تفسير سورة التوبة

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
سورة التوبة
مدنية وآياتها ١٢٩
وهي مدنية إلا آيتين، قوله سبحانه :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] إلى آخرها، وتسمى سورة التوبة، قاله حذيفة وغيره، وتسمى الفاضحة قاله ابن عباس وقال :( ما زال ينزل ومنهم، ومنهم )، حتى ظن أنه لا يبقى أحد، وهي من آخر ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال علي رضي الله عنه لأبن عباس : بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبشارة، وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود، فلذلك لم تبدأ بالأمان.
بسم الله الرحمان الرحيم
تفسير سورة التوبة
وهي مدنية إلا آيتين قوله سبحانه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ... [التوبة: ١٢٨] إلى آخرها وتسمّى «سورة التّوبة» قاله حذيفة وغيره، وتسمّى «الفاضحة» قاله ابن عباس، وقال: ما زال ينزل: ومنهم، ومنهم حتّى ظنّ أنه لا يبقى أحد، وهي من آخر ما أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال عليّ رضي الله عنه لابن عبّاس: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أمان وبشارة، وبراءة نزلت بالسّيف ونبذ العهود فلذلك لم تبدأ بالأمان «١».
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٢]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)
قوله عز وجل: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، التقدير:
هذه الآيات براءَةٌ، ويصحُّ أن يرتفع «براءَةٌ» بالابتداء، والخَبَرُ في قوله: إِلَى الَّذِينَ.
وبَراءَةٌ معناه: تَخَلَّصٌ وتَبَرٍّ من العهود التي بَيْنَكم، وبَيْنَ الكفَّار البادئين بالنَّقْض.
قال ابن العَرَبِّي في «أحكامه» «٢» : تقول: بَرَأْتُ مِنَ الشَّيْءِ أَبْرَأُ بَرَاءَةً، فأنا مِنْه بَرِيءٌ إِذا أنزلْتَهُ عن نَفْسكَ، وقطَعْتَ سبَبَ ما بينك وبَيْنه. انتهى.
ومعنى السياحة في الأرض: الذَّهَاب فيها مسرحين آمنين كالسَّيْح من الماء، وهو الجاري المنبسطُ قال الضَّحَّاك، وغيره من العلماء: كان من العرب مَنْ لا عَهْدَ بينه وبَيْن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم جملةً، وكان منهم مَنْ بينه وبينهم عهدٌ، وتحُسسَ منهم نَقْضٌ، وكان منهم مَنْ بينه وبينهم عهدٌ ولم ينقضوا، فقوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ هو أَجَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهِ
(١) ذكره ابن عطية (٣/ ٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٧٧)، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ، وابن مردويه.
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (٢/ ٨٩٣).
لِمَنْ كان بينه وبينهم عهد، وتحسَّس منهم نقْضَهُ، وأول هذا الأجَلِ يومُ الأذان، وَآخره انقضاء العَشْر الأُوَل مِنْ رَبيعٍ الآخِرِ، وقوله سبحانه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٥] حُكْمٌ مباينٌ للأوَّل، حَكَمَ به في المشركين الذي لا عَهْدَ لهم ألبتة، فجاء أَجَلُ تأمينهم خمسين يوماً، أوَّلها يومُ الأذانِ، وآخرها انقضاء المُحَرَّم.
وقوله: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ، يريد به الذين لَهُمْ عهدٌ، ولم ينقضوا، ولا تُحُسِّسِ منهم نَقْضٌ، وهم فيما روي بَنُو ضَمْرَةَ من كِنَانَة، كان بَقِيَ مِنْ عهدهم يوم الأذان تسعة أشهر.
وقوله عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، أي: لا تفلتون الله، ولا تعجزونه هربا.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣ الى ٤]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
وقوله: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... الآية: أي: إعلام، ويَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قال عمر وغيره: هو يَوْمُ عَرَفَة «١»، وقال أبو هريرة وجماعة: هو يوم النَّحْر «٢»، وتظاهرتِ الرواياتُ/ أن عليًّا أَذَّنَ بهذه الآياتِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِثْرَ خُطْبة أبي بَكْر، ثم رأَى أَنه لم يعمَّ الناس بالاستماع، فتتبَّعهم بالأذانِ بها يوم النَّحْر «٣»، وفي ذلك اليَوْمِ بَعثَ أبو بَكْرٍ مَنْ يعينه في الأذَانِ بها كَأَبِي هُرَيْرَة «٤» وغيره، وتتَّبعوا بها أيضاً أسْوَاقَ العَرَب، كَذِي المَجَازِ وغيره وهذا هو سبب الخلاف، فقالتْ طائفةٌ: يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَر: عرفَةُ حيث وقع أَوَّلُ الأذان.
وقالتْ أُخْرَى: هو يومُ النَّحْرِ حيث وقع إِكمال الأذَان.
وقال سفيان بن عُيَيْنَة: المراد باليَوْمِ أيامُ الحجِّ كلُّها كما تقول: يَوْمُ صفِّينَ، ويوم
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٣١٠) رقم: (١٦٤٠٠)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥)، والبغوي (٢/ ٢٨٦) رقم:
(٣).
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ٥).
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ٣٠٤) رقم: (١٦٣٧٦)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥).
(٤) أخرجه الطبري (٦/ ٣٠٥- ٣٠٦) برقم: (١٦٣٨٣- ١٦٣٨٤) نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٥).
162
الجَمَلِ ويتجه أن يوصَفُ ب «الأَكبر» علَى جهة المدحِ، لا بالإِضافة إِلَى أصْغِرَ معيَّنٍ، بل يكون المعنى: الأكبر مِنْ سائر الأيام، فتأمَّله.
واختصار ما تحتاجُ إِلَيْهِ هذه الآيةُ على ما ذكَرَ مجاهد وغيره مِنْ صورة تلك الحال:
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم افتتح مكَّة سنةَ ثمانٍ، فاستعمل عليها عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، وقضى أَمْرَ حُنَيْنٍ والطائِفِ، وانصرف إِلى المدينة، فأقام بها حتَّى خرج إِلى تَبُوكَ، ثم انصرفَ مِنْ تَبُوكَ في رَمَضَانَ سَنَةَ تسْعٍ، فأَراد الحَجَّ، ثم نظر في أَنَّ المشرِكِينِ يَحُجُّون في تلْكَ السَّنَة، ويَطُوفون عُرَاةً، فقال: لا أريدُ أنْ أَرَى ذلك، فأمر أبابكر على الحَجِّ بالناس، وأنفَذَهُ، ثم أَتْبَعَهُ عليَّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه علَى ناقتِهِ العَضْبَاءِ، وأمره أنْ يؤذِّن في النَّاس بأربعين آيةً:
صَدْرُ سورةِ «بَرَاءَة»، وقيل: ثَلاَثِينَ، وقيل: عشرين، وفي بعض الروايات: عَشْر آيات، وفي بعضها: تسع آيات، وأمره أن يُؤْذِنَ الناسَ بأربعةِ أشياء، وهي: أَلاَّ يحجَّ بعد العام مُشْرِكٌ، ولا يدخُلَ الجَنَّة إِلا نَفْسٌ مؤمنةٌ، وفي بعض الروايات: ولا يَدْخُلَ الجَنَّةَ كَافرٌ، ولا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ، ومَنْ كان له عنْدَ رَسُولِ اللَّهِ عهْدٌ، فهو إِلى مدَّته، وفي بعض الروايات: ومَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه عَهْدٌ، فأجله أربعةُ أَشهُرٍ يسيحُ فيها، فإِذا انقضت، فإِن اللَّه بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولَهِ.
قال ع «١» : وأقول: إنهم كانوا ينادُونَ بهذا كلِّه، فأربعةُ أشهر للذين لهم عَهْدٌ وتُحُسِّسَ منهم نقضُهُ، والإِبقاء إِلى المدَّة لمن لم يخبر منه نقضٌ، وذكر الطبريُّ أن العرب قالت يومئذٍ: نَحْنُ نَبرأُ مِنْ عهدك، ثم لام بعضُهُمْ بعضاً، وقالوا: ما تَصْنَعُونَ، وقد أسلَمَتْ قريشٌ؟ فأسلموا كلُّهم، ولم يَسِحْ أحد.
قال ع «٢» : وحينئذٍ دخل الناس في دين اللَّه أفواجاً.
وقوله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ أي: ورسولُهُ بريءٌ منهم.
وقوله: فَإِنْ تُبْتُمْ، أي: عن الكُفْر.
وقوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ، هذا هو الاستثناءُ الذي تقدَّم ذكْره، وقرأ عكرمة وغيره: «ينقضوكم» «٣» - بالضاد المعجمة-، ويُظاهِرُوا: معناه: يعاونوا،
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٦). [.....]
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٦).
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٧).
163
والظَّهيرُ: المُعِينُ.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ: تنبيهٌ على أنَّ الوفاء بالعَهْد من التقوَى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥ الى ٧]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)
وقوله سبحانه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ: الانسلاخ: خروجُ الشيء عن الشيء المتلبِّس به كانسلاخ الشاة عن الجِلْدِ، فشبه انصرام الأشهر بذلك.
وقوله سبحانه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ... الآية: قال ابن زَيْد: هذه الآية، وقوله سبحانه: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: ٤] : هما مُحْكَمَتان أي: ليستْ إِحداهما بناسخةٍ للأخرى.
قال ع «١» : هذا هو الصواب.
وقوله: وَخُذُوهُمْ معناه: الأسْر.
وقوله: كُلَّ مَرْصَدٍ: معناه: مواضع الغرَّة حيث يرصدون ونصب «كُلَّ» على الظرف أو بإسقاط الخافض، التقدير: في كلّ مرصد.
وقوله: فَإِنْ تابُوا، أي: عن الكُفْر.
وقوله سبحانه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ، أي: جَلَبَ منك عهداً وجواراً/ يأمن به، حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، يعني القُرْآن، والمعنى: يفهم أحكامه، قال الحسن: وهذه آية محكمة وذلك سُنَّة إِلى يوم القيامة «٢».
وقوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ... الآية: قال ابنُ إسحاق: هي قبائلُ بني بَكْر كانوا دخلوا وقْتَ الحديبية في العهد، فأُمِرَ المسلمون بإِتمام العَهْدِ لمن لم يكُنْ نَقَضَ منهم.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٨).
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ٥).

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨ الى ١١]

كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
وقوله سبحانه: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ... الآية: في الكلام حذْفٌ، تقديره:
كيف يكون لهم عهد ونحوه، وفي «كيف» هنا تأكيدٌ لِلاستبعادِ الذي في الأولى، ولا يَرْقُبُوا معناه: لا يُرَاعُوا، ولا يَحْفَظُوا، وقرأ الجمهور «١» : إِلًّا، وهو اللَّه عزَّ وجلَّ قاله مجاهد، وأبو مِجْلِزٍ، وهو اسمه بالسُّرْيانية «٢»، وعُرِّب، ويجوز أن يراد به العَهْدُ، والعَرَبُ تقول للعهد والحِلْف والجِوَارِ ونحوِ هذه المعاني: «إِلاًّ»، والذّمة أيضا: بمعنى الحلف والجوار ونحوه.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)
وقوله سبحانه: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ... الآية، ويليق هنا ذكْرُ شيء مِنْ حُكْمٍ طعن الذميِّ في الدِّين، والمشهورُ من مذْهَب مالِكٍ: أنه إِذا فعل شيئاً من ذلك مِثْلُ تكذيبِ الشريعة، وسبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قُتِلَ.
وقوله سبحانه: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، أي: رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودُونَ الناس إِليه، وأصوبُ ما يقال في هذه الآية: أنه لا يُعْنَى بها معيَّنٌ وإِنما وَقَعَ الأمر بقتال أئمة الناكثين للعهود من الكَفَرةِ إِلَى يوم القيامة، واقتضت حالُ كفَّار العرب ومحارِبي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَن تكون الإِشارة إِليهم أَولاً، ثم كُلُّ مَنْ دَفَعَ في صدر الشريعة إِلى يوم القيامة فهو بمنزلتهم.
وقرأ الجمهور «٣» :«لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ» (جَمْع يمين)، أي: لا أيمان لهم يُوفَى بها وتُبَرُّ، وهذا المعنَى يشبه الآيةَ، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة: «لا إيمان لهم»، وهذا يحتمل وجهين:
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٠).
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ١٠).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٢)، و «البحر المحيط» (٥/ ١٧).
أحدهما: لا تصديقَ لهم، قال أبو عَليٍّ: وهذا غَيْرُ قويٍّ لأنه تكريرٌ، وذلك أنه وَصَفَ أَئمَّة الكُفْرِ بأنهم لا إِيمان لهم، والوجْه في كَسْر الألفِ أَنَّه مصْدَرٌ من آمَنْتُهُ إِيماناً ومنه قوله تعالى: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: ٤] فالمعنى: أنهم لاَ يُؤَمَّنُونَ كما يُؤَمَّنُ أَهْلُ الذمَّة الكتابيُّون إِذ المشركون ليس لهم إِلا الإِسلام أو السَّيْفَ، قال أبو حاتمْ: فَسَّر الحَسَنُ قراءته: لا إِسلام لهم.
قال ع «١» : والتكريرُ الذي فَرَّ أبو عَلِيٍّ منه متَّجِهٌ، لأنه بيانُ المهمِّ الذي يوجبُ قتلهم.
وقوله عز وجل: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ... الآية «ألا» : عَرْضٌ وتحضيضٌ، قال الحسن: والمراد بِإِخْراجِ الرَّسُولِ: إخراجُه من المدينة، وهذا مستقيمٌ كغزوة أُحُدٍ والأحزاب «٢».
وقال السديُّ: المرادُ مِنْ مَكَّة «٣».
وقوله سبحانه: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قيل: يراد أفعالهم بمكَّة بالنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وبالمؤمنين.
وقال مجاهدٌ: يراد به ما بَدَأَتْ به قريشٌ مِنْ معونة بني بَكْر حلفائِهِمْ، على خزاعة حلفاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فكان هذا بَدْءَ النقْض «٤».
وقال الطبريُّ «٥» : يعني فعْلَهم يَوْمَ بدر.
قال الفَخْر «٦» : قال ابن إِسحاق والسُّدِّيُّ والكَلَبِيُّ: نزلَتْ هذه الآية في كفَّار مَكَّة نكثوا أيمانهم بعد عَهْدِ الحديبية، وأعانوا بني بَكْر عَلَى خُزَاعة «٧». انتهى.
وقوله سبحانه: أَتَخْشَوْنَهُمْ: استفهام على معنى التقرير والتوبيخ، فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، أي: كاملي الإيمان.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٢).
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ١٣).
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ١٣).
(٤) ذكره ابن عطية (٣/ ١٣).
(٥) ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ٣٣١).
(٦) ينظر: «تفسير الرازي» (١٥/ ١٨٧).
(٧) أخرجه الطبري (٦/ ٣٣١) برقم: (١٦٥٥٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ١٣) بنحوه. [.....]
166
وقوله سبحانه: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، قرّرت الآياتُ قبلها أفعالَ الكَفَرة، ثم حضَّ على القتال مقترناً بذنوبهم لتنبعث الحميَّة مع ذلك، ثم جزم الأمْرَ بقتالِهِمْ في هذه الآيةَ مقترناً بوَعْدٍ وكِيدٍ يتضمَّن النصْرَ عَلَيْهِم، والظَّفَرَ بهم.
وقوله سبحانه: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، معناه: بالقتل والأسر، ووَ يُخْزِهِمْ، معناه: يذلَّهم علَى ذنوبهم، يقال: خَزِيَ الرجُلُ يَخْزَى خَزْياً، إِذا ذَلَّ من حيثُ وَقَعَ في عَارٍ، وأَخْزَاهُ غيره، وخزي يخزي خزاية/ إذا استحى، وأما قوله تعالى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، فيحتمل أنْ يريد جماعةَ المؤمنين، لأن كلَّ ما يهدُّ من الكُفْرِ هو شفاءٌ مِنْ هَمِّ صدور المؤمنين، ويحتمل أنْ يريد تخصيصَ قومٍ من المؤمنين، وروي أنهم خُزَاعَةْ قاله مجاهدٌ والسُّدِّيُّ «١»، ووجْه تخصيصهم أنهم الذين نُقِضَ فيهم العهدُ، ونالتهم الحربُ، وكان يومئذٍ في خُزَاعَةَ مؤمنون كثير ويقتضي ذلك قول الخزاعيّ المستنصر بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: [الرجز] ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا وفي آخر الرجز:
وقتّلونا ركّعا وسجّدا «٢»
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٣٣٢) برقم: (١٦٥٥٤- ١٦٥٥٧- ١٦٥٥٨- ١٦٥٥٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ١٣)، والبغوي (٢/ ٢٧٣) رقم: (١٤)، وابن كثير (٢/ ٣٣٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٨٩)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(٢) والأبيات:
يا ربّ إنّي ناشد محمّدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
كنت لنا أبا وكنّا ولدا ثمّت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا عبدا وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجرّدا أبيض مثل الشّمس ينمو صعدا
إن سيم خسفا وجهه تربّدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكّدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا وهم أذلّ وأقلّ عددا
هم بيّتونا بالحطيم هجّدا وقتلونا ركّعا وسجّدا
ذكر السيوطي في هذه الأبيات (٣/ ٢١٥) نقلا عن ابن إسحاق والبيهقي في «الدلائل»، وانظر القرطبي (٨/ ٤٣)، و «روح المعاني» (١٠/ ٤٤)، و «البحر المحيط» (٥/ ٧)، والواحدي في «الوسيط» (٢/ ٤٨١- ٤٨٢)، وذكره الهيثمي في «المجمع» (٤/ ١٦١)، وعزاه لأبي يعلى، وينظر: «الاستيعاب» لابن عبد البر (٣/ ١١٧٥).
167
وقرأ جمهور الناس: و «يَتُوبُ» «١» - بالرفع-، على القطْع مما قبله، والمعنَى أن الآية استأنفت الخبر بأنه قد يَتُوبُ على بعض هؤلاء الكَفَرة الذين أَمَرَ بقتالهم.
وعبارةُ ص: و «يَتُوب»، الجمهورُ بالرّفْعِ على الاستئناف، وليس بداخلٍ في جوابِ الأمر لأن توبته سبحانه على مَنْ يشاء لَيْسَتْ جزاءً على قتال الكُفَّار. انتهى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٦ الى ١٨]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
وقوله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ...
الآية: خطابٌ للمؤمنين كقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ... الآية [آل عمران:
١٤٢] ومعنى الآية: أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحانٍ، والمراد بقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ، أي: لم يعلم اللَّه ذلك موْجُوداً كما عَلِمَهُ أَزلاً بشرط الوجود، وليس يَحْدُثُ له علم تبارك وتعالى عن ذلك، ووَلِيجَةً: معناه: بِطَانَة ودَخِيلة، وهو مأخوذ من الوُلُوج، فالمعنى: أَمْراً باطناً مما يُنْكَر، وفي الآيةِ طَعْنٌ على المنافقين الذين اتخذوا الوَلاَئِجَ، قال الفَخْر «٢» : قال أبو عُبَيْدَة: كلّ شيءٍ أدخلْتَه في شيءٍ ليس منه، فهو وَلِيجةٌ، وأصله من الوُلُوج، قال الواحديُّ يقال: هو وَلِيجَةٌ، للواحدِ والجمع. انتهى.
وقوله سبحانه: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ، إِلى قوله: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ... الآية، لفظ هذه الآية الخَبَرُ، وفي ضمنها أمر المُؤمنين بِعَمارة المساجد، وروي أبو سعيدٍ الخدريّ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسَاجِدَ، فاشهدوا له بالإيمان» «٣».
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٤)، و «البحر المحيط» (٥/ ١٩)، و «الدر المصون» (٣/ ٤٥٢).
(٢) ينظر: «تفسير الرازي» (١٦/ ٦).
(٣) أخرجه الترمذي (٥/ ١٢) كتاب «الإيمان» باب: ما جاء في حرمة الصلاة، حديث (٢٦١٧)، وفي (٥/ ٢٧٧) كتاب «التفسير» باب: «ومن سورة التوبة»، حديث (٣٠٩٣)، وابن ماجه (١/ ٢٦٣) كتاب «المساجد» باب: لزوم المساجد وانتظار الصلاة، حديث: (٨٠٢)، وأحمد (٣/ ٦٨)، والدارمي (١/ ٢٧٨) كتاب «الصلاة» باب: المحافظة على الصلوات، وابن خزيمة (٢/ ٣٧٩) رقم: (١٥٠٢)، وابن حبان (١٧٢١)، والحاكم (٢/ ٣٣٢)، والبيهقي (٣/ ٦٦) كتاب «الصلاة» باب: فضل المساجد،
ت: زاد ابن الخَطِيبِ في روايته: «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. انتهى من ترجمة محمَّد بنِ عبدِ اللَّهِ، وفي الحديثِ عنه صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِمَنْ كَانَتْ المَسَاجِدُ بَيْتَهُ الأَمْنَ، والأَمَانَ، وَالجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ القِيَامَةِ» خَرَّجه عليُّ بن عبد العزيز البَغَوِّيُّ في «المُسْنَد المُنْتَخَب» له، وروى البغويُّ أيضا في هذا «المسند»، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَوْطَنَ الرَّجُلُ المَسَاجِدَ بِالصَّلاَةِ، وَالذِّكْرِ، تَبَشْبَش اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الغَائِبِ لِغَائِبِهمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ». انتهى من «الكَوْكَب الدُّرِّيِّ»، قيل: ومعنى «يَتَبَشْبَشُ» : أي يفرح به.
وقوله سبحانه: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ، يريد: خشيةَ التعظيمِ والعبادةِ، وهذه مرتبةُ العَدْل من الناس، ولا محالة أَنَّ الإِنسان يخشَى غيره، ويخشَى المحاذيرَ الدنيويَّة، وينبغي أن يخشَى في ذلك كلّه قضاء الله وتصريفه.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
وقوله سبحانه: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ... الآية: سِقايَةَ الْحاجِّ: كانَتْ في بني هَاشِمٍ، وكان العبَّاس يتولاَّها، قال الحسن: ولما نزلَتْ هذه الآيةُ، قال العبَّاس: ما أَراني إلاَّ أتركُ السقاية، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أُقِيمُوا عَلَيْهَا فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ» «١» وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: قيلَ: هي حِفْظه ممَّن يظلم فيه، أو يقول هُجْراً، وكان ذلك إِلى العبَّاس، وقيل:
هي السّدَانَة «٢» وَخِدْمَةِ البَيْت خَاصَّة، وكان ذلك في بني عَبْد الدَّار، وكان يتولاَّها عثمانُ بنُ طَلْحَة، وابنُ عمه شَيْبَةُ، وأقرَّها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لهما ثَانِيَ يَوْمِ الفتحِ، وقال: «خُذَاهَا خَالِدَةً تالدة
وأبو نعيم في «الحلية» (٨/ ٣٢٧) كلهم من طريق عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري به.
وقال الترمذي: حديث غريب حسن. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي. وأخرجه أحمد (٣/ ٧٦)، وعبد بن حميد في «المنتخب» ص: (٢٨٩) رقم: (٩٢٣)، عن الحسن بن موسى، ثنا ابن لهيعة عن دراج به.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٩١)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٩٦)، وعزاه لأبي الشيخ عن الحسن.
(٢) سدانة الكعبة: خدمتها، وتولي أمرها، وفتح بابها وإغلاقه. ينظر: «النهاية» (٢/ ٣٥٥).
لاَ يُنَازِعُكُمُوهَا إِلاَّ ظَالِمٌ».
واختلف الناس في سبب نزولِ هذه الآية، فقال مجاهدٌ: أُمرُوا بالهجرة، فقال العبَّاس: أنا أسقي الحاجَّ، وقال عثمانُ بن طلحة: أنا حاجبُ الكَعْبَة، وقال محمدُ بنُ كَعْب: إِن العبَّاس وعليًّا وعثمان بن طلحة تَفَاخَرُوا فنزلَتِ الآية، وقيل غير هذا.
وقوله سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ... الآية: لما حكم سبحانه في الآية المتقدِّمة بأن الصِّنفين لا يستوون، بيَّن ذلك في هذه الآية الأخيرة، وأوضحه، فعدَّد الإِيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفْس، وحَكَم عَلَى أنَّ أهل هذه الخصالِ أَعظمُ درجةً عند اللَّه مِنْ جميع الخَلْقِ، ثم حَكَمَ لهم بالفَوْزِ بِرَحْمَتِهِ ورضْوانه، والفَوْزُ: بلوغُ البُغْيَةْ، إمَّا في نيل رَغِيبَة، أو نجاةٍ من هَلَكَة، ويَنْظُرُ إِلى معنَى هذه الآية الحديثُ: «دَعُوا لي أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نِصِيفَهُ» «١» ولأن أصحاب هذه الخِصَال علَى سيوفهم انبنى الإِسلام، وتمهَّد الشرْعُ.
وقوله سبحانه: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ، هذا وعْدٌ كريمٌ مِنْ ربٍّ رحيمٍ، وفي الحديث الصحيح: «إِذَا استقر أَهْلُ الجَنَّةِ في الجَنَّة، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ:
هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَكَيْفَ لا نرضى، يا ربنا؟ فيقول: إني سأعطيكم أَفْضَلَ مِنْ ذَلِك! رِضْوَانِي أَرْضَى عَلَيْكُمْ فَلاَ أسخط عليكم أبدا... »
«٢» الحديث.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
(١) ورد ذلك من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وأنس بن مالك:
فأمّا حديث أبي سعيد، فرواه البخاري (٢٥١٧) في «فضائل الصحابة» باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذا خليلا» (٣٦٧٣)، ومسلم (٤/ ١٩٦٧) في «فضائل الصحابة» باب: تحريم سب الصحابة (٢٢٢/ ٢٥٤١)، وأبو داود (٢/ ٦٢٦) في «السنة» باب: في النهي عن سب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (٤٦٥٨)، والترمذي (٥/ ٦٥٣) في المناقب (٣٨٦١)، وأحمد (٣/ ١١، ٥٤، ٦٣)، وابن أبي عاصم في «السنة» (٢/ ٤٧٨- ٤٧٩) (٩٩٠- ٩٩١)، والبيهقي (١٠/ ٢٠٩) والخطيب في «التاريخ» (٧/ ١٤٤) عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأما حديث أبي هريرة، فرواه مسلم (٢٢١- ٢٥٤٠)، وابن ماجه (١/ ٥٧) في «المقدمة» باب: فضل أهل بدر (١٦١) عن الأعمش، عن أبي صالح عنه مرفوعا به.
وأما حديث أنس فرواه أحمد (٣/ ٢٦٦).
(٢) تقدم تخريجه.
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، ظاهر هذه المخاطبة: أنها لجميع المؤمنين كافَّة، وهي باقيةُ الحُكْمِ إلى يوم القيامة، وروتْ فرقة أنها نزلَتْ في الحَضِّ على الهجرة، ورفضِ بلادِ الكفر.
وقوله سبحانه: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ...
الآية: هذه الآيةُ تقوِّي مذهب مَنْ رأى أن هذه الآية والَّتي قبلها إنما مقصودُهُما الحَضِّ على الهجْرة، وفي ضمْن قوله: فَتَرَبَّصُوا: وعيدٌ بيِّن.
وقوله: بِأَمْرِهِ، قال الحَسَنُ: الإشارة إلى عذابٍ أو عقوبةٍ من الله تعالى «١».
وقال مجاهدٌ: الإِشارة إِلى فتح مكَّة «٢»، وذكر الأَبناء في هذه الآية دون التي قَبْلَها، لما جلبتْ ذِكرهم المَحَبَّة، والأبناء: صَدْرٌ في المحبة وليسوا كذلك، في أن تتبع آراؤهم كما في الآية المتقدمة، واقترفتموها: معناه: اكتسبتموها، ومساكِنُ: جَمْعُ مَسْكَنٍ- بفتح الكاف: ، مَفْعَلٌ من السُّكْنَى، وما كان من هذا معتلَّ الفاءِ، فإِنما يأتي على مَفْعِلٍ (بكسر العين) كموعد وموطن.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
وقوله سبحانه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، هذه مخاطبةٌ لجميع المؤمنين يعدِّد الله تعالى نِعَمَهُ عليهم، والمواطِنُ المُشَارُ إلَيْها بَدْرٌ والخَنْدَق والنَّضير وقُرَيْظة وخَيْبَر وغيرها، وحُنَيْنٌ وادٍ بين مكَّة والطائِف.
وقوله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال حين رأى جملته اثني عشر
(١) ذكره ابن عطية (٣/ ١٨).
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٣٣٩) برقم: (١٦٥٨٤)، وذكره ابن عطية (٣/ ١٨)، والبغوي (٢/ ٢٧٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٠٣)، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
171
أَلْفاً: «لَنْ تُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ» «١»، وروي أَنَّ رجلاً من أصحابه قالها فأَراد الله تعالى إظهار العجز فظهر حين فَرَّ الناسُ.
ت: العجب جائزٌ في حقِّ غير النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو معصوم منه صلّى الله عليه وسلّم، والصوابُ في فَهْمِ الحديث، أَنه خَرَجَ مَخْرَجَ الإِخبار، لا على وجه العُجْب وعلى هذا فَهِمُه ابنُ رُشْدٍ وغيره، وأَنه إِذا بلغَ عَدَدُ المسلمين اثني عشر ألفاً حُرِمَ الفِرَارُ، وإن زاد عددُ المُشْرِكين على الضِّعْف وعليه عَوَّلَ في الفتوى، وقوله تعالى: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، معناه: بِرُحْبها كأنه قال: عَلَى ما هي عليه في نَفْسها رَحْبةً واسعة، لشدّة الحال وصعوبتها ف «ما» : مصدرية.
وقوله سبحانه: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، أي: فرارا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واختصار هذه القصّة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا فتح مكّة، وكان في عشرة آلاف منْ أصحابه، وانضاف إِليهم ألفانِ من الطُّلَقَاءِ، فصار في اثني عشر ألفا، سمع بذلك كفَّار العرب، فشَقَّ عليهمِ، فجمعتْ له هوازنُ وألفافها، وعليهم مَالِكُ بن عوفٍ النصريُّ، وثقيفٌ، وعليهم عبْد يَالِيلَ بْنُ عَمْرُو/ وانضاف إِليهم أَخلاطٌ مِنَ الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا، فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين اجتمعوا بحُنَيْنٍ، فلما تصافَّ الناسُ، حمل المشركون من مَحَانِي الوادِي، وانهزم المُسْلِمون، قال قتادة: وكان يقال: إِن الطلقاء مِنْ أَهْل مكَّةَ فرُّوا، وقصدوا إِلقَاءَ الهَزيمة في المُسْلمين «٢»، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَلَى بغلته البَيْضَاء قد اكَتَنَفَهُ العَبَّاس عمُّه، وابنُ عَمِّه أبو سفيانَ بْنُ الحارثِ بنِ عبد المُطَّلبِ، وبَيْنَ يدَيْهِ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أيمن، وثمّ قتل رحمه الله والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ:
أَنَا النَّبيُّ لاَ كَذِبْ أَنا ابن عبد المطّلب
فلما رأى نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم شدَّةَ الحالِ، نَزَلَ عن بَغْلَتِهِ إِلى الأرض قاله البَرَاءُ بنُ عازب «٣»، واستنصر اللَّه عَزَّ وجلَّ، فأَخَذَ قبضةً مِنْ ترابٍ وحصًى، فرمَى بها في وُجُوه الكُفَّار، وقال: «شَاهَت الوُجُوه»، ونادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأنصارِ، وأمَرَ العبَّاسَ أنْ ينادِيَ:
«أَيْنَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ؟ أَيْنَ أَصْحَابُ سُورَةِ البَقَرةِ؟» فَرَجَعَ النّاسُ عَنَقاً واحداً للحَرْبِ، وتصافحوا بالسُّيوفِ والطَّعْنِ والضرب، وهناك قال عليه السلام: «الآنَ حَمِيَ الوَطِيسُ» «٤»
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٠٤)، وعزاه للبيهقي في «دلائل النبوة».
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٣٤٠) برقم: (١٦٥٨٨) نحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ١٩). [.....]
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ٣٤٣) برقم: (١٦٥٩٥) وذكره ابن عطية (٣/ ١٩).
(٤) تقدم في: سورة الأنفال.
172
وهزم اللَّهُ المشركين، وأَعْلَى كلمةَ الإِسلام إِلى يَوْمِ الدينِ، قال يَعْلَى بن عطاءٍ: فحدَّثني أبناءُ المنهزمين عَنْ آبائهم، قالوا: لم يَبْقَ منَّا أحَدٌ إِلا دخَلَ عينيه مِنْ ذلك التُّرَابِ واستيعابُ هذه القصة في كتب «السِّيَر».
ومُدْبِرِينَ: نصب على الحال المؤكِّدة كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة:
٩١]، والمؤكِّدة هي التي يدلُّ ما قبلها عليها كدلالة التولِّي على الإِدبار.
وقوله سبحانه: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ... الآية: السكينةُ: النَّصْر الذي سَكَنَتْ إِليه ومعه النفُوسُ، والجنودُ: الملائكةُ، والرُّعْبُ قال أبو حاجز يزيدُ بنُ عامرٍ: كان في أجوافنا مثلُ ضَرْبَةِ الحَجَرِ في الطَّسْتِ من الرُّعْبِ، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أيْ: بالقتل والأسْرِ، وروَى أبو داود، عن سهل بن الحَنْظَلِيَّة «١» أنهم سَارُوا مَعَ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ حُنَيْنٍ، فأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عشِيَّةً، فحضرت الصّلاة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي انطلقت بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حتى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِم بظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ، وشِيَاهِهِمْ، اجتمعوا إِلَى حُنَيْنٍ، فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال:
«تلك غنيمة المسلين غَداً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ » الحديثَ. انتهى «٢»، فكانوا كذلك غنيمة بحمد الله، كما أخبر صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)
(١) هو: سهل بن الربيع بن عمرو بن عدي بن زيد، الأوسي، الأنصاري.
قال ابن الأثير في «الأسد» : كان ممن بايع تحت الشجرة، وكان فاضلا معتزلا عن الناس، كثير الصلاة والذكر، كان لا يزال يصلي مهما هو في المسجد، فإذا انصرف لا يزال ذاكرا، روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وروى عنه أبو كبشة.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٢/ ٤٦٩)، «الإصابة» (٣/ ١٣٨)، «الثقات» (٣/ ١٧٠)، «نقعة الصديان» (١٩٢)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٢٤٣)، «الاستيعاب» (٢/ ٦٦٢)، «بقي بن مخلد» (٣٩١)، «تقريب التهذيب» (١/ ٣٣٦)، «تهذيب التهذيب» (٤/ ٢٥١)، «تهذيب الكمال» (١/ ٥٥٤)، «الجرح والتعديل» (٤/ ت ٨٤١)، «التاريخ الكبير»، (٤/ ٩٨)، «الطبقات الكبرى» (٨/ ٣٢٨).
(٢) أخرجه أبو داود (٢/ ١٢- ١٣) كتاب «الجهاد» باب: في فضل الحرس في سبيل الله عز وجل، حديث (٢٥٠١)، والحاكم (٢/ ٨٣- ٨٤)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥/ ١٢٥- ١٢٦)، والطبراني في «الكبير» (٦/ ٩٦)، رقم: (٥٦١٩) من حديث سهل بن الحنظلية.
173
وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، قال ابن عباس وغيره:
معنى الشِّرْكَ هو الذي نَجَّسهم كنجاسة الخَمْر «١»، ونصَّ اللَّه سبحانه في هذه الآية على المُشْرِكِينَ، وعلى المَسْجِد الحرام، فقاسَ مالكٌ رحمه اللَّه وغيره جَميعَ الكُفَّار من أهْلِ الكتاب وغيرهم على المشركين، وقَاسَ سائرَ المساجِدِ على المَسْجِدِ الحرامِ، وَمَنَعَ مِنْ دخولِ الجميعِ في جميعِ المساجدِ، وقوَّةُ قوله سبحانه: فَلا يَقْرَبُوا يقتضي أمْرَ المسلمين بمَنْعهم.
وقوله: بَعْدَ عامِهِمْ هذا، يريد: بعد عامِ تِسْعٍ من الهجرة، وهو عَامُ حَجَّ أبو بَكْرٍ بالنَّاس.
وقوله سبحانه: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً، أي: فقْراً، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وكان المسلمون، لَمَّا مُنِعَ المشركون من المَوْسِم، وهم كانوا يجلبون الأطعمةَ والتجاراتِ، قَذَفَ الشيطان في نفوسهم الخَوْفَ من الفَقْر، وقالوا: مِنْ أيْنَ نعيش؟ فوعَدَهم اللَّه سبحانه بأنْ يغنيهم مِنْ فَضْله، فكان الأمر كما وعد اللَّه سبحانه، فأسلَمَتِ العربُ، فتمادَى حجُّهم وتَجْرُهم، وأغنى اللَّه من فضله بالجهادِ والظهورِ على الأُمَمِ.
وقوله سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ/... الآية: هذه الآيةُ تضمَّنت قتالَ أهْلَ الكتاب، قال مجاهد: وعند نزول هذه الآية أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غَزْوَ الرُّومِ، ومشَى نحو تَبُوكَ، ونفَى سبحانه عن أَهل الكتاب الإِيمان باللَّه واليوم الآخر حيث تركوا شَرْعَ الإِسلام وأَيضاً فكانَتِ اعتقاداتهم غيْرَ مستقيمةٍ، لأنهم تشعّبوا، وقالوا عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ، واللَّهُ ثالِثُ ثلاثةٍ، وغَيْرَ ذلك ولهم أيضاً في البعث آراءٌ فاسدةٌ كشراءِ منازِلِ الجنَّة من الرُّهْبَانِ إِلى غير ذلك من الهَذَيان، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، أي: لا يطيعون، ولا يمتثلون ومنْه قولُ عائشة: «مَا عَقَلْتُ أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ»، والدِّينُ هنا: الشريعةُ، قال ابن القاسِمِ وأشْهَبُ وسَحْنُون: وتؤخذ الجزيةُ منْ مجوس العربِ والأمم كلِّها، وأما عَبَدة الأَوثان والنِّيران وغيرِ ذلك، فجمهور العلماء على قبولِ الجزيةِ منهم، وهو قولُ مالكٍ في «المدوَّنة».
وقال الشافعيُّ وأبو ثور: لا تؤخذ الجزيةُ إِلا مِنَ اليهودِ والنصارَى والمجوسِ فقطْ، وأما قَدْرها في مذْهَب مالك وغيره، فأربعةُ دنَانِير عَلَى أهْلِ الذَّهَبِ، وأربعون درْهماً عَلَى أَهْل الفضَّة، وهذا في العَنْوة، وأما الصُّلْح، فهو ما صالحوا عَلَيْه، قليلٌ أو كثيرٌ.
وقوله: عَنْ يَدٍ يحتمل وجوها:
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٣٤٥) بنحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٢٠).
174
منها: أنْ يريد عن قُوَّة منكم عليهم، وقَهْرٍ، واليدُ في كلام العرب: القُوَّة.
ومنها: أَنْ يريد سَوْقَ الذِّميِّ لها بِيَدِهِ، لا أنْ يبعثها معَ رَسُولٍ ليكون في ذلك إِذلالٌ لهم.
ومنها: أنْ يريد نَقْدَهَا ناجزاً، تقول: بِعْتُهُ يَداً بِيَدٍ، أي: لا يؤخِّروا بها.
ومنها: أنْ يريد عن استسلام، يقال: ألقى فلان بيده، إذا عجز واستسلم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
وقوله سبحانه: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ: الذي كثر في كُتُب أهْل العلم أنَّ فرقةً من اليهود قالَتْ هذه المقالة وروي أنه قالها نَفَرٌ يسير منهم فِنحْاص وغيره، قال النَّقَّاش: ولم يبق الآن يهودي يقولها، بل انقرضوا.
قال ع «١» : فإِذا قالها ولو واحدٌ من رُؤسَائهم، توجَّهت شنعة المقالة علَى جماعتهم، وحكَى الطبريُّ وغيره أن بني إِسرائيل أصابتهم فتن وجلاء، وقيل: مَرَض، وأذهب اللَّه عنهم التَّوْراة في ذلك، ونَسُوها، وكان علماؤهم قد دَفَنُوها أول ما أحسُّوا بذلك البلاء، فلما طالَتْ المدة، فُقِدَت التوراة جملةً، فحفَّظها اللَّهُ عُزَيْراً كرامةً منه له، فقال لبني إِسرائيل: إِن اللَّهَ قد حفَّظني التوراةَ، فجعلوا يَدْرُسُونها من عنْده، ثم إِن التوراة المدْفُونَة وجدت، فإذا هي مساوية لما كان عزيز يدرِّس، فضَلُّوا عند ذلك، وقالوا: إِن هذا لم يتهيّأ لعزيز إِلاَ وهو ابن اللَّه، نعوذُ باللَّه من الضَّلال.
وقوله: بِأَفْواهِهِمْ، أي: بمجرَّد الدعوَى من غير حجّة ولا برهان، ويُضاهِؤُنَ، قراءةُ الجماعة «٢»، ومعناه: يحاكُون ويماثلون، والإشارة بقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ:
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٢٣).
(٢) وقرأ عاصم وحده من «السبعة» «يضاهئون»، وكذلك طلحة بن مصرف. وهي من «ضاهأ» بمعنى «ضاهى»، وهي لغة ثقيف. ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٢٥)، و «العنوان في القراءات السبع» (١٠٢)، و «الحجة» (٤/ ١٨٦)، و «السبعة» (٣١٤)، و «معاني القراءات» (١/ ٤٥١).
175
إِما لمشركي العرب إِذ قالوا: الملائكة بناتُ اللَّهِ قاله الضَّحَّاك، وإِما لأممٍ سالفةٍ قبلها، وإِما للصَّدْر الأول من كَفَرة اليهودِ والنَصَارَى، ويكون يُضاهِؤُنَ لمعاصري النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان الضمير في يُضاهِؤُنَ للنصارَى فقطْ، كانت الإِشارة ب الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ إلى اليهود وعلى هذا فسَّر الطبريُّ، وحكاه غيره عن قتادة «١».
وقوله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ: دعاءٌ عليهم عامٌّ لأنواع الشَّر، وعن ابن عباس أن المعنَى:
لعنهم اللَّه «٢». قال الداوديّ: وعن ابن عباس قاتلهم اللَّه: لعنهم اللَّه، وكلُّ شيء في القُرآن: قَتَلَ، فهو لَعْن. انتهى. وأَنَّى يُؤْفَكُونَ، أَي: يُصْرَفُون عن الخَيْر.
وقوله سبحانه: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ... الآية: هذه الآية يفسِّرها ما حكاه الطَّبريُّ «٣» أن عدي بن حاتم قال: «جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي عُنُقي صَلِيبُ ذَهَب، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ/ اطرح هَذَا الصَّلِيبَ مِنْ عُنُقِكَ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وكَيْفَ ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَمْ نَعْبُدْهُمْ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ تَسْتَحِلُّونَ مَا أَحَلُّوا وَتُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمُوا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَذَلِكَ «٤» ».
ومعنى: سُبْحانَهُ تنزيها له، ونُورَ اللَّهِ في هذه الآية: هُدَاه الصادرُ عن القرآن والشَّرْع.
وقوله: بِأَفْواهِهِمْ عبارةٌ عن قلَّةِ حيلتهم وضَعْفها.
وقوله: بِالْهُدى: يعم القرآن وجميعَ الشَّرْع.
وقوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وقد فعل ذلك سبحانه، فالضمير في لِيُظْهِرَهُ:
عائدٌ على الدِّين، وقيل: على الرسول، وهذا وإِنْ كان صحيحاً، فالتأويل الأول أبْرَعُ منه، وأَلْيَقُ بنظام الآية.
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٣٥٢) برقم: (١٦٦٣٩) نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٢٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤١٥)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٣٥٣) برقم: (١٦٦٤٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٢٥)، وابن كثير (٢/ ٣٤٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤١٥)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ٣٥٤).
(٤) أخرجه الترمذي (٥/ ٢٧٨) كتاب «التفسير» باب: «ومن سورة التوبة»، حديث (٣٠٩٥) من طريق عبد السلام بن حرب، عن غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم به.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث.
176

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، المراد بهذه الآية: بيانُ نقائصِ المذكورين، ونَهْيُ المؤمنين عن تلك النقائصِ مترتِّب ضِمْنَ ذلك، واللام في لَيَأْكُلُونَ: لامُ التوكيدِ، وصورةُ هذا الأكْلِ هي بأنهم يأخذونَ من أموال أتباعهم ضرائِبَ وفُرُوضاً باسم الكنائسِ والبِيَعِ وغَيْرِ ذلك ممَّا يوهمونهم أنَّ النفقة فيه مِنَ الشَّرْعَ والتَقرُّب إِلى اللَّهَ، وهم خلاَلَ ذلك يحتجنون تلك الأموالَ، كالذي ذكره سلمان في كتاب «السير»، عن الراهِبِ الذي استخرج كَنْزَهُ.
وقوله سبحانه: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أي: عن شريعة الإِسلام والإيمان بنبيِّنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ ابتداءٌ، وخبره فَبَشِّرْهُمْ والذي يظهر من ألفاظ الآية:
أنه لما ذَكَر نَقْصَ الأحبار والرهبانِ الآكلين للمَالِ بالباطل، ذَكَرَ بعد ذلك بقَوْلٍ عامٍّ نَقْصَ الكانزين المانعين حقَّ المال، وقرأ طلحةُ بْنُ مُصَرِّف: «الَّذِينَ يَكْنِزُونَ» «١» بغير واو، وعلى هذه القراءة يجري قولُ معاوِيَةَ: أنَّ الآية في أهْل الكتَاب، وخالفه أبو ذَرٍّ، فقال: بل هِيَ فينا.
ويَكْنِزُونَ: معناه: يجمعون ويحفظون في الأَوعية، وليس مِنْ شرط الكَنْز:
الدفْنُ، والتوعُّد في الكنز، إِنما وقع عَلَى منع الحقوق منه، وعلى هذا كثيرٌ من العلماء، وقال عليٌّ رضي اللَّه عنه: أربعةُ آلاف دِرْهَمٍ فما دُونَهَا نفقةٌ، وما زاد علَيْهَا فهو كَنْز، وإِن أَدَّيْتُ زَكَاتَهُ.
وقال أبو ذَرٍّ وجماعةٌ معه: ما فَضَلَ مِنْ مالِ الرَّجُل على حاجةِ نَفْسِه، فهو كَنْز، وهذان القولان يقتضيان أنَّ الذمَّ في حبس المال، لا في منع زكاته فقطْ.
ت: وحدَّث أبو بَكْرِ بْنُ الخَطِيبِ بسنده، عن عليِّ بن أبي طالب، وابنِ عمر، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ للفُقَرَاءِ في أموال الأغنياء قدر ما يسعهم، فإن
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٢٧)، و «البحر المحيط» (٥/ ٣٨)، و «الدر المصون» (٣/ ٤٦٠).
مَنَعُوهُمْ حَتَّى يَجُوعُوا وَيَعْرَوْا وَيَجْهَدُوا، حَاسَبَهُمُ اللَّهُ حِسَاباً شَدِيداً، وعَذَّبَهُمْ عَذَاباً نُكْراً» انتهى «١».
وقوله سبحانه: فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ... الآية: قال ابنُ مَسْعود: واللَّه، لاَ يَمَسُّ دينارٌ ديناراً، بل يُمَدُّ الجلدُ حتى يكوَى بكلِّ دينار، وبكلِّ درهم «٢» قال الفخر «٣» : قال أبو بكر الوَرَّاقُ: وخُصَّتْ هذه المواضعُ بالذكْرِ لأن صاحِب المال، إِذا رأى الفقيرَ، قَبَضَ جبينه، وإِذا جلَس إِلى جَنْبه، تباعد عَنْه، وولاَّه ظَهْره. انتهى.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٦]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)
وقوله سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ، هذه الآيةُ والتي بعدها تتضمَّن ما كانت العربُ عليه في جاهليَّتها من تحريم شُهُورِ الحلِّ، وتحليلِ شهورِ الحُرْمَةَ، وإِذا نصَّ ما كانت العرب تفعله، تبيَّن معنى الآيات، فالذي تظاهرَتْ به الرواياتُ، ويتخلَّص من مجموع ما ذَكَره النَّاسُ: أن العرب كانَتْ لا عَيْشَ لأكْثَرها إِلا من الغارات وإِعمالِ سِلاَحِها، فكانوا إِذا توالَتْ عليهم حُرْمَةُ الأشهر الحُرُمِ، صَعُبَ عليهم، وأَمْلقوا «٤» / وكان بنو فُقَيْمٍ من كِنانة أهْلَ دينٍ في العرب، وتَمَسُّكٍ بشرعِ إبراهيمَ عليه السلام، فانتدب منهم القلمس، وهو حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ فُقَيْمٍ، فنَسِيَ الشهورَ للعربِ، ثم خَلَفَهُ عَلَى ذلك بنوه، وذكر الطبريُّ وغيره أن الأمر كان في عدوانٍ قبل بني مالكِ بن كنانةً، وكانتْ صورة فعلهم: أن العرب كانَتْ إِذا فرغَتْ من حَجِّها، جاء إِليه مَنْ شاء منهم مجتمعين، فقالوا: أَنْسَانَا شَهْراً، أيْ: أخّرْ عنا حرمةَ المُحَرَّم، فاجعلها في صَفَرٍ، فيحلُّ لهم المُحَرَّمَ، فيغيرون فيه، ثم يلتزمُونَ حُرْمَةَ صَفَرٍ ليوافقوا عدَّة الأشهرِ الحُرُمِ الأربعة قال مجاهد: ويسمُّون ذلك الصَّفَرَ المُحرَّم، ثم يسمعون ربيعاً الأوَّل صفراً وربيعاً الآخِرَ ربيعاً الأَوَّل، وهكذا في سائِرِ الشهورِ، وتجيء السنةُ مِنْ ثلاثة عشر شهرا أولها: المحرّم
(١) أخرجه الخطيب في «تاريخه» (٥/ ٣٠٨) عن علي وذكره الهندي في «كنز العمال» (١٥٨٢٣) وقال: وفيه محمد بن سعيد البورقي، كذاب يضع.
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٣٦٣، ٣٦٤) برقم: (١٦٦٩٧- ١٦٦٩٨) نحوه، وابن عطية (٣/ ٢٩)، والبغوي (٢/ ٢٨٩) نحوه، وابن كثير (٢/ ٣٥٢) نحوه. [.....]
(٣) ينظر: «تفسير الرازي» (١٦/ ٣٩).
(٤) يعني: افتقروا، وضربهم الإملاق، وهو الافتقار. ينظر: «لسان العرب» (٥/ ٤٢٦).
178
المُحَلَّل، ثم المحرَّم الذي هو في الحقيقة صَفَرٌ «١»، وفي هذا قال اللَّهُ عزَّ وجَلَّ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً، أيْ: ليستْ ثلاثةَ عَشَرَ، ثم كانَتْ حِجَّةُ أبي بَكْرٍ في ذي القَعْدة حقيقةً، وهم يسمُّونه ذَا الحِجَّة، ثم حَجَّ رسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم سَنَةَ عَشْرٍ في ذي الحِجَّة حقيقةً، فذلك قوله عليه السلام: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ استدار كَهَيْئتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السموات وَالأَرْضِ السَّنَةُ اثنا عَشَرَ شَهْراً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّة، والمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان» «٢».
وقوله في كِتابِ اللَّهِ، أَيْ: فيما كتبه، وأثبته في اللَّوْحِ المحفوظ، أو غيرِهِ، فهي صفةُ فِعْلٍ مثل خَلْقِهِ وَرِزْقِهِ، وليستْ بمعنى قضاءه وتقديره لأن تلكَ هي قَبْلَ خلْق السموات والأرض.
وقوله سبحانه: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: نصٌّ على تفضيلِ هذه الأربعة وتشريفها، قال قتادة: «اصطفى اللَّه مِنَ الملائكةِ والبَشَرِ رُسُلاً، ومِنَ الشَهور المُحَرَّمَ ورمَضَانَ، ومِنَ البُقَعِ المساجَدِ، ومِنَ الأيام الجمعةَ، ومِنَ الليالِي ليلةَ القَدْرِ، ومِنَ الكلام ذِكْرُهُ، فينبغي أَنْ يعظَّم ما عَظَّمُ اللَّه» «٣».
وقوله سبحانه: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، قالتْ فرقة: معناه: الحسابُ المُسْتَقيم، وقال ابن عباس، فيما حكى المَهْدَوِيُّ: معناه: القضاء المستقيم.
(١) ذكره ابن عطية (٣/ ٣٠).
(٢) أخرجه البخاري (٦/ ٣٣٨) في بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين (٣١٩٧)، و (٧/ ٧١١) في «المغازي» باب: حجة الوداع (٤٤٠٦)، و (٨/ ١٧٥) في «التفسير» باب: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً (٤٦٦٢)، و (١٠/ ١٠) في الأضاحي باب: من قال: الأضحى يوم النحر (٥٥٥٠)، و (١٣/ ٤٣٣) في التوحيد، باب: قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، (٧٤٤٧)، ومسلم (٣/ ١٣٠٥)، في القسامة باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (٢٩/ ١٦٧٩)، وأبو داود (١/ ٥٩٩) في: المناسك، باب: الأشهر الحرم (١٩٤٨)، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن ابن أبي بكرة به.
وأخرجه أبو داود برقم: (١٩٤٧)، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي بكرة به، بدون ذكر ابن أبي بكرة، وقال أبو داود: وسماه ابن عون فقال: عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة في هذا الحديث.
ويشهد له حديث أبي هريرة عند البزار (١١٤٢) - «كشف الأستار»، عن شعث بن سوّار، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رفعه.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٣/ ٢٧١) فيه أشعث بن سوار، وهو ضعيف، وقد وثق.
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٣١).
179
قال ع «١» : والأصوب عندي أنْ يكون الدِّينُ هاهنا عَلَى أشهر وجوهه، أي:
ذلك الشَّرْعُ والطَّاعة.
وقوله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ، أي: في الاثني عَشَرَ شَهْراً، أي: لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمان كلِّه، وقال قتادة: المرادُ الأربعةُ الأشْهُرِ، وخُصِّصتْ تشريفاً لها.
قال سعيدُ بن المسيّب: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحرِّم القتَالَ في الأشْهُرِ الحُرُم بما أنزل اللَّه في ذلك حتَّى نزلَتْ «براءة».
وقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ، معناه: فيهنَّ فأحْرَى في غيرهن، وقوله:
كَافَّةً، معناه: جميعا.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
وقوله سبحانه: إِنَّمَا النَّسِيءُ، يعني: فِعْلُ العرب في تأخيرهم الحُرْمَةَ، زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ، أي: جارٍ مع كفرهم باللَّهِ، وخلافِهِمْ للحقِّ، فالكفر متكثِّر بهذا الفِعْلِ الذي هو باطلٌ في نفْسهِ وممَّا وُجِدَ في أشعارهم قَوْلُ جِذْلٍ الطَّعَانِ: [الوافر]
وَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ أَنَّ قَوْمِي كِرَامُ النَّاسِ إِنَّ لَهُمْ كِرَامَا
أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ شُهُورَ الحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا «٢»
وقوله سبحانه: يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا، معناه: عاماً من الأعوام، وليس يريد أنَّ تلك كانَتْ مداولة.
وقوله سبحانه: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، معناه: ليوافقُوا، والمواطَأَةُ: الموافقة.
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٣١).
(٢) الشعر لعمير بن قيس، ينظر: «أما لي القالي» (١/ ٤)، «التهذيب»، و «اللسان» (نسا)، و «الدر المصون» (٣/ ٤٦٣).
، هذه الآيةُ بلا خلافٍ أنها نزلَتْ عتاباً على تخلّف من تخلّف عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تَبُوكَ، وكانَتْ سنةَ تسْعٍ من الهجرةِ بعد/ الفَتْح بعامٍ، غزا فيها الرُّوم في عِشْرينَ ألْفاً بين راكبٍ وراجلٍ، والنَّفْر: هو التنقُّل بسرعة من مكانٍ إلى مكانٍ، وقوله: «أثاقلتم» أصله تَثَاقَلْتُمْ، وكذلك قرأ الأعمش «١» وهو نحو قوله: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الأعراف:
١٧٦] وقوله: أَرَضِيتُمْ تقريرٌ، والمعنى: أرضيتمْ نَزْرَ الدنيا، على خطير الآخرةِ، وحَظِّها الأَسْعَد.
قَالَ ابنُ هِشامٍ ف «مِنْ» من قوله: مِنَ الْآخِرَةِ للبدل. انتهى. ثم أخبر سبحانه، أنَّ الدنيا بالإِضافة إِلى الآخرة قليلٌ نَزْرٌ، فتعطي قُوةُ الكلام التعجُّبَ مِنْ ضلالِ مَنْ يرضَى النزْرَ الفانِيَ بَدَل الكثير الباقي.
ت: وفي «صحيح مُسْلم» و «الترمذي»، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا الدُّنْيَا في الآخرة إِلاَّ مَثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا تَرْجعٌ». قال أبو عيسَى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى «٢».
وقوله سبحانه: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ: شرطٌ وجوابٌ، ولفظُ «العذاب» عامٌّ يدخل تحته أنواعُ عذابِ الدنيا والآخرة.
وقوله: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ: تَوعُّدٌ بأن يبدل لرسوله عليه السلام قوماً لا يقعدون عند استنفاره إِياهم، والضميرُ في قوله: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً عائدٌ على اللَّه عزَّ وجلَّ، ويحتمل أن يعود على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو أليق.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
(١) ينظر: «الشواذ» ص: (٥٧)، و «الكشاف» (٢/ ٢٧١)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٣٤) و «البحر المحيط» (٥/ ٤٣)، و «الدر المصون» (٣/ ٤٦٤)، و «التخريجات النحوية» (٣٥٦).
(٢) أخرجه مسلم (٤/ ٢١٩٣) كتاب «الجنة» باب: فناء الدنيا، حديث (٥٥/ ٢٨٥٨)، والترمذي (٤/ ٤٨٦) كتاب «الزهد» باب: هوان الدنيا، حديث (٢٣٢٣)، وابن ماجه (٢/ ١٣٧٦) كتاب «الزهد» باب: مثل الدنيا، حديث (٤١٠٨)، وأحمد (٤/ ٢٢٨، ٢٣٠)، وابن حبان (٤٣٣٠)، والحاكم (٤/ ٣١٩) من طريق قيس بن أبي حازم، عن المستورد بن شداد به.
181
وقوله سبحانه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ هذا أيضاً شرطٌ وجوابٌ، ومعنى الآية:
إِنكم إِن تركتم نَصْره، فاللَّه متكفِّل به إِذ قد نصره في موضع القلَّة والانفراد وكثرةِ العدو، ولَنْ يترك نَصْرَهُ الآن.
وقوله: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، أسند الإخراج إِليهم تذنيباً لهم، ولما كان مَقْصِدُ أبي سفيان بن الحارثِ الفَخْرَ في قوله: من طردت كل مطرد، لم يقرّه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى ما عُلِمَ في كتب «السِّيرَةِ»، والإِشارةُ إلى خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ مكَّة إلى المدينة، وفي صحبته أبو بكر، واختصار القصّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ينتظر إِذْنَ اللَّه سبحانه في الهِجْرة من مكَّة، وكان أبو بَكْر حينَ تَرَكَ ذمَّة ابنِ الدِّغِنَّةِ قد أراد الخروجَ، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«اصبر، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُسَهِّلَ الصُّحْبَةَ» فَلَمَّا أَذِنَ اللَّه لنبيِّه في الخروج، تجهَّز مِنْ دار أبي بَكْر، وخَرَجَا، فبقيا في الغار الذي في جَبَلِ ثَوْرٍ في غَرْبِيِّ مَكَّة ثلاثَ ليالٍ، وخرج المشركُونَ في إِثرهِمْ حتى انتهوا إِلى الغار، فَطَمَسَ اللَّهُ عَلَيْهِم الأَثَرَ، وقال أبو بكر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لَوْ نَظَر أَحَدُهُمْ إِلى قدمه، لرآنَا، فَقَالَ له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا ظَنُّكَ باثنين اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» «١» هكذا في الحديث الصحيحِ، ويروَى أن العنكبوتَ نَسَجَتْ على باب الغَار.
ويُرْوَى أن الحمامة عشَّشَتْ عند باب الغارِ، وكان يروحُ عليهما باللَّبَنِ عامرُ بْنُ فُهَيْرَةَ «٢».
وقوله: ثانِيَ اثْنَيْنِ، معناه: أحد اثنين، وقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، يريد: بالنصر والنجاة واللُّطْف.
وقوله سبحانه: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، قيل: يريد: لا إله إِلا اللَّه، وقيل: الشرع بأسره.
(١) تقدم تخريجه في: سورة آل عمران.
(٢) عامر بن فهيرة التيميّ، مولى أبي بكر الصّديق، أحد السّابقين، وكان ممن يعذّب في الله.
له ذكر في «الصّحيح»، حديثه في الهجرة عن عائشة قالت: خرج معهم عامر بن فهيرة، وعنها: لما قدمنا المدينة اشتكى أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، منهم: أبو بكر، وبلال، وعامر بن فهيرة... الحديث.
وفيه: وكان عامر بن فهيرة إذا أصابته الحمى يقول: [الرجز]
إنّي وجدت الموت قبل ذوقه... إنّ الجبان حتفه من فوقه
كلّ امرئ مجاهد بطوقه... كالثّور يحمي جلده بروقه
وقال ابن إسحاق في «المغازي» عن عائشة: كان عامر بن فهيرة مولّدا من الأزد، وكان للطفيل بن عبد الله بن سخيرة، فاشتراه أبو بكر منه فأعتقه، وكان حسن الإسلام.
ينظر ترجمته في: «الإصابة» (٣/ ٤٨٢)، (٤٤٣٣).
182
وقوله سبحانه: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا معنى الخِفَّة والثّقل هاهنا: مستعار لمن يمكنه السفَرُ بسهولة، ومن يمكنه بصُعُوبة، وأما من لا يمكنه، كالعُمْيِ ونحوهم، فخارجٌ عن هذا.
وقال أبو طلحة «١» : ما سمع اللَّه عذر أحد، وخرج إِلى الشامِ، فجاهد حتَّى ماتَ.
وقال أبو أيُّوب: ما أَجدني أبداً إِلا خفيفاً أو ثقيلاً «٢».
وقوله سبحانه: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: تنبيهٌ وهزّ للنفوس.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
وقوله سبحانه: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ، هذه الآية في المنافقين المتخلِّفين في غزوة تَبُوكَ، وكَشْفِ ضمائرهم، وأما الآيات التي قبلها، / فعامَّة فيهم وفي غيرهم، والمعنى: لو كان هذا الغزوَ لِعَرَضٍ، أي: لمال وغنيمةٍ تنالُ قريباً بسَفرٍ قاصدٍ يسيرٍ، لبادروا لا لوجه اللَّه، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وهي المسافةُ الطويلة.
وقوله: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ، يريد: المنافقينَ، وهذا إِخبار بغيب.
وقوله عز وجل: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، هذه الآيةُ هي في صِنْفٍ مُبَالِغٍ في النفاق، استأذنوا دون اعتذار، منهم: الجَدُّ بْنُ قَيْسٍ وَرِفَاعَةُ بْنُ التأبوت وَمنِ اتبعهم قال مجاهدٌ: وذلك أَنَّ بعضهم قال: نَسْتَأْذنه، فإِن أَذِنَ في القعودِ قعدنا «٣»، وَإِلاَّ قعدنا، وقَدَّم له العفو قبل العتاب: إكراما له صلّى الله عليه وسلّم، وقالت فرقة: بل قوله سبحانه عَفَا اللَّهُ عَنْكَ:
استفتاح كلامٍ كما تقولُ: أصْلَحَكَ اللَّهُ، وأَعَزَّكَ اللَّهُ، ولم يكنْ منه عليه السلام ذَنْبٌ يعفَى عنه لأن صورة الاستنفار وقَبُول الأعذار مصروفة إلى اجتهاده.
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٣٧٦) برقم: (١٦٧٥١)، وذكره ابن عطية (٣/ ٣٧).
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ٣٧).
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ٣٨١) برقم: (١٦٧٧٨)، وذكره ابن عطية (٣/ ٣٨)، والبغوي في «تفسيره» (٣/ ٤٤١)، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]
وقوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، يريد: في استئذانك، وأنك لو لم تأذن لهم، خرجوا معك.
وقوله: وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ، أي: بمخالفتكَ، لَوْ لم تأذن لأنهم عَزَمُوا على العِصْيَان، أذنتَ لهم أو لم تأذن، وقال الطبريُّ: معناه: حتى تعلم الصَّادقين في أَنَّ لهم عُذْراً، والكاذبين، في أن لا عُذْرَ لهم، والأول أصْوبُ، واللَّه أعلم، وأمَّا قوله سبحانه:
في سورة النور: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ... [النور: ٦٢] الآية، ففي غزوة الخندَقِ نزلت: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ، أي: شكّت ويَتَرَدَّدُونَ، أي: يتحيَّرون إِذ كانوا تخطر لهم صِحَّة أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحياناً، وأنه غير صحيحٍ أحياناً، فهم مذبذبُونَ.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَّا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩)
وقوله سبحانه: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، أيْ: لو أرادوا الخروجَ بنيَّاتهم، لنظروا في ذلك واستعدوا له.
وقوله: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ.
ص: ولكِنْ: أصلها أَن تقع بَيْنَ نقيضَيْن أَو ضِدَّيْنِ، أَوْ خَلافَيْن، على خلاف فيه. انتهى. وانْبِعاثَهُمْ: نفوذَهُمْ لهَذِهِ الغزوة، والتثبيطُ: التَّكْسِيلُ وكَسْر العزم.
وقوله سبحانه: وَقِيلَ اقْعُدُوا، يحتمل أنْ يكون حكايةً عن اللَّه، أي: قال اللَّه في سابق قضائِهِ: اقعدوا مع القاعدين، ويحتملُ أنْ يكون حكايةً عنهم، أي: كانَتْ هَذِهِ مقالَةَ بَعْضِهِمْ لبعضٍ، ويحتملُ أنْ يكون عبارةً عن إذن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لهم في القعود، أيْ: لما كره اللَّه خروجهم، يَسَّر أَنْ قلْتَ لهم: اقعدوا مع القاعدين، والقعودُ هنا: عبارةٌ عن التخلُّفِ، وكراهيةُ اللَّهِ انبعاثهم: رِفْقٌ بالمؤمنين.
وقوله سبحانه: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَّا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا الخبالُ: الفسادُ في الأشياء المؤتَلِفة كالمودات، وبَعْضِ الأجرامِ، لَأَوْضَعُوا معناه: لأسرعوا السّير،
وخِلالَكُمْ معناه: فيما بينكم.
قال ص: خِلالَكُمْ جمع خَلَلٍ، وهو الفُرْجَة بين الشيئين، وانتصب على الظّرف ب لَأَوْضَعُوا، ويَبْغُونَكُمُ: حالٌ، أي: باغين. انتهى. والإِيضاع: سُرْعَةُ السير، ووقَعْتُ لَأَوْضَعُوا بألف بَعْدَ «لا» في المصحف، وكذلك وقعتْ في قوله: أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النمل: ٢١] يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، أي: يطلبون لكم الفتْنَة، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، قال مجاهد وغيره: معناه: جواسيسُ يسمعون الأخبار، ويَنْقُلُونها إِليهم «١»، وقال الجمهور: معناه: وفيكم مُطِيعُونَ سامعون لهم.
وقوله سبحانه: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، في هذه الآية تحقيرٌ لشأنهم، ومعنَى قوله: مِنْ قَبْلُ: ما كان من حالهم في أُحُدٍ وغيرها، ومعنى قوله: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ: دبَّروها ظهراً لبطْنٍ، وسعوا بكُلِّ حيلةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي، نزلَتْ في الجَدِّ بْنِ قيس، وأسند الطبريّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم/ قالَ: «اغْزُوا تَبُوكَ، تَغْنَمُوا بَنَاتِ الأصْفَرِ» فقال الجَدُّ: ائذن لَنَا وَلاَ تَفْتِنَّا «٢» بالنِّسَاءِ، وقال ابن عبَّاس: إِن الجَدَّ قال:
ولكنِّي أُعِينُكَ بِمَالِي «٣».
وقوله سبحانه: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، أي: في الذي أظهروا الفرار منه.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
وقوله سبحانه: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ... الآية: الحسنَةُ هنا بحسب الغَزْوَة: هي الغنيمةُ والظفرُ، والمصيبةُ: الهزيمة والخيبةُ، واللفظ عامٌّ بعد ذلك في كلِّ محبوب ومكروه، ومعنى قوله: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ، أَيْ: قد أخذنا بالحَزْمِ في تخلّفنا
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٣٨٤) برقم: (١٦٧٩٢- ١٦٧٩٣) نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٤١)، والبغوي في «تفسيره» (٢/ ٢٩٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٤٣)، وزاد نسبته إلى ابن أبي المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٤٣)، وعزاه إلى ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم في «المعرفة».
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٤٢).
وَنَظَرْنَا لأنفسنا، ثم أمر تعالَى نبيَّه، فقال: قل لهم يا محمَّد: لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا، وهو إِما ظفراً وسروراً عاجلاً، وإما أن نستشهد فَنَدْخُلَ الجنة، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، أي: قل للمنافقين، والْحُسْنَيَيْنِ: الظَّفَرُ، والشَّهادة.
وقوله: أَوْ بِأَيْدِينا، يريد: القَتْلَ.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)
وقوله سبحانه: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً الآية: سَبَبُها أَنَّ الجَدَّ بْنَ قَيْسٍ حين قال: ائذن لي ولا تفتنِّي، قال: إِني أعينك بمالي «١»، فنزلَتْ هذه الآية فيه، وهي عامَّة بعده.
وقوله عزَّ وجلَّ: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ.
وفي «صحيح مسلم» عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِنَّ ثَوَابَ الكَافِرِ عَلَى أَفْعَالِهِ البَرَّةِ هُوَ في الطُّعْمَةِ يَطْعَمُهَا» «٢» وَنَحْوَ ذلك، وهذا مَقْنَعٌ لا يحتاج معه إِلى نَظَرٍ، وأما أَنْ ينتفع بها في الآخرة فلا، وكُسالى: جمع كسلان.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
وقوله سبحانه: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا... الآية: حقَّر في الآية شأْنَ المنافقين، وعلَّل إِعطاء اللَّه لهم الأَمْوَالَ والأولاد بإِرادته تعذيبهم بها في الحياةِ الدنيا، وفي الآخرة.
قال ابنُ زَيْد وغيره: تعذيبُهم بها في الدُّنْيَا هو بمصائبها ورزايَاهَا، هِيَ لهم عذابٌ إذ لا يُؤْجَرُونَ عليها، ومِنْ ذلك قَهْرُ الشَّرعِ لهم على أداء الزكاةِ والحقوقِ والواجبات.
(١) تقدم تخريجه.
(٢) تقدم.
186
قال الفَخْرُ «١» : أمَّا كون كثرة الأموال والأولادِ سَبَباً للعذاب في الدنيَا، فحاصَلٌ من وجوه: مِنْهَا: أن كلَّما كان حُبُّ الإِنسان للشيء أَشَدَّ وأقوَى، كان حزنُهُ وتألُّم قلبِهِ علَى فراقه أعظَمَ وأصعَبَ، ثم عند الموتِ يَعْظُمُ حزنه، وتشتدُّ حسرته، لمفارقته المحبوبَ، فالمشغوفُ بحبِّ المال والولدِ لا يزالُ في تَعَبٍ، فيحتاج في اكتساب الأموالِ وتحصيلها إِلى تعبٍ شديدٍ ومشقَّة عظيمةٍ، ثم عند حصولِهَا يحتاجُ إِلى متاعِبَ أَشدَّ وأصعَبَ في حفظها وصونِها لأن حفظ المَالِ بَعْد حصوله أصْعَبُ من اكتسابه، ثم إِنه لا ينتفع، إِلاَّ بالقليلِ مِنْ تلك الأموال، فالتعبُ كثيرٌ، والنفعُ قليلٌ، ثم قالَ: واعلم أنَّ الدنْيَا حلوةٌ خَضِرةٌ، والحواسُّ الخمسُ مائلةٌ إِليها، فإِذا كَثُرت وتوالَتْ استغرقت فيها، وانصرف الإِنسان بكلِّيته إِليها، فيصير ذلك سبباً لحرمانه من ذكْرِ اللَّهِ، ثم إِنه يحْصُلُ في قلبه نَوْعُ قسوةٍ وقوةٍ وقهْرٍ، وكلَّما كان المال والجاهُ أَكثر، كَانَتْ تلك القسوةُ أَقوَى، وإِلى ذلك الإِشارةُ بقوله تعالى:
إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦، ٧] فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سَبَبٌ قويٌّ في زوال حُبِّ اللَّه تعالى وحبِّ الآخرة مِنَ القَلْبِ، وفي حصول الدنْيَا وشهواتِهَا في القَلْبِ، وعنْدَ الموت: كأَنَّ الإِنسان ينتقلُ من البستان إلى السِّجْن، ومِنْ مجالسة الأقرباءِ والأحبَّة إِلَى موضعِ الغُرْبَة والكُرْبة، فيعظُمُ تألمُّه، ويقوَى حزنه، ثم عند الحَشْر: حَلاَلُهَا حسابٌ، وحرامُها عِقَابٌ، فثبت أن كثرة الأمْوَالِ والأولادِ سَبَبٌ لحصولِ العَذَاب في الدُّنْيا والآخرة. انتهى.
ثم أخبر سبحانه أنهم ليسوا مِنَ المؤمنين، / وإِنما هم يَفزَعُونَ مِنْهم، والفَرَقُ:
الخوف.
وقوله سبحانه: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً: الملجأ مِنْ لَجَأَ يَلْجَأُ، إِذا أَوَى واعتصم، وقرأ الجمهور: «أَوْ مَغَارَاتٍ» - بفتح الميم «٢» -، وهي الغيران في أعراض الجبالِ، أَوْ مُدَّخَلًا، معناه: السَّرَبُ والنَّفَقُ في الأرض، وهو تفسير ابن عبَّاس «٣» في هذه الألفاظ، وقرأ جمهور الناس: «يَجْمَحُونَ» : ومعناه يسرعون.
(١) ينظر: «تفسير الرازي» (١٦/ ٧٥).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٦)، و «البحر المحيط» (٥/ ٥٦)، و «الدر المصون» (٣/ ٤٧٤).
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ٣٩٢) برقم: (١٦٨٢٣- ١٦٨٢٤)، وابن عطية (٣/ ٤٦)، وذكره ابن كثير (٢/ ٣٦٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٤٧)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
187
قال الفَخْر «١» : قوله: وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي: يسرعون إِسراعاً لا يرد وجوههم شَيْء، ومِنْ هذا يقال: جمح الفَرَسُ، وفَرَسٌ جَمُوحٌ، وهو الذي إِذا حَمَلَ، لم يردّه اللجام، انتهى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)
وقوله عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ... الآية: أَيْ: ومن المنافقين مَنْ يلمزك، أيْ: يعيبُكَ ويأخذ منك في الغَيْبة ومنه قولُ الشاعر: [البسيط] ومنه قوله سبحانه: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: ١] وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ... الآية: المعنى: لو أن هؤلاء المنافقين رَضُوا قِسْمَةَ اللَّهِ الرزْقَ لهم، وما أعطاهم على يدِ رَسُولِهِ، وأقرُّوا بالرغْبَةِ إِلى اللَّهِ، لكان خَيْراً لهم، وحُذِفَ الجوابُ، لدلالة ظاهر الكَلاَمِ عليه، وذلك مِنْ فصيحَ الكلامِ وإيجازه.
إِذَا لَقِيتُكَ تُبْدِي لِي مُكَاشَرَة وَإِنْ أَغِيبُ فَأَنْتَ الهَامِزُ اللُّمَزَهْ «٢»
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٠]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
وقوله سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ... الآية: إِنَّمَا في هذه الآيةِ حاصرةٌ تقتضي وقوفَ الصَدقاتِ على الثمانيةِ الأصناف، وإِنما أُخْتُلِفَ في صُورَة القِسْمَةِ، ومَذْهَب مالكٍ وغيره أَنَّ ذَلِكَ عَلى قَدْر الاجتهاد، وبحسب الحاجة، وأما الفقيرُ والمِسْكين، فقال ابن عبَّاس والحسن ومجاهدٌ والزُّهْرِيُّ وابن زَيْد وغيرهم: المَسَاكِينُ: الذين يَسْعَوْنَ وَيَسْأَلُونَ، والفقراء: الذين يتصَاوَنُون «٣»، وهذا القولُ أحسنُ ما قيل في هذا، وتحريره أن الفقيرَ هو الذي لا مَالَ له إِلا أنه لم يذلَّ نفسه، ولا يذلُّ وجهه وذلك إِما لتعفُّفٍ مفرط،
(١) ينظر: «تفسير الرازي» (١٦/ ٧٧).
(٢) البيت لزياد الأعجمي، ينظر: «الكشاف» (٤/ ٧٩٥)، «البحر المحيط» (٨/ ٥٠٩)، و «القرطبي» (٢٠/ ١٢٤)، و «الدر المصون» (٦/ ٥٦٨)، و «فتح القدير» (٥/ ٤٩٤).
(٣) أخرجه الطبري في تفسيره (٦/ ٣٩٥) برقم: (١٦٨٣٤- ١٦٨٣٩) نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٨)، والبغوي في «تفسيره» (٢/ ٣٠٢)، والسيوطي (٣/ ٤٤٩)، عن ابن عباس نحوه، وزاد نسبته إلى ابن المنذر والنحاس (٣/ ٤٥٠) عن الزهري بنحوه، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.
188
وإِما لِبُلغَةٍ تكون له، كالحَلُوبة وما أشبهها، والمسكينُ هو الذي يقترن بفقره تذلُّل وخضوعٌ وسؤالٌ، فهذه هي المَسْكَنَة ويقوِّي هذا أن اللَّه سبحانه قد وَصَف بني إِسرائيل بالمَسْكَنة، وقَرَنها بالذِّلَّة مع غناهم، وإِذا تأمَّلت ما قلناه، بَانَ أنهما صِنْفان موجُودَان في المسلمين.
ت: وقد أكْثر الناس في الفَرْق بين الفَقِير والمِسْكِين، وأوْلَى ما يعوَّل عليه ما ثبت في ذلك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد رَوَى مالكٌ، عن أبي الزِّنَادِ «١» عن الأعرج «٢» عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَيْسَ المِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، إِنَّمَا المِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ» «٣»، انتهى. وأوَّل أبو عمر في «التمهيد» هذا الحديثَ، فقال: كأنه أراد- واللَّه أعلم- ليس المسكينُ على تمامِ المَسْكَنة، وعلى الحقيقة، إِلا الذي لا يسأل النّاس.
انتهى.
(١) عبد الله بن ذكوان الأموي، مولاهم، أبو الزّناد المدني، يكنى: أبا عبد الرحمن، كان أحد الأئمة، عن أنس، وابن عمر، وعمر بن أبي سلمة مرسلا. قال البخاري: أصح الأسانيد أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة. قال الواقدي: مات فجأة سنة ثلاثين ومائة. قال الحافظ شمس الدين الذهبي: ولي بعض أمور بني أمية فتكلم فيه لأجل ذلك، وهو ثقة حجة لا يعلق به جرح.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٥٣)، «تهذيب الكمال» (٢/ ٦٧٩)، «تهذيب التهذيب» (٥/ ٢٠٣) و «تقريب التهذيب» (١/ ٤١٣)، «الكاشف» (٢/ ٨٤)، «الثقات» (٧/ ٦).
(٢) عبد الرحمن بن هرمز الهاشمي، مولاهم، أبو داود المدني الأعرج، القارئ عن أبي هريرة، ومعاوية، وأبي سعيد، وعنه الزهري، وأبو الزّبير، وأبو الزّناد، وخلق، وثقه جماعة.
قال أبو عبيد: توفي سنة سبع عشرة ومائة بالإسكندرية. ينظر ترجمته في: «الخلاصة» (٢/ ٥٣- ٥٤) (٣٤٨٠).
(٣) ورد ذلك من حديث أبي هريرة، وابن مسعود: فأما حديث أبي هريرة، فأخرجه البخاري (٣/ ٣٩٨) في «الزكاة» باب: قول الله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً (١٤٧٦، ١٤٧٩)، و (٨/ ٥٠) في «التفسير» باب: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً (٤٥٣٩)، ومسلم (٢/ ٧١٩- ٧٢٠) في «الزكاة»، باب:
المسكين الذي لا يجد غنى، ولا يفطن له، فيتصدق عليه (١٠١- ١٠٢- ١٠٣٩)، وأبو داود (١/ ٥١٣) في «الزكاة» باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى (١٦٣١- ١٦٣٢)، والنسائي (٥/ ٨٦) في «الزكاة» باب: تفسير المسكين، ومالك (٩٢٣١٢) في صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم باب: ما جاء في المساكين (٧)، وأحمد (٢/ ٢٦٠، ٣١٦، ٣٩٣، ٣٩٥، ٤٥٧، ٤٦٩)، والدارمي (١/ ٣٧٩) في «الزكاة»، باب: المسكين الذي يتصدق عليه، وأبو يعلى (٦٣٣٧)، والحميدي (١٠٥٩)، والبيهقي (٧/ ١١) من طرق عنه.
وأما حديث ابن مسعود، فأخرجه أحمد (١/ ٣٨٤، ٤٤٦)، وأبو نعيم في «الحلية» (٧/ ١٠٨)، وأبو يعلى (٥١١٨) عن إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود مرفوعا به.
قال الهيثمي (٣/ ٩٥) : رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. [.....]
189
وأَمَّا العاملون: فهم جُبَاتها يستنيبهم الإِمامُ في السعْي على الناس، وجَمْعِ صَدَقَاتهم، قال الجُمْهور: لَهُمْ قَدْر تعبهم ومؤنتهم، وأما الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فكانوا مُسْلِمين وكافرينَ مستَتِرِينَ مُظْهرين للإِسلام حتى وثَّقه الاستئلاف في أكثرهم، واستئلافهم إِنما كان لِتُجْلَبَ إلى الإِسلام مَنْفَعة، أو تُدْفَعَ عنه مَضَرَّة، والصحيحُ بَقَاءُ حكمهم إِن احتيج إِليهم، وأَما الرِّقابِ، فمذْهَبُ مالك وغيره هو ابتداء عِتْق مؤْمِن، وأما الغَارِمُ: فهو الرجُلُ يرْكَبه دَيْن في غير مَعْصِيَة ولا سَفَه، كذا قال العلماء، وأما فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فهو الغازِي، وإِن كانَ مَلِيًّا ببَلَده، وأمَّا ابْنِ السَّبِيلِ، فهو المسافِرُ، وإِن كان غنيًّا ببلده، وسمي المُسَافِرِ ابْنَ السبيلِ لملازمته السبيلِ.
ومَنِ ادعى الفقْر صُدِّق إِلاَّ لريبة فيكلَّف حينئذٍ/ البيِّنة، وأمَّا إِن ادعى أنه غارمٌ أو ابن السبيل أو غازٍ، ونحو ذلك مما لا يُعْلَم إِلا منه، فلا يعطَى إِلا ببينة، وأهلُ بلد الصَّدقة أَحقُّ بها إِلا أن تَفْضُل فضلةٌ، فتنقل إِلى غيرهم.
قال ابنُ حَبِيب: وينبغي للإِمام أن يأمِر السُّعَاة بتَفْريقها في المواضِعِ التي جُبِيَتْ فيها، ولا يحمل منها شيْءٌ إِلى الإِمام، وفي الحديثِ: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» «١».
وقوله سبحانه: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ: أي: موجبةً محدودةً.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)
(١) أخرجه البخاري (٣/ ٢٦١) كتاب «الزكاة» باب: وجوب الزكاة، حديث (١٣٩٥)، ومسلم (١/ ٥٠) كتاب «الإيمان» باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث (٢٩/ ١٩)، وأبو داود (٢/ ٢٤٢، ٢٤٣) كتاب «الزكاة» باب: في زكاة السائمة، حديث (١٥٨٤)، والترمذي (٢/ ٦٩) كتاب «الزكاة» باب: ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة، حديث (٦٢١)، والنسائي (٢/ ٥) كتاب «الزكاة» باب: وجوب الزكاة، وابن ماجه (١/ ٥٦٨)، كتاب «الزكاة» باب: فرض الزكاة، حديث (١٨٧٣)، وأحمد (١/ ٢٣٣)، من حديث ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما بعث معاذا إلى اليمن، قال: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حجاب».
190
وقوله سبحانه: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ: أي: ومن المنافقين، ويُؤْذُونَ: لفظ يعمّ أنواع إذاءتهم له صلّى الله عليه وسلّم، وخص بعد ذلك مِنْ قولهم: هُوَ أُذُنٌ، وروي أن قائل هذه المقالة نَبْتَلُ بْنُ الحارثِ، وكان من مَرَدَةِ المنافقين، وفيه قال صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَلِ بْنِ الحَارِثِ» «١»، وكان ثائر الرأس، منتفشَ الشَّعْر، أحمر العينَيْن، أسْفَع الخدَّيْن، مشوَّهاً.
قال الحسن البصريُّ ومجاهد: قولهم: هُوَ أُذُنٌ: أي: يسمع معاذيرنا ويقبلها «٢»، أي: فنحن لا نُبَالِي من الوقوع فيه، وهذا تنقُّص بقلَّة الحزم، وقال ابن عبَّاس وغيره: إِنهم أرادوا بقولهم: هُوَ أُذُنٌ: أي: يسمع كلَّ ما ينقَلُ إِليهِ عنا، ويصغَي إِليه «٣» ويقبله، فهذا تَشَكٍّ منه عليه السلام، ومعنى أُذُنٌ: سماع، وهذا من باب تسمية الشيْء بالشيء، إِذا كان منْهُ بسبب كما يقال للرؤية: عيْن وكما يقال للمسنَّة من الإِبل التي قد بَزَلَ نابها:
نَاب.
وقيل: معنى الكلامِ: ذو أُذُنٍ، أَي: ذو سماع، وقيل: إِنه مشتقٌّ من قولهم: أَذِنَ إِلَى شَيْءٍ إِذا استمع ومنه قول الشاعر: [البسيط]
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بِه وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
وقرأ نافع: «أذن» - بسكون الذال فيهما-، وقرأ الباقون «٤» بضمِّها فيهما، وكلُّهم قرأ بالإِضافة إِلى «خير» إِلا ما رُوِيَ عن عاصمٍ، وقرأ الحسن «٥» وغيره: «قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ» - بتنوين
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ١١٦) بسنده عن ابن إسحاق، فذكره بلاغا. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (٣/ ٢٥٣)، عن ابن عباس موصولا.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٠٦) برقم: (١٦٩١٧- ١٦٩١٨- ١٦٩١٩) نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٢)، وابن كثير (٢/ ٣٦٦) نحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٥٤)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن أبي شيبة.
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ٤٠٥- ٤٠٦) برقم: (١٦٩١٦)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٢)، وابن كثير (٢/ ٣٦٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٥٤)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(٤) وكأن نافعا استثقل ثلاث ضمات فسكّن.
ينظر: «السبعة» (٣١٥)، «الحجة للقراء السبعة» (٤/ ١٩٨، ٢٠٣)، «حجة القراءات» ص: (٣١٩)، «إعراب القراءات» (١/ ٢٥٠)، «إتحاف» (٢/ ٩٤)، و «العنوان» (١٠٢)، و «شرح شعلة» (٤١٢).
(٥) وقرأ بها عاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر عنه. والمعنى حينئذ: «قل يا محمد فمن يستمع منكم ويكون قريبا منكم قابلا للعذر خير لكم».
191
«أُذن»، ورفع «خير» -، وهذا جار على تأويله المتقدِّم، والمعنى: من يقبل معاذيركم خيرٌ لكم، ورُوِيَتْ هذه القراءة عن عاصمٍ، ومعنى «أذن خيرٍ» على الإِضافة: أي سَمَاعُ خيرٍ وحقٍّ، ويُؤْمِنُ بِاللَّهِ: معناه: يصدِّق باللَّه، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ: قيل: معناه: ويصدِّق المؤمنين، واللام زائدة، وقيل: يقال: آمَنْتُ لك، بمعنى: صدَّقتك ومنه: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يوسف: ١٧].
قال ع «١» : وعندي أن هذه التي معها اللامُ في ضِمْنها بَاءٌ، فالمعنَى: ويصدِّق للمؤمنين بما يخبرونه به، وكذلك قوله: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا بِمَا نَقُوله.
ت: ولما كانَتْ أخبار المنافقين تصلُ إِلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تارةً بإِخبار اللَّه له، وتارةً بإِخبار المؤمنين، وهم عدولٌ، ناسب اتصال قوله سبحانه: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ بما قبله، ويكون التصديقُ هنا خاصًّا بهذه القضيَّة، وإِن كان ظاهر اللفظ عامّا إذ من المعلوم أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يَزَلْ مصدِّقاً باللَّه، وقرأ جميع السبعة إِلاَّ حمزة و «رَحْمَةٌ» - بالرفع- عطفاً على «أُذُن»، وقرأ حمزة وحْده: و «رَحْمَةٍ» - بالخفض- عطفاً على «خَيْرٍ»، وخصَّص الرحمة للذين آمنوا إِذ هم الذين فازوا ونَجْوا بالرسول عليه السلام، يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ: يعني: المنافقين.
وقوله: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ: التقدير عند سيبَوَيْهِ: واللَّه أحقُّ أَن يرضوه، ورسوله أحَقُّ أن يرضُوه، فحذف الخَبَر من الجملة الأولَى، لدلالة الثانية عليه.
وقيل: الضمير في «يرضوه» عائدٌ على المذكور كما قال رُؤْبَةُ: [الرجز]
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الجلد توليع البهق «٢»
أي: كأنّ المذكور.
ينظر: مصادر القراءة السابقة، و «معاني القراءات» (١/ ٤٥٧)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٣)، و «البحر المحيط» (٥/ ٦٤)، وزاد نسبتها إلى مجاهد، وزيد بن علي، وهي في «الدر المصون» (٣/ ٤٧٧).
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٣).
(٢) ينظر: «ديوانه» ص: (١٠٤) و «أساس البلاغة» ص: (٥٠٩) (ولع) و «الأشباه والنظائر» (٥/ ٦٣)، و «تخليص الشواهد» ص: (٥٣) و «خزانة الأدب» (١/ ٨٨)، و «شرح شواهد المغني» (٢/ ٧٦٤)، و «لسان العرب» (٨/ ٤١١) (ولع)، (١٠/ ٢٩) (بهق)، و «المحتسب» (٢/ ١٥٤)، و «مغني اللبيب» (٢/ ٦٧٨) وبلا نسبة في «شرح شواهد المغني» (٢/ ٩٥٥).
192

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤)
وقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... الآية: يُحادِدِ: معناه:
يخالفُ ويشاقُّ.
وقوله سبحانه: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ:
يَحْذَرُ: خبرٌ عن حال قلوبهم.
وقال الزَّجَّاج «١» وغيره: «يحذر» : الأمْرُ، وإِن كان لفظه لفْظَ الخبر كأنه قال:
«ليحذر».
وقوله سبحانه: قُلِ اسْتَهْزِؤُا: لفظه لفظُ الأمر، / ومعناه التهديدُ، ثم أخبر سبحانه أنَّه مخرجٌ لهم ما يحذَرُونه إِلى حِينِ الوجودُ، وقد فعل ذلك تَبَارَكَ وتعالى في «سورة بَرَاءَةَ»، فهي تُسمَّى «الفَاضِحَةَ» لأنها فضحت المنافقين.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
وقوله سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ... الآية: نَزلَتْ على ما ذكر جماعةٌ من المفسِّرين في وديعةَ بْنِ ثابِتٍ وذلك أنه مع قَوْمٍ من المنافقين كانوا يَسِيرُونَ في غزوة تَبُوكَ، فقال بعضهم: هذا يريدُ أن يَفْتَحَ قُصُور الشام، ويأخذ حصون بني الأصْفَرِ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! فوقَفهم رسُولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، وقال لهم: قلتم كذا وكذا، فقالوا: إِنما كنا نخُوضُ وَنَلْعَب، وذكر الطبريُّ «٢» عن عبد اللَّه بن عمر أنه قَالَ: رَأَيْتُ قائل هذه المقالة «وديعةَ» متعلِّقاً بحقب ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يماشيها، والحجارةُ تَنْكُبُه، وهو يقول: إِنما كنا نخوض ونلعب، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقوله: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ، ثم حكم سبحانه عَلَيْهم بالكُفْر، فقال لهم: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ «٣» الآية.
(١) ينظر «معاني القرآن» (٢/ ٤٥٩).
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ٤٠٩).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٠٩) برقم: (١٦٩٢٨)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٥٥)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
وقوله سبحانه: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ، يريد فيما ذكره المفسِّرون، رجلاً واحداً، قيل: اسمه مَخْشِيُّ بْنُ حِمْيَر، قاله ابنُ إِسحاق، وذكر جميعهم أنَّه استشهد باليَمَامَةِ، وقد كان تَابَ، وتسمَّى عبد الرحمن، فدعا اللَّه أنْ يَسْتَشْهِدَ، ويُجْهَلَ أمره، فكان كذلك، ولم يوجَدْ جَسَده، وكان مَخْشِيٌّ مع المنافقين الذين قالوا: إِنما كنا نخوضُ وَنَلْعَبُ، فقيل: كان منافقاً، ثم تاب توبةً صحيحةً، وقيل: كان مسلماً مُخْلِصاً إِلا أنه سمع المنافقينَ، فَضَحِكَ لهم، ولم يُنْكِرْ عليهم، فعفا اللَّه عنْه في كلا الوجْهَيْن، ثم أوجب العذاب لباقي المنافقين الّذين قالوا ما تقدّم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨)
وقوله سبحانه: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ: يريد: في الحُكْم والمَنْزلة في الكُفْر، ولمَّا تقدَّم قبلُ: وَما هُمْ مِنْكُمْ [التوبة: ٥٦] حَسُن هذه الإخبار، ويَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ: أي: عن الصدقة، وفعْلِ الخير، نَسُوا اللَّهَ: أَيْ: تركوه حِينَ تَرَكُوا اتباع نَبيِّه وشَرْعِهِ، فَنَسِيَهُمْ: أي: فتركَهم حين لم يَهْدِهِمْ، والكُفَّار في الآية:
المُعْلِنُونَ، وقوله: هِيَ حَسْبُهُمْ: أي: كافيتهم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٩ الى ٧٢]
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
وقوله تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: أي: أنتم، أيها المنافقُونَ، كالذين مِنْ قبلكم كانوا أشدَّ منكم قوةً، فَعَصَوْا فأهلكوا، فأنتم أولَى بالإِهلاك لمعصيتكم وضَعْفِكم، والخَلاَقُ: الحَظُّ من القَدْرِ والدينِ وجميعِ حال المَرْءِ، فخلاقُ المَرْء: الشيء الذي هُوَ به خليقٌ، والمعنى: عَجَّلوا حَظَّهم في دنياهم، وتركوا الآخرة، فاتبعتموه أنتم،
194
أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ: المعنى: وأنتم أيضاً كذلك، ويحتمل أنْ يريد ب أُولئِكَ: المنافقين.
وقوله سبحانه: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ... الآية:
المعنى ألم يأتِ هؤلاءِ المنافقين خَبَرُ الأُمم السالفة التي عَصَتِ اللَّه بتكْذيب رسله، فأهلكها، وقَوْمِ إِبْراهِيمَ: نُمْرُود وأصحابه وأَتْبَاعَ دَوْلَته، وَأَصْحابِ مَدْيَنَ قومُ شُعَيْب، وَالْمُؤْتَفِكاتِ: أهلُ القرى الأربعةِ أو السَّبْعة التي بعث إِليهم لوطٌ عليه السلام، ومعنى الْمُؤْتَفِكاتِ: المنصرفَاتُ والمنْقَلِبَاتُ أُفِكَتْ فَأْتَفَكَتْ لأنها جعل عاليها سافلها، ولفظ البخاريّ: الْمُؤْتَفِكاتِ: ائتفكت: انقلبت بهم الأرضُ. انتهى.
والضمير في أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ: عائدٌ على هذه الأمم المذكورة، ثم عقَّب سبحانه بذكْر المؤمنين، وما مَنَّ به علَيْهِمْ مِنْ حُسْن الأعمال ترغيباً وتنشيطاً لمبادرة ما به أَمَرَ لطفاً منه بعباده سبحانه، لا ربَّ غيْرُهُ، ولا خَيْر إِلا خيره.
وقوله سبحانه: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ: قال ابن عباس: هي الصلوات الخمس «١».
قال ع «٢» : وبحسب هذا تكون الزَّكَاةُ هي المفروضةُ، والمَدْحُ عندي بالنوافلُ أبلغُ إِذ من يقيم النوافِلَ أحْرَى بإِقامة/ الفَرْض، والسين في قوله: سَيَرْحَمُهُمُ: مُدْخِلَةٌ في الوَعْدِ مُهْلَةً لتكون النفوسُ تنعم برجائه سبحانه، وفَضْلُه سبحانه زعيمٌ بالإِنجاز، وذكَر الطبريُّ «٣» في قوله تعالى: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً، عن الحسن أنَّه سأل عنها عِمْرَانَ بنَ حُصَيْن وأبا هريرة، فقالا: على الخَبِيرِ سَقَطَت! سَأَلْنَا عَنْهَا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: «قَصْرٌ فِي الجَنَّةِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، فِيهِ سَبْعُونَ دَاراً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاء، في كُلِّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيراً» «٤» ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ، ويقرب منها، فاختصرتها طَلَبَ الإِيجاز.
ت: وتمام الحديث من «الإِحياءِ»، وكتاب الآجُرِّيِّ المعروف ب «كتاب النصيحة»، عن الحسن عن عمرانَ بن حُصَيْن وأبي هريرة، قالا: «على كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ فِرَاشاً مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الحُورِ العِينِ، وفِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مائدة،
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٤١٥) برقم: (١٩٦٥٤)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٨).
(٢) ينظر «المحرر الوجيز»
(٣/ ٥٨). [.....]
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ٤١٦).
(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٦١)، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن مردويه.
195
عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْناً مِنَ الطَّعَامِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفَةً، وَيُعْطَى المُؤْمِنُ فِي كُلِّ غَدَاةٍ مِنَ القُوَّةِ مَا يَأَتِي عَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ» «١»، وأما قوله سبحانه: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ، ففي الحديث الصحيح أَنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يَقُولُ لِعِبَادِهِ إِذَا استقروا فِي الجَنَّةِ: «هَلْ رَضِيتُمْ؟! فَيَقُولُونَ: وَكَيْفَ لاَ نرضى، يا ربنا؟ فيقول: إني سأعطيكم أفضل مِنْ هَذَا كُلِّهِ، رِضْوَانِي، أَرْضَى عَنْكُمْ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدا... » «٢» الحديث، وقوله: أَكْبَرُ: يريد: أَكْبَرُ من جميعِ ما تقدَّم، ومعنى الآيةِ والحديث مُتَّفِقٌ، وقال الحسن بن أبي الحسن: وصل إِلى قلوبهم برضْوَانِ اللَّهِ مِن اللَّذَّة والسُّرور ما هو أَلَذُّ عندهم وأقرُّ لأَعينهم من كل شيء أصابُوه من لَذَّة الجَنَّة، قال الإِمام «٣» الفَخْر: وإِنما كان الرضوان أَكْبَرَ لأَنه عند العارفين نَعِيمٌ رُوحَانِيٌّ، وهو أشرفُ من النعيم الجِسْمَانيِّ. انتهى. انظره في أوائل «آل عمران».
قال ع «٤» : ويظهر أن يكون قوله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ إِشارةً إِلى منازل المقرَّبين الشاربين مِنْ تسنيمٍ، والذين يَرَوْنَ كما يُرَى النَّجْمُ الغَابِرُ في الأُفُق، وجميعُ من في الجنة رَاضٍ، والمنازل مختلفةٌ، وفضل الله متّسع، والْفَوْزُ: النجاةُ والخَلاَصُ، ومن أُدْخِلَ الجنة فقد فاز، والمقرَّبونَ هم في الفوز العظيم، والعبارةُ عندي ب «سرور وكمالٍ» أجوَدُ من العبارة عنها ب «لذة»، واللَّذَّة أيضاً مستعملة في هذا.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ: أي: بالسيف والْمُنافِقِينَ، أي:
باللسان والتعنيفِ والاكفهرار في الوجْه، وبإِقامة الحدود عليهم.
قال الحَسَن: وأكثر ما كَانَتِ الحدودُ يومئذٍ تصيبُ المنافقين، ومذْهَبُ الطبريِّ أَنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعرفهم ويسترهم، وأما قوله: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، فلفظةٌ عامَّة في الأفعال والأقوال، ومعنى الغِلَظِ: خشن الجانب، فهو ضدّ قوله تعالى:
(١) تقدم تخريجه.
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) ينظر: «تفسير الرازي» (١٦/ ١٠٦).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٩).
196
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: ٢١٥]، وقولُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا... الآية، نزلَتْ في الجُلاَسِ بْنِ سُوَيْدٍ، وقوله: لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ محمَّد حقًّا، لَنَحْنُ شر مِنَ الحُمُر، فسمعها منه رَبِيبُهُ أو رجل آخر، فأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فجاء الجُلاسُ، فَحَلَفَ باللَّه مَا قالَ هذه الكلمة، فنزلَتِ الآية، فكلمة الكُفْر: هي مقالته هذه لأن مضمنها قَوِيٌّ في التكذيب، قال مجاهد: وقوله: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا: يعني: أنَّ الجُلاَس قد كان هَمَّ بقَتْل صاحبه الذي أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال قتادة: نزلَتْ في عبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبيٍّ ابن سَلُولَ، وقوله في غزوة المُرَيْسِيعِ: مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إِلاَّ كَمَا قَالَ الأَوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، ولَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ
[المنافقون: ٨]، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فوقفه، فَحَلفَ أَنَّه لم يقُلْ ذلك، فنزلَتِ الآية مكذِّبة له.
ت: وزاد ابن العربيِّ في «أحكامه» «١» قولاً ثالثاً أنَّ الآية نزلَتْ في جماعة المنافقين قاله الحسن، وهو الصحيحُ/ لعموم القول ووجود المعنَى فيه، وفيهم، انتهى.
وحدَّث أبو بَكْرٍ بْنُ الخَطِيبِ بسنده، قال: سُئِلَ سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن الهَمِّ: أيؤاخَذُ به صاحِبُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَانَ عَزْماً أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قوله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا... الآية، إِلى قوله: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ، فجعل عليهم فيه التَّوْبَةِ، قال سفيانُ: الهَمُّ يسوِّد القلْبَ انتهى.
قال ع «٢» : وعلى تأويل قتادة، فالإِشارة ب كَلِمَةَ الْكُفْرِ إِلى تمثيل ابنِ أُبَيٍّ «سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ» «٣».
قال قتادة: والإِشارة ب هَمُّوا إِلى قوله: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ «٤» [المنافقون:
٨].
وقال الحَسَنُ: هُمَّ المنافِقُونَ من إِظهار الشرك ومكابرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما لم ينالوا «٥»، وقال تعالَى: بَعْدَ إِسْلامِهِمْ، ولم يقل: «بعد إِيمانهم» لأن ذلك لم يتجاوزْ ألسنتهم.
وقوله سبحانه: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ... الآية: كأَنَّ الكلامَ، وما نقموا إِلا ما حقُّه أنْ يُشْكَرَ، وذُكِرَ رسولُ اللَّه في إِغنائهم منْ حَيْثُ كَثُرَتْ أموالهم من الغنائم،
(١) ينظر: «الأحكام» (٢/ ٩٧٩).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٦٠).
(٣، ٤) أخرجه الطبري (٦/ ٤٢٢) برقم (١٦٩٨٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ٦٠)، وابن كثير (٢/ ٣٧١).
(٥) ذكره ابن عطية (٣/ ٦٠).
197
ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم سَبَبٌ في ذلك، وعلى هذا الحَدِّ قال عليه السلام للأنصارِ في غَزْوَةِ حُنَيْنٍ: «كُنْتُمْ عَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ»، قال العراقيُّ: نَقَمُوا: أي: أنْكَرُوا.
وقال ص: إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ: إِنْ وصلْتَها: مفعولُ نَقَمُوا: أي: ما كرهوا إِلا إِغْنَاء اللَّه إِياهم، وقيل: هو مفعولٌ من أجله، والمفعولُ به محذوفٌ، أي: ما كرهوا الإِيمانَ إِلاَّ للإِغناء. انتهى.
ثم فتح لهم سبحانَهُ بابَ التَّوْبةِ رفقاً بهم ولطفاً، فروي أن الجُلاَسَ تَابَ من النفاقِ، وقال: إِن اللَّه قَدْ تَرَكَ لي بَابَ التَّوْبَة، فاعترف وأخلص، وحسنت توبته «١».
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٩]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
وقوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ... الآية: هذه الآية نزلَتْ في ثَعْلَبَةَ بْنِ حاطب الأنصاريِّ «٢»، قال الحسن: وفي معتّب بن قشير معه،
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٤٢٤) برقم: (١٦٩٩٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ٦١)، والبغوي (٢/ ٣١١).
(٢) جاءت في «الإصابة» ترجمة ثعلبة بن حاطب أو ابن أبي حاطب الأنصاري بعد ترجمة ثعلبة بن حاطب بن عمرو وقال في ثعلبة بن حاطب أو ابن حاطب الأنصاري: ذكره ابن إسحاق فيمن بنى مسجد الضرار، وروى الباوردي وابن السكن وابن شاهين وغيرهم في ترجمة الذي قبله من طريق معان بن رفاعة، عن عليّ بن زيد، عن القاسم، عن أبي أمامة- أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لاَ تطيقه... ». فذكر الحديث بطوله في دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم له وكثرة ماله ومنعه الصدقة ونزول قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ....
وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مات ولم يقبض منه الصدقة، ولا أبو بكر، ولا عمر، وأنه مات في خلافة عثمان.
قال ابن حجر: وفي كون صاحب هذه القصة- إن صحّ الخبر ولا أظنه يصحّ- وهو البدري المذكور قبله- نظر، وقد تأكدت المغايرة بينهما، يقول ابن الكلبي: إن البدري استشهد بأحد، ويقوي ذلك أيضا أن ابن مردويه روى في تفسيره من طريق عطية عن ابن عبّاس في الآية المذكورة. قال: وذلك أن رجلا يقال له ثعلبة بن أبي حاطب من الأنصار أتى مجلسا فأشهدهم فقال: لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ [التوبة: ٧٥] الآية فذكر القصّة بطولها، فقال: إنه ثعلبة بن أبي حاطب، والبدريّ اتفقوا على أنه ثعلبة بن حاطب وقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النّار أحد شهد بدرا والحديبيّة».
وحكى عن ربّه أنه قال لأهل بدر: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله نفاقا في قلبه، وينزل فيه ما نزل؟ فالظاهر أنه غيره، والله أعلم.
198
واختصار ما ذكره الطبريُّ «١» وغيره مِنْ أمره: أنه جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادع اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي مَالاً، فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ ذَا مَالٍ، لَقَضَيْتُ حُقُوقَهُ، وَفَعَلْتُ فِيهِ الخَيْرَ، فَرَادَهُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَالَ: «قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تطيقه» فعاود، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَوْ دَعَوْتُ اللَّه أَنْ يُسَيِّرَ الجِبَالَ مَعِي ذَهَباً، لَسَارَتْ» فَأَعَادَ عَلَيْهِ حَتَّى دَعَا لَهُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بِذَلِكَ، فاتخذ غَنَماً، فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ حتى ضاقَتْ به المدينةُ، فتنحَّى عنها، وكَثُرت غنمه، حتَّى كان لا يُصَلِّي إِلا الجُمُعَةَ، ثم كَثُرَتْ حتى تَنَحَّى بعيداً، فترك الصَّلاَة، وَنَجَمَ نِفَاقه، وَنَزَلَ خلال ذلك فَرْضُ الزكاةِ، فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مُصَدِّقِينَ بكتابه في أخْذ زكاة الغَنَمِ، فلما بلغوا ثَعْلَبَةَ، وقرأ الكِتَابَ، قالَ: هَذِهِ أُخْتُ الجِزْيَةِ، ثم قال لهم: دَعُونِي حَى أَرَى رأيي، فلما أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأَخْبَروه، قال:
«وَيْح ثَعْلَبَة» ثَلاَثاً، ونزلَتْ الآية فيه، فحضر القصَّةَ قريبٌ لثعلبة، فخرج إِليه، فقال: أَدْرِكْ أَمرك، فقد نَزَلَ فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم، فَرَغِبَ أَنْ يؤدِّي زكاتَهُ، فأعرض عنه رسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَلاَّ آخُذَ زَكَاتَكَ»، فبقي كذلك حتّى توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم وَرَدَ ثَعلبةُ على أبي بَكْر، ثم على عمر، ثم على عثمان، يرغَبُ إِلى كلِّ واحد منهم أنْ يأخذ منه الزكاةَ، فكلّهم ردّ ذلك وأباه اقتداء بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فبقي ثعلبةُ كذلك حتى هَلَكَ في مدَّة عثمان «٢».
وفي قوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ: نصٌّ في العقوبة على الذَّنْب بما هو أشدُّ منه.
وقوله: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ: يقتضي موافاتَهُمْ على النّفاق، قال ابن العربيّ: في ضمير
ينظر في: «أسد الغابة» (٥/ ٤٨)، «الإصابة» (٦/ ٣٣)، «تهذيب مستمر الأوهام» (ب ١٤٤)، «الاستيعاب» (٣/ ١٣٥٨)، «الجرح والتعديل» (٨/ ٢١٥)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ٦٨)، «الطبقات الكبرى» (٥/ ٥٣٠)، (٦/ ٢٩)، «الأنساب» (٣/ ١٠٨).
(١) ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ٤٢٥). [.....]
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٢٥- ٤٢٦) رقم (١٧٠٠٢) والواحدي في «الوسيط» (٢/ ٥١٣) بتحقيقنا، وفي «أسباب النزول» ص: (١٩١- ١٩٢) من طريق معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة الباهلي به.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (٧/ ٣٤)، وعزاه للطبراني. وقال: وفيه علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف وقال العراقي في «تخريج الإحياء» (٣/ ١٣٥) سنده ضعيف، والحديث ضعفه الحافظ في «تخريج الكشاف» (٧٧) وقال: إسناده ضعيف جدا.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٦٧)، وعزاه إلى الحسن بن سفيان وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والعسكري في «الأمثال»، والطبراني وابن منده والباوردي وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» وابن عساكر.
199
يَلْقَوْنَهُ قولان:
أحدهما: أنه عائدٌ على اللَّه/ تعالى.
والثاني: أنه عائدٌ على النفاقِ مجازاً على تقدير الجَزَاءِ كأنه قال: فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إِلى يَوْمِ يلقون جَزَاءَهُ. انتهى من «الأحكام».
ويَلْمِزُونَ: معناه: ينالون بألسنتهم، وأكثر الروايات في سَبَبِ نزول الآية أَنَّ عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ تصدَّق بأربعة آلاف، وأمْسَكَ مثلها.
وقيل: هو عمر بنُ الخطَّاب تصدَّق بِنِصْفِ مالِهِ، وقيل: عاصمُ بْنُ عَدِيٍّ «١» تصدَّق بمائَةِ وَسْقٍ «٢»، فقال المنافقون: ما هذا إِلا رياء، فنزلَتِ الآية في هذا كلِّه، وأما المتصدِّق بقليل، فهو أبو عقيل تصدَّق بصاعٍ من تمرٍ، فقال بعضهم: إِن اللَّه غنيٌّ عن صاعِ أبي عقيل، وخرَّجه البخاريُّ «٣»، وقيل: إِن الذي لُمِزَ في القليلِ هو أبو خَيْثَمَةَ قاله كعب بن مالك «٤».
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ: معناه: يستهزئون ويستخفُّونْ وروى مسلم عن جرير بن
(١) هو: عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان بن حارثة بن ضبيعة بن حرام بن جعل بن عمرو بن ودم بن ذبيان، أبو عبد الله، قال ابن الأثير:
شهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: لم يشهد بدرا بنفسه لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رده من الروحاء واستخلفه على العالية من المدينة، قاله محمد بن إسحاق وابن شهاب وضرب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره. توفي سنة ٤٥ وله ١١٥ سنة.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٣/ ١١٤)، «الإصابة» (٤/ ٥)، «الثقات» (٣/ ٢٨٦)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٢٨٢)، «الاستيعاب» (٢/ ٧٨١)، «الاستبصار» (٢٩٨)، «بقي بن مخلد» (٢٥٦)، «الجرح والتعديل» (٦/ ٣٤٥)، «أصحاب بدر» (١٥٨)، «تهذيب التهذيب» (٥/ ٤٩)، «تهذيب الكمال» (٢/ ٦٣٦)، «الأعلام» (٣/ ٢٤٨)، «التحفة اللطيفة» (٢/ ٢٧٠)، «شذرات الذهب» (١/ ٥٤).
(٢) الوسق: ستون صاعا وهو ثلاثمائة وعشرون رطلا عند أهل الحجاز، وأربعمائة وثلاثون رطلا عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمد.
ينظر: «لسان العرب» (٤٨٣٦).
(٣) ورد هذا في حديث أخرجه البخاري (٨/ ١٨١) كتاب «التفسير» باب: «الذين يلمزون المطوعين في الصدقات» برقم: (٤٦٦٨- ٤٦٦٩) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعن ابن عباس أخرجه الطبري (٦/ ٤٣٠) برقم: (١٧٠١٨) نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٦٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ٣٧٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٧٠)، وزاد نسبته إلى ابن مردويه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٣٢) برقم: (١٧٠٣١)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٣/ ٦٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٧٠).
200
عبد اللَّهِ، قال: كُنْتُ عند رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم في صدر النهار، قال: فجاءَه قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ متقلِّدي السُّيُوف، عَامَّتِهِم مِنْ مُضَرَ، بلِ كلُّهم مِنْ مُضَرَ، فتمعَّر وَجْهُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثُمَّ خرج، فأمر بلالاً، فأَذَّن وأقَام، فصلَّى ثم خطب، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ... إِلى آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: ١] والآية التي في سورة الحشر: واتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: ١٨] تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّه، مِنْ صَاعِ تَمْره حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجَزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تتابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رأَيْتُ كُومَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حتّى رأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتهلّل كأنّه مذهبة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» «١». انتهى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١)
وقوله سبحانه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ: المعنى: أَنَّ اللَّه خَيَّر نبيَّه في هذا، فكأنه قال له: إِن شئْتَ فاستغفر لهم، وإِن شئت لا تستغفر، ثم أعلمه أنَّه لا يغفِرُ لهم، وإِن استغفر سبعين مرَّةً، وهذا هو الصحيحُ في تأويل الآية، لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعمر: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَيَّرَنِي فاخترت، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنِّي إِذَا زِدتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ لَزِدْتُ... » «٢»
الحديث، وظاهرُ لفْظِ الحديثِ رفْضُ إلزام دليل الخطاب، وظاهر صلاته صلّى الله عليه وسلّم عَلَى ابن أُبَيٍّ أَنَّ كُفْره لم يكنْ يقيناً عنده، ومحالٌ أَنْ يُصلِّيَ على كافرٍ، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار
(١) أخرجه مسلم (٢/ ٧٠٤- ٧٠٥) كتاب «الزكاة» باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار، حديث (٦٩/ ١٠١٧)، والنسائي (٥/ ٧٥) كتاب «الزكاة» باب: التحريض على الصدقة، حديث (٢٥٥٤) من حديث جرير.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٣٥) برقم: (١٧٠٤٥) عن ابن عباس.
وأخرجه عن مجاهد أيضا (٦/ ٤٣٤) برقم: (١٧٠٤٠، ١٧٠٤٣) بنحو حديث ابن عباس.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٧٢) وعزاه إلى ابن جرير وابن أبي شيبة وابن المنذر.
ووَكَلَ سريرته إِلى اللَّه عزَّ وجلَّ، وعلَى هذا كان سَتْرُ المنافقين، وإِذا ترتَّب كما قلنا التخييرُ في هذه الآيةِ، صَحَّ أَنَّ ذلك التخييرَ هو الَّذِي نُسِخَ بقوله تعالى في «سورة المنافقين: [٦] » :
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.
ت: والظاهر أن الآيتين بمعنًى، فلا نَسْخ، فتأمَّله، ولولا الإِطالة لأَوْضَحْت ذلك.
قال ع «١» : وأما تمثيله بالسبعين دُونَ غيرها من الأعدادِ، فلأَنه عددٌ كثيراً مَّا يجيءُ غايةً ومقنعاً في الكَثْرة.
وقوله: ذلِكَ إِشارة إِلى امتناع الغُفْرَانِ.
وقوله عزَّ وجلَّ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ... الآية: هذه آية تتضمَّن وصف حالِهِمْ، على جهة التوبيخ، وفي ضمنها وعيدٌ، وقوله: الْمُخَلَّفُونَ: لفظٌ يقتضي تحقيرَهُم، وأنهم الذين أبعدهم اللَّه مِنْ رضاه/ و «مقْعَد» : بمعنى القُعُود، و «خِلاَف» : معناه: «بَعْدَ» ومنه قولُ الشاعر: [الطويل]
فَقُلْ للَّذِي يَبْغِي خِلاَفَ الَّذِي مَضَى تَأَهَّبْ لأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَد
يريد: بعد الذي مَضَى.
وقال الطبريُّ «٢» : هو مصدرُ: خَالَفَ يُخَالِفُ، وقولهم: لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ: كان هذا القول منهم لأن غزوة تبوك كَانَتْ في شدّة الحرّ وطيب الثمار.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٢ الى ٨٤]
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤)
وقوله سبحانه: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا إِشارة إِلى مدة العُمر في الدنيا.
وقوله: وَلْيَبْكُوا كَثِيراً إِشارةٌ إِلى تأبيدِ الخلودِ في النَّارِ، فجاء بلَفْظ الأمر، ومعناه الخبر عن حالهم، وتقديرُ الكلام: لِيَبْكُوا كثيراً إِذ هم معذَّبون، جزاءً بما كانوا يكسبون،
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٦٤).
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ٤٣٥).
وخرَّج ابن ماجه بسنده، عن يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ «١»، عن أنس، قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يُرْسَلُ البُكَاءُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، فَيَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ، ثُمَّ يَبْكُونَ الدَّمَ حَتَّى تَصِيرَ في وُجُوهِهِمْ كَهَيْئَةِ الأُخْدُودِ لَوْ أُرْسِلَتْ فِيهَا السُّفُنُ لَجَرَتْ» «٢»، وخرَّجه ابن المبارك أيضاً عن أنس، قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يا أيّها النَّاسُ، ابكوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ تَسِيلُ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، كَأَنَّهَا جَدَاوِلُ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعَ، فَتَسِيلُ الدِّمَاءُ، فَتُقَرِّحُ العُيُونَ، فَلَوْ أَنَّ سُفُناً أُجْرِيَتْ فِيهَا، لَجَرَتْ» «٣»، انتهى من «التذكرة».
وقوله سبحانه: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ... الآية: يشبه أنْ تكون هذه الطائفةُ قد حُتِمَ عليها بالموافاة على النفاق، وعيّنوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ: نصٌّ في موافاتهم على ذلك وممَّا يؤيِّد هذا ما روي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم عَيَّنهم لحذيفةَ بْنِ اليمانِ، وكان الصحابة إِذا رأَوْا حذَيفةَ تأخَّر عن الصَّلاة على جنازة، تأَخَّرُوا هم عنها، وروِي عَنْ حذيفة أَنه قَالَ يَوْماً: بَقِيَ من المنافقين كَذَا وَكَذَا «٤».
وقوله: أَوَّلَ هو بالإِضافة إِلى وَقْت الاستئذان، و «الخالفون» : جَمْعُ مَنْ تخلَّف من نساءٍ، وصبيان، وأهْل عذر، وتظاهرت الرواياتُ أنه صلَّى الله عليه وسلّم صلَّى على عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابن سَلُول، وأَنَّ قوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ نزلَتْ بعد ذلك، وقد خرَّج ذلك البخاريُّ من رواية عمر بن الخَطَّاب. انتهى. «٥».
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٥ الى ٨٩]
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
(١) يزيد بن أبان الرّقاشي أبو عمرو البصري الزاهد، عن أبيه، وأنس، وعنه الأعمش، وأبو الزّناد من أقرانه، تكلم فيه شعبة.
وقال الفلّاس: ليس بالقوي، وضعفه ابن معين وله أخبار في المواعظ والخوف والبكاء. ينظر ترجمته في «الخلاصة» (٣/ ١٦٦) (٨٠٩٣).
(٢) أخرجه ابن ماجه (٢/ ١٤٤٦) كتاب «الزهد» باب: صفة النار، حديث (٤٣٢٤).
وقال البوصيري في «الزوائد» (٣/ ٣٢٣) هذا إسناد فيه يزيد بن أبان الرقاشي، وهو ضعيف.
(٣) أخرجه أبو يعلى (٧/ ١٦٢) برقم: (٤١٣٤) من طريق يزيد عن أنس به.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (١٠/ ٣٩٤) وقال: روى ابن ماجه بعضه، رواه أبو يعلى، وأضعف من فيه يزيد الرقاشي وقد وثق على ضعفه.
(٤) ذكره ابن عطية (٣/ ٦٦).
(٥) تقدم تخريجه. [.....]
وقوله سبحانه: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ: تقدم تفسير مثل هذه الآية، والطَّوْلُ في هذه الآية المالُ قاله ابن عباس وغيره «١»، والإِشارة بهذه الآيةِ إِلى الجَدِّ بْنِ قَيْسٍ ونظرائِهِ، و «القاعدون» : الزَّمْنَى وأهْلُ العُذْر في الجُمْلَة، والْخَوالِفِ: النساءُ جَمْعُ خالفةٍ هذا قول جمهور المفسِّرين.
وقال أبو جعفر النَّحَّاس: يقال للرجُلِ الذي لا خَيْرَ فيه: خَالِفَةٌ، فهذا جمعه بحَسَبِ اللفظ، والمراد أخسَّةُ الناسِ وأخلافهم ونحوه عن النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وقالت فرقة:
الخوالفُ: جمعُ خَالِفٍ كفَارِسٍ وَفَوَارِس.
وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ: أي: لا يفهمون، والْخَيْراتُ: جمع خَيْرَة، وهو المستحْسَنُ من كلِّ شيء.
وقوله سبحانه: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: أَعَدَّ: معناه يَسَّر وَهَيَّأ، وباقي الآية بيّن.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)
وقوله سبحانه: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ... الآية: قال ابن عبَّاس وغيره:
هؤلاء كانوا مؤمنين، وكانَتْ أَعذارُهُم صادقة «٢»، وأصل اللفظة: «المُعْتَذِرُونَ»، فقلبت التاءُ ذالاً وأدغمتْ، وقال قتادة، وفرقةٌ معه: بل الذين جاؤوا كفرةٌ «٣»، وقولُهُمْ وعُذْرهم كَذِبٌ.
قال ص: والمعنى: تكلَّفوا العُذْر، ولا عذر لهم، وكَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ،
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٤٤١) برقم: (١٧٠٧٦)، (١٧٠٧٧) نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٦٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٧٦)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ٦٩)، والبغوي (٢/ ٣١٨)، وابن كثير (٢/ ٣٨١) نحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٧٧)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٤٤) برقم: (١٧٠٨٩- ١٧٠٩٠)، وذكره ابن عطية (٣/ ٧٠)، وابن كثير (٢/ ٣٨١) نحوه.
204
أي: في إيمانهم. انتهى.
وقوله: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ... الآية/ قوله: مِنْهُمْ يؤيِّد أن المعذِّرين كانوا مؤمنين، فتأمَّله، قال ابنُ إِسحاق: المعذِّرون: نَفَرٌ من بني غِفَارٍ وهذا يقتضي أنهم مؤمنون.
وقوله جلَّت عظمته: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى... الآية: يقولُ:
ليس على أهل الأعذار مِنْ ضَعْف بدنٍ أو مرضٍ أو عدمِ نفقةٍ إِثمٌ والحَرَجُ: الإِثم.
وقوله: إِذا نَصَحُوا: يريد: بنيَّاتهم وأقوالهم سرًّا وجهراً، مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ: أي: من لائمةٍ تناطُ بِهِمْ، ثم أكَّد الرجاءَ بقوله سبحانه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وقرأ ابنُ عبَّاس «١» :«وَاللَّهُ لأَهْلِ الإِسَاءَة غَفُورٌ رَحِيم»، وهذا على جهة التفسيرِ أشبهُ منه على جهةِ التلاوة لخلافه المصحف، واختلف في من المرادُ بقوله: الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ: فقالتْ فرقة: نَزلَتْ في بَنِي مُقَرِّنٍ: ستَّة إِخوة، وليس في الصحابة ستَّة إِخوة غيرهم، وقيل: كانوا سبعةً.
وقيل: نزلَتْ في عائِذِ بْنِ عمرو المُزَنيِّ قاله قتادة «٢»، وقيل: في عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَعْقِلٍ المزَنِّي «٣». قاله ابن عباس «٤».
وقوله عَزَّ وجلَّ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ هذه الآيةُ نزلَتْ في البَكَّائين، واختلف في تعيينهم، فقيل: في أبي موسَى الأشعريِّ وَرَهْطِهِ، وقيل: في بني مُقَرِّنٍ وعلى هذا جمهور المفسِّرين، وقيل: نزلَتْ في سبعة نَفَرٍ من بطونٍ شتَّى، فهم
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٧٠)، و «البحر المحيط» (٥/ ٨٨).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٤٥) برقم: (١٧٠٩٣)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٧٨)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(٣) عبد الله بن معقل بن مقرن، أبو الوليد المزني، قال ابن حجر في «الإصابة» :
ذكره ابن فتحون في «ذيل الاستيعاب» ولم يذكر مستندا لذكره في الصحابة، وقد قال ابن قتيبة: ليست له صحبة ولا إدراك، وذكره في التابعين ابن سعد، والعجلي، والبخاري، وابن حبان وغيرهم، وله رواية عند أبي داود في «المراسيل»، وقال بعده: ابن معقل لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قال العجلي: تابعي ثقة من خيار التابعين. توفي سنة ٨٨ تقريبا.
ينظر ترجمته في «الإصابة» (٥/ ١٤٤)، «الثقات» (٥/ ٣٥)، «بقي بن مخلد» (٦٤٤)، «الجرح والتعديل» (٥/ ١٦٩)، «تقريب التهذيب» (١/ ٤٥٣)، «سير أعلام النبلاء» (٤/ ٢٠٦).
(٤) أخرجه الطبري (٦/ ٤٤٥) برقم: (١٧٠٩٤)، وذكره ابن عطية (٣/ ٧٠).
205
البكّاءون، وقال مجاهد: البكّاءون هم بنو مُقَرِّن من مُزَيْنة «١»، ومعنى قوله: لِتَحْمِلَهُمْ:
أيْ: عَلَى ظَهْر يُرْكَبُ، ويُحْمَل عليه الأثاثُ.
ت: وقصة أبي موسَى الأشعريِّ ورَهْطِهِ مذكورةٌ في الصَّحيح، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «٢» : القول بأن الآية نزلَتْ في أبي موسى وأصحابه هو الصحيح، انتهى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٣ الى ٩٤]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤)
وقوله سبحانه: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ... الآية: هذه الآيةُ نزلَتْ في المنافقين المتقدِّم ذكْرُهُمْ: عبدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، والجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَمُعَتِّبٌ، وغيرهم.
وقوله: إِذا رَجَعْتُمْ: يريد: مِنْ غزوةَ تَبُوكَ، ومعنَى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ: لن نصدِّقكم، والإِشارة بقوله: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ إِلى قوله: مَّا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التوبة: ٤٧]، ونحوه من الآيات.
وقوله سبحانه: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ: توعُّد، والمعنى: فيقع الجزاءُ عليه، قال الأستاذ أبو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ: اعمل للدنيا بقَدْر مُقَامِكَ فيها، واعمل للآخرة بقَدْر بقائك فيها، واستحيي مِنَ اللَّه تعالى بقَدْرِ قُرْبه منْكَ، وأَطِعْهُ بقَدْر حَاجَتِكَ إِليه، وخَفْهُ بقَدْر قُدْرته عليك، واعصه بِقَدْر صَبْرَكَ على النَّار. انتهى من «سراج الملوك».
وقوله: ثُمَّ تُرَدُّونَ: يريد البَعْثَ من القبور.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٥ الى ٩٧]
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧)
وقوله عز وجل: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ... الآية: قيل: إن هذه
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٤٤٦) برقم: (١٧٠٩٥، ١٧٠٩٨)، وذكره ابن عطية (٣/ ٧١)، وابن كثير (٢/ ٣٨١).
(٢) ينظر: «الأحكام» (٢/ ٩٩٣).
الآية من أول ما نَزَلَ في شأن المنافقين في غزوة تَبُوكَ.
وقوله: إِنَّهُمْ رِجْسٌ: أي: نَتَنٌ وقَذَر، وناهِيكَ بهذا الوَصْف مَحَطَّةً دنيويةً، ثم عطف بمحَطَّةِ الآخِرَةِ، فقال: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، أي: مسكنهم.
وقوله: فَإِنْ تَرْضَوْا... إِلى آخر الآية: شَرْطٌ يتضمَّن النهْيَ عن الرضا عنهم، وحُكْم هذه الآية يستمرُّ في كل مغموص عليه ببدْعَةٍ ونحوها.
وقوله سبحانه: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً: هذه الآيةُ نزلَتْ في منافقين كانوا في البوادِي، ولا محالة أنَّ خوفهم هناك كان أقلَّ من خوف منافِقِي المدينة، فألسنتهم لذلك مطلقة، ونفاقهم أنجم، وأَجْدَرُ: معناه أحْرَى.
وقال ص: معناه/ أحقُّ، والحُدُودُ هنا: السّنن والأحكام.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٨]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨)
وقوله سبحانه: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً... الآية نصٌّ في المنافقين منهم، و «الدوائر» : المصائبُ، ويحتمل أن تشتقَّ من دَوَرَانِ الزمانِ، والمعنَى:
ينتظر بكم ما تأتي به الأيام، وتدُورُ به، ثم قال على جهة الدعاء: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وكلُّ ما كان بلفظ دعاء من جهة اللَّه عزَّ وجل، فَإنَّما هو بمعنى إيجاب الشيء لأَنَّ اللَّه لا يَدْعُو على مخلوقاته، وهي في قبضته ومن هذا وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: ١]، وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: ١]، فهي كلُّها أحكام تامَّة تضمَّنها خبره تعالى.
ت: وهذه قاعدةٌ جيِّدة، وما وقع له رحمه اللَّه مما ظاهره مخالفٌ لهذه القاعدة، وجب تأويله بما ذَكَرَه هنا، وقد وقَع له ذلك بعد هذا في قوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ [التوبة: ١٢٧]، قال: يحتملُ أنْ يكون دعاءً عليهم، ويحتملُ أنْ يكون خبراً، أي: استوجبوا ذلك، وقد أوضَحَ ذلك عند قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [البروج: ٤]، فانظره هناك.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)
وقوله سبحانه: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ قال قتادة: هذه ثنية اللَّه تعالى من
الأعراب، وروي أنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في بني مُقَرِّن وقاله مجاهد «١» وَيَتَّخِذُ في الآيتين بمعنَى: يَجْعَلُهُ قَصْدَهُ، والمعنى: ينوي بنفقته ما ذكره الله عنهم، وصَلَواتِ الرَّسُولِ:
دعاؤه، ففي دعائه خَيْرُ الدنيا والآخرة، والضَّمير في قوله: إِنَّها: يحتملُ عودُهُ على النفَقَةِ، ويحتمل عوده على الصَّلوات، وباقي الآية بَيِّن.
وقوله سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ... الآية: قال أبو موسى الأشعريُّ وغيره: السابقون الأولون مَنْ صلى القبلتين «٢»، وقال عطاء: هم مَنْ شهد بدراً «٣».
وقال الشَّعْبيُّ: من أدرك بَيْعَة الرِّضْوان «٤»، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ: يريد: سائر الصحابة، ويدخل في هذا اللفظِ: التابِعُونَ وسائرُ الأمة، لكن بشريطة الإِحسان، وقرأ عمر بن الخطَّاب وجماعة: و «الأَنْصَارُ» «٥» - بالرفع- عطفاً على «والسابقون»، وقرأ ابن كثير: «مِنْ تَحْتِهَا الأنهار»، وقرأ الباقون «٦» :«تحتها»، بإسقاط «من».
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠١]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)
وقوله سبحانه: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ: الإِشارة ب «مَنْ حولكم» إِلى جُهَيْنة، ومُزَيْنة، وأَسْلَم، وغِفَار، وعُصَيَّة، ولِحيان، وغيرهم مِنَ القبائل المجاورة للمدينة، فأخبر اللَّه سبحانه عن منافقيهم، وتقدير الآية: ومن أهْل المدينة قومٌ أو منافقُون، هذا أحسن ما حمل اللفظ، ومَرَدُوا: قال أبو عبيدة معناه:
(١) تقدم.
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٤٥٤) برقم: (١٧١٢٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٧٥)، والبغوي (٢/ ٣٢١) برقم:
(١٠٠)، وذكره ابن كثير (٢/ ٣٨٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٨٣) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في «المعرفة».
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٤٥٣) برقم: (١٧١١٦، ١٧١١٨، ١٧١٢٠، ١٧١٢١)، وذكر ابن عطية (٣/ ٧٥)، والبغوي (٢/ ٣٢١) برقم: (١٠٠).
(٤) أخرجه الطبري (٦/ ٤٥٣) برقم: (١٧١١٦)، ١٧١١٨، ١٧١٢٠، ١٧١٢١)، وذكره ابن عطية (٣/ ٧٥)، والبغوي (٢/ ٣٢١) برقم: (١٠٠)، وابن كثير (٢/ ٣٨٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٨٤)، وزاد نسبته الى ابن أبي شيبة وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي الشيخ.
(٥) وقرأ بها الحسن وقتادة، وسلام بن سليمان الطويل، وسعيد بن أسعد، ويعقوب بن طلحة، وعيسى الكوفي.
ينظر: «الشواذ» (٥٩)، و «المحتسب» (١/ ٣٠٠)، و «الكشاف» (٢/ ٣٠٤)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٧٥)، و «البحر المحيط» (٥/ ٩٦)، و «الدر المصون» (٣/ ٤٩٧). [.....]
(٦) وهي كذلك في مصاحف أهل مكة خاصة.
ينظر: «معاني القراءات» (١/ ٤٦٣)، و «حجة القراءات» (٣٢٢)، و «العنوان» (١٠٣)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٣٤٠)، و «شرح شعلة» (٤١٤)، و «إتحاف» (٢/ ٩٧).
مَرَنُوا عَلَيْه، ولَجُّوا فيه «١»، وقيل غير هذا ممَّا هو قريبٌ منه.
وقال ابن زَيْد: قاموا عليه، لَمْ يَتُوبوا كما تاب الآخَرُون، والظاهر مِنَ اللفظة أنَّ التمرُّد في الشيء أو المُرُود عليه إِنما هو اللَّجَاج والاشتهار به، والعتوُّ على الزاجر، ورُكُوبُ الرأسِ في ذلك، وهو مستعملٌ في الشر لا في الخَيْر ومنه: شَيْطَانٌ مَرِيدٌ وَمَارِدٌ، وقال ابن العربيّ في «أحكامه» «٢» : مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ: أي: استمروا عليه، وتحقَّقوا به.
انتهى، ذكَره بعد قوله تعالى: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً [التوبة: ١٠٧].
ثم نفى عزَّ وجلَّ عِلْمَ نبيِّه لهم على التعْيين.
وقوله سبحانه: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ: لفظ الآية يقتضي ثَلاَثَ مواطِنَ مِنَ العَذَابِ، ولا خلافَ بين المتأوِّلين أن العذاب العظيم الذي يُرَدُّون إِليه هو عذابُ الآخرةِ، وأكثرُ النَّاس أن العذاب المتوسِّط/ هو عذاب «٣» القبْر، واختُلِفَ في عذاب المَرَّة الأولَى: فقال ابنُ عبَّاس: عذابهم بإِقامة حدود الشَّرْع عليهم، مع كراهيتهم فيه «٤».
وقال إسحاق: عذابُهم: هو هَمُّهم بظهورِ الإِسْلاَمِ، وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ «٥». وقال ابْنُ عباسٍ أيضاً- وهو الأشهر عنه-: عذابُهم هو فَضِيحَتُهُمْ وَوَصْمُهُمْ بالنِّفَاقِ «٦». وقيل غير هذا.
وقوله عزّ وجلّ:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٢]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية. قال ابْنُ عَبَّاسٍ، وأبو عثمان: هذه الآية في
(١) ذكره ابن عطية (٣/ ٧٥).
(٢) ينظر: «الأحكام» (٢/ ١٠١٢).
(٣) استدل على عذاب القبر من القرآن بقوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ عطف عذاب يوم القيامة على عرض النار صباحا ومساء، فعلم أنه غيره، وما هو إلا عذاب القبر، لأن الآية وردت في حق الموتى، والأحاديث الصحيحة الدالة على عذاب القبر أكثر من أن تحصى بحيث تواتر القدر المشترك بينها في إثباته.
ينظر: «نشر الطوالع» (٣٧١).
(٤) ذكره ابن عطية (٣/ ٧٦).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٥٨) برقم: (١٧١٥٠)، وذكره ابن عطية (٣/ ٧٦).
(٦) ذكره ابن عطية (٣/ ٧٦).
الأَعْرَابِ، وهي عامَّة في الأُمة إلى يَوْمِ القِيَامَةِ «١». قال أبو عثمان: ما في القرآن آيةٌ أرجى عندي لهذه الأمة منْها «٢». وقال مجاهد: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أبي لُبَابَةَ الأنصاريِّ خاصَّةً في شأنه مع بني قُرَيْظَةَ لَمَّا أَشَارَ لَهُمْ إلى حَلْقِهِ، ثُمَّ نَدِمَ وَرَبَطَ نفسه في ساريَةٍ من سَوَارِي المَسْجِد «٣»، وقالتْ فرقة عظيمةٌ: بل نزلَتْ هذه الآيةُ في شَأن المخلَّفين عن غزوة تَبُوك.
ت: وخَرَّجَ «البخاريُّ» بسنده عن سَمُرة بن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أَتَاني اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، فابتعثاني فانتهينا إلى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ ولَبِنٍ فِضَّةٍ، فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَن مَا أَنْتَ رَاءٍ. وَشَطْرٌ كَأَقْبَح مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالاَ لَهُمْ: اذهبوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، فَوَقَعُوا فِيهِ، ثُم رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا في أَحْسَن صُورَةٍ، قَالاَ لِي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ، وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ، قَالاَ: أَمَّا القَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً، فتجاوز الله عنهم». انتهى «٤».
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً... الآية: رُوي أن الجماعة التائبة لَمَّا تِيبَ عليهَا، قالوا: يا رسُولَ اللَّه إِنَّا نُرِيدُ أن نتصدَّق بأموالنا زيادةً في تَوْبَتِنا، فقال لهم صلّى الله عليه وسلّم: «إِنِّي لاَ أَعْرِضُ لأَمْوَالِكُمْ إِلاَّ بَأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ» «٥»، فَتَرَكَهُمْ حَتَّى نَزَلَتْ هذه الآية، فَهُمُ المراد بها، فروي أنه صلّى الله عليه وسلّم أخذ ثلث أموالِهِمْ، مراعاةً لقوله تعالى: مِنْ أَمْوالِهِمْ،
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٤٦٢) برقم: (١٧١٦٥) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٧٧).
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٤٦٢) برقم: (١٧١٦٦)، وذكره ابن عطية (٣/ ٧٧).
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ٤٦١) برقم: (١٧١٥٦، ١٧١٥٧، ١٧١٥٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ٧٧)، وابن كثير (٢/ ٣٨٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٨٨)، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي.
(٤) أخرجه البخاري (٨/ ١٩٢) كتاب «التفسير» باب: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، حديث (٤٦٧٤)، ومسلم (٤/ ١٧٨١) كتاب «الرؤيا» باب: رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم، حديث (٢٣/ ٢٢٧٥)، والترمذي (٤/ ٥٤٣) كتاب «الرؤيا» باب: ما جاء في رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم الميزان والدلو، حديث (٢٢٩٤)، وأحمد (٥/ ٨، ٩، ١٤)، وابن حبان (٢/ ٤٢٧، ٤٣١) برقم: (٦٥٥)، والطبراني في «الكبير» (٦٩٨٦، ٦٩٨٧، ٦٩٨٨، ٦٩٨٩)، والبيهقي (٢/ ١٨٧- ١٨٨)، والبغوي في «شرح السنة» (٤/ ٢٣٧ بتحقيقنا) كلهم من طريق أبي رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(٥) ينظر: حديث توبة كعب بن مالك، وأصحابه، وقد تقدم تخريجه.
فهذا هو الذي تظاهَرَتْ به أقوال المتأوِّلين، وقالتْ جماعة من الفقهاء: المرادُ بهذهِ الآية الزكَاةُ المفروضَةُ، وقوله تعالى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها: أحسن ما يحتمل أنْ تكون هذه الأفعالُ مسندة إلى ضمير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله سبحانه: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ: معناه: ادع لهم، فإِن في دعائك لهم سكوناً لأنفسهم وطمأنينة ووقاراً، فهي عبارةٌ عن صلاح المعتَقَد، والضميرُ في قولِهِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا قال ابنُ زَيْدٍ: يُرادُ به الذين لم يتوبوا من المتخلِّفين «١»، ويحتملُ أنْ يُرَادِ به الذين تابوا، وقوله: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ قال الزَّجَّاج «٢» : معناه: ويقبل الصدقات «٣»، وقد جاءَتْ أحاديثُ صحاحٌ في معنى الآية منها حديثُ أبي هريرة: «إِنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ تَكُونُ قَدْرَ اللُّقْمَةِ يَأْخُذُهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا لأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» «٤»، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارةٌ عن القبول والتحفِّي بصدقة العبد.
وقوله: عَنْ عِبادِهِ: هي بمعنى «من».
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٥ الى ١١٠]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٤٦٦) برقم: (١٧١٧٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٧٩).
(٢) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (٢/ ٤٦٧). [.....]
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٧٩).
(٤) أخرجه البخاري (٣/ ٣٢٦) كتاب «الزكاة» باب: الصدقة من كسب طيب، حديث (١٤١٠)، ومسلم (٢/ ٧٠٢) كتاب «الزكاة» باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب، حديث (٦٣، ٦٤/ ١٠١٤)، والترمذي (٣/ ٤٠- ٤١) كتاب «الزكاة» باب: ما جاء في فضل الصدقة، حديث (٦٦١- ٦٦٢)، والنسائي (٥/ ٥٧) كتاب «الزكاة» باب: الصدقة من غلول، وابن ماجه (١/ ٥٩٠) كتاب «الزكاة» باب:
فضل الصدقة، حديث (١٨٤٢)، وأحمد (٢/ ٣٣١، ٣٨٢، ٤١٨، ٤١٩، ٤٣١)، والدارمي (١/ ٣٩٥) كتاب «الزكاة» باب: فضل الصدقة، وابن خزيمة (٤/ ٩٣) برقم: (٢٤٢٦)، وابن حبان (٣٣١٨) من حديث أبي هريرة مرفوعا، وللحديث شاهد من حديث عائشة.
أخرجه أحمد (٦/ ٢٥١)، وابن حبان (٨١٩- «موارد» )، والبزار (١/ ٤٤١- «كشف» )، حديث (٩٣١).
والهيثمي في «المجمع» (٣/ ١١٥) وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات.
211
وقوله سبحانه: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ... الآية: هذه الآية صيغتُها صيغةُ أمْرٍ مضمَّنها الوعيدُ.
وقال الطبري «١» : المراد بها الذين اعتذروا من المتخلِّفين وتابوا.
قال ع «٢» : والظاهر أن المراد بها الذين اعتَذَروا، ولم يتوبوا وهم المتوعَّدون، وهم الذين في ضمير أَلَمْ يَعْلَمُوا، ومعنى: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ، أي: موجوداً معرَّضاً للجزاء عليه بخَيْرٍ أو بِشَرٍّ.
وقال ابنُ العرَبِيِّ «٣» في «أحكامه» : قوله سبحانه: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ هذه الآية نزلَتْ بعد ذكر المؤمنين، ومعناها: الأمر، أي: اعملوا بما يُرْضِي اللَّه سبحانه، وأمَّا الآية المتقدِّمة، وهي قوله تعالى: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة: ٩٤] فإنها نزلت بعد ذكْر المنافقين، ومعناها: التهديد وذلك لأن/ النفاق موضِعُ ترهيبٍ، والإيمانُ موضعُ ترغيبٍ، فقوبل أهْلُ كلِّ محلٍّ من الخطاب بما يليقُ بهم. انتهى.
وقوله سبحانه: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ: عَطْفٌ على قوله أولاً: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا: ومعنى الإِرجاء: التأخير، والمراد بهذه الآية فيما قال ابنُ عباس وجماعةٌ: الثلاثةُ الذين خُلِّفوا، وهم كَعْبُ بْنُ مالكٍ، وصاحباه «٤» على ما سيأتي إن شاء اللَّه، وقيل: إِنما نَزلَتْ في غيرهم من المنافقين الذين كانوا مُعَرَّضين للتوبة مع بنائهم مَسْجِدَ الضِّرارِ، وعَلَى هذا: يكون الَّذِينَ اتَّخَذُوا بإسقاط واو العطف بدلاً من آخَرُونَ، أو خبر مبتدأ، تقديره: هم الذين، وقرأ عاصم «٥» وعوامُّ القُرَّاء، والنَّاسُ في كل قطر إلّا ب «المدينة» :
(١) ينظر: «الطبري» (٦/ ٤٦٧).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٨٠).
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ٩٩٦).
(٤) سيأتي إن شاء الله تعالى.
(٥) وكذلك هي في مصاحف أهل الشام.
ينظر: «معاني القراءات» (١/ ٤٦٤)، و «إعراب القراءات» (١/ ٢٥٦)، و «العنوان» (١٠٣)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٣٤١)، و «شرح شعلة» (٤١٥)، و «إتحاف» (٢/ ٩٨).
212
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا، وقرأ أهلُ المدينة، نافع وغيرُهُ الَّذِينَ اتخذوا- بإسقاط الواو- على أنه مبتدأ، والخبر: لاَ يَزالُ بُنْيانُهُمُ وأما الجماعة المرادة ب الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً، فهم منافقو بني غنم بن عوف، وبني سالم بن عوف، وأسند الطبريُّ «١»، عن ابن إِسحاق، عن الزُّهْرِيِّ وغيره، أنه قال: أقبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من غزوة تَبُوكَ، حتى نَزَلَ بذي أَوَانَ- بلدٌ بينه وبين المدينةِ ساعةٌ من نهار- وكان أصحاب مسجد الضّرار، قد أتوه صلّى الله عليه وسلّم وهو يتجهَّز إِلى تبوكِ، فقالوا: يا رسُولَ اللَّهِ إنا قد بَنَيْنَا مسَجِداً لِذِي العِلَّة والحاجة واللَّيْلَة المَطِيرة، وإِنا نُحِبُّ أَن تأتينا فتصلِّي لنا فيه، فقال: «إِنِّي على جَنَاحِ سَفَرٍ، وَحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ، فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ»، فَلَمَّا قَفَلَ، وَنَزَلَ بِذِي أوَان، نَزَلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ في شأن مسجد الضّرار، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُنِ وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ، أو أخاهُ عاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ، فَقالَ: «انطلقا إِلَى هَذَا المَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ، فاهدماه، وَحَرِّقَاهُ» فانطلقا مُسْرِعَيْنِ فَفَعَلاَ وَحَرَقَاهُ «٢»، وذكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بعث لِهَدْمِهِ وتحريقه عَمَّار بن ياسر وَوَحْشِيًّا مَوْلَى المُطْعم بن عَدِيِّ، وكان بَانُوهُ اثني عَشَرَ رَجُلاً، منهم ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، ومُعْتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، ونَبْتَلُ بْنُ الحَارِثِ وغيرهم، وروي أنه لما بنى صلّى الله عليه وسلّم مَسْجداً في بني عمرو بن عوف وقْتَ الهِجْرَة، وهو مَسْجِدُ «قُبَاءٍ» وتشرَّفَ القومُ بذلك، حَسَدَهم حينئذٍ رجالٌ من بني عَمِّهم من بني غنم بن عوف، وبني سالم بن عَوْفٍ، وكان فيهم نفاقٌ، وكان موضعُ مَسْجِدِ «قُبَاءٍ» مربطاً لحمارِ امرأة من الأنصار، اسمها: لَيَّةُ، فكان المنافقُونَ يقولُونَ: واللَّه لا نَصْبِرُ على الصَّلاة في مَرْبَطِ حمارِ لَيَّةَ، ونحو هذا من الأقوال، وكان أبو عامرٍ المعروفُ بِالرَّاهِبِ منهم، وهو أبو حنظلة غسيلِ الملائكةِ، وكان سيِّداً من نظراء عبدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ، فلما جاء اللَّهُ بالإِسلام، نافق، ولم يَزَلْ مجاهراً بذلك، فسمَّاه رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم الفاسِق، ثم خرج في جماعة من المنافقينَ، فحزّب على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الأحزاب، فلما ردَّهم اللَّه بغَيْظهم، أقام أبو عامر ب «مكة» مظهراً لعداوته، فلما فتح اللَّه «مكة»، هَرَبَ إِلى «الطائف»، فلما أسلم أهْلُ الطائف، خرج هارباً إِلى الشام، يريد قيصر مستنصرا به على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكتب إلى المنافقين من قومه أَن ابنوا مسجداً، مقاومةً لمسجد «قُبَاء»، وتحقيراً له، فإِني سآتي بِجَيْشٍ من الرومِ، أُخْرِجُ به محمَّداً، وأصحابه من «المدينة»، فبَنُوهُ وقالوا: سيأتي أبو عامرٍ ويصلي فيه، فذلك قوله: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني: أبا عامر، وَقَوْلَهُمْ: سيأتي أبو عامر، وقوله: ضِراراً أي: داعيةً للتضارر من/ جماعتين.
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٤٦٩) برقم: (١٧٢٠٠)، وذكره ابن عطية (٣/ ٨١).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٦٩- ٤٧٠) برقم: (١٧٢٠٠) من طريق ابن إسحاق به.
213
وقوله: تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ: يريدُ: تفريقاً بين الجماعة التي كانَتْ تصلِّي في مسجد «قباء»، فإن مَنْ جاور مَسْجدهم كانوا يَصْرِفُونه إليه، وذلك داعيةٌ إلى صرفه عن الإِيمان، وقيل: أراد بقوله: بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ جماعة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وروي: أنَّ مسجد الضِّرار، لَمَّا هدم وأُحرِق، اتخذ مزبَلَةً ترمى فيه الأقذار والقِمَامَات، وروي: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما نزلَتْ: لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً كَانَ لا يمرُّ بالطريق التي هو فيها.
وقوله: لَمَسْجِدٌ: قيل: إن اللام لام قسمٍ، وقيل: هي لام ابتداء، كما تقول:
لَزَيدٌ أَحْسَنُ النَّاسِ فِعْلاً وهي مقتضية تأكيداً، وذهب ابن عباس وفرقةٌ من الصحابة والتَّابعين إلى أنَّ المراد ب «مسجد أسس على التقوى» : مسجد «قباء» «١» وروي عن ابن عمر وأبي سعيد وزيد بن ثابت أنه مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «٢» ويليق القولُ الأول بالقصَّة إِلاَّ أن القولَ الثاني مرويّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا نَظَرَ مع الحديثِ، قال ابنُ العَرَبي «٣» في «أحكامِه» : وقَدْ رَوَى ابْنُ وهْبٍ وأشهبُ، عن مالكٍ أن المراد ب «مسجد أُسس على التقوى» : مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حيث قال اللَّه تباركَ وتعالَى: وَتَرَكُوكَ قائِماً [الجمعة: ١١] وكذلك روى عنه ابن القاسم، وقد روى الترمذيُّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: تمارى رَجُلاَن في المَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ «قُبَاء»، وَقَالَ الآخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا». قَالَ أبو عيسى: هذا حديثٌ صحيحٌ، وخرَّجه مسلم «٤» انتهى.
ومعنى: أَنْ تَقُومَ فِيهِ: أي: بصلاتك وعبادتك.
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٤٧٤) برقم: (١٧٢٢٦- ١٧٢٢٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٨٢).
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٤٧٣) برقم: (١٧٢١٦- ١٧٢١٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٨٢)، والبغوي: (٢/ ٣٢٧).
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ١٠١٤).
(٤) أخرجه مسلم (٢/ ١٠١٥) كتاب «الحج» باب: بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، حديث (٥١٤/ ١٣٩٨)، والترمذي (٢/ ١٤٤- ١٤٥) كتاب «الصلاة» باب: ما جاء في المسجد الذي أسس على التقوى، حديث (٣٢٣)، وفي (٥/ ٢٨٠) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة التوبة، حديث (٣٠٩٩)، وأحمد (٣/ ٨، ٢٣، ٢٤، ٩١)، وابن أبي شيبة (٢/ ٣٧٢- ٢٧٣)، وأبو يعلى (٢/ ٢٧٢- ٣٧٣) برقم: (٩٨٥)، وابن حبان (١٦٠٦)، والحاكم (٢/ ٣٣٤)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٢/ ٥٤٤- ٥٤٥) من طرق عن أبي سعيد الخدري به.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٢٧٧)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
214
وقوله: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا اختلف في الضمير أيضاً، هل يعودُ على مسجدِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو على مسجد «قُبَاءَ» ؟ روي أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهُ أَثْنَى عَلَيْكُمْ بالطُّهُورِ، فَمَاذَا تَفْعَلُونَ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا رَأَيْنَا جِيرَانَنَا مِنَ اليَهُودِ يَتَطَهَّرُونَ بِالمَاءِ يُرِيدُونَ الاستنجاء، فَفَعَلْنَا نَحْنُ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ، لَمْ نَدَعْهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «فَلاَ تَدَعُوهُ إِذَنْ» «١».
والبنيانُ الذي أُسِّس على شفا جُرُفٍ: هو مسجدُ الضِّرار بإِجماع، و «الشّفا» :
الحاشية والشّفير، وهارٍ: معناه مُتهدِّمٌ بالٍ، وهو من: هَارَ يَهُورُ «٢» البخاريُّ: هَارَ هَائِرٌ تَهَوَّرَتِ البِئْرُ، إِذا تهدَّمت وانهارت مثله. انتهى.
وتأسيسُ البناء علَى تقوى إِنما هو بحُسْن النية فيه وقَصْدِ وجه اللَّه تعالى، وإِظهارِ شرعه كما صنع في مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وفي مسجدِ «قُبَاء»، والتأسيسُ على شفا جُرُفٍ هَارٍ إِنما هو بفسَاد النيَّة وقصدِ الرياءِ، والتفريقِ بَيْنَ المؤمنين، فهذه تشبيهاتٌ صحيحةٌ بارعةٌ.
وقوله سبحانه: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ: الظاهر منه أَنَّه خارجٌ مَخْرَجَ المَثَلِ، وقيل: بل ذلك حقيقة، وأن ذلك المَسْجِدَ بعينه انهار في نَارِ جَهَنَّم قاله قتادةُ وابْنُ جُرَيْج «٣»، وروي عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ وغيره أنه قال: رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ منه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «٤»، وروي في بَعْضِ الكُتُبِ أنَّ رَسُول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم رَآهُ حين انهار بَلَغَ الأَرض السابعة، فَفَزِعَ لذلك صلّى الله عليه وسلّم، وروي أنهم لم يُصلُّوا فيه أكْثَرَ من ثلاثةِ/ أيامٍ، وهذا كلُّه بإِسناد لَيِّنٍ، واللَّه أعلم، وأسند الطبريُّ عن خلفِ بْنِ ياسِين، أنه قَالَ: رَأَيْتُ مسْجِدَ المنافقينَ الذي ذَكَرَه اللَّه في القرآن، فَرَأَيْتُ فيه مكاناً يخرجُ منه الدُّخَان «٥» وذلك في زَمَن أبي جَعْفَرٍ المنصورِ، وروي شبيه بهذا أو نحوه عَن ابن جريج «٦» : أسنده الطبري.
(١) تقدم تخريجه. [.....]
(٢) ينظر: «صحيح البخاري» (٨/ ١٦٤) كتاب «التفسير» باب: سورة التوبة.
(٣) أخرجه الطبري في تفسيره (٦/ ٤٧٩) برقم: (١٧٢٦٠- ١٧٢٦١)، وذكره ابن عطية (٣/ ٨٥)، والبغوي (٣/ ٣٢٨)، وابن كثير (٢/ ٣٩١)، و «الدر المنثور» للسيوطي (٣/ ٤٩٩)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس بنحوه.
(٤) أخرجه الطبري (٦/ ٤٧٩) برقم: (١٧٢٦٢)، وذكره ابن عطية (٣/ ٨٥)، والبغوي (٢/ ٣٢٨)، وابن كثير (٢/ ٣٩١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٩٩)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه.
(٥) ذكره ابن عطية (٣/ ٨٦).
(٦) أخرجه الطبري (٦/ ٤٧٩) برقم: (١٧٢٦١).
215
قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «١» وفي قوله تعالَى: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ، مع قوله: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ [القارعة: ٩] إِشَارَةٌ إِلَى أَن النار تَحْتُ كما أن الجَنَّةَ فَوْقُ. انتهى.
والرِّيبة: الشَّكُّ، وقد يسمى ريبةً فسادُ المعتقدِ، ومعنى الرِّيبةِ، في هذه الآية: أمرٌ يعمُّ الغيظَ والحَنَقَ، ويعمُّ اعتقاد صَوَابِ فعْلهم ونحو هذا ممَّا يُؤدِّي كلُّه إِلى الارتياب في الإِسلامِ، فمقصدُ الكلام: لا يَزَالُ هذا البنيانُ الذي هُدِّم لهم، يُبْقِي في قلوبهم حَزَازَةً وأَثَرَ سُوءٍ، وبالشكِّ فسَّر ابن عباس الريبةَ هنا «٢».
وبالجملة إِن الريبة هنا تعمُّ معانيَ كثيرةً يأخذ كلُّ منافق منها بحَسَب قَدْره من النِّفاق.
وقوله: «أَلا أَنْ تُقطَّع قلوبهم» - بضم التاء- يعني: بالموت، قاله ابن عباس وغيره «٣» وفي مُصْحَف «٤» أُبَيٍّ: «حَتَّى المَمَاتِ»، وفيه: «حتّى تقطّع».
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
وقوله عزَّ وجلَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ... الآية: هذه الآيةُ نزلَتْ في البَيْعة الثالثة، وهي بيعةُ العَقَبة الكُبْرَى، وهي التي أَنَافَ فيها رجالُ الأنصار على السبعين وذلك أنهم اجتمعوا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند العقبة، فقالوا: اشترط لك، وَلَرَبِّكَ، والمتكلِّمُ بذلك عبدُ اللَّه بْنُ رَوَاحَة «٥» فاشترط نبيُّ الله
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ١٠١٨).
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٤٨٠) برقم: (١٧٢٦٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٨٦)، والبغوي في «تفسيره» (٢/ ٣٢٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٠٠)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «دلائل النبوة».
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ٤٨٠) برقم: (١٧٢٦٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٨٦)، وابن كثير (٢/ ٣٩١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٠٠)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «دلائل النبوة».
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٨٦)، و «البحر المحيط» (٥/ ١٠٥).
(٥) هو: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك الأغر... أبو محمد الأنصاري، الخزرجي.
كان ممن شهد العقبة، وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج، وشهد بدرا، وأحدا، والخندق،
216
حمايته ممَّا يحمُونَ منه أنفسهم، واشترط لربِّهِ التزام الشريعةِ، وقِتَالَ الأَحمَرِ والأَسْوَدِ في الدَّفْع عن الحَوْزَة، فقالوا: مَا لَنَا عَلَى ذَلِكَ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَقَالَ: الجَنَّةُ، فَقَالُوا: نَعَمْ، رَبحَ البَيْعُ، لاَ تَقِيلُ وَلاَ تُقَالُ، وفي بعض الرواياتِ: «وَلاَ نَسْتَقِيلُ» فنزلَتِ الآية في ذلك.
وهكذا نقله ابن العربيِّ في «أحكامه» «١»، عن عبد اللَّه بن رَوَاحَة، ثم ذكر من طريق الشعبيِّ، عن أبي أمامة أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ نحو كلام ابنِ رَوَاحَةَ.
قال ابن العربيِّ «٢» : وهذا وإن كان سنده مقطوعاً، فإن معناه ثابتٌ مِنْ طرق. انتهى.
ثم الآية بَعْدَ ذلك عامَّة في كلِّ من جَاهَدَ في سبيلِ اللَّهِ مِنْ أمة نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة، قال بعضُ العلماء: مَا مِنْ مُسْلِم إلا وللَّه في عُنُقِهِ هذه البَيْعَةُ، وفى بِهَا أو لم يَفِ، وفي الحديث: «إِنَّ فَوْقَ كُلِّ بِرٍّ بِرًّا حَتَّى يَبْذُلَ العَبْدُ دَمَهُ، فَإِذَا فَعَلَ، فَلاَ بِرَّ فَوْقَ ذَلِكَ». وأسند الطبريُّ عن كثير من أهْلِ العِلْم أنهم قالوا: ثَامَنَ اللَّه تَعَالَى في هذه الآية عِبَادَهُ، فَأَغْلَى لهم وقاله ابن عباس وغيره «٣»، وهذا تأويلُ الجمهور.
وقال ابن عُيَيْنَة: معنى الآية: اشترى منهم أنفسهم ألاَّ يُعْمِلُوهَا إلا في طاعته، وأموالَهُمْ أَلاَّ يُنْفِقُوها إِلاَّ في سبيله، فالآية علَى هذا: أعمُّ من القَتْلِ في سبيل اللَّه.
وقوله: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ على تأويل ابْنِ عُيَيْنة: مقطوعٌ، ومستأنفٌ، وأما على تأويل الجمهور مِنْ أَنَّ الشراء والبَيْع إِنما هو مع المجاهدين، فهو في موضع الحال.
وقوله سبحانه: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ: قال المفسِّرون:
يظهر من قوله: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ أن كلَّ أُمَّة أُمِرَتْ بالجهاد، ووُعِدَتْ عليه.
قال ع «٤» : ويحتملُ أَنَّ ميعاد أمّة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، تقدَّم ذكره في هذهِ الكُتُب، واللَّه أعلم.
والحديبية، وخيبر، وعمرة القضاء، والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا الفتح وما بعده، فإنه كان قد قتل قبله، وهو أحد الأمراء في غزوة مؤتة.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٣/ ٢٣٤)، «الإصابة» (٤/ ٦٦)، «الثقات» (٣/ ٢٢١)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٣١٠)، «الاستبصار» (٥٣، ٥٦)، «الاستيعاب» (٣/ ٢٩٨)، «بقي بن مخلد» (٨٨٥)، «تقريب التهذيب» (١/ ٤١٥)، «تهذيب التهذيب» (٥/ ٢١٢)، «تهذيب الكمال» (٢/ ٦٨١).
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ١٠١٨).
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ١٠١٩).
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ٤٨٢) برقم: (١٧٢٨١) نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٨٧). [.....]
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٨٧).
217
قال ص: وقوله: فَاسْتَبْشِرُوا: ليس للطلب، بل بمعنى: أَبْشِرُوا كاستوقد، قال أبو عُمَرَ بْنُ عبد البر في كتابه المسمى ب «بهجة المجالس» : وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من وعده الله على عمل ثوابا، فهو منجز له ما وعده، ومن أوعده على عمل عقابا، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له» «١». وعن ابن عباس مثله. انتهى. وباقي الآية بَيِّن.
قال الفَخْر: واعلم أَنَّ هذه الآية مشتملةٌ على أنواع من التأكيدات:
فأولها: قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ، فكون المشتَرِي هو اللَّه المقدَّس عن الكَذِبِ والحِيلَة مِنْ أَدَلِّ الدلائل على تأكيد هذا العَهْد.
والثاني: أنه عبر عن إِيصال هذا الثواب بالبَيْعِ والشراءِ، وذلك حَقٌّ مُؤَكَد.
وثالثها: قوله: وَعْداً، ووعد اللَّه حقٌّ.
ورابعها: قوله: عَلَيْهِ، وكلمةُ «عَلى» للوجوب.
وخامسها: قوله: حَقًّا، وهو تأكيد للتحقيق.
وسادسها: قوله: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وذلك يجري مَجْرَى إِشهاد جميع الكُتُب الإِلهية، وجمِيعِ الأَنبياء والمُرْسلين عَلى هذه المبايعة.
وسابعها: قوله: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ، وهو غايةُ التأكيد.
وثامنها: قوله: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وهو أيضاً مبالغةٌ في التأكيد.
وتاسعها: قوله: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ.
وعاشرها: قوله: الْعَظِيمُ.
فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوهِ العَشَرةِ في التأكيدِ والتقريرِ والتحقيق.
انتهى.
وقوله عزَّ وجلَّ: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ، إلى قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، هذه الأوصافُ هي مِنْ صفات المؤمنين الذين ذكر اللَّه أنَّه اشترى منهم أنفُسَهُمْ وأموالهم، ومعنى الآية، على ما تقتضيه أقوالُ العلماء والشَّرْعُ: أنها أوصافُ الكَمَلَةِ من المؤمنين، ذكرها سبحانه، لِيَسْتَبِقَ إِليها أهْلُ التوحيد حتى يكُونوا في أعْلَى رتبةٍ، والآية الأولى مستقلّة
(١) تقدم تخريجه من حديث عبادة بن الصامت.
218
بنفسها، يقع تَحْتَ تلك المبايعة كلُّ موحِّد قاتَلَ في سبيل اللَّهِ، لتكونَ كلمة اللَّه هي العليا، وإِنْ لم يتَّصفْ بهذه الصفات التي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها، وقالَتْ فرقةٌ: بل هذه الصفاتُ جاءت علَى جهة الشَّرْط، والآيتان مرتبطتان، فلا يَدْخُلُ في المبايعة إِلا المؤْمِنُونَ الذين هُمْ عَلى هذه الأوصاف، وهذا تحريجٌ وتضييقٌ، والأول أصوبُ، واللَّه أعلم.
والشهادة ماحيةٌ لكلِّ ذنب إلا لمظالِمِ العِبَادِ، وقد روي أن اللَّه عِزَّ وجلَّ يحمل على الشَّهِيدِ مَظَالِمَ العبادِ، ويجازِيهِمْ عنه، ختم الله لنا بالحسنى.
والسَّائِحُونَ: معناه: الصائمون، وروي عن عائشة، أَنها قالَتْ: سِيَاحَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ الصِّيَام «١» أسنده الطبريُّ «٢»، وروي أنه من كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «٣».
قَالَ الفَخْر: ولما كان أصل السياحة الاستمرار على الذَّهاب في الأرض، سُمِّي الصائم سائحاً لاستمراره على فِعْل الطاعة وترك المَنْهِيِّ عنه مِنْ المفطِّرات.
قال الفَخْر «٤» : عندي فيه وجْهٌ آخر، وهو أن الإِنسان إذا امتنع مِنَ الأَكل والشُّرب والوِقاع، وسَدَّ عَلَى نفسه بَابَ الشهواتِ، انفتحت له أبوابُ الحكمةُ وتجَلَّتْ له أنوار عالم الجلال ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ أَخْلَصَ للَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً، ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ «٥» فَيَصير من السائحين في عالَمِ جلالِ اللَّه المنتقلينِ مِنْ مقام إلى مقام، ومن
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٤٨٦) برقم: (١٧٣٢٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٨٩).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٨٤) برقم: (١٧٣٠٠- ١٧٣٠١).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٨٤) برقم: (١٧٣٠٠) عن عبيد بن عمير قال: سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن السائحين؟ فقال: هم الصائمون. وأخرجه برقم: (١٧٣٠١) عن أبي هارون قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: السائحون هم: الصائمون.
(٤) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٦/ ١٦١).
(٥) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٥/ ١٨٩) من طريق محمد بن إسماعيل، ثنا أبو خالد يزيد الواسطي أنبأنا الحجاج عن مكحول عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا.
وقال أبو نعيم: كذا رواه يزيد الواسطي متصلا، ورواه أبو معاوية عن الحجاج فأرسله.
ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٣/ ١٤٤).
وقال: هذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففيه يزيد الواسطي وهو يزيد بن عبد الرحمن.
قال ابن حبان: كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، خالف الثقات في الروايات لا يجوز الاحتجاج به، وحجاج مجروح، ومحمد بن إسماعيل مجهول، ولا يصحّ لقاء مكحول لأبي أيوب، وقد ذكر محمد بن سعد أن العلماء قدحوا في رواية مكحول وقالوا: هو ضعيف في الحديث اه.
والحديث قد روي عن مكحول مرسلا كما أشار إلى ذلك الحافظ أبو نعيم.
219
درجةٍ إلى درجةٍ». انتهى.
قال ع «١» : وقال بعضُ النَّاس، وهو في كتاب النَّقَّاش: السَّائِحُونَ: هم الجائلون بأفكارهم في قُدْرة اللَّه ومَلَكُوتهُ وهذا قولٌ حَسَن، وهو من أفضل العباداتِ، والرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ: هم المصلُّون الصَّلوات كذا قال أهل العلم، ولكن لا يختلف في أنَّ من يكثر النَّوافلَ هو أَدْخَلُ في الاسم، وأَعْرَقُ في الاتصاف.
وقوله: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ لفظٌ عامٌّ تحته/ التزام الشريعة.
ت: قال البخاريُّ: قال ابن عباس: الحدود: الطاعة «٢».
قال ابن العربيُّ «٣» في «أحكامه»، وقوله: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ خَاتمةُ البيان، وعمومُ الاشتمال لكلِّ أمْر ونهْي. انتهى.
والمرسل أخرجه هنّاد بن السري في «الزهد» برقم: (٦٧٨)، وابن أبي شيبة (١٣/ ٢٣١)، وأبو نعيم في «الحلية» (٥/ ١٨٩) من طريق الحجاج عن مكحول مرسلا.
وسنده ضعيف لضعف الحجاج مع إرساله. وللحديث شواهد من حديث أبي موسى وابن عباس.
حديث أبي موسى: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٥/ ١٩٤٥)، ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٣/ ١٤٤) من طريق عبد الملك بن مهران الرفاعي، حدثنا معن بن عبد الرحمن، عن الحسن، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من زهد في الدنيا أربعين يوما وأخلص فيها لله أخرج الله على لسانه ينابيع الحكمة من قلبه». وقال ابن عدي: هو منكر، وعبد الملك مجهول وأقره ابن الجوزي في «الموضوعات».
حديث ابن عباس: أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (٤٦٦)، ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٣/ ١٤٤- ١٤٥) من طريق سوار بن مصعب، عن ثابت، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: «من أخلص لله تعالى أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه».
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أحمد ويحيى والنسائي: سوار بن مصعب متروك الحديث، وقال يحيى: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال أيضا: وقد عمل جماعة من المتصوفة، والمتزهدين على هذا الحديث الذي لا يثبت، وانفردوا في بيت الخلوة أربعين يوما، وامتنعوا عن أكل الخبز، وكان بعضهم يأكل الفواكه، ويتناول الأشياء التي تتضاعف قيمتها على قيمة الخبز، ثم يخرج بعد الأربعين فيهذي ويتخيل إليه أنه يتكلم بالحكمة، ولو كان الحديث صحيحا فإن الإخلاص يتعلق بقصد القلب لا بفعل البدن فلله درّ العلم اه.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٨٩).
(٢) أخرجه البخاري (٦/ ٥) كتاب «الجهاد والسّير» باب: فضل الجهاد والسّير عن ابن عباس موقوفا. وقال الحافظ في «الفتح» (٦/ ٦) : وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه، قلت: وعلي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس، وفي ذلك رد على من يجزم أن تعليقات البخاري المجزومة كلها صحيحة.
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ١٠٢٠).
220
وقوله سبحانه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: قِيل: هو لفظ عامّ، أمر صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يبشِّر أمته جميعاً بالخير من اللَّه، وقيل: بل هذه الألفاظ خاصَّة لمن لم يَغْزُ، أي: لما تقدَّم في الآية وعْدُ المجاهدين وفضلهم، أمر صلّى الله عليه وسلّم، أنْ يبشِّر سائر المؤمنين ممَّن لم يَغْزُ بأنَّ الإيمان مُخَلِّص من النَّار، والحمد للَّه رب العالمين.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٣ الى ١١٦]
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
وقوله سبحانه: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ... الآية:
جمهورُ المفسِّرين أنَّ هذه الآية نزلَتْ في شَأْن أبي طالب، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دَخَلَ عَلَيْهِ حين احتضر، فَوَعَظَهُ، وقَالَ: «أَيْ عَمِّ قُلْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ»، وَكَانَ بالحَضْرة أَبو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّه بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقالا لَهُ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَترغَبُ عن ملَّة عَبْدِ المطَّلِبِ؟ فَقالَ أبو طَالِبٍ: يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ، لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ يُعَيَّرَ بِهَا وَلَدِي مِنْ بَعْدِي، لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ إذ لم يسمع منه صلّى الله عليه وسلّم ما قال العبَّاس، فنزلَتْ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: ٥٦] فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وَاللَّهِ، لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»، فَكَانَ يستغفر له حَتَّى نَزَلَتْ هذه الآية «١»، فترك نبيُّ اللَّه الاستغفار لأَبي طالب، وروي أنَّ المؤمنين لما رأَوْا نبيَّ اللَّه يستغفرُ لأبي طالب، جعلوا يَسْتَغْفِرُونَ لموتاهم، فلذلك دَخَلُوا في النّهي، والآية على هذا ناسخة
(١) أخرجه البخاري (٣/ ٢٦٣) كتاب «الجنائز» باب: إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلّا الله، حديث (١٣٦٠)، وفي (٧/ ٢٣٢) كتاب «مناقب الأنصار» باب: قصة أبي طالب، حديث (٣٨٨٤)، وفي (٨/ ١٩٢) كتاب «التفسير» باب: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، حديث (٤٦٧٥) وفي (٨/ ٣٦٥) كتاب «التفسير» باب: إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، حديث (٤٧٧٢) وفي (١١/ ٥٧٥) كتاب «الأيمان والنذور»، حديث (٦٦٨١)، ومسلم (١/ ٢٤٤- ٢٤٥) - شرح النووي، كتاب «الإيمان» باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، حديث (٣٩/ ٢٤)، والنسائي (٤/ ٩٠- ٩١) كتاب «الجنائز» باب: النهي عن الاستغفار للمشركين، حديث (٢٠٣٥)، وأحمد (٥/ ٤٣٣)، والطبري (٦/ ٤٨٨) رقم: (١٧٣٣٩)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٢/ ٣٤٢- ٣٤٣) كلهم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبيه به، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٠٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ، وابن مردويه.
221
لفعله صلّى الله عليه وسلّم إِذ أفعاله في حُكْم الشرعِ المستقِرِّ، وقال ابن عبَّاس وقتادة «١» وغيرهما: إِنما نزلَتِ الآية بسببِ جماعةٍ من المؤمنين قالوا: نَسْتَغْفِرُ لموتانا كما استغفر إِبراهيمُ عليه السلام، فنزلَتِ الآية في ذلك، وقوله سبحانه: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ...
الآية: المعنى: لا حجَّة أَيُّها المؤمنون في استغفار إِبراهيم عليه السلام، فإِن ذلك لم يكُنْ إِلا عن موعدةٍ، واختلف في ذلك، فقيلَ: عن مَوْعِدَةٍ من إِبراهيم، وذلك قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مريم: ٤٧] وقيل: عن موعِدَةٍ من أبيه له في أنَّهُ سيؤمن، فَقَوِيَ طمعه، فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نُهِيَ عنه، ومَوْعِدَة مِنَ الوَعْدِ، وأما تبيُّنه أنه عَدُوٌّ للَّه، قيل: ذلك بموت آزر على الكُفْر، وقيل: ذلك بأنه نُهِيَ عنه، وهو حيٌّ، وقوله سبحانه: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ثَنَاءٌ مِنَ اللَّه تعالَى على إِبراهيم، و «الأَوَّاهُ» معناهُ الخَائِفُ الذي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ مِنْ خَوفِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، والتَّأَوُّهُ: التوجُّع الذي يَكْثُرُ حَتَّى ينطق الإِنسان معه ب «أَوَّهْ» ومن هذا المعنَى قولُ المُثَقِّب العَبْدِي: [الوافر]
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحُلُهَا بِلَيْلٍ تَأَوَّهُ أَهَّةَ الرَّجُلِ الحَزِينِ «٢»
ويروى: آهَة.
وروي أن إبراهيم عليه السلام كان يُسْمَعُ وَجِيبُ قَلْبِهِ «٣» من الخشية، كما تُسْمَعُ أَجنحة النُّسُور، وللمفسِّرين في «الأَوَّاه» عباراتٌ كلُّها ترجعُ إِلى ما ذكرتُه.
ت: روى ابن المبارك في «رقائقه»، قال: أخبرنا عبدُ الحميدِ بْنُ بَهْرَام، قال:
حدَّثنا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، قَالَ: حَدَّثَني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّاد، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الأَوَّاهُ؟ قالَ: «الأَوَّاهُ الخَاشِعُ الدَّعَّاءُ المُتَضَرِّعُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» «٤» انتهى.
وحَلِيمٌ مَعناه: صابرٌ، محتملٌ، عظيمُ العَقْل، والحِلْمُ: العقل. وقوله سبحانَهُ:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ... الآية: معناه التأنيسُ للمؤمنين، وقيل: إن
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» عن قتادة، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٠٦)، وعزاه أيضا لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٩١). [.....]
(٣) وجب القلب يجب: وجبا ووجيبا ووجوبا، ووجبانا: خفق واضطرب.
ينظر: «لسان العرب» (٤٧٦٧).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٩٨) برقم: (١٧٤٣١) من حديث عبد الله بن شداد، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٠٩)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
222
بعضهم خَافَ عَلَى نَفْسِه مِنَ الاستغفار للمشْركين، فنزلت الآيةُ مُؤْنسة، أيْ: ما كان اللَّه بَعْدَ/ أَنْ هدَى إِلى الإِسْلاَمِ، وأنقذ مِنَ النار لِيُحْبِطَ ذلك، ويضلَّ أهله لمواقعتهم ذَنْباً لم يتقدَّم من اللَّه عنه نَهْيٌ، فأما إِذا بيَّن لهم ما يتَّقون من الأمورِ، ويتجنَّبون من الأشياء، فحينئذٍ مَنْ واقع شيئاً من ذلك بعد النَّهْيِ، استوجب العقوبة، وباقي الآية بيّن.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٧ الى ١١٨]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
وقوله سبحانه: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ... الآية: التوبةُ مِنَ اللَّه تعالَى هو رُجُوعه بعبده مِنْ حالة إِلى أَرفَعَ منها، فقد تكونُ في الأكثَرِ رُجُوعاً من حالة طاعةٍ إِلى أَكْمَلَ منها، وهذه توبته سبحانه في هذه الآيةِ عَلَى نبيِّه عليه السلام، وأما توبته على المهاجرين والأنصار، فمعرَّضةً لأنْ تكونَ مِنْ تقصير إلى طاعة وجِدٍّ في الغزو ونُصْرَةِ الدِّين، وأما توبته على الفريق الذي كاد يزيغ، فَرُجُوعٌ من حالة محطوطةٍ إلى حال غفران ورضاً وقال الشيخ أبو الحَسَن الشَّاذِلِيُّ رحمه اللَّه: في هذه الآية ذَكَر اللَّه سبحانه تَوْبَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ لَئِلاَ يستوحِشَ مَنْ أذنب لأنه ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمهاجرين والأنصار ولم يذنبوا، ثم قال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، فذكر مَنْ لم يُذْنِبْ لِيُؤْنَسَ من قد أذنب، انتهى من «لطائف المنن».
وساعَةِ الْعُسْرَةِ يريد: وقْت العسرة، والعُسْرة الشِّدَّةُ، وضيقُ الحَالِ، والعُدْمُ، وهذا هو جيشُ العُسْرة الذي قال فيه صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَلَهُ الجنة» «١»، فجهزه عثمانُ بْنُ عفَّان رضي اللَّه عنه بألْفِ جَمَلٍ، وألْف دينارٍ، وجاء أيضاً رجلٌ من الأنصار بِسَبْعِمَائَةِ وَسْقٍ مِنْ تَمْر، وهذه غزوةُ تبوكَ.
ت: وعن ابن عَبَّاس أنَّه قيل لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّاب: حدِّثنا عن شأنِ سَاعَةِ العُسْرَة، فقال عمر: خَرَجْنَا إلى تبوكَ في قَيْظٍ شديدٍ، فنزلْنا منزلاً أصابنا فيه عَطَشٌ، حتى ظَنَنَّا أَنَّ رقابنا سَتَنْقَطِعُ حتى إنَّ الرجُلَ لَيَنْحَرُ بعيره، فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ «٢» فيشربه، ثم يجعل ما بقي
(١) أخرجه البخاري (٥/ ٤٧٧) كتاب «الوصايا» باب: إذا وقف أرضا أو بئرا، حديث (٢٧٧٨) عن عثمان بن عفان به، وأخرجه معلقا (٧/ ٦٥) كتاب «فضائل الصحابة» باب: مناقب عثمان بن عفان.
(٢) الفرث: السّرجين ما دام في الكرش.
ينظر: «لسان العرب» ص: (٣٣٦٩).
223
عَلَى كَبِدِهِ، فقال أبو بكر: يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّه قد عَوَّدَكَ في الدعاءِ خيراً، فادع اللَّهَ، فَقَالَ: «أَتُحِبُّ ذلكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فلم يَرْجِعْهما حتَّى مالَتِ السماء، فَأَظلَّتْ، ثم سَكَبَتْ فملؤوا ما معهم، ثم ذهبْنا ننظر، فلم نجدْها جاوَزَتِ العَسْكَر، رواه الحاكم في «مستدركه على الصحيحين»، وقال: صحيحٌ على شرط الشَّيْخَيْن، يعني: مسلماً والبخاريَّ «١» انتهى في «السلاح»، ووصل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تَبُوكَ إِلى أوائلِ بلد العَدُوِّ فصالحه أَهْلُ أذرح وأَيْلَةَ وغيرهما على الجِزْية ونحوها، وانصرف، والزيغ المذْكُور هو ما هَمَّت به طائفةٌ من الانصراف لِمَا لَقُوا من المشقَّة والعُسْرة. قاله الحسن «٢».
وقيل: زيغها إِنما كان بظُنُونٍ لها ساءَتْ في معنى عزم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على تلك الغزوة، لما رأته من شدَّة الحال وقوَّة العدوِّ والمقصود، ثم أخبر عزَّ وجلَّ أنه تاب أيضاً على هذا الفريقِ، وراجَعَ به، وأنس بإِعلامه للأمَّة بأنه رؤوفٌ رحيمٌ، والثلاثة الذين خُلِّفوا هم كعْبُ بن مالِكٍ وهلال بن أمية الوَاقفيُّ ومُرَارَةُ بنُ الرَّبيع العامريُّ، وقد خرَّج حديثهم بكماله البخاريُّ ومسلم «٣»، وهو في السِّير فلذلك اختصرنا سَوْقَهُ، وهم الذين تقدَّم فيهم:
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ [التوبة: ١٠٦]، ومعنى خُلِّفُوا أُخِّروا، وتُرِكَ النظرُ في أمرهم، قال كَعْب: وليس بتخلُّفنا عَنِ الغَزْوِ، وهو بَيِّنٌ من لفظ الآية.
وقوله: وَظَنُّوا أَنْ لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ظَنُّوا هنا بمعنى: أيقنوا، قال
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٥٠٢) برقم: (١٧٤٤٣) والبزار (٢/ ٣٥٤- ٣٥٥- كشف)، والحاكم (١/ ١٥٩)، وابن حبان (١٣٨٣)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥/ ٢٣١) من حديث عمر بن الخطاب، وقال البزار: لا نعلمه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بهذا الإسناد عن عمر بهذا اللفظ. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦/ ١٩٨) وقال: رواه البزار والطبراني في «الأوسط» ورجال البزار ثقات.
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ٩٣).
(٣) أخرجه البخاري (٧/ ٧١٧، ٧١٩) كتاب «المغازي» باب: حديث كعب بن مالك، حديث (٤٤١٨)، ومسلم (٤/ ٢١٢٠، ٢١٢٨) كتاب «التوبة» باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، حديث (٥٣/ ٢٧٦٩)، والترمذي (٥/ ٢٨١- ٢٨٢) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة التوبة، حديث (٣١٠٢)، وابن حبان (٣٣٧٠) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥/ ٢٧٣، ٢٧٩) من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك به مطولا.
وقد أخرجه جزءا من هذا الحديث البخاري برقم: (٢٧٥٧، ٢٩٤٧، ٢٩٤٨، ٢٩٤٩، ٢٩٥٠، ٣٠٨٨، ٣٥٥٦، ٣٨٨٩، ٣٩٥١، ٤٦٧٣، ٤٦٧٦، ٤٦٧٧، ٤٦٧٨، ٦٢٥٥، ٦٦٩٠، ٧٢٢٥)، وأيضا أبو داود (٣٣٢٠)، والنسائي (٢/ ٥٣- ٥٤)، وابن ماجه (١٣٩٣)، وأحمد (٦/ ٣٩٠)، وابن أبي شيبة (١٤/ ٥٣٩) كلهم من طريق الزهري بهذا الإسناد مختصرا.
224
الشيخُ ابْنُ أبي جَمْرة رحمه اللَّه: قال بعضُ أهْل التوفيق: إِذا نزلَتْ بي نازلةٌ مَا مِنْ أي نوع كانَتْ، فَأُلْهِمْتُ فيها اللَّجَأَ، فلا أبالي بها، / واللَّجَأُ على وجوه منها: الاشتغال بالذِّكْرِ والتعبُّدِ وتفويض الأمر له عزَّ وجلَّ، لقوله تعالى على لسان نبيه: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلتي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائلين» «١»، ومنها: الصَّدَقة، ومنها: الدعاء، فكيفَ بالمَجْمُوع. انتهى.
وقوله سبحانه: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا لما كان هذا القولُ في تعديد النعم، بدأ في ترتيبه بالجهَة الَّتي هي عن الله عز وجلّ ليكون ذلك مِنْها على تلقِّي النعمة مِنْ عنده لا رَبَّ غيره، ولو كان هذا القولُ في تعديد ذَنْبٍ، لكان الابتداء بالجهة التي هي على المذنب، كما قال عز وجل: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٥] ليكون ذلك أشدَّ تقريراً للذنْب عليهم، وهذا مِنْ فصاحة القُرآن وبديعِ نظمِهِ ومُعْجِزِ اتساقه.
وبيانُ هذه الآيةِ ومواقعِ ألفاظها إِنما يَكْمُلُ مع مطالعة حديثِ الثلاثة الذين خُلِّفوا في الكُتُب المذكورة، فَانظره، وإِنما عَظُم ذنبهم، واستحقوا عليه ذلك، لأن الشرع يطلبهم مِنَ الجِدِّ فيه بحَسَب منازلهم منه، وتقدُّمهم فيه إِذ هم أُسْوة وحُجَّة للمنافقين، والطاعنين، إِذ كان كعْبٌ من أهْل العقبة، وصاحباه من أهْل بدر، وفي هذا ما يقتضي أَنَّ الرجُلَ العَالِمَ والمُقْتَدَى به أَقلُّ عذراً في السقوطِ مِنْ سواه، وكَتَب الأوزاعيُّ رحمه اللَّه إلى أبي جَعْفَرِ المنصورِ في آخر رسالةٍ: واعلم أَنَّ قرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لَنْ تَزِيدَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْكَ إِلاَّ عَظِماً، ولا طاعَتَهُ إِلا وجُوباً، ولا النَّاسَ فيما خالف ذلك منك إلّا إنكارا، والسلام.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٩ الى ١٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ هذا الأمر بالكوْن مع الصَّادقين حَسَنٌ بعد قصَّة الثلاثة حين نَفَعَهم الصِّدْق، وذَهَبَ بهم عن منازل المنافقين،
(١) تقدم تخريجه في أوائل التفسير.
225
وكان ابنُ مسعودٍ يتأوَّل الآية في صِدْق الحديث «١»، وإِليه نحا كَعْبُ بنُ مالك.
وقوله سبحانه: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ... الآية هذه الآية معاتبةٌ للمؤمنين من أهل يَثْرِبَ وقبائل العرب المُجَاورة لها، على التخلُّف عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزوةٍ، وقُوَّةُ الكلام تعطي الأمر بِصُحْبَتِهِ أَيْنَ ما توجَّه غازياً وبَذْلِ النفوس دونه، و «المخُمَصَة» مَفْعَلَةٌ من خُمُوص البَطْنِ، وهو ضُمُوره واستعير ذلك لحالة الجُوع، إِذ الخُمُوص ملازمٌ له، ومن ذلك قولُ الأَعْشَى: [الطويل]
تَبِيتُونَ في المَشْتى مِلاَءً بُطُونُكُمْ وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى «٢» يَبِتْنَ خَمَائِصَا «٣»
وقوله: وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا: لفظٌ عامٌّ لقليلِ ما يصنعه المؤمنون بالكَفَرةِ- من أخْذ مالٍ، أو إِيراد هوانٍ- وكثيره ونَيْلًا: مصدر نَالَ يَنَالُ وفي الحديث: «مَا ازداد قومٌ مِنْ أَهْلِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بُعْداً إِلاَّ ازدادوا مِنَ اللَّهِ قُرْباً».
ت: وروى أَبو داود في «سننه»، عن أبي مالكٍ الأشعريّ، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «مَنْ فَصَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَاتَ، أَوْ قُتِلَ، فَهُوَ شَهِيدٌ، أَوْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ، أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، وإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ»، انتهى «٤».
قال ابنُ العربي «٥» في «أحكامه» : قَوْلُه عزَّ وجلَّ: وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ: يعني إِلاَّ كُتِبَ لهم ثوابُهُ، وكذلك قال في المجاهد: «إِنَّ أَرْوَاثَ دَوَابِّهِ وأَبْوَالَهَا حَسَنَاتٌ له» وَكَذَلِكَ أَعطَى سبحانه لأَهْل العُذْر من الأجر ما أعطى للقويّ العامل بفضله،
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٥٠٩- ٥١٠) برقم: (١٧٤٧٠- ١٧٤٧١)، وذكره ابن عطية (٣/ ٩٥)، والبغوي (٢/ ٣٣٧) نحوه، وابن كثير (٢/ ٣٩٩) نحوه.
(٢) جمع غرثى وغرثانة، والغرث: أيسر الجوع.
ينظر: «لسان العرب» (٣٢٣١).
(٣) البيت للأعشى ينظر: «ديوانه» (١٤٩)، «الدر المصون» (٢/ ٨٧).
(٤) أخرجه أبو داود (٢/ ١٢) كتاب «الجهاد» باب: فيمن مات غازيا، حديث (٢٤٩٩)، والحاكم (٢/ ٧٨)، والبيهقي (٩/ ١٦٦) كتاب «السير» باب: فضل من مات في سبيل الله، والطبراني في «الكبير» (٣/ ٣٢٠) رقم: (٣٤١٨) كلهم من طريق ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري به.
وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرِّجاه، وتعقبه الذهبي فقال: ابن ثوبان: لم يحتج به مسلم وليس بذاك، وعبد الرحمن بن غنم لم يدركه مكحول فيما أظن.
(٥) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ١٠٢٩).
226
ففي الصحيح، بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال في هذه الغزوة بعينها: «إِنَّ بِالمَدِينَةِ قَوْماً مَا سَلَكْتُمْ وَادِياً وَلاَ قَطَعْتُمْ شِعْباً إلّا وهم معكم حبسهم العذر» «١» انتهى.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
وقوله سبحانه: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً... الآية: قالتْ فرقة: إِن المؤمنين الذين/ كانوا بالبادية سكَّاناً ومبعوثين لتعليم الشَّرْع، لما سمعوا قولَ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ... الآية [التوبة: ١٢٠]، أهمّهم ذلك، فنفروا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خشية أنْ يكونُوا عُصَاةً في التخلُّف عن الغَزْوِ، فنزلَتْ هذه الآية في نَفْرِهِمْ ذلك.
وقالتْ فرقة: سَبَبُ هذه الآية أن المنافقين، لما نزلَتِ الآيات في المتخلِّفين، قالوا:
هَلَكَ أَهْلُ البوادِي، فنزلَتْ هذه الآية مقيمةً لعُذْرِ أهل البوادي.
قال ع «٢» : فيجيء قوله: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ:
عمومٌ في اللفظ، والمراد به في المَعنَى الجمهورُ والأكْثَرُ، وتجيءُ هذه الآية مبيِّنة لذلك.
وقالتْ فرقةٌ: هذه الآية ناسِخَةٌ لكُلِّ ما ورد من إِلزام الكافَّة النَّفير والقِتَال، وقال ابنُ عبَّاس ما معناه: أَنَّ هذه الآية مختصَّة بالبعوثِ والسَّرايا «٣» والآية المتقدِّمة ثابتةُ الحُكْم مع خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الغَزْو، وقَالَتْ فرقةٌ: يشبه أنْ يكون التفقّه في الغزو وفي
(١) أخرجه مسلم (٣/ ١٥١٨) كتاب «الإمارة» باب: ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر، حديث (١٥٩/ ١٩١١)، وابن ماجه (٢/ ٩٢٣) كتاب «الجهاد»، باب: من حبسه العذر عن الجهاد حديث (٢٧٦٥)، وأحمد (٣/ ٣٠٠) وأبو يعلى (٤/ ١٩٣) رقم (٢٢٩١) كلهم من طريق الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر مرفوعا.
وله شاهد من حديث أنس بن مالك. أخرجه البخاري (٧/ ٧٣٢) كتاب «المغازي» باب: نزول النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجر، حديث (٤٤٢٣)، ومسلم (٣/ ١٥١٨) كتاب «الإمارة» باب: ثواب من حبسه عن الغزو مرض، حديث (٥٩/ ١٩١١)، وأحمد (٣/ ١٠٣)، وابن ماجه (٢/ ٩٢٣)، كتاب «الجهاد»، باب: من حبسه العذر عن الجهاد حديث (٢٧٦٤)، وأبو يعلى (٦/ ٤٥٠- ٤٥١) رقم: (٣٨٣٩)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٥٢٤- بتحقيقنا). [.....]
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٩٦).
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ٥١٤) برقم: (١٧٤٨٥) نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٩٦- ٩٧)، والبغوي في «تفسيره» (٢/ ٣٣٩) نحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٢١) نحوه، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «المدخل».
227
السرايا، لِمَا يَرَوْنَ من نُصْرَةِ اللَّه لدينِهِ، وإِظهارِهِ العَدَد القليلَ من المؤمنين على الكثير من الكافرين، وعِلْمِهم بذلك صحَّة دِينِ الإِسلام ومكانَتِهِ.
ع «١» : والجمهور على أن التفقُّه إِنما هو بمشاهدة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصُحْبَته، وقيل غير هذا.
ت: وَصحَّ عنه صلّى الله عليه وسلّم، أنه قَالَ: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإذا استنفرتم فانفروا» «٢»، وقد استنفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس في غزوة تَبُوكَ، وأعلن بها حَسَبَ
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٩٧).
(٢) ورد ذلك من حديث ابن عباس، وعائشة، ومجاشع بن مسعود، وصفوان بن أمية، ويعلى بن أمية التيمي، وقول ابن عمر، وقول عمر، وحديث أبي سعيد الخدري.
فأما حديث ابن عباس: فأخرجه البخاري (٦/ ٤٥) في «الجهاد» باب: وجوب النفير (٢٨٢٥)، (٦/ ٢١٩) باب: لا هجرة بعد الفتح (٣٠٧٧)، ومسلم (٣/ ١٤٨٧) في «الإمارة» باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام، والجهاد، والخير، وبيان معنى: لا هجرة بعد الفتح (٨٥/ ١٣٥٣)، وأبو داود (٢/ ٦) في «الجهاد» باب: في الهجرة، هل انقطعت؟ (٢٤٨٠)، والنسائي (٧/ ١٤٦) في «البيعة» باب: الاختلاف في انقطاع الهجرة، والترمذي (١٥٩٠)، وأحمد (١/ ٢٦٦، ٣١٥، ٣١٦، ٣٤٤)، وعبد الرزاق (٥/ ٣٠٩) برقم: (٩٧١٣)، والدارمي (٢/ ٢٣٩) في «السير» باب: لا هجرة بعد الفتح، وابن حبان (٧/ ٤٨٤٥)، والطبراني في «الكبير» (١١/ ٣٠- ٣١) برقم: (١٠٩٤٤)، وابن الجارود في «المنتقى» (١٠٣٠)، والبيهقي (٥/ ١٩٥)، (٩/ ١٦)، وفي «دلائل النبوة» (٥/ ١٠٨)، والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (٤/ ١٧٩) برقم: (١٩٩٦)، و (٥/ ٥٢٠) برقم: (٢٦٣٠) من طريق منصور، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس مرفوعا به.
وتابعه إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، أخرجه الطبراني (١١/ ١٨) برقم:
(١٠٨٩٨).
وأخرجه الطبراني (١٠/ ٤١٣) برقم: (١٠٨٤٤) عن شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأما حديث عائشة: فأخرجه البخاري (٦/ ٢٢٠) في «الجهاد» باب: لا هجرة بعد الفتح (٣٠٨٠)، (٧/ ٢٦٧) في «مناقب الأنصار» باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة (٣٩٠٠)، وفي (٧/ ٦٢٠) في «المغازي» باب: (٥٣) برقم: (٤٣١٢)، ومسلم (٣/ ١٤٨٨) في «الإمارة» باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام، والجهاد، والخير... (٨٦- ١٨٦٤)، وأبو يعلى (٤٩٥٢)، واللفظ لمسلم، ولأبي يعلى من طريق عطاء، عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الهجرة؟ فقال: «لا هجرة بعد الفتح... »
الحديث، وفي لفظ البخاري عن عطاء قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير فسألتها عن الهجرة؟ فقالت:
«لا هجرة اليوم، كان المؤمن يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، فالمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية». وهكذا أخرجه البيهقي (٩/ ١٧).
وأما حديث مجاشع بن مسعود فأخرجه البخاري (٦/ ١٣٧) في «الجهاد» باب: البيعة في الحرب ألا
228
ما هو مصرَّح به في حديث كَعْب بن مالِكٍ في «الصِّحَاح»، فكان العَتَبُ متوجِّهاً على من
يفروا... (٢٩٦٢، ٢٩٦٣)، و (٦/ ٢١٩) باب: لا هجرة بعد الفتح (٣٠٧٨- ٣٠٧٩)، و (٧/ ٦١٩) في «المغازي» باب: (٥٣) (٤٣٠٥- ٤٣٠٨)، ومسلم (٣/ ١٤٨٧) في «الإمارة» باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام، والجهاد والخير، (٨٣- ٨٤/ ١٨٦٣)، وأحمد (٣/ ٤٦٨- ٤٦٩)، و (٥/ ٧١)، والحاكم (٣/ ٣١٦)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (٣/ ٢٥٢)، والبيهقي (٩/ ١٦)، وفي «الدلائل» (٥/ ١٠٩) من طريق أبي عثمان النهدي: حدثني مجاشع قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بأخي بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة، قال: «ذهب أهل الهجرة بما فيها»، فقلت: على أي شيء تبايعه؟
قال: «أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد»، فلقيت معبدا بعد- وكان أكبرهما- فسألته، فقال:
صدق مجاشع..
وأما حديث صفوان بن أمية: فأخرجه النسائي (٧/ ١٤٥) في «البيعة» باب: الاختلاف في انقطاع الهجرة، وأحمد (٣/ ٤٠١) عن وهيب بن خالد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن صفوان بن أمية قال: قلت: يا رسول الله، إنهم يقولون إن الجنة لا يدخلها إلا مهاجر، قال: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، فإذا استنفرتم فانفروا».
وأخرجه أحمد (٣/ ٤٠١)، (٦/ ٤٦٥) عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، عن أبيه أن صفوان بن أمية بن خلف قيل له: هلك من لم يهاجر، قال: فقلت: لا أصل إلى أهلي حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فركبت راحلتي، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله زعموا أنه هلك من لم يهاجر، قال: «كلا أبا وهب، فارجع إلى أباطح مكة».
وأما حديث يعلى بن أمية: فأخرجه النسائي (٧/ ١٤١) في «البيعة» باب: البيعة على الجهاد، (٧/ ١٤٥) في ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، وأحمد (٤/ ٣٢٣- ٣٢٤)، والطبراني في «الكبير» (٢٢/ ٢٥٧) رقم: (٦٦٤- ٦٦٥)، والبيهقي (٩/ ١٦) من طريق ابن شهاب، عن عمرو بن عبد الرحمن بن أمية أن أباه أخبره أن يعلى قال: جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأبي يوم الفتح، فقلت: يا رسول الله: بايع أبي على الهجرة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبايعه على الجهاد، وقد انقطعت الهجرة».
وأما حديث أبي سعيد الخدري: فأخرجه أحمد (٣/ ٢٢) (٥/ ١٨٧)، والطيالسي (٦٠١، ٩٦٧، ٢٢٠٥)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥/ ١٠٩) عن أبي البختري الطائي، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه السورة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ... قرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ختمها وقال: «الناس حيز، وأنا وأصحابي حيز»، وقال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية»، فحدثت به مروان بن الحكم وكان على المدينة، فقال له مروان: كذبت، وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت، وهما قاعدان معه على السرير، فقال أبو سعيد: لو شاء هذان لحدثاك، ولكن هذا يخاف أن تنزعه من عرافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، فسكتا، فرفع مروان عليه الدرة ليضربه، فلما رأيا ذلك، قالا: صدق.
أما قول ابن عمر: فأخرجه البخاري (٧/ ٢٦٧) في «مناقب الأنصار» باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة (٣٨٩٩)، و (٧/ ٦٢٠) في «المغازي» باب: (٥٣)، و (٤٣٠٩، ٤٣١١) من طريق عطاء، عن ابن عمر كان يقول: لا هجرة بعد الفتح.
وفي لفظ آخر: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: إني أريد أن أهاجر إلى الشام، قال: لا هجرة، ولكن جهاد، فانطلق فاعرض نفسك، فإن وجدت شيئا وإلا رجعت.
وأما قول عمر: فأخرجه النسائي (٧/ ١٤٦) في «البيعة» باب: الاختلاف في انقطاع الهجرة، وأبو يعلى
229
تأخَّر عنه بعد العِلْمِ، فيظهر واللَّه أعلم، أنَّ الآية الأولَى باقٍ حكمها كما قال ابن عباس، وتكون الثانية ليستْ في معنى الغَزْو، بل في شأن التفقُّه في الدِّين على الإِطلاق «١» وهذا هو الذي يُفْهَمُ من استدلالهم بالآية علَى فَضْلِ العلْم، وقد قالت فرقة: إِن هذه الآية لَيْسَتْ في معنى الغَزْو، وإِنما سببها قبائلٌ مِنَ العرب أصابتهم مجاعةٌ، فنفزوا إلى المدينة لِمَعْنَى المعاشِ، فكادوا يُفْسِدونها، وكان أكثرهم غَيْرَ صحيحِ الإِيمانِ، وإِنما أَضْرَعَه الجُوع، فنزلَتِ الآية في ذلك، والإِنذارُ في الآية عامٌّ للكفر والمعاصي، والحذرِ منها أيضاً كذلك قال ابن المبارك في «رقائقه» أخبرنا موسَى بْنُ عُبَيْدَة، عن محمد بن كَعْب القُرَظِيِّ، قال:
إِذا أراد اللَّه تبارك وتعالَى بِعَبْدٍ خيراً، جعل فيه ثلاثَ خصالٍ: فقْهاً في الدِّينِ، وزَهَادةً في الدنيا، وبَصَّرَهُ بعيوبه «٢». انتهى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (١٢٧)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ قيل: إِنَّ هذه الآية نزَلَتْ قبل الأمر بقتال الكُفَّار كافَّة، فهي من التدريجِ الذي كان في أوَّل الإِسلام.
قال ع «٣» : وهذا ضعيفٌ فإِن هذه السورة من آخر ما نَزَلَ.
وقالتْ فرقة: معنى الآية أنَّ اللَّه تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أنْ يقاتل كُلُّ فريقٍ منهم الجنْسَ الذي يليه من الكَفَرة.
وقوله سبحانه: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً: أي: خشونةً وبأساً، ثم وعَدَ سبحانه في آخر الآية وحَضَّ على التقوَى التي هي مِلاَكُ الدِّينِ والدنيا، وبها يُلْقَى العَدُوُّ، وقد قال
في «مسنده» (١٨٦)، عن شعبة، عن يحيى بن هانىء، عن نعيم بن دجاجة قال: سمعت عمر يقول: لا هجرة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(١) أخرجه الطبري (٦/ ٥١٤) برقم: (١٧٤٨٨)، وابن كثير (٢/ ٤٠١)، والبغوي في «تفسيره» (٢/ ٥٢٢).
(٢) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (٩٥- ٩٦) رقم: (٢٨٢) ومن طريقه أبي نعيم في «حلية الأولياء» (٣/ ٢١٣).
(٣) ينظر: «المحرر» (٣/ ٩٧).
230
بعضُ الصحابة: إِنما تُقَاتِلُونَ النَّاس بأَعمالكم، وَوَعَد سبحانه أنه مع المتَّقِينَ، وَمَنْ كان اللَّه مَعِهُ، فَلَنْ يُغْلَبَ.
وقوله تعالى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً...
الآية: هذه الآية نزلَتْ في شأن المنافقين، وقولهم: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً يحتمل أنْ يكون لمنافقينَ مِثْلِهِمْ، أو لقومٍ من قراباتهم علَى جهة الاستخفاف والتحقير لشأن السُّورة، ثم ابتدأ عزَّ وجلَّ الردَّ عليهم بقوله: فَأَمَّا/ الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وذلك أنه إذا نزلَتْ سورةٌ، حَدَثَ للمؤمنين بها تصديقٌ خاصٌّ، لم يكنْ قبلُ، فتصديقهم بما تضمَّنته السورةُ مِنْ أخبار وأمرٍ ونَهْيٍ أمرٌ زائد على الذي كان عِنْدهم قبلُ، وهذا وجْهٌ من زيادة الإِيمان.
ووجه آخر أنَّ السورة ربَّما تضمَّنت دليلاً أو تنبيهاً على دليل، فيكون المؤمن قد عَرَفَ اللَّه بعدَّة أدلَّة، فإِذا نزلت السورةُ، زادَتْ في أدلَّته، وَوَجْهٌ آخر من وجوه الزيادة أنَّ الإِنسان ربَّما عرضه شكٌ يسيرٌ، أو لاحَتْ له شبهة مشغِّبة، فإِذا نزلَتِ السورة، ارتَفَعَتْ تلك الشبهة، وقَوِيَ إِيمانه وارتقى اعتقاده عن معارَضَة الشبهات، والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ:
هم المنافقون، و «الرجْسُ» في اللغة: يجيء بمعنى القَذَرِ، ويجيء بمعنى العذاب، وحالُ هؤلاء المنافقين هي قَذَرٌ، وهي عذابٌ عاجلٌ، كفيلٌ بآجِلٍ، وإِذا تَجدَّد كفْرُهم بسورةٍ، فقد زاد كُفْرهم، فذلك زيادةُ رجْسٍ إِلى رِجْسهم.
وقوله سبحانه: أَوَلا يَرَوْنَ يعني: المنافقين، وقرأ حَمزة: «أَوَلاَ تَرَوْنَ» - بالتاء من فوق- على معنى: أو لا تَرَوْنَ أيُّها المؤمنون أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ، أي: يُخْتَبرُونَ، وقرأ مجاهدٌ: «مَرْضَةً أَوْ مَرْضَتَيْنِ»، والذي يظهر مما قبل الآية، ومما بعدها أَنَّ الفتنة والاختبار إِنما هي بكَشْفِ اللَّه أَسرارهم وإِفشائه عقائدهم إِذ يعلمون أنَّ ذلك مِنْ عند اللَّه، وبهذا تقومُ الحُجَّة عليهم، وأما الاختبار بالمَرَضِ فهو في المؤمنين.
وقوله سبحانه: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ: المعنى: وإِذا ما أنزلَتْ سورةٌ فيها فضيحةُ أسرار المنافقين، نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ: أي: هلْ معكم مَنْ يَنْقُلُ عَنْكم، هَلْ يراكم من أحدٍ حين تدبِّرون أموركم، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْ طريق الاهتداء وذلك أنهم وقْتَ كشْف أسرارهم والإِعلام بمغيِّبات أمورهم، يقع لهم لا مَحَالة تَعَجُّب وتوقُّف ونَظَر، فلو أريد بهم خَيْرٌ، لكان ذلك الوَقْتُ مَظِنَّةَ الاهتداء، وقد تقدَّم بيانُ قوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.
231

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
وقوله عز وجل: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ... الآية مخاطبةٌ للعرب في قول الجمهور، وهذا على جهة تعديدِ النعمة عَلَيْهِمْ إِذْ جاءَهم بلسانِهِمْ، وبما يفهمونه منَ الأَغراض والفصاحةِ، وشُرِّفوا به غَابِرَ الدهْرِ.
وقوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ: يقتضي مدْحاً لنسبه صلّى الله عليه وسلّم، وأنه من صميمِ العَرَبِ، وشَرَفِها، وقرأ عبد اللَّه بن قُسَيْطٍ المَكِّيُّ: «مِنْ أَنْفَسِكُمْ» - بفتح الفاء- من النّفاسة، ورويت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقوله: مَا عَنِتُّمْ: معناه عَنَتُكُمْ ف «ما» مصدريةٌ، والعَنَت: المشقَّة، وهي هنا لفظةٌ عامَّة، أي: عزيز عليه مَا شَقَّ عليكم: مِنْ قتلٍ وإِسارٍ وامتحان بحسب الحَقِّ واعتقادكم أيضاً معه، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي: على إيمانكم وهداكم.
وقوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ أي: مبالغٌ في الشفقة عليهم، قال أبو عبيدة: الرّأفة أرقّ الرحمة.
ثم خاطب سبحانه نبيَّه بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا، أي: أعرضوا، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ: هذه الآية من آخر مَا نَزَلَ، وصلى اللَّه علَى سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِيِّ العظيم.
Icon