" انتهى ". وهذا الذي قاله الزجاج قال: كل مرصد، ظرف كقولك: ذهبت مذهباً. ورده أبو علي لأن المرصد: المكان الذي يرصد العدو فيه، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعاً، كما حكي سيبويه: دخلت البيت، وكما: عسل الطريق الثعلب. " انتهى ". وأقول: يصح انتصابه على الظرف لأن قوله: واقعدوا لهم، ليس معناه حقيقة القعود بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه ولما كان هذا المعنى جاز قياساً أن يحذف منه في، كما قال: وقد قعدوا إيقافها كل مقعد. فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه جاز أن يصل إليه بغير واسطة في، فيجوز: جلست مجلس زيد، وقعدت مجلس زيد، تريد في مجلس زيد فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه فكذلك إلى الظرف. وقال الأخفش: معناه على كل مرصد فحذف على واعمل الفعل وحذف على ووصول الفعل إلى مجرورها فينصبه، يخصّه أصحابنا بالشعر وأنشدوا قول الشاعر: تحن فتبدي ما بها من صبابة وأخفى الذي لولا الأسى لقضانيأي لقضى علي.﴿ فَإِن تَابُواْ ﴾ أي عن الكفر والغدر. والتوبة تتضمن الإِيمان وترك ما كانوا فيه من المعاصي.﴿ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ﴾ كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاؤا ولا يتعرض لهم.﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ ﴾ الآية، الظاهر أنها محكمة. وعن ابن جبير قال: جاء رجل إلى عليّ كرم الله وجهه فقال: ان أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء الأجل ليسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل. قال: لا، لأن الله تعالى قال: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ﴾ الآية، ولما أمر تعالى بقتل المشركين حيث وُجدوا وأخذهم وحصرهم وطلب غَدّتهم ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون وهي إذا جاء واحد منهم مسترشداً طالباً للحجة والدلالة على ما تدعو إليه من الدين، فالمعنى وان أحد من المشركين استجارك، أي طلب منك أن تكون مجيراً له وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام الله تعالى، وما تضمنه من التوحيد ويقف على ما بعثت به فكن مجيراً له حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر.﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ ﴾ داره التي يأمن فيها ان لم يسلم، ثم قاتله إن شئت من غير غدرٍ ولا خيانة.﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ أي ذلك الأمر بالإِجارة وإبلاغ المأمن بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإِسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويتفهموا الحق.﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ﴾ الآية، هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد، وفي الآية إضمار أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث. والاستفهام يراد به النفي كثيراً. قال الشاعر: فهذي سيوف يا هُدَيَ بن مالك كثير ولكن كيف بالسيف ضاربأي ليس بالسيف ضارب. ولما كان الاستفهام معناه النفي صلح مجيء الاستثناء وهو متصل. وقيل: منقطع، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام. وقال ابن عباس: هم قريش. وقال السدي: بنو خزيمة بن الدئل. وقال ابن إسحاق: قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش. كيف في موضع نصب خبرا ليكون. وعهد اسم يكون. والظاهر أن ما مصدرية ظرفية، أي استقيموا لهم مدة استقامتهم، وليست شرطية. وقال أبو البقاء: هي شرطية كقوله تعالى:﴿ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ﴾[فاطر: ٢].
" انتهى ". فكان التقدير ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم. وقال الحوفي: ما شرط في موضع رفع بالابتداء، والخبر استقاموا، ولكم متعلق باستقاموا.﴿ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ ﴾ الفاء جواب الشرط. " انتهى ". فكان التقدير فأي وقت استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم. وإنما جوّز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا لأن المصدرية الزمانية لا تحتاج إلى الفاء.
ثم ذكر ﴿ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا ﴾ أي اكتسبتموها لأن الأموال يعادل حبها حب القرابة بل حبها أشد، وكانت الأموال في ذلك الوقت عزيزة وأكثر الناس كانوا فقراء. ثم ذكر ﴿ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ﴾ والتجارة لا تتهيأ إلا بالأموال. وجعل تعالى التجارة سبباً لزيادة الأموال ونمائها. ثم ذكر ﴿ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ ﴾ وهي القصور والدور. ومعنى ترضونها تختارون الإِقامة بها. وانتصب أحب على أنه خبر كان، واسمها آباؤكم فما بعده. وقرأ الحجاج بن يوسف أحب بالرفع فخطأه يحيى بن يعمر من حيث الرواية لأنه لم يرو إلا النصب وإن كان الرفع جائزاً من جهة العربية لأنه كان يكون في كان ضمير الأمر والشأن وهو اسمها. وآباؤكم وما عطف عليه مبتدأ. وأحب خبر. والجملة في موضع نصب على أنها خبر كان.﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ أي من الإِيمان بالله واتباع رسوله عليه السلام.﴿ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ ﴾ أي انتظروا. وهو أمر يتضمن التهديد.﴿ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ قال ابن عباس: هو فتح مكة.﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الآية، المواطن مقامات الحرب ومواقفها. وهذه المواطن وقعات بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة، ووصفت بالكثرة. قال أئمة التاريخ: كانت ثمانين موطناً.﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ﴾ حنين هو واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز، وصرف مذهوباً به مذهب المكان ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف، كما قال الشاعر: نصروا نبيّهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطالوإذ بدل من يوم، وأضاف الإِعجاب إلى جميعهم وإن كان صادراً من واحد منهم لما رأى الجمع الكثير أعجبه ذلك وقال: لن نغلب اليوم من قلة وهذه الكثرة. قال ابن عباس: كانوا ستة عشر ألفاً. والباء في ﴿ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ للحال، وما: مصدرية، أي ضاقت بكم الأرض مع كونها رحبة واسعة لشدة الحال عليهم. والرحب: السعة، وبفتح الراء الواسع. يقال: فلان رحب الصدر، وبلد رحب، وأرض رحبة، وقد رحبت رحباً ورحابة.﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴾ أي وليتم فارين على إدباركم منهزمين تاركين رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وأسند التولي إلى جميعهم وهو واقع من أكثرهم إذ ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من الأبطال على ما يأتي ذكره. فنقول: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصاروا في اثني عشر ألفاً إلى ما انضاف إليهم من الأعراب من سليم وبني كلاب وعبس وذبْيان، وسمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها، وعليهم مالك بن عوف النضري، وثقيف عليهم عبد يا ليل بن عمرو، وانضاف إليهم اخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استعماله عتّاب بن أسيد على مكة حتى اجتمعوا بحنين، فلما تضافّ الناس حمل المشركون على مجابي الوادي وكانوا قد كمنوا بها فانهزم المسلمون. قال قتادة: ويقال ان الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين وبلغ فلهم مكة، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه على بغلة شهباء تسمى دلدل لا يتخلخل، والعباس قد اكتنفه آخذاً بلجامها وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر وعلي بن أبي طالب وربيعة بن الحارث والفضل بن العباس وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد ـ وهو أيمن ابن أمّ أيمن وقتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه ـ وهؤلاء من أهل بيته وثبت معه أبو بكر وعمر فكانوا عشرة رجال رضي الله عنهم. ولهذا قال العباس: نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر منهم وأقشعواوعاشرنا لاقي الحمام بنفسه بما مسه في الله لا يتوجعوثبتت أم سليم رضي الله عنها في جملة من ثبت ممسكة بعيراً لأبي طلحة وفي يدها خنجر." ونزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته إلى الأرض واستنصر الله تعالى وأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها في وجوه الكفار، وقال: شاهت الوجوه "قال يعلى بن عطاء: فحدثني ابناؤهم عن آبائهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا ودخل عينيْه من ذلك التراب." وقال عليه السلام للعباس وكان صيّتاً: نادِ أصحاب السَمُرة، فنادى الأنصار: فخذا فخذا، ثم نادي: يا أصحاب الشجرة! يا أصحاب البقرة! فكروا عنقاً واحداً وهم يقولون: لبيك لبيك. وانهزم المشركون. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال: هذا حين حمي الوطيس، وركض رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفهم على بغلته "وفي صحيح مسلم من حديث البراء" ان هوازن كانوا رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر الله تعالى وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، اللهم أنزل نصرك "قال البراء: كنا والله إذا حمي الوطيس نتقي به صلى الله عليه وسلم وان الشجاع منا الذي يتحاذى به ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ. وفي أول هذا الحديث: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة فقال: أشهد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما ولى.﴿ ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ ﴾ السكينة: النصر والوقار والثبات بعد الاضطراب والفلق. ويخرج من هذا القول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِنه لم يزل ثابت الجأش ساكنه.﴿ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ظاهره شمول من فر ومن ثبت. وقيل: هم الأنصار إذ هم الذين كفروا وردوا الهزيمة.﴿ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ هم الملائكة بلا خلاف، ولم تتعرض الآية لعددهم.﴿ وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي بالقتل الذي استقر فيهم، والأسر لذراريهم ونسائهم، والنهب لأموالهم. وكان السبي أربعة آلاف رأس. وقيل: ستة آلاف. ومن الإِبل اثنا عشر ألفاً سوى ما لا يعلم من الغنم وقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، وفيها قصة عباس بن مرداس وشعره، وكان مالك بن عوف قد أخرج الناس للقتال والذراري ليقاتلوا عنها، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة وقال: وهل يرد المنهزم شىء. وفي ذلك قتل دريد القتلة المشهورة قتله ربيعة بن رفيع بن اهبان السُلمي. ويقال له: ابن الدغنّة.﴿ ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ﴾ الآية، إخبار بأن الله تعالى يتوب على من يشاء ويهدي من يشاء ممن بقي من الكفار للإِسلام ووعد بالمغفرة والرحمة كمالك بن عوف النضري رئيس هوازن، ومن أسلم معه من قومه. وروي" أن ناساً منهم جاءوا فبايعوا على الإِسلام وقالوا: يا رسول أنت خير الناس وأبر الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. وكان سبي يومئذٍ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإِبل والغنم ما لا يحصى، فقال عليه السلام: ان خير القول أصدقه، اختاروا اما ذراريكم وإما أموالكم. فقالوا: ما نعدل بالاحساب شيئاً "وتمام الحديث أنهم أخذوا نساءهم وذراريهم إلا امرأة وقع عليها صفوان بن أمية فحبلت منه فلم يردها.
والضمير في لا ينفقونها عائد على المكنوزات الدال عليها الذهب والفضة.﴿ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا ﴾ الآية، يوم منصوب بقوله: اليم. والضمير في عليها عائد على المكنوزات يوقد عليها في نار جهنم إذ يجوز أن يخلق الله تلك المكنوزات فيحمى عليها.﴿ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ﴾ وخصصت هذه المواضع بالكيّ لأنه في الجبهة أشنع وفي الجنب والظهر أوجع، ولأنها مجوفة فتصل إلى أجوافهم النار بخلاف اليد والرجل.﴿ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ ﴾ هو على إضمار قول تقديره فيقال لهم: هذا إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: فتكوى، أي هذا الكي جزاء ما كنزتم.﴿ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ ﴾ الآية، كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها فكانت إذا توالت عليهم الأربعة الحرم صعب عليهم وأملقوا وكان بنو فُقَيم من كنانة أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم فنسأ الشهور للعرب ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ثم ابنه قلع، ثم ابنه أمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه جنادة بن عوف وعليه قام الإِسلام، وكانت العرب إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا: أنسئنا شهراً، أي أخّر عنّا حرمة الشهر المحرّم فاجعلها في صفر فيحل المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة الحرم ويسمون ذلك صفر المحرم، ويسمون ربيعاً الأول صفر، أو ربيعاً الآخر ربيعاً الأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون نسيئهم في المحرم ويسمون الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم. وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا. قال مجاهد: ثم كانوا يحجون من كل عام شهرين ولاءً، وبعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاءً، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذي القعدة حقيقة وهم يسمونه ذا الحجة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة فلذلك قوله:" ان الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان "ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنواعاً من قبائح أهل الشرك وأهل الكتاب، ذكر أيضاً نوعاً منه وهو تغيير العرب احكام الله تعالى لأنه حكم في وقت بحكم خاص، فإِذا غيروا ذلك الوقت فقد غيروا حكم الله تعالى والشهور جمع كثرة. وأعاد الضمير عليها كإِعادته على الواحدة المؤنثة فقال: منها، أي من تلك الشهور، ولما كانت الأربعة الحرم للقلة عاد الضمير عليها بالنون في قوله: فيهن. تقول العرب: الجذوع انكسرت لأنه جمع كثرة. والأجذاع انكسْرنَ، لأنه جمع قلة. وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو المفعول، ومعناه جميعاً. ولا يثنى ولا يجمع ولا تدخله ألْ ولا يتصرف فيها بغير الحال وتقدم بسط الكلام فيها عند قوله تعالى:﴿ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً ﴾[البقرة: ٢٠٨] فأغنى عن إعادته والمعيّة بالنصر والتأييد، وفي ضمّنه الأمر بالتقوى والحث عليها.
والقول الأول قاله سفيان بن عيينة والحسن ومجاهد وابن زيد قالوا: معناه جواسيس يستمعون الاخبار وينقلونها إليهم. ورجحة الطبري. والقول الثاني قول الجمهور قالوا: معناه وفيكم مطيعون سماعون.﴿ لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ ﴾ الآية، تقدم ذكر السبب في نزول هذه الآية والتي قبلها من قصة رجوع عبد الله بن أبيّ بأصحابه في هذه الغزاة حقر شأنهم في هذه الآية، وأخبر أنهم قد يماسعوا على الإِسلام فأبطل الله سعيهم. قال ابن عباس: بَغَوْالك الغوائل. وقال ابن جريج: وقف اثنا عشر رجلاً من المنافقين على الثنية ليلة العقبة كي يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى من قبل، أي من قبل هذه الغزوة، وذلك ما كان من حالهم وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعهم عنه في أُحد وغيرها، وتقليب الأمور هو تدبيرها ظهر البطن والنظر في نواحيها وأقسامها والسعي بكل حيلة.﴿ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ ﴾ أي القرآن وشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظة جاء مشعرة بأنه كان قد ذهب.﴿ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾ وصفه بالظهور لأنه كان كالمستور، أي غلب وعلا دين الله تعالى.﴿ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ أي لمجيء الحق وظهور دين الله.﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي ﴾ الآية،" نزلت في الجد بن قيس ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرّض الناس فقال للجد بن قيس المنافق: هل لك العام في جلاد بني الأصفر. وقال له وللناس: اغزوا تغنموا بنات الأصفر. فقال الجد: إئذن لي في التخلف ولا تفتني بذكر بنات الأصفر فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهن "ومعنى ولا تفتني بالنساء هذا قول ابن عباس، والفتنة التي سقطوا فيها هي فتنة التخلف وظهور كفرهم ونفاقهم. ولفظة سقطوا تنبىء عن تمكن وقوعهم فيها.
ومعنى يفرقون: يخافون القتل، وما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإِسلام تقية وهم يبطنون النفاق.﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً ﴾ لما ذكر تعالى فرق المنافقين من المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق وهو أنهم لو أمكنهم الهرب منهم لهربوا ولكن صحبتهم لهم صحبة اضطرار لا اختيار، والملجأ: الحرز. والمغارات جمع مغارة وهي الغار تجمع على غير أن يبنى من غار يغور إذا دخل بدأ أولاً بالأَعم وهو الملجأ إذ يطلق على كل ما يلجأ إليه الإِنسان، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيران في الجبال، ثم أتى ثالثاً بالمداخل وهو النفقُ باطن الأرض. و ﴿ لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ ﴾ أي إلى واحد من الثلاث.﴿ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾ أي يسرعون إسراعاً لا يردهم شىء.﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ ﴾ اللامز هو حرقوص بن زهير التميمي وهو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال: اعدلّ يا رسول الله. الحديث. وقيل: غيره. والمعنى من يعيبك في قسم الصدقات. والضمير في ﴿ وَمِنْهُمْ ﴾ للمنافقين. والكاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الترديد بين الشرطين يدل على دناءة طباعهم ونجاسة أخلاقهم وان لمزهم الرسول عليه السلام إنما هو لشرههم في تحصيل الدنيا ومحبة المال، وان رضاهم وسخطهم إنما متعلقة العطاء. والظاهر حصول مطلق الاعطاء أو نفيه، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين لأن الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يتعقبه بل قد يجوز أن يتأخر نحو: ان اسلمت دخلت الجنة، فإِنما يقتضي مطلق الترتيب، وأما جواب الشرط الثاني فجاء بإِذا الفجائية وانه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم. ولم يمكن تأخره لما جلبوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها. ومفعول رضوا محذوف، أي رضوا ما أعطوه، وليس المعنى رضوا عن الرسول لأنهم منافقون، ولأن رضاهم وسخطهم لم يكن لأجل الدين بل لأجل الدنيا. وجاءت إذا الفجائية رابطة لجواب الجزاء بجملة الشرط ولا نحفظه جاءت إذا جواباً للشرط إلا وحرف الشرط انْ، وكذلك في قوله:﴿ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴾[الروم: ٣٦]، وسائر أدوات الشرط كانت أسماء كَمَنْ وَمَا ومَهْما. أو ظرف زمان كمتى وأيان، أو مكان كحيثُمَا، لا نعلمه جاء جواب شىء منها بإِذا الفجائية على كثرة مطالعتي لدواوين العرب.﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ ﴾ الآية، هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم، أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا: كفانا فضل الله ورسوله. وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم. وكانت رغبتهم إلى الله تعالى لا إلى غيره. وجواب لو محذوف تقديره لكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم.
والظاهر أن يحذر خبر ويدل عليه:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾ فقيل: هو واقع منهم حقيقة لما شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما يكتمونه وقع الحذر والخوف في قلوبهم.﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ﴾ أي ولئن سألتهم عما قالوا من القبيح في حقك وحق أصحابك من قول بعضهم: أنظروا إلى هذا الرجل، يريد أن تفتح له قصور الشام. وقول بعضهم: كأنكم بهم غداً في الجبال أسْرى لبني الأصفر. وقول بعضهم: ما رأيت كهؤلاء أرغب بطوناً ولا أكثر كذباً ولا أجْبن عند اللقاء. فأطلع الله نبيّه على ذلك فعنّفهم، فقالوا: يا نبي الله ما كنا في شىء من أمرك ولا أمر أصحابك إنما كنا في شىء مما يخوض فيه الركب كنا في غير جد. فنزلت.﴿ قُلْ أَبِٱللَّهِ ﴾ الآية، تقرير على استهزائهم وضمنه الوعيد ولم يعْبأْ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم وبأنه موجود منهم حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء حيث جعل المستهزأ به على حرف التقرير وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته وهو حسن، وتقديم وبالله وهو معمول خبر كان عليها يدل على جواز تقديمه عليها. وعن ابن عمر قال:" رأيت قائل هذه المقالة يعني إنما كنا نخوض ونلعب، واسمه وديعة بن ثابت متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ".﴿ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ نهوا عن الاعتذارات لأنها اعتذارات كاذبة فهي لا تنفع. قد كفرتم: أظهرتم الكفر. بعد إيمانكم، أي بعد إظهار إيمانكم، لأنهم كانوا يسرون الكفر فأظهروه باستهزائهم وجاء التقسيم بالعفو عن طائفة والتعذيب لطائفة، وكان المنافقون صنفين: صنف أمر بجهادهم، جاهد الكفار والمنافقين وهم رؤساؤهم المعلنون بالأراجيف فعذبوا بإِخراجهم من المسجد وانكشاف معظم أحوالهم، وصنف ضعفة مظهرون الإِيمان وان أبطنوا الكفر لم يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفى عنهم، وهذا العذاب والعفو في الدنيا. وقيل: العفو عمّن علم الله أنهم سيخلصون من النفاق ويخلصون الإِيمان. والمعذبون من مات منهم على نفاقه. وقرىء: ان تعف مبنياً للمفعول التقدير ان تعف هذه الذنوب.
وكقوله: ﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.
ولم يأت التركيب أنه كان ولا انهم هم.﴿ وَخُضْتُمْ ﴾ أي دخلتم في اللهو والباطل، وهو مستعار من الخوض في الماء. ولا يستعمل إلا في الباطل لأن التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض. ومنه قوله عليه السلام:" رُبّ متخوض في مال الله له النار يوم القيامة ".﴿ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ ﴾ أي كالخوض الذي خاضوا، قاله الفراء. وقيل: كالفوج الذي خاضوا. وقيل: النون محذوفة، أي كالذين خاضوا أي كخوض الذين خاضوا. وقيل: الذي مع ما بعدها ينسبك مصدراً أي كخوضهم. والظاهر أن أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والأولاد، والمعنى وأنتم كذلك تحبط أعمالكم.﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وتكذيب الأنبياء. وكان لفظ: الذين من قبلهم، فيه إبهام نص على طوائف بأعيانها ستة لأنه كان عندهم شىء من أنبائهم وكانت بلادهم قريبة من بلاد العرب، وكانوا أكثر الأمم عدداً وأنبياؤهم أعظم الأنبياء، نوح أول الرسل وإبراهيم الأقرب للعرب، وما بينهما من الأمم مقاربون لهم في الشدة وكثرة المال والولد، وقوم نوح أهلكوا بالغرق، وعاد بالريح، وثمود بالصيحة، وقوم إبراهيم بسلب النعمة عنهم، حتى سلطت البعوضة على نمرود مَلِكهم، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظلمة، والمؤتفكات بجعل أعالي أرضها أسافل وإمطار الحجارة عليهم.﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ ﴾ لما ذكر تعالى المنافقين والمنافقات وما هم عليه من الأوصاف القبيحة والأعمال الفاسدة، ذكر المؤمنين والمؤمنات وقال في أولئك بعضهم من بعض، وفي هؤلاء بعضهم أولياء بعض، إذ لا ولاية بين المنافقين ولا شفاعة لهم، ولا يدعو بعضهم لبعض، فكان المراد هنا الولاية لله خاصة.﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾ الآية، لما أعقب المنافقين بذكر ما أوعدهم به من نار جهنم أعقب المؤمنين بذكر ما وعدهم به من نعيم الجنات ولما كان قوله: أولئك سيرحمهم الله وعداً جمالياً فصله هنا تنبيهاً على أن تلك الرحمة هي هذه الأشياء.
وقالوا هم لا تنفروا في الحر، فعلل بالمسبب وهو الرضا الناشىء عن السبب وهو النفاق وأول مرة هو الخرجة إلى غزوة تبوك ومرة مصدر، كأنه قيل: أول خرجة دعيتم إليها، لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول عليه السلام للغزاة فلا بد من تقييدها، إذ الأولية تقتضي السبق. وقيل: التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزو الروم بنفسه. وقيل: أول مرة قبل الاستئذان.
﴿ وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ ﴾ الآية، وقرىء بالتشديد والتخفيف. والظاهر أن هؤلاء الجائين كانوا مؤمنين، كما قال ابن عباس، لأن التقسيم يقتضي ذلك ألا ترى إلى قوله: ﴿ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية، فلو كان الجميع كفاراً لم يكن لوصف الذين قعدوا بالكذب اختصاص، وكان يكون سيصيبهم عذاب أليم. والمعذورون: هم أسد وغطفان. وقيل غير ذلك.﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى حال من تخلف عن الجهاد مع القدرة عليه ذكر حال من له عذر في تركه. والضعفاء: جمع ضعيف وهو الهرم، ومن خلق في أصل البنية شديد النحافة والضؤولة بحيث لا يمكنه الجهاد. والمريض: من عرض له المرض، أو كان زمناً ويدخل فيه العُمْيُ والعرج. و ﴿ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ ﴾ هم الفقراء. قيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة. ونفى الحرج عنهم في التخلف عن الغزو، ونفي الحرج لا يتضمن المنع من الخروج إلى الغزو فلو خرج أحد هؤلاء ليعين المجاهدين بما يقدر عليه من حفظ متاعهم أو تكثير سوادهم ولا يكون كلاً عليهم كان له في ذلك ثواب جزيل" فقد كان عمرو بن الجموح أعرج وهو من أتقياء الأنصار وهو في أول الجيش، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان الله عذرك. فقال: والله لأحْقِرَنّ بعرْجتي هذه في الجنة "وكان ابن أم مكتوم أعمى فخر إلى أحد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى فضربت فأمسكه بصدره وقرأ: وما محمد إلا رسول، الآية. وشرط سبحانه وتعالى في انتفاء الحرج النصح لله ورسوله وهي أن تكون نياتهم وأقوالهم سراً وجهراً خالصة لله تعالى من الغش ساعية في إيصال الخيرات للمؤمنين داعية لهم بالنصر والتمكين. ففي سنن أبي داود:" لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم سيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلاّ وهم معكم فيه. قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر "وقرأ أبو حيوة: إذا نصحوا الله ورسوله، بنصب الجلالة والمعطوف.﴿ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ﴾ أي من لائمة تناط بهم أو عقوبة. ولفظ المحسنين عام في كل من أحسن.﴿ لِتَحْمِلَهُمْ ﴾ أي على ظهر يركب ويحمل عليه آيات المجاهد. وإذا: تقتضي جواباً. والأولى أن يكون ما يقرب منها وهو. قلت: ويكون قوله: قولوا، جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: فما حالهم إذا أجَابَهم الرسول؟ قيل: تولوا وأعينهم تفيض من الدمع. قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن يكون قوله قلت: لا أجد استئنافاً مثله يعني مثل رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا. فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ قلت: لا أجد ما أحملكم عليه، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض. قلت: نعم ويحسُن. " انتهى ". ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب فكيف في كلام الله تعالى وهو فهم أعجمي. وتقدم الكلام على نحو:﴿ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ ﴾[الآية: ٨٣] في المائدة. وقال الزمخشري: هنا وأعينهم تفيض من الدمع كقولك: تفيض دمعاً، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأن العين جعلت كأنّ كلها دمع فائض. ومن: للبيان، كقولك: أفديك من رجل. ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز. " انتهى ". ولا يجوز ذلك لأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن، وأيضاً فإِنه معرفة ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة، وانتصب حزناً على المفعول له، والعامل فيه تفيض. وقال أبو البقاء: أو مصدر في موضع الحال. و ﴿ أَلاَّ يَجِدُواْ ﴾ مفعول له أيضاً، والناصب له حزناً. وقال أيضاً: ويجوز أن يتعلق بتفيض. ولا يجوز ذلك على إعرابه حزناً مفعولاً له، والعامل فيه تفيض لأن العامل لا يقتضي اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل. وقوله: ألا يجدوا ما ينفعون فيه، دلالة على أنهم مندرجون تحت قوله: ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج. وتقدم نفيان: نفي الجرح عمن ذكر. والثاني: نفي السبيل، بمعنى اللائمة، والعتب على المحسنين. فيكون قوله: ولا على الذين، معطوف على المحسنين عطف الخاص على العام ويحسن هذا قوله:﴿ إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ ﴾ الآية، أثبت في حق المنافقين ما نفاه في حق المحسنين فدل لأجل المقابلة بأن هؤلاء مسيئون، وأي إساءة أعظم من النفاق، والتخلف عن الجهاد، والرغبة بأنفسهم عن رسول الله.﴿ رَضُواْ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ ﴾ الآية، لن نؤمن لكم، علة للنهي عن الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به فإِذا علم أنه مكذب في اعتذاره كف عنه.﴿ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾ علة لانتفاء التصديق لأنه تعالى إذا أخبر الرسول والمؤمنين بما انطوت عليه سرائرهم من الشر والفساد لم يكن تصديقهم في معاذريهم.﴿ سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ ﴾ الآية، لما ذكر أنه يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف، وان سبب الحلف هو طلبهم أن تعرضوا عنهم فلا تلوموهم ولا توبخوهم. فأعرضوا عنهم، أي فأجيبوهم إلى طلبتهم وعلّل الاعراض عنهم بأنهم رجس، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق فتجب مباعدتهم واجتنابهم، كما قال:﴿ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ ﴾[المائدة: ٩٠].
﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ﴾ الآية، قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبيّ حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها، وحلف ابن أبيّ سرح ليكونن معه على عدوّه وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فنزلت. وهنا حذف المحلوف به. وفي قوله: سيحلفون بالله، أثبت كقوله تعالى:﴿ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا ﴾[القلم: ١٧].
وقوله: واقسموا بالله، فلا فرق بين إثباته وحذفه في انعقاد ذلك يميناً. وغرضهم في الحلف رضي الرسول عليه السلام والمؤمنين عنهم لنفعهم في دنياهم لا أنّ مقصدهم وجه الله والبر، إذ هي إيمان كاذبة وأعذار مختلقة لا حقيقة لها. وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإِعراض جاء الأمر بالإعراض نصاً لأن الإِعراض من الأمور التي تظهر للناس، وها ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية لأن الرضى من الأمور القلبية التي تخفى. وخرج مخرج المتردد فيه وجعل جوابه انتفاء رضى الله عنهم فصار رضى المؤمنين عنهم أبعد شىء في الوقوع، لأنه معلوم منهم لأنهم لا يرضون عمن لا يرضى الله عنهم. ونص على الوصف الموجب لانتفاء الرضى وهو الفسق. وجاء اللفظ عاماً فيحتمل أن يراد به الخصوص كأنه قيل: فإِن الله لا يرضى عنهم، ويحتمل بقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السبب من العموم بتخصيص ولا غيره.
﴿ وَأَجْدَرُ ﴾ أحق ألا يعلموا، أي بأن لا يعلموا. والحدود هنا الفرائض.﴿ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً ﴾ الآية، نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم وكانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات مغرماً والمغرم الغرم والخسر.﴿ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ الآية. نزلت في بني مُقَرّن من مُزَينة، قاله مجاهد. ولما ذكر تعالى من يتخذ ما ينفق مغرماً ذكر مقابله وهو من يتخذ ما ينفق مغنماً. وذكر هنا الأصل الذي يترتب عليه إنفاق المال في القربات وهو الإِيمان بالله واليوم الآخر إذ جزاء ما ينفق إنما يظهر ثوابه الدائم في الآخرة. وفي قصة أولئك اكتفى بذكر نتيجة الكفر وعدم الإِيمان وهو اتخاذه ما ينفق مغرماً، وتربصه بالمؤمنين الدوائر والأجود تعميم القربات من جهاد وصدقة. والمعنى يتخذه سبب وصل عند الله وأدعية الرسول وكان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله صلى الله عليه وسلم:" اللهم صل على آل أبي أوْفَى "وقال تعالى:﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾[التوبة: ١٠٣].
والظاهر عطف وصلوات على قربات. والسابقون: مبتدأ، ورضي الله عنهم: الخبر.
وقوله: لأسغفرنَّ لك. والضمير الفاعل في وعدها عائد على إبراهيم وكان أبوه بقيد الحياة فكان يرجو إيمانه، فلما تبين له من جهة الوحي من الله أنه عدو لله وأنه يموت كافراً، وانقطع رجاؤه منه تبرأ منه، وقطع عنه استغفاره. ويدل على أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم قراءة الحسن وابن السميقع وأبي نهيك ومعاذ القارىء وحماد الراوية وعدها إياه. وقيل: الفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم وعده أبوه أنه سيؤمن وكان إبراهيم عليه السلام قد قوي طمعُهُ في إيمانه فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه.﴿ لأَوَّاهٌ ﴾ الأواه الخاشع المتضرع. وقيل غير ذلك. قال الزمخشري: أواه فعال من أَوَهَ، كلأل من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورأفته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر إلى آخره. وتشبيهه أواه من أوه بلأل من اللؤلؤ ليس بجيد، لأن مادة أَوَهَ موجودة في صورة أواه، ومادة لؤلؤ مفقودة في لأل لاختلاف التركيب، إذ لأل ثلاثي ولؤلؤ رباعي وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية.
﴿ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ ﴾ [يونس: ٦١، سبأ: ٣]، وإذا كتب أجراً لصغيرة فأحرى أجر الكبيرة. ومفعول كتب فضمير يعود على المصدر المفهوم من ينفقون ويقطعون، كأنه قيل: كتب لهم هو أي الانفاق والقطع، وتأخرت هاتان الجملتان وقدمت تلك الجملة السابقة لأنها أشق على النفس وأنكى للعدم، وهاتان أهون لأنهما في الأموال وقطع الأرض إلى العدو وسواء حصل غيظ للكفار والنيل من العدو أم لا يحصلا، فهذا أعم وتلك أخص. وكان تعليل تلك آكد إذ جاء بالجملة الإِسمية المؤكدة بأن، وذكر فيه الأجر. ولفظ المحسنين تنبيهاً على أنهم حازوا رتبة الإِحسان التي هي أعلى رتب المؤمنين وفي هاتين الجملتين أتى بلام العلة وهي متعلقة بكتب والتقدير أحسن جزاء الذي كانوا يعملون لأن عملهم له جزاء حسن وله جزاء أحسن وهنا الجزاء أحسن جزاء.﴿ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾ الآية، لما سمعوا قوله: ما كان لأهل المدينة إلى آخره أهمّهم ذلك فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت.﴿ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ أي ليجعلوا غرضهم في النفقة إنذار قومهم وإرشادهم إلى الخير والنصيحة لهم.﴿ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملاً صالحاً.
﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ ﴾ الآية لما ابتدأ السورة سبحانه ببراءة الله ورسوله من المشركين وقص فيها احوال المنافقين شيئاً فشيئاً خاطب العرب على سبيل تعداد النعم والمن عليهم بكونهم جاءهم رسول من جنسهم عربياً قرشياً يبلغهم عن الله متصفٌ بالاوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب ويحرص على هداهم ويرأف بهم ويرحمهم صلى الله عليه وسلم.