالم الإيمان وتنميته، وتحقيق مراقبة الله والخشوع له، والرغبة فيما عنده، وتهوين شأن الدنيا ولذاتها، روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي: «من نزل به غم أو كرب أو أمر مهمّ، فليقل: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض، ورب العرش الكريم».
وروى الحاكم في المستدرك عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لفاطمة: «ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ أن تقولي إذا أصبحت، وإذا أمسيت: يا حيّ، يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين».
178
المهتدون والمكذبون من أمة الدعوة الإسلامية
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨١ الى ١٨٦]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
الإعراب:
وَيَذَرُهُمْ بالرفع على تقدير مبتدأ، وتقديره: هو يذرهم. ويقرأ بالجزم بالعطف على موضع الفاء في فَلا هادِيَ لَهُ وموضعه الجزم على جواب الشرط، أي أن الرفع على سبيل الاستئناف، والجزم عطف على محل ما بعد الفاء.
وَأَنْ عَسى أي في أنه عسى، وأن: مخففة من الثقيلة، والأصل: وأنه عسى، على أن الضمير ضمير الشأن، والمعنى: أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث، عسى أن يكون أجلهم قرب، ولعلهم يموتون عما قريب، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق قبل مفاجأة الموت والعقاب. وقوله:
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ متعلق بقوله: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ.
المفردات اللغوية:
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ هم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث المتواتر «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق... ». ويهدون: يرشدون الناس إلى الحق والخير وَبِهِ يَعْدِلُونَ أي وبالحق يحكمون وكما عند الشيخين عن المغيرة بالعدل دون ميل لأحد الجانبين المتخاصمين.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا القرآن، من أهل مكة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سنأخذهم قليلا قليلا،
179
وننزلهم درجة بعد درجة إلى دركات العذاب، وندنيهم من الهلاك شيئا فشيئا وَأُمْلِي لَهُمْ نمهلهم ونؤخرهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي إن تدبيري الخفي شديد قوي لا يطاق.
ما بِصاحِبِهِمْ محمد صلّى الله عليه وآله وسلم مِنْ جِنَّةٍ جنون نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن الإنذار، والإنذار:
التعليم والإرشاد مع التخويف مَلَكُوتِ ملك مِنْ شَيْءٍ بيان لما، فيستدلوا به على قدرة صانعه ووحدانيته قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ قرب أجلهم، فيموتوا كفارا، فيصيروا إلى النار، فيبادروا إلى الإيمان مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مجموع العالم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ الحديث: كلام الله، وهو القرآن، وبعده: بعد القرآن وَيَذَرُهُمْ يتركهم فِي طُغْيانِهِمْ الطغيان: تجاوز الحد في الكفر والشر والظلم يَعْمَهُونَ يترددون تحيرا.
سبب النزول: نزول الآية (١٨٤) :
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا:
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن قتادة بن دعامة قال: ذكر لنا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قام على «صفا» فدعا قريشا، فجعل يدعوهم فخذا فخذا، يا بني فلان، يحذرهم بأس الله ووقائعه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوت «١» إلى الصباح، أو حتى أصبح، فأنزل الله تعالى:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ.
المناسبة:
أخبر الله تعالى في الآيات السابقة أنه خلق لجهنم كثيرا من الخلق لأنهم أهملوا طاقات المعرفة لديهم من العقل والحواس، ثم أرشد إلى ما يصلح الناس ويقوي إيمانهم من الدعاء بأسمائه الحسنى، ثم ذكر هنا انقسام أمة الدعوة المحمدية فريقين: فريق المهتدين الذين يقضون بالحق والعدل، وفريق المكذبين الضالين. ولفت النظر إلى وجوب التفكر والنظر في عالم السموات والأرض، للتوصل إلى فهم الأمور الدالة على وحدانية الله وصدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.
(١) وفي رواية: «يهوّت».
180
التفسير والبيان:
من بعض الأمم أمة قائمة بالحق قولا وعملا، يرشدون الناس ويدعونهم إليه، ويعملون بالحق، ويقضون بالعدل، دون ميل ولا جور، وهم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، بدليل ما جاء في الأحاديث الكثيرة التي منها:
ما رواه الشيخان في الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة»
وفي رواية «حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك».
ومنها:
ما قاله الربيع بن أنس في قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ... قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن من أمتي قوما على الحق، حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل».
ومنها:
ما أخرجه ابن جرير الطّبري وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان عن ابن جريج في قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ قال: ذكر لنا النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «هذه أمّتي بالحقّ يحكمون ويقضون، ويأخذون ويعطون».
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال في هذه الآية: بلغنا أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا قرأها: وهذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها:
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ.
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان عن علي بن أبي طالب قال: لتفترقنّ هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النّار إلا فرقة، يقول الله: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ، وَبِهِ يَعْدِلُونَ فهذه هي التي تنجو من هذه الأمّة.
والخلاصة: لما ذكر تعالى في قصّة موسى قوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ثم أعاد الله تعالى هذا الكلام، حمله أكثر المفسّرين
181
على أنّ المراد منه أمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، بدليل ما روي عن ابن عباس وقتادة وابن جريج وغيرهم.
هذا هو الفريق الأوّل من أمّة الدّعوة المحمّدية، ثمّ ذكر تعالى الفريق الثّاني بقوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا... أي والذين كذبوا بالقرآن وهم أهل مكة نتركهم في ضلالهم، ونستدرجهم إلى العذاب من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، ونقرّبهم إلى ما يهلكهم، بإمدادهم بالنّعم، وفتح أبواب الرّزق والخير، وتيسير سبل المعاش، كلّما ارتكبوا ذنبا أو فعلوا جرما، فيزدادون بطرا وانغماسا في الفساد، وتماديا في الغي، وتدرّجا في المعاصي، بسبب متابعة تلك النّعم والخيرات، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٥٥- ٥٦]، وقال تعالى أيضا:
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام ٦/ ٤٤- ٤٥]، وروى الشيخان عن أبي موسى:
«إنّ الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته».
وقد تحقّق ذلك بكفار قريش الذين هزموا في بدر والخندق وفتح مكة وغيرها من المعارك، وأظهر الله رسوله عليهم.
قال عمر لما حملت إليه كنوز كسرى: «اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني سمعتك تقول: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ».
وَأُمْلِي لَهُمْ، أي سأملي وأطوّل لهم ما هم فيه وأمهل هؤلاء المكذّبين المستدرجين، إنّ مكري أو تدبيري الخفي شديد قوي.
والخلاصة: إنّ الإمداد بالنّعم والخيرات والأرزاق ليس دليلا على صلاح الإنسان، وإنما قد يكون استدراجا كما يستدرج العدو إلى مكان للقضاء عليه،
182
فالظالم إذا لم يعاقب فورا، عليه ألا ينخدع بذلك، فقد يكون تركه طعما للتّعرّف على المزيد من بغيه وجوره، كما تفعل أجهزة الأمن اليوم في كثير من حالات مراقبة تحرّكات المشبوهين، ثم يقع ذلك الظالم في قبضة الحكام لعقابه الدّنيا، أو تنزل به المصائب والدّواهي، ثم يعاقبه الله بالعذاب الشديد الآخرة. والاستدراج: هو الإدناء قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم.
وبعد أن هدّد الله المعرضين عن آياته، عاد إلى الجواب عن شبهاتهم، فقال:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا... أي أولم يتفكّر هؤلاء المكذّبون بآياتنا ما بصاحبهم يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم من جنون، فقد كانوا يقولون: شاعر مجنون، مع أنهم يعرفون حاله من بدء نشأته، ويعلمون حقيقة دعوته، ودلائل رسالته، فهو رسول الله حقّا، دعا إلى حقّ. والتّعبير: بِصاحِبِهِمْ للتّذكير بأنهم يعرفون سيرته معرفة كاملة في سنّ الصّبا وعهد الشّباب والكهولة وبعد النّبوة.
إنهم إن تفكّروا في شأنه، وتجرّدوا عن عصبيّتهم وأهوائهم، عرفوا الحقّ، وأدركوا صدقه، وأنه ليس مجنونا ولا شاعرا، كما حكى القرآن افتراءهم:
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير ٨١/ ٢٢]، قُلْ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ، بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ ٣٤/ ٤٦]، أَمْ يَقُولُونَ: بِهِ جِنَّةٌ، بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٧٠]، وَقالُوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر ١٥/ ٦]، وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصّافات ٣٧/ ٣٦].
إنه ليس بمجنون، بل هو منذر ناصح، ومبلّغ أمين، فهو ينذركم ما يحلّ بكم من عذاب الدّنيا والآخرة إذا لم تؤمنوا بدعوته.
وبعد أن حكى الله عن هؤلاء المكذّبين موقفهم، فذكر: أكذّبوا الرّسول، ولم
183
يتفكّروا في شأنه وشأن دعوته؟ لفت نظرهم إلى ما يدعوهم إلى الإيمان بوحدانية الله، فقال: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا أي أكذّبوا الرّسول، ولم ينظروا في عالم السموات والأرض، ففي ملكوت السماء والأرض دلائل على وجود الصانع الحكيم القديم، والملكوت: من صيغ المبالغة ومعناه: الملك العظيم، فإذا نظر هؤلاء المكذّبون بآياتنا في ملك الله وسلطانه ونظامه البديع في السموات والأرض، وفي كل ما خلق الله من كبير وصغير، لأداهم النّظر الصحيح إلى وجود الله تعالى ووحدانيته، وألم ينظروا في احتمال مجيء الموت فربّما يموتون عمّا قريب، فليسارعوا إلى النّظر وطلب الحقّ قبل مفاجأة الأجل وحلول العقاب، وليؤمنوا برسول الله، وينيبوا إلى طاعته.
وقوله: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ تنبيه على أن دلائل التوحيد غير مقصورة على السّموات والأرض، بل كلّ ذرة من ذرأت الأجسام والأرواح التي خلقها الله برهان قاهر على التّوحيد.
وقوله: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ معناه: أو لم ينظروا في أن الشّأن والحديث عسى أن يموتوا عما قريب أي لينظروا في آجالهم التي ربّما اقتربت، وهذا ترغيب شديد في الإتيان بهذا النّظر والتّفكر، وتحذير لهم أن تكون آجالهم قد اقتربت، فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه. والخلاصة: لعلّ أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل فوات الأوان. قال ابن عباس: أراد باقتراب الأجل يوم بدر، ويوم أحد.
فبأي كلام أو حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به؟ وبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله في كتابه، يصدّقون إن لم يصدّقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من عند الله عزّ وجلّ؟ وبأي حديث أحقّ من القرآن أن يؤمنوا به؟
184
ثم قال تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ... مقرّرا لما سبق، ومعلّلا له، وهو أنّ من يضلّه الله فلا هادي له، أي أنّ من فقد الاستعداد للإيمان بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم والعمل بالقرآن، فإن الله يتركه متردّدا في ضلاله، حائرا في سبيله، بسبب تجاوزه الحدّ في الظّلم والطّغيان والفجور، ولن يجد لنفسه هاديا أو مرشدا آخر غير الله.
وليس معنى إضلال الله لهم أنه أجبرهم على الضّلال، بل المقصود أنهم لما تأصّل الكفر في قلوبهم، وأسرفوا في طغيانهم، فقدوا باختيارهم ما يدعوهم إلى الهدى والإيمان، وأصبحت نفوسهم غير متهيّئة لدعوة الحقّ، وخلقهم الله على هذا النحو الذي علمه منهم قبل إيجادهم فكانوا هم الضّالين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن أمة الدّعوة المحمّديّة، وجعلهم كغيرهم من أقوام الأنبياء فريقين: فريق المؤمنين المهتدين، وفريق الضّالين المكذّبين.
أما المهتدون فوصفهم الله بأنهم يرشدون الناس إلى الحق، ويقضون بالحق والعدل، وهذا كما وصف بعض قوم موسى بالوصفين ذاتهما، وفي ذلك غاية التّجرّد والموضوعيّة والحياد وإنصاف الحقائق.
ودلّت الآية- كما ذكر القرطبي- على أنّ الله عزّ وجلّ لا يخلّي الدّنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحقّ.
وأما المكذّبون بآيات الله وقرآنه وهم أهل مكة: فقد أخبر تعالى أنه سيستدرجهم بإدنائهم وتقريبهم إلى ما يهلكهم، ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، عن طريق إمدادهم بالنّعم والخيرات والأرزاق، كلما أتوا بجرم، أو أقدموا على ذنب.
وأنه سيطيل لهم المدّة، ويمهلهم مع إصرارهم على الكفر، ولا يعاجلهم
185
بالعقوبة، وإنما يؤخّر عقوبتهم، لإعطائهم فرصة للعودة إلى الحقّ، والاستجابة لدعوة الإيمان، وتصديق النّبي المصطفى عليه الصّلاة والسّلام. وفي فترة إمهالهم أنذرهم أنهم إن داموا على المعصية والكفر، فإن كيد الله، أي تدبيره شديد قوي محكم.
قيل: نزلت في المستهزئين من قريش، قتلهم الله في ليلة واحدة، بعد أن أمهلهم مدة، كما قال تعالى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً [الأنعام ٦/ ٤٤].
وتضمّنت آية أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا دعوة المكذّبين إلى إصدار الأحكام بالاعتماد على العقل والتّفكير والموازنة والنّظر إلى واقع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم وسيرته، فهو ليس كما تقوّلت ألسنتهم بمجنون، وإنما هو داعية حقّ، ونذير خير، وناصح أمة، ومرشد قوم إلى ما فيه صلاحهم ونجاتهم.
ثم دعاهم الله تعالى إلى إعمال فكرهم وتسديد نظرهم في ملكوت السموات والأرض، وفي المخلوقات والأشياء العديدة، وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت، للتّوصّل إلى معرفة الإله الحقّ، والإيمان بوجود الصانع الحكيم القدير القديم، الذي لا ندّ له ولا شريك ولا نظير، ومعرفة كمال قدرته. وإذا لم يؤمنوا بالقرآن، فبأي قرآن غير ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلم يصدّقون؟! وفي هذا دلالة على أن القرآن هو مصدر الهداية.
وقد استدلّ العلماء بآية أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وأمثالها الكثيرة في القرآن الكريم «١»، على وجوب النظر في آيات الله، والاعتبار بمخلوقاته. وقد ذمّ الله تعالى من لم ينظر، وسلبهم الانتفاع بحواسهم، فقال:
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها... الآية [الأعراف ٧/ ١٧٩]، قال الجصاص: في
(١) نحو قوله تعالى: قُلِ: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها، وقوله: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وقوله:
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ.
186
قوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا حثّ على النّظر والاستدلال والتّفكر في خلق الله وصنعه وتدبيره، فإنه يدلّ عليه وعلى حكمته وجوده وعدله «١». وذلك يدلّ على أنّ التّقليد في العقائد غير جائز، ولا بدّ من النّظر والاستدلال.
واتّجه أكثر العلماء إلى أن النّظر والاستدلال أوّل الواجبات على الإنسان.
وذهب بعضهم إلى أنّ أوّل الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به، والإيمان: هو التّصديق الحاصل في القلب، الذي ليس من شرط صحته المعرفة، ثم النظر والاستدلال المؤدّيان إلى معرفة الله تعالى، فيتقدّم وجوب الإيمان بالله تعالى على المعرفة بالله. وقالوا- ومنهم القرطبي «٢» -: هذا أقرب إلى الصواب وأرفق بالخلق لأن أكثرهم ومنهم العامة والمقلّدون لا يعرفون حقيقة المعرفة والنّظر والاستدلال.
ولأن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر الذي رواه أصحاب الكتب الستّة عن أبي هريرة قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك، عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها، وحسابهم على الله»
.
ومن الطّريف أن العلماء قالوا: لا يكون النّظر والاعتبار في الوجوه الحسان من المرد والنّسوان، فذلك متابعة الهوى، ومخادعة العقل، ومخالفة العلم، ولم يحلّ الله النّظر إلا على صورة لا ميل للنّفس إليها، ولا حظّ للهوى فيها.
وإنما النظر يكون في المخلوقات والجمادات، أما المخلوقات فكثيرة، ينظر في السموات كيف بنيت وزيّنت من غير شقوق، ورفعت بغير عمد، وفي الأرض كيف وضعت فراشا، ووطئت مهادا، وفي أصناف المخلوقات والحيوانات في البر والبحر، وفي البحار التي هي أعظم المخلوقات عبرة. وأما الجمادات فينظر في أصنافها واختلاف أنواعها وأجناسها.
(١) أحكام القرآن: ٣/ ٣٦.
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ٣٣١- ٣٣٣.
187
وهل التّفكّر أفضل أو الصّلاة؟
يرى الصّوفيّة: أنّ الفكرة أفضل، فإنها تثمر المعرفة، وهي أفضل المقامات الشّرعيّة.
ويرى الفقهاء: أن الصّلاة والذّكر أفضل، لما روي في ذلك من الحثّ والدّعاء إليها، والتّرغيب فيها.
وتوسّط ابن العربي، فرأى أن التّفكر أفضل للعالم المفكّر القوي النّظر، القادر على الاستدلال، وأما غيره فالأعمال أقوى لنفسه، وأثبت لشأنه «١».
ودلّ قوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ... على أن الهدى والضّلال من الله، بمعنى أن الله هو الخالق لأفعال العباد، سواء في حال الخير أو في حال الشّر، وأنه جعل القرآن أعظم أسباب الهداية للمتّقين، لا للجاحدين المعاندين. وفي ذلك ردّ على القدريّة الذين يقولون: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه، والمعاصي لا يريدها الله. وهي ردّ أيضا على المعتزلة أيضا الذين يقولون: إنّ العبد خالق لأفعاله، ولكنهم نزّهوا الله عن العجز، فقالوا: إن هذا بقدرة أودعه الله إياها وخلقها.
ولا إجبار من الله على الضّلال، وإنما نسب الضّلال إلى الله في الآية من قبيل النّسبة إلى النّظام الذي وضعه والسّنّة التي قضى بها في خلق الإنسان، وربط أعماله بأسباب تترتّب عليها مسبباتها، فإذا اختار العبد الضّلالة، فلن يجد غير الله هاديا له، ولا يهديه أحد سوى الله. ومن سنّته تعالى أنه يترك هؤلاء الضّالّين يتردّدون حيرة في متاهات ضلالهم، ولا يجدون سبيلا للخروج مما هم فيه. فكما أن من اختار أصل الهداية يزيده الله هدى ويوفّقه لمتابعة طريق الهدى، ويمكّنه
(١) أحكام القرآن: ٢/ ٨٠٧.
188
من الوصول إلى هدفه، كذلك من اختار طريق الضّلالة، يتركه الله في ضلاله، ويزيده ضلالا، ويحجب عنه النّور الذي يؤدّي به إلى الخير، ويلقي على قلبه حجابا كثيفا يمنع نفاذ الخير إليه، فلا يهتدي إلى الحقّ والخير أبدا، كما قال:
كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين ٨٣/ ١٤].
علم السّاعة عند الله
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)
الإعراب:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها: الكاف في الفعل في موضع نصب لأنه المفعول الأوّل. وعَنِ السَّاعَةِ: في موضع المفعول الثاني. وأَيَّانَ مُرْساها مبتدأ وخبر، مُرْساها مبتدأ، وأَيَّانَ خبره، وهو ظرف مبني بمعنى متى لأنه تضمّن معنى حرف الاستفهام، وبني على حركة لالتقاء الساكنين، وكان الفتح أولى لأنه أخفّ الحركات، وموضع الجملة من المبتدأ والخبر: نصب لأنه يتعلق بمدلول السؤال، والتّقدير: قائلين أيّان مرساها.
لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً بَغْتَةً: منصوب على المصدر في موضع الحال.
البلاغة:
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها تشبيه مرسل مجمل، لذكر أداة التّشبيه وهي الكاف، وحذف وجه الشّبه.
المفردات اللغوية:
يَسْئَلُونَكَ أي أهل مكّة. عَنِ السَّاعَةِ القيامة، وهو الوقت الذي ينتهي فيه العالم
189
ويموت أهل الأرض جميعا عند النفخة الأولى للصوّر. وهذا اصطلاح شرعي، ويستعمل عادة بأل، فإذا ذكر بدون «أل» في القرآن فمعناه الساعة الزّمانية، وهو لغة: جزء قليل غير معيّن من الزّمن. وعند الفلكيين: جزء من أربع وعشرين جزءا متساوية من اليوم.
أَيَّانَ مُرْساها متى زمن إرسائها واستقرارها وحصولها، ومنه: إرساء السّفينة أي إيقافها بالمرساة التي تلقى في البحر، فتمنعها من الجريان.
لا يُجَلِّيها لا يظهرها ولا يكشفها. لِوَقْتِها اللام بمعني في، أي في وقتها، كما يقال:
كتبت هذا لغرّة المحرّم أي في غرّته. ثَقُلَتْ عظمت. بَغْتَةً فجأة على غفلة، من غير توقّع ولا انتظار، كما قال عليه الصّلاة والسّلام فيما ذكر قتادة: «إنّ الساعة تهيج بالناس، والرّجل يصلح حوضه، والرّجل يسقي ماشيته، والرّجل يقيم سلعته في السّوق، ويخفض ميزانه ويرفعه» «١».
حَفِيٌّ عَنْها عالم بها أو مبالغ في السؤال عنها، من حفي عن الشيء: إذا سأل عنه، فإن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه، استحكم علمه به، ولذلك عدي بعن. والحفيّ:
المستقصي في السؤال عن الشيء المعتني بأمره، قال الأعشى:
فإن تسألي عنّي، فيا ربّ سائل حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا
والإحفاء: الاستقصاء، ومنه: إحفاء الشّارب. وحفي عن الشيء: إذا بحث للتعرّف عن حاله.
سبب النزول:
كانت اليهود تقول للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن كنت نبيّا فأخبرنا عن الساعة متى تقوم؟». وأخرج ابن جرير الطّبري عن قتادة أن المشركين قالوا ذلك، لفرط الإنكار «٢».
وأخرج الطّبري أيضا وغيره عن ابن عباس قال: قال خمل بن قشير وسموءل بن زيد لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أخبرنا متى الساعة، إن كنت نبيّا كما تقول، فإنّا نعلم ما هي، فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها.
ورجّح ابن كثير أنها نزلت في قريش لأن الآية مكّية، وكانوا يسألون عن
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٧١.
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ٣٣٥.
190
وقت السّاعة، استبعادا لوقوعها وتكذيبا بوجودها «١»، كما قال تعالى:
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سبأ ٣٤/ ٢٩]، وقال تعالى:
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى ٤٢/ ١٨].
المناسبة:
لما تكلّم الله تعالى في التّوحيد والنّبوة والقضاء والقدر، أتبعه بالكلام عن المعاد. وكذلك لما قال تعالى في الآية المتقدّمة عن أجل الإنسان: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ بقصد الحثّ على التوبة والإصلاح، وهو الساعة الخاصة، قال بعده: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ للإرشاد إلى النظر والتّفكر في أمر الساعة العامة التي تنتهي بها الدّنيا كلّها، ويموت بها جميع النّاس، ولبيان أن وقت السّاعة مكتوم عن الخلق.
التفسير والبيان:
يسألونك يا محمد عن وقت الساعة، متى يكون؟ ومتى يحصل ويستقرّ؟ كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ [الأحزاب ٣٣/ ٦٣]. وفي التعبير بالإرساء الدّال على الاستقرار إشارة إلى أن قيام الساعة إنهاء لحركة العالم، وانقضاء عمر الأرض.
قل لهم: إن علم الساعة مقصور على الله وحده، فلا يطّلع عليه أحد من الخلق، فإنه هو الذي يعلم جلية أمرها، ومتى يكون على التّحديد، ولا يظهرها في وقتها المحدود إلا الله، ولا يعلم بها أحد حتى ولو كان ملكا مقرّبا أو نبيّا مرسلا، كما قال تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٧١.
191
[فصلت ٤١/ ٤٧]، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ...
[لقمان ٣١/ ٣٤]. فكلّ من الساعة العامة (القيامة)، والساعة الخاصّة (أجل الإنسان) من الغيبيات التي اختص الله بعلمها، لتكون فترة الاختبار صحيحة وعامة غير متأثرة بدافع العلم بها أو بقصد النّفعية، ولا مختصّة بزمن معيّن يطلع عليه الخلق، ولتبقى رهبتها مهيمنة على النّفوس.
وفي التّعبير بقوله: عِنْدَ رَبِّي إشارة إلى أن ما هو شأن الرّب لا يكون للمخلوق، وأنّ مهمة النّبي الإنذار بوقوعها، لا بتحديد زمنها، حتى لا يضطرب شأن العالم، فلو علمت لاضطرب الناس واختلّ العمران.
لذا قال تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خفي علمها على أهل السّموات والأرض، ولم يعلم أحد من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها، وكلّ ما خفي علمه فهو ثقيل على الفؤاد. وقيل عن الحسن وغيره: كبر مجيئها على أهل السّموات والأرض، وعظم أمرها، فهم لا يدرون متى تفاجئهم، ويتوقعون دائما وقوعها، ويخافون منها لشدّة وقعها وعظم أهوالها.
وقضى الله أنها لا تأتي إلا بغتة أي فجأة على غفلة، والناس مشغولون في شأن الدّنيا ومصالحها. وهذا تأكيد لما تقدّم وتقرير لعنصر المفاجأة في إتيانها.
روى البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشّمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا.
ولتقومنّ الساعة، وقد نشر الرّجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرّجل بلبن لقحته «١»
فلا يطعمه، ولتقومنّ
(١) اللقحة: الشاة الحلوب أو الحامل.
192
الساعة والرّجل يليط «١» حوضه، فلا يسقي فيه، ولتقومنّ الساعة، والرّجل قد رفع أكلته إلى فيه، فلا يطعمها».
يَسْئَلُونَكَ عن الساعة كَأَنَّكَ حَفِيٌّ مبالغ في السؤال عنها، ومهتم بشأن زمنها، وعالم بها. قل لهم: لست أعلمها، إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ الذي يعلم الغيب في السّموات والأرض. وأَيَّانَ معناه الاستفهام عن زمان المجيء، بمعنى متى.
وتكرار هذا الجواب: عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ بعد تكرار السؤال مبالغة في التأكيد، بل ليس هذا تكريرا، ولكن أحد العلمين لوقوعها، وهو الجواب الأول عن سؤالهم عن وقت قيام الساعة، والآخر لكنهها، وهو الجواب الثاني عن سؤالهم عن كنه ثقل الساعة وشدّتها ومهابتها. فالسؤال الأوّل عن وقت قيام الساعة، والثاني عن مقدار شدّتها ومهابتها.
وعبّر هنا بلفظ الجلالة الله إشارة إلى استئثار الله بعلمها لذاته، كما عبّر هناك بلفظ ربي للتّنبيه على أنّ الساعة من شؤون ربوبيّته.
ونقل عن ابن عباس تفسير حَفِيٌّ عَنْها بأنه حفيّ ببرّهم وفرح بسؤالهم، وكأن بينك وبينهم مودّة، وكأنك صديق لهم لأنهم قالوا: بيننا وبينك قرابة، فأسرّ إلينا بوقت الساعة.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه العالم بها، وأنه المختصّ بالعلم بها، وسرّ إخفائها، أو سبب عدم معرفة الخلق وقتها المعيّن، وحكمة ذلك، وإنما يعلم ذلك القليلون، وهم المؤمنون بالقرآن وبما أخبر به النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الشيخان عن عمر رضي الله عنه حينما سأله جبريل عن الساعة، فقال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» أي أنا وأنت سواء في جهل هذا الأمر. ولكن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أخبر عن قرب
(١) يليط: يطلي حوضه أو حجارته بجصّ ونحوه ليمسك الماء.
193
وقوع الساعة،
فقد أخرج الترمذي وصححه عن أنس مرفوعا: «بعثت أنا والساعة كهاتين»
وقرن بين أصبعيه: السبابة والتي تليها.
قال الرّازي: السبب في إخفاء الساعة عن العباد: هو أن يكونوا على حذر منها، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية «١».
وقال الألوسي: وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التّشريعية ذلك، فإنه أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك «٢».
وهذا هو السّر أيضا في إخفاء ليلة القدر وساعة الإجابة، لينشط الناس في طلبها والعمل لها في وقت أطول، وليظلّ الإنسان ملازما حال الاستقامة والدّعاء والعبادة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية على أحكام عديدة مستنبطة من كلّ جملة فيها، وهي ما يأتي:
١- لا يعلم وقت قيام الساعة، ولا مقدار شدّتها ومهابتها، ولا يعرف كنهها وحقيقتها إلا الله عزّ وجلّ، لقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان ٣١/ ٣٤]، وهي محققة المجيء والحدوث لقوله تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها [غافر ٤٠/ ٥٩]، وقريبة الوقوع لقوله تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه ٢٠/ ١٥]، وتقع كلمح البصر أو أقرب لقوله سبحانه:
وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل ١٦/ ٧٧].
٢- إنّ يوم السّاعة عظيم الثّقل على القلوب، بسبب أنّ الخلق يصيرون
(١) تفسير الرّازي: ١٥/ ٨٠. [.....]
(٢) تفسير الألوسي: ٩/ ١٣٤.
194
بعدها إلى البعث والحساب والسؤال، ولكون الخوف من الله في ذلك اليوم شديدا على الخلائق.
٣- لا تجيء الساعة إلا بغتة فجأة، على حين غفلة من الخلق،
روى الحسن البصري عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لتقومنّ الساعة، وإنّ الرّجل ليرفع اللقمة إلى فيه، حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك».
وسمّيت القيامة بالسّاعة لوقوعها بغتة، أو لأن حساب الخلق يقضى فيها في ساعة واحدة، أو لأنها على طولها كساعة واحدة عند الخلق.
٤- لم يكن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم عالما بالسّاعة ولا كثير السؤال عنها.
٥- الحكمة التّشريعية في كون وقت السّاعة مكتوما عن الخلق: هو حمل المكلّفين على المسارعة إلى التوبة، وأداء الواجبات، وسداد الحقوق إلى أصحابها.
وللسّاعة أشراط أو علامات ثلاث:
١) - ما وقع بالفعل منذ زمان مثل قتال اليهود وفتح بيت المقدس والقسطنطينية.
٢) - ما حدث بعضه ويتوالى ظهوره مثل كثرة الفتن، وكثرة الدّجالين، وكثرة الزّنا، وكثرة النّساء وتشبههن بالرّجال، والمجاهرة بالكفر والإلحاد والشرك.
٣) - ما سيقع قبيل قيام الساعة من علامات صغرى وكبري، مثل أن تلد الأمة ربّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشّاء يتطاولون في البنيان، ومثل طلوع الشّمس من مغربها.
195
الأمور كلّها بيد الله وحده وعلم الغيب مختصّ بالله تعالى وحقيقة الرّسالة
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٨]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
المفردات اللغوية:
الْغَيْبَ هو ما غاب عنّا، وهو إما حقيقي: لا يعلمه أحد إلا الله، وإما إضافي نسبي يعلمه بعض الخلق بتعليم الله كالأنبياء والرّسل. الْخَيْرِ ما يرغب الناس فيه عادة من المنافع المادية كالمال، والمعنوية كالعلم. السُّوءُ ما يرغب عنه الناس لضرره كالفقر وغيره. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنا إلا منذر بالنّار للكافرين، والإنذار: التّبليغ المقترن بالتّخويف من العقاب على الكفر والمعاصي. والتّبشير: التّبليغ المقترن بالتّرغيب في الثّواب مع الإيمان والعمل الصالح.
والبشير: المبشر بالجنّة للمؤمنين.
سبب النزول:
روي أن أهل مكة قالوا: يا محمد، ألا يخبرك ربّك بالرّخص والغلاء حتى نشتري فنربح، وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن أخبر الله تعالى عن أنّ وقت الساعة (القيامة) لا يعلمه إلا الله وحده، أمر رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم أن يبيّن للناس أنّ كلّ الأمور بيده تعالى وحده، وأنّ علم الغيب كله عنده، وأنه لا يدّعي علم الغيب، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ وبشير، كما قال تعالى في سورة يونس: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ:
196
لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ
[١٠/ ٤٨- ٤٩].
التفسير والبيان:
أمر الله تعالى رسوله أن يفوّض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل، ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه، كما قال تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ...
[الجنّ ٧٢/ ٢٦- ٢٧].
قل أيها الرّسول للناس: إنّي لا أملك لنفسي ولا لغيري جلب أي نفع، ولا أستطيع دفع ضرر عنّي ولا عن غيري، إلا بمشيئة الله وقدرته، فيلهمني إيّاه ويوفّقني له.
وهذا يدلّ على إظهار العبودية، والتّبرّي من ادّعاء العلم بالغيوب، ومنصب الرّسالة لا يقتضي علم الساعة وغيرها من علم الغيب، فالغيب لله وحده.
وإنما وظيفة الرّسالة تبليغ الوحي المنزل، والتّعليم والإرشاد، وفيما عدا ذلك فإنّ الرّسول بشر كسائر الناس: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ...
[الكهف ١٨/ ١١٠].
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ كالمال ونحوه من المنافع، ولما أصابني السّوء، أي لاجتنبت ما يكون من الشّرّ قبل أن يكون، وتوقيت المضارّ قبل أن تقع.
وليس لي مزية عن البشر إلا بتبليغ الوحي عن الله بالإنذار والتّبشير، فما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة، نذير من العذاب، وبشير للمؤمنين بالجنّات، كما قال تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم ١٩/ ٩٧].
197
وكوني المنذر والمبشر للمؤمنين: لأنهم هم المنتفعون بالإنذار والتّبشير.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه آية من أصول العقيدة والدّين، بيّنت حقيقة الرّسالة، وميّزتها عن الرّبوبية، وهدمت قواعد الشّرك والوثنية.
فما الرّسول إلا بشر مبلّغ عن الله ما يوحيه إليه، وهو قدوة صالحة للنّاس في العمل بما جاء به من عند الله، وليس له شيء من صفات الله وأفعاله، ولا سلطان له بالتأثير في الأشياء، لا نفعا ولا ضرّا، ولا خيرا ولا شرّا، ولا إيمانا ولا كفرا.
وبما أنّ الإيمان نفع والكفر ضرّ، فإنهما لا يحصلان إلا بمشيئة الله سبحانه، فهو الخالق للإيمان والكفر، والمريد لهما، والعبد هو الموجد ما خلق الله عنده من قدرة إما إلى الإيمان والخير، وإما إلى الكفر والشّرّ.
وليس أدلّ على الإقناع بعدم علم الرّسول بالغيب من أنه لو كان عالما بالغيب، لحقّق لنفسه منافع الدّنيا وخيراتها، من مال ومجد، وعظمة دولة، ونصر حربي، وتفوّق دائم، وأرباح ومكاسب كثيرة، ولدفع عن نفسه آفات الدّنيا ومضارّها، كالفقر والمرض والجرح والهزيمة ونحوها من ألوان السّوء والشّرّ، ولحذر من مكر الأعداء ومكائدهم، ولاستطاع التّمييز بين من تؤثر فيه الدّعوة إلى الدّين الحقّ ومن لا تؤثّر فيه.
198
التذكير بالنشأة الأولى والأمر بالتوحيد واتباع القرآن والنهي عن الشرك
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٩ الى ١٩٣]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)
الإعراب:
لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً صالحا صفة المفعول الثاني المحذوف، وتقديره: ابنا صالحا، والمفعول الأول: (نا) في الفعل.
شُرَكاءَ جمع شريك، وفيه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي جعل أولادهما له شركاء. وكذلك فِيما آتاهُما أي آتى أولادهما، وقد دل على ذلك قوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ حيث جمع الضمير، وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله:
تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس وما أشبه ذلك، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم.
البلاغة:
فَلَمَّا تَغَشَّاها التغشي: كناية عن الجماع.
199
المفردات اللغوية:
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي من آدم، أو من جنس واحد وَجَعَلَ خلق زوجها حواء لِيَسْكُنَ إِلَيْها ليأنس بها ويطمئن إليها ويألفها تَغَشَّاها جامعها، مثل غشيها حَمَلَتْ علقت منه حَمْلًا خَفِيفاً هو النطفة، والحمل بفتح الحاء: ما كان في بطن أو على شجرة، وبالكسر: ما كان على ظهر فَمَرَّتْ بِهِ استمرت حاملة له إلى وقت ميلاده فَلَمَّا أَثْقَلَتْ صار الحمل ثقيلا وقرب وضعها صالِحاً أي ولدا أو نسلا صالحا أي سويا سليما في الجسم والفطرة فَتَعالَى اللَّهُ تعاظم وتنزه عن الشريك والولد عَمَّا يُشْرِكُونَ أي أهل مكة به من الأصنام.
وأجريت الأصنام مجرى العقلاء أولي العلم في قوله: وَهُمْ يُخْلَقُونَ بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة. والمعنى: أيشركون ما لا يقدر على خلق شيء كما يخلق الله وهم يخلقون.
وجملة فَتَعالَى... عطف على خَلَقَكُمْ وما بينهما اعتراض.
المناسبة:
موضوع الآيات عود على بدء، فقد بدئت السورة بالكلام عن التوحيد واتباع القرآن، ثم ختمت بالكلام عن التوحيد وعن القرآن، والتذكير بالنشأة الأولى، كما ذكّر بها سابقا، لترسيخ العقيدة بوجود الله ووحدانيته، والامتناع عن الشرك، والعهد عن وسوسة الشيطان.
التفسير والبيان:
الله هو الذي خلقكم في الأصل من نفس واحدة، قال جمهور المفسرين:
المراد بالنفس الواحدة: آدم عليه السّلام، ثم خلق منه زوجته حواء، ثم انتشر الناس منهما، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات ٤٩/ ١٣] وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء ٤/ ١].
ورأى بعض المفسرين أن المعنى: خلقكم من جنس واحد وطبيعة واحدة،
200
وجعل زوجه من جنسه، ليسكن إليها، ويطمئن بها، كما خلق من كل الأنواع زوجين اثنين، كما قال عز وجل: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات ٥١/ ٤٩].
وقوله: لِيَسْكُنَ إِلَيْها أي ليأنس بها ويطمئن ويألفها، كقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً، لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم ٣٠/ ٢١] وهذا التآلف قائم في أعماق كل من الرجل والمرأة، ففي عهد الشباب لا تسكن النفس إلا بالاقتران بزوج آخر، ولا نجد ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين، والجنس ميال بطبيعته إلى جنسه، والتعاون على شؤون الحياة يحتاج إلى التزاوج، وبقاء النوع الإنسان مرهون بهذا الترابط بين الجنسين: الذكر والأنثى.
ثم ذكر الله تعالى ثمرة هذا التزاوج بين الرجل والمرأة فقال: فَلَمَّا تَغَشَّاها وهو كناية عن الوقاع، أي فلما حدث الوطء أو الوقاع أو الجماع بين الجنسين، بدأ تكون الجنين، وحدث الحمل الخفيف، وهو أول الحمل الذي لا تجد فيه المرأة ثقلا ولا ألما، إنما هي النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ويرتفع الحيض عادة ببدء الحمل، وتستمر المرأة في متابعة أعمالها المعتادة دون مشقة، وهذا هو المراد من قوله: فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت بذلك الحمل الخفيف.
فلما أثقلت المرأة الحامل أي صارت ذات ثقل بحملها بسبب كبر الولد في بطنها، وحان وقت الوضع، دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما، أي دعا الزوجان وهما آدم وحواء مقسمين: لئن آتيتنا ولدا صالحا، أي بشرا سويا، تام الخلق، سليم الفطرة، لنكونن لك من الشاكرين نعمتك، المشتغلين بشكر تلك النعمة.
فلما آتاهما الله ما طلبا، ورزقهما ولدا صالحا سويا كامل الخلقة، جعل الزوجان لله شركاء أي شريكا فيما آتاهما وأعطاهما، فتعالى أي تعاظم وتنزه اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
وينسبون له من الولد والشريك.
201
ومن المراد بقوله جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما؟
ذكر بعض المفسرين كالسيوطي أن المراد آدم وحواء، بالاعتماد على
حديث ضعيف في الترمذي وغيره، وهو ما رواه سمرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: لما ولدت حواء، طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث- وكان اسم إبليس حارثا بين الملائكة- فإنه يعيش، فسمته، فعاش، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره.
وتؤيده روايات إسرائيلية كثيرة لاثبات لها، فلا يعول عليها، وأمثال ذلك لا يليق بالأنبياء.
والواقع- على افتراض أن المراد بالنفس الواحدة: آدم- أن نسبة هذا الجعل إلى آدم وحواء يراد به بعض أولادهما، قال الحسن البصري: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا، فهوّدوا ونصّروا «١».
وأيّد ابن كثير هذا التأويل عن الحسن رضي الله عنه، فقال: وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية... وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته، ولهذا قال الله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي بصيغة الجمع. فذكر آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس، كقوله: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك ٦٧/ ٥] ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في القرآن «٢».
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٧٥.
(٢) المرجع السابق: ٢/ ٢٧٥- ٢٧٦.
202
والخلاصة: إن الشرك نسب إلى آدم وحواء، والمراد به أولادهما، كاليهود والنصارى والمشركين لأن آدم وزوجته لم يكونا مشركين.
قال الزمخشري في قوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ أي جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فِيما آتاهُما أي آتى أولادهما، وقد دل على ذلك قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ حيث جمع الضمير، وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله: تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس، وما أشبه ذلك، مكان عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم «١». وقد ذكر الرازي هذا التأويل.
وذكر أيضا أي الرازي تأويلا آخر للآية وهو أن قوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد، وتقريره: فلما آتاهما صالحا، اجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ ثم قال: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك، وينسبونه إلى آدم عليه السّلام «٢».
وهذا كله على تسليم أن القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء.
وهناك من جعل الخطاب في الآية لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهم آل قصي، إذ سمّى قصي وزوجته القرشيان أولادهما الأربعة بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، وعبد اللات.
وقال القفال: إنه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضرب المثل، وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك، على أساس أن المراد بالزوجين الجنس أي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة أو جنس
(١) الكشاف: ٢/ ٥٩٢.
(٢) تفسير الرازي: ١٥/ ٦٧ وما بعدها.
203
واحد، وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية.
ثم فنّد الله تعالى آراء المشركين، ونقض الشرك من جذوره، فقال:
أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً... أي أيشركون بالله شيئا لا يستطيع إطلاقا خلق أي شيء؟ أو أيشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئا، ولا يستطيع ذلك؟ وإنما الله هو الخالق لهم ولأولادهم ولكل مخلوق، كما قال: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج ٢٢/ ٧٣].
وهذه الأصنام مخلوقة مصنوعة، كما قال تعالى: لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً، وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل ١٦/ ٢٠].
وهم لا يستطيعون لعابديهم تحقيق أي معونة أو نصر، بل إنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم على من يعتدي عليهم بإهانة أو سب أو أخذ شيء مما عندهم من طيب أو حلي، فلا نصر لأنفسهم ممن أرادهم بسوء. وقال: يخلقون لأنهم اعتقدوا أن الأصنام تضر وتنفع، فأجريت مجرى الناس.
فهذا كله إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد والأصنام والأوثان، وهي مخلوقة لله، مربوبة، مصنوعة لا تملك شيئا من الأمر، ولا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم.
ثم ذكر الله تعالى أن هذه الأصنام لا تصلح تبعا فضلا عن أن تكون متبوعة، فقال: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى... أي وإن تدعوا هذه الأصنام إلى ما هو هدى ورشاد، أو إلى أن يهدوكم إلى ما تريدون تحقيقه، لا يستجيبون لكم ولا ينفعونكم، فهم في الحالين عديمو النفع، فإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله
204
الخير والهدى، لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله، ويدل عليه قوله تعالى: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الأعراف ٧/ ١٩٤].
سواء لديكم دعاؤكم إياهم، أو سكوتكم عن دعائهم في أنه لا فلاح معهم، ولا خير يرتجى منهم، إذ هم لا يفهمون الدعاء، ولا يسمعون الأصوات، ولا يعقلون الكلام.
ومثل من كانت هذه صفته، لا يصلح ربا معبودا، وإنما الرب الموجود المعبود هو السميع البصير، العليم الخبير، الناصر القادر، النافع من يعبده، الضار من يعصيه، الهادي إلى الرشاد، المنقذ من الردى، المجيب المضطر إذا دعاه.
وعبر بالجملة الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار: أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ بدلا عن الجملة الفعلية المشعرة بالتجدد المتكرر: «أم صمتم» لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر، دعوا الله دون أصنامهم، كقوله: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم، فقيل لهم: إن دعوتموهم، لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم، وبين ما أنتم عليه من الاستمرار على سكوتكم ومن عادة صمتكم عن دعائهم «١». أي فلا فرق بين تجديد دعاء الأصنام بفعل متجدد وبين الاستمرار والثبات على حال الصمت وعدم دعائها، وبذلك صلح عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية الذي لا يجوز إلا لفائدة وحكمة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- الناس في الأصل مخلوقون من نفس واحدة، المشهور أنها نفس آدم.
(١) الكشاف: ٢/ ٥٩٢.
205
وحواء مخلوقة من نفس آدم: وخلق منها زوجها على معنى أنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاع آدم، وحكمة ذلك أن الجنس أميل إلى الجنس، والجنسية علة الضم واللقاء والألفة بين الرجل والمرأة. واستشكل الرازي هذا الكلام فإن الله قادر على أن يخلق حواء خلقا مستقلا كما خلق آدم ابتداء، فلماذا يقال: إنه تعالى خلق حواء من جزء من أجزاء آدم؟ ثم رجح أن المراد من كلمة «من» في قوله: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها خلق حواء من نوع آدم ومن جنسه في الإنسانية، وجعل زوج آدم إنسانا مثله «١».
٢- من رحمة الله تعالى بالأم أن جعل خلق الجنين واكتمال الحمل على مراحل متدرجة من الأخف إلى الأثقل، كيلا تشعر بالثقل المفاجئ، ولتظل قائمة بأعمالها المعتادة دون إرهاق.
٣- يفهم من ظاهر قوله تعالى: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أن الحمل مرض من الأمراض، ولأجل عظم الأمر جعل موتها شهادة،
كما ورد في حديث تعداد الشهداء الذي رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم: «الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة»
أي تموت وفي بطنها ولد. فيكون حال الحامل في رأي الإمام مالك حال المريض في أفعاله بعد مضي ستة أشهر من الحمل، أي المريض مرض الموت، وهو الذي لا تنفذ تبرعاته من هبة ومحاباة في بيع إلا في ثلث ماله. وقال الأئمة الثلاثة: إنما يكون ذلك في الحامل بحال الطّلق، فأما قبل ذلك فلا لأن الحمل عادة، والغالب فيه السلامة. ورد المالكية بقولهم: كذلك أكثر الأمراض غالبة السلامة، وقد يموت من لم يمرض.
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ٨٩.
206
ويعد الزاحف في الصف للقتال والمحبوس للقتل في قصاص بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه، ما كان بتلك الحال، في رأي الإمام مالك، فلا يتبرع إلا في الثلث.
٤- الأوثان لا تصلح للألوهية لأنها مخلوقة، وغير قادرة على خلق شيء أو إيجاد نفع أو ضر فكيف يعبد ما لا يقدر على أن يخلق شيئا؟! والمقصود من الآية إقامة الحجة على أن الأوثان لا تصلح للألوهية.
٥- ليس المراد من قوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ما ذكر من قصة إبليس مع آدم عليه السّلام السابق ذكرها إذ لو كان المراد ذلك، لكانت هذه الآية غريبة عن تلك القصة غرابة كلية، وأدى الأمر إلى إفساد النظم والترتيب، وإنما المراد بها الرد على عبدة الأوثان، كما ذكر القفال، فهي بيان لخلق الرجل والمرأة من جنس واحد ومن أصل واحد في الإنسانية، ثم التنديد بفعل بعض الأزواج، فلما تغشى الزوج زوجته (واقعها) وظهر الحمل، دعا الزوجان ربهما لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
نعمائك، فلما آتاهما الله ولدا صالحا سويا، جعلا لله شُرَكاءَ فِيما آتاهُما لأن الأزواج تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع، كما هو قول الطبيعيين، وتارة إلى الكواكب، كما هو قول الفلكيين، وتارة إلى الأصنام والأوثان، كما هو قول عبدة الأصنام.
٦- احتج أهل السنة بقوله: أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً، وَهُمْ يُخْلَقُونَ على أن العبد لا يخلق ولا يوجد أفعاله، وإنما الذي يخلق هو الإله، فلو كان العبد خالقا لأفعال نفسه، كان إلها.
٧- دل قوله: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً... على أن الأصنام لا تنصر من أطاعها، ولا تنتصر ممن عصاها. والمعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع، ودفع الضرر، وهذه الأصنام عاجزة عن ذلك، فكيف يليق بالعاقل عبادتها؟!
207
٨- ودل قوله: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ على أنه أيضا لا علم للأصنام بشيء من الأشياء، فلا يتصور منها الاتباع إذا دعيت إلى الخير، فكيف تصلح أن تكون معبودة؟! والخلاصة: إن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن أهملها، كما قال إبراهيم: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مريم ١٩/ ٤٢].
واقع الأصنام والأوثان المعبودة
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٤ الى ١٩٨]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
الإعراب:
عِبادٌ أَمْثالُكُمْ عباد خبر إِنَّ مرفوع، وأَمْثالُكُمْ: صفة، وجاز أن يكون وصفا للنكرة، وإن كان مضافا إلى المعرفة لأن الإضافة في نية الانفصال، وأنه لا يتعرف بالإضافة، للشيوع الذي فيه.
وقرأ سعيد بن جبير: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ بتخفيف إِنَّ
208
ونصب: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ، والمعنى: ما الذين تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عبادا أمثالكم، على إعمال: إن عمل ما الحجازية، وهو مذهب المبرد. وأما مذهب سيبويه فهو إهمالها.
البلاغة:
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها هذا إطناب يراد به زيادة التقريع والتوبيخ. والاستفهام في المواضع المختلفة استفهام إنكار، أي ليس لهم شيء من ذلك مما هو لكم، فكيف تعبدونهم وأنتم أتم حالا منهم؟!
المفردات اللغوية:
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ. وأصل الدعاء: النداء، ويقصد به غالبا دفع ضرر أو جلب خير. عِبادٌ مملوكة لله فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ دعاءكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنها آلهة يَبْطِشُونَ يضربون ويصولون بها.
ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ إلى هلاكي فَلا تُنْظِرُونِ تمهلون، فإني لا أبالي بكم.
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ أي متولي أموري نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ من عباده بحفظه فضلا عن أنبيائه وَإِنْ تَدْعُوهُمْ أي الأصنام وَتَراهُمْ أي الأصنام يا محمد يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي يقابلونك كالناظر، فهم يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه.
المناسبة:
هذه الآيات تأكيد لما سبق بيانه أن الأصنام لا تصلح للألوهية، بقصد غرس التوحيد في القلوب، واستئصال جذور الشرك من النفوس.
التفسير والبيان:
إن تلك الأصنام التي تعبدونها وتسمونها آلهة من دون الله، وتدعونها لدفع الضر أو جلب النفع هم عباد أو عبيد مثل عابديها، في كونهم مخلوقات لله مثلهم، خاضعون لإرادته وقدرته، بل الأناس أكمل منها لأنها تسمع وتبصر وتبطش، وتلك لا تفعل شيئا من ذلك. وإذا كانت على هذا النحو فكيف يصح عقلا
209
تقديسها وعبادتها من مخلوق مثلها، بل أسمى وأكمل منها؟ وإنما الذي يستحق العبادة هو الرب الخالق الذي خضعت له جميع الكائنات، ودانت له الأسباب.
وكيف تترك رسالة بشر خصه بالعلم والمعرفة، وازدانت عقيدته بالحق والنور والفائدة العظمى، وتعبد حجارة من دون الله، لا تضر ولا تنفع؟
وإن كنتم صادقين في تأليههم، واستحقاقهم العبادة، والتماس النفع أو الضر منهم، فادعوهم واطلبوا منهم طلبا ما، فليستجيبوا لكم دعاءكم، إما بأنفسهم، وإما بتوسطهم عند الله. ومعنى هذا الدعاء: طلب المنافع، وكشف المضار من جهتهم. واللام في قوله فَلْيَسْتَجِيبُوا لام الأمر، على معنى التعجيز، والمعنى أنه لما ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة، ظهر أنها لا تصلح للعبادة.
وقوله: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ استهزاء بهم، أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء، فإن ثبت ذلك، فهم عباد أمثالكم، لا تفاضل بينكم.
وصفت الأصنام بأنها عباد، وأشير إليها بضمير العقلاء في قوله: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ وقوله: إِنَّ الَّذِينَ ولم يقل: التي، مع أنها جمادات غير عاقلة، إنزالا لها منزلة العقلاء بحسب اعتقاد المشركين أنها تضر وتنفع، فتكون عاقلة فاهمة، فوردت الألفاظ على وفق معتقداتهم.
ثم ترقى القرآن في الجواب عليهم، وأبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم، وأثبت أنهم ليسوا أمثالهم، بل أدنى منهم رتبة، فذكر أعضاء أربعة هي الأرجل والأيدي والأعين والآذان، وكلها معطلة القوة والحركة والإدراك، مع أن هذه الأعضاء إن كان فيها هذه القوى فهي وسائل الكسب في الحياة.
فليس للأصنام أرجل يمشون بها إلى جلب نفع أو دفع ضر، وليس لهم أيد يبطشون بها ويصولون بها لتحقيق ما ترجون منهم من خير، أو تخافون من شر، وليس لهم أعين يبصرون بها أحوالكم، ولا آذان يسمعون بها نداءكم وكلامكم وفهم
210
مطالبكم، فهم ليسوا مثلكم، بل دونكم في التكوين والصفات والقوى، ومن يخلو من منافع هذه الأعضاء، لا يستحق العبادة، فإن الإنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام، بل لا تصح المقارنة بين مزايا الإنسان وهذه الأصنام، إذ هم حجارة صماء، أو طين وماء، أو عجوة أو حلاوة كصنم بني حنيفة.
أكلت حنيفة ربها... عام التقحم والمجاعة
ومع كل هذا أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأن يتحداهم، ويدعوهم للاختبار العملي، فقيل له: قل يا محمد الرسول لهؤلاء الوثنيين: نادوا شركاءكم وآلهتكم من دون الله، واستنصروا بها علي، وتعاونوا على كيدي، فلا تؤخروني طرفة عين، وابذلوا جهدكم، وأوقعوا الضرر بي كيف شئتم، ولا تمهلون ساعة من نهار، أنتم وشركاؤكم، فلا أبالي بكم. ولا يقول هذا إلا واثق بعصمة الله، وكانوا قد خوفوه آلهتهم.
وهذا رد على تهديدهم وقولهم: إنا نخاف عليك من آلهتنا!! ثم أعلن الرسول ثقته الكبرى بالله وتحقيره هذه المعبودات، مع قلة الأعوان والنصراء في مكة فقال بتعليم الله: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ... أي الله حسبي وكافيني، وهو نصيري وناصري عليكم، ومتولي أمري في الدنيا والآخرة، وعليه اتكالي، وإليه ألجأ، وهو الذي نزل علي القرآن الذي يدعو إلى التوحيد، وينبذ الشرك، وأعزني برسالته، وهو الذي يتولى كل صالح بعدي، وهو كل من صلحت عقيدته، وسلمت من الخرافات والأوهام، وصلحت أعماله، ومن عادته تعالى أن ينصر الصالحين من عباده وأنبيائه، ولا يخذلهم. أما المشرك فوليه الشيطان:
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة ٢/ ٢٥٧]. ومناسبة هذه الآية: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ لما قبلها أنه تعالى لما بيّن في الآيات المتقدمة أن هذه
211
الأصنام لا قدرة لها على النفع والضر، بيّن بهذه الآية أن الواجب على كل عاقل عبادة الله تعالى لأنه هو الذي يتولى تحصيل منافع الدين ومنافع الدنيا، أما الأولى فبسبب إنزال الكتاب وأما الثانية فبسبب تولي الصالحين.
ثم أكد تعالى ما تقدم من خيبة الأصنام في تحقيق النصر فقال: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ... بصيغة الخطاب، وذاك بصيغة الغيبة، أي إن الذين تعبدونهم وتدعونهم من دون الله لنصركم ودفع الضر عنكم عاجزون، لا يستطيعون نصركم، ولا نصر أنفسهم ضد من يحقرهم أو يسلبهم شيئا مما يوضع عليهم من طيب أو حلي، أو يريدهم بسوء.
فقد كسّر إبراهيم عليه السّلام الأصنام وأهانها غاية الإهانة فما دفعت عن نفسها الأذى ولا انتقمت منه، كما أخبر تعالى عنه في قوله: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات ٣٧/ ٩٣] وقال تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ، لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء ٢١/ ٥٨].
وروي عن معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنهما- وكانا شابين من الأنصار قد أسلما، لمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم المدينة- أنهما كانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك، ويرتئوا لأنفسهم رأيا آخر.
وكان لعمرو بن الجموح- وكان سيد قومه- صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل، فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عمرو بن الجموح، فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفا، ويقول له:
انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضا، حتى أخذاه مرة، فقرناه مع كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو، ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدّين باطل، وقال:
212
تالله لو كنت إلها مستدن لم تك والكلب جميعا في قرن
ثم أسلم وحسن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه «١».
وكما هم عاجزون عن النصرة عاجزون عن الإرشاد والهداية، فقال تعالى:
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا أي وإن تدعوا هذه الأصنام إلى أن يهدوكم إلى سواء السبيل وتحقيق النصر، لا يسمعوا دعاءكم، فضلا عن المساعدة والمعونة والإمداد، وتراهم أيها المخاطب المتأمل يقابلونك بعيون مصوّرة صناعية، وهي جماد لا تبصر شيئا، ولا تدرك المرئي لأن لهم صورة الأعين، وهم لا يرون بها شيئا، فهم فاقدو السمع والبصر، كما قال تعالى في آية أخرى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ [فاطر ٣٥/ ١٤].
وإذ فقدوا السّمع والبصر، فكيف يرجى منهم نصر أو عون، وكيف يخاف منهم إحداث ضرر أو أذى لمن يحتقرهم، وكيف يليق بكم أن تتخذوهم آلهة؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات محاجّة في عبادة الأصنام، وتأكيد لما سبق من بيان عدم أي جدوى من تلك العبادة، وقد دلّت على ما يأتي:
١- يقبح من الإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة هذه الأصنام المعطلة القوى المحركة والمدركة، لفقدها الأرجل والأيدي والأعين والآذان لأن المعبود يتّصف بهذه القوى وغيرها، والإنسان الذي يعبدها أفضل منها بكثير، بل لا مجال للمقارنة بينه وبينها أصلا، فكيف يليق بالأفضل الأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون، الذي لا يحس منه فائدة البتة، لا في جلب المنفعة، ولا في دفع المضرة؟! فهي ليست عبادا أمثال الإنسان، وإنما هي حجارة وخشب، فأنتم تعبدون ما أنتم أشرف منه.
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٧٦.
213
٢- الإنسان أفضل وأكمل حالا من الصنم لأن له رجلا ماشية، ويدا باطشة، وعينا باصرة، وأذنا سامعة، وليس للصنم شيء من ذلك.
٣- كيف تحسن عبادة من لا يقدر على النفع والضرر؟! فليس للأصنام قدرة على النفع والضرر، لا لنفسها ولا لغيرها، ولا تستطيع نصرة أحد.
٤- إن تخويف المشركين الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم بآلهتهم عبث وهدر، فقد دعاهم إلى مكايدته وإضراره دون إمهال، فخابوا وخسروا هم وشركاؤهم.
٥- إن متولي أمور النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة بنصره وحفظه هو الله تعالى الذي يتولّى الصّالحين من عباده ويحفظهم. جاء
في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم جهارا غير سرّ يقول: «ألا إنّ آل أبي- يعني فلانا- ليسوا لي بأولياء، إنما وليّي الله وصالح المؤمنين».
٦- الواجب على العاقل عبادة الله تعالى لأنه هو الذي يحقق له منافع الدين بإنزال الكتاب المشتمل على العلوم العظيمة في الدّين، ومنافع الدّنيا بتولّي الصالحين من عباده وحفظه لهم ونصرته إياهم، فلا تضرّهم عداوة من عاداهم.
وما أروع ذلك الموقف العملي للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بالاستدلال بهذه الآية، فإنه ما كان يدّخر لأولاده شيئا، فقيل له فيه، فقال:
ولدي إما أن يكون من الصالحين، أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليّه الله، ومن كان الله له وليّا، فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين، فقد قال تعالى: فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ومن ردّه الله لم أشتغل بإصلاح مهماته.
٧- كرر الله تعالى وصف الأصنام بأنها عاجزة عن نصر عابديها، ونصر أنفسها، وفائدة التكرار أن المعنى الأول مذكور على جهة التقريع، وهذا مذكور على جهة
214
الفرق بين من تجوز له العبادة، وبين من لا تجوز، فالإله المعبود هو الذي يتولّى الصالحين، أي يحفظهم، وهذه الأصنام لا تتولى أحدا، فلا تصلح للألوهية.
٨- الأصنام جمادات مصنوعة، ركبت لها حدق عيون من معادن أو جواهر برّاقة، كأنها ناظرة، وهي جماد لا تبصر، فلذلك قال: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ وقد عاملها معاملة من يعقل وعبّر عنها بضمير العاقل لأنها على صورة مصورة كالإنسان.
وقال السّدي ومجاهد: المراد بهذا المشركون. قال ابن كثير: والأول أولى، وهو قول قتادة، واختاره ابن جرير.
أصول الأخلاق الاجتماعية ومقاومة الشيطان
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٩ الى ٢٠٢]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
الإعراب:
وَإِمَّا فيه إدغام نون: إن الشرطية في «ما» المزيدة.
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فعل أمر، وهو جواب الشرط، وجواب الأمر محذوف، أي يدفعه عنك.
إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ فعل وفاعل، وطائِفٌ: اسم فاعل من طاف. وقرئ: طيف مخففا من طيّف، وهو فعل من طاف، كما خفف سيّد وميّت.
يَمُدُّونَهُمْ فعل مضارع من «مدّ» وهو ثلاثي، وقرئ بالضم على جعله مضارعا.
أمد وهو رباعي. وقيل: مدّ في الخير والشّر، وأمدّ في الشّرّ خاصة.
215
وَإِخْوانُهُمْ جمع الضمير في هذه الكلمة والشيطان مفرد لأن المراد به الجنس، كقوله:
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ.
البلاغة:
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النزغ: إدخال الإبرة ونحوها في الجلد، وفيه استعارة لأنه شبّه وسوسة الشيطان وإغراءه الناس على المعاصي بالنزغ.
المفردات اللغوية:
الْعَفْوَ اليسر من أخلاق الناس، ولا تبحث عنها، والمعنى: خذ ما عفا وتيسر من أخلاق الناس. بِالْعُرْفِ المعروف. يَنْزَغَنَّكَ يصيبنّك، أو يصرفنّك، والنزغ كالنّخس: إصابة الجسم بشيء محدد كالإبرة ونحوها، والمراد منه هنا: وسوسة الشيطان. فَاسْتَعِذْ أي الجأ إليه وتذكره.
مَسَّهُمْ طائِفٌ أصابهم شيء ألم بهم، أي وسوسة ما. تَذَكَّرُوا عقاب الله وثوابه.
فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ الحق من غيره، فيرجعون. وَإِخْوانُهُمْ أي الشياطين من الكفار.
يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ يعاونهم الشياطين في الضلال. ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ لا يكفّون عن إغوائهم، بالتّبصر كما تبصّر المتقون. والإقصار: التقصير.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى فيما سبق أن الله هو الذي يتولّى نبيّه والمؤمنين الصالحين بالحفظ والتّأييد، وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار، بيّن في هذه الآية ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس، وهي آية تشمل أصول الفضائل، فهي من أسس التشريع التي تلي أصول عقيدة التّوحيد المبيّنة بأتمّ بيان. ثم أعقب ذلك بوصية وقائية، وهي اتّقاء وساوس الشياطين من الجنّ، بعد الأمر بالإعراض عن الجاهلين السفهاء، اتّقاء لشرّ الفريقين.
216
التفسير والبيان:
جمعت الآية الأولى أصول الفضائل الثلاث وهي:
١- الأخذ بالعفو: وهو السّهل من أخلاق الناس وأعمالهم، دون تكليفهم بما يشق عليهم ومن غير تجسّس، وإنما يؤخذ بالسّمح السّهل، واليسر دون العسر، كما
ورد في الحديث الذي أخرجه أحمد والشّيخان والنّسائي عن أنس بن مالك عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا».
ويدخل في العفو:
صلة القاطعين أرحامهم، والعفو عن المذنبين، والرّفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين.
وهذا هو الصّنف الأول من الحقوق التي تستوفي من الناس وتؤخذ منهم بطريق المساهلة والمسامحة، ويشمل ترك التّشدد في كل ما يتعلّق بالحقوق المالية، والتّخلّق مع الناس بالخلق الطّيّب، وترك الغلظة والفظاظة، كما قال تعالى:
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران ٣/ ١٥٩] ومن هذا القسم: الدّعوة إلى الدّين الحق بالرّفق واللطف، كما قال تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النّحل ١٦/ ١٢٥].
والخلاصة: إن المراد بالعفو: الأخذ باليسر والسّماحة ودفع الحرج والمشقة عن الناس في الأقوال والأفعال، وما خيّر صلّى الله عليه وآله وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، كما أخرج الترمذي ومالك.
٢- الأمر بالعرف وهو المعروف والجميل من الأفعال: وهو كل ما أمر به الشرع، وتعارفه الناس من الخير، واستحسنه العقلاء، فالمعروف: اسم جامع لكل خير من طاعة وبرّ وإحسان إلى الناس. وهذا هو النوع الثاني من الحقوق التي لا يجوز التّساهل والتّسامح فيه، ويراد به ما هو معهود بين الناس في المعاملات والعادات. ولا يذكر المعروف في القرآن إلا في الأحكام المهمة، مثل
217
قوله تعالى في وصف الأمّة الإسلامية: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمران ٣/ ١٠٤].
وفي تبيان الحقوق الزّوجية: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة ٢/ ٢٢٨]، وفي الحفاظ على رباط الزّوجية:
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة ٢/ ٢٢٩]، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة ٢/ ٢٣١].
٣- الإعراض عن الجاهلين: ويتمثل بعدم مقابلة السّفهاء والجهّال بمثل فعلهم، وترك معاشرتهم وصيانة النّفس عنهم، وعدم مماراتهم والحلم عنهم، والصّبر على سوء أخلاقهم والغضّ على ما يسوءك منهم. فإذا تكلّم الجاهل الأحمق بما يسوء الإنسان، فليعرض عنه، ويقابله بالعفو والصّفح، لقوله تعالى في وصف المؤمنين: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران ٣/ ١٣٤]، وقوله تعالى في فضيلة العفو: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة ٢/ ٢٣٧].
هذه المبادئ الثلاثة هي أصول الفضائل ومكارم الأخلاق فيما يتعلّق بمعاملة الإنسان مع الغير.
قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية، قال عليه الصّلاة والسّلام: «يا جبريل، ما هذا؟ قال: إنّ ربّك يقول: هو أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك».
وروى الطّبري وغيره عن جابر مثل ذلك.
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: «أمر الله نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها».
وقال عبد الله بن الزّبير: والله ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق النّاس.
وقد روي عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال فيما رواه الترمذي: «أثقل شيء في الميزان: خلق حسن تام».
218
وناسب الأمر بالإعراض عن الجاهلين وهم السّفهاء اتّقاء لشرّهم، الأمر بالاستعاذة من الشّياطين، تجنّبا للوقوع في مفاسدهم وشرورهم، فقال تعالى:
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ... أي وإما يعرض لك الشّيطان بوسوسته، وينخس في قلبك بحملك على خلاف ما أمرت به، ويحاول إيقاعك في المعاصي، أو يغضبنك من الشيطان غضب يصدّك عن الإعراض عن الجاهل، ويحملك على مجازاته، بجعلك ثائرا هائجا، فالجأ إلى الله واطلب النّجاة من ذلك بالله، واستجر بالله من نزغه، واذكر الله في القلب واللسان، يصرف عنك وسوسة الشيطان، والله سميع للقول من جهل الجاهلين والاستعاذة بالله من نزغ الشيطان (وسوسته) ولغير ذلك من كلام خلقه، لا يخفى عليه منه شيء، عليم بالفعل، وبما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه.
والاستعاذة مطلوبة عند تلاوة القرآن في قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النّحل ١٦/ ٩٨- ٩٩].
والخطاب في آية وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ونحوها موجّه إلى كلّ المكلّفين، وأوّلهم الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم. ويدأب الشّيطان على إلقاء وساوسه في قلب كلّ إنسان،
روى مسلم عن عائشة وابن مسعود أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد وكّل به قرينه من الجنّ، قالوا: وإيّاك يا رسول الله؟ قال: وإيّاي إلا أن الله أعانني عليه، فأسلم منه».
ثم أوضح الله تعالى طريق التخلّص من وساوس الشّيطان، فقال: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا... أي إن عباد الله المتقين، الذين أطاعوه فيما أمر، وتركوا عنه ما زجر، إذا أصابهم طائف من الشيطان، أي ألّمت بهم لمّة منه، تذكّروا ما أمر الله به ونهى عنه، وذكروا عقاب الله وجزيل ثوابه، ووعده ووعيده، فأبصروا السّداد، وعرفوا طريق الحقّ والخير، ودفعوا ما وسوس به الشّيطان إليهم، ولم
219
يتبعوه أنفسهم، فإذا هم أولو بصيرة ووعي وعقل، وقد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه. وهذا الاعتصام بالله من الشيطان عمل وقائي، ولا شكّ أن الوقاية خير من العلاج. فإذا وقع الإنسان في معصية بادر إلى التّوبة والإنابة والرّجوع إلى الله من قريب، حتى يمحو الله عنه أثر الذّنب.
ومن المعروف أن للإنسان نزعة إلى الخير ونزعة إلى الشّرّ، وبمقدار ما يجاهد به نفسه، ويتغلّب على هوى نفسه، ووسوسة شيطانه، كان مثابا مقرّبا إلى الله تعالى،
قال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان عن ابن مسعود: «إنّ للشّيطان لمّة بابن آدم، وللملك لمّة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشّرّ وتكذيب بالحقّ، وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ، فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى، فليتعوّذ من الشّيطان، ثم قرأ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ.
ثم ذكر الله مدى تأثير الشيطان على الجاهلين الفاسدين فقال:
وَإِخْوانُهُمْ أي وأما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتّقين، فإن الشياطين يتمكّنون من إغوائهم، ويمدّونهم في الغيّ أي الضّلال، ويكونون مددا لهم فيه ويعضدونهم، ولا يقصرون أبدا في حملهم على المعصية أي لا يمسكون عن إغوائهم، ولا يكفّون عن إفسادهم، حتى يصرّوا على الشّرّ والفساد لأنهم لا يذكرون الله إذا نزغ بهم الشيطان، ولا يستعيذون من وسواسه، إما لعدم إيمانهم، أو لخلو قلوبهم من التّقوى.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمّنت آية: خُذِ الْعَفْوَ أصول الفضائل والأخلاق الاجتماعية، وهي تلي في المرتبة أصول العقيدة، ففي المعاملات والعادات ولدي التعامل مع الآخرين تظهر أخلاق الناس، وما أحوج الإنسان إلى هذه الأصول الخلقية في تعامله مع الغير.
220
وقد تبيّن لدينا في تفسير الآية أن هذه الأصول ثلاث:
أخذ بالعفو: أي المعاملة باللين، والبيان باللطف، ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء والتّكليف، ويشمل ترك التّشدّد في كلّ ما يتعلّق بالحقوق المالية، والتّخلّق مع الناس بالخلق الطّيّب، وترك الغلظة والفظاظة، والدّعوة إلى الدّين الحقّ بالرّفق واللّطف. وهذا النّوع من الحقوق مما يقبل التّساهل والتّسامح فيه.
وأمر بالمعروف: وهو كلّ ما عرف شرعا وعقلا وعادة من جميل الأفعال وألوان الخير. وهذا النّوع من الحقوق لا يقبل التّسامح والتّساهل. ويشمل كل ما أمر به الشرع، وكل ما نهى عنه من الأقوال والأفعال. والمأمورات والمنهيّات معروف حكمها، مستقرّ في الشّريعة موضعها، والقلوب متّفقة على العلم بها.
والفرد والجماعة مطالبان بمقتضى هذا الأمر، والإعلان الدّائم عن المعروف والأمر به، والنّهي عن المنكر وإخفائه.
وإعراض عن الجاهلين: وهم السّفهاء، ففي أثناء الأمر بالمعروف والتّرغيب فيه، والنّهي عن المنكر والتّنفير منه، ربّما أقدم بعض الجاهلين على السّفاهة والإيذاء، فيكون الإعراض عنهم هو المتعيّن، اتّقاء لشرّهم، وصيانة للدّاعية عن أذاهم، ورفعا لقدره عن مجاوبتهم. وذلك يتناول جانب الصّفح بالصّبر.
وهذه الأوامر الخلقية الثلاث، وإن كان الخطاب فيها من الله لنبيّه عليه الصّلاة والسّلام، فهو تأديب لجميع خلقه.
والصحيح- كما ذكر المفسرون مثل القرطبي والرازي وابن كثير وغيرهم- أن هذا الآية محكمة غير منسوخة، كما قال مجاهد وقتادة، بدليل ما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبّانا، فقال عيينة لابن أخيه:
221
يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فتستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه فاستأذن لعيينة. فلما دخل قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل! قال: فغضب عمر، حتى همّ بأن يقع به. فقال الحرّ: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه الصلاة والسّلام: خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وإن هذا من الجاهلين. فوالله، ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقّافا»
عند كتاب الله عز وجل.
وكذلك شتم عصام بن المصطلق الحسن بن علي وشتم أباه، فنظر إليه نظرة عاطف رؤف، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «٢».
فالتزام عمر بالآية، وكذا التزام الحسن بن علي بها دليل على أنها محكمة.
ففي حالة التعمد بالجفاء على السلطان والاستخفاف بحقه يستحق التعزير، وفي غير ذلك يكون الإعراض والصفح والعفو، كما فعل عمر.
وأما بقية الآيات فجعلت الناس قسمين: المؤمنين المتقين، وإخوان الشياطين. أما المؤمنون المتقون فإنه إذا مسهم طائف من الشيطان وألمت بهم لمّة تحملهم على المعاصي، تذكروا أمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، فأبصروا الحق وحذروا وسلموا، وإن تورطوا في المعصية ندموا وتابوا ورجعوا إلى الله تعالى.
والاستعاذة بالله عند وسوسة الشيطان وإغرائه بالمعصية: أن يتذكر المرء عظيم نعم الله عليه، وشديد عقابه، فيدعوه كل واحد من الأمرين إلى الإعراض عن هوى النفس، والإقدام على طاعة أمر الشرع.
(١) أي لا يتجاوز حكمه، تفسير القرطبي: ٧/ ٣٤٧، تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٧٧ وما بعدها
(٢) انظر القصة في تفسير القرطبي: ٧/ ٣٥٠- ٣٥١.
222
والخطاب وإن كان للرسول، إلا أنه تعليم وتأديب عام لجميع الخلق.
والرسول صلّى الله عليه وآله وسلم قد ينزغه الشيطان- والنزغ: كالابتداء في الوسوسة- والعلاج:
الاستعاذة بالله كما دلت الآية الأولى، وأما المتقون: فيتعرضون لما هو أزيد من النزغ، وهو أن يمسهم طائف من الشيطان، كما دلت آية: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا.
وقوله: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يدل على أن الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك، فإني سميع، واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك، فإني عليم بما في ضميرك.
ونظير هذه الآية: ما
في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم، فيقول له: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله، ولينته».
وأما إخوان الشّياطين: وهم شياطين الإنس أو الفجّار من ضلّال الإنس أو الكفّار والمشركون، فتمدّهم الشّياطين في الغيّ والضّلال، ويغوون النّاس، فيكون ذلك إمدادا منهم لشياطين الجنّ على الإغواء والإضلال. فبين الفريقين تعاون على الضّلال والإثم. وسمّوا بإخوان الشّياطين لأنهم يقبلون منهم.
وهذا التّفسير جمع بين القولين في بيان المراد من إخوان الشياطين، القول الأوّل وهو الأظهر عند الرّازي: أن شياطين الإنس يغوون الناس، والقول الثاني وهو الأوجه عند الزّمخشري لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتّقوا: وهو أن الشّياطين من الجنّ يكونون مددا لشياطين الإنس. والقولان مبنيان على أن لكل كافر أخا من الشّياطين «١».
(١) تفسير الرازي: ١٥/ ١٠٠.
223
وعلى كل حال فإن العصاة تتمكّن الشّياطين من إغوائهم، فيمدّونهم في غيّهم ويعضدونهم، ولا يكفون عن ذلك، فتراهم يستمرون في شرورهم وكفرهم وآثامهم.
وقد فسّرت الآية سابقا بالقول الثاني. والمراد من الإمداد: تقوية الوسوسة والإقامة عليها.
اتّباع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم الوحي الإلهي وخصائص القرآن
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٣]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوااجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
البلاغة:
هذا بَصائِرُ أي هذا القرآن بصائر، تشبيه بليغ أي هذا كالبصائر، حذفت أداة التّشبيه ووجه الشّبه، وأصله: هذا بمنزلة بصائر القلوب.
المفردات اللغوية:
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ أي وإذا لم تأت أهل مكة بآية مما اقترحوا أو بآية من القرآن.
قالُوا: اجْتَبَيْتَها أي قالوا: هلا اخترعتها أو اختلقتها وأنشأتها من عندك، أو هلا طلبتها من الله. إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي أي إنما أنا متبع الوحي، ولست بمختلق للآيات من عند نفسي، أو لست بمقترح لها. هذا بَصائِرُ هذا القرآن بصائر للقلوب، أي مبصّر لها، بها يبصر الحق، ويدرك الصواب، وهو حجج مبيّنات.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى فيما سبق إغواء الشّياطين وإضلالهم، بيّن في هذه الآية نوعا خاصّا من أنواع الإغواء والإضلال، وهو أنّهم كانوا يطلبون آيات كونية
224
معينة، ومعجزات مخصوصة، على سبيل التّعنّت، كقوله تعالى حكاية عنهم:
وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً الآيات [الإسراء ١٧/ ٩٠- ٩١].
فإذا لم تأتهم بما طلبوا، قالوا: هلا اختلقتها من عند نفسك، جريا على اعتقادهم بأن القرآن من عند محمد: وَقالُوا: ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً [سبأ ٣٤/ ٤٣].
التفسير والبيان:
وإذا لم تأت أيها الرّسول أهل مكة بآية مما اقترحوا حدوثه، أو بآية من القرآن، قالوا: هلا اختلقتها وتقولتها من تلقاء نفسك، لزعمهم أن القرآن من عند محمد، وأنه متمكن من الإتيان بالآيات الكونية والمعجزات المخصوصة، أو هلا طلبتها من الله الذي يلبي لك حاجتك. فقل لهم يا محمد: إنما أنا متّبع وحي ربّي فقط، ولست بمفتعل أو مختلق للآيات، أو لست بمقترح لها، ولست قادرا على إيجاد الآيات. ونظير ذلك قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ، قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ، قُلْ: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [يونس ١٠/ ١٥].
ثم نبههم الحق تعالى إلى ما يحقق الهدف، وأرشدهم إلى أن هذا القرآن أعظم المعجزات، وكأنه قال لهم: ما لكم تطلبون شيئا لا يفيدكم؟ وإنما لديكم هذا القرآن الذي يشتمل على مبصرات للقلوب، وحجج بيّنات، وبراهين نيّرات، ودلائل واضحات من الله على صدقي، وأنه من عند الله، بها يبصر الحق، ويدرك الصّواب، ويعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى، أو هو بمنزلة بصائر القلوب، كما قال تعالى في موضع آخر: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها [الأنعام ٦/ ١٠٤].
225
وهذا القرآن هدى للحيارى إلى طريق الاستقامة، وهو أيضا رحمة في الدنيا والآخرة لمن يؤمن به، كما قال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ، فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام ٦/ ١٥٥]، فمن آمن به وعمل بأحكامه، فهو من المفلحين دون سواهم.
وهذه الخصائص الثلاث متفاوتة البيان بحسب أحوال طالبي المعارف، فأعلاها الحق اليقين، وثانيها منهج الاستقامة للمعتدلين، وثالثها طريق الرّحمة العامة بالمؤمنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يأتي:
١- كان لأهل مكة مع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم مواقف تعنّت وتشدّد، ومطالب شبه مستحيلة، تهرّبا من الإيمان، وإصرارا على الكفر، وإمعانا في إيذاء النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، واتّهامه بأخطر أنواع الاتّهام، وهو افتراء القرآن وتمكّنه من الإتيان بما شاؤوا من المعجزات وخوارق العادات.
٢- تقتصر مهمّة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم على اتّباع الوحي وامتثال ما أمر الله به، فإن أظهر الله معجزة أو آية على يديه قبلها، وإن منعها عنه لم يسأله إيّاها، إلا أن يأذن له في ذلك، فإنه حكيم عليم.
٣- هذا القرآن أعظم المعجزات وأبين الدّلالات وأصدق الحجج والبيّنات، فهو متّصف بخصائص ثلاث: مبصّر بالحقّ في دلالته على التّوحيد والنّبوة والمعاد وتنظيم الحياة بأحسن التّشريعات، وهاد مرشد إلى طريق الاستقامة، ورحمة في الدنيا والآخرة للمؤمنين به.
226
الاستماع للقرآن وطريقة الذّكر
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٦]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
الإعراب:
تَضَرُّعاً منصوب على المصدر، وقيل: هو في موضع الحال.
وَالْآصالِ جمع أصل، وأصل: جمع أصيل، وهو العشي.
المفردات اللغوية:
فَاسْتَمِعُوا الفرق بين السّمع والاستماع: أنّ الأول يحصل ولو بغير قصد، والثاني لا يكون إلا بقصد ونيّة. وَأَنْصِتُوا الإنصات: هو السّكوت للاستماع، من غير شاغل يشغل عن الإحاطة بكل ما يقرأ. تَضَرُّعاً تذلّلا وإظهارا للضّراعة، أي الخضوع والضّعف. وَخِيفَةً خوفا وخشية من الله وعقابه. وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي التّوسّط في الذّكر دون الجهر برفع الصّوت، وفوق السّر والتّخافت. بِالْغُدُوِّ جمع غدوة: وهي ما بين صلاة الغداة (الفجر) إلى طلوع الشّمس. وَالْآصالِ جمع أصيل: وهو العشي ما بعد العصر إلى غروب الشمس، والمقصود: الذّكر أوائل النهار وأواخره، أي في كل وقت. إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي الملائكة.
لا يَسْتَكْبِرُونَ لا يتكبّرون عن عبادة الله. وَيُسَبِّحُونَهُ ينزّهونه عما لا يليق به. وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي يصلّون لله ويخصّونه بالخضوع والعبادة.
سبب النّزول:
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ: أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أبي هريرة قال:
نزلت: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا في رفع الأصوات في الصّلاة خلف النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
227
وأخرج أيضا عنه قال: كانوا يتكلّمون في الصّلاة، فنزلت: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ الآية.
وأخرج عن عبد الله بن مغفّل نحوه. وأخرج ابن جرير الطّبري عن ابن مسعود مثله.
وأخرج عن الزّهري قال: نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كلما قرأ شيئا قرأه.
وقال سعيد بن منصور في سننه عن محمد بن كعب قال: كانوا يتلقّفون من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ شيئا قرءوا معه، حتى نزلت هذه الآية التي في الأعراف:
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا.
وعقب السيوطي على هذه الرّوايات فقال: ظاهر ذلك أن الآية مدنيّة.
يظهر من هذه الرّوايات أن الآية نزلت في الصّلاة، وهو مروي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر، والزّهري وعبيد الله بن عمير، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيّب. قال سعيد: كان المشركون يأتون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا صلّى، فيقول بعضهم لبعض بمكّة: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت ٤١/ ٢٦]. فأنزل الله جل وعز جوابا لهم: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا.
وقيل: إنها نزلت في الخطبة، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، وزيد بن أسلم، والقاسم بن مخيمرة، ومسلم بن يسار، وشهر بن حوشب، وعبد الله بن المبارك. قال ابن العربي: وهذا ضعيف لأن القرآن فيها قليل، والإنصات يجب في جميعها.
228
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أن القرآن بصائر للناس وآيات بيّنات للمؤمنين، وهدى ورحمة لهم، أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظاما له واحتراما، وتوصّلا لنيل الرّحمة به، والفوز بالمنافع الكثيرة التي يشتمل عليها، لا كما كان يفعل كفار قريش في قولهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ.
التفسير والبيان:
إذا قرئ القرآن الكريم فأصغوا إليه أسماعكم، لتفهموا آياته وتتعظوا بمواعظه، وأنصتوا له عن الكلام مع السّكون والخشوع، لتعقلوه وتتدبروه، ولتتوصلوا بذلك إلى رحمة الله بسبب تفهّمه والاتّعاظ بمواعظه، فإنه لا يفعل ذلك إلا المخلصون الذين استنارت قلوبهم بنور الإيمان.
والآية تدلّ على وجوب الاستماع والإنصات للقرآن، سواء أكانت التّلاوة في الصلاة أم في خارجها، وهي عامّة في جميع الأوضاع وكل الأحوال، ويتأكّد ذلك في الصّلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة،
كما رواه مسلم في صحيحة من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا» رواه أيضا أصحاب السّنن عن أبي هريرة.
وهذا هو المروي عن الحسن البصري، لكن الجمهور خصّوا وجوب الاستماع والإنصات بقراءة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم في عهده، وبقراءة الصّلاة والخطبة من بعده يوم الجمعة لأن إيجاب الاستماع والإنصات في غير الصّلاة والخطبة فيه حرج عظيم إذ يقتضي ترك الأعمال.
وأما ترك الاستماع والإنصات للقرآن المتلو في المحافل، فمكروه كراهة
229
شديدة، وعلى المؤمن أن يحرص على استماع القرآن عند قراءته، كما يحرص على تلاوته والتّأدّب في مجلس التّلاوة.
وتستحب القراءة بالتّرتيل والنّغم الدّالة على التّأثّر والخشوع من غير تكلّف ولا تصنّع ولا تمطيط ولا تطويل في المدود،
فقد روى الشّيخان عن أبي هريرة مرفوعا: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصوت، يتغنى بالقرآن».
وثواب الاستماع كثواب التّلاوة،
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «من استمع إلى آية من كتاب الله، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة».
ثم أمر الله تعالى بذكره أول النّهار وآخره كثيرا، كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق ٥٠/ ٣٩].
ومعنى الآية: اذكر ربك في نفسك سرّا، بذكر أسمائه وصفاته وشكره واستغفاره، اذكره بقلبك: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرّعد ١٣/ ٢٨]، واذكره ضارعا متذلّلا خائفا راجيا ثوابه وفضله، واذكره بلسانك ذكرا متوسّطا بين الإسرار والجهر: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الإسراء ١٧/ ١١٠]، والخطاب قيل: للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقيل: لمستمع القرآن، والأولى أن يكون عامّا.
وينبغي أن يكون ذكر اللسان مقرونا باستحضار القلب وملاحظة المعاني، فذكر اللسان وحده لا نفع فيه ولا ثواب عليه، فالواجب الجمع بين ذكر القلب وذكر اللسان، وأن يكون الذّكر رغبة ورهبة.
وأنسب الأوقات للذّكر: وقت الصّباح والمساء وهو وقت الغدو والآصال
230
لأنّ بقية النهار للعمل وكسب الرّزق، ولأنّ هذين الوقتين وقتا هجوع وسكون.
جاء في الصّحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدّعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنّ الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته».
وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ تأكيد للأمر بالذّكر، فهو نهي عن الغفلة عن ذكر الله، والواجب جعل القلب على صلة دائمة مع الله، وأن يشعر القلب الخضوع لله والخوف من قدرته وعظمته إذا غفل الإنسان عنه.
ثمّ أكّد الله تعالى الأمر والنّهي السّابقين بما يرغّب في الذّكر، فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ... أي إنّ الملائكة المقرّبين من الله، لا يتكبّرون عن عبادة الله، وينزّهونه عن كلّ ما يليق بعظمته وكبريائه، وله وحده يصلّون ويسجدون، فلا يشركون معه أحدا.
وهذا تذكير بفعل الملائكة، ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، لهذا شرع لنا السّجود هاهنا وفي بقية سجدات التّلاوة، وهذه أول سجدة في القرآن فيشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع،
روى ابن ماجه عن أبي الدّرداء عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه عدّها في سجدات القرآن.
والآية ترشد إلى أن الأفضل إخفاء الذّكر،
روى أحمد وابن حبّان عن سعد عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «خير الذّكر الخفي».
فقه الحياة أو الأحكام:
الأدب مع القرآن الكريم أمر مطلوب شرعا، وتعظيم الله واجب عقلا
231
وشرعا، وذكر الله تعالى همزة وصل القلب والنفس مع الله، وشأن الملائكة دوام العبادة والتّسبيح (تنزيه الله عما لا يليق).
والصّحيح وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل الأحوال وعلى جميع الأوضاع في الصّلاة وغيرها.
لكن اختلف العلماء على آراء ثلاثة في قراءة المأموم خلف الإمام، هل يسقط عنهم فرض القراءة في الصلاة الجهريّة والسّريّة، أو يجب، وهل الوجوب خاص في السّريّة دون الجهريّة؟
١- الحنفيّة: رأوا أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام مطلقا، جهرا كان يقرأ أو سرّا لظاهر هذه الآية، فإن الله طلب الاستماع والإنصات، وفي الجهريّة يتحقّق الأمران معا، وفي السّريّة يتحقق الإنصات لأنه الممكن لأن الإمام يقرأ، فعليه التزام الصّمت. ويؤيّده
ما أخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا»
ورواه مسلم عن أبي موسى كما تقدّم،
وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن جابر أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «من كان له إمام، فقراءته له قراءة»
وهذا الحديث وإن كان مرسلا فإنه يحتج به عند الحنفيّة، وقد رواه أبو حنيفة مرفوعا بسند صحيح.
وهو مذهب كثير من الصحابة: علي، وابن مسعود، وسعد، وجابر، وابن عباس، وأبي الدّرداء، وأبي سعيد الخدري، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأنس رضي الله عنهم.
٢- المالكية والحنابلة: رأوا أن المأموم يقرأ خلف الإمام إذا أسرّ، ولا يقرأ إذا جهر، وهو قول عروة بن الزّبير، والقاسم بن محمد، والزّهري.
232
ودليلهم حديثان: الأول-
ما رواه مالك وأبو داود والنّسائي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ أحد منكم آنفا؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله، فقال: «إني أقول ما لي أنازع القرآن؟!» فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما جهر فيه من الصّلوات بالقراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
والثاني- ما روى مسلم عن عمران بن حصين قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بنا صلاة الظهر أو العصر، فقال: «وأيّكم قرأ خلفي بسبّح اسم ربك الأعلى؟» فقال رجل: أنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «قد علمت أن بعضكم خالجنيها».
وروي عن عبادة بن الصّامت قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف، قال: «إنّي لأراكم تقرؤون وراء إمامكم؟»، قال:
قلنا: يا رسول الله، أي والله، قال: «فلا تفعلوا إلا بأمّ القرآن».
لكن يلاحظ أن هذين الحديثين يدلان على مذهب الشّافعية، لا على مذهبي المالكية والحنابلة.
٣- الشّافعية: يقرأ المصلّي بفاتحة الكتاب مطلقا، سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا، في صلاة جهريّة أو سريّة. واستدلّوا بالحديثين السّابقين كما لاحظنا، وبقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل ٧٣/ ٢٠]،
وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه الجماعة: أحمد وأصحاب الكتب الستّة عن عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
وهذا ما اختاره البخاري والبيهقي.
ودلّت آية: وَاذْكُرْ رَبَّكَ... على أن رفع الصّوت بالذّكر ممنوع.
وأرشدت آية: وَلَهُ يَسْجُدُونَ على طلب السّجود ممن قرأ هذه الآية أو سمعها، وقد شرع سجود التّلاوة إرغاما لمن أبى السّجود من المشركين، واقتداء
233
بالملائكة المقرّبين.
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السّجدة، فسجد، اعتزل الشّيطان يبكي، يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسّجود فسجد، فله الجنّة، وأمرت بالسّجود، فأبيت فلي النّار».
وإذا سجد يقول في سجوده كما
كان النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم يقول فيما رواه ابن ماجه عن ابن عباس: «اللهم احطط عني بها وزرا، واكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا»
وفي رواية: «اللهم لك سجد سوادي، وبك آمن فؤادي، اللهم ارزقني علما ينفعني، وعملا يرفعني».
واختلف العلماء في وجوب سجود التّلاوة، فقال مالك والشّافعي وأحمد:
ليس بواجب
لحديث عمر الثابت في صحيح البخاري: أنه قرأ آية سجدة المنبر، فنزل فسجد وسجد الناس معه، ثم قرأها في الجمعة الأخرى، فتهيأ الناس للسّجود، فقال: «أيها الناس على رسلكم! إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء»
وذلك بمحضر الصحابة من الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم.
ومواظبة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم تدلّ على الاستحباب. وأما
قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «أمر ابن آدم بالسّجود»
فإخبار عن السّجود الواجب.
وقال أبو حنيفة: سجود التلاوة واجب لأن مطلق الأمر بالسّجود يدل على الوجوب،
ولقوله عليه الصّلاة والسّلام: «إذا قرأ ابن آدم سجدة، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله»
وفي رواية أبي كريب: «يا ويلي»
وقوله عليه الصّلاة والسّلام أيضا إخبارا عن إبليس فيما رواه مسلم: «أمر ابن آدم بالسّجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسّجود فأبيت فلي النّار».
ولا خلاف في أنّ سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصّلاة من طهارة حدث ونجس ونيّة واستقبال قبلة ووقت.
234
أما الوقت فقيل: يسجد في سائر الأوقات مطلقا لأنها صلاة لسبب، وهو مذهب الشافعي والجماعة. وقيل: يسجد في غير الأوقات المكروه فيها صلاة النافلة مثل ما بعد الصّبح وما بعد العصر، وهو مذهب الحنفية، وفي رأي عند المالكية. وسبب الخلاف: معارضة سبب قراءة السّجدة من السّجود المرتب عليها لعموم النّهي عن الصّلاة بعد العصر وبعد الصبح، واختلافهم في المعنى الذي لأجله نهي عن الصّلاة في هذين الوقتين.
وهل يحتاج السّاجد إلى تحريم ورفع يدين وتكبير وتسليم؟
اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب الشّافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبّر ويرفع للتّكبير لها أي لسجدة التّلاوة،
وروي في الأثر عن ابن عمر أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد كبّر، وكذلك إذا رفع كبّر.
ومشهور مذهب مالك أنه يكبّر لها في الخفض والرّفع في الصّلاة، واختلف المنقول عنه في التّكبير لها في غير الصّلاة.
وقال الجمهور: ولا سلام لها، وقال الشّافعية: لها سلام، وهذا كما
قال ابن العربي أولى، لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن علي: «مفتاح الصّلاة الطّهور، وتحريمها التّكبير، وتحليلها التّسليم»
، وهذه عبادة لها تكبير، فكان لها تحليل كصلاة الجنازة بل أولى لأنها فعل، وصلاة الجنازة قول.
فإن قرأ شخص السّجدة في صلاة، فإن كان في نافلة سجد، وإن كان في الفريضة لم يسجد في المشهور عن مالك لكونها زيادة في أعداد سجود الفريضة، وخوفا من التّخليط على الجماعة.
235

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنفال
مدنية وهي خمس وسبعون آية.
سورة الأنفال:
سورة مدنيّة تتحدّث عن أحكام تشريع الجهاد في سبيل الله، وقواعد القتال، والإعداد له، وإيثار السّلم على الحرب إذا جنح لها العدوّ في دياره، وآثار الحرب في الأشخاص (الأسرى) والأموال (الغنائم).
وسبب تسميتها بالأنفال واضح، لسؤال الناس عن أحكامها، والمراد بها الغنائم الحربية، فقد ابتدئت السورة بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ.
وقد نزلت عقب غزوة بدر الكبرى، أول الغزوات المجيدة التي حقّقت النصر للمسلمين مع قلّتهم على المشركين مع كثرتهم، لذا سمّيت (يوم الفرقان) لأنها فرقت بين الحقّ والباطل.
ومناسبتها لسورة الأعراف:
أنها في بيان حال الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم مع قومه، وسورة الأعراف مبيّنة لأحوال أشهر الرّسل مع أقوامهم.
ما اشتملت عليه هذه السّورة:
تضمّنت سورة الأنفال أحكاما عديدة في الجهاد والغزوات، أهمّها ما يأتي:
236
١- أمر قسمة الغنائم متروك للرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم، والأحكام مرجعها إلى الله تعالى ورسوله لا إلى غيرهما.
٢- إرادة تحقيق النّصر الإلهي للمؤمنين في معركة بدر، لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وبيان علّة ذلك الحكم في قوله تعالى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.
٣- الإمداد الفعلي بالملائكة للمؤمنين يقاتلون معهم: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ....
ويفهم من هذين الحكمين أن أحكام الله معللة بمراعاة مصالح الناس.
٤- النّصر الحقيقي من عند الله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
٥- تعليم المؤمنين قواعد القتال الحربية، وخطابهم لترسيخ المعلومات ستّ مرات بوصف الإيمان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في بداية الأمر بكل قاعدة أثناء سرد أحداث بدر، وهي تحريم الفرار من المعركة، وطاعة الله والرّسول، والاستجابة لله وللرسول إذا دعا إلى ما فيه عزّة الحياة والسعادة، وتحريم الخيانة بنقل أسرار الأمة للأعداء، والأمر بالتقوى التي هي أساس الخير كله، والثبات أمام الأعداء، والصبر عند اللقاء، وذكر الله كثيرا. ومن تلك القواعد كراهة مجادلة الرّسول في الحقّ بعد ما تبيّن، أما قبل تبيّن الحق في المصلحة الحربية فالمجادلة محمودة، إذ بها تتمّ المشاورة المطلوبة في القرآن بين المؤمنين ومع الرّسول.
ومن القواعد الحربية الامتناع من التنازع والاختلاف حال القتال:
وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.
237
٦- عصمة الرّسول بالهجرة من أذى قريش وتآمرهم على حبسه أو نفيه أو قتله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا....
٧- رفع البلاء العام عن الناس قاطبة ما دام الرّسول فيهم: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ.
٨- التّوكّل على الله بعد اتّخاذ الأسباب المطلوبة في كلّ شيء، وبخاصة الإعداد للقتال.
٩- الظّلم مؤذن بالخراب، ومعجّل بالفناء، ويعمّ أثره الأمّة كلها:
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً.
١٠- إن تغيّر أحوال الأمم من الذّل إلى العزّة، ومن الضّعف إلى القوّة، منوط بتغيير ما في النّفوس من عقائد فاسدة وأخلاق مرذولة.
١١- الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة للفساد: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ.
١٢- إعداد مختلف القوى الماديّة والمعنويّة لقتال الأعداء: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ.
١٣- إيثار السّلم على الحرب إذا مال لها العدوّ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها.
١٤- وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق، حتى ولو مسّ ذلك مصلحة بعض المسلمين: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ.
١٥- وجوب تأديب ناقضي العهد ومعاملتهم بالشّدّة: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ.
238
١٦- غاية القتال في الإسلام صون حريّة الدّين ومنع الفتنة في الدّين:
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ.
١٧- المسلمون أمّة واحدة والولاية والتّناصر بينهم واجب، والكافرون أمّة واحدة، ولا ولاية بين المؤمنين والكافرين: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.
السّور المكيّة والمدنيّة:
سبق في مقدّمة الجزء الأول بيان خواص السّور المكيّة والمدنيّة، وللتّذكير بتلك الخواص بمناسبة تفسير نماذج من النّوعين أشير إلى بعض هذه الخواص، علما بأن سورا ثلاثا مما ذكر مكيّة وهي: (الفاتحة والأنعام والأعراف) وأربعا هي مدنيّة وهي: (البقرة وآل عمران والنساء والمائدة) وكذا سورة الأنفال مدنيّة إلا الآيات (٣٠- ٣٦) فمكيّة.
أما السّور المكيّة:
فموضوعاتها العقيدة والأخلاق، ببيان أصول الإيمان من إثبات التّوحيد والنّبوة والبعث، وقصص الرّسل مع أقوامهم في هذا المضمار، وتقرير أصول الآداب والأخلاق، ومحاجّة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول.
وأما السّور المدنيّة:
فتعنى ببيان أحكام التّشريع المفصّلة، ومحاجّة أهل الكتاب بسبب الانحراف عن هداية كتبهم، ففي سورة البقرة محاجة اليهود، وفي سورة آل عمران محاجّة النّصارى، وفي سورة المائدة محاجّة الفريقين، وفي سورتي النّساء والتوبة مجادلة المنافقين وأحكامهم، بعد إعلان البراءة من المشركين في سورة التوبة.
وأمّا سورة الأنفال:
فهي تنظيم لقواعد السّلم والحرب بالنّسبة للمسلمين،
239
Icon