تفسير سورة الأعراف

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤)
فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
. (١) حرج: ضيق وغمّ وقيل شكّ. وبعض المفسرين أولوا جملة فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ بمعنى لا يضق صدرك بتلاوته وتبليغه للناس وإنذارهم به.
وهو الأوجه.
(٢) تذكرون: تتذكرون بمعنى تتعظون.
(٣) بأسنا: عذابنا وبلاؤنا.
(٤) بياتا: التبييت في اللغة الهجوم على قوم ليلا مفاجأة وهم غارون وغافلون. ومعنى الكلمة هنا في الليل وهم نائمون.
(٥) قائلون: من القيلولة. ومعنى الكلمة هنا وهم في قيلولة النهار.
(٦) دعواهم: بمعنى قولهم واعتذارهم.
(٧) ظالمين: هنا بمعنى مجرمين أو جائرين عن طريق الحق.
(٨) بآياتنا يظلمون: يقفون من آياتنا موقف الإجرام والتمرّد.
هذه السورة أولى السور التي تعددت حروف مطلعها المنفردة حيث كانت السور التي قبلها من ذوات الحروف المنفردة تبدأ بحرف واحد وهي (ن) و (ق) و (ص) وقد روى المفسرون أقوالا عديدة فيها منها أنها بمعنى أنا الله أفصل.
ومنها أنها رموز إلى بعض أسماء الله أو أقسام ربانية ومنها أنها حروف متقطعة
362
للاسترعاء والتنبيه. والقول الأخير هو ما رجحناه بالنسبة لمطالع السور المماثلة وما نرجحه بالنسبة لهذا المطلع. ولعلّ حكمة تعدد الحروف متصلة بطول السورة حيث هي أولى السور الطويلة المكية بل أطولها والله أعلم.
وهذه هي أول مرة يعقب الحروف المنفردة كلمة الكتاب بدلا من القرآن وبدون قسم. وقد علقنا على هذا الأمر ومداه في سياق سورة (ق) فنكتفي بهذا التنبيه.
ومطلع السورة الذي يتألف من مجموعة الآيات [١- ٩] قوي استهدف فيما هو المتبادر تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنذار الكفار والتنويه بالمؤمنين: فلا موجب لضيق صدره مما يوحى إليه من آيات الكتاب لينذر به الناس. وليكون بنوع خاص ذكرى وهدى للمؤمنين به. وليهتف بالناس أن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم وأن ينبذوا ما يتخذونه من دونه من أولياء لأنه لا يفعل هذا إلّا من غفل عن الحقيقة والحق ولم يترو في أمره. وليس هؤلاء بمعجزي الله سبحانه. فلقد أهلك كثيرا من أمثالهم بما كان يصبّه عليهم من بلاء عذاب يأتيهم وهم غافلون في نوم الليل والنهار فما يكون منهم إلّا الاعتراف بانحرافهم وإجرامهم دون أن ينفعهم ذلك. ولسوف يحشر الله الناس جميعا يوم القيامة فيحاسبهم على أعمالهم التي يخبرهم عنها لأنه لم يكن غائبا عنهم وكان عليما محيطا بكل ما كانوا يعملون ولسوف توزن أعمالهم بالحق والعدل. وسيشهد الرسل الذين أرسلهم الله إليهم هذا الحساب ويسألون بدورهم عن مواقف أممهم منهم فمن كان مؤمنا صالح العمل ثقلت موازينه فأفلح ونجا ومن كان كافرا آثما خفّت موازينه فخسر نفسه.
ومن شأن هذا التثبيت بهذا الأسلوب القوي النافذ أن يبثّ الطمأنينة في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين وأن يهدئ روعهم ويضاعف قوتهم على الصبر.
ولقد تكرر في القرآن نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الاستشعار بضيق الصدر من تبليغ آيات الله. ومن ذلك ما جاء في آية سورة هود هذه: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ
363
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)
وقد احتوت الآية تثبيتا مثل التثبيت الذي احتوته الآيات التي نحن في صددها.
ولقد حكت آيات عديدة مرّت أمثلة منها ما كان من مواقف النبي صلّى الله عليه وسلّم القوية الجريئة في مواجهة طواغيت الكفار كما حكت آيات عديدة ما كان من عمق إيمانه برسالته واستغراقه فيها مثل آية سورة الأنعام هذه: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) وآية سورة الأحقاف هذه:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨). حيث يتبادر من ذلك أن ذلك ليس بسبيل بيان كون صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم يضيق فعلا بتبليغ القرآن للناس لأنه قد بلغ المرتبة التي خلصت نفسه بها من كل تردد أو نفاد صبر أو ضيق صدر بإعلان ما يوحى إليه أو شبهة في علوّ كلمة الله في النهاية. وإنما كان يعتلج في نفسه همّ وحزن دائمان بسبب وقوف الزعماء موقف العناد والمناوأة والصدّ، وانكماش أكثرية الناس عن دعوته نتيجة لذلك، على شدّة حرصه على هدايتهم فكانت حكمة التنزيل تقتضي موالاته بالتثبيت والتهوين على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (ق) والعبارة هنا من هذا الباب.
ولقد سبق الكلام عن مدى تعبير الموازين وثقلها وخفتها في سياق تفسير سورة القارعة فلا حاجة إلى الإعادة. وإنما نذكر في مناسبة ورود جملة وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ما ينطوي في الجملة من الإشارة إلى العدل الرباني في محاسبة الناس ونيل كل واحد نصيبه الحق بالعدل، وقد تكررت هذه الجملة في سورة أخرى.
وتعبير وَما كُنَّا غائِبِينَ قد يقوّي توجيهنا في سورة (ق) في صدد تعابير القرناء والشهداء وكتّاب الأعمال عن أيمان الناس وشمائلهم وكونها تعابير أسلوبية للتقريب والتمثيل وكون علم المحيط وقدرته الشاملة في غنى عن ذلك.
364
وتعبير أَوْلِياءَ مصروف كما هو المتبادر إلى الشركاء الذين كان العرب يشركونهم مع الله في الدعاء والاستنصار والعبادة.
وقد تكرر وروده كثيرا مفردا وجمعا بهذا المعنى وبمعنى الحامي والنصير.
والمقطع الأخير من الآية الثالثة يحتوي تسفيها لاتخاذ أولياء غير الله وإشارة إلى ما في ذلك من سخف وقلة بصيرة. وفي هذا توكيد للمبدأ القرآني المحكم الذي لا يسمح بالاتجاه إلى أي قوة أو شخص أو رمز أو نصير أو ولي غير الله في أي شيء من خصائص الربوبية الشاملة الواحدة المنحصرة في الله عزّ وجلّ من نفع وضرر ومنع ومنح وحماية وشفاعة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠ الى ٢٥]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤)
قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤)
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
365
(١) معايش: أسباب العيش.
(٢) ما منعك ألّا تسجد: أوّل بعض المفسرين مَنَعَكَ بمعنى اضطرك وحينئذ يستقيم المعنى وقال آخرون إن لا زائدة وإن تقدير الجملة هو ما منعك أن تسجد.
(٣) اهبط: بمعنى انزل أو اخرج.
(٤) من الصاغرين: من الذليلين الحقيرين.
(٥) فبما أغويتني: قيل إنها بمعنى فبما أنك خيبتني من رحمتك وقيل إنها بمعنى فبما أنك امتحنتني بالسجود وقيل إنها بمعنى فبما أنك أهلكتني. والجملة هي حكاية لقول إبليس وقيل إنها تعبّر عن عقيدة إبليس بأن الله أغواه وأضلّه.
(٦) مذؤوما: من الذأم وقيل معناه اللعنة كما قيل معناه العيب والعار.
(٧) مدحورا: مبعدا ومطرودا.
(٨) قاسمهما: أقسم لهما.
(٩) دلّاهما: أمالهما.
(١٠) بغرور: بالتغرير والخداع.
(١١) يخصفان: يرقعان أو يلصقان.
الآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وتذكير وتنديد كما هو المتبادر.
فالآيات السابقة احتوت دعوة إلى اتباع ما أنزل الله وتنويها بالمؤمنين وإنذارا للكافرين في الدنيا والآخرة فجاءت هذه الآيات تذكر المدعوين بنعمة الله عليهم وتمكينهم في الأرض وتيسير وسائل العيش لهم ثم بما جبلهم الله عليه من حسن الخلق والتكوين، وتندّد بهم على ما يبدو منهم تجاه ذلك من جحود وقلة شكر لله وعدم الاستجابة لدعوته.
ثم تستطرد إلى قصة آدم وإبليس بسبيل التذكير والعظة والتمثيل. فالفئة
366
الصالحة الخيرة وهم الملائكة قد أطاعوا أمر الله، والفئة الخبيثة الشريرة وهي إبليس قد تمرّد عليه فلعنه الله وطرده من رحمته. وأدّى ذلك إلى أن يتسلّط على ذرية آدم وزوجته ليغويهما كما غوي. ولقد روى الطبري في صدد جملة وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أنها موجهة لبني آدم وأن خلقهم وتصويرهم يعنيان ما كان من ذلك في صلب آدم ورحم حواء. ولقد نقل ابن كثير هذا التأويل. ولكنه رجّح أن يكون الضميران عائدان إلى آدم بالذات لأن الكلام في صدده وأن استعمال الجمع المخاطب هو بسبب كونه أبا البشر الذين يوجه إليهم الخطاب. ومع ضآلة الفرق في التأويلين بوجه عام فإننا نرى ترجيح ابن كثير في محله. ونرى في الوقت نفسه أن الآية التي جاءت فيها هذه الجملة والتي قبلها قد جاءتا بمثابة تمهيد للخطاب والقصة. وأن فيهما قرينة جديدة على كون قصد العظة والتنبيه للذين يوجه إليهم القرآن هو الجوهري في القصة.
تعليق على قصة آدم وإبليس في هذه السورة
والقصة هنا أكثر إسهابا منها في السورة السابقة. ولعل من السامعين من طلب الاستزادة فاقتضت حكمة التنزيل هذا الإسهاب. أو لعلّ ذلك كان بسبب استمرار الكفار في جحودهم وعنادهم. وربما كان ذلك قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد سورة (ص).
وقصد الموعظة والتمثيل والترغيب والترهيب ظاهر في الآيات وفي الآيات التي جاءت بعدها أكثر منه في السورة السابقة. ولعل ذلك متصل بالحكمة التي خمناها في الإسهاب الذي جاء في هذه السورة.
ولقد توسّع المفسرون فيما جاء جديدا في القصة توسعا بلغ بعضهم فيه حدّ الإغراب وبخاصة في الماهيات والماديات والأشكال مما لا طائل من ورائه ولا تقتضيه العبارة ولا هدف القصة وغير مستند إلى أحاديث نبوية صحيحة ومن جملة ما قالوه مثلا أن الجنة التي كان آدم وإبليس فيها كانت في السماء واستدلوا على
367
ذلك بكلمات فَاهْبِطْ مِنْها [الأعراف: ١٣] واهْبِطُوا مِنْها [البقرة: ٣٨] وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) «١». ومع ما قلناه في سياق السورة السابقة من أنه لا طائل في بحث ذاتية القصة لأنها ليست الهدف فإن هذه الكلمات لا تقتضي أن تكون قد قصدت الإشارة إلى أن الجنة في السماء كما هو المتبادر.
وفي آيات القصة الواردة في سورة البقرة آية تفيد أن الله قد خلق آدم ليكون خليفة في الأرض وهي: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠).
ولقد علقنا في السورة السابقة تعليقا مسهبا على القصة وأشخاصها ونبهنا إلى وجوب الوقوف فيها عند ما وقف عنده القرآن لأنه ليس هناك أحاديث نبوية صحيحة فيها زيادة عن ذلك كما نبهنا إلى الأهداف الجوهرية في القصة المتبادرة من عباراتها وإلى مواضع العبرة والعظة فيها فلا نرى ضرورة للإعادة. غير أن فيما جاء جديدا في الآيات التي نحن في صددها عبرا أخرى تستحق التنويه. كالإشارة إلى ما توطد من عداء بين آدم وإبليس للتنبيه إلى ما في متابعة إبليس من جرم مضاعف لأنه عدو. وهذا ما نبهت إليه الآيات التي تأتي بعد هذه الآيات. وقد ذكرت ذلك أيضا آيات في سور أخرى منها آية الكهف هذه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (٥٠). وكالإشارة إلى أسلوب الخديعة والتغرير الذي اصطنعه إبليس مع آدم وحواء وما كان له من نتائج أليمة للتنبيه إلى وجوب التروّي في الإصغاء إلى الوسوسة والإغواء وأساليب الغواية وعدم الاندفاع بما فيها من تزويق وبهرجة.
(١) انظر تفسير آيات القصة في سورتي البقرة والأعراف في تفسير ابن كثير والخازن.
368
تعليق على التلقين القرآني بالشكر لله ومداه
وبمناسبة التنديد بقلّة شكر بني آدم لله عزّ وجلّ في الآية [١٠] وبقول إبليس من أنه سوف يوسوس لبني آدم حتى يمنع أكثرهم عن شكر الله في الآية [١٧] من الآيات التي نحن في صددها نقول إن القرآن قد احتوى آيات كثيرة في سورة مكية ومدنية فيها أمر بالشكر لله والحث عليه والوعد بزيادة نعمة الله للشاكرين والدعاء لله بأن يوفق الداعي إلى شكره واعتبار عدم الشكر جحودا لله وفضله وعنوانا للكفر به وتقرير كون الله شاكرا من شكره مسبغا عليه نعمته ورعايته مجزيه عليه بأحسن الجزاء. والإيذان مع ذلك بأن الله غني عن الناس وعن شكرهم وأن الشاكر إنما يشكر لنفسه من حيث إنّ في الشكر اعترافا بالله وفضله ونعمته وتقربا إليه للازدياد من هذا الفضل والنعمة. من ذلك على سبيل التمثيل هذه الآيات:
١- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: ١٧٢].
٢- فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: ١٢٣].
٣- وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: ١٤٤].
٤- وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: ٧].
٥- وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان: ١٢].
٦- إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ... [الزمر: ٧].
٧- إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [التغابن: ١٧].
حيث تدلّ هذه الآيات التي لها أمثال كثيرة في السور المكية والمدنية على ما الجزء الثاني من التفسير الحديث ٢٤
369
أعاره القرآن لموضوع الشكر لله من عناية واهتمام.
ولقد رويت أحاديث نبوية في هذا الصدد متساوقة في المدى والتلقين مع الآيات القرآنية. منها حديث رواه الترمذي عن ثوبان أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لما سئل أي المال خير فنتخذه: «أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه» «١». وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من لا يشكر الله لا يشكر الناس» «٢». وحديث رواه الإمامان المذكوران أيضا عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أعطي عطاء فوجد فليجز به ومن لم يجد فليثن فإنّ من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفر» «٣».
وللشيخ مصطفى المراغي كلمة جديرة بالإيراد في هذا السياق حيث قال إن كلمة الشكر من جوامع الكلم تنتظم كل خير وتشمل كل ما يصلح به قلب الإنسان ولسانه وجوارحه. وإن الشكر لله على ما أنعم به على الإنسان من مال أو علم يطهّر النفوس ويقرّبها من الله ويوجّه إرادتها إلى الوجهة الصالحة في إنفاق النعم في وجوهها المشروعة. ويبث فيها الأمل والرجاء والطمأنينة إلى وعد الله بالزيادة والرعاية وحسن الجزاء.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)
. (١) لباسا يواري سوآتكم وريشا: إشارة إلى ما يسّره الله للناس من وسائل
(١) التاج ج ٤ ص ١١٦. [.....]
(٢) التاج ج ٥ ص ٦٢- ٦٣.
(٣) انظر المصدر نفسه.
370
اللباس. وقيل إن الريش هو المال أو ما يستر به أو ما يتزين به، ويتبادر لنا أنه إشارة إلى أصواف الأنعام وأشعارها وأوبارها التي تصنع منها الثياب.
(٢) لباس التقوى: الأرجح أنه تعبير مجازي يقصد به أن التزام سبيل التقوى أو العمل الذي فيه تقوى أو الدعوة التي أنزلها الله في القرآن هو خير من كل شيء.
روى الطبري عن مجاهد أن هاتين الآيتين والآيتين اللتين بعدهما نزلتا في قريش حيث كانوا في الجاهلية يطوفون عراة بقصد تحذيرهم وتنبيههم إلى وجوب الاحتشام والتزين وقبح التعري وأن الله قد أنزل لهم اللباس والرياش لتفادي ذلك.
والرواية لم ترد في كتب الصحاح. ونرجح أنها من قبيل التطبيق بسبب ما روي في سياق آية أخرى تأتي بعد قليل. وأن الآيات جاءت معقبة على قصة آدم وإبليس لتستطرد إلى تذكير بني آدم بما أنعم الله عليهم من اللباس والرياش الذي يواري سوآتهم وإلى تحذيرهم من أن يفتنهم الشيطان الذي فتن أبويهم من قبل والذي يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم، وإيذانهم بأن التزام تقوى الله وخشيته كما أمروا هو كل الخير لهم. وبأن الشياطين قد جعلوا أولياء للذين لا يؤمنون بالله ولا يلتزمون أوامره.
ويبدو فحوى الآيتين بهذا الشرح المستلهم منه قويّا نافذا كما تبدو صلتهما بالسياق السابق واضحة. والله تعالى أعلم.
تعليق على دلالة جملة إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ
وتعبير إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ قد استهدف فيما هو المتبادر شدّة التحذير والتنبيه. فلا يقولن أحد إني لا أرى الشيطان أو إني في نجوة منه، فهو دائم الترصد للناس. وإذا كانوا لا يرونه فإنه يراهم هو وقبيله والعدو المتربص المختفي هو أشد نكاية من الظاهر. ولعله يندمج في هذه العبارة تقرير ما يتنازع الإنسان من عوامل الشر والميول الأثيمة في باطنه مما يحسّ به كل امرئ.
371
ولقد استدلّ بعضهم بهذه الجملة على أن بني آدم لا يمكن أن يروا الجن الذين منهم إبليس ومرادفه الشيطان كما ذكرت ذلك آية سورة الكهف [٥٠] التي أوردناها قبل قليل. بل قال بعضهم إن من قال إنهم يرون هو كافر لأنه بذلك يكذب القرآن وإن زعم رؤيتهم زور ومخرقة. وإلى هذا قال بعضهم إنه ليس في الآية تقرير صريح بأن رؤيتهم ممتنعة البتة وكل ما فيها أن الشيطان يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم وإن انتفاء رؤيته لنا في وقت ما لا يستلزم انتفاءها مطلقا.
وبعضهم يستثني من ذلك الأنبياء ويساق في هذا المساق حديث رواه البخاري ومسلم في رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم عفريتا. ويساق حديث رواه الإمام أحمد في رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم إبليس. والحديثان أوردناهما في سياق تعليقنا على قصة سليمان في سورة ص. ويساق كذلك ما ورد في القرآن من خبر تسخير الجن لسليمان في مختلف الأعمال وحبسه بعضهم مما ورد شيء منه في السورة المذكورة كذلك.
وتعليقا على ذلك نقول مرة أخرى:
أولا: إن القرآن ذكر استماع الجن للقرآن من النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتين بأسلوب يدلّ دلالة قاطعة على أن النبي لم يرهم وإنما أعلم بذلك أو أمر بأن يقول إن الله أخبره بذلك على ما جاء في آيتي سورتي الأحقاف والجن اللتين أوردناهما في ذلك التعليق.
وثانيا: إنه لم يثبت ثبوتا يقينيا عيانيا أن بني آدم رأوا أو يرون الجنّ.
وثالثا: إزاء النص القرآني بالنسبة لسليمان وإزاء الحديث الصحيح بالنسبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم يمكن أن يقال إن الأنبياء يرونهم بالقوة التي امتازوا بها والتي كانوا يرون بها الملائكة أيضا.
وعلى كل حال فهذه المسألة تابعة لأصل وجود الجن الواجب الإيمان به لأنه ثابت بالنصّ القرآني مع ملاحظة ما نبهنا عليه من ذلك في سياق سورة الناس. والله تعالى أعلم.
372
تعليق على جملة إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
ويتبادر لنا أن تعبير إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ هو أسلوبي من باب ما جرى عليه النظم القرآني أحيانا من نسبة كل أمر إلى الله عزّ وجلّ من حيث الأصل مع قيام القرينة على أن ذلك نتيجة لمسلك وأخلاق الذين لا يؤمنون. وقد قصد به التنديد بالكافرين ونسبة ما هم فيه من كفر وإثم إلى وسوسة الشياطين وإغراءاتهم كما قصد به تطمين المؤمنين بأنه لا سبيل للشياطين عليهم فأولياء الكفار هم الشياطين في حين أن الله عزّ وجلّ هو وليّ المؤمنين. وفي آيات قصة آدم وإبليس في سورتي الحجر والإسراء تقرير صريح لذلك حيث جاء في الأولى هذه الآية: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وفي الثانية هذه الآية: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (٦٥)، وفي سورة النحل آيتان تؤيدان هذا القصد مع تأييدهما لأسلوبية التعبير وهما:
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وفي إحدى الآيات التالية توكيد آخر حيث نسب فعل اتخاذ الشياطين أولياء إلى الكفار. فنحن ننزّه الله عزّ وجلّ عن أن يجعل الشياطين أولياء لأناس دون كسب وسبب منهم. وهو إنما يضلّ الظالمين والفاسقين ويهدي إليه من أناب ويثبت الذين آمنوا بالقول الثابت كما جاء في آية سورة إبراهيم هذه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧) وآيات سورة البقرة هذه:
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
373
الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
وآيات سورة الرعد هذه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) والجملة التي نحن في صددها من هذا الباب. وفي سورة الزخرف آية فيها تفسير آخر مع تساوقها في المآل مع هذه الآيات وهي: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) أي إن الشيطان إنما يسلط على الذي يتعامى عن ذكر الله ويصرّ على طريق الكفر والإثم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
(١) فاحشة: معنى الكلمة كل ما عظم قبحه. وقد روي عن ابن عباس «١» أن الكلمة هنا كناية عن عادة الطواف في حالة العري.
(٢) القسط: هنا بمعنى العدل والحق. والكلمة من الأضداد حيث وردت كلمة القاسطين بمعنى المنحرفين عن الحق.
(٣) أقيموا وجوهكم: وجهوا وجوهكم.
(٤) مسجد: وردت هذه الكلمة في آيات عديدة في معنى السجود والصلاة مطلقا وفي معنى مكان السجود والصلاة. ويجوز أنها هنا في المعنى الأول كما يجوز أن تكون في المعنى الثاني بل يجوز أن تكون في المعنيين والله أعلم.
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وغيره.
374
الآيات معطوفة على سابقاتها، وضمائر الجمع الغائب وبخاصة في الآية الأولى عائدة إلى لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ المذكورين في آخر الآية السابقة بحيث يصح القول إن الآيات استمرار في السياق السابق.
وقد احتوت تنديدا بالكفار الذين كانوا يقولون عن الفاحشة حينما يفعلونها إنهم وجدوا آباءهم عليها وإن الله قد أمرهم بها افتراء على الله بدون علم وبينة.
وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعلان بأن الله لا يمكن أن يأمر بالفحشاء وإنما الذي أمر به هو العدل والاستقامة وتوجيه الوجوه في العبادة والسجود وأماكنهما إليه وحده بكل إخلاص، وبأن الله سيعيدهم كما بدأهم وبأن الناس فريقان فريق هداهم الله وفريق حقّت عليهم الضلالة. لأنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويتوهمون مع ذلك أنهم مهتدون.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون «١» لجملة كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ منها أن الله يعيد الناس يوم القيامة على حالتهم في الدنيا كافرهم كافر ومؤمنهم مؤمن ومنافقهم منافق. ومنها أن ذلك متصل بالمقدر الأزلي عليهم فمن قدر عليه أن يكون مؤمنا وسعيدا أو كافرا أو منافقا أو شقيا صار كذلك حينما يخرج إلى الدنيا مهما بدا في بعض الظروف غير ذلك. وقد أورد المفسرون في صدد هذين القولين بعض الأحاديث النبوية منها حديث رواه مسلم وابن ماجه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «يبعث كلّ عبد على ما مات عليه» «٢». وفي رواية أخرى:
«تبعث كلّ نفس على ما كانت عليه» «٣». وحديث رواه البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فليعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا باع أو ذراع فيسبق
(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(٢) النصوص منقولة عن ابن كثير.
(٣) انظر المصدر نفسه.
375
عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة» «١». ومنها أنها بمعنى كما خلقكم ولم تكونوا شيئا فأحياكم كذلك يميتكم ثم يحييكم. ومنها أنها بمعنى كما خلقكم عند خروجكم من الدنيا يعيدكم كذلك بعد الموت. أو كما خلقكم أولا يعيدكم ثانية. وأوردوا في صدد القول الثاني حديثا رواه ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيها الناس إنّكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا» وقرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» [الأنبياء: ١٠٤] «٢». وقد رجّح الطبري أحد الأقوال الثلاثة الأخيرة واستبعد القولين الأولين واستأنس بآية سورة الأنبياء التي جاءت في الحديث النبوي الأخير. وفي هذا الصواب والسداد فيما هو المتبادر.
تعليق على جملة وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً
وأسلوب الآيات يلهم أنها بسبيل الإشارة إلى مشهد من مشاهد الجدل قام بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار حول بعض التقاليد والطقوس التي كان يمارسها العرب اقتداء بآبائهم ويعتقدون أنها متصلة بأوامر الله وشريعته.
وقد قال المفسرون «٣» في سياق تفسير الآيات إن العرب كانوا يستحلون الطواف حول الكعبة في حالة العري وإن الآيات نزلت في تقبيح هذه العادة واعتبارها فاحشة منكرة. وروح الآيات تلهم صحة ذلك. ومما روي في معرض ذلك «٤» أن العرب كانوا حينما يريدون الطواف يخلعون ثيابهم العادية ويلبسون ثيابا أو مآزر خاصة حتى لا يطوفوا بالثياب التي قد يكونون اقترفوا بها ذنبا فإن لم
(١) النص منقول عن ابن كثير.
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والخازن.
(٤) انظر كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص ١٩٧ وما بعدها مع كتب التفسير السابقة الذكر.
376
يجدوا هذه الثياب أو المآزر التي كان يؤجرها سدنة الكعبة الذين كانوا يسمون الأحماس للطائفين أو إذا لم يقدروا على دفع أجرتها خلعوا ثيابهم وطافوا عراة الرجال والنساء على السواء وكلّ ما كان من أمر النساء أنهن كن يضعن شيئا ما يسترن به مكان القبل. وكانوا يظنون أن ذلك من تقاليد الحج المتصلة بأمر الله والتي وضعها إبراهيم عليه السلام. فردّت عليهم الآيات ردا قويا متسقا مع المبادئ السامية التي يدعو القرآن إليها.
وقد احتوى الردّ تلقينات جليلة سواء في تنديدها بالتمسك بتقاليد الآباء مهما كان فيها من الفحش والباطل وسوء المظهر والذوق أم في تنديدها بعزو كل تقليد وعادة قديمة إلى الله بدون علم وبينة وبسبيل تقديس هذه العادات والتقاليد والتمسك بها. مع هتاف قوي بأن الله لا يمكن أن يأمر بالفحشاء.
وكلمات فاحشة وفحشاء من ذوات المعاني العامة الشاملة حيث تشمل كل ما عظم قبحه من الرذائل الفردية والاجتماعية قولا وعملا مما نصّ عليه القرآن أو السنّة أو اعتبره جمهور المسلمين كذلك في كل ظرف ومكان بالاستئناس بالمبادئ العامة التي قررها القرآن والسنّة وقد جاءت هنا مطلقة للدلالة على هذا الشمول وبذلك يبرز مدى ما في الردّ القرآني من تلقين جليل.
تعليق على جملة فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ
وجملة فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ قد توهم أن الله تعالى يفعل ذلك بدون سبب من المهتدي والضالّ. غير أن بقية الآية تزيل هذا التوهم حيث احتوت تعليلا متسقا مع تقريرات القرآن المتكررة التي مرّت أمثلة منها وهو كونهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله. وفي آية سورة يونس هذه: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) توضيح يزيل بدوره ذلك التوهم.
وهذا أيضا ملموح في آيات سورة البقرة [٢٦- ٢٧] وسورة الرعد [٢٧] وسورة
377
إبراهيم [٢٦] التي أوردناها سابقا أيضا. ولقد فرّع المؤولون والمفسرون عن هذه الجملة معاني أو أحكاما أخرى. فذهب الطبري إلى أن فيها دليلا على أن العذاب لا يقع فقط على الضالّ المعاند لربّه بل يقع على الضالّ الذي يظن أنه على هدى.
وهناك من فرّق بين من تحرّى واجتهد وظنّ أنه على هدى وبين من انحرف دون تحرّ واجتهاد تقليدا لغيره. فذهب إلى أن الأول يكون معذورا وأن العذاب لا يكون إلّا على الثاني. وهناك من قال إنه لا يكون بعد الإسلام عذر لمن يضلّ عن مبادئ الإسلام ومما فيها من عقائد وأحكام صريحة وقطيعة بنصّ قرآني أو سنّة نبوية ثابتة لأنّ فهم هذا من متناول الجميع. وإن العذر إنما يكون للمجتهد فيما ليس فيه نصّ صريح وقاطع بل ويكون له أجران إذا أصاب وأجر إذا أخطأ. ويتبادر لنا أن القول الأخير هو الأوجه الأسدّ. وهناك من قال إن الآية تدلّ على أن مجرد الظنّ والحسبان لا يكفي في صحة الدين بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين وفي هذا وجاهة وسداد أيضا «١». والله تعالى أعلم.
تعليق على مَسْجِدٍ
وبمناسبة ورود هذه الكلمة لأول مرة في هذه الآيات إنها تأتي في القرآن في معنى السجود والصلاة إطلاقا كما تأتي في معنى أماكنهما إطلاقا. غير أنها صارت علما على أماكن عبادة المسلمين ولا تطلق على أماكن غيرهم.
ولقد أثرت أحاديث نبوية كثيرة فيها حثّ على بناء المساجد والتنويه بمنشئيها وحثّ على غشيانها وما يجب على المسلمين إزاءها من آداب، من ذلك حديث رواه الخمسة إلّا أبا داود عن عثمان قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من بنى مسجدا يبتغي وجه الله بنى الله له مثله في الجنّة وفي رواية بيتا في الجنة» «٢».
(١) انظر تفسير الآية في تفسير رشيد رضا والقاسمي.
(٢) هذا الحديث والأحاديث التالية له منقولة من الجزء الأول من كتاب التاج ص ٢٠٥ وما بعدها.
378
وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح» وحديث عنه رواه الخمسة إلّا أبا داود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه. الإمام العادل وشابّ نشأ في عبادة ربّه ورجل قلبه معلّق بالمساجد ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدّق فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه». وروى أبو داود ومسلم عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا». وحديث رواه مسلم والنسائي والترمذي عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تطهّر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحطّ خطيئة والأخرى ترفع درجة» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بشّر المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنّور التامّ يوم القيامة» وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قلت يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال:
المساجد»
. وحديث رواه الخمسة عن أبي قتادة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» وحديث رواه الأربعة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «البزاق في المسجد خطيئة وكفّارتها دفنها». ولمسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيّئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوئ أعمالها النّخاعة تكون في المسجد لا تدفن». روى الثلاثة عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى نخامة في القبلة فحكّها بيده ورئي منه كراهية لذلك وشدّته عليه وقال إنّ أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربّه فلا يبزقنّ في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدميه. ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه وردّ بعضه على بعض وقال أو يفعل هكذا». ويجب أن يلحظ القارئ أن أرضية مسجد رسول الله الذي كانت الآداب المذكورة في شأنه كانت ترابية يصحّ دفن البزاق فيها وأن هذا لا يقاس عليه بالنسبة لأرضية المساجد اليوم. وأن يلحظ أن ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم بردائه هو تنزيه لأرض المسجد وحينما لا يكون مع المرء
379
منديل يبزق فيه. وروى البخاري عن السائب بن يزيد: «أن عمر قال لرجلين من أهل الطائف رفعا صوتيهما في المسجد لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم». وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل لا ردّها الله عليك فإنّ المساجد لم تبن لهذا». وروى الثلاثة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصاله بكفّه لا يعقر مسلما». وروى الخمسة عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أكل البصل والثوم والكرّاث فلا يقربنّ مسجدنا فإنّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. وفي رواية من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته. وفي رواية من أكل من هذه البقلة فلا يقربنّ مساجدنا حتى يذهب ريحها». وروى الترمذي والنسائي: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والاشتراء فيه وأن يتحلّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة». وننبه على أن هناك روايات متواترة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستقبل الوفود في مسجده من مختلف الأنحاء والملل. وكان منهم من يخطب أو يلقي شعرا بين يديه فيه. ويتفاوض معهم ويكتب لهم رسائل وعهودا. وقد أسر أمير بني حنيفة فجعله في خيمة فيه. وجرح زعيم بني الأوس فضرب له فيه خيمة وأمر ممرضة من المسلمين بمداواته. وجاء وفد من نصارى نجران فتناظر معه في المسجد وأقام في خيمة نصبها له فيه وكان يعقد فيه مجالس قضائه ومشاوراته ووعظه. وكان أصحابه يأتون إلى المسجد في غير أوقات الصلاة فيتحلقون عليه فيه أو على بعضهم، بل كان منهم من يضطجع أو ينام فيه. وكان فيه صفّة يقيم عليها فقراء وغرباء المسلمين إقامة دائمة «١». وكان في ناحية من فنائه صف بيوت
(١) في سيرة ابن هشام وفي طبقات ابن سعد وهما من أقدم أو أقدم مما وصل إلينا من كتب سيرة رسول الله روايات كثيرة في كل ذلك يبدو عليها طابع الصحة. وروى الثلاثة عن أبي هريرة قال: «بعث رسول الله خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد». التاج ج ١ ص ٢١٤. وروى الخمسة عن عباد بن تميم عن عمه «أنه رأى رسول الله مستلقيا في المسجد واضعا رجله على الأخرى» ص ٢١٤. وروى البخاري والترمذي: «أن ابن عمر وهو شاب أعزب لا أهل له كان ينام في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم ص ٢١٤. وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب رواها غير الخمسة ووردت في مجمع الزوائد.
380
نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم وغرفاته التي ذكرت في القرآن: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: ٤] ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: ٥٣] مما فيه صور متنوعة لما كان يجري في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بحيث يجب أن يحمل هذا الحديث على قصد تنزيه المساجد عن اللهو واللغو والابتذال وما لا يتناسب مع حرمتها من مشاغل الناس الخاصة والشخصية التي لا نفع لها لجماعة المسلمين وبخاصة في أوقات الصلاة والله تعالى أعلم.
وروى أبو داود والترمذي عن عائشة قالت: «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببناء المساجد في الدور وأن تنظّف وتطيّب». وروى الشيخان عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي الصبح بغلس فينصرف نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس».
ويفيد الحديث أن نساء المؤمنين كن يغشين المسجد كالرجال في الليل والنهار.
وروى الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» وروى مسلم وأبو داود والترمذي عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد. فقال ابن له يقال له واقد إذن يتّخذنه دغلا. قال فضرب في صدره وقال أقول قال رسول الله وتقول لا». وروى الشيخان عنه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهنّ». وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أمرت بتشييد المساجد» والمتبادر أن المقصود من ذلك عدم رفع بنائها أو تطويلها أو تجصيصها. وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قوله: «لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنصارى». وروى أبو داود والنسائي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد». والأحاديث تحمل على الكراهية وليس على المنع والتحريم. وروى الشيخان عن عائشة: «أن أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة
381
يقال لها مارية فذكرت ما رأت فيها من الصّور فقال رسول الله أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله». وروى الشيخان عن عائشة قالت: «لما نزل برسول الله- تعني لما مرض المرض الذي مات فيه- طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذّر ما صنعوا». وننبه على أن هذا لا ينطبق على مكان قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه دفن في بيته وكان في ناحية من أنحاء مسجده الذي كان موجودا. وروى مسلم والنسائي عن جندب قال: «سمعت رسول الله قبل أن يموت بخمس ألا وإنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. إنّي أنهاكم عن ذلك». وروى البخاري وأبو داود في صفة مسجد رسول الله حديثا عن ابن عمر جاء فيه: «أن المسجد كان على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم مبنيا باللّبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله باللّبن والجريد وأعاد عمده من خشب النخل. ثم غيّره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصّة «١» وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالسّاج». وروى البخاري والترمذي عن جابر قال: «كان النبي يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر حنّ الجذع حتى أتاه النبيّ فالتزمه فسكن». وروى الثلاثة «أن امرأة قالت يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه فإن لي غلاما نجارا قال إن شئت فعملت المنبر».
وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى». وروى الشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام. وزاد ابن ماجه وصلاة في المسجد
(١) الراجح أن الحجارة المنقوشة تعني المحسنة بالحجم والوجه على نحو ما يفعل البناءون في نقش الحجارة حينما يبنون بها، أما القصة فقد ذكر الشراح أن المقصود منها التجصيص. [.....]
382
الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه». وروى أبو داود وابن ماجه عن ميمونة مولاة النبي صلّى الله عليه وسلّم أنها قالت: «يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس فقال ائتوه فصلّوا فيه. فإن لم تأتوه وتصلّوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله». وروى النسائي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله عزّ وجلّ ثلاثا حكما يصادف حكمه- أي يوافق حكم الله- فأوتيه وملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه. وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه ألّا يأتيه أحد لا ينهزه إلّا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمّه».
والمقصود من كلمة بيت المقدس الواردة في الحديثين الأخيرين هو مسجد بيت المقدس كما هو المتبادر وهو المقصود من كلمة (المسجد الأقصى) الواردة في حديث أبي هريرة الذي رواه الخمسة. وقد وردت هذه الكلمة في آية سورة الإسراء الأولى أيضا وهي: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ والمقصود من كلمة الْأَقْصَى هو البعيد بعدا شاسعا. ولقد كان هذا المسجد حين صدور الأحاديث وحين نزول الآية خرابا ليس في محله إلّا الأنقاض بحيث تكون التسمية القرآنية والنبوية على اعتبار ما كان وبحيث يحمل حديث أبي هريرة ثم حديث ميمونة على أن الله عزّ وجلّ كشف لنبيه أن المسلمين سيقيمون محل هذه الأنقاض مسجدا يسمونه المسجد الأقصى كما سمّاه القرآن ويكون مما تشدّ الرحال إليه مع المسجد الحرام ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والله تعالى أعلم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)
383
(١) زينتكم: ما تبدون فيه متجملين محتشمين.
(٢) زينة الله: بمعنى ما يسّره الله في الدنيا من أسباب التجمّل والزينة.
(٣) الفواحش: كل ما عظم من الآثام.
(٤) ما ظهر منها وما بطن: ما كان علنا أو سرا.
(٥) الإثم: الذنب أو المعصية إطلاقا.
(٦) البغي: الظلم والعدوان.
(٧) ما لم ينزل به سلطانا: ما لا يستند إلى برهان وتأييد من الله.
في الآيات هتاف ببني آدم بوجوب الاحتشام عند كل صلاة وعبادة وأماكنهما، وبأن يكون أكلهم وشربهم في حدود الاعتدال وفي غير إسراف لأن الله لا يحب المسرفين. وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يسأل في معرض الاستنكار عمن حرم ما يسّر الله في الدنيا من أسباب التجمل والزينة وطيبات الرزق. وبأن يجيب بأن ذلك مباح للذين آمنوا في الحياة الدنيا وبأن مثيله خالص لهم في الآخرة ثم بأن يقرر بأن الله إنما حرم الأفعال الفاحشة بالسرّ والعلن والقلب والجوارح والأعمال الآثمة المحرمة والعدوان على الناس بدون حق والشرك بالله دون ما سند من الله والافتراء على الله بدون علم وبينة.
تعليق على تلقين الآيات الثلاث يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ وما بعدها
روى المفسرون عن ابن عباس وغيره أن الجملة الأولى من الآية الأولى هي في صدد منع الطواف في حالة العري. وإيجاب التستر والاحتشام عند مباشرته.
وأن جملة قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ هي بسبيل استنكار هذه العادة ونسبتها إلى الله تعالى. وأوردوا في ذلك حديثا رواه مسلم عن ابن عباس جاء فيه:
384
«كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه وما بدا منه فلا أحلّه
فنزلت خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ»
«١» ونحن نتوقف في كون ذلك سببا لنزول الآية. وكل ما يمكن أن يكون هو أن ابن عباس أراد تفسيرها وبيان مداها.
لأن مقتضى الحديث أن تكون نزلت لحدتها في حين أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها انسجاما وثيقا. ويتبادر لنا أن الآيات تضمنت تعقيبا على الآيات السابقة وهتافا للناس على النحو الذي شرحناه آنفا. والله أعلم.
ومقتضى حديث ابن عباس أن المرأة فقط هي التي كانت تطوف عريانة غير أن هناك روايات أوردها المفسرون في سياق تفسير الآية [٣] من سورة التوبة تفيد أن ذلك كان عادة عامة يمارسها الرجال والنساء معا. وهناك حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة قال: «بعثني أبو بكر في الحجّة التي أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليها قبل حجّة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس بمنى أن لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ثم أردف النبي صلّى الله عليه وسلّم بعلي يؤذن ببراءة فأذن معنا عليّ في أهل منى يوم النّحر ببراءة» «٢». وهناك أحاديث أخرى في هذا الصدد سوف نوردها ونعلّق عليها في سياق تفسير سورة التوبة. ومما رواه المفسرون «٣» في سياق تفسير آيات الأعراف التي نحن في صددها في صدد عادة الطواف بالعري أن العرب كانوا قبل الإسلام يرون من واجبهم طرح ثيابهم إذا طافوا بها لئلا يقترفوا ذنوبا وهي عليهم بعد أن تطهّرت. فكانوا يستأجرون مآزر من سدنة الكعبة تسمى المآزر الأحمسية نسبة إلى كلمة الحمس التي كانت السدنة يتسمون بها ومن لا يجد أو لم يستطع طاف في حالة العري رجالا كانوا أم نساء ضنا بثيابهم أن يرموها ويحرموا
(١) التاج ج ٤ ص ١٠٣.
(٢) المصدر نفسه ص ١١٤.
(٣) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
الجزء الثاني من التفسير الحديث ٢٥
385
منها. وقد يصحّ أن يزاد على هذا أنهم ربما كانوا يتحرّجون من الطواف وعليهم ثيابهم التي قد يكونون اقترفوا ذنوبا وهي عليهم فكانوا يخلعونها قبل الطواف ويضعون المآزر أو يطوفون في حالة العري.
أحاديث في ستر العورة
ومدى جملة خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أوسع من كونها خاصة بالطواف في حالة العري كما هو ملموح من نصّها. بحيث يصحّ القول إنها تتضمن أمرا ربانيا بالاحتشام عند كل صلاة الله عزّ وجلّ وعند دخول كل مسجد من مساجد الله للعبادة. وهو ما يعبّر عنه في الفقه الإسلامي بتعبير (ستر العورة) ويعتبر شرطا من شروط الصلاة.
ولقد أثرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عديدة في مدى هذا الأمر. منها حديث رواه الخمسة إلّا الترمذي عن أبي هريرة قال: «قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد فقال أوكلّكم يجد ثوبين» «١». وحديث رواه الخمسة إلّا الترمذي أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يصلّ أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء» «٢». والحديث الأول يجيز للمسلم الصلاة بثوب واحد والثاني يجعل الإجازة رهنا بأن يكون الثوب ساترا. وروى الشيخان عن جابر قال:
«رأيت رسول الله يصلّي في ثوب واحد متوشّحا به» «٣». وروى البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الفخذ عورة» «٤» وحديث رواه أبو داود والحاكم والبزار عن علي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميّت» «٥». وحديث رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي عن عمرو بن
(١) التاج ج ١ ص ١٣٨.
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
386
شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا زوّج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرّة وفوق الركبة» »
. وروى أبو داود حديثا جاء فيه:
«سئلت أمّ سلمة ماذا تصلّي فيه المرأة من الثياب، فقالت: تصلّي في الخمار والدرع السابغ الذي يغيّب ظهور قدميها. وقالت سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أتصلّي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار، قال إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها» «٢». وروى أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلّا بخمار» «٣». وروى الخمسة إلّا أبا داود حديثا جاء فيه: «سئل أن أكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في نعليه؟ قال: نعم» «٤». وأحاديث ابن عباس وعلي وعمرو بن شعيب هي في صدد حدود ما يحسب عورة من الرجل يجب عليه ستره ولا يجوز النظر إليه وبخاصة في الصلاة كما هو المتبادر. أما المرأة فالمتبادر من حديثي أم سلمة وعائشة أنها يجب ستر جميع جسدها بما في ذلك رأسها بخاصة للصلاة. مع التنبيه على أنه من المتفق عليه عند الفقهاء أن وجه المرأة ويديها ليست عورة فيجوز كشفها في الصلاة وفي غير الصلاة. وهناك حديث يرويه أصحاب السنن وأحمد عن ابن عمر في صورة لباس المرأة في الإحرام نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه المرأة عن القفازين والنقاب مما فيه تأييد لذلك أو سند له، ونصّه: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى النساء في إحرامهن عن القفّازين والنقاب وما مسّ الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبّت من ألوان الثياب معصفرا أو خزّا أو حليّا أو سراويل أو قميصا أو خفّا» «٥» والمؤولون يرون سندا لذلك في جملة في آية سورة النور وهي:
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها [٣١] أي ما كان إظهاره سائغا لا حرج فيه وهو الوجه واليدان. ولقد روى الطبري عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا
(١) التاج ج ١ ص ١٣٨.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) التاج ج ٢ ص ١٠٦.
387
حركت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلّا وجهها وإلّا ما دون هذا وقبض على ذراع نفسه فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى». وروى حديثا آخر جاء فيه:
«إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أباح للمرأة أن تبدي من ذراعها إلى قدر النصف». والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الخمسة ولكنهما متسقان مع ما ورد فيها ومع ما ذكره المؤولون في تأويل جملة آية سورة النور. وسنزيد هذا الأمر بخاصة شرحا في سياق تفسير هذه الآية.
وهكذا تكون الآيات الثلاث بإيجابها الاحتشام بين يديّ الله وإباحتها التجمّل والزينة وطيبات الرزق وتحريمها ما هو جماع كل شرّ في الدين والدنيا من أقوى الآيات المحكمة وأروعها التي تظلّ محتفظة بروعتها وقوتها ونفوذها وفعاليتها في كل ظرف ومكان مهما طرأ على البشرية من تطور لاتساقها التام المستمر مع المنطق والعقل والمصلحة الإنسانية. وفي هذا من الإعجاز القرآني ما فيه.
هذا، وفي الآية [٣٢] التفات لطيف نحو المسلمين بخاصة بسبيل تطمينهم وحثّهم على الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا وطيبات رزقها. فلهم أن يستمتعوا بذلك مع غيرهم في الدنيا دون أن ينقص هذا من نصيبهم من مثله في الآخرة الذي يكون لهم فيها خالصا. وفي هذا ما فيه من التلقين الجليل لا سيما إذا لوحظ أن الاستمتاع بزينة الحياة وطيبات الرزق يستلزم أن يسعى المسلمون في مناكب الأرض كما أمرهم الله في آية سورة الملك هذه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) وأن يستعدوا بكل وسائل العلم والفن والعمل للنجاح في سعيهم.
وننبه أولا: إلى قيد الطَّيِّباتِ حيث ينطوي في هذا منع تناول شيء من مأكل ومشرب وملبس لا يتّصف بصفة الطيب الحلال أو يكون فيه شائبة من شوائب الخبث والحرام.
ولقد ورد في القرآن آيات عديدة أخرى فيها توضيح أو توكيد لذلك أو نهي عن تحريم الطيبات كما ترى في الآيات التالية:
388
١- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: ١٧٢].
٢- يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: ٤].
٣- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة: ٨٧- ٨٨].
٤- قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: ١٤٥].
٥- يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: ٥١].
وفي سورة الأعراف آية مهمة في هذا الباب حيث تجعل حلّ الطيبات من أصول الرسالة المحمدية وهي: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ... [١٥٧].
ويلفت النظر إلى آية الأنعام [١٤٥] حيث تضمنت تعليلا للتحريم وهو كون الثلاثة الأولى نجسة أو خبيثة وهو ما عبرّت عنه الآية بكلمة رِجْسٌ وكون الرابعة شركا بالله وهو ما عبرت عنه بكلمة فسق أهلّ لغير الله به وفي هذا تفسير لمعنى الطيب الحلال وكلمة الخبائث العامة التي جاءت في آية الأعراف [١٥٧].
389
وثانيا: إلى النهي عن الإسراف. وبيان كون الله عزّ وجلّ لا يحبّ المسرفين في سياق الأمر بالاستمتاع بزينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق والأكل والشرب حيث انطوى في ذلك حدّ فيه كل الحق والحكمة لمنع المسلم من تجاوزه والاستغراق في شهوات النفس والإسراف في الأكل والشرب والزينة ولو كان من الطيب الحلال. وينطوي في هذا فيما ينطوي فيه من الحكم الجليلة منع التفاوت العظيم في المعيشة بين مختلف الفئات مهما اختلفوا في حيازة الثروة والأسباب الميسّرة للاستمتاع بطيبات الحياة وزينتها. والحيلولة بذلك دون فوران أحقاد الطبقات المعسرة على الطبقات الموسرة. وتوجيه ما يمكن أن يتوفر من جرّاء الاعتدال وعدم الإسراف إلى الفئات المحرومة والمعسرة والمشاريع التي فيها برّ وخير ومنفعة للمسلمين. وحياطة المسلمين من صفة التبذير والسّفه. ولقد نعتت إحدى آيات سورة الإسراء المبذرين بأنهم إخوان الشياطين في سياق النهي عن الإسراف والأمر بالاعتدال.
وثالثا: إلى صيغة الحصر للمحرّمات في الآية الثالثة حيث يفيد أن الله تعالى إنما حرّم ما فيه انحراف عن وحدة الله وما فيه بغي وظلم وعدوان على الغير. وما فيه معصية لله تعالى بأي شكل ومدى وحالة. وسواء أكان ذلك من الفواحش الكبيرة أم من الذنوب العادية وسواء أكان ذلك في السرّ أم في العلن وظاهرا لا يمكن المماراة فيه أم باطنا يمكن التأوّل فيه ولكن مقترفه يعرف أنه معصية. وإن ما عدا ذلك هو مباح للمسلمين في نطاق التوجيه الذي تضمنته الآيتان الأولى والثانية من التزام الطيب الحلال وعدم الإسراف.
وفي كل ذلك ما فيه من شمول وتأديب وروعة وجلال ثم من مظهر حكمة ترشح الشريعة الإسلامية للشمول والخلود الذي انطوى في آية الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [٢٨] لأن فيه إجماع ما فيه الخير والشر والصلاح والفساد في الدين والدنيا الذي يتسّق في كل ظرف ومكان مع المنطق والعقل والمصلحة الإنسانية.
390
وللمفسرين تأويلات في مدى ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ منها أن الظاهر هو الزنا العلني والباطن التخادن مع زوجات الآخرين والزنا بهنّ سرا. ومنها أن الظاهر شرب الخمر والباطن الزنا. وإطلاق العبارة يجعلها واسعة المدى بحيث تشمل كل فاحشة كبيرة اقترفها المرء سرا لا يراه أحد أو في حالة يأمن فيها العقاب أو علنا بدون مبالاة.
ولقد استدلّ الفقهاء بالآية الأولى على وجوب التستر والاحتشام والتجمّل عند الصلاة والمساجد بنوع خاص وفي هذا وجاهة وسداد.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٤ الى ٤١]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨)
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
. (١) افترى: كذّب واختلق.
391
(٢) ينالهم نصيبهم من الكتاب: يستوفون ما كتب عليهم أو يستوفون حظهم في الدنيا من عمل أو رزق أو عذاب أو خير أو شر أو سعادة أو شقاء على اختلاف التأويلات المروية. وكلها وارد.
(٣) رسلنا: هنا كناية عن الملائكة.
(٤) ضلّوا عنا: بمعنى غابوا عنا أو أهملونا.
(٥) خلت: بمعنى مضت.
(٦) أمة: هنا بمعنى جيل من الناس.
(٧) لعنت أختها: دعت على من كان سبب ضلالها ودخولها في النار ممن قبلها أو من جيلها باللعنة. ومعنى اللعنة الطرد والإبعاد وجاءت في القرآن بمعنى العذاب الرباني والسخط الرباني والغضب الرباني. وفي مقام الدعاء بذلك على المستحقين. وفي مقام الدعوة إلى الدعاء بذلك على المستحقين أيضا.
(٨) اداركوا: تداركوا أي أدرك بعضهم بعضا أو لحق بعضهم بعضا حتى تجمعوا جميعا.
(٩) الجمل: الجمهور على أنه الحيوان المعروف. وقرئت بتسكين الميم بمعنى حبل السفينة الغليظ. والتناسب بين هذا وبين سمّ الخياط أيضا قائم.
(١٠) سمّ الخياط: هو ثقب الإبرة.
(١١) مهاد: فراش.
(١٢) غواش: جمع غاشية بمعنى الغطاء.
الآيات استمرار في السياق وتعقيب على ما سبق كما هو المتبادر. وقد جاءت على أثر التنديد بشرك المشركين وعاداتهم الفاحشة ونسبتها إلى الله كذبا وافتراء لتنبّه الناس إلى أن الله قد جعل لكل أمة وجيل أجلا وجعل لكل أمة فرصة في هذا الأجل، حيث يرسل إليهم رسلا منهم يتلون عليهم آياته ويبينون لهم الهدى من الضلال. فالذين يغتنمون الفرصة فيستجيبون إلى دعوة الله ويتقون ويكون رائدهم الصلاح والإصلاح هم الناجون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أما الذين يضيعون الفرصة فيكذبون بآيات الله ويستكبرون عنها فيستحقون عذاب الله
392
وناره ويخلدون فيهما. وقد أخذت الآيات بعد ذلك تندّد بهم وتنذرهم بالمصير الرهيب الذي سوف يلقونه وبالندم الشديد الذي سوف يستشعرونه. فليس من أحد أشدّ ظلما ممن يفتري على الله ويكذّب بآياته. ولسوف يأتيهم ملائكة الله ليتوفوهم بعد أن يستوفوا ما كتب لهم في الحياة فيسألونهم سؤال المندد المتحدي أين الذين كانوا يدعونهم من دون الله ويشركونهم مع الله ليأتوا وينصروهم فلا يسعهم إلّا القول إنهم ضلّوا عنا ثم إلّا الاعتراف بما كانوا عليه من سخف وكفر، وحينئذ يقال لهم ادخلوا النار أمة بعد أمة. فتأخذ كل أمة تلعن أختها التي سبقتها وحينما يتمّ تلاحقهم يلقي الآخرون اللوم على الأولين ويطلبون من الله أن يضاعف لهم العذاب لأنهم هم الذين أضلّوهم ويردّ هؤلاء عليهم مكذبين شامتين ويقول الله تعالى لهم جميعا ذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون وإنه لمضاعف لكم جميعا. وقد انتهت الآيات بتيئيس المكذبين المستكبرين من دخول الجنة ونيل رضاء الله عزّ وجلّ وولوج ساحاته العلوية بأسلوب تشبيهي قوي ولاذع وهو إناطة ذلك بدخول الجمل في ثقب الإبرة ثم بوصف ما يكون لهم من فراش وغطاء ناريين في جهنم جزاء وفاقا على ما كان منهم من كفر وإجرام وظلم.
وقد جاءت الآيات عامة الخطاب لتكون عامة الشمول والتقرير والتنديد والإنذار والتبشير للمخاطبين بها مباشرة وللناس عامة. وأسلوبها قوي نافذ يخاطب العقل والقلب معا. وقد استهدفت فيما استهدفته تثبيت الذين آمنوا واتقوا وإثارة الرعب في المكذّبين المستكبرين وحثهم على عدم تضييع الفرصة قبل فوات الوقت والندم حيث لا ينفع.
وفحوى الآيات مؤكد لما نبهنا إليه مرارا من تقرير القرآن لقابلية الاختيار والكسب التي أودعها الله في الناس واستحقاق كل امرئ لمصيره وفق اختياره وكسبه وموقفه من دعوة الله وأوامره وحدوده.
ويلفت النظر الآية [٣٧] وقوتها الإنذارية والتقريرية وبخاصة ما نبهت إليه من افتراء الكذب على الله. ولعلها تحمل فيما تحمله إنذارا وتسفيها لكل من يجرؤ
393
على نسبة قول أو عمل أو عقيدة أو تحليل أو تحريم إلى الله بغير علم ولا برهان تنطعا أو اندفاعا وراء الهوى وتكون بذلك مستمرة التلقين والمدى.
والمقصود بالرسل في جملة حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ الملائكة الذين يتوفون الناس حينما ينتهي أجلهم وقد ذكر الملائكة بصراحة في مثل هذا القصد في آية سورة النحل هذه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) وآية سورة النساء هذه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧).
والملائكة وما يقومون به من خدمات لله مما يجب الإيمان به لأنه مما قرّره القرآن. ومن الواجب الوقوف عند ما جاء في القرآن في ذلك بدون توسّع ولا تزيّد ولا سيما ما لا يستند إلى نصّ نبوي ثابت لأن ذلك مما لا طائل منه من حيث إنه من الأمور المغيبة التي لا يصح الكلام فيها إلّا بنصّ قرآني أو نبوي ثابت. مع ملاحظة ما كان من عقائد العرب فيهم وصلة ذلك بكثير مما ورد في القرآن عنهم على ما شرحناه في سياق سورة المدثر.
ولقد روى الطبري روايات عديدة عن أهل التأويل في مدى جملة لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ منها عن ابن عباس أنها لا تفتح لأرواحهم ومنها عنه أيضا أنها لا تفتح لخير يعملونه. وعن مجاهد أنها بمعنى لا يصعد لهم كلام ولا عمل إلى السماء. وعن السدي أن الكافر إذا أخذت روحه ضربتها ملائكة الأرض حتى ترتفع إلى السماء فإذا بلغت السماء الدنيا ضربتها ملائكة السماء فهبطت إلى أسفل سافلين. وصوّب الطبري تأويل أن السماء لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم، وروى حديثا عن البراء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر قبض روح الفاجر وأنه يصعد بها إلى السماء فلا يمر الصاعدون بها على ملأ من الملائكة إلّا قالوا ما هذا الروح الخبيث فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا حتى ينتهي إلى السماء فيستفتحون له فلا يفتح له ثم قرأ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ
394
الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ.
وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ومهما يكن من أمر فالمتبادر من روح الجملة والتي بعدها أنهما أسلوبيتان بسبيل بيان شدّة سخط الله تعالى على الكافرين المستكبرين عن آياته واستحالة حصولهم على رضائه والدخول في جنته. والله تعالى أعلم.
التلقين الذي انطوى في حكاية تلاوم الأجيال المتعاقبة في جهنم
والمتبادر أن المقصود من أولاهم وأخراهم الذين حكت الآيات تلاومهم هم الآباء والأبناء أو الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة أو الفئات التابعة والفئات المتبوعة. وأن كلام الآخرين هو من قبيل الاعتذار بأنهم إنما ساروا على خطوات الأولين وضلوا بضلالهم، وردّت الآيات عليهم بأن العذاب المضاعف لهم جميعا لأن كل امرئ رهن بما كسب ولا تفيده مثل هذه الحجة. ومع واجب الإيمان بما أخبرت به الآيات من الحوار الذي سوف يكون بين فئات الكفار في النار فإن في الصيغة التي ورد فيها ذلك تلقينا مستمر المدى في تقبيح اتباع الأولين أو الآباء أو الزعماء في كل ما ساروا عليه ولو كان شرّا أو ضلالا وإثما وفي وجوب تروي كل امرئ وكل جيل في أمر نفسه وتحري طريق الحق والهدى والسير فيه وسقوط حجة المحتجين في تقليد غيرهم والسير على خطواتهم، وقد تكرّر مثل هذا التلقين في آيات كثيرة مما مرّ أمثال له في السور السابقة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥)
395
(١) غلّ: حقد.
(٢) أذّن مؤذن: نادى مناد.
(٣) يصدّون: يمنعون.
(٤) يبغونها عوجا: يريدون أن تكون معوجة وغير مستقيمة والجملة كناية عن إرادتهم تعطيل دعوة الله.
الآيات استمرار للسياق كذلك كما هو المتبادر وهي بسبيل بيان المصير السعيد الذي يصير إليه المؤمنون الصالحون مقابلة لما سبق بيانه من مصير الكافرين والمستكبرين، وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
وأسلوب الآيات قوي مشوّق من شأنه بثّ الطمأنينة في نفوس المؤمنين الصالحين كما هو واضح ومع واجب الإيمان بما أخبر به القرآن من الحواريين أصحاب الجنة وأصحاب النار فإنه كما هو المتبادر متصل بهذا الهدف من جهة وفيه إنذار بالمناسبة للكفار وبخاصة لزعمائهم الظالمين الباغين الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجا من جهة أخرى.
وما حكي في الآيات عن لسان المؤمنين في جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ مفسّر كما هو ظاهر في جملة لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ حيث تبين أن ذلك هو ما جاء به رسل الله من بيانات وشرائع وتلقينات.
وهذا متسق مع تقريرات القرآن العامة في حكمة إرسال الرسل لبيان ما لا يمكن معرفته بالعقل وحده من رسوم وحدود وحكم ربانية متنوعة. وقد جاءت الآيات مطلقة لتكون عامة الشمول والتقرير والبشرى والإنذار والتلقين كما هو المتبادر.
396
ولقد أورد مؤلف التاج في كتاب التفسير في سياق الآية [٤٣] حديثا رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينادي مناد إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا وإنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإنّ لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبدا» فذلك قول الله عزّ وجلّ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «١» وفي الحديث من البشرى والتطمين للمؤمنين ما يتساوق من ذلك في الآيات كما هو واضح.
ولقد أورد ابن كثير في سياق جملة وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «واعلموا أنّ أحدكم لن يدخله عمله الجنة. قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل». ولقد روى هذا الحديث الشيخان والنسائي عن أبي هريرة بهذه الصيغة:
«قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قاربوا وسدّدوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل، وفي رواية لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا أنا إلّا برحمة الله» «٢».
وإزاء الصراحة القطعية في الآية ليس من بد من حمل الحديث على قصد تنبيه المؤمنين إلى عدم إنهاك أنفسهم بما لا يطيقونه من الأعمال الصالحة ويكفي منهم ما يطيقونه. وهو ما ينطوي في أول الحديث حين التمعّن فيه. وهناك حديث صحيح آخر قد يؤيد هذا التوجيه رواه البخاري عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه. فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة» «٣» والله تعالى أعلم.
(١) التاج ج ٤ ص ١٠٣- ١٠٤. [.....]
(٢) التاج ج ٥ ص ١٩٥- ١٩٦.
(٣) التاج ج ١ ص ٤١- ٤٢.
397
تعليق على مدى جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
وهذه الجملة وإن كانت في مقامها هي بسبيل تقرير كون الله تعالى لا يكلف الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلّا ما في وسعهم من ذلك فإنها في إطلاقها تتضمن مبدأ من أمهات المبادئ القرآنية الذي تكرر تقريره بأساليب متنوعة وهو أن الله سبحانه وتعالى لا يكلّف الناس إلّا وسعهم. وهذا المعنى يتناول حدّين أو معنيين:
الأول: أن ما يكلفه الله الناس هو ما يعرف أنه في نطاق قدرتهم ووسعهم أن يفعلوه.
والثاني: أن الله لا يطلب من الناس أن يتجشموا ما لا طاقة لهم به في سبيل القيام بما يكلفون به.
والوسع يتناول فيما يتناول عدم التعارض مع القابليات والإمكانيات وعدم التعرّض للأخطار والأضرار. فالمسلمون حسب هذا المبدأ ليسوا مكلفين بما ليس في إمكانهم وقابلياتهم الجسدية والنفسية والمالية ولا بما يكون فيه تعريض حياتهم للخطر والتهلكة والحرمان سواء أكان ذلك بسبيل الواجبات والتكاليف التعبدية أم غير التعبدية. وإنما يطلب ذلك منهم في نطاق الطاقة وحدود الإمكان والمعقول.
وهذا المبدأ يتسق مع طبيعة الأشياء ووقائع الأمور. ولعله من أعظم المبادئ التي ترشح المبادئ القرآنية للخلود والتطبيق في كل زمن ومكان. وقد تكرر تقريره كما قلنا بأساليب متنوعة مما ينطوي فيه حكمة التنزيل ومن الأمثلة على ذلك إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «١» [البقرة: ١٧٣]
(١) مثل هذه الآية أو قريبا منها جاء في سورة الأنعام والمائدة والنحل.
398
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: ٢٨٦]. وما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: ٦] ووَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها...
[الأنعام: ١٥٢] وفَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ... [التغابن: ١٦] ولِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها... [الطلاق: ٧]. ولقد روي في سياق آية البقرة [٢٨٦] التي أوردناها آنفا حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: «لما نزلت لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[البقرة: ٢٨٤] اشتدّ ذلك على أصحاب النبي فأتوه وبركوا على الركب وقالوا أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير قالها مرتين. فلما اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: ٢٨٥] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة: ٢٨٦] قال نعم رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [البقرة: ٢٨٦] قال: نعم رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ [البقرة: ٢٨٦] قال: نعم، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: ٢٨٦]
399
قال: نعم» «١». حيث يفيد الحديث أنّ الله تعالى علّم المؤمنين هذا الدعاء وآذانهم أنه قد استجاب دعاءهم. فقوي المبدأ القرآني قوّة وإحكاما.
ولقد رويت أحاديث نبوية صحيحة متساوقة في تلقينها مع التلقين القرآني الذي تضمنته الآيات التي أوردناها وأمثالها. من ذلك حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» «٢».
وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به» «٣». وحديث رواه الشيخان والترمذي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» «٤». وحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت: «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها وعندها امرأة فقال من هذه قالت فلانة تذكر من صلاتها قال مه. عليكم بما تطيقون فو الله لا يملّ الله حتى تملّوا وكان أحبّ الدين إلى الله ما داوم عليه صاحبه» «٥». وحديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو قال: «قال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار قلت إني أفعل ذلك. قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك وإنّ لنفسك حقّ ولأهلك حقّ فصم وأفطر وقم ونم» «٦». وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» «٧». وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة قالت: «إن
(١) التاج ج ٤ ص ٦٢- ٦٤.
(٢) التاج ج ١ ص ٢٤.
(٣) المصدر نفسه ص ٢٨ و ٣٧ و ٤٢.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) المصدر نفسه، نفهت: أي سئمت وكلت. اسم إنّ ضمير الشأن وجملة لنفسك حق خبرها.
(٧) المصدر نفسه.
400
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل أيّ العمل أحبّ إلى الله؟ قال: أدومه وإن قلّ» «١». وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال: «كنّا نبايع رسول الله على السمع والطاعة ويلقّننا فيما استطعتم» «٢». وحديث رواه النسائي والترمذي عن أميمة بنت رقيقة قالت:
«كنّا نبايع رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف فقال فيما استطعتنّ وأطقتنّ فقلنا الله ورسوله أرحم بنا» «٣». وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ الله قد وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «٤».
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
. (١) حجاب: ستار أو حاجز أو سور.
(٢) الأعراف: جمع عرف. وهو كل مرتفع ومنه عرف الديك وعرف الفرس لارتفاع ريش رأس الديك وشعر الفرس وهو هنا بمعنى شرفة السور العالية.
(٣) سيماهم: علاماتهم المميزة.
ذكر المفسرون قولين في ضمير وَبَيْنَهُما. أحدهما أنه عائد إلى أهل الجنة وأهل النار. وثانيهما أنه عائد إلى الجنة والنار. وكلا القولين وارد لأن الجنة والنار وأهلهما ذكروا في الآيات السابقة. وذكر المفسرون أن الحجاب هو سور مضروب
(١) المصدر السابق نفسه.
(٢) التاج ج ٣ ص ٣٨ و ٣٩.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) التاج ج ١ ص ٢٩. [.....]
الجزء الثاني من التفسير الحديث ٢٦
401
بين الجنة والنار وأهلهما والأعراف هي شرفاته. وعلى كل حال فالآيات معطوفة على ما سبقها واستمرار في السياق كما هو المتبادر.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في ماهية أصحاب الأعراف وفي الذين تحكي الآيتان [٤٦ و ٤٧] مواقفهم وأقوالهم. وقد رويت أحاديث نبوية في صدد ذلك أيضا. منها حديث رواه الطبري يذكر «أن رجلا من بني النضير أخبر عن رجل من بني هلال أن أباه أخبره أنه سأل رسول الله عن أصحاب الأعراف فقال هم قوم غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم فقتلوا فأعتقهم الله من النار بقتلهم في سبيله وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم فهم آخر من يدخل الجنة». وقد أورد ابن كثير من طرق أخرى حديثين بصيغتين مقاربتين للحديث الذي رواه الطبري. وروى حديثا آخر عن جابر بن عبد الله: «أن رسول الله سئل عمن استوت حسناته وسيئاته فقال أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون». أما الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل مثل ابن عباس والسدي ومجاهد والضحاك وأبي مجلز فمنها أن أصحاب الأعراف هم أطفال المشركين أو أطفال المؤمنين، أو أهل الفترة، أو أناس استوت حسناتهم وسيئاتهم، أو أناس تجاوزت بهم حسناتهم عن النار وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة. وهم آخر من يغفر الله لهم ويؤذن لهم بدخول الجنة. بعد أن يأمرهم بالاغتسال والتطهّر من نهر الحياة حتى تتلألأ أبدانهم. ومنها أنهم جماعة العلماء والفقهاء من الأمم يطلعون على الناس ويخاطبونهم. ومنها أنهم الأنبياء أو خزنة الجنة والنار أو كتّاب أعمال الناس من الملائكة. ورووا في مدى جملة يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ أن سيما المؤمنين تكون نضرة وبياضا وسيما الكافرين سواد بشرة ووجوه وزرقة عيون. وروى الطبرسي المفسّر الشيعي عن أحد الأئمة الاثني عشر أبي جعفر أن أصحاب الأعراف هم آل محمد. لا يدخل الجنة إلّا من عرفهم وعرفوه.
ولا يدخل النار إلّا من أنكرهم وأنكروه. وروى إلى هذا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه وهم قسيم الجنة والنار وأورد في ذلك حديثا جاء فيه: «أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لعلي يا عليّ كأني بك يوم القيامة وبيدك عصا عوسج تسوق قوما
402
إلى الجنة وآخرين إلى النار». وحديثا ثانيا جاء فيه: «أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه عن أصحاب الأعراف فقال له ويحك يا ابن الكواء هم نحن. نقف يوم القيامة بين الجنة والنار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار» ورواية أخرى بصيغة و «قيل إن الأعراف موضع عال على الصراط عليه حمزة والعباس وعليّ وجعفر يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه» ثم عزا هذا إلى الضحاك عن ابن عباس وقال رواه الثعلبي بالإسناد إلى تفسيره. وقد روى الطبري هذه الروايات بالإضافة إلى روايات أخرى مماثلة للروايات السابقة.
وليس من شيء من هذه الروايات والأحاديث واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد أخذ الطبري وتابعه آخرون بالأحاديث النبوية التي تذكر أنهم جماعة غزوا وعصوا آباءهم برغم عدم اتصافها بالصحة وغرابة طرقها. وهذا في حين أن عبارة الآيات تلهم بقوة أن أصحاب الأعراف يعرفون جميع الخلق وأنهم في موقف الشهود العدول عليهم الذين يقولون للمؤمنين ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. وكون ذلك من مهمتهم. وهذا يقتضي أن يكونوا الأنبياء أو الملائكة كتّاب أعمال الناس. وفي القرآن آيات عديدة يمكن أن يكون فيها تأييد لذلك. نكتفي بما جاء في سورة الزمر منها: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣).
وتبعا لترجيحنا يكون الضمير في الآية [٤٧] عائد إلى أهل الجنة الذين تلهم
403
العبارة أنهم منتظرون أمر الله بدخولها وهم طامعون آملون في ذلك.
وقد ذكرنا ما ذكرناه من قبيل التعليق على الروايات واستلهام العبارة القرآنية دون قصد إلى شرح المشاهد الأخروية التي نقول في صددها إن الإيمان بما احتوته الآيات من ذلك واجب تبعا لوجوبه بالنسبة لكل المشاهد والصور التي يذكرها القرآن مع وجوب الوقوف عند ما ذكره القرآن دون تخمين ولا تزيد ما دام ليس هناك أحاديث نبوية صحيحة. وهي وحدها التي يمكن أن يستند إليها في المسائل المغيّبة التي منها المشاهد الأخروية. ويتبادر لنا من فحوى الآيات ومقامها وروحها أنها هدفت أيضا إلى بثّ الطمأنينة والغبطة في نفوس المؤمنين الصالحين والفزع والخوف في نفوس الكافرين الآثمين مع تبكيتهم. وأنها جاءت مطلقة لتكون عامة البشرى والإنذار والتنويه والتبكيت ومستمرة التلقين أيضا.
وفي الآية [٤٩] صورة لما كان ينظر الكفار وخاصة زعماءهم من نظرة الاستكبار والاستهانة إلى الذين استجابوا للدعوة النبوية. وهو ما حكته آيات السورة السابقة وآيات عديدة أخرى أوردنا أمثلة منها في سياق السورة المذكورة.
ونقول تعليقا على الروايات التي ينفرد بها الطبرسي إن طابع الهوى والوضع الشيعي بارز عليها. وإن هذا ديدن رواة الشيعة ومفسريهم الذين يروون الروايات المماثلة في سياق آيات كثيرة جدا بسبيل تأييد أهوائهم دون أسناد صحيحة ووثيقة ودون مبالاة بعدم التساوق الذي يكون ظاهرا بكل قوة بين الروايات والآيات نصا وروحا وسياقا على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. ويلحظ هذا في الروايات المروية هنا. فالآيات في صدد جميع أهل الجنة وجميع أهل النار. ومع ذلك فهي تحصر الموقف على محبّي علي وأبنائه وذريته ومبغضيهم وتجعل الجنة والنار رهنا به وتجعل عليا وبعض ذريته أصحاب القول الفصل فمن أحبّهم أدخلوه الجنة ومن أبغضهم أدخلوه النار! وننبّه على أن الطبرسي من أكثرهم اعتدالا...
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
404
(١) ينظرون: ينتظرون.
(٢) تأويله: أصل اشتقاق الكلمة من آل يؤول بمعنى صار أمره أو عاقبته إلى كذا. وقد جاءت في القرآن بمعان عديدة ولكنها لا تخرج عن نطاق معنى آل.
حيث جاءت بمعنى مصداق الشيء الذي ظهر أو تحقيقه أو عاقبته أو تفسيره أو مصيره أو تعبيره أو مداه أو بيان ما استتر من سحره أو كونه أحسن عاقبة. وهي هنا بمعنى مصداقه أو تحقيقه أو عاقبته. وتستعمل الكلمة في صدد تفسير القرآن. والفرق بينها وبين التفسير أن التفسير هو للغة والألفاظ والتأويل هو للمعاني المحتملة التي يقدم قرينة ما على أنها أكثر ورودا من معنى اللفظ اللغوي.
الآيات معطوفة على ما سبقها واستمرار للسياق كما هو المتبادر. وفيها مشهد مما سوف يكون دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وتعقيب تبكيتي للكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا واغترّوا بالحياة الدنيا. برغم ما جاءهم من كتاب فيه الهدى والرحمة لمن حسنت نيته وآمن. ثم صورة لما سيكون من ندمهم واعترافهم وتمنّيهم الرجوع ويأسهم من شفعائهم. وهي قوية لاذعة.
ونقول هنا ما قلناه في صدد الآيات السابقة إن من الواجب الإيمان بما احتوته من مشهد. وإن من المتبادر أن من الحكمة المتوخاة فيها إثارة الفزع والخوف والندم في السامعين الكفار وحملهم على الارعواء قبل أن تصدمهم حقيقة
405
الآخرة ومصيرهم الرهيب فيها ويندموا ولات ساعة مندم. وقد جاءت مطلقة لتكون مستمرة المدى والتلقين.
والآية [٥١] بخاصة احتوت تلقينا جليلا بتقبيح الذين يتخذون الدين هزؤا ولعبا ويغترون بما يكونون عليه من مال وقوة في الحياة فيسوقهم هذا إلى عدم المبالاة بالعواقب واقتراف الإثم والبغي والاستكبار وعدم الانصياع إلى دعوة الحق وكلمة الحق.
والآية [٥٢] وهي تقرر أن كتاب الله هو رحمة وهدى للمؤمنين تقرر ضمنا أن الاستكبار عن دعوة الله وجحودها إنما يأتيان من أناس خبثت نواياهم وساءت طواياهم، وتغلّب الهوى والعناد عليهم فأعميا بصائرهم، وأن هؤلاء هم الذين لا يرون في كتاب الله الهدى وطريق الحق، في حين أن الذين طابت سرائرهم ورغبوا في الحق وبرئوا من الهوى والعناد يؤمنون ويرون في كتاب الله رحمة وهدى. وفي هذا وذاك تنديد بالكافرين من جهة وتنويه بالمؤمنين من جهة وعزو الاهتداء والضلال لحسن النية وصدق الرغبة وخبث الطوية وتغلّب الهوى وكونهما مظهرا لذلك من جهة أخرى. وفي هذا ما فيه من التلقين المستمر المدى.
هذا، ولقد قال المفسرون في جملة فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا إن الله لا يشذّ عنه شيء ولا يتّصف بالنسيان وإن المقصد أن الله يعاملهم كالمنسيّ أو يتركهم في العذاب لا يسمع لهم استغاثة ولا يتداركهم برحمة. ومع وجاهة هذا التخريج فيمكن أن يقال أيضا إن العبارة أسلوبية لمقابلة العمل بمثله مما تكرر كثيرا ومنه وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران:
٥٤].
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٨]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
406
(١) يغشى الليل النهار: يغطي بالليل النهار ويدخله عليه.
(٢) يطلبه حثيثا: حثيثا بمعنى سريعا أو متواليا ويطلبه أي يجري وراءه ليدركه.
(٣) تضرعا: تذللا.
(٤) خفية: سرا وبدون إعلان.
(٥) المعتدين: هنا بمعنى المتجاوزين الحد.
(٦) أقلت: حملت.
(٧) نكدا: النكد العسر الممتنع عن إعطاء الخير.
الآيات استمرار للسياق السابق ومتصلة به على ما هو المتبادر وقد جاءت بعد بيان مصائر المؤمنين والكافرين في الآخرة لتخاطب الناس عودا على بدء وتلفت نظرهم إلى مظاهر ربوبية الله في الكون العظيم ومطلق تصرفه، وتذكرهم بنعمة الله، وتبشّر المحسنين الصالحين برحمته الواسعة، وتدلّل على استحقاقه وحده للعبودية والخضوع والدعاء وتبرهن على قدرته على إحياء الناس بعد الموت. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأسلوبها تقريري رصين موجّه إلى العقول والقلوب معا. ومع أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى السامعين فإنه عام التوجيه. وقد احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى. سواء في تعليمها آداب دعاء الله وعبادته تضرعا وخفية وخوفا وطمعا بدون إعلان ولا صخب، أم في نهيها
407
عن الفساد في الأرض، أم في تأميلها المحسنين الذين يقومون بواجباتهم، أم في التفكير في آلاء الله وعظمة كونه والاستشعار بعظيم قدرته ومطلق تصرفه، وتحرير النفس من كل ما عداه.
وسامعو القرآن كانوا يعرفون ويعترفون بأن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما والمدبّر للأكوان والمتصرّف فيها على ما حكته عنهم آيات عديدة منها آية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) وآية سورة يونس هذه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) وآيات سورة المؤمنون هذه:
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) بحيث تستحكم الحجة على السامعين بما أرادته الآيات من التدليل على استحقاق الله وحده للخضوع والدعاء وقدرته على إحياء الناس بعد الموت.
والمتبادر أن تعبير وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها هو تعبير أسلوبي إذ الفساد ليس أصلا وإنما يكون طارئا ومستأنفا. والجملة بسبيل تشديد خطر البغي والفساد فإذا كان الفساد في أصله قبيحا محظورا فهو بعد الصلاح أشدّ قبحا وآكد خطرا لأنه هدم للصلاح القائم وإقامة الفساد مكانه.
ولعلّ الجملة تتضمن التنويه بالرسالة النبوية التي جاءت بالإصلاح بعد الفساد والتنديد بالذين يقفون منها موقف الهادم لها وإتاحة الاستمرار للفساد أو استئنافه.
وتبدأ بعد هذه الآيات سلسلة طويلة في قصص الأنبياء مع أقوامهم. وهكذا تكون هذه الآيات وبخاصة الأخيرة منها قد جاءت خاتمة قوية للفصل الطويل الذي ابتدأ من أول السورة.
408
تعليق على الآية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إلخ وما فيها من تلقين واستطراد إلى موضوع الدعاء في القرآن والحديث وما في ذلك من دلالة على إعارة الكتاب والسنّة لهذا الأمر من عناية ومدى هذه العناية
والأمر بالدعاء خفية قد تكرر في القرآن كما جاء في آية سورة الأعراف هذه أيضا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) وآية سورة الإسراء هذه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (١١٠).
وواضح أن هذا هو بسبيل التهذيب النفسي وتقرير كونه أدلّ على الإخلاص لله في الدعاء والعبادة وأبعد عن تهمة المظاهرة والرياء.
ولقد أورد ابن كثير حديثا ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال:
«رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائب. إن الذي تدعون سميع قريب». وروى الترمذي حديثا عن أبي أمامة قال: «قيل يا رسول الله أيّ الدعاء أسمع قال جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبة». وفي الحديثين تساوق مع التلقين القرآني شأن سائر الأمور.
استطراد إلى موضوع الدعاء لله ومداه
ونستطرد إلى ذكر الدعاء لله بصورة عامة فنقول إن في القرآن آيات كثيرة في الحثّ على الدعاء لله تعالى وفي كل ظرف وفي التنويه به، ووعد رباني بالاستجابة لمن يدعوه. وإيذان بأنه قريب إليه كما ترى في الآيات التالية:
١- وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: ١٨٦].
409
٢- وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: ٢٨].
٣- إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ [الأنبياء: ٩٠].
٤- أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [النمل: ٦٢].
٥- تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة: ١٦].
٦- فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [غافر: ١٤].
٧- وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: ٦٠].
حيث يبدو من هذه الأمثلة ما اقتضته حكمة التنزيل من إعارة العناية لهذا الأمر. وإذا لاحظنا أن الدعاء في الإنسان يكاد يكون فطريا لأنه لا يكاد يجد نفسه في مأزق أو ضيق أو كرب أو أمام صعوبة إلّا وسارع إلى دعاء الله، تبينت لنا تلك الحكمة حيث ينطوي فيها علاج روحي لكثير من مشاكل النفس والحياة. فإذا ما أفضى الإنسان المحزون والمكروب والذي يواجه المشاق والمصاعب إلى ربّه ما يعانيه وطلب منه العون فإنه يشعر بطمأنينة ونفحة روحية تنشله مما هو فيه أو تخفّف عنه وتبثّ فيه الأمل والرجاء إذا كان ذلك مترافقا مع الإيمان والاعتقاد بأن الله سامع له قريب إليه مجيب لدعائه. وهذا فضلا عما ينطوي في الدعاء لله من وسيلة إلى ذكر الله ثم في إثارة الشعور بتقوى الله بصالح الأعمال واجتناب السيئات. وفي هذا ما فيه من وسيلة إلى تقويم أخلاق المسلم.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في هذا الموضوع منها حديث رواه الترمذي
410
والإمام أحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء» «١». وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لم يسأل الله يغضب عليه» «٢». وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«الدعاء مخّ العبادة» «٣». وحديث رواه الترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلّا آتاه الله إيّاها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال الله أكثر» «٤». وعن ابن عمر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل الله شيئا يعطى أحبّ إليه من أن يسأل العافية» «٥». وعن ابن عمر أيضا قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء» «٦». وعن سلمان قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يردّ القضاء إلّا الدعاء ولا يزيد في العمر إلّا البرّ» «٧». وعن عبد الله قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم سلوا الله من فضله فإنّ الله عزّ وجلّ يحبّ أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج» «٨».
وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقلنّ أحدكم اللهمّ اغفر لي إن شئت اللهمّ ارحمني إن شئت. ليعزم المسألة فإنّه لا مكره له» «٩». وحديث رواه البخاري ومسلم أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«يستجاب لأحدكم ما لم يعجل. يقول دعوت فلم يستجب لي» «١٠». وحديث رواه
(١) التاج ج ٥ ص ١٠٠.
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر المصدر نفسه.
(٤) انظر المصدر نفسه ص ١٠٠- ١٠١.
(٥) انظر المصدر نفسه.
(٦) انظر المصدر نفسه.
(٧) انظر المصدر نفسه.
(٨) انظر المصدر نفسه.
(٩) انظر المصدر نفسه ص ١٠٣- ١٠٤.
(١٠) انظر المصدر نفسه.
411
الترمذي والحاكم عن أبي هريرة كذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة. واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» «١». وحديث رواه الترمذي ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء يا ربّ يا ربّ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك» «٢».
وينطوي في الأحاديث تلقينات نبوية متساوقة مع التلقين القرآني وتأديب نبوي في صدد الدعاء بوجه عام.
وهناك صيغ كثيرة في الدعاء في مختلف الظروف مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نكتفي بواحدة منها وصفت بأنها من جوامع الدعاء رواها الثلاثة عن أنس قال: «كان أكثر دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» ».
تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
إن جملة خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تأتي هنا لثاني مرة. وقد جاءت للمرة الأولى في سورة (ق) التي مرّ تفسيرها وعلّقنا عليها بما يغني عن التكرار.
وكلمة الْعَرْشِ وردت في السور التي سبق تفسيرها أكثر من مرة. وعلّقنا على مدى الكلمة في سورة التكوير بما يغني عن التكرار كذلك.
أما جملة ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فإنها تأتي هنا للمرة الأولى. وقد تكررت
(١) التاج ج ٥ ص ١٠٣- ١٠٤.
(٢) التاج ج ٤ ص ١٦٣.
(٣) التاج ج ٥ ص ١٠٨. وانظر الصيغ الأخرى في الصفحات ١٠٣ وما بعدها.
412
بعد ذلك. وقد تعددت الأقوال في مداها فممّا قاله البغوي أن المعتزلة أوّلت الاستواء بالاستيلاء وأن أهل السنة قالوا إن الاستواء على العرش سنّة لله تعالى بلا كيف ويجب على المسلم الإيمان به ويكل العلم فيه إلى الله عزّ وجلّ. وروى أن رجلا سأل الإمام مالك بن أنس عن الجملة فأطرق رأسه مليا وعلاه الرجفاء ثم قال له الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
وما أظنك إلّا ضالا ثم أمر به فأخرج. ومما قاله ابن كثير إن للناس في هذا الأمر مقالات كثيرة جدا. وإن خير مسلك هو مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهو إمرار الجملة كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه، ولا تعطيل. وأن الظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله تعالى فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وإن بعض الأئمة ومنهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قالوا من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه، ومن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عنه النقائص فقد سلك سبيل الهدى. وهذا يفيد أن من المقالات ما كان يذهب أصحابه إلى أخذ العبارة بظاهرها بدون تأويل ولو أدّى ذلك إلى اعتبار الله تعالى وعرشه مادة وكون الله تعالى يجلس على عرشه كجلوس الملوك على الأسرة والعروش المادية. وروى الطبرسي عن الحسن أن استوى بمعنى استقرّ ملكه واستقام بعد خلقه السموات والأرض. وقال إن ذلك هو على المتعارف من كلام العرب حيث يقولون استوى الملك على عرشه إذا انتظمت أمور مملكته وشلّ عرشه إذا اختلّت. ومما قاله السيد رشيد رضا إن حقيقة الاستواء في اللغة التساوي واستقامة الشيء أو اعتداله. ويستعمل على الأكثر في المجاز فيقال استوى على الدابة وعلى السرير وعلى الفراش ويكون بمعنى التملّك. ثم استطرد إلى القول إن أحدا من أصحاب رسول الله لم يشتبه في معنى استواء الله على العرش على علمهم بتنزّهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق إذ كانوا يفهمون أن استواءه على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السموات
413
والأرض له وانفراده بتدبيره. وإن عقيدة التنزيه القطعية الثابتة بالنقل والعقل مانعة لكل منهم أن يتوهم أن في التعبير بالاستواء على العرش شبهة تشبيه للخالق بالمخلوق. وفي تفسير القاسمي فصل طويل جدا بلغت صفحاته خمسا وخمسين ولعلّه أطول فصل عقده على أي موضوع. وفي هذا الفصل أقوال ومذاهب مختلف الجماعات والفرق الإسلامية من أهل السنّة والجماعة والسلف الصالح والمعتزلة والمشبّهة والظاهرية. ومناقشات وردود على هؤلاء خاصة منه ومن علماء وأئمة أهل السنّة والجماعة والسلف الصالح الذين يلتزم أقوالهم التي لخصها ابن كثير والبغوي ورشيد رضا وأوردناها قبل قليل بسبيل تفنيد ما يمكن أن تؤدي إليه أقوالهم من مناقضة لما ينبغي أن يكون لله من صفات مبرأة من شوائب الجسمانية والمشابهة لخلقه أو الحلول أو التحديد في جهة ما. واهتم فيما اهتم لتفنيد تفسير المعتزلة لكلمة اسْتَوى بمعنى استولى من حيث أن ذلك يؤدي إلى معنى استيلاء الله على عرشه بعد أن لم يكن مستوليا عليه مما هو مناف لأزليته وأزلية صفاته التي منها ملك كل شيء مع أن المتبادر لنا أن مقصودهم هو نفي الاستواء المادي على العرش المادي وصرف الكلمة إلى معنى مجازي. ولا يعقل أن يكونوا أرادوا القول إن الله استولى على العرش بعد أن لم يكن مستوليا عليه بالمعنى الحرفي. وإن من الممكن أن لا تكون ثُمَّ في مقام الترتيب الزمني ويمكن أن تكون في مقام العطف فيكون معنى الجملة إن الله هو الذي خلق السموات والأرض وإنه استوى على العرش.
ويبدو من الإمعان في ما نقلناه عن البغوي وابن كثير والطبرسي ورشيد رضا واتجاه جمال القاسمي أنهم متساوقون فيما قالوه واستندوا إليه وأن ذلك هو مذهب السلف الصالح وأهل السنّة والجماعة. وملخّصه أن من الواجب الإيمان بما جاء في القرآن والتفويض لعلم الله في ما أراده من التعبير مع تنزيهه عن الحدود والحلول والجسمانية والمشابهة. ونحن نرى في هذا الوجاهة والسداد. وننوّه بخاصة بوجاهة ما ذكره رشيد رضا من أن أحدا من أصحاب رسول الله لم يشتبه في معنى استواء الربّ تعالى على العرش على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر
414
وغيرهم من الخلق وأنهم كانوا يفهمون أن استواءه تعالى على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السموات والأرض له وانفراده هو بتدبيره. وإذا كان من شيء يصحّ قوله بالإضافة إلى هو فهو وجوب ملاحظة كون العبارة القرآنية هنا وفي أي مكان آخر في القرآن قد جاءت في معرض التدليل على عظمة الله وشمول قدرته وملكه وتقرير كونه الخالق المدبّر المتصرّف الوحيد فيه واستحقاقه بسبب ذلك وحده للعبادة والخضوع. وإن ما شغله هذا الموضوع من حيز ليس بسبب العبارة ولكن بسبب ما لمح من مساسها بالصفات الإلهية التي كانت من أهم أسباب تعدد المذاهب الكلامية في الإسلام تأثرا بالفلسفة اليونانية التي أخذت تنتشر في القرن الثاني وبعده وأساليبها وبما كان من انقسامات وخلافات سياسية على ما ألمعنا إليه في تعليقنا على موضوع القدر في سياق تفسير سورة (ق) وعلى ما يدلّ عليه عدم انشغال أصحاب رسول الله بهذه المسألة وأمثالها. والله تعالى أعلم.
تعليق على دلالة الآية وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً
وقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره أن الآية [٥٨] تنطوي على مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الطيبة التي تؤتي ثمرا طيبا والكافر بالأرض السبخة الرديئة التي يكون ثمرها رديئا. والاستنباط سديد وجيه. وفي الآية على ضوئه تنويه بالمؤمنين الذين استجابوا لدعوة الله ورغبوا في الحق والهدى وتنديد بالكافرين الذين ناوأوها وتصامموا عن صوت الحق وتعاموا عن النور والهدى عنادا ومكابرة. وروح الآية تتحمل تعديلا للتشبيه وهو تشبيه ذوي النفوس الطيبة بالأرض الطيبة وذوي النفوس الخبيثة بالأرض الخبيثة. وبهذا التعديل يمكن تعليل كل موقف لكل فئة وفرد من الهدى والحق إذا ظهرت معالمهما واضحة في كل وقت ومكان وعلى كل مدى ويكون المثل القرآني به من الحكم العامة المستمرة المدى. وهذا ما أردناه حينما نعلل آيات الضلال والهدى والكفر والإيمان بأن الناس الذين يصرون على كفرهم وعنادهم وضلالهم رغم ظهور معالم
415
الحق والهدى إنما يصدرون عن سوء نية وخبث طوية فيؤذن الله بأنه لن يسعدهم ولن يهديهم ولن يوفقهم وأنهم حقّت عليهم الضلالة وباؤوا بخزي الله ونقمته وسخطه. وإن الذين ينضوون إلى الحق والهدى ويصدقونهما إنما يصدرون عن حسن نية وطيب طوية ورغبة في الإيمان والهدى والحق. فيؤذن الله بأنه كتب لهم السعادة والنجاة واستحقوا رحمته ورضوانه مما تكرر بيانه في مناسبات سابقة. والله أعلم.
ولقد أورد البغوي وابن كثير في سياق هذه الآية حديثا عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» «١». والحديث متساوق مع الاستنباط وموضح للمثل القرآني كما هو المتبادر.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٤]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
. (١) الملأ: الأشراف والسادة. وقيل الرجال دون النساء وقيل إن معنى
(١) روى البغوي هذا الحديث بطرقه وهو من أئمة الحديث وعزا ابن كثير الحديث إلى مسلم والنسائي. [.....]
416
الكلمة جمهور الناس أو معظمهم. وروح الآية هنا وفي آيات أخرى تلهم أن المقصود من الكلمة زعماء القوم وكبراؤهم.
(٢) ضلالة: هنا بمعنى الشذوذ والبعد عن المنطق والعقل.
(٣) عمين: قيل إنها جمع أعمى كما قيل إنها جمع عم والفرق أن الأعمى أعمى البصر والعمي هو أعمى البصيرة.
هذه حلقة من سلسلة طويلة استغرقت أكثر من نصف السورة وقد جاءت عقب فصول احتوت إنذارا وتنديدا بالكفار وتنويها وثناء على المؤمنين وصورا لمصائر الفريقين وبراهين على عظمة الله وقدرته وشمول ملكه ودعوة إليه وحده، جريا على الأسلوب القرآني في إيراد القصص بعد مثل هذا السياق على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. فالسلسلة والحالة هذه متصلة بما سبقها اتصال تعقيب واستطراد وتمثيل وتذكير وعظة.
ولقد أشير إلى تكذيب الأقوام الذين ذكرتهم حلقات السلسلة إشارة خاطفة في سورة «ص» السابقة لهذه السورة، حيث يمكن أن يقال إن حكمة التنزيل اقتضت الإسهاب الذي جاءت عليه القصص هنا بعد تلك الإشارة الخاطفة. إما لتوكيد الإنذار والتمثيل والتذكير وإما بناء على تحدّ أو استزادة من السامعين. ومن الممكن والحال هذه أن يكون ذلك من قرائن صحة ترتيب نزول سورة الأعراف بعد سورة «ص».
ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة القلم الحكمة الربانية في تكرار القصص في كل مناسبة مماثلة وبأساليب متنوعة حسب اقتضاء حكمة التنزيل. وتكرار القصص هنا متصل بتلك الحكمة.
ولقد احتوت هذه الحلقة قصة رسالة نوح عليه السلام إلى قومه. وعبارتها واضحة. ولقد ذكرت قصة نوح في السور السابقة وعلقنا عليها بما اقتضى وليس في الحلقة جديد يستدعي تعليقا جديدا. وسنعلّق في آخر السلسلة تعليقا عاما على ما تضمنته من مقاصد وتلقينات وعبر.
الجزء الثاني من التفسير الحديث ٢٧
417

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٥ الى ٧٢]

وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
. (١) سفاهة: هنا بمعنى الجهل أو لوثة العقل.
(٢) ذكر: تذكير وبلاغ ودعوة.
(٣) آلاء الله: نعم الله.
(٤) نذر: نترك أو نتخلى.
(٥) رجس: جاءت الكلمة في القرآن بمعان عديدة منها النجس المادي أو المعنوي والخزي والضلالة والغواية والانحراف وانغلاق الذهن والصد عن الهدى والغضب أو العذاب الرباني. وهنا بأحد المعنيين الأخيرين.
(٦) وقطعنا دابر القوم: بمعنى استأصلناهم.
وهذه حلقة ثانية من السلسلة احتوت قصة رسالة هود عليه السلام إلى قوم عاد. وعبارتها واضحة. وقد أشير إليها في سور سابقة وذكرنا في مناسباتها ما اقتضى من تعريف بهود عليه السلام وقومه عاد. ولقد تكررت في سور آتية مرارا وفيها بيانات أخرى غير ما ورد في هذه الحلقة. وفي الطبري والبغوي وغيرهما
418
سياق طويل عنهم على هامش هذه الحلقة معزو إلى السدي وابن زيد وابن وهب وغيرهم من علماء الصدر الأول حيث يفيد هذا أن سامعي القرآن من أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يتداولون أخبارهم جيلا عن جيل. ومما ذكروه أنهم كان لهم صنم اسمه صداء أو صمود وصنم آخر اسمه الهباء. وأن السماء أمسكت عنهم بسبب كفرهم حتى جهدوا وذهبوا إلى الاستغاثة عند الكعبة ثم رجعوا فظهرت لهم سحابة ظنوها الغيث وإذا فيها العذاب الذي جاءهم كريح شديدة مدمرة أهلكتهم ونجى الله هودا والذين آمنوا معه. ومما ذكروه أن بلادهم هي أرض الشجر من بلاد اليمن مما يلي حضرموت إلى عمان أو أنها الأحقاف التي هي أيضا في القسم الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب والأحقاف ذكرت في القرآن في سورة الأحقاف وفيها آيات تذكر ما وقع عليهم من عذاب وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) وفَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥).
ولم نر ضرورة لإيراد ما أورده المفسرون من بيانات مسهبة أخرى لا تخلو من مبالغة وخيال لأن ذلك غير متصل بأهداف القصة. ومن جملة ذلك مثلا ما يفيد أن عادا كانوا يتكلمون باللغة العربية الفصحى مع أن هذه اللغة إنما استقرّت على شكلها قبل البعثة بمدة غير طويلة وعاد إنما كانوا ألفين أو أكثر من السنين.
ولقد تعددت رواياتهم في صدد معنى ومدى جملة وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً منها أنها بمعنى زادكم من نعمه من بين خلقه. ومنها أنه زادهم على غيرهم نسبيّا في طول الأجسام وقوتها. ومنها أن قاماتهم كانت طويلة جدا حتى كان منهم من هو في مائة ذراع أو سبعين أو ستين وأقصرهم في اثنتي عشرة ذراعا.
والمتبادر أن التعبير متصل بالهدف القرآني فهو من جهة حكاية لتذكير هود قومه بنعمة الله عليهم دعما لدعوته. ومن جهة تنبيه لسامعي القرآن إلى أن من
419
الذين كانوا قبلهم من كان أعظم منهم أجساما وأشدّ قوة فأخذهم الله بكفرهم وإنهم لن يعجزوه. وقد تكرر هذا في آيات عديدة مثل آية سورة غافر هذه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) وآية سورة «ق» هذه: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦).
ولقد تكون زيادة بسطة أجسام عاد مما كان متداولا بين سامعي القرآن فذكر ذلك لتدعيم الموعظة والهدف القرآني. غير أن الجملة القرآنية لا تقتضي أن تكون أجسام قوم عاد خارقة للعادة. ولقد استعمل التعبير في القرآن في صدد وصف طالوت الذي اختاره نبي بني إسرائيل ملكا في آية سورة البقرة هذه: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) ولقد ذكرت قصة اصطفاء النبي لطالوت في سفر صموئيل الأول «١» ووصف طالوت (شاؤول) بأنه من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب. وليس هذا خارقا للعادة. وهذا كله يجعل أحد القولين الأولين عن مدى الجملة هو الأكثر ورودا واتساقا مع حقائق الأمور.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٩]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
(١) الإصحاحان الثامن والتاسع.
420
(١) فذروها: دعوها واتركوها.
(٢) بوأكم: منحكم وأنعم عليكم ومكنكم.
(٣) عتوا: تمردوا.
(٤) الرجفة: كناية عن الزلزلة. والرجفان هو الحركة والاضطراب.
وهذه حلقة ثالثة احتوت قصة رسالة صالح عليه السلام إلى قومه ثمود.
وعبارتها واضحة. وقد ورد ذكر قصة ثمود ونبيهم في سور سابقة. وذكر فيما ذكر في هذه السور ما جاء في هذه الحلقة من أمر الناقة وعقرها. وعلقنا على ذلك بما اقتضى. وقد تكرر ورودها مرارا في سور أخرى بعد هذه السورة وفيها بعض بيانات لم ترد في هذه الحلقة.
وفي الطبري والبغوي وغيرهما بيانات كثيرة عن صالح عليه السلام وقومه وناقته وتآمرهم عليهما وعقرهم للناقة وما حلّ فيهم من عذاب الله معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول فيها كثير من المبالغة والخيال فلم نر ضرورة إلى إيرادها لأنها غير متصلة بالهدف القرآني. ولكن فيها دلالة على ما قلناه قبل من أن سامعي القرآن من أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يتداولون أخبارهم جيلا عن جيل.
والمشهور الذي تؤيده الآثار الباقية إلى اليوم أن قوم ثمود كانوا ينزلون في الجهات المعروفة اليوم بمدائن صالح أو في جهات العلاء في طريق قوافل تجّار العرب والحجاز إلى بلاد الشام وهي أقرب إليهم منها إلى هذه البلاد. فكان العرب
421
من أهل عصر النبي وبيئته قبل البعثة بالإضافة إلى ما يسمعونه من أخبارهم جيلا عن جيل كانوا يعرفون بلاد ثمود وآثارها معرفة عيانية وكانوا يرون فيها فيما يرون آثار تدمير رباني. على ما تفيده آية سورة العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) ولا تزال آثار هذه البلاد المدمّرة باقية إلى اليوم.
وفيها آثار بيوت ومقابر منحوتة في الجبال وعليها نقوش بلغة ثمود التي كانت لهجة عربية قديمة بعيدة عن الفصحى. وهذا مما يظهر ما في البيانات التي يرويها المفسرون من خيال حيث رووا فيما رووا أن لغتهم كانت عربية فصحى.
ونحت ثمود بيوتا في الصخور والجبال تكرر ذكره في سور سابقة وآتية. أما اتخاذهم من السهول قصورا فهو هنا جديد وللمرة الوحيدة. وبلاد ثمود ليست جبلية صخرية كلها ففيها أيضا سهول ومنبسطات. وفي العبارة القرآنية توضيح لصورة واقعية كان السامعون يعرفونها سماعا ومشاهدة كما هو المتبادر.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الكلام هو بسبيل تذكير قوم صالح عليه السلام بما أنعم الله عليهم من قوة وتمكين ونشاط وعمران.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
. (١) مسرفون: موغلون في الاعوجاج.
(٢) الغابرين: الذاهبين الهالكين.
وهذه حلقة رابعة من السلسلة احتوت قصة لوط عليه السلام وقومه وقد
422
ذكرت في سور سابقة وعلقنا عليها بما اقتضى. والجديد فيها صراحة إقبال قوم لوط على إتيان الذكور وخبر إهلاك زوجته مع الهالكين. وقد تكرر ذلك في السور التي ذكرت القصة بعد هذه السورة. ولقد ذكرت القصة بما فيها الخبران في سفر التكوين على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. والمتبادر أن سامعي القرآن يعرفون ذلك عن طريق اليهود. وعبارة السفر المذكور عن زوجة لوط أنها التفتت إلى ورائها فصارت قضيب ملح. وفي آية سورة هود عبارة إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ [٨١] وفي آية سورة النمل عبارة: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٧٥) وفي آية سورة التحريم [١٠] نسبت إليها خيانة زوجها. وليس بين ما ورد في القرآن وفي سفر التكوين تعارض أو تغاير في المدى العام. ونعتقد أن ما ذكر في القرآن كان متداولا بين اليهود وواردا في بعض قراطيسهم. وفي ذكر هلاك هذه الزوجة مع الهالكين الذين استحقوا الهلاك بسبب بغيهم وانحرافهم عظة قرآنية بليغة ومستمرة التلقين وهي أن القرابة وصلة الدم مهما اشتدّت لا يمكن أن تغني الإنسان شيئا إذا كان سيء العمل والتصرف وأن أحدا لا يغني عن أحد وكل نفس رهينة بما كسبت. وهذا المعنى قد تكرر في آيات كثيرة مرت أمثلة عديدة منها بحيث يصحّ أن يقال إنه من المبادئ القرآنية المحكمة. وفي آية سورة التحريم المذكورة آنفا صراحة بالنسبة لزوجة لوط. وقد نزلت لتكون مثلا وهذا نصها:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠).
وعذاب قوم لوط المعبّر عنه هنا بجملة وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً عبر عنه في سورة القمر التي مرّ تفسيرها بجملة إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً وفي سورة هود بهذه الآية: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) وقد ورد في الإصحاح (١٩) من سفر التكوين هذه العبارة: (وأمطر الربّ على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من السماء وقلب تلك المدن وكل البقعة
423
وجميع سكان المدن ونبت الأرض) مما فيه تساوق وتوافق.
استطراد إلى جريمة اللواط
ولقد استطرد المفسرون «١» إلى جريمة اللواط في الإسلام في سياق هذه الآيات التي يشار فيها إليها لأول مرة بصراحة فذكروا أن العلماء مجمعون على تحريمها وأوجبوا عقوبة الزنا على الفاعل والمفعول به وأوردوا أحاديث نبوية في ذلك منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» «٢». وحديث رواه الترمذي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط» «٣».
ويلحظ أن الحديث الأول رتّب العقوبة متساوية على الفاعل والمفعول به بدون تفريق بين محصن وغير محصن للفاعل الذي يكون هذا واردا بالنسبة إليه. وقد يكون مردّ الحكمة النبوية في ذلك إلى بشاعة الجريمة وغير طبيعتها وإنسانيتها والله أعلم.
على أن هناك أقوالا أخرى في صدد هذه الجريمة وعقوبتها وردت في كتب التفسير. من ذلك عن علي أن اللوطي يقتل ثم يحرق لعظم المعصية. وعن عمرو بن عثمان أنه يلقى عليه حائط. وعن ابن عباس أنه يلقى من أعلى بناء في البلد. وهذه الأقوال في معنى القتل الوارد في الحديث النبوي. ومن ذلك قول يروى عن الشافعي وآخرين أن عقوبة اللواط هي نفس عقوبة الزنا فإن كان الفاعل محصنا رجم وإن كان غير محصن جلد مائة جلدة على ما سوف يأتي شرحه مسهبا في سياق تفسير الآية الثانية من سورة النور. ولم يذكر الراوي رأي هؤلاء في عقوبة المفعول به إذا لم يكن مكرها. والمتبادر أنه يجلد لأن مسألة الإحصان وغير
(١) انظر تفسير ابن كثير ورشيد رضا مثلا.
(٢) التاج ج ٣ ص ٢٥.
(٣) المصدر نفسه.
424
الإحصان لا ترد بالنسبة إليه. ولقد ذكر رشيد رضا في تفسيره أن الحديث النبوي الذي يحدد عقوبة اللواط بقتل الفاعل والمفعول به ضعيف الإسناد حيث يبدو أن الشافعي وغيره الذين رتبوا عقوبة الزنا على اللواط لم يثبت الحديث عندهم.
هذا، وهناك أحاديث أخرى في صدد إتيان النساء من أدبارهن مما هو في مدى جريمة اللواط. وقد أوردها المفسرون وعلّقوا عليها في سياق آية البقرة [٢٢٣] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وقد أرجأنا بدورنا الكلام على ذلك إلى هذه الآية.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٥ الى ٩٣]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)
425
(١) لا تبخسوا الناس أشياءهم: لا تنقصوا من قيمتها.
(٢) لا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا: لا تقعدوا في الطرقات لتمنعوا الناس عن الإيمان وتصدّوا عنه الذين آمنوا وتتوعدوهم بالأذى وتحاولون بذلك عرقلة سبيل الله.
(٣) ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق: ربنا اقض بيننا وبين قومنا بالحق.
(٤) كأن لم يغنوا فيها: كأنهم لم يقيموا فيها.
(٥) فكيف آسى: فكيف أحزن.
وهذه حلقة خامسة من السلسلة احتوت قصة رسالة شعيب عليه السلام إلى مدين وعبارتها واضحة. وهذه القصة تأتي هنا مسهبة لأول مرة، وقد أشير إليها إشارة خاطفة في جملة وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ في سورة «ق» ثم في سورة «ص» وقد ذكرنا ما فيه الكفاية من التعريف بهم وبشعيب عليه السلام في سياق ورود ذكرهم لأول مرة في سورة «ق» ورجحنا هناك استئناسا بالنصوص القرآنية أن أصحاب الأيكة هم أهل مدين وقوم شعيب ونبهنا كذلك إلى معرفة سامعي القرآن لقصتهم حيث تستحكم بذلك العظة القرآنية القصصية.
وفي كتب التفسير بيانات كثيرة عن شعيب عليه السلام وقومه أيضا معزوّة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول لا تخلو هي الأخرى من مبالغة وخيال. ولم نر طائلا في إيرادها لأنها غير متصلة بالهدف القرآني. وفيها مع ذلك دلالة على أن سامعي القرآن كانوا يعرفون هذه القصة كما كانوا يعرفون القصص الأخرى.
تلقينات القصص وما فيها من نقاط بارزة متصلة بالهدف القرآني
ولقد احتوت مضامين السلسلة القصصية نقاطا هامة تتصل بهدف القصص
426
القرآنية ننبّه إليها فيما يلي:
١- إبراز كون أسس الدعوة التي دعا إليها أنبياء الله صلوات الله عليهم هي نفس الأسس التي دعا إليها سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، نابعة من مصدر واحد وهادفة إلى هدف واحد وهي الدعوة إلى الله وحده وتقرير استحقاقه وحده للعبادة والخضوع وإيجاب نبذ كل ما سواه والتنديد بالشرك بأي شكل ونوع. والحضّ على مكارم الأخلاق والفضائل والأعمال الصالحة النافعة وتقبيح الفواحش والآثام والبغي والعدوان والصدّ عن سبيل الله.
٢- بيان اشتراك كثير من الناس في مختلف العصور في موقف الاستغراب من اختصاص الله بشرا منهم ومثلهم للرسالة الربانية وما كان من ردود الأنبياء السابقين عليهم بأن هذا ليس فيه ما يوجب الاستغراب، وأن اختصاص بعض البشر من آن لآخر واصطفائهم لحمل مهمة إرشاد البشر هو المعقول لأن ذلك أدعى إلى التفاهم معهم ومخاطبتهم بلسانهم والمصاولة والمجاولة معهم بنفس طرائقهم وأساليبهم وإيجاد القدوة منهم والأسوة فيهم.
وكأنما أريد بهذه القصة وتلك إبراز كون النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يكن بدعا ولم يدع إلى بدع. وهو ما نبّهت إليه آيات خاصة في بعض المناسبات مثل آية الأحقاف هذه: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) ومثل آية الشورى هذه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣).
٣- بيان المسلك المشترك بين كفّار العرب وكفار الأمم السابقة من حيث وقوف الأكثرية وبخاصة الزعماء والأغنياء موقف الإنكار والجحود والعناد والمكابرة ومن حيث اقتصار الإجابة على فئة قليلة أكثرها ضعفاء وفقراء، ومن حيث صدّ الكفار عنها وتضييقهم على المجيبين إليها وأذيتهم وتوعّدهم بالطرد
427
والإخراج كأنما أريد بهذا تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين وتسليتهم ودعوتهم إلى التأسي بمن قبلهم من أمثالهم الذين صبروا وصمدوا وثبتوا فنالوا رضاء الله ورعايته.
٤- تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيته. فما يلقاه هو ما لقيه الأنبياء السابقون. وإذا كان أكثر قومه لم يؤمنوا وإذا كان الذين آمنوا قليلين وجلّهم مستضعفون فهذا هو الشأن في دعوة الأنبياء والسابقين وسيرتهم أيضا.
٥- تطمين الذين آمنوا وتسليتهم وتثبيتهم أيضا. فالله ناصرهم ومؤيدهم ومنجيهم، ومهلك الكفار ومنكّل بهم وقاطع دابرهم في النهاية مهما كانوا أقوياء وأغنياء وكثيرين ومتمكنين كما كان الشأن في الأقوام السابقين.
ولقد وردت آيات عديدة ينبّه فيها إلى النقط الثلاث المذكورة مثل آية سورة الأنعام هذه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) وآيات سورة الأنعام هذه أيضا: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وآية سورة التوبة هذه: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وآيات سورة يونس هذه: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)
وآية سورة النور هذه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥).
428
٦- تذكير الكفار الذين لم يكونوا يجهلون قصص الأقوام المذكورة ومصائرهم والذين يعرفون آثار التدمير الرباني في مساكنهم وحملهم على الارعواء والازدجار. فلن يعجزوا الله سبحانه الذي أهلك من هم أشدّ منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا.
والرسالة النبوية إنما هي لخيرهم وسعادتهم. فلا ينبغي لهم أن يغتروا فيما هم فيه وينسوا المصائر والعواقب التي صار إليها كفار الأمم السابقة.
وكل ما احتوته السلسلة من عبر وعظات مستمر التلقين بطبيعة الحال. سواء أفي تنديدها بالصدّ عن الحق والعناد والمكابرة واللجاج فيه وأذية الداعين إليه، أم في الضغط على الضعفاء واحتقارهم، أم في الفساد في الأرض، أم في التمسك بالتقاليد الموروثة السخيفة والضارّة، أم في تثبيت الذين هم على الحق وتطمينهم بالفوز والعلو في النهاية.
وقد نبهنا إلى ما فيه معاقبة زوجة لوط من عظة بالغة في سياق شرح آيات قصته. فنكتفي بهذه الإشارة لتتم السلسلة.
هذا ونقول في صدد ما ورد في حلقات السلسلة من المعجزات التي أظهرها الله على أيدي رسله أو في صورة عذاب سلّطه الله على الجاحدين بهم إن ذلك جزء من القصة. ومع ذلك فهو في نطاق قدرة الله تعالى. وإن الإيمان به واجب على المسلم مع وجوب الوقوف عند ما وقف عنده القرآن.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٤ الى ١٠٢]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)
429
(١) القرية: جاءت في القرآن بمعنى المدينة. والقرية والقرى هنا بمعنى البلاد وأهل البلاد.
(٢) يضرعون: يتذللون إلى الله.
(٣) عفوا: نموا وكثروا وازدادوا ثروة وقوّة.
(٤) الضرّاء والسرّاء: الضراء مصدر الضرّ والسراء مصدر السرور، ومعنى الكلمتين في مقامهما ضيق العيش والرزق ويسرهما.
(٥) أو لم يهد: هنا بمعنى أو لم يتبين أو أو لم تجعلهم قدرة الله على بيّنة من أن الله قادر على إهلاكهم.
(٦) نطبع على قلوبهم: نختم على قلوبهم، والمعنى نغلق أذهانهم ونقسّي قلوبهم بسبب ذنوبهم وكفرهم فلا يسمعون ولا يدركون.
(٧) فاسقين: الفسق هو العصيان والتمرّد.
تلقين الآيات التي جاءت عقب السلسلة القصصية
عبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد جاءت كما يتبادر منها معقبة على السلسلة القصصية وموضحة وداعمة لأهدافها بأسلوب قوي رصين موجّه إلى القلوب والعقول معا. ومن شأنه أن ينفذ إلى أعماق النفوس ويحمل السامعين وبخاصة إذا كانوا راغبين في الحق سليمي النيّة والطويّة على التفكّر
430
والتدبّر والتروّي وحسبان العواقب والاعتبار بالسوابق. وفيها في ذات الوقت تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
فشأن الجاحدين شأن أمثالهم السابقين. جاءتهم أنبياؤهم فجحدوا وتمردوا.
وامتحنهم الله بالضيق ثم باليسر فغفلوا عن مغزى هذا الامتحان وظنوا أن ما وقع عليهم هو عادات الدهر التي تتراوح بين الشدّة والفرج. فلما بلغ البغي منهم أوجه أخذهم الله أخذا قويّا بما كسبت أيديهم في حين أنهم لو آمنوا بالله واتقوه بصالح العمل لفتح الله عليهم بركات السماء والأرض. ولكنهم لم يرعووا وقست قلوبهم فحلّ نكال الله بهم. وإنه لأجدر بالسامعين الجاحدين أن يتعظوا بأنباء من سبقهم وأحداثهم ويذكروا أن الله قادر على أن يصيبهم بذنوبهم، وأن لا يطمئنوا إلى ما هم فيه ويظنوا أنهم في أمن ويغفلوا عن بأس الله ونقمته. فإن المطمئن الغافل هو الخاسر حتما. ولقد بدا أنهم ساروا في طريق أمثالهم ولم يتعظوا وكذبوا نبيهم ولم يف أكثرهم بعهد الله وتمردوا عليه وقست قلوبهم وانسدّت آذانهم وكانوا فاسقين.
والأسلوب التقريري القوي الذي جاءت عليه الآيات مطلق التوجيه بحيث يتناول في عظمته وشموله وما فيه من تقرير عادة الله ونواميسه وطبائع أكثر الناس في جميع الأجيال. وما احتواه من تلقين جليل مستمر المدى بطبيعة الحال تبعا لذلك.
تعليق على عبارة يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ
وفي الآيتين الأخيرتين ورد مقطعان عن طبع الله على قلوب الكافرين. وهذا التعبير قد تكرر في مواضع عديدة ومناسبات مماثلة. وكان من أسباب التشاد بين علماء الكلام حيث رآه فريق دليلا على أن أعمال الناس ومصائرهم مقدرة محتمة منذ الأزل، وأوّله فريق آخر رأى في رأي هذا الفريق ما يناقض عدل الله وحكمته في إرسال الرسل، وما يتناقض مع تقريرات قرآنية متنوعة.
والذي يلهمه سياق الآيات هنا وسياق الآيات الأخرى التي ورد فيها هذا
431
التعبير أنه ليس في معنى أن الله قد قسّى قلوب أناس بأعيانهم سلفا وأغلق أذهانهم وصرفهم عن الاستجابة إلى دعوة الله كقضاء أزلي. وفحوى الآيات هنا وفي غير مكان لا يمكن أن يساعد على ذلك لأنها تحتوي في الوقت نفسه لوما وتنديدا وإنذارا وتعنيفا للكافرين على جحودهم وانحرافهم. وإنما هو بسبيل وصف شدّة قسوة قلوبهم بسبب سوء طويتهم وخبث نيتهم حيث يؤدي ذلك إلى انغلاق أذهانهم، أو بسبيل تقرير ما يصيرون إليه من ذلك نتيجة لمواقف المكابرة والعناد التي يقفونها حتى يبدو أنه أصيل فيهم.
ومما يلحظ أن هذا التعبير يأتي دائما مع وصف الكفر والجحود والفسق والخسران مع التنديد والتقريع بالكافرين الجاحدين الفاسقين حيث يبدو أن الآيات في الحقيقة إنما تقرر أن الكفر والفسق وعدم الاستجابة لدعوة الحق ونقض العهد كل ذلك قد وجد في الكافرين فنعتوا بهذا النعت واستحقوا من أجله التنديد والتقريع والتعنيف. وفي الآيات يبدو هذا قويا بارزا.
ولعلّ من أهداف هذا التعبير وأمثاله تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وكأنما يقال لهم إنه لا موجب للحزن والأسى إذا لم تلن قلوب الكافرين والجاحدين فإن الله قد طبع عليها بما بيّتوه من نيّة الكفر وانطبعوا عليه من خبث وفساد وفسق.
ولقد ثبت يقينا أن كثيرين من الذين وصفوا بوصف الكافرين والفاسقين والظالمين والذين تقرّر الآيات أن الله يطبع على قلوبهم وأن كلمة الله حقّت عليهم بأنهم لا يؤمنون من السامعين للقرآن من عرب وغير عرب ومن مشركين وكتابيين قد آمنوا بالرسالة المحمدية والقرآن ونالوا رضاء الله بعد نزول هذه الآيات وتابوا وتاب الله عليهم حيث يصحّ القول إن هذه الآيات وأمثالها الكثيرة في القرآن مما مرّ ويأتي قد انطوت على تسجيل للواقع عند نزولها وعلى تأييد لما شرحناه به آنفا.
وإن ما احتوته من إنذار وتنديد إنما يظلّ واردا بالنسبة للذين يصرون على الكفر والفسق والظلم ويموتون على ذلك ويبقى الوصف ملازما لهم. وفي القرآن آيات كثيرة تؤيد ذلك منها آيات سورة البقرة هذه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ
432
وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
«١».
تعليق على كلمة (نبى) ومدى الفرق بينها وبين كلمة (رسول)
وكلمة (نبى) تأتي هنا لأول مرة. وهي مشتقّة من نبأ بمعنى صات أو ظهر أو أخبر. وكلمة (النبي) بمعنى المنبّأ أي الذي يأتيه النبأ أو الخبر من الله تعالى.
ولقد وردت بعض الأسماء في القرآن بالوصفين معا مثل النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم في آية في هذه السورة ستأتي بعد قليل ومثل موسى وإسماعيل في آيتي سورة مريم [٥١ و ٥٤] ووردت بعض الأسماء بوصف النبي فقط مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب وهرون وإدريس في آيات سورة مريم [٤١ و ٤٩ و ٥٣ و ٥٧]. مع أن منهم من كان رسولا يقينا مثل إبراهيم وهرون ومع أن المفسرين والعلماء فرّقوا بين كلمتي النبي والرسول وقالوا إن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا «٢». فإن آية سورة الحج هذه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) قد جمعت بين الكلمتين من جهة واستعملت كلمة الإرسال للنبي والرسول معا من جهة ثانية. وقد خاطب القرآن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحيانا بصفة النبي كما جاء في آية سورة التحريم هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) وأحيانا بصفة الرسول كما جاء في آية سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا
(١) اقرأ أيضا آيات البقرة [٢١٧] والنساء [١٧] وآل عمران [٩١] ومحمد [٣٤] والتوبة [٨٥ و ١٥٦].
(٢) انظر تفسير آيات الأعراف [١٥٦- ١٥٧] في تفسير المنار مثلا.
الجز الثاني من التفسير الحديث ٢٨
433
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) وقد اجتمعت صفتا الرسول والنبي في النبي صلّى الله عليه وسلّم في آيات سورة الأعراف هذه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨).
وآيات المائدة والتحريم تسوغ القول أنهما مترادفتان. وآيات الحج والأعراف التي جمعت الكلمتين معا قد تدلّ على أن هناك فرقا بينهما إن لم نستطع إدراكه فهو على كل حال ليس من نوع الفرق الذي يراه المفسرون والعلماء فيما هو المتبادر لنا. وفحوى آية سورة الحج بخاصة يدعم قولنا.
تعليق على تعبير مَكْرَ اللَّهِ
وبمناسبة ورود هذا التعبير لأول مرة في الآيات نقول إن نسبة المكر إلى الله تعالى قد تكررت في القرآن، ومن ذلك ما جاء في مقابلة مكر الكفار من الأقوام السابقة والعرب مثل آيات سورة النمل هذه: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) بالنسبة لقوم صالح وآية آل عمران هذه: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) بالنسبة لبني إسرائيل تجاه عيسى عليه السلام وآية سورة الأنفال هذه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) بالنسبة لكفار مكة.
434
ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﱿ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ
والمكر هو الخداع والختال والتآمر على السوء وإيقاعه حين سنوح الفرصة.
ولما كان كل هذا مما يتنزّه الله عنه وهو في غنى عنه فالأولى أن يؤخذ التعبير على أنه أسلوبي لأجل بيان كون الله عزّ وجلّ أقوى منهم وأقدر عليهم مهما بدا منهم من خداع وتحايل وسوء نيّة وقصد. وأن الله مقابلهم عليه بالإحباط والعذاب والتدمير ونصر رسله وأن عاقبته السيئة ترتدّ عليهم في النتيجة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٣ الى ١٣٧]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧)
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)
435
(١) فظلموا بها: انحرفوا عنها أو تمرّدوا عليها.
(٢) حقيق على أن لا أقول على الله إلّا الحق: جدير بي أو واجب عليّ ألّا أقول على الله إلّا الحق.
(٣) نزع يده: أخرجها.
(٤) أرجه: من الإرجاء أي الإمهال.
(٥) حاشرين: محضرين وسواقين.
(٦) استرهبوهم: أثاروا فيهم الرهبة والخوف.
436
(٧) تلقف: تبتلع.
(٨) يأفكون: يكذبون ويزورون.
(٩) مكر مكرتموه: كيد دبرتموه.
(١٠) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف: يطلق تعبير من خلاف في مثل هذا المقام على المخالفة في القطع، فإذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى.
(١١) وما تنقم منا: وما تحقد علينا وتغضب منّا.
(١٢) بالسنين: بالقحط والجدب.
(١٣) يطيروا: يتشاءموا.
(١٤) طائرهم: شؤمهم وأسباب نحسهم.
(١٥) القمل: القراد.
(١٦) الرجز: العذاب أو البلاء.
(١٧) ينكثون: ينقضون عهدهم ووعدهم.
(١٨) اليمّ: البحر.
(١٩) يعرشون: كناية عن رفع البناء أو التبسّط بالعمران.
تعليق على الحلقة الأولى من قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل وتلقيناتها
هذه الآيات حلقة من سلسلة طويلة من قصص موسى عليه السلام وفرعون وبني إسرائيل. والسلسلة كما هو المتبادر استمرار للسلسلة القصصية السابقة وحلقة من حلقاتها. والآيات التي جاءت بعد نهاية السلسلة السابقة جاءت استطرادية للتعقيب على ما سبق.
وقد احتوت الحلقة قصة ما كان بين موسى عليه السلام وفرعون من حوار وما ظهر على يد موسى عليه السلام من معجزات وما كان من مشهد السحر وانتهائه بفوزه وما كان من سلسلة البلاء الذي سلّطه الله على فرعون وقومه وما انتهى إليه
437
أمرهم من الغرق ونجاة بني إسرائيل وإفضال الله عليهم بسبب استجابتهم إلى دعوة الله وصبرهم.
وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. والهدف الذي استهدفته هو نفس الهدف الذي استهدفته حلقات السلسلة السابقة وهو العظة والتذكير وضرب المثل والتثبيت كما هو واضح من خلال مقاطعها. ورسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وموقف فرعون منها وهلاكه قد أشير إليها إشارات خاطفة في السور السابقة. ومن المحتمل أن يكون بعض المسلمين أو غيرهم تطلعوا إلى المزيد من البيان عن ذلك ثم عن سيرة بني إسرائيل فاقتضت حكمة التنزيل إيراد هذه السلسلة التي هي أطول سلسلة قصصية سواء أكان في موضوعها أم في القصص القرآنية عامة باستثناء قصة يوسف عليه السلام. ومع ذلك فقد تكررت قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل في سور أخرى بعد هذه السورة مكية ومدنية أيضا حسب ما اقتضته تلك الحكمة.
ويلحظ أن السور الأخرى التي جاءت فيها هذه القصص احتوت بعض بيانات لم تحتوها هذه السلسلة حيث يبدو أن تلك الحكمة هدفت بذلك إلى استكمال الصورة.
وقصة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وبني إسرائيل واردة في أسفار الخروج والعدد والتثنية من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. وما ورد في الحلقة متسق إجمالا مع ما ورد في هذه الأسفار التي كانت متداولة بين أيدي بني إسرائيل في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما نعتقد. وتدل عليه المقارنات بينها وبين الإشارات القرآنية وهذا ما يسوغ القول بشيء من الجزم أن سامعي القرآن من العرب كانوا يعرفون ذلك لأنهم كانوا على صلة باليهود. وبذلك تستحكم العظة القرآنية في الحلقة.
وفي سورة القصص آيات فيها دلالة قاطعة على ذلك وهي: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [٤٧- ٤٨].
438
وفي الأسفار المذكورة إسهاب كثير في قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل أضعاف أضعاف ما ورد في القرآن. والمتبادر أن ما ورد في القرآن الكريم في هذه السورة وغيرها من ذلك هو ما اقتضت حكمة التنزيل إيراده بالقدر والأسلوب اللذين يتحقق بهما الهدف القرآني.
وقد يكون بين ما ورد في القرآن وما ورد في الأسفار المتداولة اليوم بعض المباينة أو يكون في الأسفار ما ليس في الآيات أو العكس. ومن ذلك مثلا إيمان السحرة وسجودهم والمحاورة بينهم وبين فرعون والمحاورة بين فرعون وقومه.
وقول فرعون سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم بعد ظهور موسى ورسالته وانتصاره على السحرة. وما تفيده العبارة القرآنية من كون السحرة من جماعة موسى وأن إيمانهم به كان تآمرا بينهم وبين موسى وكون موسى داعيا في الوقت نفسه فرعون وقومه إلى الإيمان برسالته بالإضافة إلى طلبه منهم إرسال بني إسرائيل معه إلخ.
إلخ.
وننبّه على أن خبر قتل فرعون لأبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم قد ورد في الإصحاح الأول من سفر الخروج بهذه العبارة: (كلّم ملك مصر قابلتي العبرانيات وقال لهما إذا استولدتما العبرانيات فانظرا عند الكرسي فإن كان ذكرا فاقتلوه وإن كان أنثى فاستبقياها) غير أن هذا كما هو واضح غير العبارة الواردة في الآيات. لأن ذلك عائد إلى ما قبل ظهور موسى ورسالته. وقد ورد مما ورد في الإصحاح المذكور في سورة القصص بهذه الصيغة: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)
وسياق هذه الآية يفيد أن ذلك كان قبل ولادة وظهور موسى. وقد ورد هذا بهذه الدلالة في سور مدنية ومكية أخرى.
ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات كان متداولا وواردا في أسفار وقراطيس أخرى كانت في يد اليهود وضاعت. وليس لذلك تعليل آخر لأن هذا هو المتسق مع ما ذكرناه من فكرة التدعيم والعظة في القصص ولا سيما أن القرآن كان يتلى
439
علنا ويسمعه اليهود ولا يمكن أن يكون ما جاء في القرآن جزافا.
ولقد أورد المفسرون «١» بيانات كثيرة في سياق هذه الحلقة وأحداثها ومعجزاتها. فيها ما هو متسق مع ما ورد في أسفار العهد القديم المتداولة ومنها ما ليس كذلك. وفي بعضها ما يبلغ حدّ المبالغة والإغراب، وهي معزوّة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم وعلماء الأخبار من عرب ويهود ومسلمين ولم نر طائلا في إيرادها لأن ذلك لا يتصل بالهدف القرآني الذي هو التذكير والموعظة بما يعرفه السامعون والاكتفاء بما اقتضت حكمة التنزيل إيراده منها بدون تعليق وتحشية. على أن ما احتوته كتب التفسير من ذلك قد يكون دالا على أن ما احتوته الحلقة مما كان متداولا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
هذا، وما قلناه عقب السلسلة القصصية السابقة في صدد المعجزات الربانية وكونها جزءا من القصص وكونها مع ذلك في نطاق قدرة الله وواجب الإيمان بها يصحّ قوله بالنسبة للمعجزات التي أظهرها الله على يد موسى عليه السلام.
ومن مواضع العبرة في هذه الحلقة وصف موقف فرعون وملأه من دعوة الله وآياته وما كان من بغيهم على بني إسرائيل واستكبارهم ومقابلتهم آيات الله بالسخرية والاستخفاف وما كان من انتقام الله منهم:
أولا: وما كان من مشهد السحر والتنديد به وانتصار موسى عليه السلام فيه وعدم إصرار السحرة على باطلهم وإيمانهم برسول الله حينما رأوا برهانه ساطعا.
ثانيا: وما كان من إنقاذ بني إسرائيل وقضاء الله بأن يورثهم الأرض التي باركها جزاء إيمانهم وصبرهم في أول الأمر.
ثالثا: ففي كل ذلك تذكرة وموعظة وضرب مثل وتنبيه للسامعين وإنذار للكفار منهم وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين وتثبيت لهم وردّ قاطع على كفار العرب الذين كانوا ينسبون السحر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والسيد رشيد رضا.
440
تعليق على آية وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها... إلخ
هذا، وننبّه إلى وجوب الحذر من مخادعة اليهود لبسطاء المسلمين ودعواهم أن القرآن سجّل أن الله عزّ وجلّ جعل فلسطين إرثا لهم وكتبها لهم استنادا إلى هذه الآية وما يماثلها مثل آية سورة المائدة هذه: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) فما جاء في هذه الآيات هو خاص بالزمن الذي تمّ فيه ذلك ونتيجة لما كان من استجابتهم لكلام الله وصبرهم على ما ذكرته الآية التي نحن في صددها بصراحة. وعلى ما هو متفق عليه عند المؤولين والمفسرين بدون خلاف. وبعبارة أخرى إن هذه العبارات القرآنية هي إيذان أو حكاية لموقف رباني مقابل موقف بني إسرائيل وهو الصبر. ولقد احتوى القرآن آيات بل فصولا كثيرة كثرة تغني عن التمثيل فيها إيذان رباني بتغير موقف الله إزاء بني إسرائيل بسبب تغير موقفهم. منها ما هو في صدد مواقفهم قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي زمن موسى عليه السلام وبعده. ومنها ما هو في صدد مواقفهم إزاء الرسالة النبوية «١» حيث يتبادر من ذلك أن الموقف الذي حكاه الله تعالى وآذنه في هذه العبارات ليس على سبيل التأبيد وأنه كان منوطا بموقف بني إسرائيل وأنه تغير بتغير هذا الموقف. وقد جاء هذا المعنى في آيات سورة إبراهيم هذه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ
(١) اقرأ آيات سورة البقرة [٤١- ١٤٦] وآل عمران [٧١- ١٢٠] والنساء [٤٣- ٥٦ و ١٥٧- ١٦١] والمائدة [١٢- ٣٣ و ٤١- ٤٥ و ٥١- ٧٢] والأنعام [١٤٦] والأعراف [١٤٨- ١٥٣ و ١٦١- ١٦٩] والصف [٥] والجمعة [٥- ٨] واقرأ كتابنا «القرآن واليهود» أيضا.
441
رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) ولقد احتوى الإصحاح السادس والعشرين من سفر الأحبار أو اللاويين المتداول اليوم إنذارا ربانيا رهيبا لبني إسرائيل إذا هم انحرفوا عن وصايا الله وحدوده بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم الله إياه وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم عليهم هذا نصه:
(وإن لم تسمعوا إليّ ولم تعملوا بجميع الوصايا فنبذتم رسومي وعافت أنفسكم أحكامي فلم تعملوا بجميع وصاياي ونقضتم عهدي فأنا أيضا أصنع بكم هذا.
أسلّط عليكم رعبا وسلا وحمى تفني العينين وتتلف النفس. وتزرعون زرعكم باطلا فيأكله أعداؤكم. وأجعل وجهي ضدكم فتهزمون من وجوه أعدائكم.
ويتسلّط عليكم مبغضوكم. وتفرون ولا طالب لكم. ثم إن لم تطيعوني بعد هذا زدتكم تأديبا على خطاياكم سبعة أضعاف، فأحطم تماشخ عزكم. وأجعل سماءكم كالحديد. وأرضكم كالنحاس وتفرغ قواكم عبثا. ولا تخرج أرضكم إثاءها وشجر الأرض لا يخرج ثمره. وإن جربتم معي بالخلاف ولم تشاؤوا أن تسمعوا إليّ زدتكم سبعة أضعاف من الضربات على خطاياكم. وأطلقت عليكم وحش الصحراء فتثكلكم وتهلك بهائمكم وتقللكم فتوحش طرقكم. وإن لم تتأدبوا بهذا وجريتم بالخلاف جريت أنا أيضا معكم بالخلاف. وضربتكم سبعة أضعاف على خطاياكم.
فأجلب عليكم سيفا منتقما نقمة العهد فتتجمعون إلى مدنكم وأبعث الوباء فيما بينكم وتسلمون إلى أيدي العدو. وإن لم تخضعوا لي بذلك وجريتم معي بالخلاف جريت أنا أيضا معكم بالخلاف ساخطا وأدبتكم سبعة أضعاف على خطاياكم فتأكلون لحوم بنيكم وبلحم بناتكم تقتاتون. وأدكّ مشارفكم وأحطم تماثيل شموسكم. وألقي جثثكم على جثث أوثانكم وتكرهكم نفسي. وأجعل مدنكم قفرا، ومقادسكم موحشة، ولا أشتمّ رائحة رضى منكم. وأترك الأرض بلقعا فينذهل لها أعداؤكم الذين يسكنونها وأبددكم فيما بين الأمم. وأجرّد وراءكم سيفا فتصير أرضكم خرابا ومدنكم قفرا وتسقطون ولا طالب. ويعثر الواحد بأخيه كمن يهرب من أمام السيف ولا طالب. ولا يكون لكم ثبات في وجوه أعدائكم وتبادون بين الأمم. وتأكلكم أرض أعدائكم).
442
ولقد انحرفوا انحرافات خطيرة جدا في العقيدة والسلوك والأخلاق في زمن موسى عليه السلام وبعده فنفذ الله وعيده فيهم وسلّط عليهم من ضربهم الضربات القاصمة واستولى على بلادهم ودمّر مدنهم ومعابدهم وشتتهم في أنحاء الأرض عبيدا أذلة على ما ذكرته أسفارهم وكتب التاريخ القديمة ثم آيات قرآنية عديدة في سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف والجمعة. ولقد ظلّ انحرافهم مستمرا إلى زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكانت منهم تجاهه مواقف وتصرفات كثيرة فيها انحراف ديني وأخلاقي واجتماعي خطير على ما حكته آيات قرآنية كثيرة في السور المذكورة فكان نتيجة لذلك أن ضرب الله عليهم الذلّة والمسكنة وأن باءوا بغضبه وأن آلى على نفسه أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب على ما جاء في آيات عديدة في السور المذكورة. ومن واجب المسلمين أن يعتقدوا أن الله محقق وعيده فيهم. وأنهم فقدوا ما منحهم الله إياه وكتبه لهم مما جاء في الآيات بسبب ذلك الانحراف وأن ما جاء في الآيات قد كان والحالة هذه لزمن مضى وانقضى.
ونحن نعرف أن اليهود يتمسكون أيضا بما ورد في سفر التكوين وغيره من الأسفار من وعد الله بتمليك إبراهيم وإسحق ويعقوب وأنسالهم هذه الأرض إلى الأبد. وهذه الأسفار ليست هي المنزلة من الله تعالى وقد كتبت بعد موسى عليه السلام بمدة ما بأقلام مختلفة. وطرأ عليها كثير من التحريف والتشويه. وتأثرت بالوقائع التي جرت لبني إسرائيل بعد موسى على ما سوف يأتي شرحه بعد قليل فلا تكون حجة يستطيع أن يحاجّ اليهود بها المسلمين بل وغيرهم.
تعليق على جملة رَبِّ الْعالَمِينَ في الآيات
وهذه الجملة الواردة في هذه الحلقة مرة بلسان موسى عليه السلام ومرة بلسان بني إسرائيل في الآيتين [١٠٤ و ١٢١] تتحمل تعليقا هاما. فالأسفار المتداولة اليوم التي كانت متداولة في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمكتوبة بأقلام كتّاب
443
مختلفين متعددين بعد موسى عليه السلام على ما سوف نشرحه بعد قليل وصفت الله عزّ وجلّ بربّ إسرائيل وإله إسرائيل ووصفت بني إسرائيل بأنهم شعب الله المختار الذي وعدهم بأن يجعل غيرهم من الشعوب عبيدا لهم وأباح لهم دماءهم وأموالهم وبلادهم وأمرهم بإبادتهم تعالى الله وتنزّه عن ذلك حتى أنهم رفضوا أن يشاركهم جماعة دانت بالدين اليهودي من غير جنسهم في بناء معبد أورشليم حينما سمح لهم كورش ملك الفرس بذلك وقالوا هذا معبد ربنا ونحن الذين نبنيه وحدنا. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت أن تأتي الجملة في مقامها عن لسانهم وعن لسان موسى عليه السلام لتكون تصحيحا لتحريف لا شك فيه أدّى إلى رسوخ ذلك في أذهان بني إسرائيل وتقريرا لحقيقة الأمر بكون الله تعالى رب العالمين جميعا وليس ربّ إسرائيل وإلههم وحسب «١». اتساقا مع الوصف الذي ما فتئ القرآن يصف به الله تعالى منذ أوّله على ما شرحناه في سياق سورة الفاتحة. والذي نعتقده أن وصف الله تعالى بربّ العالمين هو الذي لا بد من أن يكون موسى وهارون قد ذكراه لفرعون وقومهم وأن هذا الوصف لا بد من أن يكون واردا في سفر الشريعة الذي كتبه موسى عليه السلام ووضعه في تابوت العهد والذي احتوى ما أوحاه الله إليه من مبادئ وأحكام وشرائع ووصايا والذي انفقد ولم يصل إلينا.
وأن الديدن الإسرائيلي المتمثل بوصف الله تعالى بربّ إسرائيل وإله إسرائيل وبوصف بني إسرائيل بأنهم شعب الله المختار الذي يقف دائما معهم ضدّ شعوب الأرض هو تحريف متصل بسيرتهم وجبلتهم.
وفي سورة النساء آيتان مهمتان في هذا الباب وهما: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) حيث كانوا يقولون على ما رواه الرواة في سياق الآيتين إنهم أحباب الله وشعبه المختار ويمحو ما يرتكبونه من ذنوب وإنهم أولياء الله.
(١) انظر مثلا الإصحاح (٣٤) من سفر الخروج والإصحاحات (١٤ و ٣١) من سفر العدد والإصحاحات (٧ و ٢٠) من سفر التثنية والإصحاح (٤) من سفر عزرا.
444
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ
وهذا مما حكته عنهم آيات أخرى مثل آية البقرة هذه: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وآية سورة الجمعة هذه: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وآية سورة المائدة هذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [١٨] وكانوا ينسبون ذلك إلى الله عزّ وجلّ فجاءت آيات النساء تعلن كذبهم وافتراءهم على الله في ذلك.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٨ الى ١٦٢]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
445
(١) يعكفون: يقيمون ويواظبون: والكلمة في جملتها بمعنى يتعبدون.
(٢) تجهلون: بمعنى تخطئون ولا تعملون الحق والصواب.
(٣) متبر: خاسر وهالك.
(٤) يسومونكم: يذيقونكم.
(٥) يستحيون نساءكم: يبقون نساءكم أحياء دون الذكور.
(٦) ليمقاتنا: لموعدنا الذي وقّتنا له وقته.
(٧) صعقا: مصعوقا أو مغمى عليه.
(٨) سبيل الغي: سبيل الغواية والضلال.
(٩) حبطت: بطلت وضاعت.
(١٠) خوار: صوت البقر.
(١١) لما سقط في أيديهم: لما شعروا بالندم بسبب ذنبهم.
(١٢) أسفا: حزينا أو مشتدّ الغضب.
(١٣) يرهبون: يخشون ويخافون.
(١٤) اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا: تأويلها اختار موسى من قومه
447
سبعين رجلا لميقات مضروب من الله لهم.
(١٥) السفهاء: هنا بمعنى الجاهلين أو قليلي الفهم والعقل.
(١٦) فتنتك: امتحانك وابتلاؤك.
(١٧) هدنا إليك: رجعنا وتبنا إليك.
(١٨) الأمي: نسبة إلى أمة في قول وإلى أمّ في قول على ما جاء في كتب التفسير واللغة. وقد استعمل جمعها (الأميين) في القرآن حكاية بني إسرائيل في معنى غيرهم من الأمم كما جاء في آية سورة آل عمران هذه: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [٧٥] واستعمل جمعها في معنى غير أهل الكتاب كما جاء في آية سورة آل عمران هذه: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ [٢٠] واستعمل جمعها للدلالة على عدم إحسان الكتابة والقراءة كما جاء في آية سورة البقرة هذه: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [٧٨] واستعمل جمعها للدلالة على العرب كما جاء في آية سورة الجمعة هذه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [٢] والمتبادر أن الكلمة هنا هي من هذا المعنى الأخير. وربما أطلق هذا المعنى على العرب لأنهم غير أهل الكتاب.
(١٩) الخبائث: ضد كل ما هو طيب حلال.
(٢٠) إصرهم: الشدّة التي تثقلهم.
(٢١) الأغلال: القيود.
(٢٢) عزّروه: وقّروه وأيدوه.
(٢٣) يعدلون: يسلكون سبيل العدل فيعطون الحق ولا يأخذون إلّا الحق.
(٢٤) قطعناهم: قسمناهم أو فرقناهم.
(٢٥) أسباطا: جمع سبط. والسبط في اللغة الشجر. ويطلق على الجماعة التي من أب واحد أو شجرة واحدة في النسب. والكلمة في مقامها تعني القبائل
448
المنحدرة من أبناء يعقوب الاثني عشر وهم على ما جاء في الإصحاح (٤٦) من سفر التكوين: راؤيين البكر ثم شمعون ولاوي ويهوذا ويساكر وزبولون وجاد ودان وأشير ونفتالي ويوسف وبنيامين. وقد صارت ذرية كل واحد منهم سبطا تسمى باسمه فيقال سبط راؤيين وسبط شمعون وهكذا على ما هو مبثوث في أسفار عديدة من أسفار العهد القديم المتداولة.
(٢٦) إذ استسقاه: إذ طلبوا منه الماء.
(٢٧) انبجست: انفجرت.
(٢٨) المنّ: صمغ نباتي حلو المذاق، والسلوى: نوع من الطير، على ما وصف في سفر الخروج.
(٢٩) وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: بمعنى أنهم بأعمالهم الأثيمة وتبديلهم كلام الله لم يضرونا ولكن أضرّوا بأنفسهم وظلموها.
(٣٠) قولوا حطّة: أوّلها المؤولون في قولين: منهما أنها بمعنى اطلبوا من الله حطّ ذنوبكم أو اخضعوا لله وطأطئوا له.
(٣١) ادخلوا الباب سجدا: كناية عن الأمر بالاستشعار بالذلة والخضوع إلى الله والسجود له مقابل ما أفاضه عليهم من نعم.
تعليق على محتويات الحلقة الثانية من السلسلة وما فيها من تلقينات
وهذه حلقة ثانية من السلسلة. احتوت ما كان بين موسى عليه السلام وبني إسرائيل من مواقف وأحداث وما كان من مناجاة موسى عليه السلام مع ربّه وتنزيل الألواح عليه وتجلّيه له في الجبل وما كان من معجزات له ولإسرائيل وما كان من هؤلاء في حياته من انحراف وتعجيز وتبديل لكلام الله وما كان من نقمة الله وغضبه عليهم.
وقصد العظة والتذكير وضرب المثل واضح في هذه الحلقة وضوحها في الجز الثاني من التفسير الحديث ٢٩
449
سابقتها وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. ومعظم ما جاء فيها متسق إجمالا مع ما ترويه أسفار الخروج والعدد والتثنية من أسفار العهد القديم التي تؤرخ حقبة موسى وما بلّغه موسى عن ربّه لبني إسرائيل وسيرة بني إسرائيل في عهده. بما في ذلك ما ورد إجمالا في الآيات من ميقات موسى أربعين يوما وطلب موسى من ربّه أن يراه وقول الله له إنه لا يستطيع رؤيته وتجلّي الله على جبل سيناء وارتجافه ارتجافا شديدا وإنزال الله على موسى الألواح والشرائع والوصايا واتخاذ قوم موسى العجل وغضب موسى وإلقائه الألواح حتى انكسرت ومعاتبة موسى لهرون وضرب الله الشعب لاتخاذهم العجل وتظليل الغمام عليهم في النهار لوقايتهم من الشمس.
وإنزال المنّ والسلوى والأول مثل بزر الكزبرة ولونه كلون المقل وطعمه بعد الطبخ كطعم قطائف بزيت، والثاني نوع من الطير لأنهم تذمروا من المنّ وحده وطلبوا لحما. وتفجير عيون الماء بضرب العصا ومحاولتهم رؤية الله ونهيه لهم عن ذلك واختيار موسى سبعين رجلا وأخذهم معه إلى الجبل وإنزال الله على طائفة من بني إسرائيل عذابا من السماء...
والمتبادر أن سامعي القرآن كانوا أو كان منهم من يعرف أشياء كثيرة مما احتوته الأسفار في صدد هذه الحلقة أيضا فكان ذلك مما دعم هذا القصد أيضا.
وكما فعل المفسرون في سياق الحلقة السابقة فعلوا في سياق هذه الحلقة حيث أوردوا روايات فيها تفصيلات كثيرة في صدد ما جاء فيها من أحداث ومعجزات وصور ومواقف، معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم وعلماء الأخبار من عرب ويهود مسلمين. منها ما هو متطابق ومتسق مع ما ورد في أسفار العهد القديم ومنها ما ليس كذلك وفي بعضها ما فيه مبالغة وإغراب. وتدلّ على كل حال على أن محتويات هذه الحلقة أيضا مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الحواشي والشروح. ولم نر ضرورة إلى إيراد شيء مما ذكروه أو التعليق على ما في الحلقة من أحداث لذاتها، لأن ذلك لا يتّصل بهدف القصة القرآنية الذي هو التذكير والتمثيل بما يعرفه السامعون. وهو ما فعلناه في سياق الحلقة السابقة حيث رأينا ذلك هو الأولى والأصوب.
450
وقد يكون مباينة بين ما جاء في آيات هذه الحلقة وما جاء في الأسفار المتداولة وقد يكون بعض ما جاء في الآيات لم يرد فيها مثل المحاورة المحكية بين موسى وقومه حين ما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ومثل القرية التي أمروا بسكناها ودخول بابها ساجدين وقولهم حطة. وما قلناه في هذا الصدد في سياق الحلقة السابقة يصح قوله هنا. وكذلك ما قلناه في سياق تلك الحلقة في صدد المعجزات التي ذكرت فيها يصح قوله هنا أيضا فلا حاجة إلى التكرار.
وبعض المفسرين رووا في سياق الآيتين [٥٨- ٥٩] في سورة البقرة المشابهتين تقريبا للآيتين [١٦١- ١٦٢] أن القرية التي أمر بنو إسرائيل بسكناها هي أريحا أو قرية في جانب بيت المقدس. وأن الباب الذي أمروا أن يدخلوه سجّدا وأن يقولوا حطّة عند دخوله هو الباب المسمّى اليوم بباب حطة من أبواب حرم المسجد الأقصى. وليس لهذا سند وثيق. وليس من ضرورة للتكلّف. ولا بد من أن ذلك كان مفهوما واضحا في أذهان بني إسرائيل الذين يسمعون القرآن وواردا في أسفار كانت عندهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق آيات سورة البقرة التي تأتي في كتبهم مقدمة على سورة الأعراف أحاديث وروايات في مدى ما كان من تبديل بني إسرائيل لأوامر الله ومدى الرجز الذي أنزله الله عليهم. منها المعزوّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومنها المعزو إلى بعض أصحابه وتابعيهم. منها حديث في مدى التبديل رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجّدا وقولوا حطّة فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدّلوا وقالوا حطّة حبّة في شعرة» «١».
ومنها حديث عن ابن مسعود بدون عزو إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم قالوا: (هطا سمعاتا أزبة مزبا) «٢» وترجمتها بالعربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء.
(١) التاج ج ٤ ص ٣٥.
(٢) النصان من تفسير ابن كثير. وقد ورد النص الأول بفرق يسير في كتب التفسير الأخرى.
451
ومنها قول آخر عن ابن مسعود أنهم قيل لهم قولوا حطة فقالوا حنطة حبة حمراء فيها شعيرة «١». وقد روى المفسرون ما رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة وعن النبي عن بعض التابعين بدون عزو إلى النبي مع زيادة في البيان وهو أنهم قالوا ذلك من قبيل التمرّد والاستهزاء. ورووا عن بعض التابعين أن الرجز هو طاعون سلّطه الله عليهم فأهلك منهم خلقا عظيما.
ولقد أورد رشيد رضا هذه الروايات وتوقف في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن الأحاديث التي تروى في البيان والتفسير عن رسول الله وبخاصة في الأمور المغيّبة هي التي يصحّ أن تكون المعتمدة في هذه الأمور دون غيرها. ومما قاله فيه إن أبا هريرة لم يصرّح أنه سمع الحديث من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولذلك يعدّ مرفوعا وإن من رواته همام بن منبه وهو مثل أخيه وهب من أصحاب الغرائب في الإسرائيليات. والحق إن في الحديث شيئا غريبا وبخاصة هذا التوافق في الألفاظ العربية وهو قولهم حنطة مقابل أمرهم بأن يقولوا حطة. وبنو إسرائيل إنما كانوا يتكلمون العبرانية في زمن موسى الذي يحكي عنهم هذه المخالفة.
وعلى كل حال فالآيات صريحة الدلالة على أن الله أمرهم أمرا ففعلوا خلافه فأنزل عليهم رجزه جزاء على مخالفتهم وتمردهم.
ولا نشك في أن ماهية الأمر والمخالفة والرجز مما كان متداولا بين بني إسرائيل في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وواردا في بعض قراطيسهم وأن هذا مما تسرّب منهم إلى أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم. والله تعالى أعلم.
ومن مواضع العبرة في هذه الحلقة ما كان من انحراف بني إسرائيل منذ أوائل خروجهم من مصر مع موسى عليه السلام عن التوحيد إلى عبادة الأصنام والعجل وما كان من تعجيزهم له ونكثهم لعهد الله ومخالفتهم لوصاياه وتبديلهم أوامره بعكسها استهزاء وما كان من غضب الله عليهم وإنزاله عليهم الرجز حيث ينطوي في
(١) النصان من تفسير ابن كثير. وقد ورد النص الأول بفرق يسير في كتب التفسير الأخرى.
452
هذا تقرير كون الله تعالى قد تفضّل عليهم لما صبروا وغضب عليهم لما انحرفوا وبدّلوا ودعوة للمسلمين إلى الاعتبار بهم.
تعليق على جملة فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ
وهذه الجملة الواردة في الآية [١٤٠] تتحمل تعليقا وتنبيها كذلك. فالمتبادر الذي عليه جمهور المفسرين أن كلمة الْعالَمِينَ هنا تعني الزمن أو الظرف الذي خاطبهم موسى فيه بذلك في سياق تحذيرهم من الانحراف. وأن التفضيل هو ما كان من عناية الله تعالى بهم وإرساله موسى عليه السلام لهدايتهم وإنقاذهم.
وصيرورتهم بذلك أفضل من غيرهم الذين كانوا منحرفين عن طريق الحق والهدى.
ولقد انحرفوا بعد ذلك عن هذا الطريق ففقدوا هذه المزيّة التي كانت سبب تفضيلهم واستحقوا غضب الله ولعنته ونكاله على ما شرحناه في التعليق على آية وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا.
ونذكر في مناسبة الآية إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ في السلسلة أن مفسري الشيعة يشبهون الذين بايعوا أبا بكر رضي الله عنه في السقيفة بأصحاب العجل ويقولون إنهم سينالهم غضب الله بسبب افترائهم وافتئاتهم على حقّ علي في الإمامة كما وعد الله أصحاب العجل بمثل ذلك «١» والعياذ بالله من هذا الكفر البواح الذي يؤدي إليه الهوى الحزبي.
تعليق على جملة لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي
ولقد وقف المفسرون عند هذه الجملة وساقوا الكلام حول إمكان وعدم
(١) التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ٧٤.
453
إمكان رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة وأوردوا أقوال المذاهب الإسلامية في ذلك. ولقد علّقنا على هذا الموضوع بما فيه الكفاية في سياق سورة القيامة فلا نرى ضرورة للإعادة. وإذا كان من شيء يمكن قوله هنا فهو إن العبارة حكاية لمحاورة بين الله تعالى وموسى وقد وردت في الإصحاح (٣٣) من سفر الخروج.
وقد ورد خبر تجلّي الله على جبل سيناء وارتجافه رجفانا شديدا في الإصحاح (١٩) من هذا السفر. وإن في أخذها مستقلة وبناء حكم عليها إثباتا ونفيا تجوّزا وإخراجا لها من مقامها. والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [١٦٤] من سورة النساء حديثا أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما كلّم الله موسى كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء». وحديثا أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: «إنّ الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام وصايا كلها. فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الربّ عزّ وجلّ». وحديثا أخرجه كذلك ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: «إن الله لما كلّم موسى يوم الطور كلّمه بغير الكلام الذي كلّمه يوم ناداه فقال له موسى يا ربّ هذا كلامك الذي كلمتني به قال لا يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان.
ولي قوة الألسنة كلها وأنا أقوى من ذلك. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا يا موسى صف لنا كلام الرحمن قال لا أستطيعه قالوا فشبه لنا قال ألم تسمعوا إلى صوت الصواعق فإنه قريب منه وليس به»
. وحديثا أخرجه عبد الرزاق عن كعب قال: «إن الله لما كلّم موسى كلّمه بالألسنة كلّها سوى كلامه فقال موسى يا ربّ هذا كلامك قال لا ولو كلمتك بكلامي لم تستقم له. قال يا ربّ فهل من خلقك يشبه كلامك قال لا وأشدّ خلقي شبها بكلامي أشدّ ما تسمعون من الصواعق». وقد نبّه ابن كثير على ضعف أسناد هذه الأحاديث وقال بالنسبة للأخير إنها مما يحكى عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل وفيها الغثّ والسمين.
ويتبادر لنا أن هذا القول يصحّ أن يقال بالنسبة للأحاديث الأخرى حيث نرجح أنها من روايات مسلمي اليهود. والله تعالى أعلم.
454
تعليق على الآيتين سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ... إلخ وتلقيناتهما
في السلسلة آيتان تبدوان من جهة غير متصلتين بموضوع السلسلة ومن جهة منسجمتين في نظمهما وهما الآيتان [١٤٦ و ١٤٧] ولقد روى المفسرون وقالوا إنهما تتمة لكلام الله تعالى لموسى عليه السلام كما رووا وقالوا إنهما خطاب لسامعي القرآن. والاحتمالان واردان وقد رجّح الطبري القول الثاني. وعلى هذا الترجيح تكونان استطراديتين ليكون فيهما بالمناسبة إنذار لسامعي القرآن. على أن إطلاق العبارة فيهما تجعل هذا الإنذار للسامعين واردا سواء أصحّ القول الثاني أم الأول.
والإنذار في الآيتين شديد عنيف للذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ويقفون مواقف الفساد والعناد والبغي والصدّ عن آيات الله. والذين يرون الحق واضحا فلا يعترفون به ويرون سبيل الرشد بيّنا فلا يسيرون فيه. ثم يسيرون في سبيل الغيّ والضلال عن علم وقصد. وإطلاق العبارة يجعل محتوى الآيتين شاملا لكل من يتّصف بهذه الصفات ويقف مثل هذا الموقف في كل ظرف ومكان وكونهم لا يمكن أن يكونوا موضع رضاء الله وتوفيقه. وبذلك تكونان مستمد تلقين بليغ مستمر المدى. ولقد تكررت الآيات المكيّة والمدنيّة في ذمّ المستكبرين والتنديد بهم على ما سوف يأتي بعد حيث ينطوي في هذا مظهر من مظاهر عناية حكمة التنزيل بتوكيد التنبيه على هذا الأمر بسبيل حمل المسلمين على تجنّب هذا الخلق المذموم.
وهناك أحاديث نبوية يتساوق تلقينها مع التلقين القرآني في صدد ذمّ الكبر والمستكبرين والتحذير من ذلك رأينا إيرادها في هذه المناسبة. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة. كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كلّ
455
عتلّ جوّاظ مستكبر» «١». وحديث رواه أبو داود ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار» «٢». وحديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء» «٣». وحديث رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشر المتكبّرون يوم القيامة أمثال الذرّ في صور الرجال يغشاهم الذلّ من كلّ مكان» «٤».
هذا، والشطر الثاني من الآية الأولى يزيل ما يمكن أن يرد من توهّم في كون عبارة سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الواردة في شطرها الأول تعني أن الله عزّ وجلّ يسدّ الباب دون اهتداء الناس بآياته. فهو قد أنزل آياته ليتدبّرها الناس ويهتدوا بها فلا يصحّ فرض عكس ذلك. والعبارة هي بسبيل التنديد بالمتكبرين المنحرفين وإعلان كونهم سيكونون محرومين من رضاء الله بسبب تكبرهم وانحرافهم. ومن قبيل وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ إلخ في آيات البقرة هذه: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) ومن قبيل عبارة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ في آية سورة إبراهيم هذه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧) وعبارة وَالظَّالِمُونَ ما
(١) التاج ج ٥ ص ٢٩- ٣٠. [.....]
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر المصدر نفسه.
(٤) انظر المصدر نفسه.
456
لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ في آية سورة الشورى هذه: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨).
تعليق على جملة إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ
هذه الجملة جاءت في سياق ما كان من أخذ الله بعض رؤساء بني إسرائيل بالرجفة على لسان موسى عليه السلام. ومع أنها كما هو ظاهر حكاية لقول موسى فإن بعضهم وقفوا عندها وتوهموا أن فيها ما يفيد أن الله تعالى يضع الناس في مواقف لا مناص لهم منها ثم يؤاخذهم عليها ويعاقبهم بها كما جاء في بيت الشعر الذي يكرّر في كثير من المناسبات المماثلة:
ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء
وقد اعتاد بعضهم أن يسوقوا الجملة في الاحتجاج بها على تقدير الله الأزلي على أناس بأعيانهم الهدى والضلال بزعمهم وبدون ما سبب منهم. ولقد علّقنا على هذا المعنى في مناسبات سابقة بما فيه المقنع في رأينا وتنزيه الله عزّ وجلّ عن العبث ونقض حكمته في دعوة الناس إليه بواسطة رسله وترتيب الثواب والعقاب عليهم حسب مواقفهم من هذه الدعوة وسلوكهم نحو الله والناس.
ونقول هنا بمناسبة العبارة إن الإمعان فيها يجعل التوهم الذي يرد منها في غير محله. فهي أولا: حكاية لقول موسى كما قلنا وليست تقريرا قرآنيا مباشرا.
وثانيا: إن معنى فِتْنَتُكَ وبخاصة في مقامها ليس هو الإغواء والإضلال والافتتان وإنما هو الاختبار والامتحان. وهذا ما قرّره الطبري وغيره. فالله يختبر إيمان الناس وأخلاقهم ببعض الأمور فيأمرهم بأشياء وينهاهم عن أشياء ويكلفهم بأشياء. فمن كان ضعيف الإيمان والصبر ضلّ وغوى. ومن كان قويا في ذلك ظلّ على هداه ونفذ أوامر الله. وهذا المعنى ملموح في آيات سورتي البقرة وإبراهيم التي أوردناها في التعليق السابق. والعبارة قد وردت على لسان موسى عليه السلام
457
في هذا المعنى. فالوفد الإسرائيلي الذي سمع كلام الله تعالى طمع، فقال لموسى عليه السلام: أرنا الله جهرة كما ذكر ذلك في آية سورة البقرة هذه التي ذكرت أن الله أخذهم بالصاعقة: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) وهذا نفس الشيء الذي حكته الآية التي جاءت فيها العبارة- وليس بين الصاعقة والرجفة تناقض- لأنهم أظهروا ضعفهم أمام الاختبار الرباني وتجاوزوا الحدود في طلبهم وطمعهم. على أن في الآية التي وردت فيها هذه العبارة بالذات ما يزيل أي توهم حيث احتوت تقريرا ربانيا بأن الله سيكتب رحمته التي وسعت كل شيء للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. حيث ينطوي في ذلك أن الضلال والهدى إنما يجري بسنّة الله عزّ وجلّ على الناس حسب مكتسباتهم واختيارهم وسجاياهم.
تعليق على جملة قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إلخ من الآية [١٥٦]
وهذه الجملة تتحمل تعليقا خاصا. والمتبادر من نظم الكلام أنها جواب من الله عزّ وجلّ إلى موسى الذي حكى أول الآية مناجاته لله وطلبه أن يكتب له ولقومه في الدنيا حسنة وفي الآخرة وإعلانه أنهم هادوا إليه. غير أنها شاملة المدى كما يبدو من التمعّن فيها لقوم موسى ومن بعدهم وهي بسبيل تقرير وعد الله تعالى بأن يتغمّد برحمته التي وسعت كل شيء الذين يتّصفون بالصفات المذكورة فيها التي فيها جميع أسباب الصلاح والنجاة في الدنيا والآخرة. وينطوي في الآية دعوة الناس جميعهم إلى الاتصاف بها لينالوا رحمة الله الواسعة وتوفيقه وعنايته.
وفي الشطر الثاني تخصيص لما جاء مطلقا في الشطر الأول. فرحمة الله إنما ينالها المتّصفون بتلك الصفات وحسب. وهذا الشطر يزيل ما يمكن أن يتبادر إلى الوهم من عبارة عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ بكون الله تعالى يصيب بعذابه من يشاء من الناس بدون سبب منهم حيث يقتضي من الجواب الرباني أن يكون العذاب
458
من نصيب الذين لا يتّصفون بالصفات المذكورة. وهذا هو المتّسق مع التقريرات القرآنية التي مرّت أمثلة عديدة منها.
وهذا وذاك يجعل الاتكاء على هذه الآية بسبيل تأييد المذاهب والخلافات الكلامية بين الجبر والاختيار في غير محله. ويجعل أيضا ما يفعله بعض المسلمين من اقتطاع جملة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ والتبشير بها إطلاقا غير سليم لأنها جزء من آية بل من سياق يفيد أن الله إنما يكتب رحمته للذين يتّصفون بالصفات المذكورة فيها. ويفعل هذا بعض المسلمين في غير هذه الجملة أيضا. والحق يوجب على المسلم أن يستوعب كل الآية بتمامها ومع السياق السابق واللاحق لها حتى لا يحمّل العبارات القرآنية غير ما تحمله أو أكثر مما تحمله.
ولقد أورد ابن كثير بضعة أحاديث نبوية رواها الإمام أحمد في سياق هذه الآية. منها حديث عن جندب بن عبد الله البجلي قال: «جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلّى خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعد ذلك أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللهمّ ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
أتقولون هذا أضلّ أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟ قالوا: بلى، قال: لقد حظرت رحمة واسعة. إن الله عزّ وجلّ خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنّها وإنسها وبهائمها. وأخّر عنده تسعا وتسعين رحمة. أتقولون هو أضلّ أم بعيره»
. وحديث عن سلمان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ لله عزّ وجلّ مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق. وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخّر تسعا وتسعين إلى يوم القيامة». ولقد روى شيئا من هذه الأحاديث الشيخان والترمذي بشيء من الفرق حيث رووا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» «١». ورووا عنه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة
(١) التاج ج ٥ ص ١٤٣.
459
واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» «١».
ومن الحكمة الملموحة في الأحاديث التبشير والتطمين بسعة رحمة الله لخلقه في الدنيا والآخرة.
تعليق على ذكر الزَّكاةَ في الآية [١٥٦]
وهذه هي المرة الأولى التي ترد فيها كلمة الزَّكاةَ بصيغتها الاصطلاحية في آية مكيّة. وقد وردت قبل بهذه الصيغة في آية مدنية وهي الآية الأخيرة من سورة المزمل. ووردت بصيغة مَنْ تَزَكَّى في إحدى آيات سورة الأعلى. ولقد علّقنا على الموضوع بما يغني عن التكرار. وكل ما يمكن أن يقال هنا أن صيغة الآية قد تفيد معنى الحثّ على إيتاء الزكاة والتنويه بمن يؤتونها. وقد تفيد معنى أن أناسا من الذين آمنوا كانوا يؤتون الزكاة فعلا. ونحن نرجّح أن الآية احتوت المعنيين. ونرى فيها تدعيما لما قلناه في التعليق الذي كتبناه في تفسير سورة المزمل من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد فرض على الميسورين من المسلمين أداء شيء من أموالهم باسم زكاة منذ عهد مبكر. والله أعلم.
تعليق على الآية الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ والآية التالية لها وما فيهما من خطورة ودلالة في صدد الرسالة المحمدية
وفي هذه الحلقة آيتان في صدد الدعوة إلى تصديق النبي صلّى الله عليه وسلّم واتباعه وشمول دعوته وتنويه بالذين اتبعوه وهما الآيتان [١٥٧- ١٥٨].
(١) التاج ج ٥ ص ١٤٣.
460
ولقد روى الطبري عن قتادة والهذلي من علماء التابعين أنه لما نزلت عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وهي الآية السابقة للآيتين، قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فأنزل الله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فقال النصارى واليهود نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات الله وتمنوا أن تكون الآية فيهم فأنزل الله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ إلخ الآية. وروى كذلك عن نوف البكالي وهو يهودي الأصل أن موسى لما انطلق بوفد بني إسرائيل كلّمه الله فقال إني بسطت لهم الأرض طهورا ومساجد يصلّون فيها حيث أدركتهم الصلاة إلّا عند مرحاض أو قبر أو حمام. وجعلت السكينة في قلوبهم وجعلتهم يقرأون التوراة عن ظهر ألسنتهم، فذكر موسى ذلك لبني إسرائيل فقالوا لا نستطيع أن نحمل السكينة في قلوبنا فاجعلها لنا في التابوت ولا نستطيع أن نقرأ التوراة إلّا نظرا. ولا نصلي إلّا في الكنيسة فقال الله فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة حتى بلغ أولئك هم المفلحون. فقال موسى عليه السلام: يا ربّ اجعلني نبيهم، قال: نبيهم منهم.
قال: اجعلني منهم، قال: لن تدركهم.
والتفكك والغرابة باديتان على الروايتين. وينقض الأخيرة منها نصّ الآية الثانية التي تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالهتاف بالناس بأنه رسول الله إليهم جميعا. وليس شيء منها واردا في كتب الأحاديث المعتبرة.
والذي يتبادر لنا أن الآيتين قد جاءتا استطرادا بعد الآية السابقة لتبين الأولى منهما هوية الذين وعدتهم الآية السابقة برحمة الله الواسعة أو لتكون بدلا بيانيا عنها وهم اليهود والنصارى الذين يتبعون الرسول النبي الذي يجدون صفاته في التوراة والإنجيل الذي من صفاته ورسالته أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإباحة الطيبات لهم وتحريم الخبائث عنهم وتحريرهم من القيود والتكاليف الشديدة التي كانت مفروضة عليهم ولم تعد حكمة الله تقتضي دوامها في عهد هذا النبي. ولتأمر الثانية النبي صلّى الله عليه وسلّم بالهتاف بأنه رسول الله إلى الناس جميعا وأنه مؤمن بالله وبكلماته
461
أي كتبه المنزلة السابقة، وأنه يدعوهم إلى اتباعه، كأنما أريد بهذا توجيه الخطاب لأهل التوراة والإنجيل بخاصة وإعلانهم بأن رسالته ليست خاصة بالعرب الأميين (غير الكتابيين) الذين هو منهم، وإنما هي شاملة لهم ولغيرهم من جميع الأجناس والألوان والأديان.
وتعدّ الآيتان بما احتوتاه من أهمّ جوامع الكلم القرآنية كما تعدّ الأهداف التي تقررانها جماع أهداف الدين الإسلامي ومبادئه، وخير ما يمكن أن تستهدفه الشرائع والأديان لتحقيق السعادة والفوز والنجاح في الدنيا والآخرة. وقد جاءتا في ذات الوقت لتمهد السبيل لإقبال اليهود والنصارى على الإيمان بالرسالة المحمدية ولفتح الباب على مصراعيه لتكوين وحدة أخوية إنسانية عامة في دين واحد يحتوي أسس الأديان السماوية ويعترف بكتبها وأنبيائها ويرفع الإصر والأغلال عن الناس ويزيل من بينهم المبهمات والمشكلات والخلافات، ويقوم على أساس الأمر بكل ما عرف أنه خير وصلاح والنهي عن كل ما عرف أنه منكر وفساد وإباحة كل ما عرف أنه طيب وتحريم كل ما عرف أنه خبيث.
ولما كانت هذه الآيات مكية ومبكرة في النزول فإن فيها دلالة على أن الرسالة المحمدية حملت منذ بدئها المهام العظمى التي ذكرتها الآية الأولى، وعلى أن صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت موجودة في التوراة والإنجيل يجدها اليهود والنصارى فيهما. وعلى أن فريقا منهم اعترفوا بمطابقة صفاته على ما في أيديهم من الكتب وآمنوا به في وقت مبكر من العهد المكي. وعلى أن هذه الرسالة كانت منذ البدء رسالة عامة لجميع الناس والملل، وردا على الذين يزعمون غير ذلك استدلالا من بعض آيات وجهت للعرب خاصة، وغير مدركين ما يمكن أن يكون في ذلك من حكمة وخصوصية اقتضتها ظروف الخطاب والدعوة والأساليب مما سوف نشرحه في مناسباته. وهذا التعميم قد أكّدته إشارات وآيات عديدة منها ما سبق ونبهنا عليه فضلا عمّا في القرآن المدني من مؤيداته الكثيرة.
462
ولقد كان ما احتوته الآية [١٥٧] من إشارة إلى أن اليهود والنصارى يجدون صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهداف دعوته فيما بين أيديهم من التوراة والإنجيل موضوع جدل وتشادّ في مجال الإنكار والإثبات بين المسلمين وأهل الكتاب.
ونقول إن الآية تقول هذا بصراحة وتوجه الخطاب بخاصة إلى اليهود والنصارى، ومنهم من كان يسمعه وجاها ومنهم من آمن به نتيجة لذلك. فليس مما يعقل- ونقول هذا من باب المساجلة- أن يكون ما تقوله الآية جزافا لا يستند إلى حقيقة ما أو أساس ما فيما كان في أيدي اليهود والنصارى من أسفار في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولا يستطيع أحد أن ينفي ذلك أو يجزم بأن ما كان في أيديهم في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم هو نفسه الذي يتداولونه اليوم بدون نقص أو زيادة في النصوص وأسماء الأسفار. والتوراة والإنجيل اللذان تذكرهما الآية هما كتابان منزلان من الله عزّ وجلّ على موسى وعيسى عليهما السلام. وهذا هو المقصود بهما على ما تفيده آيات كثيرة سيأتي إيرادها في تعليق آخر يأتي بعد هذا على التوراة والإنجيل.
والمتداول في أيدي اليهود والنصارى اليوم أسفار كثيرة العدد كتبت بعد موسى وعيسى بأقلام بشرية شابها كثير من المبالغة والمناقضة والإغراب. وفي القرآن دلائل تفيد أنه كان في أيدي اليهود والنصارى في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم توراة وإنجيل يصحّ عليهما وصف القرآن على ما سوف نورده في التعليق الآتي. وفي أسفار العدد والخروج والتثنية والملوك وعزرا من أسفار العهد القديم ما يفيد أن كتابا باسم التوراة كتبه موسى بيده وفيه ما تلقّاه عن الله من وصايا وتعاليم وشرائع. والمتبادر من العبارة القرآنية أن هذا هو الذي كان فيه صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهو مفقود. وهناك إنجيل معروف باسم إنجيل برنابا أحد الرسل الذين حملوا راية التبشير عقب وفاة عيسى عليه السلام «١» فيه نصوص متفقة مع نصوص القرآن عن عيسى عليه السلام وولادته وحياته ورسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفاته. ومهما تكن المآخذ التي يوجهها رجال الدين النصراني إلى هذا الإنجيل فإن نصوص القرآن الذي لا يشك أحد في
(١) اقرأ سفر أعمال الرسل حيث يذكر برنابا ونشاطه في الدعوة والتبشير.
463
أنه يرجع تاريخيا إلى أربعة عشر قرنا دليل قاطع على أن في ما كان متداولا في أيدي اليهود والنصارى من أسفار إشارات إلى صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم ورسالته. فقد جاء في سورة الصف مثلا: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [٦] وهناك آيات تذكر أن أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلّى الله عليه وسلّم كما يعرفون أبناءهم ويعرفون أن الكتاب المنزل عليه هو حقّ من الله وأن ما أنزل إليه هو حق كما يعرفون أبناءهم مثل آية سورة البقرة هذه:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) وآية سورة الأنعام هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وهذه أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)
مما لا يمكن أن يكون إلّا بسبب ما رأوه من مطابقة تامة بين صفاته وبين ما في أيديهم من كتب.
على أن في أسفار العهد القديم والعهد الجديد المتداولة اليوم إشارات عديدة يمكن أن تكون من جملة ما يدلّ على بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصفاته. ومن ذلك مثلا عبارة مجيء المعزى بعد انطلاق عيسى عليه السلام حيث جاء في الإصحاح الخامس عشر من إنجيل يوحنا هذه العبارة: (ومتى جاء المعزى «١» الذي أرسله إليكم من عند الآب روح الحق الذي من الآب ينبثق فهو يشهد لي). وفي الإصحاح السادس عشر هذه العبارة: (إن في انطلاقي خيرا لكم لأني إن لم أنطلق لم يأتكم المعزى ولكني إذا مضيت أرسلته إليكم. ومتى جاء يبكت العالم على الخطيئة وعلى البرّ وعلى الدينونة). وقد أوردنا العبارة على علّاتها ونعتقد أن السيد المسيح الذي ورد في القرآن عن لسانه أنه عبد الله ورسوله لا يمكن أن يقول قولا يشتمّ منه أنه غير ذلك. وفي إنجيل برنابا نصوص كثيرة تماثل ما ذكره القرآن عن
(١) هذه العبارة مأخوذة من النسخة الكاثوليكية وقد جاء بدلها في النسخة البروتستانتية (كلمة البارقليط).
464
عيسى وأقواله عن بعثة النبي ومن جملتها: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد). وإنكار النصارى له لا يقدّم ولا يؤخّر لأن هذه الحقائق قد ذكرت في القرآن الذي ذكر أن من أهل الكتاب اليهود والنصارى من آمن بالنبي وصدّق بالقرآن وأعلن أنه مطابق لما عندهم من الحق. مما سوف نورد نصوصه بعد.
وبعض المبشرين يقولون إن البارقليط أو المعزى هو روح القدس. وروح القدس هو جزء من الله في عقائدهم والعبارة الإنجيلية تفيد أن الذي سيأتي هو شخص مرسل من الله لينذر ويبكت ويأمر بالبرّ والتقوى. وكل هذا صفات رسول إلهي وليست صفات الله...
ولقد عقد رشيد رضا في الجزء التاسع من تفسيره في سياق تفسير سورة الأعراف وهذه الآيات فصلا طويلا على هذا الأمر نبّه فيه إلى أمور عديدة ليثبت أنه لا يمكن إلّا أن يكون الأنبياء السابقون للنبي صلّى الله عليه وسلّم قد نبهوا إلى رسالته وظهوره وأن يكون ذلك مذكورا في ما نزل عليهم من كتب الله وعلى أن عدم ذكر ذلك بصراحة لا ينفي هذا وإنما يثبت التحريف والإخفاء ثم أورد بعد ذلك ثاني عشرة بشارة مستمدة من نصوص أسفار العهد القديم والأناجيل وناقش الشبهات التي يوردها بخاصة المبشرون. وأورد من الحجج والأقوال ما فيه المقنع لراغبي الحق والحقيقة والهدى بصواب استنتاجاته وقوّة حججه وبعدم قيام شبهات المشتبهين على أسس صحيحة.
ومما يدعم هذا ما احتواه القرآن من مشاهد وإشارات تدلّ على أن من أهل الكتاب في مكة والمدينة أو وفودهم- وفيهم الأحبار والرهبان والقسس والراسخون في العلم- من آمنوا بالرسالة النبوية وصدّقوا بما جاء في القرآن وقرروا أنه متطابق مع ما عندهم كما جاء في الآية التي نحن في صددها ثم في آيتي آل عمران هذه: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ الجزء الثاني من التفسير الحديث ٣٠
465
وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وآية سورة آل عمران هذه أيضا:
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) وآية سورة النساء هذه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) وآيات سورة المائدة هذه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤). وآية سورة الأنعام هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وهذه:
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وآية سورة الرعد هذه: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وآيات سورة الإسراء هذه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) وآيتي سورة القصص هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣). وآية سورة الأحقاف هذه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وآية سورة العنكبوت هذه: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ
466
وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ (٤٧).
وفي كل هذا شواهد عيانية مكية ومدنية حاسمة لا يسع منصفا أن يكابر فيه حتى من الكتابيين أنفسهم فيما نعتقد.
ويروي المفسرون بعض الأحاديث في سياق الآيتين، منها ما ورد في الكتب الخمسة، وفيها كذلك شواهد عيانية منها حديث أورده ابن كثير ورواه الإمام أحمد عن أبي صخر العقيلي عن رجل من الأعراب قال: (جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله فلما فرغت من بيعي قلت لألقينّ هذا الرجل فلأسمعن منه قال فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها، يعزّي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها فقال رسول الله أنشدك الله بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي فقال برأسه هكذا أي لا، فقال ابنه إي والذي أنزل التوراة إنّا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنك رسول الله فقال رسول الله أقيموا اليهودي عن أخيكم. ثم ولي كفنه والصلاة عليه). وقد قال ابن كثير هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح عن أنس.
وأورد ابن كثير حديثا طويلا رواه الحاكم في المستدرك عن هشام بن العاص خلاصته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثه مع رفيق له إلى هرقل لدعوته إلى الإسلام وإن هرقل سأله عن صفات رسول الله وعاداته ودعوته ثم صدّق أنه هو النبي الموعود وقال أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي وإني كنت عبدا له أشركه في ملكي ثم ما لبث أن مات. وهناك حديث طويل آخر يرويه البخاري ومسلم عن أبي سفيان خلاصته أن النبي بعث مع دحية الكلبي إلى هرقل كتابا بالدعوة إلى الإسلام فأحبّ هرقل أن يعرف أحوال النبي وأخباره فأمر بالبحث عن جماعة من مكة فأتي له بأبي سفيان فسأله عن أحوال النبي وأخباره وعاداته فصدقه في كل جواب عن كل سؤال سأله إياه فقال له إن يك ما تقوله حقا فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن
467
أظنه منكم ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي «١».
وأورد الطبري حديثا متسلسلا عن عطاء بن يسار قال: «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة؟ قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن. يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وحرزا للأميين. أنت عبدي ورسولي اسمك المتوكّل ليس بفظ ولا غليظ.
ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلّا الله ويفتح به قلوبا غلفا. وآذانا صما وأعينا عميا. قال عطاء: ثم لقيت كعبا فسألته فما أخلف حرفا وزاد بعد قوله ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح»
.
وهناك آيات تندّد باليهود لأنهم كفروا برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن مع أنهم كانوا يعرفون أنهما حق ويستفتحون أي يزهون ويتفاخرون بهما على العرب قبل الإسلام حيث كانوا يقولون لهم إنهم سيكونون معه حزبا واحدا. وكان ذلك حسدا وغيظا مما حسبوه تهديدا لمراكزهم ومصالحهم مثل ما جاء في آيات سورة البقرة هذه: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) حيث ينطوي في الآيات شاهد قرآني صريح على أن اليهود كانوا يعرفون صفات النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ولقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به
(١) التاج ج ٤ ص ٦٧- ٦٨. وسنورد نصّ الحديث في سياق تفسير الآية [٦٤] من سورة آل عمران لأن الحديث روي في مناسبتها.
468
إلّا كان من أصحاب النار» «١». حيث ينطوي في الحديث تساوق مع القرآن الذي يقرّر أن رسالته لجميع الناس بما فيهم اليهود والنصارى وكون النبي صلّى الله عليه وسلّم موقنا أعمق يقين بأن أسفارهم قد وصفته وبشّرت به وأنهم مأمورون فيها بالإيمان برسالته حين يبعثه الله وأنهم يظلون ملزمين بذلك إلى أبد الدهر. وآيات سورة البيّنة وبخاصة الآية السادسة منها وهي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) صريحة بأن القرآن يصف كل جاحد لرسالة النبي من أهل الكتاب بعد أن بلغتهم كافرين مستحقين للنار وخالدين فيها كذلك.
ومن الجدير بالذكر أن الإسلام ظلّ ينشد في اليهود والنصارى بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا. فقد كان في بلاد الشام ومصر طوائف كبيرة من اليهود فتضاءل عددها لإقبال الكثير منهم على الإسلام. ولقد كانت النصرانية سائدة في هذه البلاد وفي العراق العربي أيضا فلم يكد ينتهي القرن الهجري الأول حتى دان أكثرية النصارى الكبرى في هذه البلاد بالإسلام. ولقد كانت هذه الأكثرية على مذهب اليعاقبة والنساطرة الذي يقول بوحدة طبيعة المسيح وكونها مزيجا من اللاهوتية والناسوتية. ولقد كانت الدولة الرومانية صاحبة السلطان في بلاد الشام ومصر على مذهب آخر يعرف بالملكاني ويقول بثنائية طبيعة المسيح وكونه إلها كاملا وإنسانا كاملا. وكان بين أهل هذا المذهب وأهل المذهب الأول نزاع وشقاق وقتال. وتعرّض هؤلاء لاضطهاد الدولة التي كانت تدين بالمذهب الثاني، فمن المحتمل كثيرا أن يكون أصحاب المذهب الأول وجدوا تطابقا ما بين مذهبهم وتقريرات القرآن عن المسيح التي منها أنه إنسان وأنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه كما جاء في آية سورة النساء [١٧١] فأقبلوا على الإسلام ووجدوا فيه منقذا روحيا وسياسيا لهم في آن واحد. وبعض الأغيار يزعمون أن الذين آمنوا من اليهود والنصارى بعد النبي إنما أسلموا بقوة السيف. وهذا افتراء محض يكذبه إيمان من آمن منهم في حياة
(١) التاج ج ١ ص ٣٠.
469
النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن رأوا صدق أعلام نبوته وصدق القرآن ويكذبه احتفاظ فريق من اليهود والنصارى في هذه البلاد عبر الأحقاب الطويلة التي كانت فيه تحت السلطان الإسلامي «١».
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخطورة ما احتوته الآية الأولى من مهام الرسالة المحمدية العظمى وبخاصة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستحق أن يكون موضوع تعليق خاص
ولقد تكرر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن المكي والمدني بأساليب متنوعة. منها ما هو في صيغة الأمر من الله عزّ وجلّ للمؤمنين كما جاء في آية سورة آل عمران هذه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) ومنها ما هو في صيغة التنويه بالمؤمنين لأنهم يفعلون ذلك كما جاء في آية أخرى من سورة آل عمران أيضا وهي: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [١١٠] وآيات سورة التوبة هذه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) والتَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ومنها بصيغة تفيد أن ذلك سيكون شأن المؤمنين حينما يمكّنهم الله في الأرض كما جاء في آية سورة الحج هذه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) ومنها بصيغة
(١) هناك إيضاحات وتعليقات أخرى في صدد المسيح عليه السلام ستأتي في تفسير سور آل عمران والنساء والمائدة ومريم والزخرف.
470
التنديد بالمنافقين لأنهم يفعلون عكس ذلك كما جاء في آية سورة التوبة هذه:
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) ومنها بصيغة التحذير من اتباع خطوات الشيطان الذي يأمر بالمنكر كما جاء في آية سورة النور هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [٢١].
ويبدو من هذه الآيات عناية حكمة التنزيل بهذا الأمر وكونه:
أولا: من المبادئ القرآنية المحكمة المفروضة على المسلمين في كل ظرف ومكان.
ثانيا: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات والخصائص التي يجب أن تتحقق بالمسلمين الصادقين أو تكون مظهرا من مظاهر سلوكهم الناتج عن صدق إسلامهم وإيمانهم وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
ولقد روى الترمذي عن أبي هريرة حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» «١». مما فيه توكيد لهذا الواجب المفروض على المسلمين بأسلوب آخر وإنذارهم إذا قصّروا فيه.
واستنادا إلى القرآن والسنّة يجمع العلماء على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على المسلمين بمختلف الفئات التي يتألفون منها رجالا ونساء وهيئات وحكومات. وإذا لم يقم به من له القدرة والاستطاعة والمجال أثم جميعهم لتقصيرهم في واجب من أهمّ واجبات الشريعة الإسلامية.
والكلمتان عامتا المدى. ويمكن أن يقال إن المعروف هو كل ما ورد في القرآن والسنّة النبوية من صفات وأخلاق وأفعال حسنة يجب التزامها والتحلّي بها
(١) التاج ج ٥ ص ٢٠٥.
471
وعملها. وكل ما تعارف المجتمع الإسلامي على أنه حقّ وخير وعدل وبرّ وصالح ونافع وطيب وكرامة. والمنكر هو كل ما ورد في القرآن والسنّة النبوية من صفات وأخلاق وأفعال سيئة يجب اجتنابها وكل ما تعارف المجتمع الإسلامي على أنه شرّ وظلم وباطل وفاسد وضارّ وخبيث ومهانة بحيث يقال بناء على ذلك إن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل المبادئ القرآنية الاجتماعية التي من شأنها إصلاح المجتمع وإسعاد الإنسانية وبثّ روح الحق والعدل والخير والبرّ فيه وتقويم ما يكون فيه شذوذ وانحراف واعوجاج وفساد وظلم. وإن عموم الكلمتين ينطوي على حكمة عظيمة الشأن وهو مسايرة هذا المبدأ لجميع الظروف واحتمالات التبدّل والتطوّر فيما يكون خيرا وعدلا وصالحا وشرا وظلما وفسادا وباطلا في كل ظرف ومكان فيما لا يكون فيه نصّ صريح من قرآن وسنّة أو إجماع وتواتر بين المسلمين منذ الصدر الإسلامي الأول. وهذا من مرشحات تعاليم القرآن للخلود.
ويتبادر لنا من روح الآيات والحديث النبوي أن هذا الواجب مترتّب على المسلمين جميعهم على اختلاف مراكزهم في المجتمع، مع ملاحظة هامة في صدد ذلك وهي أنه بالنسبة للأمور العامة التي لها صلة بحياة المجتمع والجماعات والتي لا يكفل النجاح فيها إلّا بتضامن الجماعات والتي تحتاج إلى حسن تقدير لما يجب وما لا يجب وما يجوز وما لا يجوز ثم إلى ما يحتاج إلى حسن الاضطلاع بالواجب والمضي فيه يترتّب واجب الأمور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها على الجماعات والمنظمات الاجتماعية. وبالنسبة للأمور التي لا بدّ لها من الهيمنة والتنفيذ والقوّة للحيلولة دون الشغب والفوضى والعيث في الأرض فسادا أو حمل الناس على العمل النافع الذي فيه مصلحة عامة وردعهم عن العمل الضارّ يترتب هذا الواجب على من بيده السلطان. أما بالنسبة للأمور الأخلاقية والخاصة الواضحة التي لا يخفى وجه الصواب والحق والعرف الصالح والنفع والخير والخطأ والباطل والضرر والشرّ فيها ولا ينجم عن القيام بالواجب نحوها من قبل الأفراد فوضى ولا مفسدة عامة فهي مجال الأفراد أيضا بالإضافة إلى الجماعات والسلطان. فكثير من الأفراد يهملون الالتزام بالآداب العامة والأخلاق والأفعال
472
والصفات الكريمة والواجبات الاجتماعية الإسلامية. بل ويتعمدون إهمالها والإتيان بما يناقضها. وقد لا يكون أمرهم مكشوفا للجماعات والسلطان وقد لا يكون أمرهم في حاجة إلى جماعات وسلطان. ثم قد يكون هناك مطالب وشؤون متعارف على معروفيتها ومنكريتها ولا تحتاج إلى جماعات وسلطان للحضّ عليها والنهي عنها. ففي مثل هذه الحالة يترتب من دون ريب على الأفراد القادرين على الاضطلاع بالواجب ويكونون آثمين في التنصير فيه.
وليس الحديث النبوي الذي أوردناه هو كل ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من أحاديث في هذا الأمر الخطير. فقد روى أبو داود والترمذي عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحلّ لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: ٧٨- ٧٩] ثم قال: والله لتأمرن بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذن على يديّ الظالم ولتأطرنّه على الحق أطرا ولتقصرنّه على الحق قصرا أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم» «١». وحديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» «٢». وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أسامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرّحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى
(١) التاج ج ٥ ص ٢٠٤.
(٢) المصدر نفسه ص ٢٠٢- ٢٠٣.
473
كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه» «١». وحديث أورده ابن كثير في سياق تفسير الآية [١١٠] من سورة الأعراف رواه الإمام أحمد والنسائي والحاكم جاء فيه: «قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: خير الناس أقرأهم وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم».
وفي الأحاديث تشديد على وجوب القيام بهذا الواجب وتنويه بالقائمين به وإنذار للمقصّرين والمدلّسين فيه.
وهناك أحاديث أخرى متصلة بالموضوع وإن لم يكن فيها (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) حرفيا يحسن أن تساق في هذا المقام، من ذلك حديث رواه مسلم عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من نبيّ بعثه الله في أمّة قبلي إلّا كان له من أمّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته ويتقيّدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» «٢». وحديث رواه أصحاب السنن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر» «٣». وحديث رواه أصحاب السنن أيضا عن أبي بكر قال: «يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وتضعونها في غير مواضعها وإنّا سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب»
»
. وحديث رواه أبو داود عن جرير قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلّا أصابهم الله بعقاب من
(١) التاج ج ٥ ص ٢٠٢- ٢٠٣. [.....]
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر المصدر نفسه.
(٤) انظر المصدر نفسه.
474
قبل أن يموتوا» «١». وحديث رواه أبو داود أيضا عن العرس الكندي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» «٢».
وفي هذه المجموعة من الأحاديث حثّ للمسلمين على الجرأة على كلمة الحقّ للظالم وبذل الجهد في تغيير المنكر وإنكار المعاصي ونهي عن السكوت عليها وإنذار المقصّرين فيه ثم إنذار للمجتمع الذي يكون فيه هذا التقصير من باب ما جاء في آية الأنفال هذه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [٢٥].
وهكذا يبدو تساوق تام في التلقين بهذا الواجب على مختلف صوره بين كتاب الله وسنّة رسوله كما هو في كل أمر.
تعليق على حلّ الطيبات وتحريم الخبائث ورفع الإصر والأغلال الواردة في الآية الأولى
هذا، ولقد مرّ في هذه السورة تعليقات حول موضوع حلّ الطيبات وتحريم الخبائث وموضوع عدم تكليف الله المسلمين ما ليس في وسعهم كما مرّ في سور سابقة تعليقات على مدى العقيدة الإسلامية في وحدانية الله تعالى وكمال صفاته وتنزّهه عن كل شائبة وتأويل ومساعدة. وهذه المواضيع الثلاثة من المهمات العظمى التي ندب لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما ذكرته الآية الأولى التي نحن في صددها فنكتفي بهذا التنبيه دون تكرار وإعادة. ونقول في صدد جملة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ إن الذي يتمعن في التشريعات والأحكام التعبديّة وغير التعبدية التي وردت حكايتها في أسفار الخروج والعدد واللاويين والتثنية ثم في التشريعات والأحكام التعبدية وغير التعبدية في القرآن والسنّة يدرك
(١) التاج ج ٥ ص ٢٠٢- ٢٠٣.
(٢) انظر المصدر نفسه.
475
مدى ما كان في الشريعة الموسوية من شدّة عبّر عنها بالإصر والأغلال وما رفعته الشريعة الإسلامية من ذلك. ولقد عبّر عن هذا في حديث نبوي جاء فيه: «بعثت بالحنيفية السمحة» «١» بالإضافة إلى أحاديث نبوية أخرى في صدد التبشير والتيسير وعدم التنفير والتزمّت أوردناها في تعليقنا على جملة لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها في هذه السورة.
وإذا نحن قلنا الشريعة الموسوية فإن هذا ينسحب على النصارى الذين انطوى ذكرهم في الآية أيضا من حيث إن المسيح عليه السلام جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة كما حكته آيات قرآنية عديدة وحكي عنه في الأناجيل قوله: (ما جئت لأنقض الناموس) بقطع النظر عن تقيدهم وعدم تقيدهم بها وعن ما يمكن أن يكون السيد المسيح خففه من تلك التشريعات والأحكام.
ولم نر ضرورة إلى إيراد أمثلة من التكاليف الشاقة التعبدية وغير التعبدية الواردة في أسفار العهد القديم لأنها كثيرة ويسهل مراجعتها في هذه الأسفار.
تعليق على كلمتي التوراة والإنجيل وتمحيص في صدد ما كان متداولا وما هو متداول اليوم في أيدي اليهود والنصارى من أسفار
وبمناسبة ورود كلمتي التوراة والإنجيل في السلسلة نقول بالنسبة للتوراة:
إن الكلمة عبرانية بمعنى التعليم والشريعة. وهي معرّبة على صيغة عربية فصحى «٢». والمتبادر أن التعريب سابق للقرآن وأن اللفظ القرآني
(١) انظر تفسير الآية في تفسير رشيد رضا. وننبّه على أننا لم نطّلع على هذه الصيغة في ما في أيدينا من مصادر. وقد قرأنا في التاج حديثا رواه البخاري جاء فيه: «أحبّ الدين إلى الله الحنيفية السمحة» ج ١ ص ٢٨.
(٢) بعض المفسرين ومنهم الطبرسي يحاولون جعل التوراة من جذر عربي هو (وري) من ورى الزند بمعنى إظهار ناره لأن التوراة أظهرت الشريعة. وقد قال الزمخشري إن إرجاعها إلى جذر عربي تكلّف وإنها أعجمية وهو الصواب مع القول إنها معرّبة في صيغة عربية.
476
جاء كما كان مستعملا قبل نزوله.
ولقد وردت الكلمة في القرآن ثماني عشرة مرة. واحدة في سورة مكية ونعني ما جاء في الآية [١٥٧] من سورة الأعراف وباقيها في سور مدنيّة. ومنها ما فيه الدلالة الصريحة على أن القصد منها هو كتاب الشريعة الموسوية المنزلة من الله تعالى كما جاء في هذه الآيات:
١- كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: ٩٣].
٢- وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: ٤٣- ٤٥].
ومنها ما جاء مطلقا وتقريريا كما جاء في آية سورة آل عمران هذه: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [٤].
وننبّه على أن التوراة لم تأت مقرونة بموسى عليه السلام في القرآن. وإن ما جاء مقرونا به هو ألفاظ الكتاب والألواح كما ترى في هذه الآيات:
١- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة: ٨٧].
477
٢- وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً [هود: ١٧].
وواضح من الآيات أن المقصود القرآني من الكلمة هو الكتاب المنزل من الله على موسى المحتوي للمبادئ والتعليمات والتشريعات والحدود الربانية. واستعمال اللفظ مفردا يسوغ القول إنه كتاب واحد وإن كان لا يمنع هذا من أن يكون ذا فصول عديدة. هذا في حين أن المتداول بين الأيدي اليوم والذي يسمى (التوراة) ويسمى أيضا باسم (العهد القديم) هو مجموعة ضخمة من أسفار عديدة منفصل بعضها عن بعض بأسماء متنوعة وعددها عند فريق من الكتابيين (الطبعة البروتستانتية) تسعة وثلاثون وعند فريق آخر (الطبعة الكاثوليكية) ستة وأربعون. وهي عائدة إلى حقب عديدة بدءا من تاريخ خلق الكون وآدم وحواء ونوح وطوفانه وأولاده وأفسالهم إلى إبراهيم وذريته إلى موسى وبعده إلى أوائل عصر عيسى عليهم السلام. وأولها (سفر التكوين) هو الذي يحتوي خبر خلق الكون وآدم ونوح وإبراهيم وأولادهم. وليس فيه دلالة على أنه من وحي الله وإن كان فيه حكاية كلام منسوب إلى الله وحكاية لما كان من اتصالات بين الله والأنبياء المذكورين فيه. وليس فيه دلالة على أنه من تبليغ موسى أو إملائه أو تبليغ وإملاء شخص آخر. وفيه ما قد يفيد أنه كتب بعد موسى وبأسلوب الحكاية وبأقلام عديدة لما فيه من تناقض وأشياء منسوبة إلى الله وأنبيائه يتنزهون عنها ومن أحداث حدثت في زمن موسى وبعده حينما طرأ بنو إسرائيل بقيادة موسى وخلفائه على سيناء وشرق الأردن وغربه في نحو القرن الثالث عشر قبل الميلاد وبعده. وفيه ما قد يكون أساطير قديمة كانت متداولة. وفيه مبالغات ومفارقات كثيرة. وكل ذلك يسوغ القول إن هذا السفر كتب بعد ذلك وتأثر به وإن ما فيه مما يعود إلى قبل موسى هو ذكريات كانت متداولة فيها الغثّ والسمين والخيال والحقيقة. ولا يبعد أن تكون واردة في مخطوطات قديمة كلها أو بعضها.
478
ومن الأدلة القوية على أن السفر كتب بعد طروء بني إسرائيل على فلسطين وتأثره بأحداثهم فيها أن الوعود المعزوّة فيه إلى الله عزّ وجلّ يجعل الأرض لإبراهيم ونسله ثم لإسحق ونسله ثم ليعقوب ونسله فطورت حسب مجرى الأحداث. ولقد دوّن كتاب السفر وعودا متناقضة لإبراهيم ونسله ثم استدركوا فجعلوا هذه الوعود لإسحق فقط دون أولاد إبراهيم الآخرين من زوجتيه هاجر أم إسماعيل وقطورية أم أولاد عديدين آخرين. لأنهم أرادوا أن يثبتوا حق الجدّ الإسرائيلي فقط وهو إسحق. ثم استدركوا فجعلوا هذه الوعود ليعقوب فقط دون عيسو ابن إسحق الآخر لأنهم أرادوا أن يثبتوا حق الجد الإسرائيلي فقط وهو يعقوب...
كذلك من الأدلة القويّة حكاية لعن نوح لكنعان في الإصحاح التاسع من السفر. حيث يحكي الإصحاح أن نوحا تكشّف في خبائه فظهرت عورته فرآها ابنه الصغير حام فأخبر أخويه يافث وسام بذلك فدخل هذان للخباء وغطوا عورة أبيهما. ولما أفاق وعلم بما فعل ابنه الصغير هتف قائلا: (ملعون كنعان عبدا يكون لعبيد إخوته. تبارك إله سام. وليكن كنعان عبدا له. ليرحب الله بيافث وليكن كنعان عبدا له) وكنعان هو ابن حام كما جاء في الإصحاح العاشر ولكنه ليس ابنه الوحيد بل هو رابع أولاده. ولم يكن قد ولد حينما رأى حام عورة أبيه وأخبر أخويه بذلك. فإذا كان ذنب يستحقّ لعنته فهو ذنب حام ولم يكن كنعان مذنبا.
ولكن العداء الذي نشب بين بني إسرائيل والكنعانيين أهل أرض غرب الأردن واستمرّ شديدا دمويا مدة طويلة أوحى لكتّاب السفر بتسجيل ما سجلوا دون أن ينتبهوا إلى الخطأ الذي يقعون فيه وهو لعن ولد لم يولد بسبب ذنب اقترفه أبوه بزعمهم. وتسجيل كون نسل هذا الولد مكرسا ليكون عبدا لأبناء سام الذي من ذريته إبراهيم ثم إسحق ثم يعقوب ثم بنو إسرائيل كما جاء في الإصحاح الحادي عشر وما بعده ويأتي في الترتيب بعده أسفار (الخروج) و (الأحبار) الذي يسمى أيضا بسفر (اللاويين) و (العدد) و (تثنية الاشتراع) وهي عائدة إلى حقبة حياة موسى وتتضمن حكاية أحداث هذه الحقبة مع كثير من التشريعات والتعليمات
479
والوصايا الربانية الطقسية والأخلاقية والاجتماعية والقضائية والمعاشية والصحية والإنذارات والتبشيرات بأسلوب الحكاية أيضا. وسفر الأحبار وحده قاصر على التشريعات والتعليمات والوصايا والإنذارات والتبشيرات المذكورة. والأخرى مزيجة من ذلك ومن التاريخ. وليس فيها ما يفيد أنها من إملاء موسى أو أنها كتبت في عهده بل فيها ما يفيد أنها كتبت بعده وبأقلام عديدة وفي أزمنة مختلفة وتأثرت بالوقائع والأحداث التي حدثت بعد موسى واختلطت الحقائق فيها بالخيال والمبالغات والمفارقات. ونسب فيها إلى الله ورسله ما يتنزّهون عنه. ولقد جاء بعض ما فيها مكررا للبعض الآخر مع كثير من التباين أحيانا زيادة ونقصا وعبارة وموضوعا مما فيه الدلالة الحاسمة على أنها كتبت بأقلام عديدة وفي أزمنة مختلفة واستقاها كتّابها من مصادر مختلفة. ولقد جاء في سفر (تثنية الاشتراع) مثلا ذكر موت موسى ودفنه في الوادي في أرض مؤاب ثم أعقب الكاتب ذلك بقوله: (ولم يعرف قبره إلى يومنا هذا) حيث يفيد أن كتابة الجملة وبالتالي كتابة السفر إنما كانت بعد وفاة موسى بمدة طويلة. ولقد ورد في سفري الأحبار والتثنية مثلا إنذار بما وقع فعلا على بني إسرائيل بعد موسى بمدة طويلة من غزوات وضربات خارجية ومن انحرافات دينية وأخلاقية ارتكس فيها بنو إسرائيل ومن إجلاء وتشتيت شمل لهم بين الأمم ثم وعد بتحنين قلب الربّ وإرجاعهم مرة أخرى وجمع شملهم بعد التبديد والتشتيت وهو ما كان فعلا مما لا يعقل أن يذكر إلّا بعد وقوعه.
ويأتي بعد الأسفار الخمسة مما سمته التاريخية غالبة أسفار يشوع والقضاة وراعوث وصموئيل الأول وصموئيل الثاني (والأخيران يسميان في الطبعة الكاثوليكية بسفري الملوك الأول والملوك الثاني) والملوك الأول والملوك الثاني (وهذان يسميان في الطبعة المذكورة بسفري الملوك الثالث والملوك الرابع) وأخبار الأيام الأول وأخبار الأيام الثاني وعزرا ونحميا واستير وطوبيا ويهوديت (والأخيران من زوائد الكاثوليكية وترتيبها قبل سفر استير) وسفر المكابيين الأول وسفر المكابيين الثاني (وهذان من زوائد الكاثوليكية وهما في الترتيب آخر أسفار العهد القديم). وتؤرخ هذه الأسفار سيرة بني إسرائيل من بعد موسى إلى ما بعد سبي
480
بابل إلى زمن الحكم اليوناني قبل الميلاد المسيحي. وقلنا إن السمة التاريخية غالبة عليها لأنها لا تخلو بدورها من سمة دينية وعظيّة وإنذارية. ومن نشاط أنبياء وتبليغاتهم عن الله إلخ إلخ. وتمتزج الحقائق فيها بالخيال والمبالغات والمفارقات. وفيها دلالات كثيرة على أنها كتبت بعد مدة من الأحداث والوقائع المذكورة فيها وأنها تأثرت بها. وأنها كتبت بأقلام متعددة في أزمنة مختلفة. ولقد جاءت حكاية الأحداث في بعضها مباينة لما جاء في بعض آخر أو مناقضة له أو زائدة عليه أو ناقصة فيه مما يدلّ على ذلك. بل وفي بعضها ما ذكر في أسفار التكوين والخروج والعدد مع نقص وزيادة ومباينة. ولقد جاء في الإصحاح الثالث من أخبار الأيام الأول مثلا سلسلة ملوك يهوذا إلى آخر صدقيا الذي قتله نبوخذنصر. وفي الإصحاح التاسع منه هذه الجملة بما فعله نبوخذنصر: (وسبى يهوذا إلى بابل لأجل خيانتهم) وفي الإصحاح السادس والثلاثين من سفر أخبار الأيام الثاني هذه الجملة: (وفي السنة الأولى لكورش ملك فارس نبّه الربّ روح كورش فأطلق نداء في كل مملكته قائلا إن الربّ أعطاني جميع ممالك الأرض وأوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا) مما فيه دلالة على أن سفر أخبار الأيام الأول كتب في نهاية دولة يهوذا والثاني بعد السبي. ولقد ذكر سفر الملوك الثاني- الرابع في الكاثوليكية- سيرة ملوك دولتي إسرائيل ويهوذا إلى نهايتها بما في ذلك نسف نبوخذنصر لدولة يهوذا وسبي اليهود إلى بابل كما ذكر بعض أحداث جرت بعد السبي أو عقبه مما فيه دلالة قاطعة على أنه كتب بعد نهاية دولة يهوذا بل وبعد السبي. ولما كان هذا السفر هو استمرار لسيرة ملوك دولتي يهوذا وإسرائيل التي بدأ بها في السفر الأول فالكلام المذكور ينسحب على هذا السفر أيضا كما هو المتبادر. ولا تخلو الأسفار الأخرى من التي تؤرخ بعض أحداث ما قبل السبي من دلائل وقرائن مماثلة تسوغ القول إنها كتبت بعد السبي مثلها.
وإلى جانب هذه الأسفار أسفار عديدة أخرى تعود كذلك إلى حقبة ما بعد موسى إلى ما بعد السبي إلى عصر المسيح عليه السلام تغلب عليها السمة الدينية الجز الثاني من التفسير الحديث ٣١
481
بأسلوب الابتهالات والتسبيحات والحكم والمواعظ والإنذار والترهيب والتبشير والترغيب والتنبؤ والرؤى على ألسنة أصحابها الذين يغلب أن يكونوا أنبياء وهي:
المزامير والأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد ونبوءة أشعيا وأرميا ومراثي أرميا ونبوءة بارول (وهذا من زوائد الكاثوليكية) ونبوءة حزقيال ونبوءة دانيال ونبوءة هوشع ونبوءة يوئيل ونبوءة عاموس ونبوءة عوبيديا ونبوءة ميخا ونبوءة تحوم ونبوءة حبقوق ونبوءة صقنا ونبوءة حجاي ونبوءة زكريا ونبوءة ملاخي. ومع سمتها الغالبة المذكورة فإنها تمثّل ناحية هامة من تاريخ وحياة بني إسرائيل السياسية والاجتماعية والأخلاقية. وعبارة بعضها كالنار شدّة وقسوة. وفي بعضها ندب وعويل على ما حلّ في بني إسرائيل وتنديد بأخلاقهم وانحرافاتهم بأسلوب قارع. وتبشير مع ذلك برحمة الله بهم وإنذار قاصم للأمم والبلدان الأخرى. وفيها ما يدلّ على أنها كتبت بعد موت أصحابها بمدة طويلة من ذكريات ومسموعات ومحفوظات متداولة.
ولقد ورد مثلا في الإصحاح (٤٥) من سفر نبوءة أشعيا الذي يستفاد من عباراته أنه عاش في عهد ملوك يهوذا (عزيا ويوثام وأحاز وحزقيا) اسم كورش ملك الفرس الذي تغلّب على مملكة بابل وفيه هذه الجملة خطابا لسبي اليهود في بابل الذين سباهم نبوخذنصر: (اخرجوا من بابل واهربوا من أرض الكلدانيين) مما فيه الدلالة على أن هذا السفر كتب بعد السبي وبالتالي بعد وفاة أشعيا المنسوب إليه بمدة طويلة.
ومن بين الأسفار العائدة إلى ما بعد موسى سفران لا يبدو لهما صلة بتاريخ وحياة بني إسرائيل. وهما سفرا (أيوب) و (نبؤة يونان). الأول يتضمن سيرة النبي أيوب المذكورة في القرآن «١» بإشارات خاطفة ولكن متطابقة. وقد قال عنه السفر إنه كان في أرض عوص. والثاني هو سيرة يونان بن أمتاي في نينوى وهو على الأرجح النبي يونس المذكورة سيرته في القرآن بإشارات خاطفة ومتطابقة إجمالا مع ما جاء في هذا السفر.
(١) انظر سور الأنبياء وص بالنسبة للنبي أيوب وسور الصافات والقلم والأنبياء بالنسبة للنبي يونس.
482
وهناك سفران آخران فيهما مواعظ وحكم وهما (الحكمة) و (يشوع بن شيراخ) وهما من زوائد الكاثوليكية. ولا يبدو فيهما ما يدلّ على أن لهما صلة بحياة وتاريخ بني إسرائيل.
وواضح من كل ما تقدم أن اسم (التوراة) المذكورة في القرآن والتي يلتزم المسلمون بالإيمان بأنها من كتب الله أو الكتاب الذي أنزله الله على موسى لا يمكن أن يصدق على مجموعة أسفار العهد القديم وعلى أي سفر منها.
ولقد جاء في الإصحاح (٢٤) من سفر الخروج أول الأسفار الأربعة العائدة إلى حقبة حياة موسى الذي فيه خبر رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وخروج بني إسرائيل من مصر وحياتهم في سيناء هذه العبارة (فجاء موسى- بعد استماعه كلام الله في الطور- وقصّ على الشعب جميع كلام الربّ وجميع الأحكام فأجابه الشعب بصوت واحد وقالوا جميع ما تكلم به الربّ نعمل به. فكتب موسى جميع كلام الربّ وبكّر في الغداة وبنى مذبحا في أسفل الجبل ونصب اثني عشر نصبا لاثني عشر سبط إسرائيل وبعث فتيان بني إسرائيل فأصعدوا محرمات وذبحوا ذبائح سلامة من العجول للربّ. فأخذ موسى نصف الدم وجعله في طسوت ورشّ النصف الآخر على المذبح وأخذ العهد فتلا على مسامع الشعب فقالوا كل ما تكلم الربّ به نفعله ونأتمر به فأخذ موسى الدم ورشّه على الشعب وقال هو ذا دم العهد الذي عاهدكم الربّ به على جميع هذه الأقوال. ولقد جاء في الإصحاح (٣١) من سفر تثنية الاشتراع وهو رابع أسفار حقبة موسى وفيه تكرار لكثير مما جاء في الأسفار السابقة ولا سيما مسيرة بني إسرائيل للتذكير مع الإنذار والتبشير هذه العبارة: (وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى الكهنة بني لاوى حاملي تابوت العهد) وهذه العبارة: (ولما فرغ موسى من رقم كلام هذه التوراة في سفر بتمامها أمر اللاويين حاملي تابوت عهد الربّ قائلا خذوا هذا السفر واجعلوه إلى جانب عهد الربّ إلهكم في التابوت فيكون ثم عليكم شاهدا لأني أعلم تمردكم وقسوة قلوبكم. فإنكم وأنا في الحياة معكم اليوم قد تمردتم على الربّ فكيف بعد
483
موتي). وهذه النصوص تفيد قطعا أن موسى كتب تبليغات الله ووصاياه وتعاليمه في كتاب اسمه التوراة وسلّمه للكهنة ليضعوه في تابوت العهد. وهو صندوق كان يحفظ فيه الآثار المقدسة ويوضع في قدس أقداس المعبد. وعهد الربّ المذكور آنفا في عبارة السفر يمكن أن يكون ألواح الحجارة التي كتب الله عليها بعض وصاياه. وقد وصفت في سفر الخروج بوصف (كلام العهد الكلمات العشر) فقد جاء في الإصحاح (٢٤) من هذا السفر بعد العبارة التي أوردناها قبل هذه العبارة:
(قال الربّ لموسى اصعد إلى الجبل وأقم هنا حتى أعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم). وفي الإصحاح (٣٢) من السفر نفسه هذه العبارة: (ثم انثنى موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده. لوحان مكتوبان على جانبيهما. من هنا ومن هناك كانا مكتوبين. واللوحان هما صنعة الله والكتابة هي كتابة الله منقوشة على اللوحين). ثم يذكر الإصحاح خبر غضب موسى حينما رأى العجل الذي صنعه بنو إسرائيل في غيابه ورميه اللوحين وكسرهما في أسفل الجبل. وفي الإصحاح (٣٤) خبر أمر الله لموسى بأن ينحت لوحين كالأولين الذين كسرهما ففعل وصعد إلى الجبل وأقام عند الربّ أربعين يوما وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلام العهد الكلمات العشر ونزل وهما في يده. والمتبادر من العبارة أن موسى سلّم اللوحين إلى الكهنة من بني لاوى ليضعوهما في تابوت العهد وسلّمهم سفر التوراة ليضعوه إلى جانبهما في التابوت.
ولقد ذكر في الإصحاح الثامن من سفر الملوك الأول- الثالث في الكاثوليكية- ما يفيد أن سفر التوراة قد فقد حيث ذكر أنه لم يكن في تابوت العهد الذي نقله سليمان من مدينة داود إلى المعبد الجديد الذي أنشأه إلّا اللوحان الحجريان. ومع ذلك فإن الإصحاح (٢٢) من سفر الملوك الثاني- الرابع في الكاثوليكية- ذكر خبر العثور على سفر التوراة عليه في بيت الربّ أثناء ترميمه في زمن يوشيا ملك يهوذا فأثار ذلك بني إسرائيل وجعلهم يقيمون الاحتفالات والأفراح العظيمة. ولقد ذكر في الإصحاح الثامن من سفر نحميا الذي يؤرخ بعض أحداث حقبة بعد السبي وبعد عودة جماعة من المسبيين من بابل إلى أورشليم في
484
زمن الحكم الفارسي أي حوالي القرن الخامس قبل الميلاد أن الشعب العائد اجتمع في ساحة المعبد الذي أعادوا بناءه بعد تدميره من قبل نبوخذنصر وطلب من عزرا إحضار سفر توراة موسى فأحضره وأخذ يتلوه أمام الجماعة حيث يفيد هذا أن هذا السفر ظلّ متداولا في أيديهم إلى ما بعد السبي. وآيات سورة آل عمران [٩٨] وسورة المائدة [٤٣- ٤٥ و ٦٥ و ٦٦ و ٦٨] التي أوردناها قبل تسوغ القول إن هذا السفر ظلّ متداولا إلى زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه هو الذي كان يعنيه القرآن في الآيات.
ولم يصل إلى عهدنا حيث يكون قد فقد أثناء ما كان يقع على اليهود من ضربات وتشريدات.
ولقد قلنا قبل إن في أسفار الخروج والعدد والتثنية تبليغات ووصايا كثيرة متنوعة مبلغة من الله تعالى لموسى وإن سفر الأحبار قاصر على ذلك وإن كلها أو جلّها جاء بأسلوب الحكاية وبينها تباين وتناقض وزيادة ونقص وتكرار واختلاف في العبارات والأساليب. وفيها أقوال وأفعال منسوبة إلى الله ورسوله يتنزّهان عنها بحيث يمكن القول إن كتّابها قد استقوا ما كتبوه من مصادر متنوعة وإن كل واحد كتب ما كتبه مستقلا عن الآخر وفي ظرف وزمن غير الآخر وأنهم لم ينقلوا ما فيه من تبليغات الله من سفر التوراة مباشرة. وبحيث يمكن القول إن ما جاء فيها مما يجوز أن يكون من هذا السفر قد سجله كتّابها من روايات ومحفوظات أو مدونات شيبت بما ذكرناه من تباين وتناقض واختلاف وتحريف ولا يمكن والحالة هذه اعتبارها بديلة عن سفر توراة موسى المفقود فضلا عن إطلاق اسم التوراة عليها ويكون في هذا الإطلاق المتداول تجوّز كبير فضلا عن التجوّز الأكبر في إطلاق ذلك على مجموعة أسفار العهد القديم.
ونستطرد إلى القول إن في القرآن قرائن عديدة تساعد على القول إن الأسفار الخمسة الأولى من أسفار العهد القديم وبعض الأسفار العائدة إلى تاريخ بني إسرائيل وأنبيائهم بعد موسى المتداولة اليوم كانت في أيدي اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جانب سفر التوراة. ومن هذه القرائن التوافق أو التشابه بين ما ورد
485
في القرآن من قصص خلق آدم وحواء وخروجهما من الجنة وابني آدم ونوح وإبراهيم ولوط ويعقوب ويوسف وإخوته وبين ما ورد من ذلك في سفر التكوين وبين ما ورد في القرآن من قصص موسى وفرعون وسيرة بني إسرائيل في حياة موسى وبعض الشرائع الموسوية وبين ما ورد في أسفار الخروج والأحبار والعدد والتثنية. وبين ما ورد في القرآن من قصص أيوب ويونس وما ورد من ذلك في سفري أيوب ويونان وبين ما ورد في القرآن من قصص طالوت وجالوت وداود وسليمان وحروب بني إسرائيل مع جالوت وقومه وقصة الخصمين مع داود وملك سليمان وزيارة ملكة سبأ ورسالة النبي إلياس في صدد عبادة البعل والإشارة إلى تدمير دولتي اليهود وبين ما ورد من ذلك في أسفار صموئيل والملوك وأخبار الأيام. وليس ما يمنع أن تكون الأسفار الأخرى المتداولة اليوم مما كان في أيديهم بطبيعة الحال ويمكن القول بجزم إن مزامير داود كانت من جملة ذلك لأن القرآن قد ذكرها بوصفها الزبور. على أن هناك أشياء كثيرة وردت في القرآن من هذه القصص ولم ترد في الأسفار المتداولة ومنها ما ورد في القرآن والأسفار متغايرا في الجزئيات بل وفي الصور المهمة. فليس في سفر التكوين مثلا ما ورد في القرآن من أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم وعصيان إبليس والموسوس لآدم وحواء في السفر هو الحية في حين أنه في القرآن إبليس. وليس في السفر ما في القرآن من قصص إبراهيم مع قومه وتخريبه لأصنامهم وتظن في النجوم وحجاجه مع قومه ومحاولتهم إحراقه في النار وإسكان بعض ذريته عند بيت الله المحرّم أي مكة واشتراك إبراهيم وإسماعيل في بناء الكعبة وليس في السفر ما في القرآن من محاورة بين نوح وابنه الكافر وعدم ركوبه في السفينة وغرقه ومحاورة نوح مع الله تعالى في ذلك.
وليس في السفر مما في القرآن من تمزيق امرأة العزيز قميص يوسف ولا كلام النسوة ودعوة امرأة العزيز إياهن وتقطيعهن أيديهن. وليس في أسفار الخروج والعدد والتثنية التي فيها قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر وحياتهم في سيناء ما في القرآن من خبر سحرة فرعون والتقاف الثعبان لحبالهم وعصيهم وسجودهم وإيمانهم ومحاورتهم مع فرعون، ولا غرق فرعون
486
وجنوده حينما خرجوا لمطاردة بني إسرائيل. والقرآن يذكر أن الذي صنع العجل لبني إسرائيل هو السامري في حين أن سفر الخروج يذكر أنه هرون. وليس في هذه الأسفار ما ورد في القرآن من خبر أمر موسى قومه بذبح البقرة ومحاورته معهم ولا أمر الله لهم بدخول الباب سجدا وقولهم حطة ومخالفتهم لهذا الأمر ولا خبر عدوانهم في السبت ومسخهم قردة. وليس في الأسفار التي تذكر قصص داود وسليمان ما ورد في القرآن من تسخير الله الشجر والطير والحديد لداود وتسخير الريح والجن والطير لسليمان. ولا قصة الهدهد. ورسالة سليمان لملكة سبأ وإسلامها وإحضار عرشها بلمحة البصر من قبل الذي عنده علم من الكتاب.
ويلمح بعض الفروق في جزئيات ما ورد في القرآن وما ورد في سفري يونان وأيوب أيضا. وفي القرآن إشارات عديدة إلى ما كان من تكذيب اليهود لأنبيائهم وقتلهم إياهم. وليس في الأسفار المتداولة شيء صريح بذلك.
ونذكر هذه الأمثال من قبيل التمثيل لا الاستقصاء فهناك أمور كثيرة أخرى في صدد آدم وابنيه ونوح وإبراهيم ولوط ويوسف وإخوته وموسى وفرعون وبني إسرائيل وداود وسليمان وردت في القرآن ولم ترد في الأسفار أو وردت في القرآن مباينة قليلا أو كثيرا لما ورد في الأسفار. ونحن نعتقد أن ما ورد في القرآن ولم يرد في الأسفار المتداولة أو ورد فيها مباينا لما ورد فيه قد ورد في أسفار أخرى كانت متداولة بين أيدي اليهود لم تصل إلينا. وهذه ظاهرة تثبتها الأسفار المتداولة التي ورد فيها أسماء أسفار عديدة ليست بين الأسفار المتداولة.
ففي الإصحاح (١٢) من أخبار الأيام الأول مثلا هذه الجملة: (وأمور رحبعام الأولى والأخيرة أما هي مكتوبة في أخبار شمعيا النبي وعدو الرائي) وفي الإصحاح العاشر من سفر يشوع هذه الجملة: (فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه. أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر). وفي سفر الملوك الأول «١» هذه الجملة: (وأمور سليمان وكل ما صنع وحكمته أما هي في سفر أمور
(١) أو الثالث في النسخة الكاثوليكية.
487
سليمان) وفي الإصحاح التاسع من أخبار الأيام الثاني هذه الجملة: (وبقية أخبار سليمان الأولى والأخيرة مكتوبة في كلام ناثان النبي ونبوة أخيا الشيلوتي وزؤي عدو الرائي) وفي الإصحاح (٢٧) من أخبار الأيام الأولى هذه الجملة: (ولم يدوّن العدد في سفر أخبار الأيام للملك داود). فأسفار شمعيا وعدو وياشر وأمور سليمان وناثان وأخيا وأخبار الأيام للملك داود ليست بين الأسفار المتداولة اليوم.
يضاف إلى هذا أنه كثيرا ما جاء في أسفار الملوك هذه الجملة: (وبقية أمور الملك فلان إما هي مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك يهوذا أو لملوك إسرائيل) وليس بين الأسفار ما يحمل هذه العناوين وليس في أسفار أخبار الأيام المتداولة شيء مما أريد إرجاع الكلام إليه. والعبارة قد تفيد أنه كان لكل من ملوك إسرائيل ويهوذا- دولتي اليهود بعد سليمان- أسفار باسم أسفار ملوك إسرائيل وأسفار باسم أخبار الأيام لملوك إسرائيل وأسفار باسم أسفار ملوك يهوذا وأسفار باسم أخبار الأيام لملوك يهوذا.
وفي كتاب ضخم كتبه الأستاذ الحداد بعنوان «دروس قرآنية» استعرض فيه جميع سور القرآن وفيه تنبيهات كثيرة إلى أن ما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة أو ورد فيه مباينا لما ورد فيها قد ورد في كتاب التلمود أو في أجزاء تفسير اليهود للتلمود والأسفار المعروفة باسم مدراش كما ورد في القرآن.
ونعرف يقينا أن التلمود كتب بعد الميلاد المسيحي قبل زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم والكتب الأخرى منها ما كتب في هذه الحقبة ومنها ما كتب بعدها. وعلى كل حال فالمتبادر أن يكون كتابها قد استقوا ما أوردوه مما هو متطابق مع القرآن من أسفار وقراطيس قديمة لم تصل إلينا. ولقد كان القرآن يتلى علنا ويسمعه اليهود. ولم يرو أحد أنهم اعترضوا أو كذبوا ما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة اليوم التي كانت متداولة أو ورد فيها مباينا لما ورد في القرآن مما فيه قرينة أو دلالة على أنهم يسمعون أمورا متداولة بينهم، بل وفي القرآن شهادة لهم صراحة ولأهل الكتاب والعلم الذين هم من عدادهم بصحة القرآن وكونه منزلا من الله وفرحهم به وإيمان من استطاع أن يتفلّت من عقده ومآربه منهم كما جاء في هذه الآيات:
488
١- وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمران: ١٩٩].
٢- لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ «١» وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً [النساء: ١٦٢].
٣- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ [الأنعام: ٢٠].
٤- أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: ١١٤].
٥- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: ١٥٧].
٦- وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرعد: ٣٦].
٧- قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: ١٠٧- ١٠٩].
٨- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) [القصص: ٥٢- ٥٣].
٩- وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [العنكبوت: ٤٧].
وفي الآيات فضلا عن الدلالة التي أردناها دلالة على أن الكتّاب الذين منهم
(١) السلسلة في حقّ اليهود.
489
اليهود سمعوا من القرآن ما يتطابق مع عقائدهم وكونه يدعوهم إلى الإيمان به وبالرسول الذي أنزل عليه فاستجابوا وآمنوا...
ولقد تعرّض الأستاذ الحداد في كتبه بأساليب ومناسبات عديدة ومتنوعة بدءا من الكتاب الأول رقم (١) المعنون بعنوان «الإنجيل في القرآن» لمسألة التحريف والتبديل في التوراة «١» ليردّ بذلك على الذين يقولون إن اليهود حرّفوا وبدّلوا وأسقطوا وأخفوا وكتموا فيها استنادا إلى آيات قرآنية عديدة منها ما يلي:
١- أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: ٧٥].
٢- فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة: ٧٩].
٣- إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة: ١٧٤].
٤- وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: ٧٨].
٥- مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ [النساء: ٤٦].
٦- فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: ١٣].
(١) كلام الحداد شمل التوراة والإنجيل. وقد اقتصرنا في الكلام هنا على التوراة لأنها هي موضوع البحث في هذه النبذة.
490
٧- يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة: ١٥].
٨- يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [المائدة:
٤١].
٩- وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام:
٩١].
وقال كلاما طويلا خلاصته أن التوراة كلام الله والقرآن صريح بأن كلام الله لا يبدّل حيث جاء في سورة الأنعام هذه الجملة: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ في الآية [٣٤] وهذه الجملة وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ في الآية [١١٥] وفي سورة الكهف هذه الآية: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ في الآية [٢٧] فيكون التبديل فيها مستحيلا بنصّ القرآن. وإن القرآن قد نوّه بالتوراة وبالذين يتلونها حقّ تلاوتها تنويها يدلّ على أنها كانت في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أنزلها بدون تحريف وتبديل. وقد جاء هذا في آية سورة البقرة هذه الآية الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [١٢١] وفي آيات سورة المائدة [٤٢ و ٤٣ و ٦٦ و ٦٨] التي أوردناها في مطلع البحث. ثم صرف كلمة التحريف المنسوب إلى اليهود إلى معنى تحويل وتأويل الآيات القرآنية بغير قصدها الصحيح.
وتعليقا على ذلك نقول:
١- إن لِكَلِماتِ اللَّهِ التي في آيات الأنعام [٣٤ و ١١٥] والكهف [٢٧] لا تعني كلام الله في الكتب الإلهية وإنما تعني تقدير الله وحكمه وقضاءه. وقد كنّا
491
نظن أن هذا لا يصحّ أن يغيب عن الأستاذ الحداد.
٢- إن البشر هم الذين يكتبون ألفاظ كتب الله على الورق ويحفظونها في صدورهم. ولا يمكن أن يكابر عاقل في جواز وقوعهم في الخطأ حين يكتبونها على الورق ويقرؤونها من حفظهم فيبدلوا ويغيروا فيها سواء أكان ذلك بقصد أم بغير قصد. وهذا ما يقع لكل الناس في كل وقت من مسلمين ونصارى ويهود. وقد وقع لنا على كثرة ما قرأنا القرآن وكتبناه. ولا بد من أنه وقع للأستاذ حداد. وكنا نظن أن هذا لا يفوته. ولا يخلّ هذا في حقيقة بقاء كلام الله المنزل على رسله في كتبه محتفظا بصحته حكما ولو أخطأ الناس في كتابة ألفاظه على الورق وتلاوته من ذاكرتهم وبدّلوا أو غيروا فيها.
٣- إن كلمة التحريف في أصلها تعني تغيير وتبديل الحروف والألفاظ. ومع ذلك فمن الممكن التسليم بصواب القول إنها قد تكون في معنى صرف الكلام وتأويله بغير المقصد الحق الصحيح. غير أن هذا ليس ذا جدوى في الصدد الذي يساق فيه بعد الواقع المشروح في الفقرة السابقة التي لا يمكن أن يكابر فيه عاقل والذي يسوغ التقرير حتما بأن كلمات التوراة يمكن أن يخطئ كاتبوها حينما يكتبونها على الورق وقراؤها حينما يتلونها من ذاكرتهم فيغيّروا ويبدّلوا.
٤- ولقد استدللنا في ما سبق بالآيات القرآنية على أن التوراة التي احتوت ما بلّغه الله لموسى من وصايا وتشريعات كانت موجودة في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد نوّه بها القرآن ووصفها بأن فيها نورا وهدى. وطالب بالاحتكام إليها وطالب اليهود بإقامتها والتزام ما فيها. ونوّه بالذين يتلونها حقّ تلاوتها حيث يمكن أن يفيد ذلك أنها كانت كما أنزلها الله بدون تحريف وتبديل. ونحن في هذا متفقون مع الأستاذ الحداد الذي يذكره في معرض التدليل. غير أن هذا ليس من شأنه أن يمنع أن يكون اليهود في زمن النبي وقبله وبعده كانوا حينما ينسخونها من الأصل وحين يتلونها من ذاكرتهم يخطئون في كلمات كثيرة أو ينسونها أو يخفونها أو يكتمونها.
على أن هذه التوراة هي مفقودة. فيكون الكلام في أمرها في صدد شيء لم
492
يعد موجودا مهما كان من أمر. ولم يعد إثبات صحتها بالتالي وعدم تحريفها وتبديلها موضوع نظر وجدل.
٥- ومن الحق أن ننبّه على أن هذا لا ينقض ما قلناه قبل من احتمال تغيير وتبديل وتناقض وتباين وسقوط وإهمال في ما هو وارد في أسفار الخروج والأحبار والعدد وتثنية الاشتراع من حكاية تبليغات الله ووصاياه لموسى عليه السلام على ما شرحناه قبل.
ولقد تساءل الأستاذ عمّا إذا كان هناك تحريف وتبديل في الكتاب المقدّس.
وهذا الاصطلاح يطلق على مجموعة أسفار العهد القديم. ومجموعة أسفار العهد الجديد معا المتداولتين بين الأيدي اليوم وهو إطلاق مستحدث وحاول أن يسحب ما قاله من استحالة التحريف والتبديل في التوراة التي كانت موجودة في زمن النبي على الكتاب المقدس الذي منه مجموعة أسفار العهد القديم أيضا وكرر ما قاله بسبيل إثبات عدم تحريف التوراة في صدد ذلك. وكلامه يفيد أنه يقصد الأسفار المتداولة. وقد زاد على ذلك قوله- وهذا يؤيد هذا القصد- إن هذه الأسفار كانت مكتوبة على رقوق قديمة قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم بمدة طويلة. وأنها قد طبعت نقلا عن هذه الرقوق طبقا لأصلها فلا يمكن أن يكون قد طرأ عليها تبديل أو تحريف أو تحوير أو زيادة أو نقص في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبله وبعده. وجميع نسخها التي وصلت إلينا متماثلة وهذا مما يدعم ذلك.
وهذا الكلام ليس من شأنه أن ينفي أن في الرقوق الأصلية ما نبهنا على ما في المتداول من نسخها الآن من مباينات ومناقضات ومبالغات ومفارقات وخيالات.
وليس من شأنه أن يمنع أن يكون كتّابها الأوّلون كتبوها على ما فيها من كل ذلك.
وليس من شأنه أن يمنع أن يكون هناك قراطيس وكتب لم تصل إلينا- وهو ما يقوم الدليل عليه من نصوص الأسفار على ما مرّ شرحه- بينها وبين هذه الرقوق تباين وتغاير. وليس من شأنه أن يمنع أنه كانت نسخ عديدة للرقوق بينها تباين وتغاير فتدوولت جميعها على ما فيها من ذلك ثم ضاع بعضها أو انطمر أو أبيد قصدا فظلّ
493
ما وصل إلينا منها إلى زمن الطباعة فطبع طبقا للأصل الذي وصل إلينا مكتوبا على رقوقه القديمة على علّاته وثغراته. وتداول نسخ عديدة لكتاب واحد في زمن الخط قبل الطباعة ووقوع أخطاء من النسّاخ طفيفة وكبيرة وسقوط أقسام منها وضياعه أمر عادي طبيعي. والأمثلة لا تحصى من ذلك في المخطوطات العربية وغير العربية.
ولقد عثر أخيرا على مخطوطات قديمة في أحد كهوف منطقة البحر الميت فيها بعض فصول من سفر أشعيا قال الخبراء الذين قارنوها مع فصول السفر المتداول المطبوع إن بينها فروقا كثيرة. وكل ما يثبته قول الأستاذ هو أن الأسفار المتداولة أقدم من زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم بمدة طويلة وأنها كانت مكتوبة على رقوق وأنها طبعت نقلا عنها دون تحريف لذلك الأصل. وهذا ليس موضوع الجدل.
ويتبادر لنا أن آيات البقرة [٧٥ و ٧٨] وآل عمران [٧٨] والنساء [٤٥] والمائدة [١٤ و ١٥] والأنعام [٩١] التي أوردناها قبل قليل ثم هذه الآيات:
١- إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ «١» [البقرة: ١٥٩].
٢- إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ «٢» [البقرة: ١٧٤- ١٧٦].
٣- كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ
(١) الآيات بعد سياق طويل عن اليهود.
(٢) انظر الهامش السابق.
494
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: ٢١٣].
٤- تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ [البقرة: ٢٥٣].
٥- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً [النساء: ٤٩- ٥٠].
٦- وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: ٩٣].
٧- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [هود: ١١٠].
٨- يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: ٥١- ٥٣].
٩- إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل: ٧٦- ٧٧].
١٠- شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى: ١٣- ١٤].
نقول إن هذه الآيات جميعها تعكس ما كان في نصوص الأسفار التي كان
495
اليهود يتداولونها من تباين وتناقض وما دخل عليها من تحريف وما كان بينهم نتيجة لذلك من اختلاف في التأويل وتشادّ وشكوك وتعدّد مذاهب وتنازع يصل إلى حدّ القتال. وما كان من تلاعبهم فيها بحيث يخفون ما يشاؤون ويظهرون ما يشاؤون وينكرون ما يشاؤون وفقا لأهوائهم. ويحاولون تقديمها بصفتها كتب الله ولم تكن كذلك. ولا يمكن إلّا أن تكون هذه الآيات صورة صادقة عيانية لما كان عليه أمر الأسفار التي كان يتداولها اليهود.
ويؤول الأستاذ الحداد عبارات التحريف في الآيات القرآنية بمعنى صرف نصوص الكتاب عن مقصدها الحق الصحيح وليس بمعنى تغيير وتبديل ألفاظها.
والكلمة في أصلها بمعنى تغيير وتبديل الحروف والألفاظ. ومع ذلك فإن وصف اليهود بها بالمعنى الذي يؤوله يعني فيما يعنيه أنهم كانوا يكابرون في فهم النصوص ويحاولون تأويلها تأويلا ليس فيه حق وصواب. وقد يصحّ أن يقال إنهم كانوا يدونون هذه التأويلات المنحرفة في قراطيس وأسفار ويتداولونها. ومع ذلك ففي الآيات الأخرى صراحة كافية فقد كانوا على ما تفيده مختلفين في النصوص وفيما بين أيديهم من أسفار وكانوا في شك كبير منها وكانوا يخفون منها ما يشاؤون ويبدون ما يشاؤون ويكتمون ما يشاؤون وفق أهوائهم. وآيات سورتي البقرة [٧٩] وآل عمران [٧٨] جديرة بلفت النظر حيث ينطوي فيها صورة واقعية عيانية في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما كانوا يقدمونه من كتب مكتوبة بأقلامهم على أنها كتب الله كذبا وخداعا. وهو ما ينطبق على معظم الأسفار المتداولة اليوم بما فيها من علّات وثغرات.
ومن طرائف الأستاذ الحداد وصفه كتّاب الأسفار المتداولة بكتّاب الوحي! والمتبادر أنه اقتبس هذا من تاريخ الوحي النبوي المحمدي الذي يذكر أنه كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم كتّاب وحي يكتبون ما يوحى إليه من قرآن فور نزوله. وفي الاقتباس مفارقة عجيبة ومقارنة متهافتة، فكتّاب الأسفار الخمسة الأولى كتبوها بعد موسى عليه السلام بمدة طويلة. وليست من إملائه وكتاب الأسفار الأخرى كتبوا معظمها بل كلها بعد الأحداث التي تضمنتها والأشخاص المنسوبة إليهم بمدة ما كذلك.
496
وقد سجلوها من محفوظات الناس ومسموعاتهم وربما من قراطيس أخرى وصلت إليهم ولم تصل إلينا وشيبت بالمفارقات والخيالات والمتناقضات والاختلافات فكيف يصحّ لعاقل أن يصفهم بأنهم كتّاب الوحي قياسا على كتّاب وحي النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
تعليق على الألواح التي ذكرت في الآية [١٤٥] من السلسلة
إن الآية ذكرت الألواح بصيغة الجمع وذكرت أن الله تعالى كتب لموسى فيها من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء. ولقد ذكرنا قبل أن سفر الخروج ذكر الألواح بأنها لوحان من حجر كتب عليهما عهد الربّ الكلمات العشر وأن الكتابة بإصبع الله وعلى وجهي اللوحين. وليس في الأسفار تحديد لعهد الربّ الكلمات العشر المكتوبة على الألواح وإنما فيها حكاية أوامر ونواه ربانية اشتهرت بأنها الوصايا العشر أو الكلمات العشر. جاءت مقتضبة نوعا ما في سفري الخروج وتثنية الاشتراع ومسهبة في سفر الأحبار. وهي بالإيجاز:
١- عدم اتخاذ آلهة غير الله.
٢- عدم صنع تمثال للربّ والسجود له.
٣- عدم الحلف بالله كذبا.
٤- حفظ يوم السبت.
٥- إكرام الوالدين.
٦- لا تقتل.
٧- لا تزن.
٨- لا تسرق.
٩- لا تشهد الزور على قريبك.
١٠- لا تشته شيئا مما لقريبك.
وقد يكون هذا أضيق مما احتوته الآية مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا
497
لِكُلِّ شَيْءٍ
فضلا عن ما هناك من فرق بين (الألواح) في الآية و (اللوحين) في الأسفار.
وفضلا عن تنزّه الله تعالى عن حصره النهي عن شهادة الزور واشتهاء ما للغير بالقريب. ومهما يكن من أمر فإن الآيات التي فيها إشارة إلى التوراة والكتاب الذي آتاه الله موسى والتي فيها ما يفيد أن التوراة كانت قراطيس عديدة والتي أوردناها قبل يمكن أن تلهم بقوّة أن الألواح هي غير التوراة والله تعالى أعلم.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال متنوعة في صدد الألواح. فبالنسبة للعدد تراوحت الأقوال والروايات بين اثنين إلى عشرة. ومما روي أنها كانت ستة فلما ألقاها موسى حين غضبه على قومه رفع منها اثنان وبقي أربعة. وبالنسبة للنوع روي أنها خشب من سدر الجنة كما روي أنها من زبرجدة خضراء أو من ياقوتة حمراء أو من زمرد أو من حجر. وبالنسبة لحجمها روي أن طولها عشرة أذرع أو اثني عشر ذراعا، وبعضهم قال إنها التوراة نفسها ثم قال إنها كانت وقر سبعين بعيرا وأن الجزء منها كان يقرأ في سنة. وإنه لم يقرأها جميعها إلّا أربعة نفر وهم موسى ويوشع والعزير وعيسى عليهم السلام وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. والتوقف إزاءه أولى.
وفي كتابي تفسير ابن كثير والبغوي حديث يرويه ابن كثير عن قتادة ويرويه البغوي عن كعب الأحبار. فيه حكاية عن مناجاة بين موسى وربّه يقول الأول ربّ إني أجد في الألواح أمّة خير أمة، أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وبالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال. ربّ اجعلهم أمتي قال هي أمة محمد يا موسى. فقال ربّ إني أجد أمة هم الحمادون لله على كل حال رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمرا قالوا نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد. فقال رب إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي. ويستمر
498
الحوار في بضع صفات محببة أخرى حتى يقول يا ليتني من أصحاب محمد وفي صيغة ابن كثير حتى ينبذ الألواح ويقول اللهم اجعلني من أمة محمد. والتوقف إزاء هذا الحديث هو الأولى كذلك.
وبالنسبة للإنجيل نقول:
١- إن الكلمة يونانية معرّبة ومعناها البشارة «١». والمتبادر أن التعريب والاستعمال للدلالة على كتاب النصارى المقدّس كانا سابقين لنزول القرآن.
٢- إن الإنجيل ذكر في القرآن عشر مرات جميعها في سور مدنية. وقد جاء ذكره مقرونا بعيسى عليه السلام في بعضها. وفي الآيات التي ذكر فيها مقرونا باسمه صراحة بأن الله تعالى آتاه إياه وعلّمه إياه كما ترى في الآيات التالية:
أ- وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [آل عمران: ٤٨- ٤٩].
ب- وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [المائدة: ٤٦].
ت- إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة: ١١٠].
(١) بعض المفسرين ومنهم الطبري يحاول إرجاع الكلمة إلى جذر عربي هو نجل بمعنى الابن أو الفرع بحجة أن الإنجيل فرع عن التوراة وأنه وسع على بني إسرائيل ما كان مضيّقا عليهم. وقد قال الزمخشري إن إرجاعها إلى جذر عربي تكلّف وإنها كلمة أعجمية وهو الصواب. [.....]
499
وفي سورة آل عمران آيات ذكر فيها أن الإنجيل أنزل ولم يذكر اسم عيسى معه وهي:
أ- نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [٣- ٤].
ب- يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [٦٥].
وفي سورة المائدة نسب الإنجيل إلى أهله كما ترى في الآيات التالية:
أ- وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [٤٧].
ب- وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [٦٥- ٦٦].
ج- قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [٦٨].
وفي سورة مريم ذكر الْكِتابَ [٣٠] الذي آتاه الله عيسى كما ترى في ما يلي: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [٣٠].
ومقتضى هذه النصوص أن الإنجيل كتاب واحد أو قراطيس لكتاب واحد أنزله الله أو أوحى به أو علّمه وآتاه لنبيه عيسى عليه السلام فيه تبليغات وأحكام ووصايا ربانية. هذا في حين أن النصارى اليوم يعترفون ويتداولون أربعة أناجيل هي أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا. ويسمون المجلد الذي يضمها أربع عشرة رسالة من القديس بولس ورسائل من القديسين يعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا مع
500
اختلاف في عددها عند الكاثوليك والبروتستانت ورسالة فيها رؤيا القديس يوحنا باسم العهد الجديد. مع اعترافهم بأسفار العهد القديم على اختلاف في بعضها عند الكاثوليك والبروتستانت وضمهم إياها مع العهد الجديد باسم جامع هو (الكتاب المقدّس).
والأناجيل الأربعة صريحة بأنها كتبت بعد عيسى واحتوت قصة حياته ورسالته وتعاليمه ومعجزاته ونهايته في الدنيا، وقد كتبت بعد وفاة عيسى ورفعه بمدة ما وفي خلال القرن الأول بعد ميلاده. وهناك من يؤرخ عام ٣٧ بعد الميلاد لكتابة أوّلها وعام ٩٨ لكتابة رابعها.
ويلمح فرق بينها وبين ما يسمى (التوراة) فليس هناك سفر بين أسفار العهد القديم المتداولة اسمه التوراة في حين أن اسم الإنجيل هو المطلق المتداول. وفي بعض الأناجيل ذكر نصا. وبحثنا يتناول هذا الاسم مباشرة دون سائر أسفار العهد الجديد الأخرى لأنه هو المذكور في القرآن والموجود في الواقع. ولذلك سوف نقتصر عليه.
وبين الأناجيل الأربعة تطابق في كثير من أقوال عيسى وتعاليمه وسيرة حياته ومعجزاته مع اختلاف في الصيغة والأساليب والعبارات. وفي بعضها من هذه الأقوال والتعاليم والسيرة والمعجزات ما ليس في البعض الآخر. وفي بعضها مباينات وتناقضات أيضا مع ما في بعضها الآخر. حيث يبدو من هذا أن كتّابها سجلوا ما كتبوه عن مصادر مختلفة ومن الروايات والمسموعات والمحفوظات التي يقع عادة فيها مباينات ومناقضات وزيادة ونقص. وليس فيها أية دلالة على أن شيئا مما فيها من إملاء عيسى عليه السلام أو أنه كتب في حياته وعلمه.
وهناك روايات تذكر أن عدد الأناجيل كثير ويتراوح بين العشرين والسبعين.
ويؤيد هذه الكثرة جملة وردت في بدء إنجيل لوقا تفيد أن كثيرين كتبوا قصة عيسى. ومن الأناجيل التي رأيناها غير الأربعة إنجيل برنابا. ومن الأناجيل التي قرأنا خبرها أناجيل الطفولة والولادة والأم.
501
والنصارى يقولون عن غير الأناجيل الأربعة منحولة ودخيلة ومزوّرة. والذي قرأناه من أقوالهم عن إنجيل برنابا أنه مزوّر في زمن الإسلام. ولم نطلع على أقوالهم عن زمن الأناجيل الأخرى التي يصفونها بتلك الأوصاف. وفي القرآن عن عيسى أمور ليست واردة في الأناجيل الأربعة على ما سوف نشرحه بعد نعتقد أنها كانت واردة في أناجيل أخرى حيث يمكن القول إن من تلك الأناجيل ما كتب قبل الإسلام. ولقد قرأنا في بعض كتب الأستاذ الحداد أن من جملة الأناجيل المنحولة إنجيل آخر لمتّى فيه مباينات كثيرة لإنجيله المعترف به حيث يبدو أنه كان للأناجيل المعترف بها أيضا نسخ عديدة فيها مباينات لنسخ أخرى منها وبخاصة للمعترف بها التي استقرّت العقائد والمسلّمات النصرانية العامة عليها. ومن المحتمل أن يكون للأناجيل الأخرى مثل ذلك.
وواضح من كل ما تقدم أن الأناجيل الأربعة المعترف بها لا يمكن أن يصدق عليها تسمية الإنجيل القرآنية والوصف الذي وصف القرآن الإنجيل به.
على أن آيات سورة المائدة [٤٦ و ٤٧ و ٦٥ و ٦٧] قد تفيد أن الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى وآتاه وعلمه إيّاه وفيه أحكامه وتعاليمه ووصاياه كان موجودا في أيدي النصارى حين نزول القرآن. وما دام أنه لا يوجد الآن إنجيل يصدق عليه وصف القرآن فلا مناص من الاعتقاد بأنه فقد في ظرف ما.
ولقد يكون في الأناجيل المتداولة المعترف بها أشياء مما تلقاه عيسى من ربّه أو احتواه الإنجيل الذي أنزل عليه وآتاه إياه وعلّمه إياه. غير أنها لا يمكن أن تكون من وجهة نظر القرآن والمنطق والواقع بديلة عنه لأن فيها ما لا يمكن أن يكون من ذلك الإنجيل المنزل. ومن ذلك على سبيل المثال سيرة عيسى عليه السلام منذ ولادته إلى نهايته. وليس فيها إلى ذلك أشياء كثيرة وردت في القرآن ويقتضي أن تكون في ذلك الإنجيل. ومن ذلك على سبيل المثال عدم ورود أوصاف محمد صلّى الله عليه وسلّم بصراحة قاطعة في أي منها وهو ما ذكره القرآن في آية سورة الأعراف هذه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ
502
وَالْإِنْجِيلِ
[١٥٧]. ومن ذلك ما ذكر في القرآن بصراحة قاطعة من أن عيسى عبد الله ونبي من أنبيائه وأنه جاء مبشّرا برسول من بعده اسمه أحمد كما جاء في هذه الآيات:
١- لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [المائدة: ٧٢].
٢- قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: ٣٠- ٣٣].
٣- وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف: ٦٣- ٦٤].
٤- وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف: ٦].
وقد يكون في الأناجيل المتداولة عبارات يمكن تأويلها بما يتفق مع هذه التقريرات القرآنية. غير أنها ليست صريحة صراحة قاطعة. والنصارى يؤولونها تأويلا يجعلها لا تتفق مع هذه التقريرات.
وفي القرآن قرائن تدلّ على أن الأناجيل المتداولة اليوم والمعترف بها كانت موجودة في أيدي النصارى بالإضافة إلى الإنجيل المنزل من الله على عيسى والذي آتاه وعلّمه إياه. ومن ذلك قصة بشارة زكريا ومريم بيحيى وعيسى التي وردت في إنجيل لوقا دون غيره والمطابقة لما ورد من ذلك في سورتي آل عمران ومريم مطابقة تكاد تكون تامة. ومن ذلك معجزات إحياء الموتى وشفاء العمي والبرص الواردة في الأناجيل جميعها والمذكورة في سورتي آل عمران والمائدة واستجابة
503
الحواريين لدعوته المذكورة في سور آل عمران والمائدة والصف. ومن ذلك عشرات الآيات الواردة في أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا التي تحكي أقوالا عن لسان عيسى متطابقة إجمالا وصراحة حينا وضمنا حينا مع ما حكته عن لسان آيات عديدة مكية ومدنية برغم ما يحاول النصارى صرفها عن معانيها المتطابقة مع روح الآيات القرآنية وتأويلها بما يتطابق مع عقائدهم ومسلّماتهم المستقرّة نتيجة لقرارات المجامع المقدّسة التي أخذت تنعقد من حين لآخر منذ أواسط القرن الرابع بعد الميلاد والتي كانت تنعقد بالدرجة الأولى لبحث الاختلاف في تأويل الأناجيل في شخصية عيسى الذي كان ينجح بين علمائهم.
وفي القرآن تقريرات وأقوال عديدة عن عيسى وحياته ومعجزاته ليست واردة في الأناجيل المتداولة المعترف بها كما قلنا قبل. وبعضها وارد في إنجيل برنابا الذي يقول النصارى إنه مزوّر. فإذا سلمنا جدلا بزعمهم هذا تبقى تلك التقريرات والأقوال واردة لأنها وردت في القرآن الذي لا يمكن لأحد أن يزعم أنه لم يبلغ من النبي ولم يكن معروفا في عهده. ومن ذلك طلب الحواريين من عيسى أن يلتمس من الله إنزال مائدة من السماء والمحاورة التي جرت بينه وبينهم وحكتها آيات سورة المائدة [١١٤ و ١١٥] ومن ذلك كيفية إلجاء المخاض مريم إلى جذع النخلة وما كان من شكواها ومخاطبة وليدها من تحتها لها وتطمينه وقوله إذا رأت أحدا أن تقول لهم إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا. ومخاطبة قومها لها متعجبين من ولادتها بدون زوج ومخاطبة عيسى لهم بأنه عبد الله آتاه الكتاب وجعله نبيا في آيات سورة مريم [٢٣- ٣٣] ومن ذلك ما حكي عن لسانه بأنه مبشّر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد في آية سورة الصف [٦] وما حكي عن لسانه من التنديد بكل من يشرك مع الله غيره في عبادة، ودعوته لبني إسرائيل إلى عبادة الله وحده ربه وربهم في سياق إعلان كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم في آية سورة المائدة [٧١] ثم في آية سورة الزخرف [٦٤] ومن ذلك نفي القرآن لقتل اليهود لعيسى وصلبه وما قرره من شكّ واختلاف في الأمرين الناس
504
والنصارى في آيات سورة النساء [١٥٦ و ١٥٧] «١».
ومن ذلك ما ذكر في آية سورة الأعراف [١٥٧] من أن النصارى كانوا يجدون في الإنجيل صفات النبي محمد الرسول الأمي. وفي سورة آل عمران آيات تذكر نذر أم مريم لما في بطنها لله وتكفّل زكريا لمريم بعد ولادتها نتيجة لعملية قرعة بين المختصمين عليها عبّر عنها بإلقاء الأقلام وما كان زكريا يجده عندها من رزق وسؤاله وجوابها وهي الآيات [٣٥- ٤٤].
فهذه الآيات كانت تتلى جهرة على الناس ويسمعها النصارى وقد آمن فريق منهم بالنبي والقرآن وفرحوا به واعترفوا أنه الحق واتّبعوه كما جاء في آيات عديدة من القرآن. منها ما ذكر فيه النصارى صراحة ومنها ما ذكر فيه أهل الكتاب والعلم الذين يدخل فيهم النصارى كما ترى في الآيات التالية:
١- وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمران: ١٩٩].
٢- وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما
(١) رأينا الأستاذ الحداد يحاول تأويل الآيات بما يتفق مع العقائد النصرانية وما جاء في الأناجيل المتداولة من تثبيت الصلب حيث يقول ما خلاصته إن الآيات إنما تنفي كون اليهود قتلوه بمعنى أعدموا وجوده بالمرّة وإن هذا ما تخيلوه وشبّه لهم في حين أنهم لم يقتلوه بذلك المعنى يقينا. ونحن نرى هذا غير سليم والآية هي في صدد توكيد نفي القتل والصلب الفعليين. ونرى أن الجملة وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ في الآية [النساء: ١٥٧] تفيد أن هذا الأمر كان مشكوكا فيه بين طوائف من الناس وأن ما يقولون من قتله وصلبه هو من قبيل الظن. ونعتقد أن هذا الاختلاف كان واردا في بعض الأناجيل التي أبيدت لأنها لم تعد منسجمة مع المسلمات والعقائد النصرانية المستقرّة نتيجة لاجتماعات وقرارات المجامع المقدّسة.
505
أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: ٨٢- ٨٥].
٣- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: ٢٠].
٤- أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: ١١٤].
٥- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: ١٥٧].
٦- وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرعد: ٣٦].
٧- قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا «١» (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: ١٠٧- ١٠٩].
ونعتقد أن تلك التقريرات التي احتوتها آيات المائدة [٧١ و ١١٢- ١١٥] والنساء [١٥٦ و ١٥٧] والأعراف [١٥٧] ومريم [٢٣- ٣٣] والزخرف [٦٤]
(١) يتبادر لنا أن هذه الجملة بسبيل تقرير أهل العلم بأن الله قد وفى بوعده فأرسل محمدا الذي يجدونه مكتوبا عندهم والذي بشرّهم به عيسى وأنزل عليه القرآن فكان منهم هذا الموقف الرائع الإيماني الخشوعي حينما كانوا يسمعونه.
506
والصف [٦] قد وردت في أناجيل أخرى كانت متداولة في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم فأهملت وفقدت أو أبيدت لأن فيها ما هو متطابق مع التقريرات القرآنية بصراحة قطعية لا تتحمل التأويل فلم تصل إلينا برغم وصف النصارى لغير الأناجيل الأربعة التي يعترفون بها بأنها دخيلة أو متحوّلة أو مزوّرة. ولقد ورد في آخر إنجيل يوحنا رابع الأناجيل المعترف بها هذه العبارة: (وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع لو أنها كتبت واحدة فواحدة لما ظننت أن العالم نفسه يسع الصحف المكتوبة) التي تفيد أنه فات كاتب هذا الإنجيل أشياء كثيرة جدا من أقوال وأحداث ومعجزات وتبليغات عيسى عليه السلام. وليس ما يمنع أن يكون من هذه الأشياء ما هو مدوّن في أناجيل وقراطيس أخرى فقدت أو أبيدت.
والمتبادر أن النصارى رأوا أن يستقروا على الأناجيل الأربعة لأنهم رأوها الأكثر انسجاما مع المسلّمات والعقائد التي استقرّوا عليها نتيجة للمجامع المقدسة ويهملوا ويبيدوا ما استطاعوا مما يصفونه بالدخيل والمتحول والمزوّر وما كان فيه مطابقة لما جاء صراحة في القرآن عن عبودية عيسى لله وكونه نبيا من أنبيائه وكونه إنّما دعا إلى الله ربّه وربّ الناس، وعن تبشيره من بعده برسول اسمه أحمد وعن صفات هذا الرسول الصريحة.
ولقد طبّق الأستاذ الحداد ما قاله وأوردناه في سياق بحث التوراة من كون التوراة كلام الله ويستحيل تبديلها بنصّ القرآن على الإنجيل المنزل على عيسى الذي كان موجودا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولقد قلنا قبل إن آيات المائدة [٤٦ و ٤٧ و ٦٥ و ٦٧] قد تفيد حقا إن هذا الإنجيل كان موجودا. ولقد علقنا على قوله تعليقا فيه الكفاية في سياق ذلك البحث فلا نرى ضرورة لإعادته وما قلناه هناك يرد هنا بتمامه.
ولقد طبّق قوله الذي أوردناه في سياق البحث السابق وهو أن كتّاب الأسفار هم كتّاب وحي الله على كتاب الأناجيل الأربعة. كما طبق قوله إن الأسفار كانت مكتوبة على رقوق قديمة قبل النبي وأن المطبوع المتداول اليوم هو طبقا لهذه
507
الرقوق بدون تغيير وتبديل وعدم احتمال ذلك على الأناجيل الأربعة أيضا. وما علقنا به على هذه الأقوال في البحث السابق يرد هنا بتمامه كذلك فلا حاجة للإعادة.
وفي سورة المائدة بالنسبة للنصارى بالإضافة إلى ما بين الأناجيل المتداولة ونصوص القرآن من مباينات متنوعة آية تفيد أنهم لم يحافظوا على كل ما ذكرهم الله به أو نزل إليهم وهي هذه: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [١٤].
وفي سورتي مريم والزخرف هذه الآيات التي جاءت في سياق الكلام عن رسالة عيسى عليه السلام والتي تذكر ما كان من اختلاف الناس وأحزابهم فيها مما يمكن أن يكون مرجعه اختلاف المصادر والنصوص التي سجّلها الكتّاب عن سيرة عيسى ورسالته من بعده:
١- قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) «١» [٣٠- ٣٧].
(١) قال الحداد عن هذه الآيات إنها مقحمة على السياق لأنها مخالفة للقافية. وهذا ليس سببا صحيحا لأن مثل هذا وارد في سور أخرى. ومع ذلك فلو فرضنا أنها نزلت منفصلة ثم وضعت في مكانها للمناسبة فإنما يكون ذلك بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس فيه تغيير وإخلال للموضوع والمقصد. وإذا كان قصده من كلمة مقحمة هو أنها مزيدة لأنه يزعم مثل هذا في شأن آيات أخرى فإن نصّ آيات الزخرف التالية مطابقة لها وتقرر ما تقرّره. وهذا فضلا عن أن هناك آيات عديدة تقرر ما تقرره مثل آيات سورة آل عمران هذه: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) ومثل آية المائدة هذه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [٧٢] وبهذا تسقط الحجة والزعم الزائفان.
508
٢- وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٥٧- ٦٥].
وفي سور البقرة والمائدة والمؤمنون والشورى آيات تشير إلى اختلاف أهل الكتاب ومنازعاتهم إلى حد القتال وتفرقهم وتعدّد مذاهبهم وإخفائهم كثيرا مما في أيديهم من الكتاب. وتشمل النصارى بطبيعة الحال وهي هذه:
١- كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) البقرة [٢١٣].
٢- تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) البقرة [٢٥٣].
٣- يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا
509
كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: ١٥- ١٦].
٤- يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: ٥١- ٥٣] «١».
٥- شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى: ١٣- ١٤].
فهذه الآيات تعكس من دون شكّ كما هو المتبادر ما كان في نصوص الأناجيل التي كتبها البشر سواء منها التي يعترف بها النصارى وحدها اليوم أم جميعها مما كان موجودا في زمن النبي وضاع أو أبيد من تباين وتناقض واختلاف وما كان بينهم من اختلاف وتشاد وشكوك وتعدّد مذاهب وعقائد وأحزاب وقتال نتيجة لذلك وما كان من إخفائهم كثيرا من قراطيس الكتاب المنزل من الله. ولا يمكن أن تكون هذه الآيات إلّا صورة صادقة لما كان عليه أمر النصارى والأناجيل
(١) يزعم الحداد أن الآيات في صدد أحزاب المشركين والكلام فيها عائد لما بعدها. ومطلعها ينقض هذا الزعم فضلا عن أنها جاءت بعد ذكر نوح وهود وموسى وابن مريم وأمه ورسل آخرين أرسلوا تترى إلى أقوامهم (اقرأ الآيات ٢٣- ٥٠) حيث تفيد الآيات أن فيها إشارة إلى ما كان من تفرّق الناس بعد أولئك الرسل إلى أحزاب وهذا يصدق على أهل الكتاب كما يصدق على غيرهم بطبيعة الحال.
510
التي كانوا يتداولونها سواء منها التي وصلت إليها أم التي فقدت أو أبيدت.
واختلاف النصارى منذ القرون الأولى للنصرانية واستمرار ذلك وتعدّد مذاهبهم وتنوّع عقائدهم وما كان من تناحر وقتال بينهم نتيجة لذلك من الحقائق التاريخية التي لا تزال مستمرة والتي لا يمكن لأحد أن يكابر فيها.
ولقد قرأنا في ملحق جريدة «النهار» البيروتية المؤرخ في ١/ ١/ ١٩٦٥، بحثا بتوقيع الأب يوسف دره ينطوي على زعم طريف. وقرأنا تفصيلا أوسع لهذا الزعم في الكتاب رقم (٢) (الكتاب والقرآن) من كتب الحداد «١» وهو خاص بالأناجيل، وفاقع الطرافة جدا. وفيه من المفارقة أشدّ مما في اقتباس اصطلاح (كتاب الوحي) وإطلاقه على كتّاب الأسفار والأناجيل. فقد أورد الحداد بعض الأحاديث المرويّة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم التي فيها أن القرآن أنزل على سبعة أحرف. وأورد أقوال المفسرين وعلماء القرآن الكثيرة التي لا يستند كثير منها بل أكثرها إلى أسناد وثيقة متصلة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم أو علماء أصحابه وتابعيهم ولا تعدو أن تكون من باب الاجتهاد والتي من جملتها أن المسلمين اختلفوا في كتابة المصحف في زمن عثمان ثم اتفقوا على كتابته على حرف واحد وإهمال ما عداه فيمسك بهذا القول على غموضه وترك الأقوال الموضحة له ثم حمله ما لم يحمله وقال لا فضّ فوه إنهم بذلك أضاعوا علينا معرفة ما كان في الحروف الأخرى من مباينات وتناقضات واختلافات بالنسبة للحرف الذي أثبتوه واقتصروا عليه في حين أن الإنجيل نزل على أربعة أحرف تمثّلت في أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا ولم يكن فيها ما يخشاه النصارى من تناقض وتباين فاحتفظوا بها كما نزلت كشهادات متعدّدة على صحة الإنجيل ووحدة جوهره واتفاق معانيه على اختلاف ألفاظه.
والشرع العالمي والديني والمدني لا يقوم على صحة شهادة واحدة. وهكذا
(١) اسم الأستاذ الحداد هو الأب يوسف. ولا ندري هل هو نفسه صاحب مقال ملحق النهار وإن كنا نرجح ذلك لأن ما جاء في كتاب الحداد تفصيل لما جاء في الملحق.
511
تكون لصحة الإنجيل أربع شهادات بينما ليس للقرآن إلّا شهادة واحدة «١».
وهكذا تجري المفارقة في القياس إلى الزعم صراحة أو ضمنا أنه كان للقرآن سبع نسخ مختلفة في العبارات والترتيب والتبويب والسياق والسور والألفاظ مثل الأناجيل الأربعة. وينسيه الهوى أن هذه الأناجيل ليست إلّا ترجمة لحياة عيسى كتبها أناس بعده سماعا ورواية وليس فيها ما يدلّ على أن فيها شيئا من إملائه مثل القرآن الذي هو من إملاء النبي صلّى الله عليه وسلّم مباشرة، وأنها ليست أربعة بل أضعاف أضعاف هذا العدد وأن هناك من الدلائل ما يدل على كونها أكثر من أربعة بصورة قاطعة لأن في القرآن أشياء كثيرة ذكرت عن لسان عيسى وحياته ليست في الأناجيل الأربعة فضلا عن ما في هذه الأناجيل من ثغرات عديدة على ما نبهنا عليه قبل بحيث يكون في ذلك الزعم سخرية بالعقل والحقيقة وجرأة على الحق والمنطق.
وهذا فضلا عن أنه لم يقل أحد من المسلمين أن معنى نزول القرآن على سبعة أحرف اختلاف وتعدد في النصوص، والذي أجمع عليه أئمتهم أن ذلك كان لتيسير قراءته بأهمية متعددة وإملاء مختلف لسبب اختلاف اللهجات والأداء وأن كبار أصحاب رسول الله رأوا أن يكتبوه بهجاء ولهجة وإملاء لغة قريش لأنها لغة النبي الذي نزل القرآن عليه بتأييد آية سورة إبراهيم هذه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [٤].
ونصّ الأحاديث المروية يؤيد كون القصد من الأحرف السبعة هو تيسير قراءة القرآن حسب استطاعة القارئ ما دام لا يغير كلمة بضدها حيث جاء في أحدها الذي رواه مسلم وأبو داود عن أبي بن كعب قال: «أتى جبريل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال له إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثانية فقال له إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرفين
(١) العبارة الأخيرة جاءت في ملحق النهار.
512
فقال أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الثالثة فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا». وفي رواية للترمذي: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يا جبريل بعثت إلى أمة أمّيين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قطّ. قال يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف... » وهناك أحاديث فيها أحداث تطبيقية تدعم ذلك المعنى. منها حديث رواه مسلم عن أبيّ بن كعب قال: «كنت في المسجد فدخل رجل يصلّي فقرأ قراءة أنكرتها. ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه. فلما قضيا الصلاة دخلنا جميعا على النبيّ فقلت إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه. ودخل هذا فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله فقرأا فحسّن النبي شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية. فلما رآه رسول الله قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عزّ وجلّ فرقا فقال لي يا أبيّ أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هوّن على أمتي فردّ إليّ الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هوّن على أمتي فردّ إليّ الثالثة اقرأه على سبعة أحرف». وهناك أحاديث أقلّ رتبة فيها بعض زيادات ولكن ليس فيها كذلك ذلك المعنى الذي تخيّله الأب يوسف الحداد أو يوسف دره. منها حديث رواه الإمام أحمد عن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: «أنزل القرآن على سبعة أحرف على أي حرف قرأتم أصبتم. فلا تماروا فإنّ المراء فيه كفر». وحديث رواه الإمام نفسه عن أبي طلحة قال: «قرأ رجل عند عمر فغيّر عليه فقال قرأت على رسول الله فلم يغيّر عليّ قال فاجتمعا عند رسول الله فقرأ أحدهما على النبي فقال له أحسنت، قال فكأن عمر قد وجد في نفسه من ذلك فقال له النبي إن القرآن كلّه صواب ما لم تجعل مغفرة عذابا أو عذابا مغفرة». وحديث رواه أبو يعلى عن المنهال قال: «بلغنا أن عثمان قال يوما وهو على المنبر أذكر الله رجلا سمع النبي قال أنزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف إلّا قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أنّ رسول الله قال ذلك فقال عثمان وأنا الجزء الثاني من التفسير الحديث ٣٣
513
أشهد معهم». وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: «قال النبي أنزل القرآن على سبعة أحرف المراء في القرآن كفر. ثلاث مرات فما علمتم فادخلوا به وما جهلتم فردّوه إلى عالمه» وفي رواية: «أنزل القرآن على سبعة أحرف. عليما حليما. غفورا رحيما» وكل ما يرجعه الحديث الأخير أن يخطئ القارئ فيقول عليما بدل حليما وغفورا بدل رحيما. وهو مع ذلك حديث لا يمكن الاستيثاق منه فلم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ورواته ليسوا موثقين مثل رواة هذه الأحاديث.
ومن يقرأ كتاب الإتقان للسيوطي الذي جمع الأقوال في صدد ومدى هذه الأحاديث ونقلها عنه الحداد يجد أن في بعضها ما ينفي أن يرجح على بعض آخر لأنه المتّسق مع روح الأحاديث. ومن ذلك «إنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بل التيسير والتسهيل. ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق لفظ السبعين على إرادة الكثرة في العشرات والسبعمائة على إرادة الكثرة في المئات» وهو ما قصده القرآن في هذه الألفاظ على ما يستلهم من روح الآيات التي وردت فيها «١» ومن ذلك: (أن المراد وجوه قراءات الكلمة التي تتحمل كتابتها قراءات عديدة مثل كلمة (عبد الطاغوت) التي يمكن أن تقرأ (عابد الطاغوت) و (عبدة الطاغوت) و (عبيد الطاغوت) ومثل كلمة (كتب) التي يمكن أن تقرأ (كتاب) ومثل كلمة (علم) التي يمكن أن تقرأ (عالم) وكلمة (بعد) التي يمكن أن تقرأ (باعد) وكلمة (يستيئس) التي يمكن أن تقرأ (يتبين) وأمثالها لأن الحروف لم تكن تنقط حين ذاك). ومن ذلك: (إجازة تقديم وتأخير في الجملة مثل وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: ١٩] فيجوز قراءتها (وجاءت سكرة الحق بالموت) ومثل إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: ٣] فيجوز قراءتها (من هو
(١) مثلا مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة: ٢٦١] واسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: ٨٠] فالمراد من هذا هو إرادة الكثرة والله أعلم.
514
كافر كذاب) ومثل يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: ٣٥] فيجوز قراءتها (على قلب كل متكبر جبار) ومن ذلك: (إن الرخصة قد وقعت في ذلك الزمن لأن أكثر الناس لم يكونوا يكتبون ويقرأون ولم يكونوا يعرفون رسم الحروف ومخارجها). ومن ذلك: (ما يقع من اختلاف في قراءة الإفراد والتثنية والتذكير والتأنيث وتصريف الأفعال من حاضر ومضارع ومخاطب وغائب واختلاف الإعراب باختلاف المواقع). ومن ذلك: (إن المقصود من الرخصة أداء الكلمة الصوتي من إمالة وترقيق وتفخيم وإدغام وإظهار وإشباع ومدّ وقصر وتشديد وتخصيص وتليين دون تغيير في المعنى واللفظ والصورة). ومنها (إن المقصود هو ترخيص قراءة الكلمة على وجهين أو ثلاثة أو سبعة تيسيرا وتهوينا). ومنها: (إن المسلمين أجمعوا على تحريم إبدال آية بآية) ومنها (أن جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين قالوا إن المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة وأنها جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلّى الله عليه وسلّم على جبريل متضمنة لها لم تترك حرفا منها). ومنها (أن أصحاب رسول الله لما رأوا أن الناس يختلفون في قراءة الكلمات أجمعوا على كتابتها على ما جاء في المصحف العثماني وعلى ما تحققوا أنه القرآن المستقر في العرضة الأخيرة وتركوا ما سوى ذلك. وإن ما يقرأه المسلمون فيه هو الذي كان يقرأ في العام الذي قبض النبي فيه وإن زيد بن ثابت الذي كتب مصحف أبي بكر كان كاتب وحي رسول الله وإنه شهد العرضة الأخيرة وكتبها لرسول الله وقرأها عليه وكان يقرئ الناس بها حتى مات.
ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في تدوينه وجمعه وولّاه عثمان كتابة المصاحف التي كانت طبقا لمصحف أبي بكر وترتيبه).
ومن الجدير بالتنبيه أن الأحاديث المروية وأقوال جمهرة علماء المسلمين هي في صدد تلاوة القرآن وليست في صدد كتابته من حيث الأصل والمدى بحيث يمكن القول إنه لم يكن هناك مصاحف مكتوبة بكتابات مختلفة وهذا ما يؤيد كون القرآن لم يكن متعدد الصيغ والألفاظ كما يريد الحداد دره أن يوهمه وكل ما هنالك اختلاف في القراءة وبسبب احتمال كتابة الكلمات لهذا الاختلاف.
515
ونحن نعرف أن هناك روايات كثيرة تذكر أن آيات وسورا كانت تتلى ولم تكتب في مصحف عثمان وأنه كان لبعض أصحاب رسول الله مصاحف مغايرة في ترتيب سورها لترتيب هذا المصحف وأنه كان لبعض أصحاب رسول الله مصاحف خلت من المعوذتين والفاتحة أو فيها زيادة سورتين اسمهما الحفد والخلع أو فيهما كلمات مباينة في مبناها دون معناها لما في هذا المصحف وإن النبي توفي ولم تكن الآيات مرتبة في السور، والسور مرتبة في المصحف وإن كل هذا قد تمّ بعده في زمن أبي بكر ثم عثمان. وأن آيات لم تكن موجودة زيدت وآيات كانت موجودة رفعت لأغراض سياسية. ولقد اهتم الحداد لإبراز ذلك والاتكاء عليه وعلى الأقوال المرجوحة الأخرى ليدعم نظريته في حين أن كل تلك الروايات والأقوال لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة بل ولا الأقل رتبة من هذه الكتب. وهي روايات مرسلة لا يمكن التعويل عليها. وهناك روايات أوثق منها تنفيها وتثبت أن القرآن كان يكتب فور نزوله. وأن آياته رتبت في سورها وسوره رتبت في المصحف حسب المتداول بأمر النبي ووحي ربّه. وإن أبا بكر وكبار أصحاب رسول الله إنما حرروا نسخة تامة بعد انقطاع الوحي القرآني بموت النبي لكل ما تركه النبي قرآنا مستقرا غير منسوخ لتكون مصحفا يرجع إليه. وإن مصحف عثمان قد كان مطابقا لهذا المصحف ونقل عنه وكل ما كان من أمر هو كتابة الكلمات التي يمكن الاختلاف في قراءتها برسم وإملاء وتهجئة لغة قريش فصار ذلك هو المصحف العثماني وأبيد ما سواه لئلا يظلّ المسلمون يختلفون في قراءة القرآن من المصاحف التي كانت مكتوبة برسم وإملاء وتهجئة مختلفة قليلا أو كثيرا عن رسم وإملاء وتهجئة لغة قريش. وهناك دلالات قرآنية وأحاديث معتبرة تؤيد كل ذلك تأييدا قويا. ولقد أوردنا كل ذلك وعلّقنا عليه في كتابنا «القرآن المجيد» وانتهينا منه إلى حقيقة كون القرآن كان مكتوبا ومرتبا حسب ترتيبه المتداول في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومن العجيب أن الحداد ينقل عن كتابنا ما أوردناه من الروايات المرجوحة دون المرجّحة والوثيقة ولا يورد تعليقاتنا التي فنّدنا بها الروايات المرجوحة وأثبتنا بها إلى تلك الحقيقة. لأن ذلك لا يوافق هواه الذي يحاول إبرازه والتركيز عليه.
516
ولم يكتف بما ورد في الروايات المرجوحة. حيث سمح لهواه أن يملي عليه مزاعم أخرى في كون بعض آيات أقحمت أو دسّت أو زيدت على القرآن تحكما وتعسفا ودون أي سند وسبب معقول. وهو يفعل هذا كل ما رأى في مثل هذه الآيات ما يفحمه ويدحض مزاعمه التي يسوقها لتأييد هواه. وقد أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سبق.
تعليق على ما يرويه الشيعة في صدد جملة وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ في الآية ١٦٠ من السلسلة
وجمهور المفسرين على أن معنى هذه الجملة هي أنهم بما خالفوا أوامر الله واقترفوه من أعمال منحرفة عن وصاياه لم يضروا به الله وإنما أضروا به أنفسهم وظلموها بما استحقوه من غضب الله. غير أن مفسري الشيعة أوّلوا الجملة على هواهم حيث ذكر حسين الذهبي في كتابه «التفسير والمفسرون» أن المفسّر الشيعي الكارزاني روى عن أبي جعفر أحد الأئمة الاثني عشر جوابا على سؤال عن هذه الجملة جاء فيه (إن الله أعظم وأعزّ من أن يظلم ولكن خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته حيث يقول إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يعني الأئمة منا). وفي هذا من الشطط والتجور والهوى ما نحب أن ننزّه أبا جعفر عنه ونرجّح أنه منحول له من كتّاب الشيعة ورواتهم الذين لا يكادون يتركون آية في القرآن إلّا ويؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٣ الى ١٧١]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
517
(١) حاضرة البحر: ثغر البحر أو الميناء.
(٢) يعدون في السبت: يعتدون على حرمة السبت.
(٣) حيتانهم: أنواع السمك.
(٤) شرعا: ظاهرة أو كثيرة.
(٥) يوم لا يسبتون: يوم لا يكون سبت ينقطعون فيه عن العمل.
(٦) نبلوهم: نمتحنهم.
(٧) بئيس: شديد.
(٨) فلما عتوا: فلما تمردوا.
(٩) خاسئين: صاغرين أذلّة.
(١٠) وإذ تأذن: آلى على نفسه، أو أعلم وآذن.
(١١) عرض هذا الأدنى: عرض الحياة الدنيا الحقير الفاني.
(١٢) درسوا ما فيه: قرأوا وفهموا ما فيه.
(١٣) يمسكون: يتمسكون.
518
(١٤) نتقنا: قلبنا أو رفعنا أو اقتلعنا.
(١٥) كأنه ظلّة: كأنه صار يظلّهم من فوقهم.
(١٦) وظنّوا: هنا بمعنى تيقّنوا.
وهذه حلقة ثالثة وهي الأخيرة من سلسلة قصص بني إسرائيل احتوت إشارة موجزة إلى بعض ما كان من بعضهم من بعد موسى عليه السلام من انحراف وما كان من احتيالهم على شريعة السبت وما كان من إنذارهم بلسان بعض الصالحين وعدم ارعوائهم ونكال الله بهم وجعله إياهم قردة وتنجيته الذين ينهون عن السوء، وإصرارهم مع ذلك على التمرّد وتعلّقهم بمتاع الدنيا وأعراضها وبيعهم دينهم وكتاب الله بسبيل ذلك رغم العهد الذي أخذه عليهم يوم نتق الله فوقهم الجبل حتى اعتقدوا أنه واقع عليهم بأن يتمسكوا بما أنزله لهم من أحكام ومبادئ بقوة ويتذكروها دائما حتى يتقوا بذلك غضب الله وعواقب سخطه. وما كان من تشتيت الله لهم في الأرض وإيلائه على نفسه بأن يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة عقوبة لهم مع تنويه بمن يظلّ متمسكا بكتاب الله تعالى ووعده بعدم تضييع وبخس أجر المصلحين.
ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة ورد في سورتي البقرة والنساء بصيغة أخرى حيث جاء في سورة البقرة: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [٩٣] وفي سورة النساء: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ [١٥٤] والمتبادر أن هذا من قبيل الخوارق والمعجزات التي أجراها الله لبني إسرائيل وقد أشير إلى ذلك بصيغة غامضة في سفري الخروج والعدد من أسفار العهد القديم. ونعتقد أنه كان صريحا متطابقا مع ما جاء في القرآن في أسفار أخرى. وأسلوب الآية التذكيري يدعم ذلك لأنه يذكّر بأمر كان واضحا معلوما للسامعين من بني إسرائيل والله تعالى أعلم.
519
تعليق على رواية مدنية الآيات [١٦٣- ١٧٠] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ... إلخ
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن معظم آيات الحلقة أي من الآية [١٦٣ إلى الآية ١٧٠] مدنية. وفحواها وأسلوبها مماثلان للآيات المدنية الكثيرة في حقّ اليهود مما يؤيد صحة الرواية. ومما يؤيد ذلك الخطاب في وَسْئَلْهُمْ الموجّه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان ما جرى بين النبي وبينهم من حجاج وما كان منهم من مواقف في عهد النبي المدني. وقد ربطت بين أخلاق الآباء والأبناء وفسادهم، وهذا مما جرى عليه القرآن المدني في أمرهم ونحن نرجّح أن الآية [١٧١] أيضا من السياق نفسه وغير منفصلة عنه وتكون والحالة هذه مدنية مثل الآيات السابقة لها.
والمتبادر أن الآيات قد وضعت في السلسلة المكية لحكمة موضوعية غير خافية. ومن شواهد هذه الحكمة أنها جاءت في أعقاب الآية التي حكت ما كان من تبديل فريق من بني إسرائيل لكلام الله وما كان من إرسال الله عليهم رجزا من السماء جزاء ظلمهم وإجرامهم وانحرافهم.
تعليق على حادث السبت وتلقيناته
وحادث السبت لم يرد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. ونعتقد أنه كان واردا فيما كان بين أيدي اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم من كتب وأسفار ذهبت بها أيدي الزمن. وعبارة الآية تفيد بقوة أن السؤال الذي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتوجيهه إلى اليهود قد ورد بأسلوب تقريري يدلّ على أنه موجّه إلى من يعرف الحادث المسئول عنه ويذكره.
وفي كتب التفسير روايات عن ابن عباس وغيره من علماء الصدر الإسلامي عن هذا الحادث فيها دلالة على أنه كان معروفا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس لذلك
520
مصدر إلّا بنو إسرائيل فيها. وخلاصة هذه الروايات «١» المختلفة في الصيغ والمتفقة في المعنى أنه كان لليهود مدنية على ساحل البحر بين مدين والطور اختلف في اسمها ولكن أكثر الروايات تذكر أنها الأيلة وهي ميناء على خليج العقبة جددها اليهود المغتصبون في الوقت الحاضر وأطلق عليها اسم إيلات. وقد شاء الله أن يمتحن قوّة إيمانهم وتمسّكهم بشرائعهم فصار يرسل السمك إلى ساحلهم بكثرة يوم السبت الذي يحرّم العمل فيه عليهم ويمنعه سائر الأيام فاحتال فريق منهم على ذلك فحفر أحواضا على الساحل أو وضع شباكا فصار السمك الذي يأتي يوم السبت يقع فيها وصار هذا الفريق يأتي بعد هذا اليوم فيستولي على السمك.
ورأى فريق آخر أن هذا حيلة على الشريعة فأنكره وسكت عليه فريق آخر مع عدم اشتراكه فيه. ولم يرعو المحتالون رغما عن ما سلّط عليهم من آلام فنجّى الله المنكرين ومسخ المحتالين قردة أو قردة وخنازير أو مسخ شبابهم قردة وشيوخهم خنازير ليكونوا عبرة لغيرهم حتى لقد كانوا يتمسحون بالناجين لأنهم كانوا يعرفونهم. ولم تذكر الروايات مصير الساكتين. وإنما تروي أن ابن عباس كان يحسب أنهم أيضا كانوا موضع عقوبة الله ولكنها أخفّ من عقوبة المحتالين.
والخلاصة على كل حال متوافقة مع نصّ الآيات وروحها التي جاءت على سبيل التذكير.
ولقد أشير إلى هذا الحادث في ثلاثة أماكن أخرى من القرآن واحد في هذه الآية من سورة البقرة: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) وواحد في هذه الآية من سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٤٧) وواحد في آية سورة المائدة هذه:
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) والآيات الثلاث
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.
521
جاءت في السور الثلاث في سياق في حقّ اليهود. وأسلوبها صريح الدلالة على أن اليهود الذين كانوا يسمعون القرآن في المدينة كانوا يذكرون بحادث يتداولون خبره بل ونعتقد أنه كان واردا في بعض قراطيسهم في سياق التنديد بهم وإنذارهم بسبب مواقفهم من الرسالة المحمدية المناوئة الماكرة المنكرة.
ومع ذلك فهناك من ذهب إلى أن المسخ لم يقع فعلا وإنما عبّر بذلك عن مسخ أخلاقهم ونفوسهم فكانوا كالقردة في طيشها وشرّها وبعبارة ثانية إنما مسخت قلوبهم مع التنبيه على أن الجمهور قد أخذ بظاهر الآية والروايات المروية وقال إن المسخ البدني هو الذي وقع «١».
وقد يكون في الأساليب الخطابية المألوفة ما يساعد على التأويل الثاني حيث اعتاد الناس أن يشبّهوا بعضهم بالقردة والخنازير حينما يريدون وصفهم بصفات سيئة وينسبون إليهم بعض الأخلاق والعادات الوضيعة. وقد يكون في ورود كلمة القردة هنا والخنازير في آية المائدة والاكتفاء بذكر لعنة أصحاب السبت في آية النساء قرينة على وجاهة هذا التأويل. على أننا لا نرى طائلا في إطالة البحث والتخريج في هذه النقطة ولا سيما إن العبارة هي جزء من حكاية حادث تاريخي يعرفه ويتداوله بنو إسرائيل على سبيل التذكير والإنذار. هذا مع التنبيه على أن الحادث في ذاته ليس خارجا عن نطاق قدرة الله تعالى وليس هو إلّا من قبيل المعجزات الكثيرة التي حكاها القرآن عن الأنبياء الأولين وأقوامهم والواجب الإيمان بها وبكونها في نطاق قدرة الله.
ونذكّر بالحديث الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله وأوردناه في سياق التعليق على ما اعتاده بعضهم من الحيل لإبطال أوامر الله وتكاليفه ونصّه: «لا ترتكبوا ما ارتكبه بنو إسرائيل فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل» ونقول إن في الحديث تأييدا لما قلناه من أن الآيات تنطوي على تلقينات مستمرة المدى على المسلمين أن يستوحوها إزاء أوامر الله ونواهيه وحرماته.
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير رشيد رضا.
522
ومع خصوصية الآيات بالنسبة لليهود وحملتها على أخلاقهم فإن فيها تلقينات بليغة مستمرة المدى مما هو جوهري في جميع القصص القرآنية. ففيها تقبيح للحيل التي يراد بها التخلّص من حدود الله ومحظوراته، وتقرير أن الله حينما يأمر بواجب أو ينهى عن محظور لا يمكن أن يرضى بالحيلة للتخلص مما أمر ونهى، وردّ قاطع ومباشر على الذين يسوّغون الحيل ويبيحونها وخاصة في صدد أحكام الدين وأركانه والتفلّت من العهود والعقود وفيها تصوير لما في ذلك من بشاعة وفسق وافتراء على الله وإنذار قاصم لمن يجرؤ على ذلك. ثم فيها بشرى وتثبيت للذين ينهون عن السوء والفحشاء والعدوان على حدود الله وحثّ على النهي عن ذلك. فهذا واجب المتّقين. والله ضامن لمن يقوم به النجاة والفوز.
تعليق خاص على الآية وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ... والتي بعدها وما فيهما من تلقين وإعجاز قرآني
ولقد احتوت هاتان الآيتان تلقينا بليغا آخر في إيلاء الله تعالى على نفسه بأن يبعث على اليهود من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة بسبب ما ارتكسوا فيه من انحرافات دينية وأخلاقية واجتماعية، واقترفوه من آثام ونقضوه من مبادئ ووصايا، واستغرقوا فيه من أعراض الحياة الدنيا وبيعهم دينهم وكتابهم بالدنيا.
ففي ذلك عظة وذكرى وإنذار للمسلمين ودعوة للاعتبار والازدجار. وهذا عدا ما في الآيات من تقرير لواقع ما صار اليهود إليه من شتات في الأرض وذلّة ومسكنة وازدراء واضطهاد في مختلف الأنحاء التي تشتتوا فيها. حيث كان في ذلك مصداق إعجازي لعهد الله فيهم.
ومهما بدا في سياق حوادث فلسطين في زمننا وما نالوه من نجاح بمساعدة طواغيت الاستعمار فإن تجهم البشر لهم وازورارهم عنهم ونقمتهم عليهم بسبب
523
الأخلاق السيئة التي غدت جبلّة مميّزة لهم يتوارثها الأبناء عن الآباء عامّان في كل مكان. وجميع الظواهر تدلّ على أن ذلك سيبقى مع دوام شتاتهم في الأرض على مدى الدهر مصداقا لعهد الله تعالى وميثاقه. ونحن مؤمنون أعمق الإيمان بأن الله عزّ وجلّ سيطبق عهده عليهم بالنسبة لما أحرزوه من نجاح في فلسطين قد يكون امتحانا للمسلمين وأنهم سوف يرتدّون عنها خائبين خاسرين.
هذا، وآية وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ... إلخ حماسة قاطعة بنسف كل ما سجّله القرآن من مزايا لليهود ومن إيذان بأن الله كتب لهم الأرض المقدّسة وأورثهم إياها مما يتخذونه وسيلة إلى استغفال المسلمين حيث كان ذلك بالنسبة لزمن قديم مضى وانقضى ثم كان من أخلاقهم وانحرافاتهم ومناوأتهم لدعوة الله ورسله ما استحقوا عليه هذا العهد الرباني واستمراره إلى يوم القيامة.
تعليق على آية وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ
هذه الآية التي جاءت في خاتمة سلسلة قصص بني إسرائيل إما أن تكون في مقام الاستثناء أو الالتفات للفريق الذي ظلّ مستقيما متمسكا بكتاب الله ووصاياه من اليهود الذين حكت الآيات السابقة لها انحرافهم وبيعهم كتابهم ودينهم بأعراض الدنيا. وإما أن تكون استطرادا أو استدراكا تنويهيا بكل من يتمسك بكتاب الله ووصاياه ويؤدي له حقّ العبادة ولا ينحرف عن ذلك بسبيل مآرب الدنيا وأعراضها التافهة. وليس ما يمنع أن تكون قد تضمنت الأمرين معا.
ولقد احتوى القرآن حملات قارعة على اليهود بسبب انحرافهم الديني والأخلاقي ومكائدهم ضدّ الدعوة الإسلامية وصاحبها، وإنكارهم أو كتمهم ما عندهم من بشائر وما يعرفون من حقائق بسبيل ذلك، غيظا وبغيا وخشية على مصالحهم الدنيوية مما سوف يأتي في مناسباته وكان يأتي أحيانا عقب هذه الحملات استثناءات تنويهية لفريق منهم ظلّ مستقيما في أخلاقه ودينه، مثل هذه
524
الآيات من سورة آل عمران: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) ولَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) ووَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) ومثل هذه الآيات في سورة المائدة: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) ووَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦).
ويتجلّى في هذه التقريرات روح الإنصاف القرآنية الرائعة في تسجيل حسنات المحسنين والتنويه بهم.
على أن من الواجب أن نسجل أن التقريرات التنويهية القرآنية لم تتناول إلّا قلّة منهم في حين كانت أكثريتهم العظمى وعلى رأسهم أكثر أحبارهم وربانييهم منحرفين عن الحق موغلين في الكيد والتآمر، على ما تفيده بعض هذه الآيات ثم الفصول القرآنية المدنية، حتى لقد وصل الأمر ببعضهم إلى إظهار إيمانهم بالجبت والطاغوت نفاقا لزعماء مشركي مكة وقولهم لهم إنهم أهدى من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه على ما حكته آيات سورة النساء هذه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ
525
آمَنُوا سَبِيلًا (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢).
وعلى كل حال فالآية التي نحن في صددها تتضمن تنويها بالذين يتمسكون بكتاب الله ووصاياه ويؤدون له حقه من العبادة، وبشارة وتطمينا بأن الله لا يضيع أجرهم، حيث ينطوي في ذلك تلقين بليغ مستمر المدى يستوحيه المسلمون أيضا في التزامهم كتاب الله وما فيه من أوامر ونواه وحدود ومبادئ وأحكام وحلال وحرام. ولقد جاء في سورة الأنعام هذه الآية: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) حيث يوجه الخطاب فيها إلى سامعي القرآن مباشرة بسبيل الحثّ على اتّباع كتاب الله وابتغاء رحمة الله ورضوانه بذلك. وفي سورة العنكبوت هذه الآية: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١). حيث يوجّه الخطاب فيها كذلك إلى سامعي القرآن بسبيل التنويه بما في كتاب الله من تذكير ورحمة لمن يؤمن به.
وهذا المعنى قد تكرر كثيرا وبخاصة في مطالع معظم السور التي تبتدئ بالحروف المتقطعة. مثل آية البقرة هذه: الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) وآيات سورة النمل هذه طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) وآيات سورة لقمان هذه: الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣). وفي حديث طويل رواه مسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله عن حجة رسول الله الوداعية ذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيما قال في خطبته: «وقد تركت فيكم ما لم تضلّوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله» «١».
حيث انطوى في هذا حثّ المسلمين على التمسّك بكتاب الله. وهناك حديث رواه الترمذي عن الحارث الأعور قال: «مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى أنّ الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: وقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني قد سمعت
(١) التاج ج ٣ ص ١٤٤.
526
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «ألا إنها ستكون فتنة. فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟
قال: كتاب الله فإنّ فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم. وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبّار قصمه الله. ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله. وهو حبل الله المتين. وهو الذكر الحكيم. وهو الصراط المستقيم. هو الذي لا تزيغ به الأهواء. ولا تلتبس به الألسنة. ولا يشبع منه العلماء. ولا يخلق على كثرة الردّ. ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتى قالوا إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد. من قال به صدق. ومن عمل به أجر. ومن حكم به عدل. ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم»
«١». حيث ينطوي في هذا الحديث أيضا حثّ قويّ على التمسّك بكتاب الله مع التنويه بما فيه من هدى ورحمة. وحيث يتساوق كل هذا مع التلقين القرآني.
تعليق على الإسهاب في قصص بني إسرائيل
هذا، ويلحظ بصورة عامة أن قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل قد جاءت مسهبة أكثر من القصص الأخرى. وليس هذا في هذه السورة بل في السور الأخرى أيضا.
ويتبادر لنا أن الحكمة في ذلك هي أن بني إسرائيل لم يبيدوا كما باد الأقوام الأولون، وأنه كان لهم دوي عظيم في مجالات الدين والدنيا وظلّ مستمرا لم ينقطع في البلاد التي تتصل بجزيرة العرب، وأنه كان منهم فريق كبير في بلاد الحجاز. ويضاف إلى هذا أن أحداث موسى وفرعون وبني إسرائيل كانت مدوّنة في أسفار العهد القديم بإسهاب كبير وكانت متداولة بمقياس أوسع من قصص الأنبياء وأقوامهم الآخرين نتيجة لذلك. فحكمة التنزيل القرآني ماشت هذه الوقائع والحقائق في صدد قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل.
(١) التاج ج ٤ ص ٧.
527

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٤]

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
. (١) أن تقولوا: لئلا تقولوا.
(٢) ذريّة: تكررت كثيرا في القرآن بمعنى أبناء الآباء وهي من ذرأ بمعنى خلق ونمّى. ومكانها هنا وفي غير مكان يفيد أنها تعني الجيل الذي يخلف الجيل السابق والذي هو من أبنائه وأنها تعني الآباء والأولاد من الجيل الحاضر صغارا كانوا أم كبارا.
المتبادر أن هذا الفصل وما بعده قد جاء معقبا على السلسلة القصصية السابقة له كما جاءت الآيات [٩٤- ١٠٢] معقبة على السلسلة القصصية السابقة لها، وأنها والحال هذه متصلة بالسياق. وهذا ما جرى عليه أسلوب النظم القرآني من التعقيب على القصص بسبيل تركيز الإنذار والتنديد والحجة.
وقد احتوت الآيات إعذارا ربانيا للناس حتى لا يكون لهم حجة عليه إذا ما أخذ المشركين والمجرمين بذنوبهم، فقررت بأسلوب التذكير أن الله قد أخذ العهد عليهم بالاعتراف بربوبيته وأشهدهم على أنفسهم بذلك حتى لا يقولوا إننا لم نعرف الحدود والواجبات، وأن آباءنا كانوا مشركين مبطلين قبلنا فورثنا دينهم وتقاليدهم وباطلهم وسرنا على طريقتهم كما هو معتاد الناس جيلا بعد جيل، فلا ينبغي أن نعاقب ونهلك على عمل لم نقترفه وإنما ورثناه ولم يكن لنا مندوحة عنه. وقد انتهت الآيات بالدعوة إلى الاعتبار، فالله يفصّل الآيات لعلّ الناس يرعوون ويرجعون ويسيرون في طريق الحق والهدى.
528
تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ والآيتين التاليتين لها وتلقيناتها
لقد شغلت هذه الآيات وما ورد فيها من أحاديث وروايات حيزا واسعا في كتب التفسير «١» حتى لقد استغرقت ثماني صفحات كبيرة من تفسير الطبري الذي روى أحاديث وروايات كثيرة مختلفة في الصيغ والطرق والرواة متّفقة في النتيجة معظمها عن ابن عباس. ومن ذلك رواية عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان- يعني عرفه- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم فقال أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ. منها عن ابن عباس فقط قال: «مسح ربّك ظهر آدم فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ مواثيقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى». ومنها عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم قال أخذوا من ظهره لما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى. قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنا عن هذا غافلين». ومنها عن ابن عباس: «إن الله بعد أن استخرج من ظهر آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم أعادهم إلى صلبه». وفي تفسير الطبري أمثال عديدة أخرى لهذه الأحاديث فاكتفينا بما تقدم. وفيه أحاديث أخرى تمزج بين استخراج الذرية من ظهر آدم وإشهادها وبين تقدير أرزاقها وآجالها وتقدير الجنة أو النار لها. ومنها ما لا يذكر فيه الإشهاد الرباني وجواب الذرية. من ذلك عن ابن عباس قال: «لما خلق الله آدم أخذ ذرّيته من ظهره مثل الذرّ فقبض قبضتين فقال لأصحاب اليمين ادخلوا الجنة بسلام وقال للآخرين ادخلوا النار لا
(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي ورشيد رضا والقاسمي والزمخشري.
الجزء الثاني من التفسير الحديث ٣٤
529
أبالي». وفي رواية عنه: «أخذ كل طيب بيمينه وكل خبيث بالأخرى» وفي رواية عنه «كتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى» ومنها حديث عن يسار الجهني جاء فيه: «سئل عمر بن الخطاب عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله يقول: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريّة فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره واستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل قال إنّ الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من عمل أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من عمل النار فيدخله النار».
وفي تفسير ابن كثير بعض هذه الأحاديث وأحاديث غيرها أخرى منها حديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به قال فيقول نعم فيقول قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلّا أن تشرك بي». وعقب ابن كثير على هذا الحديث قائلا أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة. ومنها حديث عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خلق الله الخلق وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله فقال يا أصحاب اليمين فقالوا لبيك وسعديك قال ألست بربّكم قالوا بلى قال يا أصحاب الشمال قالوا لبيك وسعديك قال ألست بربّكم قالوا بلى ثم خلط بينهم فقال قائل له يا ربّ لم خلطت بينهم قال لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. ثم ردّهم في صلب آدم».
وفي تفسير ابن كثير نصوص عديدة أخرى مقاربة. وكذلك في كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي ورشيد رضا والقاسمي فاكتفينا بما تقدم لأنها إجمالا من باب واحد.
وحديث عمر بن الخطاب الذي يرويه يسار الجهني هو فقط ما أورده مؤلف
530
التاج رواية عن الترمذي وأبي داود «١». وهناك حديث آخر أورده هذا المؤلف في فصل التفسير الذي أورد فيه الحديث الأول رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كلّ نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة. وجعل بين عيني كلّ إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي ربّ من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذرّيتك إلخ... » «٢».
ولقد انقسم المفسرون والمؤولون في تأويل العبارة القرآنية. فمنهم من أخذ بظاهرها مستأنسا بالأحاديث النبويّة التي تتوافق مع هذا الظاهر دون توسّع في التخريج على طريقة السلف الإسلامي الأول. ومنهم الطبري الذي قال إن أولى الأقوال بالصواب ما روي عن رسول الله إن كان صحيحا ولا أعلمه صحيحا وإن لم يكن صحيحا فهو خبر من الله. ومنهم من علّل الأحاديث وقال إن بعضها موقوف وبعضها مرفوع وبعضها ضعيف. وإن فيها ما يخالف القرآن. فقد ذكر القرآن بني آدم وذكرت الأحاديث آدم وذكر الذرية والظهور بالجمع ومقتضى الأحاديث أن تكون مفردة. والقرآن أخبر أن الله فعل ذلك لئلا يقولوا إنهم كانوا غافلين ويعتذروا بشرك آبائهم مع أن مقتضى العبارة أن آباءهم قد شهدوا أيضا إلخ... وجنحوا بعد ذلك إلى التخريج فقالوا إن العبارة القرآنية هي في مقام التمثيل ولسان الحال وأوردوا بعض الآيات القرآنية للتدليل على ذلك. ومن هؤلاء الزمخشري الذي قال إن العبارة من باب التمثيل والتخييل وإن معناها أن الله نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى. فكأنه أشهدهم بذلك على أنفسهم وقررهم وقال لهم ألست بربكم وكأنهم قالوا بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك وإن باب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله وفي كلام العرب. ونظيره قوله تعالى:
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: ٤٠] ومعلوم أنه لا قول
(١) التاج ج ٤ ص ١٠٥- ١٠٦.
(٢) المصدر نفسه. [.....]
531
ثمّ وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى.
ومنهم الطبرسي الذي قال إن بعض الأحاديث المروية موقوفة وبعضها مرفوعة وإن المحققين لم يأخذوا بها لأن ظاهر القرآن يشهد بخلاف التأويل الذي انطوى فيها لأن الله تعالى قال وإذ أخذ ربك من بني آدم ولم يقل آدم وقال من ظهورهم ولم يقل من ظهره وقال ذريتهم ولم يقل ذريته ثم أخبر أنه فعل ذلك لئلا يقولوا إنهم كانوا عن ذلك غافلين ويعتذروا بشرك آبائهم وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول الظاهر ولد آدم لصلبه. ثم إن الذرية المستخرجة لا تخلو إما أن تكون عقلاء أو غير عقلاء. فإن كانوا غير عقلاء فلا يصح أن يعرفوا التوحيد ويفهموا خطاب الله وإن كانوا عقلاء وأخذ عليهم الميثاق فلا يصحّ أن ينسوه لأن الحجة لا تكون إلّا لذاكر ولا يصح أن ينسى الجمع الكثير والجمّ الغفير من العقلاء شيئا كانوا عرفوه وميّزوه. وإن العبارة في معنى أن الله أقام الدليل في عقولهم وخلقهم على ربوبيته حتى صار ذلك عندهم مسلّما به بالفطرة وتعذّر امتناعهم عنه فصاروا في منزلة المعترف المقر. ولم يكن هناك إشهاد صورة وحقيقة ونظير ذلك قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١].
ولم يكن منه سبحانه قول ولا منهما جواب. وشيء من هذا قاله ابن كثير الذي نبّه على ما في الأحاديث من علل. ومما قاله إن الشهادة تارة تكون بالقول وتارة تكون بلسان الحال كما جاء في الآية: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة: ١٧]. وإن مما يدلّ على أن المراد بهذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك. فلو كان وقع كما قال من قال لكان كل يذكره ليكون حجة عليه. ومنهم البيضاوي الذي نحا منحى الاثنين باقتضاب.
ومنهم ابن كثير الذي تردّد بين القولين مع جنوح إلى الثاني. ومما قاله إن المراد بالإشهاد هو ما فطرهم الله عليه من التوحيد وأن الشهادة تكون تارة بالقول وتارة بلسان الحال. وإن مما يمكن أن يكون دليلا على ذلك جعل الإشهاد حجة عليهم في الشرك فلو كان قد وقع هذا كما قال مكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه.
وقد نحا رشيد رضا والقاسمي اللذان أوردا كلاما كثيرا منحى ابن كثير وأوردا فيما
532
أورداه الحديث النبوي المشهور: «ما من مولود إلّا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجسانه» «١». كتدعيم لهذا التأويل وقالا إن الله تعالى في كلمته هذه أراد أن ينبّه السامعين إلى أنه خلقهم على فطرة التوحيد فلا يقبل اعتذار أحد عن الانحراف عنه بأي عذر وحجة.
وقد تكون طريقة السلف التي أخذ بها الطبري في الأسلوب الذي أخذ الله به العهد من بني آدم أسلم. ففي القرآن عبارات كثيرة مثل هذه لا يمكن معرفة مراد الله تعالى بها معرفة ذاتية مثل الاستواء على العرش ولا يكون هناك حديث نبوي ثابت في تفسيرها. ففي مثل هذه الحالة تكون تلك الطريقة أسلم ويكتفى بشرح مدلول الآيات التي فيها العبارة شرحا عاما كما فعلنا في صدد العبارة والآيات التي وردت معها. على أن هذا لا يمنعنا من القول إننا نرى وجاهة وسدادا في الأقوال والتأويلات الأخرى. وبخاصة في القول إن الله أراد أن ينبّه السامعين إلى أنه خلقهم على فطرة التوحيد فلا يقبل اعتذارهم بشرك آبائهم من قبلهم أو بأية حجة أخرى. والله تعالى أعلم.
والآيات فيما احتوته من تحذير عن السير على ما سار عليه الآباء بقطع النظر عن ضلالهم وسخفهم والاحتجاج بذلك والغفلة عما يقوم على صوابه وفضله البرهان وتعطيل العقل من التدبّر والاختيار قوية العظة وبليغة التلقين المستمر كما هو المتبادر. وقد تكرر هذا التلقين في مناسبات عديدة مرت أمثلة منها، مما يصح أن يكون طابعا عظيم الخطورة للدعوة الإسلامية القرآنية التي تندّد باتباع التقاليد القديمة لقدمها وتعطيل العقل إزاءها، والتي تحثّ على الأخذ بما هو الأفضل والأصوب والأصحّ والأصلح بقطع النظر عن القدم والجدة.
هذا، وما جاء في بعض الأحاديث عن تقدير أعمال الناس وأرزاقهم وآجالهم وتخصيص فريق منهم للجنة وآخر للنار من الأزل هو متصل بموضوع القدر الذي شرحناه في سياق سورة القمر فنكتفي بهذه الإشارة.
(١) هذا الحديث رواه الأربعة انظر التاج ج ٥ ص ١٧٦.
533

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٥ الى ١٧٧]

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)
. (١) انسلخ منها: هنا بمعنى انحرف عنها أو نبذها أو تخلّى عنها أو كفر بها.
(٢) الغاوين: الضالين أو الهالكين.
(٣) أخلد إلى الأرض: لصق بها أو انحط إليها، والجملة بمعنى اختار الانحطاط على الارتفاع، أو الشر على الخير، أو الضلال على الهدى، أو أعراض الدنيا وشهواتها.
لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالسياق، واستمرار في التعقيب كالفصل السابق على السلسلة القصصية وتركيز لما انطوى فيها من إنذار وتنديد وعظة وتلقين. وقد احتوت أمرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بقصّ القصص على الناس لعلّهم يتدبرون ويرعوون. والمماثلة قائمة بينها وبين الفصل السابق الذي انتهى بتقرير كون الله يفصل الآيات للناس لعلهم يرجعون كما هو واضح.
تعليق على آية وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها وتلقينها
وفي الآيات خبر شخص آتاه الله آياته فلم يقم بحقها قياما يرتفع شأنه بها عند الله، بل انحط واتبع هواه واستغرق في الحياة الدنيا وشهواتها حتى صار كالكلب الذي لا يكلّ عن اللهث سواء أحملت عليه وزجرته أم لم تفعل. وقد احتوت الآيات بعد ذلك تنبيها إلى أن هذا المثل هو مثل القوم الذين جاءتهم آيات الله فكذّبوا بها، وساء هذا مثلا لمثل هؤلاء الذين بتكذيبهم آيات الله إنما يظلمون
534
أنفسهم، وأمرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بقصّ هذه القصة على الناس لعلهم يتفكرون ويعتبرون.
وقد أوّل المفسرون «١» مثل الكلب بأن حالة الكافر أو المنسلخ كحالته لا يترك ضلاله وكفره سواء أوعظ وأنذر أو لم يوعظ وينذر. وهو وجيه سديد.
وقد روى المفسرون روايات في اسم الشخص الذي عنته الآيات «٢» فروي أنه أمية بن الصلت الشاعر الذي كان موحدا ويظن نفسه على ملّة إبراهيم عليه السلام، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم حسده على اختصاصه بالنبوّة من دونه فجحد. وروي أنه أبو عامر الراهب المتنسّك الذي كان على ملّة إبراهيم عليه السلام فحسد النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا وتنصّر وآلى على نفسه محاربته وكان يتآمر مع المنافقين عليه. وروى الطبري أنه رجل من بني إسرائيل تآمر مع الجبابرة على قومه وحرّضهم عليهم وهوّن لهم من شأنهم. كما روى أنه نبي أو كاهن أو نبي من الكنعانيين أو المؤابيين اسمه بلعام بن باعوراء. وأن ملكه أمره بلعن بني إسرائيل حينما وفدوا على بلاده بعد خروجهم من مصر بقيادة موسى عليه السلام فأوحى الله إليه بمباركتهم بدلا من لعنهم. فلما ضايقه الملك أشار عليه بتسليط بنات البلاد على شباب بني إسرائيل ليورطنهم في الزنا بهم وعبادة معبودهم البعل. وأن رأيه هذا هو الانسلاخ من آيات الله الذي عنته الآية. كو في الإصحاح الثاني والعشرين وما بعده في سفر العدد من أسفار العهد القديم ذكرت قصة بلعام بن باعوراء وأمر الملك إيّاه بلعنة بني إسرائيل ومباركته إياهم بدلا من ذلك. كما ذكر فيها خبر ارتكاس شباب بني إسرائيل في الزنا ببنات مؤاب وعبادة معبودهم البعل ولكن لم يذكر فيها أن هذا كان برأي بلعام.
وعلى كل حال فإن اكتفاء الآية بالإشارة إلى الشخص دون تفصيل قد يلهم أنه شخص معروف عند سامعي القرآن بعلمه واطلاعه على كتب الله، وأنه انحرف عن طريق الحق والهدى بتأثير السجيّة الفاسدة ووسوسة الشيطان ومتاع الحياة الدنيا وشهواتها، فاستحكم بذلك ما قصدته الآيات من العظة والتذكير والعبرة.
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والبغوي.
(٢) انظر المصدر نفسه.
535
ويتبادر لنا أنها استهدفت بنوع خاص التنديد بأذكياء الكفّار ونبهائهم الذين كان لهم من رجاحة العقل وسعة المعارف ما يجعلهم يدركون بيسر ما في دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم من صدق وسموّ وروحانية وحقّ، فأصروا مع ذلك عن قصد وهوى على مواقف العناد والمكابرة. ولعلّ فيها تعليلا لموقفهم من الدعوة وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين.
وهذه الطبقة كانت موجودة. وقد اهتدى منها من اهتدى من الرعيل الأول المؤمنين واستكبر الآخرون وكابروا. وقد احتوى القرآن إشارات عديدة إليهم ووصفهم بأنهم اتخذوا هواهم آلهة لهم عن علم ونيّة كما جاء في آية سورة الجاثية هذه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وآية سورة الفرقان هذه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٤٣) وقد كان فريق من هذه الطبقة يتمنون أن يبعث الله فيهم نذيرا منهم ويقسمون على اتباعه والاهتداء بهديه ثم استكبروا ونكثوا استكبارا ومكر السيئ كما جاء في آيات سورة فاطر هذه:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (٤٣) وكان من هذه الطبقة من يتحدّى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقولون له لو شئنا لقلنا مثل ما تقول كما جاء في آية سورة الأنفال هذه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١).
ومن مقاصد المثل على ما هو المتبادر تقرير كون سلامة النيّة والقلب وصدق الرغبة في الاهتداء هو الجوهري ولا عبرة بالعلم والاطلاع إذا كانت النيّة خبيثة والسجيّة فاسدة والنفس دنيئة الرغبات والمطالب، خاضعة للهوى والمآرب.
وصاحب هذه الصفات لا يرتفع إذا ما أوتي العلم إلى المقام الرفيع الذي يجدر أن يرتفع إليه بعلمه ويظلّ ينحطّ ويرتكس دون أن ينفعه علم ولا عظة ولا عبرة.
536
وفي ما احتواه المثل من تنديد وتقريع لاذعين تلقين بليغ مستمر المدى من دون ريب. لأنه صورة قوية كثيرا ما تتكرر في المجتمعات سواء أفي التنديد بالطبقة التي تكون نيرة في عقولها وسعة معارفها ومنحطة في مطالبها وأهوائها وشهواتها، أم في التحذير من الانخداع بأفرادها، أم في تقبيح هذه الصفات المكروهة الضارّة بالمجتمع.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن حذيفة بن اليمان قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان ردء الإسلام أعزّه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك. قال حذيفة قلت يا نبي الله أيّهما أولى بالشرك المرميّ أو الرامي قال بل الرامي». وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة وصحته محتملة وقد قال ابن كثير إن إسناده جيد وإن الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما قد وثقوه. وفي هذه الكتب أحاديث من بابه منها حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي سعيد قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم. يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» «١».
والحكمة الملموحة في الحديث تحذير المسلمين من الضالّين المنحرفين عن علم. ويتساوق تلقينه مع تلقين الآيات.
تعليق على جملة وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها
وقد توهم جملة وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أن الله سبحانه وتعالى هو الذي شاء للرجل عدم الارتفاع فأخلد إلى الأرض وغوي، غير أن في الآية التي وردت فيها الجملة ما يزيل هذا الوهم حيث وصف الرجل بأنه رضخ لوسوسة الشيطان واتّبع
(١) التاج ج ١ ص ١٠.
537
هواه وغوي وأنه من أجل ذلك ظالم لنفسه ولم يظلمه الله.
والوجه في تأويل العبارة على ما يتبادر لنا هو أن الله قادر على رفعه بالآيات التي آتاه إياها ولكنه تركه لاختياره وقابليته التي أودعها فيه فساقه ذلك إلى ما هو متّسق مع سجيته الفاسدة ونيته الخبيثة مما انطوى تقريره في آية سورة الإسراء هذه:
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (٨٤) وقد أوّلها الزمخشري بأن الله أراد أن يقول إن الرجل لو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها.
وقد أوّلها السيد رشيد رضا بأن الله لو أراد رفعه بها لخلق له الهداية وحمله عليها ولكنه لم يفعل لأنه مخالف لسنّته. وقد أوّلها الطبرسي بأن الله يقول لو شئنا لحلنا بينه وبين الانسلاخ فارتفع شأنه ولكنّا تركناه لاختياره وقابليته. ولم نر في كتب المفسرين الأخرى التي بين أيدينا ما يتعارض مع هذه التأويلات التي فيها وجاهة وسداد أيضا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٨ الى ١٨٠]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
. (١) ذرأنا: خلقنا أو جعلنا.
(٢) لحد: ولحد بمعنى مال وانحرف عن الحق. والكلمة في مقامها تعني ما كان المشركون يخلطونه من أسماء شركائهم بأسماء الله عزّ وجلّ.
لم يرو المفسرون مناسبة خاصة في نزول هذا الفصل والمتبادر أنه متصل بالسياق كذلك. وقد جاء معقبا على ما قبله. وفيه ما في سابقيه من تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين وتثبيت لهم. فمن يهده الله اهتدى ونجا ومن يضلله خسر. وفي الجنّ
538
والإنس كثير لا ينتفعون بما لهم من قلوب ولا أعين ولا آذان ليتدبروا ويروا الحق والهدى، فهم غافلون عنهما وهم كالأنعام بل أضلّ، وأن لله أحسن الأسماء وأشرفها. فعلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا أن يدعوه بها وألّا يعبأوا بالذين يلحدون ويخلطون في أسمائه ويذروهم له فهو الكفيل بجزائهم على ما يفعلون.
تعليق على جملة مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ
وقد توهم الآية الأولى أنها قصدت تقرير كون الله تعالى هو الذي يحتم الهدى والضلال على الناس بأعيانهم. غير أن في جملة فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في الآية ثم في الآية التالية لها ما يزيل هذا الوهم، حيث ينطوي فيها تقرير كون الله قد أودع في البشر من العقل وقوّة التمييز والاختيار ما هو جدير بأن يهديهم إلى الحق ويبيّن لهم طريق الهدى وطريق الضلال. فالذين يختارون سبيل الله فهم المهتدون والذين يختارون الضلال فهم الخاسرون.
وبناء على هذا اقتضت حكمة الله أن يكون بعث أخروي وحساب وثواب وعقاب وخلق للجنة وخلق لجهنّم. فأصحاب جهنم هم أولئك الذين فسدت أخلاقهم وخبثت سرائرهم فرضخوا للهوى والمآرب الدنيئة فتعطلت قلوبهم عن فهم الحق وعيونهم عن رؤية معالمه، وآذانهم عن سماع نذره وحججه وغدوا كالأنعام بل أضلّ لأن الأنعام تسير بغرائزها فلا تضلّ عما ينفعها ولا تقبل على ما يضرّها.
وهذا الشرح المستلهم من فحوى الآيات وروحها مؤيد بالتقريرات القرآنية المحكمة التي مرّت أمثلة عديدة منها. ومؤيد كذلك بالآيات التي تقيد الإطلاق الذي جاءت عليه الجملة ذاتها مثل آيات سورة البقرة هذه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧).
539
وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآية كلام صائب ووجيه متّسق بنتيجته مع شرحنا. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال إنه ورد في صحيح مسلم عن عائشة قالت: «دعي النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جنازة صبيّ من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا ولم يدركه. فقال رسول الله أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم». وأورد حديثا قال إنه ورد في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مفاده أن الله يبعث ملكا حين ولادة المولود فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد».
وأشار إلى ما أورده وأوردناه من أحاديث في سياق جملة وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فيها أن الله قدّر على الناس وهم في أصلاب آدم أرزاقهم وآجالهم وأنهم سعداء أو أشقياء.
وهذا الموضوع متصل بموضوع القدر الذي شرحناه في سياق سورة القمر شرحا يغني عن التكرار. ونقول هنا بمناسبة الآيات وإيراد الأحاديث في سياقها إن الآيات تلهم بقوة أن الذين ذرأهم الله لجهنّم هم الذين استحقّوها بانحرافهم وشذوذهم وغفلتهم عن آيات الله ونوره. وإن الأولى أن تحمل الأحاديث الصحيحة على قصد تقرير علم الله تعالى بذلك منذ الأزل. والله أعلم.
تعليق على جملة الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ واستطراد إلى ذكر أسماء الله الحسنى
ولقد روى الطبري وغيره أن المراد بجملة الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ ما كان المشركون يطلقونه على شركائهم من أسماء «الرحمن» و «الربّ» و «الإله» و «العزّى» - مؤنث العزيز- وغيرها من الأسماء والصفات التي لا تليق إلّا بالله ربّ العالمين وهو تأويل وجيه. وقد وضعت الآية الأمر في نصابه حيث قررت أن
540
الأسماء الحسنى والصفات الكاملة إنما تليق بالله وحده ربّ كل شيء وخالق كل شيء.
ومع أن تعبير الْأَسْماءُ الْحُسْنى يفيد معنى أحسن الأسماء إطلاقا فقد اعتاد المسلمون أن يحصروا أسماء الله في تسعة وتسعين اسما وصفة وهي ما ورد في القرآن من أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى وأن يصطلحوا على تسميتها بهذا التعبير.
ولقد روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة وإن الله وتر يحب الوتر» «١»، وروى الترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة أيضا قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة: هو الله الّذي لا إله إلّا هو الرّحمن الرّحيم. الملك القدوس السّلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر الخالق البارئ المصوّر الغفّار القهّار الوهّاب الرّزاق الفتّاح العليم القابض الباسط الخافض الرّافع المذلّ المعزّ السّميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشّكور العليّ الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القويّ المتين الوليّ الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحيّ القيّوم الواجد الماجد الواحد الصّمد القادر المقتدر المقدّم المؤخّر الأوّل الآخر الظّاهر الباطن الوالي المتعالي البرّ التوّاب المنتقم العفوّ الرّؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغنيّ المغني المانع الضّار النّافع النّور الهادي البديع الباقي الوارث الرّشيد الصّبور» «٢».
وجميع هذه الأسماء مما ورد في القرآن.
ولقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث أيضا. وذكر في سياق الحديث الطويل أن
(١) التاج ج ٥ ص ٨٤- ٨٨.
(٢) المصدر نفسه.
541
الترمذي رواية قال هذا حديث غريب. ثم عقّب على ذلك قائلا: وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ورواه ابن حبان في صحيحه وابن ماجه في سننه. ثم قال وليعلم أن الأسماء الحسنى غير منحصرة في تسعة وتسعين بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أصاب أحدا قطّ همّ ولا حزن فقال اللهمّ إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك. ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك. عدل فيّ قضاؤك. أسألك بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همّي. إلّا أذهب الله حزنه وهمّه وأبدل مكانه فرحا. فقيل يا رسول الله أفلا نتعلّمها؟ فقال بلى ينبغي لكلّ من سمعها أن يتعلّمها». وعقّب ابن كثير على هذا الحديث قائلا: «أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبّان البستي في صحيحه وإن الفقيه الإمام أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية ذكر في كتابه «الأحوذي في شرح الترمذي» أن بعضهم جمع من الكتاب والسنّة من أسماء الله ألف اسم فالله أعلم».
ولقد قال بعض العلماء: إن صيغة حديث الترمذي لا تعني انحصار الأسماء بما ورد فيها ولا تمنع أن يكون الله تعالى أسماء أخرى في القرآن والحديث.
والقول وجيه يزول به الإشكال الذي يمكن أن يتبادر من صيغة الحديث مع وجود أسماء أخرى في القرآن غير ما ورد فيه.
هذا، ولقد روى الطبري عن ابن زيد في سياق جملة وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أنها منسوخة بآيات القتال وهذا ما يتكرر من بعض أهل التأويل في سياق كل آية مماثلة فيها تعبير أو إمهال أو أمر بذلك. وقد قال الطبري إنه لا معنى لذلك لأن الجملة ليست أمرا من الله لنبيه بترك المشركين أن يقولوا ذلك حتى يأذن له بقتالهم وإنما هو تهديد من الله للملحدين بأسمائهم ووعيد منه ومثله قوله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: ٣] ولِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل: ٥٥]. وقول الطبري سديد
542
وجيه. ولقد تطرّقنا إلى هذا الموضوع في سياق سورة (الكافرون) وانتهى بنا البحث استنادا إلى الدلائل التي أوردناها أن القتال إنما يكون للكفار الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين بأي أسلوب من أساليب الاعتداء بما في ذلك الصدّ عنه والطعن فيه وأذيّة معتنقيه. فنكتفي بهذا التنبيه في هذا المقام.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨١ الى ١٨٦]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
. (١) يعدلون: هنا بمعنى يعملون أو يقضون.
(٢) سنستدرجهم: انظر شرحها في تفسير سورة القلم.
(٣) وأملى لهم إن كيدي متين: انظر شرحها أيضا في السورة المذكورة.
(٤) صاحبهم: كناية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(٥) جنّة: هنا بمعنى الجنون.
(٦) ملكوت السموات والأرض: كناية عن الكون جميعه.
(٧) يعمهون: يعمون عن الحق أو يستغرقون في التعامي. ومما قيل إن العمه هو عمى القلب والعمى هو عمى البصر.
لا يذكر المفسرون رواية في مناسبة نزول الفصل. والمتبادر أنه استمرار للسياق السابق أيضا. وقد جاء معقبا بنوع خاص على الآيات السابقة له مباشرة لتوكيد ما تضمنته من تطمين وتثبيت وتنديد. وهي قوية في إنذارها وتنديدها وتطمينها:
543
فليس كل الناس ضالين ومنحرفين ومكذّبين وغافلين ومن نصيب جهنم. فإن منهم من يدعون إلى الحق ويهدون إليه ويعملون به. ولا يغترّن الذين يكذبون بآيات الله بما هم فيه من عافية ونعمة. فإن ذلك استدراج وإمهال واختبار.
وليعلموا أن بأس الله ونقمته شديدان قاصمان. والأجدر بهم أن يترووا في موقفهم ويتفكّروا ويتدبّروا فيما يسمعونه وحينئذ يرون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يبلغهم ما يبلغهم من آيات الله هو منذر ومحذّر ولا يمكن أن يكون مجنونا. والأولى بهم أن يتفكّروا في عظمة كون الله وما خلقه من كائنات فيروا أن الله سبحانه لا يمكن أن يكون في ذلك عابثا. والأفضل لهم أن يتذكروا أنهم ميتون حتما وأن الموت قد يكون قريبا جدا منهم. وأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا الذي يبلّغهم إيّاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فليس هناك حديث ومحدّث آخر يمكنهم أن يؤمنوا به. وقد يفوتهم الوقت والفرصة فيندمون ولات ساعة مندم. ومن أصرّ بعد هذا الإنذار واختار الضلال على الهدى فهو وشأنه حيث يذره الله مرتكسا في ضلاله وطغيانه حتى يستحق ما أعدّه الله له يوم القيامة من المصير الرهيب.
وما قلناه في سياق الفصول السابقة نقوله هنا. فإن مضمون الآيات وبخاصة ما فيها من نسبة التكفير والنظر والإيمان وقابلية الاهتداء يزيل ما يمكن أن يتبادر إلى الوهم من مضمون الآية الأخيرة ويجعل الوجه فيها هو ما وجهناه في سياق شرح الفصول الثلاثة جملة.
والفصل يحتوي تلقينا مستمر المدى أيضا كسابقيه. ففيه تنويه بالدعاة إلى الحق والعاملين به وبالدعوة إليه والحثّ على العمل به. وفيه تنديد بالاستغراق في الغواية وعدم التدبّر والتروي في الأمور والمكابرة في الحق وعدم المبالاة بالعواقب وبمن يرتكس في ذلك.
هذا، ومضمون الآية [١٨٤] وأسلوبها يلهمان أن نفي الجنون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس بسبيل الردّ على تهمة الكفار إيّاه بالجنون وإنما هو بسبيل الإنذار وتوكيد صدق الدعوة وجدّها.
544
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا عزاه إلى الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة. وفي رواية حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وفي رواية وهم بالشام» »
. والمفسّر أورد الحديث للمناسبة الموضوعية. وقد جاريناه لأن فيه بشرى ربانية للأمة الإسلامية وتثبيت لمن يكون منهم على الحق حتى لا يبالوا بخلاف وخذلان من غيرهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٧ الى ١٨٨]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
. (١) الساعة: في مقامها كناية عن وقت انتهاء الحياة الدنيا وقيام القيامة. وقد وردت في القرآن في معنى الساعة الزمنيّة كما جاء في آية سورة الأحقاف: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ... [٣٥].
(٢) مرساها: قيل بمعنى منتهاها أي منتهى الحياة الدنيا التي تقوم الساعة عنده وقيل بمعنى قيامها وهذا مثل ذاك في النتيجة.
(٣) لا يجليها: لا يظهرها أو يكشفها.
(٤) ثقلت في السموات والأرض: قيل بمعنى ثقل وقعها وهولها في السموات والأرض أو بمعنى اشتدّ اختفاء وقت وقوعها أو بمعنى ثقل خبرها بحيث لا يعلمه أحد في السموات والأرض. وقد رجّح الطبري المعنى الأخير.
(٥) يسألونك كأنك حفي عنها: بمعنى يسألونك عنها وكأنك صديق حفيّ
(١) أورد مؤلف التاج هذا الحديث مرويا عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا النصّ: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله». التاج ج ٥ ص ٣١٣.
الجزء الثاني من التفسير الحديث ٣٥.
545
بهم أو كأنهم يظنونك مولعا خبيرا بعلمها، والحفيّ بمعنى الملحف في السؤال أو بمعنى المبالغ في إكرام الغير أو المهتمّ به.
احتوت الآية الأولى حكاية سؤال وجّهه بعضهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن وقت قيام القيامة وإلحاحهم عليه بذلك وأمرا له بإعلان انحصار علمها في الله سبحانه وتعالى الذي جعل لها موعدا معينا في علمه لا يعلمه غيره وكونها لا تأتي الناس إلّا بغتة، وكونها عظيمة الخطر في السموات والأرض لما سوف يترتّب على حلولها من أمور عظيمة وأهوال جسيمة. واحتوت الآية الثانية أمرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلان كونه لا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا إلّا ما شاء الله وأنه لو كان أمره غير هذا لمنع عن نفسه الضرّ ولاستكثر لنفسه الخير، وأنه ليس إلّا نذيرا وبشيرا لمن يرغب في الهداية والإيمان.
والمتبادر أن الآية الثانية استمرار للجواب الذي أمر الله سبحانه النبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلانه للناس على سؤالهم عن موعد قيام الساعة.
والآيتان ليستا منفصلتين عن السياق على ما يتبادر منهما وإن كان من المحتمل أنهما نزلتا لحدّتهما، وبدتا كفصل مستقلّ مستأنف. فالآيات السابقة أنذرت الناس بالآخرة وحسابها وثوابها وعقابها فأخذ الناس يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم عن موعدها فنزلت الآيات جوابا على ذلك.
وليس هناك رواية صريحة عن هويّة السائلين. وقد تراوح تخمين المفسرين بين أن يكونوا يهودا أو عربا. وقد قال ابن كثير إن الأشبه أن يكونوا عربا لأن الآيات مكية. وهذا هو الأوجه والأرجح لأن احتكاك اليهود بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وتوجيههم الأسئلة إليه إنما كان في العهد المدني.
تعليق على السؤال عن موعد القيامة وما في الجواب من دلالة بليغة
وهذه المرة الأولى التي يرد فيها هذا السؤال ثم تكرر كثيرا فيما بعد.
546
فالإنذار بيوم القيامة وأهوالها وحسابها قد تكرر كثيرا بل هو أكثر موضوع تكرر بأساليب متنوعة في القرآن وكان من أشدّ مواضيع الحجاج بين الكفار والنبي وأكثرها. وكان من أشدّ دعائم الدعوة والإنذار والتبشير. فمن الطبيعي أن يتكرر السؤال عنه. وكان السؤال على الأعمّ الأغلب يأتي من كفّار العرب. وأكثر ما كان أسلوب سؤالهم أسلوب إنكار وتحدّ وسخرية مثل ما جاء في آية سورة يونس هذه:
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) وقد تكرر السؤال بنفس الصيغة في آية سورة الأنبياء [٣٨] وفي آية سورة النمل [٧١] حيث لم يكونوا يؤمنون بالقيامة ويسخرون من الإنذار والتبشير بها على ما ورد في آيات عديدة مرّ بعضها ومن ذلك آيات سورة المؤمنون هذه: قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) ومثل آية سورة هود هذه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧). على أن أسلوب الآية الأولى يلهم أن السؤال فيها ليس من هذا الباب وإنما هو سؤال المستعلم المستقصي، حتى ليخطر بالبال أنه من غير الكفار وقد روى الطبري فيما روى أن قريشا قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة. وقد جاء الجواب بنفي ما يمكن أن يكون قد قام في أذهان السائلين من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم الغيب ويعلم علم الساعة أو أنه يدّعي ذلك بأسلوب قويّ حاسم تتجلّي فيه صورة رائعة من الصميمية النبويّة بتبليغ كل ما يوحى إليه به، ومن جملة ذلك أنه بشر مثل سائر البشر يمسّه من السوء مثل ما يمسّهم ويحرم من وسائل الخير المادية مثل ما يحرمون ولا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا إلا ما شاء الله، وليس هو إلّا نذير وبشير وهاد لمن يريد أن يتّعظ ويؤمن ويهتدي. وقد تكررت هذه الصورة بأساليب ومناسبات عديدة مرّ منها بعض الأمثلة.
ولقد أورد البغوي حديثا رواه بطرقه عن أبي هريرة في سياق جملة لا
547
تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً
قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه. ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه. ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن صحته محتملة وهو بسبيل بيان قيام الساعة بغتة. ولعل من الحكمة المنطوية فيه حث الناس على الاستعداد دائما للرحيل عن الدنيا بآجالهم أم بانتهاء أجل الدنيا وقد اتقوا الله وعملوا بما أمر ونهى وحدد وحكم ولم يشذوا ولم ينحرفوا حتى يلقوا الله وهو راض عنهم. وهذا منطو في حكمة تعمية وقتها والإيذان بأنها لا تأتي إلّا بغتة في هذه الآيات وأمثالها. وهناك أحاديث نبوية في أشراط الساعة أرجأنا إيرادها لمناسبة أكثر ملاءمة. غير أننا ننبه هنا إلى أمر هام وهو أن هذه الآيات وأمثالها صريحة بأن الله تعالى غيب علم وقوعها على جميع خلقه وأذن أنها لا تأتي إلّا بغتة مع توكيد مجيئها. فيجب الإيمان بكل ما جاء عنها في القرآن أو في الأحاديث الصحيحة والوقوف عندها بدون تزيد.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٩ الى ١٩٨]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
548
(١) فلما تغشّاها: كناية عن المضاجعة.
(٢) حملت حملا خفيفا: كناية عن دور الحمل الأول.
(٣) فلما أثقلت: كناية عن دور الحمل الثاني.
(٤) عباد أمثالكم: مخلوقات من مخلوقات الله مثلكم.
(٥) كيدوني: أنزلوا بي الأذى أو نيلوني بكيدكم إذا قدرتم.
(٦) فلا تنظروني: فلا تمهلوني.
لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها استمرار في السياق مع التفات في الخطاب للسامعين. وفيها تنديد بالجاحدين لنعمة الله والناقضين لعهودهم معه والمشركين به، وتهوين لشأن الشركاء الذين يتخذونهم من دون الله والذين لا يملكون لهم ولا لأنفسهم نصرا ولا يخلقون شيئا ولا يسمعون ولا يبصرون، وتحد لهم في صدّهم وسخرية بهم، وإعلان بلسان النبي صلّى الله عليه وسلّم أن وليّه الله الذي نزّل الكتاب وأنه وليّ كل مؤمن صالح. وعبارتها واضحة. وأسلوبها قوي نافذ شديد الإفحام من شأنه أن يسدّ منفذ أي منطق للمشركين ويحبط أي حجّة لهم في إشراك أي شيء من موجودات الكون وقواه مع الله في الدعاء والعبادة والاتجاه والشكر، وفي أمل جلب الخير لهم ودفع الشرّ عنهم ونصرهم في الملمات، وقوة الإفحام مستحكمة بنوع خاص بسبب ما احتوته الآية الأولى من حكاية اعترافهم بالله على أنه ربّهم الأكبر خالقهم ورازقهم ومدبّر الأكوان. وقد احتوت تحدّيا لاذعا وتبكيتا قارعا يزيدان في قوّة الإفحام أيضا. فالذين يشركونهم مع الله مخلوقون كسائر مخلوقات الله وعاجزون عن خلق أي شيء كما أنهم عاجزون عن حماية أنفسهم من أي طارئ فضلا عن عجزهم عن نصر الذين يتخذونهم شركاء. كذلك في أسلوب الآيات القويّ المتحدّي اللاذع ما يبعث الثقة والطمأنينة في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين لأنه أسلوب الواثق بقوّة موقفه المستعلي على مجادله. وهذا
549
مما استهدفته الآيات فيما هو المتبادر أيضا.
تعليق على الآية هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ والآيات التسع التالية لها وما فيها من صور وتلقين
لقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل روايات مختلفة الصيغ متفقة المدى تفيد أن جملة نَفْسٍ واحِدَةٍ تعني آدم الذي كان أول من خلقه الله من البشر وجملة وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها تعني حواء التي خلقها الله منه وأنهما كان يسميان أولادهما بأسماء منسوبة إلى الله مثل عبد الرحمن وعبد الله فيموتون فوسوس لهما إبليس بتسميتهم بأسماء غير منسوبة إلى الله مثل عبد الحرث ففعلا فعاشوا. وهناك حديث رواه الترمذي والحاكم وصححه عن سمرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سمّيه عبد الحرث فسمّته عبد الحرث فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» «١». غير أن هناك من توقف في هذه الروايات وفي الحديث ونعته بالمرفوع أو الموقوف بل وهناك من قال إنه مروي عن إسرائيليين ولا يجوز الأخذ به «٢». وروي عن الحسن أن الآيات هي في صدد رجل وامرأة من كفّار بني آدم ومشركيهم «٣» وهناك من روى أنها في صدد عربي وعربية من قريش من ولد قصي «٤». ولقد قال الذين تمسكوا بصحة الحديث إن الكلام في الآية الأولى فقط في صدد آدم وحواء. واستشكلوا في نسبة الشرك إليهما فقالوا إنه ليس شرك عبادة وإنما هو شرك طاعة. لأن هناك قاعدة عند أهل السنّة من المفسرين وهي التقيّد بالحديث النبوي إذا صحّ عندهم في تفسير الآيات.
(١) التاج ج ٤ ص ١٠٧.
(٢) انظر تفسير رشيد رضا والقاسمي وابن كثير.
(٣) انظر هذه الكتب وانظر الطبري والبغوي.
(٤) انظر الزمخشري.
550
وهذا حق. غير أن الحالة هنا هي غير ذلك لأن الحديث ليس مجمعا عليه بل ومتوقفا فيه. وإذا أمعنّا في الآيات نراها أولا وحدة تامة منسجمة برغم انتقال الضمائر فيها من الجمع الغائب إلى الجمع المخاطب الذي هو مألوف في النظم القرآني «١» ونراها ثانيا مصبوبة على المشركين وأوثانهم وفيها تنديد بهم وتحدّ لهم.
ونرى في صرفها أو صرف بعضها إلى آدم وحواء مشكلا وفي ما حاولوه من صرف نسبة الشرك إليهما تكلفا. وضمير الجمع المخاطب الذي انتقل إليه الكلام يجعلنا نرى القول إنها في صدد مشركين عرب هو الأوجه. بل وإنها موجهة إلى المشركين السامعين.
ولقد قال المؤولون والمفسرون الذين صرفوها إلى المشركين العرب إن ما عنته الآية الأولى هو ما كانوا يطلقونه على أولادهم من أسماء معبوداتهم مثل عبد اللاة وعبد مناة وعبد العزى وعبد يغوث وعبد ودّ. ومع احتمال الصواب في هذا ووجاهته فإنه يتبادر لنا أن الإشارة أعمّ شمولا وأنها تعني أيضا تسفيه عقيدتهم في كون شركائهم ذوي أثر فيما يتّم لهم من نعمة الولد وسلامته. وفيما يأخذون به من إشراك شركائهم مع الله بالشكر والدعاء والاتجاه.
وفي الآيات كما هو المتبادر صورة أوضح مما سبق لعقيدة الشرك عند العرب قبل الإسلام وشمولها وهدفها الدنيوي. ولقد علّقنا على هذه العقيدة وهدفها في سياق تفسير سورة المدثّر فلا نرى ضرورة للإعادة.
والوصف الذي احتوته الآيات للشركاء قد يدلّ على أن موضوع الكلام هو الأوثان الجامدة التي كان العرب يتخذونها رموزا لآلهتهم السماوية وبخاصة للملائكة ويقيمون عندها طقوسهم ويقربون قرابينهم على ما شرحناه في سياق سورة (النجم)، وفي الآية [١٩٨] بخاصة دليل أو قرينة على أن هذه الأوثان كانت
(١) من أمثلة ذلك آية سورة يونس هذه: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢).
551
مخلّقة. أي على صورة إنسان أو حيوان له عينان ولكن لا تبصران وأذنان ولكن لا تسمعان.
ويبدو من الوصف مع ذلك أن المشركين كانوا يعتقدون أن للأوثان تأثيرا مباشرا في جلب النافع ودفع الضارّ عنهم أيضا. ومن هنا تبدو قوة التبكيت اللاذع الذي احتوته الآيات.
هذا، ونقف عند الآية الأولى لنقول إنها في ما قررته من كون الذكر والأنثى من نفس واحدة يلمح كون الجنسين زوجا واحدا جعل كل منهما مكملا للآخر وكونهما بناء على ذلك في مرتبة واحدة من حيث الحياة الإنسانية ووظائفها. وكل ما في الأمر أن لكل منهما وظيفة تناسلية مختلفة عن وظيفة الآخر وحسب. وفي هذا تدعيم لما نبهنا عليه من مبدأ التساوي بين الذكر والأنثى في سياق تفسير سورة الليل.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٩ الى ٢٠٢]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
. (١) العفو: جاءت الكلمة في القرآن بمعنى التجاوز عن السيئات وبمعنى الزائد من المال والميسور للصدقات منه. وقال المفسرون إنها هنا بهذا المعنى كما قالوا إنها بمعنى قبول ظواهر الناس وأعذارهم والتسامح والمياسرة معهم.
(٢) العرف: المعروف. وكل ما تعورف على أنه خير وبرّ وصلاح ومباح وإحسان وكل ما فيه ذلك داخل في معنى الكلمة.
(٣) الجاهلين: جاءت في القرآن بمعنى ضدّ العالمين وجاءت بمعنى الغافلين والجاحدين والسفهاء. وهنا هي بالمعنى الأخير. ومن المفسرين من قال
552
إنها بمعنى ذوي المزاج الحديد الذي يهتاج لأقلّ سبب.
(٤) نزغ: وسوسة. وقيل إن معنى الكلمة في مقامها ثورة من غضب.
(٥) طائف: وسوسة أو خطرة من خطرات النفس السيئة أو ثورة غضب أو من شيطان أو اقتراف ذنب على اختلاف الأقوال. وأصل معنى الطائف الإلمام أو المسّ أو الطارئ.
(٦) وإخوانهم: الضمير في الكلمة عائد إلى الجاهلين على أوجه الأقوال.
شرح الآية خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ والآيات الثلاث التي بعدها وتلقيناتها
الخطاب في الفصل موجّه إلى مخاطب قريب. وفحوى الآية الأولى منه يدلّ على أنه موجّه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد احتوى بعض التعليمات والتنبيهات والتنديدات.
ولا تبدو صلة ظاهرة تربطه بالسياق السابق حتى ليكاد يبدو مستقلا. ومع ذلك فليس فيه موضوع مناقض أو مغاير أو بعيد عمّا احتواه السياق. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في مناسبة نزوله إلّا رواية رواها الطبري ليس فيها مناسبة أصلية وإنما فيها مناسبة فرعية وسنوردها بعد قليل. ولعل حكمة التنزيل اقتضت بإيحائه عقب الفصول السابقة ليتصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم وفق ما احتواه. أو لعلّه أنزل لمناسبة أزعجت نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم وأثارته عقب نزول الفصول السابقة فدوّن في سياق واحد معها.
وقد أوجبت الآية الأولى على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتسامح مع الناس ويقبل ميسورهم وظواهرهم وإعذارهم دون تشدّد ولا تزمّت. وأن يأمر بكل ما فيه الخير والصلاح وألّا يساجل الجاهلين في جهلهم وطيشهم وأن يعرض عنهم. ويغضي عمّا قد يسوؤه منهم.
ونبهته الآية الثانية إلى الرجوع إلى الله عزّ وجلّ والعياذ به كلما حاول شيطان
553
أن يمسّه بنزغة من نزغاته ويلقي إليه بوسوسة من وساوسه. أما الآيتان الثالثة والرابعة فقد احتوتا استطرادا فيه تنويه بالمؤمنين المتقين وتنديد بالجاهلين الكافرين. فالأولون كلما ألمّ بهم شيء من ذلك تذكروا الله وعظمته وأوامره ونواهيه فتنبهوا واستقاموا وتخلصوا، في حين أن الآخرين يخضعون لنزغات إخوانهم الشياطين الذين يظلون يوسوسون لهم ويورطونهم دون كلل أو تقصير.
وقد يكون نزغ الشيطان المذكور في الآية الثانية مطلقا وقد يكون في صدد ما أمر النبي به من خطة في الآية الأولى. ولقد روى الطبري عن ابن زيد أنه لما نزلت الآية الأولى قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فكيف بالغضب يا ربّ فنزلت الآية التي بعدها. فإذا صحت الرواية ولا مانع من صحتها فتكون الآية الأولى هي عمود الفصل وتكون الآيات تفريعا تنبيهيا لها ويستأنس بها على رجحان الاحتمال الثاني. على أن هذا وارد سواء أصحّت أم لم تصحّ.
ولئن وجّه الخطاب في الآيتين الأوليين للنبي صلّى الله عليه وسلّم لتحتويا على خطة له لمعالجة ما اقتضته ظروف الدعوة من شؤون ومواقف وحالات. فإن الاستطراد الذي نوّه فيه بالمتقين وندّد فيه بالجاهلين تسوغ القول إن الآيات الأربع قد انطوت على تلقينات جليلة مستمرة المدى سلوكية ونفسية وتثبيتية وتنديدية في آن واحد لتكون مستمد إلهام وتلقين لكل مسلم وبخاصة للذين يتولون القيادة في حركات النضال والدعوة والإصلاح. لأنهم بطبيعة مهمتهم مضطرون إلى الاحتكاك بمختلف طبقات الناس ومعرضون لكثير من المواقف والمشاهد والانفعالات والحالات التي يجب مواجهتها بمثل الخطة الحكيمة البليغة التي احتوتها الآية الأولى. وتلقين الآيتين الثالثة والرابعة قوي بليغ، فالذين يتّقون الله ويبتغون رضاءه يسارعون حالا إلى كظم غيظهم والانتباه إلى ما أوشكوا أن يتورطوا فيه من الانفعالات ووساوس النفس ونزغات الشيطان ويعوذون بالله لتصفو نفوسهم وتهدأ انفعالاتهم وتنخسئ عنهم وساوس الشياطين ويعودون إلى ما هو الأولى بهم من السكون ورباطة الجأش والتجلّد والتزام الخطة المرسومة في الآية الأولى بعكس أضدادهم الذين فقدوا الإيمان والوازع الديني فيقعون تحت تأثير
554
الوساوس والنزغات دائما ويرتكسون نتيجة لذلك في مختلف الانحرافات والآثام.
ولقد أورد الطبري في سياق الآية الأولى حديثا عن سفيان بن عيينة عن رجل سمّاه قال: «لما نزلت هذه الآية خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا جبريل ما هذا؟ قال ما أدري حتى أسأل العالم قال ثم قال جبريل يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك» وروى الطبري هذا بطريق آخر عن أبيّ أيضا. والحديث لم يرد في كتب الأحاديث المعتبرة. ولكن صحته محتملة وفيه توضيح وتساوق مع تلقين الآية القرآنية كما هو واضح.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الثانية حديثا جاء فيه: «إنّ رجلين تسابّا بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمرّغ غضبا، فقال رسول الله إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». وقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود بصيغة مقاربة عن سليمان بن صرد قال: «استبّ رجلان عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعل أحدهما تحمرّ عيناه وتنتفخ أوداجه فقال رسول الله إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقال وهل ترى بي من جنون» «١». حيث ينطوي في الحديث تعليم نبوي متساوق مع التعليم القرآني.
تعليق على الأمر بالاستعاذة من نزغات الشيطان ومدى هذه النزغات في النبي صلّى الله عليه وسلّم وسائر الناس
والتعليم بالاستعاذة من نزغات الشيطان ووساوسه يأتي هنا للمرة الثانية.
والمرة الأولى جاءت في سورة الناس وقد ذكر فيها الجنة بدلا من الشيطان هنا.
(١) التاج ج ٥ ص ٤٧.
555
ولقد شرحنا هدف التعليم بالاستعاذة وما تبثّه في النفس من سكينة وطمأنينة. وأوردنا طائفة من الآيات والأحاديث في سياق تفسير سورة الفلق فنكتفي بهذا التنبيه بالنسبة للاستعاذة.
غير أن صيغة الآية [٢٠٠] التي نحن في صددها مختلفة نوعا ما. حيث تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستعاذة من الشيطان إذ أن نزغه منه الذي فسّره الجمهور على أنه الغضب. وهذه الصيغة تكررت في آية سورة فصلت هذه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وجاءت بصيغة أخرى في آيات سورة المؤمنون هذه: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) وقد كانت هذه الآيات موضوع بحث كلامي عما إذا كان يمكن أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم عرضة لنزغات وهمزات ووساوس الشياطين وتأثيرهم كسائر الناس وبما إذا كان هذا مما يخلّ في عصمته. وبما إذا كان هذا مما يصحّ أن يشمل ما يصدر عنه من أوامر وتعليمات وما يبلغه من وحي الله وقرآنه. وقد تطرق المفسّر الخازن إلى هذا الأمر في سياق تفسير آية الأعراف التي نحن في صددها فقال إن الآية بسبيل التعليم وليست بسبيل تقرير أمر وقع. أو أنها من باب لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] والنبي صلّى الله عليه وسلّم بريء من الشرك البتة. وإن الشيطان لو حاول الوسوسة له فإن الله عاصمه عن قبولها والتأثّر بها. وأورد بسبيل ذلك حديثا رواه ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما منكم من أحد إلّا وقد وكّل به قرينه من الجنّ وقرينه من الملائكة قالوا وإياك يا رسول الله قال وإيّاي إلّا أنّ الله أعانني عليه فأسلم من شرّه وفتنته» «١».
تطرق رشيد رضا في تفسيره لآية سورة الأعراف التي نحن في صددها إلى هذا الموضوع أيضا. وفنّد أي احتمال لتأثّر النبي صلّى الله عليه وسلّم بوسوسة الشيطان وأورد الحديث وقال إنه وارد في صحيح مسلم.
(١) انظر تفسير الآيات في الخازن. [.....]
556
والمتبادر أن أسلوب الآيات ومداها لا يتحمل هذا البحث. وأن الآية الثانية من الآيات التي نحن في صددها ليست إلّا بسبيل التنبيه على ما يمكن أن يطرأ على نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم من انفعالات وأزمات تجاه المواقف والحالات المثيرة وبسبيل تهدئته مما هو متصل بطبيعة البشر التي قرر القرآن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها مثل سائر البشر. على أن من المحتمل أن يكون الخطاب للسامع المسلم إطلاقا وهذا من أساليب القرآن المألوفة والمتكررة، ويمكن أن يضاف إلى هذا وذاك أن القرآن قرر أنه ليس للشيطان سلطان على الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكلون كما جاء في آية سورة النحل [٩٩] وأنه لا سبيل له على عباد الله المخلصين كما جاء في آيات سورة الحجر [٤٠- ٤٢] وهذا ضابط من ضوابط القرآن المحكمة. والنبي صلّى الله عليه وسلّم أول عباد الله المؤمنين الذين لا يمكن أن يكون للشيطان سبيل إليهم ولا سلطان عليهم.
بل إن هذا المعنى مندمج في الآيات التي نحن في صددها كما يظهر للمتمعن فيها، فإذا ما حاول الشيطان أن يمسّ المؤمنين المخلصين بنزغة من نزغاته تذكروا في الحال فنجوا منها.
تعليق على رواية نسخ آية خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
هذا، وقد قال بعض المفسرين إن الآية الأولى نسخت بالآيات التي تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتال الكفار والمنافقين والإغلاظ لهم وهذا القول يتكرر في كل مناسبة مماثلة على ما نبهنا عليه قبل. ولسنا نرى هذا في محله. فالآية احتوت خطة ربانية للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين إزاء الناس جميعهم الذين يدخل فيهم المسلمون. وهذه الخطة مؤيدة بآيات عديدة مدنية ومكية مثل آية سورة آل عمران هذه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وآية سورة النساء هذه: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً (٦٣) وآية سورة
557
فصلت هذه: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وآية سورة الإسراء هذه: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) وآية سورة آل عمران هذه: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) بحيث يمكن أن يقال إن ما احتوته الآية من حثّ على أخذ الناس بالعفو من أخلاقهم وقبول الميسور منهم والتسامح في معاشرتهم والإغضاء عن طيش جاهليهم من مبادئ القرآن المحكمة.
وليس من تعارض بين هذا وبين معاملة من يستحق الشدّة والغلظة والقتال بما يستحق بطبيعة الحال حتى يصحّ القول بنسخ الآية. وقد قال الطبري الذي روى رواية النسخ عن بعض أهل التأويل من الصدر الإسلامي إنه ليس لديه دليل على نسخها، وإن المراد منها تأديب النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين جميعا وأمرهم بأخذ عفو أخلاق الناس. وتعليمهم صفة عشرة بعضهم بعضا وعشرة من لم يجب أخذه بالغلظة والشدّة.
ولقد أورد البغوي حديثا رواه بطرقه في سياق هذه الآية عن عائشة قالت:
«لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحشا ولا متفحّشا ولا صخّابا في الأسواق. ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح». وحديثا آخر عن جابر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله بعثني لإتمام مكارم الأخلاق وإتمام محاسن الأفعال». ولم نطلع على هذين الحديثين في كتاب التاج الذي جمع أحاديث أئمة الحديث الصحيح الخمسة. وهذا لا ينفي صحتهما ولقد روى مؤلف التاج حديثا مقاربا للحديث الأول مرويا عن أنس قال: «لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحشا ولا لعانا ولا سبّابا» «١». وروى عن الترمذي وأبي داود حديثا عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن. وإن الله ليبغض الفاحش البذيء».
(١) التاج ج ٥ ص ٣٣.
558
وروى عن الترمذي حديثا عن أبي ذرّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» «١». وروى عن الترمذي ومسلم والبخاري حديثا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خياركم أحاسنكم أخلاقا» وفي رواية: «إنّ من أخيركم أحسنكم خلقا» «٢».
حيث ينطوي في الأحاديث صورة من أخلاق رسول الله واهتمامه بالحثّ على مكارم الأخلاق مما له صلة بالتأديب القرآني الذي تحتوي عليه الآية. وكفى ثناء على أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آية سورة القلم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤). وكان ذلك من أسباب اصطفاء الله إياه لرسالته العظمى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ كما جاء في آية سورة الأنعام [١٢٤].
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٣]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
. (١) آية: قال ابن كثير إن المقصود من الآية في هذه الآية معجزة، غير أن معظم المفسرين أوّلوها بآية قرآنية. وهذا أوجه وفي الآية قرينة على وجاهة هذا التأويل والآية القرآنية بمعنى جملة قرآنية.
(٢) لولا: جاءت في القرآن كثيرا بمعنى هلا للتحدي وهي هنا بهذا المعنى.
(٣) اجتبيتها: قال المفسرون إنها هنا بمعنى اختلقتها أو تقوّلتها. والاجتباء في الأصل الاصطفاء وهي من جبى بمعنى أخذ.
في الآية حكاية لبعض مواقف الكفار حيث كانوا يقترحون على النبي صلّى الله عليه وسلّم الإتيان بآية. وحينما لا يلبيهم يلمزونه قائلين هلا اختلقت ما نطلب منك. وقد أمرت النبي صلّى الله عليه وسلّم بالردّ عليهم بأنه إنما يتبع ما يوحى إليه به من ربّه وليس له إلّا التزام
(١) التاج ج ٥ ص ٥٧.
(٢) المصدر نفسه.
559
حدود ذلك وإن ما يبلغه ليس تقوّلا على الله وإنما هو وحي رباني يوحيه الله ليكون هدى ورحمة للذين صدقت رغبتهم في الحق والإيمان والتبصّر.
ولم يذكر المفسرون رواية في نزول هذه الآية لمناسبة خاصة. ويتبادر لنا أن لها صلة بالفصل السابق. وضمير الجمع الغائب يمكن أن يكون قرينة على هذه الصلة لأنه يربط بينها وبين الآية الأخيرة السابقة التي تذكر إخوان الشياطين. ولا يبعد أن يكون الموقف الساخر الذي حكته الآية بقولهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم: (هلا اختلقتها) هو الذي أثار انفعال النبي صلّى الله عليه وسلّم فتقدمت الآيات السابقة بالخطة الحكيمة والتنويه والتنبيه والتنديد بين يديّ الباعث عليها.
وفحوى الآية يلهم أن الكفار قد طلبوا آية قرآنية وليس آية خارقة أي معجزة.
فلما لم يجبهم إلى طلبهم وقال لهم إن القرآن وحي من الله يبلغه حينما يوحي الله به إليه غمزوه بما غمزوه وأثاروا انفعاله. وهكذا تكون الآية قد احتوت صورة جديدة من صور مواقف تحدّي الكفار.
وقد تكرر هذا منهم وتكرر نفس الجواب لهم على ما حكته آية سورة يونس هذه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥).
تعليق على جملة إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَ
وفي هتاف النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمر الله بأنه إنما يتبع ما يوحى إليه من الله وليس له إلّا تبليغه وبأن القرآن ليس ارتجالا وليس هو رهن الطلب والاقتراح وبسبيل الجدال والمماحكة وإنما هو بصائر وهدى ورحمة لمن صدقت نيته ورغبته في الإيمان والهدى تتجلّى صميميته الرائعة بإعلان الحق والحقيقة والتزام حدود الله ويتجلّى عمق إيمانه برسالته وصلته بالله واستغراقه فيهما. وفي الآية بعد تنويه جميل
560
بأصحاب النيات الحسنة والرغبات الصادقة لأنهم لا يكابرون إزاء الحق والصدق ولا يمارون فيهما ويتلقونهما بالقبول والإذعان.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٤]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
. تعليق على الآية وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
روى الطبري أن الآية نزلت في فتى من الأنصار كان كلّما قرأ النبي شيئا من القرآن قرأه. وروى عن أبي هريرة أنها نزلت في صدد رفع المسلمين أصواتهم وهم خلف رسول الله في الصلاة. وهذا روي بطرق عديدة عن أشخاص عديدين.
وروي كذلك إلى أن الآية في صدد الإنصات للإمام وخطبة الجمعة وحسب.
وهناك حديث يرويه الطبري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «إذا قرأ الإمام فأنصتوا» وهذا الحديث لم يرد في الكتب المعتبرة. ولكن هناك أحاديث من بابها في هذه الكتب حيث روى الترمذي وأبو داود حديثا عن عبادة قال: «صلّى بنا رسول الله الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال إني أراكم تقرءون وراء إمامكم قلنا يا رسول الله إي والله قال لا تفعلوا إلّا بأمّ القرآن فإنّه لا صلاة لمن لا يقرأها وفي رواية فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلّا بأمّ القرآن» «١». وإلى هذا فقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أنها عامة في الصلاة وغيرها وليس من تعارض في هذا كما هو المتبادر.
والرواية التي تذكر أنها نزلت في فتى الأنصار غير واردة في الكتب المعتبرة.
ونلمح الاتصال بينها وبين سابقاتها التي ذكر فيها القرآن وما فيه من بصائر وهدى ربانيين لقوم يؤمنون حيث يسوغ القول إن الآية لم تنزل لحادث معين وإنما نزلت للمناسبة السابقة أو معها بسبيل تعليم المؤمنين عامة آداب الاستماع للقرآن حينما
(١) انظر تفسير الآية في تفسير القاسمي.
الجزء الثاني من التفسير الحديث ٣٦
561
يتلى في الصلاة وفي غير الصلاة لما فيه من أسباب الهدى والتذكير والرحمة الربانية.
ولقد قال الزمخشري والطبرسي إن الأمر بالاستماع يعني الطاعة للقرآن والتزام ما فيه من أوامر ونواه وحدود. وهذا الواجب هو من قبيل تحصيل الحاصل. غير أن كلمة (وأنصتوا) قد تكون مرجحة لكون الأمر بالاستماع في هذا المقام هو في إيجاب الاهتمام لسماعه والإنصات له.
وواضح أن التعليم والتأديب اللذين احتوتهما الآية عام شامل. وفيهما إيجاب للسير عليه في كل ظرف ومكان. وفي مخالفتهما انحراف عن أمر الله وإساءة أدب إزاء كتابه الكريم المستحقّ لكل توقير وتكريم من جهة والواجب تدبر آياته للانتفاع بها واستحقاق رحمة الله من جهة أخرى وهذا لا يتمّ إلا بحسن الإنصات والاستماع.
واستلهاما من روح الآية يمكن أن يقال إن هذا الأدب يجب أن يترافق بأدب آخر وهو تكريم القرآن وتنزيهه عن المجالس والمواقف المبتذلة حيث يجب أن يصان كلام الله فلا يتلى إلّا في المواقف والمجالس التي تساعد على الإنصات والاستماع والخشوع والتدبّر. وعدم تلاوته في المجالس المبتذلة غير اللائقة أو على قارعة الطريق حيث يكون الناس متبذلين وغادين ورائحين ومنصرفين عنه إلى شؤونهم العادية مما يتناقض مع هذا الأدب القرآني السامي.
ولقد روى رشيد رضا في سياق تفسير الآية قولا لابن المنذر بأن هناك إجماعا على عدم وجوب الاستماع والإنصات في غير الصلاة والخطبة. لأن في ذلك حرجا عظيما حيث يقتضي أن يترك كل ذي شغل شغله فيترك العالم علمه والحاكم حكمه والتاجر تجارته إلخ. ولم نطلع في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي من المفسرين القدماء على مثل هذا القول. وقد يكون القول في ذاته وجيها بقطع النظر عن زعم الإجماع فيه إذا كانت القراءة في المجالس والمناسبات غير الملائمة أو غير اللائقة أو على قارعة الطريق كما قلنا والله أعلم.
562
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة». وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن صحته محتملة. وفيه حثّ للمؤمنين على حسن استماع القرآن تساوقا مع التلقين القرآني.
هذا، وهناك آثار مروية في كيفية تلاوة القرآن وترتيله أرجأناها إلى مناسبة أكثر ملاءمة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠٥ الى ٢٠٦]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
. (١) الغدوّ: هو وقت أول النهار.
(٢) الآصال: جمع أصيل هو وقت آخر النهار إلى قبيل الغروب.
في الآية الأولى أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستمرار في ذكر الله في الصباح والمساء وفي حالة الخضوع والخشوع والاستشعار بالخوف والهيبة وبغير تظاهر ولا استعلان وألّا يغفل عن ذلك مع الغافلين. وفي الثانية تقرير تذكيري بأن الذين عند الله لا يستكبرون عن عبادته وهم في تسبيح وسجود دائمين له.
والمقصودون في الآية الثانية هم الملائكة حيث ورد وصف حالتهم المماثلة مع ذكرهم الصريح في آيات قرآنية أخرى مثل آية سورة الزمر هذه: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥) وآية سورة الشورى هذه: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥).
563
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآيتين. وإنما ذهب الطبري إلى أن الآية الأولى منهما موجهة إلى الذين وجهت إليهم الآية السابقة لها لتأمرهم بذكر الله حينما يستمعون للقرآن على صورة التضرّع والتخشّع ودون الجهر بالقول.
وقد أنكر ابن كثير ذلك وقال إنه مناقض على كل حال لأمر الإنصات الوارد في الآية السابقة. وأن الأمر في الآية الأولى من الآيتين عام على سبيل التعليم والتأديب وهذا القول في محله. ونضيف إليه إن اختلاف صيغة الضمائر في الآية الأولى من الآيتين والآية السابقة لها تجعل القول إن في الآية الأولى أمرا جديدا غير الأمر الوارد في الآية السابقة لها هو الأوجه في نطاق ما شرحنا به الآية.
ويدعم هذا الآية الثانية التي احتوت صورة عن إخلاص الملائكة لله وتسبيحهم وسجودهم لهم وعدم استكبارهم. وعلى كل حال فالآيتان متصلتان مدى وفحوى بالآيات السابقة لها. وعليهما طابع الختام الذي يلمح في سور عديدة.
تعليق على الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ إلخ وتنبيه على ما أعاره القرآن لذكر الله من عناية وما أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من أحاديث في ذلك وما في كل هذا من تلقين
وضمير المفرد المخاطب في الآية الأولى وإن كان من المحتمل أنه يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التسكين والتطمين فإن التعليم والتأديب اللذين انطويا فيها مما يصح أن يكون شاملا للمسلمين. وفيه تلقين مستمر المدى. فالاستمرار في ذكر الله تعالى مما يمدّ المسلم دائما بالخشية والتقوى والطمأنينة ويجنبه المزالق ويبعد عنه الوساوس. وفي مجانبة الإعلان والتظاهر في عبادة الله وذكره دلالة على الإخلاص وبعد عن شائبة الرياء ونزغاته.
ولقد كثرت الآيات القرآنية التي تحثّ على ذكر الله وتنبّه إلى ما في ذلك من
564
واجب وما يبعثه من هدوء وطمأنينة وما يحفّز عليه من ملاحظة الله وخشيته وعبادته والتقرّب إليه وتنفيذ أوامره واجتناب ما نهى عنه من أخلاق وأفعال والتي تندد بالذين لا يذكرون الله وما يؤدي إليه ذلك من قسوة القلب وظلمة النفس وعدم التورع عن الجحود واقتراف المنكرات والآثام حتى لتبلغ الأربعين. وهذا خلاف ما استعمل فيه فعل الذكر لمقاصد أخرى. نورد من ذلك الأمثلة التالية على سبيل التمثيل لا الحصر:
١- فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة: ١٥٢].
٢- الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: ١٩١].
٣- فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ [النساء: ١٠٣].
٤- إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: ٩١].
٥- الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: ٢].
٦- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: ٤٥].
٧- الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) [الرعد: ٢٨].
٨- وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه: ١٢٤].
٩- رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ [النور: ٣٧].
565
١٠- اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ [العنكبوت: ٤٥].
١١- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: ٤١- ٤٢].
١٢- أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: ٢٢- ٢٣].
١٣- أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: ١٦].
١٤- اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [المجادلة: ١٩].
١٥- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [المنافقون: ٩].
حيث يبدو من هذه الآيات وأمثالها الكثيرة ما اقتضته حكمة التنزيل من إعارة هذا الأمر عناية بالغة لما ينطوي فيه من أهداف سامية دنيوية وأخروية معا.
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في ذكر الله وفوائده والحثّ عليه. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول الله عزّ وجلّ أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه حين يذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وإن اقترب إليّ شبرا تقرّبت إليه.
566
ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» «١».
وحديث ثان رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحيّ والميّت» «٢». وحديث ثالث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يقعد قوم يذكرون الله عزّ وجلّ إلّا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده» «٣». وحديث رابع رواه الترمذي عن جابر: «قال رجل يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبّث به قال لا يزال لسانك رطبا بذكر الله» «٤». حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر شأنه في كل أمر.
[تم بتوفيق الله الجزء الثاني ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث وأوله تفسير سورة الجنّ]
(١) التاج ج ٥ ص ٧٨- ٨٠، وفي كتاب الأذكار والأدعية الذي نقلناه عنه هذه الأحاديث من هذا الجزء أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردناه.
(٢) انظر المصدر نفسه ص ٧٨- ٨٠.
(٣) انظر المصدر نفسه.
(٤) انظر المصدر نفسه.
567
فهرس محتويات الجزء الثاني
تفسير سورة العاديات ٧ مغزى القسم القرآني بالخيل ٩ تعليق على مدنية السورة ٩ تفسير سورة الكوثر ١١ تفسير سورة التكاثر ١٥ تفسير سورة الماعون ١٨ مدى وتلقينات آيات السورة ٢١ تفسير سورة الكافرون ٢٥ مبدأ حرية التدين في النظام الإسلامي ٢٧ تفسير سورة الفيل ٤١ تفسير سورة الفلق ٤٥ طائفة من الآيات والأحاديث في الاستعاذة ٤٨ تعليق على ما روي في صدد نزول السورة ٥١ تفسير سورة الناس ٥٩ تعليق على موضوع الجن ٦٢ تفسير سورة الإخلاص ٦٨ تعليق على مدى تقرير وحدة الله في هذه السورة ٧١ تفسير سورة النجم ٧٤
568
تعليق على مدى متناول آيات وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى والعصمة النبوية ٧٨ تعليق على روايات الإسراء والمعراج ٨١ تعليق على ما ورد في كتب التفسير من مسألة رؤية النبي ربّه عز وجل ٩٧ شرح عقائد العرب في اللاة والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك ١٠٠ تعليق على تعبير الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. ١٠٦
تعليق على مبدأ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ومبدأ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ١١٣ تفسير سورة عبس ١٢١ مدى العتاب الرباني للنبي صلّى الله عليه وسلّم ١٢٢ تفسير سورة القدر ١٢٩ تعليق على ما روي في صدد نزول السورة ١٣٠ تعليق على روايات نزول القرآن جملة واحدة ١٣٢ تعليق على ليلة القدر ١٣٣ تعليق على كلمة الروح ١٣٦ تفسير سورة الشمس ١٣٨ تعليق على جملة وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ١٤٠ تعليق على جملة فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ١٤٠ تعليق على ناقة ثمود ١٤١ تفسير سورة البروج ١٤٣ تعليق على ذكر البروج ١٤٥ تعليق على محنة فتنة المسلمين الأولين ١٤٧ المرأة المسلمة في هذه المحنة وفي دور الفتنة ١٥٠ تعليق على موضوع التوبة ١٥١ تعليق على اللوح ١٦٠
569
تفسير سورة التين ١٦٣ تفسير سورة قريش ١٦٧ تعليق على قريش والبيت والرحلات التجارية ١٦٨ تفسير سورة القارعة ١٨٢ تعليق على الموازين وثقلها وخفتها في الآخرة ١٨٣ تلقينات السورة جملة ١٨٧ تفسير سورة القيامة ١٨٨ تعليق على محاولة ربط البنان بعلم بصمات الأصابع الحديث ١٩٠ تعليق على ما تفيده ظواهر الآيات من بعث الناس بأجسادهم ١٩٢ تعليق على دلالة آيات لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
وأخواتها ١٩٦ تعليق على موضوع رؤية الله عز وجل ١٩٨ تفسير سورة الهمزة ٢٠٥ تفسير سورة المرسلات ٢٠٧ تعليق على عبارة انفراج السماء وانطماس النجوم ٢١٠ تنبيه إلى أن الدعوة الإسلامية قائمة على الإقناع ٢١٣ تعليق على ما يمكن أن يتوهم من تناقض في حكاية حال الكفار يوم القيامة ٢١٤ تعليق على مدى التنويه بالمحسنين والإحسان ٢١٦ تفسير سورة ق ٢٢٠ تعليق على ذكر القرآن والقسم به ٢٢١ تعليق على حكاية تعجب الكفار من مجيء رسول إليهم منهم وإنذاره بالآخرة ٢٢٢ صورة من الأسلوب القرآني في مخاطبة العقل والقلب والحس في البرهنة على قدرة الله ٢٢٥ تعليق توضيحي لأهل الرس والأيكة وتبّع ٢٢٧
570
تعليق على موضوع الملائكة الكاتبين على أيمان الناس ٢٣١ تعليق على جملة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ٢٣٣ ما في التنديد بمنع الخير من تلقين ٢٣٧ تعليق على تعبير وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ٢٣٨ تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب ٢٣٩ تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار بين الله وبين قرناء الإنسان ٢٣٩ تعليق على ما روي عن مفسري الشيعة ٢٤٠ وجوب تلازم الإيمان مع التقوى والعمل الصالح ٢٤١ تعليق على مدى جملة وَلَدَيْنا مَزِيدٌ ٢٤٢ كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها ٢٤٥ تعليق على موضوع خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ٢٤٦ تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلوات ٢٥٠ تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمن من قوة معنوية تساعده على مواجهة الملمات ٢٥١ معنى توالي السور التي احتوت توكيد البعث والحساب ٢٥٢ خبر عن تلاوة رسول الله هذه السورة ٢٥٢ تفسير سورة البلد ٢٥٣ تعليق على عبارة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ٢٥٥ تعليق على جملة وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ٢٥٦ تعليق على جملة أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ ٢٥٦ تلقينات آيات سورة البلد الأولى ٢٥٧ التلازم بين العمل الصالح والإيمان أيضا ٢٥٩ تعليق على موضوع الرقيق وموقف القرآن منه ٢٥٩ تعليق على إعطاء الناس يوم القيامة كتب أعمالهم ٢٦٤ تفسير سورة الطارق ٢٦٧ تفسير سورة القمر ٢٧١ تعليق على انشقاق القمر ٢٧٣ تعليق على موضوع اقتراب الساعة ٢٧٧ تعليق على كلمة الحكمة ومعانيها في القرآن ٢٧٨
571
تعليق توضيحي للأقوام الذين ذكروا في السلسلة القصصية ٢٨٣ تعليق على الآية إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ ٢٨٧ تفسير سورة ص ٢٩٨ تعليق على مدى ما انطوى في جملة أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ٣٠١ تعليق على سلسلة قصص الأنبياء وهدفها ٣٠٥ تعليق على قصة الخصم الذي تقاضى أمام داود وتلقيناتها ٣٠٧ تعليق على ما احتوته الآية يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ... ٣٠٩
تعليق على تسخير الجبال والطير ليسبحن مع داود ٣١٢ تلقينات آية وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا إلخ ٣١٣ تعليق على كلمة الكتاب ٣١٤ تعليق على آية كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ إلخ ٣١٥ تعليق على ما روي في سياق قصة سليمان ٣٢٢ التلقينات المنطوية في قصة أيوب ٣٢٥ تعليق على توسع بعض الفقهاء في تأويل تحلة اليمين التي يسرها الله لأيوب ٣٢٦ تعريف بالأسماء المذكورة في الآيات ٣٢٩ تعليق على عدم وصف إسماعيل واليسع وذي الكفل بوصف عبادنا وعدم قرن إسماعيل مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب ٣٣٢ تعليق على جنات عدن ٣٣٤ تعليق على ما في آيات قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وما بعدها من دلالة ومدى ٣٣٩ استطراد إلى حديث نبوي مروي في سياق الآية ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ... ٣٤٠
تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها ٣٤٢ تعليق على تعبير وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ٣٥٤ تعليق على ما سجله الله تعالى في القرآن من كرامة بني آدم في هذه القصة ٣٥٥ التلقين المنطوي في جملة وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ٣٥٩ تعليق على جملة وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ٣٥٩ تفسير سورة الأعراف ٣٦١ تعليق على قصة آدم وإبليس في هذه السورة ٣٦٧ تعليق على التلقين القرآني بالشكر لله ومداه ٣٦٩ تعليق على جملة إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ٣٧١
572
تعليق على جملة إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ٣٧٣ تعليق على جملة وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ٣٧٦ تعليق على جملة فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ٣٧٧ تعليق على مسجد ٣٧٨ تعليق على الآيات الثلاث يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ وما بعدها ٣٨٤ أحاديث في ستر العورة ٣٨٦ التلقين الذي انطوى في حكاية تلاوم الأجيال في جهنم ٣٩٥ تعليق على مدى جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ٣٩٨ تعليق على الآية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً... ٤٠٩
استطراد إلى موضوع الدعاء لله ومداه ٤٠٩ تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ... ٤١٢
تعليق على دلالة جملة وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ إلخ ٤١٥ استطراد إلى جريمة اللواط ٤٢٤ تلقينات القصص وما فيها من نقاط بارزة متصلة بالهدف القرآني ٤٢٦ تلقين الآيات التي جاءت معقبة على فصل القصص ٤٣٠ تعليق على عبارة يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ٤٣١ تعليق على كلمة (نبي) ٤٣٣ تعليق على تعبير مَكْرَ اللَّهِ ٤٣٤ تعليق على الحلقة الأولى من قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل وتلقيناتها ٤٣٧ تعليق على آية وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها إلخ ٤٤١ تعليق على جملة رَبِّ الْعالَمِينَ ٤٤٣ تلقينات الحلقة الثانية من قصص «بني إسرائيل» ٤٤٩ تعليق على جملة فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ٤٥٣ تعليق على جملة لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ... ٤٥٣
تعليق على الآيتين سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ... ٤٥٥
تعليق على عبارة إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ٤٥٧ تعليق على جملة قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ... ٤٥٨
تعليق على ذكر الزكاة في الآية [١٥٦] ٤٦٠
573
تعليق على الآية الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ... ٤٦٠
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ٤٧٠ تعليق على حلّ الطيبات وتحريم الخبائث ٤٧٥ تعليق على كلمتي التوراة والإنجيل ٤٧٦ تعليق على الألواح التي ذكرت في الآية [١٤٥] ٤٩٧ تعليق على ما يرويه الشيعة في صدد جملة وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٥١٧ تعليق على رواية مدنية الآيات [١٦٣- ١٧٠] ٥٢٠ تعليق على حادث السبت وتلقيناته ٥٢٠ تعليق على ما في آية وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ من تلقين وإعجاز قرآني ٥٢٣ تعليق على آية وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ إلخ ٥٢٤ تعليق على الإسهاب في قصص بني إسرائيل ٥٢٧ تعليق على جملة وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ٥٢٩ تعليق على آية وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها وتلقينها ٥٣٤ تعليق على جملة وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ٥٣٧ تعليق على جملة مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ٥٣٩ تعليق على جملة الذين يلحدون في أسمائه ٥٤٠ تعليق على القصص عن موعد القيامة وما في الجواب من دلالة بليغة ٥٤٦ تعليق على آيات هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها إلخ وتلقيناتها ٥٥٠ تلقين آيات خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وما بعدها ٥٥٣ تعليق على مدى نزغات الشيطان في النبي والناس ٥٥٥ تعليق على رواية نسخ آية خُذِ الْعَفْوَ ٥٥٧ تعليق على جملة إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ ٥٦٠ تلقين آية وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ٥٦١ تلقين آية وَاذْكُرْ رَبَّكَ إلخ ٥٦٤
574
الجزء الثالث
السور المفسرة في هذا الجزء «١» ١- الجنّ.
٢- يس.
٣- الفرقان.
٤- فاطر.
٥- مريم.
٦- طه.
٧- الواقعة.
٨- الشعراء.
٩- النمل.
١٠- القصص.
١١- الإسراء.
١٢- يونس.
١٣- هود.
(١) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.
5
Icon