تفسير سورة الطارق

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

أوَّلُ السُّورة قَسَمٌ، وجوابُهُ﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾[الطارق: ٤].
والطارقُ كلُّ ما يأتِي لَيلاً، يعني بذلك النَّجمَ يظهرُ لَيلاً ويخفى نهاراً، وكلُّما جاءَ ليلاً فهو طارقٌ، ومنه حديثُ جابرٍ:" نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَطْرُقَ الْمُسَافِرُ أهْلَهُ لَيْلاً، وَقَالَ: حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمَعِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعْثَةُ "وقالت هندُ: نَْحْنُ بَنَاتُ طَارقْ   نَمْشِي عَلَى النَّمَارقْتريدُ: إنَّ النَّجمَ أتَانا يومَ أحُد في شَرفهِ وعلُوِّه. وقال ابنُ الرُّومي: يَا رَاقِدَ اللَّيل مَسْرُوراً بَأَوَّلِهِ   إنَّ الْحُوَادِثَ قَدْ يَطْرُقْنَ أسْحَارَالاَ تَفْرَحَنَّ بلَيْل طَابَ أوَّلُهُ   فَرُبَّ آخِر لَيْل أجَّجَ النَّارَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلطَّارِقُ ﴾؛ تعجيبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من شأنهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ ﴾؛ تفسيرٌ للطارقِ، والثاقبُ: وهو النَّيِّرُ المضيءُ من النجومِ كلِّها، وعن ابنِ عبَّاس: (ثُقُوبُهُ تُوقِدُهُ بنَارهِ كَأَنَّهُ ثَقَبَ مَكَاناً فَظَهَرَ). ويقالُ: ثقَبَ النارَ فتثقَّبَتْ اذا أضَأْتَها فأضَاءَتْ، أثْقِبْ نَارَكَ، أي أضِئْهَا، ويقالُ معناه: الثاقِبُ العالِي الشديد العلُوِّ، وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قالَ في هذه الآية: (زُحَلُ يَطْرُقُ مِنَ السَّمَاءِ السَّابعَةِ باللَّيْلِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَيَخْتَفِي عِنْدَ الصُّبْحِ). وقال مجاهدُ: ((الثَّاقِبُ: الْمُتَوَهِّجُ)). وقال عطاءُ: ((الثَّاقِبُ هُوَ الَّذِي تُرْمَى بهِ الشَّيَاطِينُ فَتُحْرِقُهُمْ)).
(مَا) هنا صلةٌ كما قال تعالى:﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾[آل عمران: ١٥٩] أي فبرَحمَةٍ من اللهِ، والمعنى: إنْ كلُّ نفسٍ لعَلَيها حافظٌ من الملائكةِ يحفَظُها ويحفظُ عليها عملَها وأجَلَها، حتى إذا انتهَى إلى المقاديرِ كُفَّ عن الحفظِ. وقرأ الحسنُ وابنِ عامرٍ وعاصم وحمزةُ بالتَّشديد، يعنُون ما كلُّ نفسٍ إلاَّ عليها حافظٌ، وهي لغةُ هُذيل، يقولون نَشدتُكَ اللهَ لَمَّا قُلتَ، يعنون إلاَّ قُلتَ، قال ابنُ عبَّاس: ((هُمُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ)). قال الكلبيُّ: ((مَعْنَاهُ حَافِظٌ مِنَ اللهِ يَحْفَظُ قَولَهَا وَفِعْلَهَا)). وعن أبي أُمامة قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" وُكِّلَ بالْمُؤْمِنِ مِائَةٌ وَسُتُّونَ مَلَكاً يَذُبُّونَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، مِنْ ذلِكَ الْبَصَرُ سَبْعَةُ أمْلاَكٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ كَمَا يَذُبُّ الرَّجُلُ الذُّبَابَ عَنْ قَصْعَةِ الْعَسَلِ، وَلَوْ وُكِّلَ الْعَبْدُ إلَى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لاخْتَطَفَتْهُ الشَّيَاطِينُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾؛ أي مِن أيِّ شيءٍ خلقَهُ اللهُ في رحِم أُمِّه، ثم بيَّن ذلك فقالَ: ﴿ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ ﴾؛ أي مدفُوقٍ مَصْبُوبٍ مُهرَاقٍ في رحمِ المرأة، يقال: سِرٌّ كاتمٌ؛ أي مكتومٌ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ ﴾؛ يعني ماءَ الرجُلِ وماءَ المرأةِ؛ لأن الولدَ مخلوقٌ منهما، فماءُ الرجُلِ من صُلبهِ، وماءُ المرأة من تَرائبها. والترائبُ: جمعُ التَّرِيبَةِ وهو موضعُ القلادةِ من الصَّدر، وهي أربعةُ أضلاعٍ من يُمنَةِ الصدر، وأربعةُ أضلاعٍ من يُسرَةِ الصَّدر، وسُئل عكرمةُ عن الترائب فقالَ: ((هَذِهِ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ)).
قَوْلُهُ تَعََالَى: ﴿ إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴾؛ أي إنَّه على إحياءِ الإنسان بعدَ الموتِ والبلَى لقادرٌ، وعن مجاهدٍ أنَّ معناه ((إنَّهُ عَلَى رَدِّ ذلِكَ الْمَاءِ إلَى الإحْلِيلِ كَمَا كَانَ لقَادِرٌ)) كأنهُ يقولُ: إنَّهُ على ردِّ الإنسان من الكِبَرِ إلى الشَّباب، ومن الشَّباب إلى الصِّبا، ومن الصِّبا إلى النُّطفة، ومن النُّطفة إلى الإحليلِ، ومن الإحليلِ إلى الصُّلب قادرٌ، فكيف لا يقدرُ على إحيائهِ بعدَ الموتِ. ثم أخبرَ متى يكون البعثُ، فقالَ تعالى: ﴿ يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ ﴾؛ أي استعدُّوا ليومٍ تظهرُ فيه سرائرُ الضمائرِ التي لم يطَّلع عليها أحدٌ من البشرِ، وَقِيْلَ: أراد بالسَّرائر الأعمالَ التي أسَرَّها العبادُ فلم يُظهِرُوها، يُظهِرُها اللهُ تعالى يومَ القيامةِ.
أي فما للإنسان يومئذٍ من قوَّةٍ يَدفعُ بها عذابَ اللهِ عن نفسهِ، ولا ناصرٍ ينصرهُ ويُعِينهُ.
أقسَمَ اللهُ بالسَّماء الراجعةِ في كلِّ عامٍ بالمطرِ بعدَ المطرِ على قدر الحاجة، حاجةِ العباد إليه، وبالأرضِ الصَّادعة عن النباتِ الذي هو قوتُ الخلائقِ، إنَّ القرآنَ حقٌّ يفصلُ به بين الحقِّ والباطلِ، وليس هو باللَّعب. والمعنى: ﴿ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ ﴾ بالغيب وأرزاقِ العباد كلَّ عامٍ، لولا ذلك لَهَلكُوا أو هلَكت مواشيهم.
﴿ وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ ﴾؛ أي تتصدَّعُ عن النباتِ والأشجار والأنْهَار، نظيرهُ﴿ ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً ﴾[عبس: ٢٦-٢٧] إلى آخرهِ. قوله: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴾؛ أي إنَّ القرآنَ حقٌّ وجِدٌّ يفصلُ بين الحقِّ والباطلِ.
﴿ وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ ﴾؛ أي وما هو باللَّعِب والباطلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً ﴾؛ يعني كفارَ مكَّة يريدون الإيقاعَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرُ، وذلك أنُّهم تواطَئُوا على قتلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأعلمَ الله نبيَّهُ أنه يجازيهم جزاءَ كيدِهم، فذلك معنى قولهِ تعالى ﴿ وَأَكِيدُ كَيْداً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾؛ أي أجِّلهُم وأنظِرهُم، ولا تَعجَلْ في طلب هلاكهم، فإنَّ الذي وعدتُكَّ فيهم غيرُ بعيدٍ منهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾ أي أجِّلْهُم أجَلاً قليلاً، فقَتَلهم اللهُ تعالى يومَ بدرٍ، و ﴿ رُوَيْداً ﴾ كلامٌ مبنيٌّ على التصغيرِ، ويقال: أرُوَدْيَةَ، وقد يوضعُ (رُوَيْدَ) موضعَ الأمرِ، يقالُ: رُوَيْدَ زَيداً؛ أي أرودْ زَيداً أو أصلهُ من رَادَتِ الرِّيحُ تَرُودُ رَوَدَاناً؛ إذا تحرَّكت حركةً خفيفة، ويجوزُ أن يكون (رُوَيْداً) منصوبٌ على المصدر، كأنه قالَ: أرْودْهُمْ رُوَيداً. وبالله التوفيقُ.
Icon