تفسير سورة التوبة

الصحيح المسبور
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور المعروف بـالصحيح المسبور .
لمؤلفه حكمت بشير ياسين .
قوله تعالى (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الكفار المعاهدين وأنه بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) لا عهد لكافر. وفي هذا اختلاف كثير بين العلماء، والذي يبينه القرآن، ويشهد له من تلك الأقوال، هو أن محل ذلك إنما هو في أصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة بوقت معين، أو من كانت مدة عهده الموقت أقل من أربعة أشهر فتكمل له أربعة أشهر، أما أصحاب العهود الموقتة الباقي من مدتها أكثر من أربعة أشهر، فإنه يجب لهم إتمام مدتهم، ودليله المبين له من القرآن؛ هو قوله تعالى (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) وهو اختيار ابن جرير.
قوله تعالى (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم هو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم)
قال الترمذي: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عبّاد ابن العوام، حدثنا سفيان بن حسين، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر وأمره أن يُنادي بهؤلاء الكلمات، ثم أتبعه علياً. فبينا أبو بكر في بعض الطريق إذْ سمع رُغاء ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القصواء، فخرج أبو بكر فزعاً فظن أنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو عليٌّ، فدفع إليه كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر علياً أن ينادي بهؤلاء الكلمات فانطلقا فحجَّا، فقام عليٌّ أيام التشريق، فنادى: ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجّن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن، وكان عليّ ينادي، فإذا عَيِى قام أبو بكر فنادى بها.
قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن عباس. (السنن ٥/٢٧٤-٢٧٦ ح ٣٠٨٩، ٣٠٩١ - ك التفسير، ب سورة التوبة)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي. وأخرجه بنحوه النسائي (٥/٢٤٧ - ك الحج، ب الخطبة قبل يوم التروية)، والدارمي (٢/٦٦-٦٧ - ك المناسك، ب في خطبة الموسم) من طرق عن جابر به، وله شاهد صحيح من حديث علي أخرجه الضياء من طريق زيد بن يثيع عن علي نحوه (المختاره ٢/٨٤ ح ٤٦١). وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك ٣/٥١، ٥٢).
قال البخاري: حدثنا سعيد بن غُفير قال: حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب وأخبرني حُميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: بعثني أبو بكر في تلك الحَجّة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعليّ بن أبي طالب وأمره أن يوذن ببراءة. قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ يوم النحر في أهل منى ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان.
(الصحيح ٨/١٦٨ ح ٤٦٥٥ -ك التفسير- سورة التوبة، ب الآية).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) قال: حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر، يسيحون فيها حيثما شاؤوا، وحد أجل من ليس له عهد، انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم، فذلك خمسون ليلة. فإذا انسلخ الأشهر الحرم، أمره بأن يضع السيف فيمن عاهد.
قال ابن ماجة: حدثنا هشام بن عمار، ثنا صدقة بن خالد، ثنا هشام ابن الغاز قال: سمعت نافعا يُحدّث عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حجّ فيها فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيّ يوم هذا؟ ". قالوا: يوم النحر. قال: "فأيّ بلد هذا؟ ". قالوا: هذا بلد الله الحرام. قال: "فأي شهْر هذا؟ ". قالوا: شهْر الله الحرام. قال: "هذا يوم الحج الأكبر. ودماؤكم
428
وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحُرمة هذا البلد، في هذا الشهر، في هذا اليوم". ثم قال: "هل بلغتُ؟ ". قالوا: نعم. فطفق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اللهم اشهد". ثم ودّع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع.
(السنن ٢/١٠١٦ ح ٣٠٥٨ - المناسك، ب الخطبة يوم النحر). علقه البخاري بصيغه الجزم مختصراً، وأخرجه أبو داود من طريق هشام بن الغاز به مختصراً (الصحيح ٣/٥٧٤ فتح - الحج، ب الخطبة أيام منى)، (السنن ٢/١٩٥ -المناسك- باب يوم الحج الأكبر). وقال الألباني: صحيح (صحيح ابن ماجه ٢/١٨٢). ذكره ابن كثير (٤/٥٢). وأخرجه الحاكم في (المستدرك ٢/٣٣١) من طريق الوليد بن مسلم، عن هشام بن الغاز به، قال: حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي).
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد يقوي بعضها بعضا عن عبد الله بن أبي أوفي وابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن عمر ومجاهد وعكرمة والنخعي والشعبي أن الحج الأكبر هو: يوم النحر.
قوله تعالى (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يُظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين)
قال الشيخ الشنقيطى: يفهم من مفهوم هذه الآية: أن المشركين إذا نقضوا العهد جاز قتالهم، ونظير ذلك أيضا، قوله تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) وهذا المفهوم في الآيتين صرح به جل وعلا في قوله (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون).
قال البخاري: حدثنا قيس بن حفص، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الحسن، حدثنا مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قتل نفسا معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً".
(الصحيح ح ٦٩١٤ - ك الديات، في إثم من قتل ذميا بغير جرم).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) يقول: إلى أجلهم.
429
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحداً) الآية، قال: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر. فأمر الله نبيه أن يوفي لهم بعهدهم إلى مدتهم، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم، ونبذ إلى كل ذى عهد عهده، وأمره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن لا يقبل منهم إلا ذلك.
انظر تفسير الآية (٢) من سورة البقرة في بيان المتقين.
قوله تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، قال: حدثنا أبو روح الحرمي بن عمارة قال: حدثنا شعبة، عن واقد بن محمد قال: سمعت أبي يحدث عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله".
(الصحيح ١/٩٥ ح ٢٥ - ك الأيمان، ب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)، وأخرجه مسلم في (الصحيح ١/٥٣ ح ٢٢ - الإيمان، ب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) حتى آخر الآية. وكان قتادة يقول: خلوا سبيل من أمركم الله أن تخلوا سبيله، فإنما الناس ثلاثة رهط مسلم عليه الزكاة، ومشرك عليه الجزية، وصاحب حرب يأمن بتجارته في المسلمين إذا أعطى عشور ماله.
قال ابن كثير: وقوله (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) أي: من الأرض وهذا عام، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم)
البقرة آية (١٩١).
وانظر سورة البقرة آية (١٩٦) لبيان معنى الحصر.
قوله تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجِره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (فأجِره حتى يسمع كلام الله) أما (كلام الله) فالقرآن.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) قال: إنسان يأتيك فيسمع ما تقول، ويسمع ما أنزل عليك، فهو آمن حتى يأتيك فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه، حيث جاءه.
قوله تعالى (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) يعني: أهل مكة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة) يقول: قرابة ولا عهداً. وقوله: (وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة)، قال (الإل) يعني: القرابة، و (الذمة) العهد.
قوله تعالى (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلا) قال أبو سفيان بن حرب: أطعم حلفاءه، وترك حلفاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون)
انظر آية (٨) من السورة نفسها.
قوله تعالى (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون)
أخرج البخاري بسنده مرفوعاً: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله... ".
قال ابن ماجة: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، ثنا أبو أحمد، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راض". قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء. وتصديق ذلك في كتاب الله، في آخر ما نزل يقول الله (فإن تابوا) قال: خلع الأوثان وعبدتها (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة). وقال في آية أخرى (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين).
(السنن ١/٢٧ ح ٧٠ - المقدمة، ب في الإيمان)، صححه الحاكم، فإنه أخرجه في (المستدرك ٢/٣٣١-٣٣٢ - ك التفسير)، من طريق إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي جعفر الرازي به.
وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي على تصحيحه. وكذا صححه الضياء المقدسي، فإنه أخرجه في (الأحاديث الصحاح المختارة ٦/١٢٦-١٢٧ ح ٢١٢٢-٢١٢٣) من طرق عن أبي جعفر الرازي به وحسنه محققه، وانظر المقدمة).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) يقول: إن تركوا اللات والعزى، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله (فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون).
قوله تعالى (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وإن نكثوا أيمانهم) إلى (ينتهون) هؤلاء قريش. يقول: إن نكثوا عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام وطعنوا فيه، فقاتلهم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة قال: ذكروا عنده هذه الآية (فقاتلوا أئمة الكفر) قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.
(أخرجه الطبري في تفسيره (١٤/١٥٥-١٥٦ ح ١٦٥٢٧ و١٦٥٢٨) من طريق الأعمش به، ورجاله ثقات. وأخرجه بنحوه الحاكم في المستدرك (٢/٣٣٢) من طريق صلة بن زفر عن حذيفة، ثم قال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين". وأقره الذهبي، وقد أخرجه بسياق آخر البخاري في (الصحيح ٤٦٥٨ -ك التفسير- تفسير سورة التوبة، ب (فقاتلوا أئمة الكفر)) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن زيد بن وهب، ولفظه:
"قال: كنا عند حذيفة فقال: ما بقى من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة، ولا من المنافقين إلا أربعة، فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبروننا فلا ندري، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلافنا؟ قال: أولئك الفساق. أجل، لم يبق منهم إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده". قال الحافظ: "والمراد بكونهم لم يقاتلوا أن قتالهم لم يقع لعدم وقوع الشرط، لأن لفظ الآية (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا) فلما لم يقع منهم نكث ولا طعن لم يقاتلوا").
(فتح الباري ٨/٣٢٣).
أخرج عبد الرزاق بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (فقاتلوا أئمة الكفر)، أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وسيل بن عمرو، وهم الذين نكثوا عهد الله وهموا بإخراج الرسول. وليس والله كما تأوله أهل الشبهات والبدع والفرى على الله وعلى كتابه.
قوله تعالى (ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن كفار مكة هموا بإخراجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة، وصرح في مواضع أخر بأنهم أخرجوه بالفعل، كقوله (يخرجون الرسول وإياكم) الآية. وقوله (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التى أخرجتك). وقوله (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا) الآية. وذكر في مواضع أخر محاولتهم لإخراجه قبل أن يخرجوه كقوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) وقوله: (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها) الآية.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وهم بدأوكم أول مرة) قال: قتال قريش حلفاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد: (ويشف صدور قوم مؤمنين) خزاعة، حلفاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ويذهب غيظ قلوبهم) حين قتلهم بنو بكر، وأعانتهم عليهم قريش.
قوله تعالى (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ولا المؤمنين وليجة) يتولجها، من الولاية للمشركين.
قوله تعالى (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) يقول: ما ينبغى لهم أن يعمروها. وأما (شاهدين على أنفسهم بالكفر) فإن النصراني يسأل: ما أنت؟ فيقول: نصراني. واليهودى فيقول: يهودي. والصابئ فيقول: صابئ، والمشرك يقول إذا سألته: ما دينك؟ فيقول: مشرك. لم يكن ليقوله أحد إلا العرب.
قوله تعالى (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين)
قال البخاري: حدثنا يحيى بن سليمان، حدثني ابن وهب، أخبرني عمرو، أن بكيراً حدثه، أن عاصم بن عمر بن قتادة حدثه، أنه سمع عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان بن عفان يقول - عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنكم أكثرتم، وإني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من بنى مسجداً -قال بكير: حَسِبتُ أنه قال- يبتغي به وجه الله، بنى الله له مِثله في الجنة".
(الصحيح ١/٦٤٨ ح ٤٥٠ - ك الصلاة، ب من بنى مسجداً)، أخرجه مسلم (الصحيح ١/٣٧٨ ح ٥٣٣ - ك المساجد ومواضع الصلاة، ب فضل بناء المساجد والحث عليها).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إنما يعمر مساجد الله من أمن بالله واليوم الآخر) يقول: من وحد الله، وأمن باليوم الآخر. يقول: أقر بما أنزل الله (وأقام الصلاة) يعني: الصلوات الخمس (ولم يخش إلا الله) يقول: ثم لم يعبد إلا الله قال (فعسى أولئك)
يقول: إن أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه (عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً) سورة الاسراء: ٧٩. يقول: إن ربك سيبعثك مقاما محموداً، وهي الشفاعة، وكل (عسى) في القرآن فهي واجبة.
قوله تعالى (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين)
قال مسلم: حدثني حسن بن علي الحلواني، حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية بن سلاّم، عن زيد بن سلام، أنه سمع أبا سلام قال: حدثني النعمان بن بشير قال: كنتُ عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج. وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهو يوم الجمعة.
ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلتُ فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر) الآية إلى أخرها.
(الصحيح ١٣/١٤٩٩ ح ١٨٧٩ - ك الإمارة، ب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى).
قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا خالد، عن خالد الحذّاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل، اذهب إلى أمك فأت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشراب من عندها. فقال: اسقني. قال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه. قال: اسقنِي.
فشرب منه. ثم أتى زمزم وهم يَسقون ويعملون فيها فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح. ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل علي هذه. يعني عاتقه. وأشار إلى عاتقه".
(الصحيح ٣/٥٧٤ ح ١٦٣٥ - ك الحج، ب سقاية الحاج).
قوله تعالى (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون)
انظر سورة البقرة آية (٢١٨)، وسورة الأنفال آية (٧٤).
قوله تعالى (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم)
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من يدخل الجنة ينعم لا يبأسى لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه".
(الصحيح ٤/٢١٨١-٢١٨٢ ح ٢٨٣٦ - ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ب في دوام نعيم أهل الجنة... ).
قال الطبري: حدثنا ابن بشار قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله سبحانه: أعطيكم أفضل من هذا. فيقولون: ربنا، أي شيء أفضل من هذا؟ قال، رضواني.
ورجاله ثقات وسنده صحيح.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخدوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان) الآية. نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن موالاة الكفار، ولو كانوا أقرباء، وصرح في موضع آخر بأن الاتصاف بوصف الإيمان مانع من موادة الكفار ولو كانوا أقرباء وهو قوله: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) الآية.
قوله تعالى (قل إن كان آباؤكم وآبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فوالذي نفسي بيده لا يُؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده".
(الصحيح ١/٧٤-٧٥ ح ١٤ - ك الأيمان، ب حب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني حيوة ابن شريح. ح وثنا جعفر بن مسافر التنيسي: ثنا عبد الله بن يحيى البرلسي، ثنا حيوة بن شريح، عن إسحاق أبي عبد الرحمن، قال سليمان: عن أبي عبد الرحمن الخراساني، أن عطاء الخراساني حدثه، إن نافعاً حدثه، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليِكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".
قال أبو داود: الإخبار لجعفر، وهذا لفظه. (السنن ٣/٢٧٤ ح ٣٤٦٢ - ك البيوع، ب في النهي عن العينة)، وأخرجه أحمد (المسند ح ٤٨٢٥) من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر نحوه. قال محقق المسند: إسناده صحيح وقال الألباني: صحيح بمجموع طرقه. (صحيح الجامع ح ١٦ والسلسلة الصحيحة ح ١١)
وذكر فيها ممن قوى الحديث كابن القطان وابن تيمية وابن القيم وابن كثير والشوكاني.
قال ابن كثير: أمر تعالى بمباينة الكفار به، وإن كانوا آباء أو أبناء، ونهى عن موالاتهم إذا (استحبوا) أي: اختاروا الكفر على الإيمان، وتوعد على ذلك كما قال تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) الآية، سورة المجادلة آية: ٢٢.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (حتى يأتي الله بأمره) بالفتح.
قوله تعالى (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذاب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين)
قال مسلم: وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال: قال عبّاس: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد الطلب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم نفارقه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بغلة له، بيضاء، أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار، ولي المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يركض بغلته قِبل الكفار.
قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكُفّها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيْ عبّاس ناد أصحاب السَّمُرة". فقال عباس (وكان رجلا صيِّتا) : فقلتُ بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطْفتهم، حين سمعوا صوتي، عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك! يا لبّيك! قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار. قال: ثم قُصِرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على بغلته، كالمتطاول عليها، إلى قتالهم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا حين حَمِيَ الوطيسَ". قال: ثم أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حصيات فرمى بهن وجوه الكفار. ثم قال: "انهزموا وربّ محمد".
قال: فذهبت أنظر، فإذا القتال علي هيئته فيما أرى. قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته. فما زلت أرى حدّهم كليلا وأمرهم مدبراً.
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة، عن أبي إسحاق قال: قال رجل للبراء: يا أبا عمارة أفررتم يوم حنين؟ قال: لا. والله ما ولّى رسول
439
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفْاؤهم حُسّرا ليس عليهم سلاح، أو كثير سلاح، فلقوا قوما رُماة لا يكاد يسقط لهم سهم؛ جمع هوازن وبني نصر، فرشقوهم رشقا ما يكادون يُخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطب يقود به فنزل فاستنصر.
وقال: "أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب".
ثم صفهم.
(الصحيح ٣/١٣٩٨-١٤٠٠ ح ١٧٧٥ و١٧٧٦ - ك الجهاد والسير، ب في غزوة حنين).
قال أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، قال: أنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن هوازن جاءت يوم حنين بالنساء والصبيان والإبل والغنم فجعلوها صفوفا وكثرن على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما التقوا ولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز وجل فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا عباد الله، أنا عبد الله ورسوله". ثم قال: "يا معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله فهزم الله المشركين ولم يضربوا بسيف ولم يطعنوا برمح... " الحديث.
(المسند ٣/٢٧٩)، وأخرجه أحمد أيضاً (المسند ٣/١٩٠)، والحاكم في (المستدرك ٢/١٣٠)، والبيهقي في (الدلائل ٥/١٥٠) من طريق حماد بن سلمة به، وقال الحاكم. حديث صحيح علي شرط مسلم، وأقره الذهبي. وأصله في الصحيحين من وجه آخر عن أنس بدون الإشارة للآية (انظر صحيح البخاري ح ٤٣٣٣ و٤٣٣٧ - ك المغازي، ب غزوة الطائف)، (وصحيح مسلم ح ١٠٥٩ - ك الزكاة، ب إعطاء المؤلفة قلوبهم).
قوله تعالى (وأنزل جنوداً لم تروها)
انظر حديث مسلم عن جابر الآتي عند الآية (١٥١) من سورة آل عمران وفيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نصرت بالرعب".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وعذب الذين كفروا) يقول: قتلهم بالسيف.
440
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم)
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (٢) من السورة نفسها وفيه: "... وألا يحج بعد العام مشرك".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) أى: أجناب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) وهو العام الذي حج فيه أبو بكر، ونادى عليّ رحمة الله عليهما بالأذان، وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحج نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من العام المقبل حجة الوداع، لم يحج قبلها ولا بعدها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) قال: لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن، قال: من أين تأكلون، وقد نفي المشركون وانقطعت عنهم العير. فقال الله: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) فأمرهم بقتال أهل الكتاب، وأغناهم من فضله.
قال الطبري: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرنا أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة.
ورجاله ثقات وسنده صحيح.
قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان قال: سمعت عمراً قال: كنت جالساً مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فحدثهما بجالة سنة سبعين -عام حجّ مصعب بن الزبير بأهل البصرة- عند درج زمزم قال: كنتُ كاتبا لجزء ابن معاوية عم الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس. ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها من مجوس هَجَر.
(الصحيح ٦/٢٩٧ ح ٣١٥٦ - ك الجزية والموادعة، ب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب).
وانظر حديث مسلم عن بريدة تحت الآية (١٩٠) من سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) إلى قوله: (عن يد وهم صاغرون) حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك.
قوله تعالى (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشأس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله؟ فأنزل الله في ذلك من قولهم: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) إلى: (إني يؤفكون).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يضاهئون) يشبهون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (قاتلهم الله) يقول: لعنهم الله.
قوله تعالى (اتخدوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله... )
قال الترمذي: حدثنا الحسين بن يزيد الكوفي، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي عنقي صليب من ذهب فقال: "يا عدى اطرح عنك هذا الوثن".
وسمعته يقرأ في سورة براءة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه.
(السنن ٥/٢٧٨) وحسنه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الإيمان ص٦٤)، والألباني في (صحيح سنن الترمذي ح ٣٠٩٥) وله شاهد صحيح من كلام ابن عباس.
قال الطبري: حدثني الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرزق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة فقال: يا أبا عبد الله، أرأيت قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه.
وأبو البختري هو فيروز بن سعيد، ورجاله ثقات وسنده صحيح...
قوله تعالى (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) يقول: يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم.
وانظر سورة المائدة آية (٣).
قوله تعالى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)
قال مسلم: حدثنا أبو كامل الجحدري وأبو معن زيد بن يزيد الرقاشي (واللفظ لأبي معن) قالا: حدثنا خالد بن الحارث. حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزى". فقلت: يا رسول الله إن كنتُ لأظن حين أنزل الله: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (٩/التوبة/٣٣) و (٦١/الصف/٩) أن ذللك تاماً. قال: "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله. ثم يبعث الله ريحا طيبة، فتوفي كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين أبائهم".
(الصحيح ٤/٢٢٣٠ ح ٢٩٠٧ - ك الفتن وأشراط الساعة، ب لا تقوم الساعه حتى تعبد دوس ذا الخلصة).
قال مسلم: حدثنا أبو الربيع العَتكي وقتيبة بن سعيد، كلاهما عن حمّاد بن زيد (واللفظ لقتيبة) : حدثنا حماد عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله زَوَى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلكها ما زُوي لي منها، وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنى سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يُسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرد؛. وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يُهلِك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً".
(الصحيح ٤/٢٢١٥ ح ٢٨٨٩ - ك الفتن وأشراط الساعة، ب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض).
444
قال البخاري: حدثني محمد بن الحكم، أخبرنا النضر، أخبرنا إسرائيل، أخبرنا سعد الطائي، أخبرنا مُحلٌّ بن خليفة، عن عدى بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: "يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ "قلت: لم أرها، وقد أنبئتُ عنها. قال: "فإن طالتْ بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لاتخاف أحداً إلا الله -قلتُ فيما بيني وبين نفسي فأين دُعّار طيء الذين قد سعّروا البلاد؟ - ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى". قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "كسرى بن هرمز. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يُخرج ملءَ كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيُبلّغك؟ فيقول: بلى. فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم". قال عدي سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شِق تمرة فبكلمة طيبة". قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنتُ فيمن افتتَح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترونّ ما قال النبي أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُخرج ملء كفه".
(الصحيح ٦/٧٠٦، ٧٠٧ ح ٣٥٩٥ - ك المناقب، ب علامات النبوة في الإسلام).
قال أحمد: ثنا أبو المغيرة قال: ثنا صفوان بن مسلم قال: حدثني سليم بن عامر، عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر". وكان تميم الدارى يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية.
445
(المسند ٤/١٠٣)، وأخرجه أيضاً الطبراني (٢/٥٨ ح ١٢٨٠)، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح (مجمع الزوائد ٦/١٤، ٨/٢٦٢)، وأخرجه الحاكم (المستدرك ٤/٤٣٠-٤٣١) من طريق الحكم بن نافع عن صفوان به، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وتعقبهما الألباني أنه على شرط مسلم فقط وحكى عن عبد الغني المقدسي أنه قال: حديث حسن صحيح (تحذير الساجد ص ١٧٣-١٧٤)، وله شاهد من حديث المقداد بن الأسود عند أحمد (٦/٤)، وابن حبان (الإحسان ١٥/٩١-٩٢ و٩٣-٩٤، ح ٦٦٩٩ و٦٧٠١)، والحاكم (٤/٤٣٠) وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وفيه من ليس من رجال الشيخين مع صحة إسناده وأورده الألباني في الصحيحة (ح /٣).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ليظهره على الدين كله) قال: ليظهر الله نبيه على أمر الدين كله، فيعطيه إياه كله، ولا يخفى عليه منه شيء وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي:... أما (الأحبار) فمن اليهود، وأما (الرهبان) فمن النصارى، وأما (سبيل الله) فمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال البخاري: حدثنا الحَكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد أن عبد الرحمن الأعرج حدثه أنه قال: حدثني أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع".
(الصحيح ٨/١٧٣ ك التفسير - سورة التوبة - ب (الآية) - ح ٤٦٥٩).
قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن حُصين، عن زيد بن وهب قال: مررتُ على أبي ذرّ بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنّا بالشام، فقرأت (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) قال معاوية: ماهذه فينا، ماهذه إلا في أهل الكتاب.
قال: قلتُ: إنها لفينا وفيهم".
(الصحيح ٨/١٧٣ ح ٤٦٦٠ -ك التفسير- سورة التوبة، ب الآية).
446
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن الجريري، عن أبي العلاء، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل أخس الثياب أخس الجسد، أخس الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نفض كتفيه، ويوضع على نفض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل... الحديث.
(الصحيح ح ٩٩٢ - ك الزكاة، ب في الكنازين للأموال... )، وأخرجه البخاري أيضا من طريق الجريري به، (ح ١٤٠٧ - ك الزكاة، ب ما أدي زكاته فليس بكنز).
قال البخاري: حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد أنّ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يُعطِ فيها حقها، تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يُعط فيها حقها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، قال: ومِن حقها أن تُحلب على الماء قال: ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يُعارْ فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغت ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد بلّغت".
(الصحيح ٣/٣١٤ ح ١٤٠٢ - ك الزكاة، ب إثم مانع الزكاة وقول الله تعالى (الآية)، (وصحيح مسلم ٢/٦٨٤ ح ٩٨٨ - ك الزكاة، ب إثم مانع الزكاة).
قوله تعالى (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون)
قال البخاري: وقال أحمد بن شبيب بن سعيد، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر فقال: هذا قبل أن تُنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال.
(الصحيح ٨/١٧٥ ح ٤٦٦١ -ك التفسير- سورة التوبة، ب الآية).
قال مسلم: وحدثني سويد بن سعيد، حدثنا حفص (يعني ابن ميسرة الصنعاني)، عن زيد بن أسلم، أن أبا صالح ذكوان أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما مِن صاحب ذهب ولا فضة، لا يُؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صُفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم فيُكوى بها جنبه وجبينة وظهره. كلّما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد، فيُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار". قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: "ولا صاحب إبل لا يُؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بُطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحداً تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رُدّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار". قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يُؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رُدّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار". قيل: يا رسول الله فالخيل؟ قال: "الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر وهي لرجل سِتر وهي لرجل أجر؛ فأما التي هي له وزر، فرجل ربطها رياء وفخراً ونواء على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأما التي هي له ستر، فرجل ربطها في سبيل الله ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر، وأما التي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طِوَلها فاستنت شرفاً أو شرفين إلا كتب الله له عدد آثارها وأرواثها حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يُريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات". قيل: يا رسول الله فالحمر؟ قال: ما أنزل عليّ في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذّة الجامعة: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره) (٩٩/الزلزلة/الآية ٧-٨).
(الصحيح ٢/٦٨٠-٦٨٢ - ك الزكاة، ب إثم مانع الزكاة).
قوله تعالى (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين)
انظر سورة البقرة آية (١٨٥) لبيان الشهر.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
(الصحيح ح ٤٦٦٢ - ك التفسير، ب (إن عدة الشهور... )، وأخرجه أيضاً مسلم من طريق أيوب به، (الصحيح ح ١٦٧٩ - ك القسامة، ب تغليظ تحريم الدماء).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) في كلهن. ثم خص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرما، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ذلك الدين القيم) يقول: المستقيم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: أما قوله (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم علي كل حال عظيما، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) أما (كافة) فجميع، وأمركم مجتمع.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (كافة) يقول: جميعاً.
قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) قال: النسيء: هو أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم كل عام، وكان يكنى (أبا ثمامة) فينادي: "ألا إن أبا ثمامة لا يحاب ولا يعاب، ألا وإن صفر العام الأول العام حلال" فيحله الناس، فيحرم صفر عاما، ويحرم المحرم عاما، فذلك قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر) إلى قوله (الكافرين) وقوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) يقول: يتركون المحرم عاما، وعاما يحرمونه. ا. هـ.
قال الطبري: وهذا التأويل من تأويل ابن عباس، يدل على صحة قراءة من قرأ (النسى) بترك الهمز وترك المد، وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه "فَعْل" من قول القائل: نسيت الشيء أنساه. ومن قول الله (نسوا الله فنسيهم) سورة التوبة: ٦٧. بمعنى: تركوا الله فتركهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ليواطئوا) يشبهون.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة)
قال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان قال: حدثني منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الفتح: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا".
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وبعد الطائف، وبعد حنين، أمروا بالنفير في الصيف، حين خرفت النخل، وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج.
قوله تعالى (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس. ح وحدثنا ابن نمير، حدثنا أبي ومحمد بن بِشر. ح وحدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا موسى بن أَعْين. ح وحدثني محمد بن رافع، حدثنا أبو أسامة، كلهم عن إسماعيل
ابن أبي خالد. ح وحدثني محمد بن حاتم (واللفظ له)، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا إسماعيل حدثنا قيس، قال: سمعت مستورداً أخا بني فهر يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسبابة- في اليمّ فلينظر بم ترجع؟ ".
(الصحيح ٤/٢١٩٣ ح ٢٨٥٨ - ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ب فناء الدنيا... ).
قال مسلم: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا سليمان (يعني ابن بلال)، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرّ بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجدي أسَكَّ ميِّت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: "أتحبون أنه لكم؟ " قالوا: والله لو كان حيا، كان عيباً فيه، لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم".
(الصحيح ٤/٢٢٧٢ ح ٢٩٥٧ - ك الزهد والرقائق).
انظر حديث ابن ماجة عن ابن مسعود الآتي عند الآية (٤) من سورة الضحى.
قوله تعالى (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما... )
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) استنفر الله المؤمنين في لهبان الحر في غزوة تبوك قبل الشام على ما يعلم الله من الجهد.
وتقدم عن الطبري بسنده الحسن عن أبي العالية: (أليما) موجعاً.
قوله تعالى (إلا نصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا... )
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (إلا تنصروه) ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثه يقول الله: فأنا فاعل ذلك به وناصره، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا حبّان، حدثنا همام، حدثنا ثابت، حدثنا أنس قال: حدثني أبو بكر - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغار، فرأيتُ آثار المشركين، قلتُ: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا، قال: "ما ظنّك باثنين الله ثالثهما".
(الصحيح ٨/١٧٦-١٧٧ ك التفسير - سورة التوبة، ب (الآية) ح ٤٦٦٣)، (وصحيح مسلم ٤/١٨٥٤ ك فضائل الصحابة - ب من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -).
قال مسلم: حدثني سلمة بن شبيب، حدثنا الحسن بن أعين، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقول: جاء أبو بكر الصديق إلى أبي في منزله فاشترى منه رَحْلاً فقال لعازب: ابعث معي ابنك يحمله معي إلى منزلي. فقال لي أبي: احمله. فحملته. وخرج أبي معه ينتقد ثمنه، فقال له أبي: يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريتَ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نعم. أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يمرّ فيه أحد حتى رُفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسوّيت بيدي مكاناً ينام فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ظلها، ثم بسطتُ عليه فروة، ثم قلت:
نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك. فنام. وخرجتُ أنفض ما حوله، فإذا أنا براعي غنم مُقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فلقيته فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة. قلتُ: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم.
قلتُ: أفتحلب لي؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت له: انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى (قال فرأيت البراء يضرب بيده على الأخرى ينفض) فحلب لي، في قعب معه، كثبة من لبن، قال: ومعي إداوة أرتوى فيها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليشرب منها ويتوضأ، قال: فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكرهت أن أُوقظه من نومه، فوافقته استيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت: يا رسول الله اشرب من هذا اللبن، قال: فشرب حتى رضيتُ، ثم قال: "ألم يأن للرحيل؟ " قلتُ: بلى. قال فارتحلنا بعد مازالت الشمس. واتبعنا سراقة بن مالك. قال: ونحن في جَلد من الأرض. فقلت: يا رسول الله أُتينا. فقال: "لا تحزن إن الله معنا". فدعا عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فارتطمت فرسه إلى بطنها. أُرى فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ. فأدعوا لي، فالله لكما أن أرُد عنكما الطلب. فدعا الله، فنجى. فرجع لا يلقى أحداً إلا قال: قد كفيتكم ماههنا. فلا يلقى أحداً إلا ردّه. قال: ووفي لنا.
(الصحيح ٦/٤٥ ح ٢٨٢٥ - ك الجهاد والسير، ب وجوب النفير )، وأيضاً في (٦/٢١٩ - ك الجهاد والسير، ب لا هجرة بعد الفتح).
(الصحيح ٤/٢٣٠٩ ح ٢٠٠٩ - ك الزهد والرقائق، ب في حديث الهجرة )، وأخرجه البخاري في (الصحيح ح ٣٦١٥ - المناقب، علامات النبوة).
وانظر حديث البخاري تحت الآية رقم ٣٩ من سورة الأنفال.
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طرفي النهار: بكرة وعشية، فلما ابتُلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة -وهو سيد القارة- فقال أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح
453
في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يَخرُج ولا يُخرَج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمِل الكَلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار. ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع، وأرتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل ويقري الضيف، ويُعين على نوائب الحق؟ فلم تكذّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبى بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره. ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك عينيهِ إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدِم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانْهَهُ، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبي إلا أن يعلن بذلك فسلْه أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا بمقرين لأبي بكر الاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر: فإني أرُد إليك جِوارك، وأرضى بجوار الله عزل جل. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ بمكة. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسلمين: "إني أريت دارَ هجرتكم ذات نخل بين لابتين". وهما الحرّتان. فهاجر من هاجر قِبَل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهزّ أبو بكر قِبَل المدينة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
454
"على رسلك، فإنى أرجو أن يؤذن لي". فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: "نعم". فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر -وهو الخبط- أربعة أشهر. قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبى بكر: هذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متقنعا -في ساعة لم يكن يأتينا فيها- فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت: فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأذن، فأذن له، فدخل فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبى بكر: "أَخرِجْ مَن عندك". فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نعم". قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ هاتين. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بالثمن. قالت عائشة: فجهزّناهما أحثّ الجِهاز، وصنعنا لهما سُفرة في جِراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سُميت ذات النطاق. قالت: ثم لحق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر بغار في جبل ثَور، فكَمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يُكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر مِنحة من غنم فيُريحها عليهما حين تذهب ساعة من العِشاء فيبيتان في رِسلٍ -وهو لَبنُ منحتهما ورضيفهما- حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغَلَس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث. واستأجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر رجلاً من
بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خِرّيتا -والخريت: الماهر بالهداية- قد غمس حِلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمِناه، فدفعا اليهود راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صُبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل.
(الصحيح ٧/٢٧١-٢٧٣ ح ٣٩٠٥ - ك مناقب الأنصار، ب هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه إلى المدينة).
455
قال البخاري: حدثني محمد، حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز ابن صهيب، حدثنا أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أقبل نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يُعرفَ، ونبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاب لا يعرف، قال فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر مَن هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهدينى السبيل، قال فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير. فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحِقهم، فقال: يا رسول الله، هذا فارس قد لحق بنا، فالتفت نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "اللهم اصرعْه". فصرعه الفرس، ثم قامت تحمحم، فقال: يا نبي الله مرني بما شئت. قال: فقف مكانك، لا تتركنّ أحداً يلحق بنا. قال: فكان أول النهار جاهداً على نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان آخر النهار مَسْلحة له. فنزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جانب الحرّة، ثم بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر فسلّموا عليهما وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركب نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح، فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله. فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب، فإنه ليحدّث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم، فعجِل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم رجع إلى أهله، فقال نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بابي. قال: فانطلق فهيء لنا مقيلاً. قال: قوما على بركة الله. فلما جاء نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمتْ يهودُ أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعُهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيَّ ماليس فيّ، فأرسل نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني
456
رسول الله حقا، وأنى جئتكم بحق، فأسلموا. قالوا: ما نعلمه -قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالها ثلاث مرار- قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: ذاك سيدنا، وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال: يا ابن سلام أخرج عليهم، فخرج، فقال: يا معشر اليهود اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق. فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(الصحيح ٧/٢٩٣-٢٩٤ ح ٣٩١١ - ك مناقب الأنصار، ب هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه إلى المدينه).
قوله تعالى (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم)
قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء - رضي الله عنه - قال: بينما رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ، وفرس له مربوط في الدار، فجعل ينفر، فخرج الرجل فنظر فلم ير شيئاً، وجعل ينفر، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "تلك السكينة تنزلت بالقرآن".
(الصحيح ٨/٤٥١ ح ٤٨٣٩ - ك التفسير، ب (هو الذي أنزل السكينة). وأخرجه البخاري (٩/٧١٦ ح ٣٦١٤ - ك المناقب، ب علامات النبوة في الإسلام)، ومسلم (الصحيح ١/٥٤٧ ح ٧٩٥ - ك صلاة المسافرين، ب نزول السكينة لقراءة القرآن) كلاهما من طريق شعبة، عن أبي إسحاق به، وفيه أن القاريء كان يقرأ سورة الكهف.
اخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلي) وهى الشرك بالله (وكلمة الله هي العليا) وهى: لا إله إلا الله.
قوله تعالى (انفروا خِفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)
قال الشيخ الشنقيطي: لا يخفى ما في هذه الآية من التشديد في الخروج إلى الجهاد علي كل حال، ولكنه تعالى بين رفع هذا التشديد بقوله (ليس على
457
الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) الآية؛ فهي ناسخة لها.
قال البخاري: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يُخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يُدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة".
(الصحيح ١٣/٤٥٠ ع ٧٤٥٧ - ك التوحيد، ب قوله تعالى (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين).
وأخرجه مسلم في (الصحيح ٣/١٤٩٥ ح ١٨٧٦ - ك الإمارة، ب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله).
قال ابن حبان: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا عبد الرحمن بن سلام الجمحي، حدثنا حمّاد بن سلمة، عن ثابت عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة براءة، فأتى على هذه الآية (انفروا خفافا وثقالا) فقال: ألا أرى ربّي يستنفرني شابا وشيخا، جهّزوني، فقال له بنوه: قد غزوتَ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قُبض، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر فنحن نغزو عنك، فقال: جهّزوني، فجهّزوه وركب البحر، فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فلم يتغيّر.
(الإحسان ١٦/١٥٢ - ك إخباره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مناقب الصحابة)، وأخرجه الحاكم في (المستدرك ٣/٣٥٣) من طريق ابن المبارك عن حماد بن سلمه به، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت الذهبي. وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد ٩/٣١٢-٣١٣) وعزاه إلى أبي يعلى والطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح.
وانظر حديث البخاري أيضاً تحت الآية رقم (١٩١) من سورة البقرة.
وانظر حديث أبي هريرة المتقدم عند الآية ٢١٦ من سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (انفروا خفافا وثقالا) قال: شبابا وشيوخا، وأغنياء ومساكين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (خفافا وثقالا) قال: نِشاطا وغير نِشاط.
قوله تعالى (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لا تبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لو كان عرضا قريبا) إلى قوله (لكاذبون) إنهم يستطيعون الخروج، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم والشيطان، وزهادة في الخير.
قوله تعالى (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا) الآية، عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل الله التي في (سورة النور) فرخص له أن يأذن لهم إن شاء فقال: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم) سورة النور: ٢٦، فجعله الله رخصة في ذلك من ذلك.
قوله تعالى (لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون)
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن ثابت المروزي، حدثني علي بن حسين، عن أبيه عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر) الآية، نسختها التي في النور (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) إلى قوله (غفور رحيم).
(السنن ح ٢٧٧١ - ك الجهاد، ب في الإذن في القفول بعد النهي) ومن طريق أبي داوود وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى ٩/١٧٣-١٧٤) وابن الجوزي في (نواسخ القرآن ص ٣٦٧-٣٦٨)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داوود (٢/٥٣٣، ح ٢٤٩).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله)، فهذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد من غير عذر، وعذر الله المؤمنين فقال: (لم يذهبوا حتي يستأذنوه) سورة النور: ٢٦.
قوله تعالى (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولأوضعوا خلالكم) يقول: ولأوضعوا بينكم، خلالكم، بالفتنة.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد: (وفيكم سماعون) يحدثون أحاديثكم، عيون غير منافقين.
قوله تعالى (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون)
قال ابن كثير: يقول تعالى محرضاً لنبيه عليه السلام على المنافقين (لقد ابتغوا
الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور) أي: لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإحماله مدة طويلة، وذلك أول مقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة؛ رمته العرب عن قوسٍ واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه. فدخلوا في الإسلام ظاهراً. ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم.
قوله تعالى (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) يقول: ائذن لي ولا تحرجني (ألا في الفتنة سقطوا) يعني: في الحرج سقطوا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتاده: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ولا تؤثمني، ألا في الإثم سقطوا.
قوله تعالى (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إن تصبك حسنة تسؤهم) إن كان فتح للمسلمين، كبر ذلك عليهم وساءهم.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد: (قد أخذنا أمرنا من قبل) حذرنا.
قوله تعالى (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون)
قال أحمد: ثنا هيثم قال: ثنا أبو الربيع، عن يونس، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه".
(المسند ٦/٤٤١-٤٤٢)، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة وعزاه الهيثمي لأحمد والطبراني، وقال: رجاله ثقات (مجمع الزوائد ٧/١٩٧)، وصححه الألباني في (ظلال الجنة)، وله شواهد (انظر الصحيحة ٢٤٣٩، والسنة ح ١١١ و٢٤٥).
وانظر سورة الحديد آية (٢٣)، قول ابن عباس وقتادة.
قال الترمذي: حدثنا أحمد بن محمد بن موسى، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا ليث بن سعد وابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج قال. ح وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو الوليد، حدثنا ليث بن سعد، حدثني قيس بن الحجاج المعنى واحدٌ عن حَنَش الصنعاني عن ابن عباس قال: كنت خلْفَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً، فقال: "يا غلام إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسئل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأفلام وجفّت الصُحُف".
(السنن ٤/٦٦٧ ح ٢٥١٦ - ك صفة القيامة، ب ٥٩)، وأخرجه أحمد (المسند ح ٢٦٦٩) عن يونس عن ليث به. قال الترمذي: حسن صحيح وقال محقق المسند: إسناده صحيح. وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح ٢٠٤٣).
قوله تعالى (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين)
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (٢١٦) من سورة البقرة، وعند الآية (٤١) من سورة التوبة، وهو حديث:
"تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) يقول: فتح أو شهادة، القتل فهي الشهادة والحياة والرزق، وإما يخزيكم بأيدينا.
قوله تعالى (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون)
قال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) كما قال تعالى (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) سورة طه: ٣١.
وقال (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) سورة النور آية: ٥٥، ٥٦.
وانظر سورة المنافقون آية (٤).
قوله تعالى (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لّولّوا إليه وهم يجمحون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لو يجدون ملجأ) (الملجأ) الحرز في الجبال (والمغارات) الغيران في الجبال.
قوله: (أو مدخلا) و (المدخل) السرب.
قوله تعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد قال: بينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم جاء عبد الله بن
ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدِل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن يعدِل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه. قال: دعه فإنّ له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرُقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يُنظر في قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيّه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والندم. آيتهم رجلٌ إحدى يديه -أو قال ثدييه- مثل ثدي المرأة، أو قال: مثل البضْعة تَدَردَرُ يخرجون على حين فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل عَلى النعت الذي نعته النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: فنزلت فيه (ومنهم من يلمزك في الصدقات).
(الصحيح ١٢/٣٠٣ ح ٦٩٣٣ - ك استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، ب من ترك قتال الخوارج... ).
قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)
قال البخاري: حدثنا معاذ بن فضالة، حدثنا هشام، عن يحيى، عن هلال بن أبي ميمونة، حدثنا عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يُحدث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عميكم من زهرة الدنيا وزينتها". فقال رجل: يا رسول الله، أوَ يأتي الخيرُ بالشر؟ فسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقيل له: ما شأنك تُكلّم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يُكلمك؟ فرأينا أنه يُنزل عليه. قال: فمسح عنه الرُّحضاء فقال: "أين السائل؟ "-وكأنه حمِده- فقال: "إنه لا يأتي الخيرُ بالشر، وإن مما يُنبت الربيع يَقتل أو يُلمُّ، إلا آكلة الخضراء، أكلتْ حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت. وإن هذا المال خضرة حلوة، فنِعم صاحب
المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل - أو كما قال النبي (وإنه من يأخذه بغير حقّه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدا عليه يوم القيامة).
(الصحيح ٣/٣٨٣-٣٨٤ - ح ١٤٦٥ - ك الزكاة، ب الصدقة على اليتامى)، أخرجه مسلم في (الصحيح ٢/٧٢٨-٧٢٩ ح ١٠٥٢ - ك الزكاة، ب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا).
قال أبو داود: حدثنا عباد بن موسى الأنباري الختلي، ثنا إبراهيم -يعني ابن سعد- قال: أخبرني أبي، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سويِّ".
(السنن ٢/١١٨ ح ١٦٣٤ - ك الزكاة، ب من يعطي من الصدقة؟... )، وأخرجه الترمذي (السنن ٣/٣٣ ح ٦٥٢ - ك الزكاة، ب ما جاء من لا تحل له الصدقة) من طريق: أبي داود الطيالسي وعبد الرزاق. وأحمد (المسند ح ٢٠٣٦) من طريق وكيع، كلهم عن سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد به. قال الترمذي: حديث حسن، وأخرجه الحاكم من طريق إبراهيم بن سعد به وسكت عليه هو والذهبي (المستدرك ١/٤٠٧) وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح ٥٢٧ - وصحيح الجامع ح ٧١٢٨)، وصححه أيضاً محقق المسند.
قال أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه، فرآنا جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لِغَنِيٍّ ولا لقويٍّ مُكتسب".
(السنن ٢/١١٨ ح ١٦٣٣ - ك الزكاة، ب من يعطى من الصدقة؟..)، وأخرجه النسائي (السنن ٥/٩٩-١٠٠ - ك الزكاة، ب مسألة القوي المكتسب)، وأحمد (المسند ٤/٢٢٤) كلاهما من طريق يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة به. قال ابن كثير: إسناد جيد قوي (التفسير ٤/١٠٦). قال ابن عبد الهادي في التنقيح (٢/١٥٢٢) وهو حديث إسناده صحيح، ورواته ثقات، قال الإمام أحمد: ما أجوده من حديث، هو أحسنها إسناداً وصححه الألباني أيضاً في (الإرواء ٣/٣٨١ ح ٨٧٦).
انظر حديث مسلم عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (٢٧٣) من سورة البقرة.
قال الطبري بعد أن ساق عدة أقوال في المسكين: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: "الفقير" هو ذو الفقر والحاجة، ومع حاجته يتعفف عن مسألة الناس والتذلل لهم، في هذا الموضع و"المسكين" هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم.
464
قال مسلم: حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، حدثنا جويرية، عن مالك، عن الزهري؛ أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه قال: اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين (قالا لي وللفضل بن عباس) إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكلّماه، فأمّرهما على هذه الصدقات، فأدّيا ما يُؤدّي الناس، وأصابا مما يصيب الناس. قال: فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب، فوقف عليهما، فذكرا له ذلك. فقال علي بن أبي طالب: لا تفعلا.
فوالله ما هو بفاعل. فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال: والله ما تصنع هذا إلا نفاسةً منك علينا، فوالله لقد نلت صهر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما نفسناه عليك. قال علي: أرسلوهما، فانطلقا. واضطجع علي. قال: فلما صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر سبقناه إلى الحُجرة، فقمنا عندها، حتى جاء فأخذ بآذاننا، ثم قال: "أخرجا ما تُصرِّران" ثم دخل ودخلنا عليه، وهو يومئذ عند زينب بنت جحش قال: فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله أنت أبرّ الناس، وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح، فجئنا لتُؤمِّرنا على بعض هذه الصدقات، فنؤدي إليك كما يُؤدي الناس، ونصيب كما يصيبون. قال: فسكت طويلاً حتى أردنا أن نُكلّمه، قال: وجعلت زينب تُلمع علينا من وراء الحجاب أن لا تُكلماه. قال: ثم قال: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس، ادعوا لي محمية (وكان على الخمس) ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب". قال: فجاءاه.
فقال لمحمية: "أنكح هذا الغلام ابنتك" (للفضل بن عباس) فأنكَحَه. وقال لنوفل بن الحارث: "أنكحْ هذا الغلام ابنتك" (لي) فأنكحني. وقال لمحمية: "أصدِقْ عنهما من الخُمُس كذا وكذا".
قال الزهري: ولم يُسمّه لي.
(الصحيح ٢/٧٥٢-٧٥٣ ح ١٠٧٢ - ك الزكاة، ب ترك استعمال آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصدقة).
465
أخرج عبد الرزاق عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى منها لغني".
(المصنف: ٤/١٠٩، ح ٧١٥١) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد في مسنده (٣/٥٦)، وأبو داود (ك الزكاة، ب من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني، ح ٣٦٣٦)، وابن ماجة (ك الزكاة، ب من تحل له الصدقة، ح ١٨٤١)، وابن الجارود في (المنتقى ح ٣٦٥)، وابن خزيمة في (صحيحه ح ٢٣٧٤)، والحاكم في المستدرك (١/٤٠٧-٤٠٨)، وغيرهم، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لإرسال مالك بن أنس إياه عن زيد بن أسلم)، وأقره الذهبي على تصحيحه على شرطهما. قال الحافظ: وصحيحه جماعة (التلخيص الحبير ٣/١١١)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (٣/٣٧٧، رقم ٨٧٠).
قال أبو داود: حدثنا محمد بن إبراهيم الأسباطي، ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع ابن خديج، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته".
(السنن ٣/١٣٢ ح ٢٩٣٦ - ك الخراج والإمارة والفيء، ب في السعاية على الصدقة)، وأخرجه الترمذي (السنن ٣/٢٨ ح ٦٤٥ - ك الزكاة، ب ما جاء في العامل على الصدقة بالحق)، من طريق أحمد بن خالد. وابن ماجة (السنن ١/٥٧٨ ح ١٨٠٩ - ك الزكاة، ب ما جاء في عمال الصدقة) من طريق: عبدة بن سليمان، ومحمد بن فضيل، ويونس بن بكير، وأحمد (المسند ٤/١٤٣) من طريق يعقوب عن أبيه، كلهم عن ابن إسحاق به. قال الترمذي: حسن صحيح. وصرح ابن إسحاق بالتحديث عند أحمد وأخرجه ابن خزيمة (٤/٥١ ح ٢٣٣٤) والحاكم في المستدرك (١/٤٠٦) كلاهما من طريق أحمد بن خالد الوهبي به، وقال حديث صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي. وقال الألباني: صحيح (صحيح ابن ماجة ح ٣٩٩٦).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (والعاملين عليها) قال: جباتها، الذين يجمعونها ويسعون فيها.
466
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني أُعطي قريشاً أتألّفهم، لأنهم حديث عهد بجاهلية".
(الصحيح ٦/٢٨٨ ح ٣١٤٦ - ك فرض الخمس، ب ما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطى المؤلفة قلوبهم).
وأخرجه مسلم في (الصحيح ٢/٧٣٥ ح ١٣٣ (١٠٥٩) - ك الزكاة، ب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام).
قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن أبيه، عن أبي نُعم، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: بعث إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشيء، فقسمه بين أربعة وقال: أتألفهم. فقال رجل: ما عَدَلتَ، فقال: يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الذين".
(الصحيح ٨/١٨١ ح ٤٦٦٧ - ك التفسير - سورة التوبة، في الآية)، وأخرجه مسلم مطولا من طريق عبد الرحمن بن أبي أنعم عن أبي سعيد (الصحيح ٢/٧٤١٠ ح ١٠٦٤ - ك الزكاة، ب ذكر الخوارج وصفاتهم).
قال مسلم: وحدثني أبو الطاهر، أحمد بن عمرو بن سرحٍ، أخبرنا عبد الله ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزوة الفتح، فتح مكة، تم خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بحني، فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة.
قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب؛ أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطني حتى إنه لأحب الناس إليّ.
(الصحيح ٤/١٨٠٦ ح ٢٣١٣ - ك الفضائل، ب ما سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً قط فقال: لا).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: وأما (المؤلفة قلوبهم) فأناس من الأعراب ومن غيرهم، كان نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا.
انظر حديث الترمذي عن أبي هريرة الآتي عند الآية (٣٢) من سورة النور.
467
قال الطبري: حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل ابن عبيد الله قال، سألت الزهري عن قوله: (وفي الرقاب) قال: المكاتبون.
وانظر سورة البقرة آية (١٧٧) لبيان الرقاب.
قوله تعالى (والغارمين)
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد، كلاهما عن حماد بن زيد، قال يحيى: أخبرنا حماد بن زيد عن هارون بن رياب، حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحمّلت حمالة فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسأله فيها، فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها". قال: ثم قال: "يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجلٍ تحمّل حمالةٌ فحلّت له المسألة حتى يُصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش (أو قال سِداداً من عيش)، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش (أو قال سداداً من عيش) فما سواهنّ من المسألة يا قبيصة سُحتاً يأكلها صاحبها سُحتاً".
(الصحيح ٢/٧٢٢ ح ١٠٩) ك الزكاة، ب من تحل له المسألة).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: أما (الغارمون) فقوم غرّقتهم الديون في غير إملاق، ولا تبذير ولا فساد.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وابن السبيل) الضيف، جعل له فيها حق.
وانظر سورة البقرة آية (١٧٧) لبيان ابن السبيل.
468
قوله تعالى (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن العباس مولى بني هاشم، حدثنا محمد بن عمرو زنيج، حدثنا سلمة، حدثني محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيجلس اليهود فيسمع منه، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، فأنزل الله فيه: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن).
وأخرجه الطبري بهذا الإسناد عن ابن إسحاق من قوله. وإسناد ابن أبي حاتم هذا حسن، تقدم الكلام عيه عند الآية (١١٣) من سورة آل عمران وتقدم في المقدمة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) يسمع من كل أحد.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) يعني: يؤمن بالله ويصدق المؤمنين.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، بأن من يؤذي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له العذاب الأليم. وذكر في (الأحزاب) أنه ملعون في الدنيا والآخرة، وأن له العذاب المهين، وذلك في قوله: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا).
قوله تعالى (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم)
انظر سورة المجادلة آية (٥).
قوله تعالى (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) إلى قوله: (ما تحذرون) صرح في هذه الآية الكريمة بأن المنافقين يحذرون أن ينزل الله سورة تفضحهم وتبين ما تنطوي عليه ضمائرهم من الخبث. ثم بين أنه
مخرج ما كانوا يحذرونه، وذكر في موضع آخر أنه فاعل ذلك، وهو قوله تعالى (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) إلى قوله: (ولتعرفنهم في لحن القول)، وبين في موضع آخر شدة خوفهم، وهو قوله: (يحسبون كل صيحة عليهم).
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) قال يقولون القول بينهم، ثم يقولون: عسى الله أن لا يفشي سرنا علينا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: كانت تسمى هذه السورة: (الفاضحة) فاضحة المنافقين.
قوله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون)
قال الطبري: حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني هشام بن سعيد، عن زيد بن أسلم: أن رجلاً من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك: ما لقرائنا هؤلاء، أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء؟ فقال له عوف: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذهب عوف إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، قال زيد: قال عبد الله بن عمر: فنظرت إليه متعلقاً بحقب ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنكبه الحجارة، يقول: "إنما كنا نخوض ونلعب". فيقول له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون"؟ ما يزيده.
(التفسير ١٤/٣٣٣ ح ١٦٩١١، وأخرجه أيضاً ح ١٦٩١٢)، وابن أبي حاتم (التفسير - التوبة/٦٥ ح ١٣٠٧) كلاهما من يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن هشام بن سعد به. وصحح إسناده محمود شاكر في حاشية الطبري. وقال مقبل الوادعي: رجاله رجال الصحيح إلا هشام ابن سعد فلم يخرج له مسلم إلا في الشواهد كما في الميزان (الصحيح المسند من أسباب النزول ص٧٨) وله شاهد من حديث كعب بن مالك، أخرجه ابن أبي حاتم (التفسير ح ١٣٠٦) من طريق عبد الرحمن ابن كعب، عن أبيه قال محققه: إسناده حسن).
قوله تعالى (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون)
انظر سورة البقرة آية (١٠-١٤-٢٠٥)، وسورة النساء آية (١٤٥).
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (ويقبضون أيديهم) قال: لا يبسطونها بنفقة في حق.
أخرج الطبري بسنده الحسن قتادة قوله: (نسوا الله فنسيهم) نسوا من الخير، ولم ينسوا من الشر.
قوله تعالى (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا... )
قال الطبري: حدثنا محمد بن الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (فاستمتعوا بخلاقهم) قال بدينهم.
وسنده صحيح.
قال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا غسان قال: حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لتتبعنّ سَننَ من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جُحر ضبّ لسلكتموه". قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن".
(الصحيح ٦/٥٧١ ح ٣٤٥٦ - ك أحاديث الأنبياء، ب ما ذكر عن بني إسرائيل)، وأخرجه مسلم الصحيح ٤/٢٠٥٤ ح ٢٦٦٩ - ك العلم، ب اتباع سنن اليهود والنصارى).
قوله تعالى (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة: (والمؤتفكات) قال: قوم لوط، انقلبت بهم أرضهم فجعل عاليها سافلها.
قوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)
قال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا، عن عامر قال: سمعته يقول: سمعت النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عُضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى".
(الصحيح ١٠/٤٥٢ ح ٦٠١١ - ك الأدب، ب رحمة الناس والبهائم)، وأخرجه مسلم (الصحيح ٤/١٩٩٩ ح ٢٥٨٦ - ك البر والصلة، ب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم).
وانظر حديث البخاري عن أبي موسى الآتي عند الآية (٢٩) من سورة الفتح.
وانظر حديث أحمد عن جرير المتقدم تحت الآية (٧٢) من سورة الأنفال.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ويقيمون الصلاة) قال: الصلوات الخمس.
قوله تعالى (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز، عن أبيه، عن سهل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن أهل الجنة ليتراءون الغرف في الجنة كما تتراءون الكوكب في السماء".
(الصحيح ١١/٤٢٤ ح ٦٥٥٥ - ك الرقاق، ب صفة الجنة والنار)، وأخرجه مسلم (الصحيح ٤/٢١٧٧ ح ٢٨٣١ - ك الجنة وصفة نعيمها، ب ترائي أهل الجنة الغرف... ).
قال أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن معانق أو أبي معانق، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الجنة
غرفة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى والناس نيام".
(المسند ٥/٣٤٣)، وأخرجه ابن حبان (الإحسان ٢/٢٦٢ ح ٥٠٩) من طريق عباس بن عبد العظيم عن عبد الرزاق به. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن معانق ووثقه ابن حبان (مجمع الزوائد ١٠/٤٢٠)، وأخرجه الحاكم (المستدرك ١/٣٢١) من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو به. وعزاه الهيثمي للطبراني في الكبير وقال: رجاله ثقات (مجمع الزاوئد ٢/٢٥٤). وأشار إليه ابن كثير وقال عن إسناده: جيد حسن (التفسير ٤/١١٧)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (١/٨٠٨ و٣٢١) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً، وقال الحاكم في الموضع الأول: حديث صحيح على شرط الشيخين. وقال في الموضع الثاني: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في كليهما). وقال المنذري في الترغيب (١/٤٢٤) : رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن. وحسن الألباني كلا من الحديثين في موضع من صحيح الترغيب (ح ٩٣٨ و٩٣٩) وصححهما في موضع آخر (ح ٦١٣ و٦١٤).
انظر حديث مسلم عن أبي سعيد المتقدم عند الآية ٩٥-٩٦ من سورة النساء.
وانظر حديث مسلم عن أبي هريرة المتقدم عند الآية ٢١ من السورة نفسها.
انظر حديث ابن أبي حاتم عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (١٣٣) من سورة آل عمران وهو حديث: وصف بناء الجنة، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لبنة من فضة ولبنة من ذهب... ".
قال الطبري: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان وشعبة، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، في قوله: (جنات عدن) قال: بطنان الجنة، قال ابن بشار في حديثه، فقلت: ما بطنانها؟ وقال ابن المثنى في حديثه، فقلت للأعمش: ما بطنان الجنة؟ قال: وسطها.
قوله تعالى (ورضوان من الله أكبر)
انظر حديث البخاري ومسلم عن أبي سعيد المتقدم تحت الآية رقم (١٥) من سورة آل عمران.
قوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم.
قوله تعالى (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله)
انظر حديث الحاكم عن ابن عباس الآتي عند الآية ١٨ من سورة المجادلة.
قال الشيخ الشنقيطي: صرح في هذه الآية الكريمة: أن المنافقين ما وجدوا شيئاً ينقمونه أي: يعيبونه وينتقدونه إلا أن الله تفضل عليهم فأغناهم بما فتح الله على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الخير والبركة. والمعنى أنه لا يوجد شيء يحتمل أن يعاب أو ينتقم بوجه من الوجوه، والآية كقوله: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد). وقوله (وما تنقمون منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا). وقوله (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله).
قوله تعالى (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون)
انظر سورة آل عمران آية (١٨٠)، وسورة النساء آية (٣٧).
قال البخاري: حدثنا سليمان أبو الربيع قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر قال: حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
(الصحيح ١/١١١ ح ٣٣ - ك الإيمان، ب علامة المنافق)، وأخرجه مسلم في (الصحيح ١/٧٨-٧٩ ح ٥٩ - ك الإيمان، ب بيان خصال المنافق)، وزاد في بعض رواياته: "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم".
قوله تعالى (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات)
قال البخاري: حدثني بشر بن خالد أبو محمد، أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: لما أُمرنا بالصدقة كنّا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغنيٌّ عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء، فنزلت (الذين يلمزون المطّوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) الآية.
(الصحيح ٨/١٨١ ح ٤٦٦٨ - ك التفسير - سورة التوبة، ب الآية)، (الصحيح ٢/٧٠٦ ح ١٠١٨ - ك الزكاة، ب الحمل أجرة يتصدق بها..).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء، وقالوا: إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع.
وانظر حديث كعب بن مالك الطويل الآتي عند قوله تعالى (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) آية (١١٨) سورة التوبة وفيه أن أبا خيثمة الأنصاري هو الذي تصدق بصالح التمر حين لمزه المنافقون. (صحيح مسلم رقم ٢٦٧٩).
قوله تعالى (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد مرسلة يقوي بعضها بعضا عن الشعبي وقتادة ومجاهد أن هذه الآية نزلت حينما استغفر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبعض المنافقين.
قوله تعالى (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (بمقعدهم خلاف رسول الله) قال: هي غزوة تبوك.
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم". قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: "فُضّلت عليهن بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرِّها".
(الصحيح ٦/٣٨٠-٣٨١ ح ٣٢٦٥ - ك بدء الخلق، ب صفة النار وأنها مخلوقة)، وأخرجه مسلم (٤/٢١٨٤ ح ٢٨٤٣ - ك الجنة وصفة نعيمها... ، ب في شدة حر نار جهنم... ).
انظر حديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (٢٤) من سورة البقرة.
وانظر حديث البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير الآتي عند الآية (١٤) من سورة الليل.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة شدة حر نار جهنم -أعاذنا الله والمسلمين منها- وبين ذلك في مواضع أخر كقوله: (نارا وقودها الناس والحجارة) وقوله: (كلا إنها لظى نزاعة للشوى). وقوله: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها). وقوله: (يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد) وقوله: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه) الآية. وقوله: (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم). إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيراً) قال: هم المنافقون والكفار الذين اتخذوا دينهم هزوا ولعباً. يقول الله تبارك وتعالى: (فليضحكوا قليلاً) في الدنيا (وليبكوا كثيرا) في النار.
قوله تعالى (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج، فقل لن تخرجوا معي أبداً) إلى قوله: (الخالفين) عاقب الله في هذه الآية الكريمة المتخلفين عن غزوة تبوك بأنهم لا يؤذن لهم في الخروج مع نبيه، ولا القتال معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن شؤم المخالفة يؤدي إلى فوات الخير الكثير. وقد جاء مثل هذا في آيات أخر كقوله: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم) إلى قوله: (كذلكم قال الله من قبل). وقوله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) الآية. إلى غير ذلك من الآيات. والخالف هو الذي يتخلف عن الرجال في الغزو فيبقى مع النساء والصبيان.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (فاقعدوا مع الخالفين) والخالفون الرجال.
انظر حديث الترمذي عن أبي ذر الآتي عند الآية (٤٤) من سورة الإسراء.
قوله تعالى (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)
أخرج البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعى له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي عليه، فلما قام رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا -أعدد عليه قوله- فتبسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "أخر عني يا عمر".
فلما أكثرت عليه قال: "إني خيرت فاخترت، لو أعلم إني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها". قال: فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم انصرف.
فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) إلى (وهم فاسقون) قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله ورسوله أعلم.
(الصحيح ح ١٣٦٦ - ك الجنائز، ب ما يكره من الصلاة على المنافقين)، وح ٤٦٧١ - ك التفسير، ب (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)).
قوله تعالى (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون)
انظر آية (٥٥ و٧٣) من السورة نفسها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وتزهق أنفسهم) في الحياة الدنيا.
قوله تعالى (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله اسئذنك أولوا الطّول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة، أنه إذا أنزل سورة فيها الأمر بالإيمان، والجهاد مع نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، استأذن الأغنياء من المنافقين في التخلف عن الجهاد مع القدرة عليه، وطلبوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتركهم مع القاعدين المتخلفين عن الغزو. وبين في موضع آخر أن هذا ليس من صفات المؤمنين، وإنه من صفات الشاكين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وذلك في قوله (لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون). وبين أن السبيل عليهم بذلك، وأنهم مطبوع على قلوبهم
بقوله (إنما السبيل على الذين يستئذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم) الآية. وبين في موضع آخر شدة جزعهم من الخروج إلى الجهاد كقوله (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) الآية. وقوله (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) إلى غير ذلك من الآيات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (استأذنك أولوا الطول) يعني: أهل الغني.
قوله تعالى (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) قال: الخوالف هن النساء.
وانظر سورة البقرة آية (٧) عند قوله تعالى (ختم الله على قلوبهم).
قوله تعالى (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم)
انظر حديث أنس عند البخاري المتقدم تحت الآية (٩٥) من سورة النساء.
قال مسلم: حدثنا محمد بن عباد المكي، حدثنا سفيان قال: قُلت لسهيل: إن عمراً حدثنا عن القعقاع، عن أبيك قال: ورجوتُ إن يُسقط عني رجلاً. قال: فقال: سمعته من الذي سمعه منه أبي. كان صديقا له بالشام. ثم حدثنا سفيان، عن سهيل، عن عطاء بن يزيد، عن تميم الداري، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
(الصحيح ١/٧٤ - ك الإيمان، ب بيان أن الدين النصيحة).
قوله تعالى (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: وحدثني القاسم بن عاصم الكليني -وأنا لحديث القاسم أحفظ- عن زهدم قال: كنا عند أبي موسى فأتى ذكرُ دجاجة وعنده رجل من بني تيم الله أحمر كأنه من الموالي، فدعاه للطعام فقال: إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته فحلفت أن لا أكل. فقال: هلم فلأحدثكم عن ذلك: إني أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفر من الأشعريين نستحمله، فقال: والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم. وأُتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنهب إبل فسأل عنا فقال: أين النفر الأشعريون؟ فأمر لنا بخمس ذود غُرِّ الذرى، فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا. لا يبارك لنا. فرجعنا إليه فقلنا: إنا سألناك أن تحملنا، فحفلتَ أن لا تحملنا، أفنسيت؟ قال: لستُ أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها.
(الصحيح ٦/٢٧٢ ح ٣١٣٢ - ك فرض الخمس، ب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين... )، (وصحيح مسلم ٣/١٢٦٩ - ك الأيمان، ب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها.. ، مطولا).
قوله تعالى (رضوا أن يكونوا مع الخوالف وطَبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون)
انظر سورة البقرة آية (٧) عند قوله تعالى (ختم الله على قلوبهم).
قوله تعالى (وسيرى الله عملكم ورسوله... )
انظر حديث مسلم عن أبي هريرة الآتي عند الآية (٣٧) من سورة سبأ.
وفيه إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
قوله تعالى (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين)
قال البخاري: حدثنا يحيى، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك حين تخلف عن تبوك، والله ما أنعم الله عليّ من نعمة بعد إذ هداني أعظم من صدقي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين أُنزل الوحيُ (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم) -إلى قوله- (الفاسقين).
(الصحيح ٨/١٩١ ح ٤٦٧٣ - ك التفسير - سورة التوبة، ب الآية)، وأخرجه مسلم في (الصحيح ٤/٢١٢٧-٢١٢٨ ح ٢٧٦٩ ضمن حديث توبة كعب بن مالك الطويل - ك التوبة، ب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه).
وانظر سورة الأنعام آية (١٢٤) لبيان الرجس: الشيطان.
قوله تعالى (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وأجدر ألا يعملوا حدود ما أنزل الله على رسوله) قال: هم أقل علماً بالسنن.
قوله تعالى (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وصلوات الرسول) يعنى: استغفار النبي عليه السلام.
قوله تعالى (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)
قال البخاري: حدثنا حجّاج بن منهال، حدثنا شعبة قال: حدثني عدي بن ثابت قال: سمعت البراء - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الأنصار لا يحبّهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله".
وقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن عبد الله بن جَبر، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "آية الإيمان حُب الأنصار، وآية النفاق بُغض الأنصار".
(الصحيح ٧/١٤١ ح ٣٧٨٣، ٣٧٨٤ - ك مناقب الأنصار، ب حب الأنصار من الإيمان). وأخرجهما مسلم (الصحيح ١/٨٥ ح ٧٤، ٧٥ - ك الإيمان، ب الدليل على أن حب الأنصار... من الإيمان).
قال الطبري: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: المهاجرون الأولون، الذين صلوا القبلتين.
ورجاله ثقات وسنده صحيح.
قوله تعالى (رضي الله عنهم ورضوا عنه)
انظر حديث البخاري عن أبي سعيد الخدري المتقدم تحت الآية (١٥) من سورة آل عمران.
قوله تعالى (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم)
قال ابن كثير: وقوله (لا تعلمهم نحن نعلمهم) لا ينافي قوله تعالى (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) سورة محمد آية (٣٠). لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين. وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقاً، وإن كان يراه صباحاً ومساءً.
قال الطبري: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين) قال: القتل والسباء.
وسنده صحيح.
أحرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (سنعذبهم مرتين) عذاب الدنيا، وعذاب القبر.
قوله تعالى (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم)
قال البخاري: حدثنا مؤمّل، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عوف حدثنا أبو رجاء، حدثنا سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنا: "أتاني الليلة آتيان فابتعثاني، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجالٌ شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة. قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك. قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئا، تجاوز الله عنهم".
(الصحيح ٨/١٩٢ ح ٤٦٧٤ - ك التفسير - سورة التوبة، ب الآية).
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) قال: كان عشرة رهط تخلفوا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فلما حضر رجوع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، فكان ممر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رجع من المسجد عليهم، فلما رآهم قال: "من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسواري؟ ". قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له، تخلفوا عنك يا رسول الله أوثقوا أنفسهم، وحلفوا أنهم لا يطلقهم أحد، حتى يطلقهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويعذرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم ويعذرهم، رغبوا
عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين". فلما بلغهم ذلك قالوا: نحن -والله- لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا فانزل الله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) فلما نزلت أرسل إليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأطلقهم وعذرهم.
قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها... )
قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن عقيل، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستُخلف أبو بكر بعبده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله". فقال: والله لأُقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم على منعه. فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيتُ الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
قال ابن بُكير وعبد الله عن الليث (عناقاً) وهو أصحّ.
(الصحيح ١٣/٢٦٤ ح ٧٢٨٤، ٧٢٨٥ - ك الاعتصام بالكتاب والسنة، ب الاقتداء بسنن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -... )، وأخرجه مسلم (الصحيح ١/٥٣ ح ٢ - ك الإيمان، ب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله... ) من حديث ابن عمر بنحوه.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما نزلت (وآخرون اعترفوا بذنوبهم... ) أرسل إليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأطلقهم وعذرهم، فجاؤوا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، قال: "ما أمرت أن آخذ أموالكم". فأنزل الله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها... ) الآية.
قوله تعالى (... وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)
قال البخاري: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن عمرو، عن عبد الله بن أبي أوفي قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه قومٌ بصدقتهم قال: "اللهم صلِّ على آل فلان. فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى".
(الصحيح ٣/٤٢٣ ح ١٤٩٧ - ك الزكاة، ب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة)، وأخرجه مسلم في (الصحيح ٢/٧٥٦-٧٥٧ ح ١٠٧٨ - ك الزكاة، ب الدعاء لمن أتى بصدقة).
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، ثنا أبو عوانة، عن الأسود ابن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر بن عبد الله: أن امرأة قالت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلِّ عليَّ وعلى زوجي. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلَّى الله عليك وعلى زوجك".
(السنن ٢/٨٨-٨٩ ح ١٥٣٣ - ك الصلاة، ب الصلاة على غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)، وأخرجه الترمذي (الشمائل ح ٩٣، ٩٤) والنسائي (عمل اليوم والليلة ح ٤٢٣) وإسماعيل القاضي في (فضل الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ح ٧٧) من طرق عن الأسود به مختصراً، وأخرجه أحمد (المسند ٣/٣٠٣) من
طريق سفيان عن الأسود به مطولاً. وحسنه ابن حجر (فتح الباري ٧/٣٩٨) وقال الألباني: إسناده صحيح (فضل الصلاة ح ٧٧).
أخرج الطبري بسنده الحسنِ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إن صلاتك سكن لهم) يقول: رحمة لهم.
قوله تعالى (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات)
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (٢٧٦) من سورة البقرة. وهو حديث: "من تصدق بعدل تمرة... ".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وأن الله هو التواب الرحيم) يعنى: إن استقاموا.
قوله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)
انظر الآية (٩٤) من السورة نفسها، وانظر حديث البخاري عن أنس المتقدم عند الآية (١٤٣) من سورة البقرة. وهو حديث: "أنتم شهداء الله في الأرض... ".
قوله تعالى (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: وكان ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم بالسواري، أرجوا سنة، لا يدرون أيعذبون أويتاب عليهم؟ فأنزل الله تعالى - يعني قوله: (وآخرون مرجون لأمر الله).
قوله تعالى (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين) إلى قوله (لا تقم فيه أبداً... )
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً) وهم أناس من الأنصار، ابتنوا مسجداً فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم، واستمدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه. فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله: (لا تقم فيه أبداً).
قوله تعالى (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه)
قال مسلم: حدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد الخرّاط قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: قال أبي: دخلتُ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفّا من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: "هو مسجدكم هذا". (لمسجد المدينة) قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره.
(الصحيح ٢/١٠١٥ ح ١٣٩٨ - ك الحج، ب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة).
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن زيد بن رباح وعبيد الله بن أبي عبد الله الأغر، عن أبي عبد الله الأغرّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".
(الصحيح ٣/٧٦ ح ١١٩٠ - ك فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة)، وأخرجه مسلم (٢/١٠١٢ ح ١٣٩٤ - ك الحج، ب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة).
قوله تعالى (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)
قال ابن ماجة: حدثنا هشام بن عمار، ثنا صدقة بن خالد، ثنا عتبة بن أبي حكيم، حدثني طلحة بن نافع، أبو سفيان قال: حدثني أبو أيوب الأنصاري، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، أن هذه الآية نزلت (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهّرين) قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟ ". قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء. قال: "فهو ذاك. فعليكموه".
(السنن ١/١٢٧ ح ٣٥٥ - ك الطهارة، ب الاستنجاء بالماء)، وأخرجه الدارقطني في (سننه ١/٦٢)، والحاكم في (المستدرك ١/١٥٥ - ك الطهارة) كلاهما من طريق محمد بن شعيب بن شابور عن عتبة به. قال الحاكم: هذا حديث كبير صحيح في كتاب الطهارة. ووافقه الذهبي. وأخرجه الضياء (المختارة ٦/٢١٨-٢١٩ ح ٢٢٣١) من طريق الدارقطني به. وله شواهد في (مجمع الزوائد ١/٢٢١-٢١٣). وقال الألباني: صحيح (صحيح ابن ماجه ١/٦٣).
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن خالد بن خلي، ثنا أحمد بن خالد الوهبي، ثنا محمد بن إسحاق عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس (فيه رجال يحبون أن يتطهروا)، قال: لما نزلت هذه الآية بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عويم بن ساعدة فقال: ما هذا الطهور الذي أثنى الله
487
عليكم به؟ فقالوا: يا نبي الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل دبره -أو قال مقعدته- فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ففي هذا".
(المستدرك ١/١٨٧ - ك الطهارة) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي وأخرجه الطبراني في الكبير (١١/٦٧ ح ١١٠٦٥) من طريق محمد بن إسحاق به، وقال الهيثمي في المجمع (١/٢١٢) وإسناده حسن إلا أن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه ويشهد له ما تقدم.
قوله تعالى (أم مّن أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (فانهار به) يعني قواعده (في نار جهنم).
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا المعلى بن أسد، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد الله الداناج، عن طلق بن حبيب، عن جابر بن عبد الله قال: رأيت الدخان من مسجد الضرار حين انهار.
(وأخرجه الطبري في تفسيره، أخرجه الحاكم في (المستدرك ٤/٥٩٦) عن عبد العزيز بن المختار.
وقال الحاكم: "هذا إسناد صحيح، وصحح إسناده أيضاً محمود شاكر في تعليقه على الطبري).
قوله تعالى (لا يزال بنيانهم الذي بنوا رِيبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ريبة) شكا، (إلا أن تقطع قلوبهم) يعنى: الموت.
قوله تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) يعني: بالجنة.
488
قوله تعالى (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (التائبون) قال: تابوا من الشرك، ثم لم ينافقوا في الإسلام.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (العابدون) قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (الحامدون) قوم حمدوا الله على كل حال.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عثمان التنوخي أبو الجماهر، ثنا الهيثم بن حميد، أخبرني العلاء بن الحارث، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله، ائذن لي في السياحة، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى".
(السنن ٢/٥ ح ٢٤٨٦ - ك الجهاد، ب في النهي عن السياحة)، وأخرجه ابن أبى حاتم (التفسير - التوبة/١١٢ ح ١٦٦٨) عن أبيه، والحاكم (المستدرك ٢/٧٣ - ك الجهاد). من طريق عبيد بن شريك، كلاهما عن أبي الجماهر به. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وذكره القرطبي في (تفسيره ٨/٢٧٠) ونقل عن أبي محمد عبد الحق تصحيحه. وقال الألباني: حسن.
(صحيح أبي داود ح ٢١٧٢).
قال الطبري حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: (السائحون) الصائمون.
وسنده حسن، وأخرجه بأسانيد صحاح عن أبي هريرة وابن عباس موقوفاً أيضاً.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (والحافظون لحدود الله) يعني: القائمين على طاعة الله، وهو شرط اشترطه على أهل الجهاد، إذا وفوا لله بشرطه، وفى لهم بشرطهم.
قوله تعالى (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قُربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم)
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أي عمّ، قل لا إله إلا الله، أحاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك"، فنزلت (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم).
(الصحيح ٨/١٩٢ ح ٤٦٧٥ - ك التفسير - سورة التوبة، ب الآية)، وأيضاً ٧/٢٣٣ - ك مناقب الأنصار. باب قصة أبي طالب)، وأخرجه مسلم في (الصحيح ١/٥٤ ح ٢٤ - ك الأيمان، ب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت).
قال مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب ومحمد بن عبّاد (واللفظ ليحيى) قالا: حدثنا مروان بن معاوية، عن يزيد (يعني ابن كيسان)، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي".
(الصحيح ٢/٦٧١ ح ٩٧٦ - ك الجنائز، ب استئذان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربه عز وجل في زيارة قبر أمه).
قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل كوفي، عن علي قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان، فقال: أوليس استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين... ).
490
(السنن ٥/٢٨١ ح ٣١٠١ - ك التفسير، ب ومن سورة التوبة)، وأخرجه النسائي (السنن ٤/٩١ - ك الجنائز، ب النهي عن الاستغفار للمشركين) من طريق عبد الرحمن بن مهدي. وأحمد (المسند ح ٧٧١ و١٠٨٥) عن يحيى بن آدم ووكيع وعبد الرحمن. وابن أبي حاتم (التفسير - التوبة/١١٣ ح ١٧٠٠) من طريق أبي نعيم. والحاكم (المستدرك ٢/٣٣٥) من طريق أبي نعيم وأبي حذيفة ووكيع، كلهم عن سفيان به، وعند هؤلاء جميعاً زيادة وهي: نزول قوله تعالى (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة... ). قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: حسن (صحيح الترمذي ح ٢٤٧٧) وكذا قال أحمد شاكر: إسناده صحيح. قال الألباني في أحكام الجنائز (ص٦٥) : في هذا الحديث أن سبب نزول الآية غير السبب المذكور في الحديث الذي قبله -يعني حديث المسيب-، ولا تعارض بينهما لجواز تعدد سبب النزول كما وقع ذلك في غير آية وقد أيد هذا الحافظ في الفتح. (٥٠٨/٨ ط١ من السلفية).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) الآية، فكانوا يستغفرون لهم، حتى نزلت هذه الآية فلما نزلت، أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنزل الله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) الآية.
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا هذه الموعدة التي وعدها إياه، ولكنه بينها في سورة مريم بقوله (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: (تبين له) حين مات وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه يعني في قوله: (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم).
أخرج الطبري بسند صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات (فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) يعني: استغفر له ما كان حيا، فلما مات أمسك عن الاستغفار له.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فلما تبين له أنه عدو الله) لما مات على شركه (تبرأ منه).
491
قال الطبري: حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: (الأواه) الدعّاء.
ورجاله ثقات إلا عاصم فإنه صدوق فهو حسن.
قال الطبري: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين قال: سئل عبد الله عن (الأواه) فقال: الرحيم.
ورجاله ثقات فهو صحيح.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن إبراهيم لأواه) يعني: المؤمن التواب.
ويمكن الجمع بين الأقوال أن المؤمن الذي يدعو الله كثيرا يكون من المؤمنين والتوابين الذين يستحقون رحمة الله تعالى.
قوله تعالى (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) قال: بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة، فافعلوا أو ذروا.
قوله تعالى (إن الله له ملك السموات والأرض... )
انظر حديث الترمذي عن أبي ذر الآتي عند الآية (٤٤) من سورة الإسراء (هو حديث الأطيط).
قوله تعالى (لقد تاب الله على النبي والهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة... )
قال البخاري: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثني ابن وهب قال أخبرني يونس. ح قال أحمد: وحدثنا عنبسة، حدثنا يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن بن كعب قال: أخبرني عبد الله بن كعب -وكان قائد كعب
492
من بنيه حين عميَ- قال: سمعت كعب بن مالك في حديثه (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا) قال في آخر حديثه: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله ورسوله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمسِك بعض مالك، فهو خير لك".
(الصحيح ٨/١٩٢-١٩٣ ح ٤٦٧٦ - ك التفسير - سورة التوبة، ب الآية).
وانظر رواية مسلم الآتية تحت الآية رقم (١١٨) من نفس السورة.
قال ابن حبان: أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس أنه قِيل لعمر بن الخطاب: حدِّثنا من شأن العسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا، أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى نظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله قد عوّدك الله في الدعاء خيرا، فادعُ لنا، فقال: "أتُحب ذلك؟ " قال: نعم. قال: فرفع يديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يرجعهما حتى أظلّت سحابة، فسكبت، فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر.
(الإحسان ٤/٢٢٣ ح ١٣٨٣)، وأخرجه الحاكم في (المستدرك ١/١٥٩ - ك الطهارة) من طريق محمد ابن الحسن العسقلاني عن حرملة به وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وأخرجه الضياء المقدسي (المختارة ١/٢٧٨ ح ١٦٨) من طريق يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب به وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد ٦/١٩٤-١٩٥) وعزاه للبزار والطبراني ثم قال: ورجال البزار ثقات.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (في ساعة العسرة) في غزوة تبوك.
وأخرجه الطبري بسنده الحسن عن قتادة بنحوه.
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن
493
مالك -وكان قائد كعب بن مالك- قال: سمعت كعب بن مالك يُحدّث حين تخلف عن قصة تبوك، فوالله ما أعلم أحداً أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، ما تعمّدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومي هذا كذبا، وأنزل الله عز وجل على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين -إلى قوله- وكونوا مع الصادقين).
(الصحيح ٨/١٩٤ ح ٤٦٧٨ -ك التفسير- سورة التوبة، ب (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).
قوله تعالى (وعلى الثلاثة الذين خُلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: أما قوله: (خلفوا) فخلّفوا عن التوبة.
قال مسلم: حدثني أبو الطاهر، أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن سرح، مولى بني أمية، أخبرني ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: ثم غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزوة تبوك وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام.
قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب كان قائد كعب، من بنيه، حين عمي. قال: سمعت كعب بن مالك يُحدّث حديثه حين تخلف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك. قال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أنّي قد تخلّفت في غزوة بدر، ولم يُعاتِب أحداً تخلف عنه، إنما خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدتُ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أُحبُ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدرٌ أذكر في الناس منها، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، أنّي لم أكن
494
قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعتُ قبلها راحلتين قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، فغزاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيدا ومفازاً، واستقبل عدواً كثيراً، فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أُهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ (يريد بذلك الديوان) قال كعب: فقلّ رجل يريد أن يتغيّب، يظن أن ذلك سيخفي له، ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله عز وجل، وغزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعر، فتجهزّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون معه، وطفقتُ أغدو لكي أتجهزّ معهم، فأرجعُ ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك، إذا أردت. فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجِدّ، فأصبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غادياً والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلتُ، ثم لم يُقدّر ذلك لي، فطفقت، إذا خرجت في الناس، بعد خروج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحزُنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصا عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بلغ تبوكاً فقال وهو جالس في القوم تبوك: "ما فعل كعب بن مالك؟ " قال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه بُرداه والنظر في عِطفيه. فقال له معاذ ابن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبينما هو على ذلك رأى رجلاً مبيضا يزول به السراب فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كن أبا خيثمة" فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري. وهو الذي تصدّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون. فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد توجه قافلا من تبوك، حضرني بثّي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بِمَ أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك
495
كل ذي رأى من أهلي. فلما قيل لي: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أظلّ قادما، زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبداً. فأجمعت صدقه. وصبّح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، حتى جئتُ، فلمّا سلّمتُ، تبسم تبسُّم المغضبَ ثم قال: "تعال" فجئتُ أمشي حتى جلست بين يديه.
فقال لي: "ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ " قال: قلتُ: يا رسول الله إني، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعُذر، ولقد أُعطيتُ جدلا، ولكني، والله لقد علمتُ، لئن حدثّتك اليوم حديثَ كذب ترضى به عني، ليُوشكن الله أن يُسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله. والله ما كان لي عذرٌ. والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسر منّي حين تخلفت عنك. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما هذا، فقد صدق. فقم حتى يقضي الله فيك". فقمتُ.
وثار رجال من بني سلمة فاتّبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا. لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرتَ إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما اعتذر به إليه المخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لك. قال: فوالله ما زالوا يؤنِّبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأكذّب نفسي. قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت: من هما؟ قالوا: مُرارة بن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، فيهما أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين عن كلامنا، أيها الثلاثة، من بين من تخلف عنه. قال:
496
فاجتنبنا الناس. وقال: تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض. فما هي بالأرض التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان. وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم؛ فكنتُ أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يُكلّمني أحد، وآتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأُسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام، أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه وأُسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إلي، وإذا التفتُ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلّمت عليه، فوالله ما ردّ عليّ السلام. فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمنّ أني أحب الله ورسوله؟ قال فسكت. فعُدت فناشدته. فسكت فعُدت فناشدته. فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتولّيت، حتى تسوّرت الجدار. فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من نبط أهل الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدُلّ على كعب بن مالك. قال: فطفق الناس يشيرون له إليّ، حتى جاءني فدفع إليّ كتاباً من مَلك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته فإذا فيه: أما بعد؛ فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحَقْ بنا نواسك. قال: فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء. فتياممتُ بها التنور فسجرتها بها، حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، إذا رسول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتيني فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلتُ: أُطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها، فلا تقربنّها. قال: فأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك. قال فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت له: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: "لا.
497
ولكن لا يقربّنك". فقالت: إنه والله ما به حركةٌ إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك؟ فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال: فقلت: لا استأذن فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما يدريني ماذا يقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب. قال: فلبثت بذلك عشر ليال، فكمُل لنا خمسون ليلة من حين نُهي عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة، على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا، قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفي على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررتُ ساجداً، وعرفتُ أن قد جاء فرج. قال فآذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشّروننا، فذهب قَبل صاحبيّ مبشرون، وركض رجل إليّ فرسا، وسعى ساع من أسلم قِبلي، وأوفي الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعتُ صوته يُبشرني، فنزعتُ له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت أتأمم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يُهنئوني بالتوبة ويقولون: لِتَهنئْك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس في المجلس، وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يُهرول حتى صافحني وهنّأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلمّا سلمت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال -وهو يبرق وجهه من السرور- ويقول: "أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك". قال فقلت: أمِن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال: لا، بل من عند الله" وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سُرّ استنار وجهه، كأن وجهه قطعة قمر. قال: وكنا نعرف ذلك. قال: فلما جلستُ بين يديه قلتُ:
498
يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمسك بعض مالك فهو خير لك". قال فقلت؟ فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. قال: وقلت: يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أُحدث إلا صدقا ما بقيت. قال: فوالله ما علمتُ أن أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومي هذا، أحسن مما أبلاني الله به. والله ما تعمّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: فأنزل الله عز وجل: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم) حتى بلغ: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا. إن الله قال للذين كذبوا، حين أنزل الوحي، شرّ ما قال لأحد، وقال الله: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لترضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) قال
كعب: كنا خُلّفنا، أيها الثلاثة، عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين خلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) وليس الذي ذكر الله مما خُلفنا، تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
(الصحيح ٤/٢١٢٠-٢١٢٨ - ك التوبة، ب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه)، وأخرجه البخاري مختصراً (الصحيح - ك التفسير - سورة التوبة).
499
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)
قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله - رضي الله عنه -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الصدق يهدي إلى البرّ، وإن البرّ يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صدّيقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً".
(الصحيح ١٠/٥٢٣ ح ٦٠٩٤ - ك الأدب، ، ب قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)).
انظر رواية البخاري من حديث كعب بن مالك المذكورة عند الآية (١١٧-١١٩) من هذه السورة. وفيها: فوالله ما أعلم أحداً أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني... وأنزل الله عز وجل على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين) إلى قوله (وكونوا مع الصادقين).
وقد ذكر البخاري هذه الرواية في تفسير التوبة آية (١١٩).
قوله تعالى (ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي، حدثنا علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما)، (وما كان لأهل المدينة) إلى قوله (يعملون) نسختها الآية التي تليها (وما كان المؤمنون لينفروا كافة).
(السنن ح ٢٥٠٥ - ك الجهاد، ب في النسخ نفير العامة بالخاصة)، ومن طريق أبي داود، أخرجه ابن الجوزي في نواسخ القرآن (ص٣٦٤-٣٦٥ مختصراً)، وقال الألباني: حسن (صحيح أبي داود ٢/٤٧٥-٤٧٦ ح ٢١٨٧).
انظر حديث أبي عبس المتقدم تحت الآية رقم (٢١٦) من سورة البقرة.
قوله تعالى (ولا ينفقون نققة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة) الآية، قال: ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بُعدا إلا ازدادوا من الله قرباً.
قوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)
قال البخاري: حدثنا حبان بن موسى، أخبرنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، والله المعطي وأنا القاسم، ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون".
(الصحيح ٦/٢٥٠-٢٥١ ح ٣١١٦ - ك فرض الخمس، ب قول الله تعالى (فأن لله خمسه))، وأخرجه مسلم في (الصحيح ٣/١٥٢٤، ح ١٠٣٧ - ك الأمارة، ب قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق... ).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) فإنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مضر بالسنين أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد، ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأجهدوهم، وأنزل الله يخبر رسول الله أنهم ليسوا مؤمنين، فردهم رسول الله إلى عشائرهم، وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعا،
ويتركوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) يعنى عصبة، يعنى السرايا، ولا يتسروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن،
تعلمه القاعدون من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالوا: إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا، وقد تعلمناه. فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم، ويبعث سرايا أخر، فذلك قوله: (ليتفقهوا في الدين) يقول: يتعلمون ما أنزل الله على نبيه، ويعلموا السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين)
قال ابن كثير: وقوله تعالى (وليجدوا فيكم غلظة) أي: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقاً لأخيه المؤمن، غليظاً على عدوه الكافر، كما قال تعالى: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) سورة المائدة آية: ٥٤.
وقال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) سورة الفتح آية: ٢٩. وقال تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) سورة التوبة آية: ٧٣، وسورة التحريم آية: ٩.
قوله تعالى (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون)
قال ابن كثير في قوله تعالى (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم) أي: زادتهم شكاً إلى شكهم، وريباً إلى ريبهم؛ كما قال تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً) سورة الإسراء آية: ٨٢. وقال تعالى (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يومنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) سورة فصلت آية: ٤٤.
انظر سورة البقرة آية (١٢٥) عند قوله تعالى (في قلوبهم مرض)، وانظر سورة الأنفال آية (٢).
قوله تعالى (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يّذكّرون)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (يفتنون)، قال: يبتلون (في كل عام مرة أو مرتين)، قال: بالسِنة والجوع.
قوله تعالى (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون)
قال ابن كثير: وقوله: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) هذا أيضاً إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (نظر بعضهم إلى بعض) أي: تلفتوا (هل يراكم من أحد ثم انصرفوا) أي: تولوا عن الحق وانصرفوا عنه. وهذا حالهم في الدين لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه؛ كما قال تعالى (فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمرٌ مستنفرة فرت من قسورة) سورة المدثر الآيات: ٤٩-٥١. وقال تعالى: (فما للذين كفروا قبلك مهطعين. عن اليمين وعن الشمال عزين) سورة المعارج آية: ٣٦، ٣٧.
قوله تعالى (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حربص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)
قال الشيخ الشنقيطي: هذه الآية الكريمة تدل على أن بعث هذا الرسول الذي هو من أنفسنا الذي هو متصف بهذه الصفات المشعرة بغاية الكمال، وغاية شفقته علينا هو أعظم منن الله تعالى، وأجزل نعمة علينا، وقد بين ذلك في موضع أخر؛ كقوله تعالى (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) الآية. وقوله: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار).
قال البخاري: حدثنا محمد بن عُبيد الله أبو ثابت، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عُبيد بن السبّاق، عن زيد بن تابت قال: بعث إليّ أبو بكر لمقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بقراء القرآن في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر ورأيتُ في ذلك الذي رأى عمر قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتتبع القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليّ مما كلفني من جمع القرآن.
قلتُ: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال أبو بكر: هو والله خير.
فلم يزل يحثّ مراجعتي حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، ورأيت في ذلك الذي رأيا. فتتبَعت القرآن أجمعه من العُسُب والرقاع واللخاف وصدور الرجال فوجدت آخر سورة التوبة (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخرها مع خزيمة -أو أبي خزيمة- فألحقتها في سورتها. وكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله عز وجل، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.
قال محمد بن عبيد الله: اللخاف يعني الخزَف.
(الصحيح ١٣/١٩٥ ح ٧١٩١ - ك الأحكام، ب يستحب للكاتب أن يكون أميناً عاقلاً).
قال البخاري: حدثنا عبد السلام بن مطهر قال: حدثنا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغِفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن
504
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الذين يُسر، ولن يُشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلجة".
(الصحيح ١/١١٦ ح ٣٩ - ك الإيمان، ب الدين يسر... ).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) قال: جعله الله من أنفسهم، فلا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (عزيز عليه ما عنتم) قال: ما ضللتم.
قوله تعالى (حريص عليكم)
قال مسلم: وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحُجَزِكم وأنتم تقَحَّمون فيه".
(الصحيح ٤/١٧٨٩ ح ٢٢٨٤ - ك الفضائل، ب شفقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أمته)، وأخرجه البخاري (الصحيح ح ٦٤٨٣ - ك الرقاق، ب الانتهاء عن المعاصي).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (حريص عليكم) حريص على ضالهم أن يهديه الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فإن تولوا فقل حسبي الله) يعني الكفار، تولوا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذه في المؤمنين.
وانظر سورة آل عمران آية (١٧٣).
505
Icon