الأولى - في أسمائها. قال سعيد بن جبير : سألت ابن عباس رضي الله عنه عن سورة براءة فقال : تلك الفاضحة ما زال ينزل : ومنهم ومنهم حتى خفنا ألا تدع أحدا. قال القشيري أبو نصر عبدالحميد : هذه السورة نزلت في غزوة تبوك ونزلت بعدها. وفي أولها نبذ عهود الكفار إليهم. وفي السورة كشف أسرار المنافقين. وتسمى الفاضحة والبحوث ؛ لأنها تبحث عن أسرار المنافقين وتسمى المبعثرة والبعثرة : البحث.
الثانية - واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال خمسة :[ الأول ] أنه قيل كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية إذا كان بينهم وبين قوم عهد فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة، فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة. وقول ثان : روى النسائي قال حدثنا أحمد قال حدثنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد قال حدثنا عوف قال حدثنا يزيد الرقاشي١ قال قال لنا ابن عباس : قلت لعثمان ما حملكم إلى أن عمدتم إلى [ الأنفال ] وهي من المثاني وإلى [ براءة ] وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطول٢ فما حملكم على ذلك ؟ قال عثمان : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول :( ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا ). وتنزل عليه الآيات فيقول :( ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ). وكانت [ الأنفال ] من أوائل ما أنزل٣، و [ براءة ] من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنه منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم. وخرجه أبو عيسى الترمذي وقال : هدا حديث حسن. وقول ثالث : روي عن عثمان أيضا. وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبدالحكم : إنه لما سقط أولها سقط بسم الله الرحمن الرحيم معه. وروي ذلك عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة [ براءة ] كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها فلذلك لم يكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم. وقال سعيد بن جبير : كانت مثل سورة البقرة. وقول رابع : قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما. قالوا : لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم : براءة والأنفال سورة واحدة. وقال بعضهم : هما سورتان. فتركت بينهما فرجة لقول من قال : إنهما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة، فرضي الفريقان معا وثبتت حجتاهما في المصحف. وقول خامس : قال عبدالله بن عباس : سألت علي بن أبي طالب لم لم يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان. وروي معناه عن المبرد قال : ولذلك لم يجمع بينهما فإن بسم الله الرحمن الرحيم رحمة وبراءة نزلت سخطة٤. ومثله عن سفيان. قال سفيان بن عيينة : إنما لم تكتب في صدر هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم لأن التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ولا أمان للمنافقين. والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة قاله القشيري. وفي قول عثمان : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن براءة وحدها ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلى الله عليه وسلم لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك. وكانتا تدعيان القرينتين فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي.
الثالثة- قال ابن العربي : هذا دليل على أن القياس أصل في الدين ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس الشبه عند عدم النص ورأوا أن قصة [ براءة ] شبيهة بقصة [ الأنفال ] فألحقوها بها ؟ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائر الأحكام.
٢ السبع الطول: سبع سور وهي سورة البقرة، وآل عمران والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف فهذه ست سور متواليات. واختلفوا في السابعة، فمنهم من قال: السابعة الأنفال وبراءة وعدهما سورة واحدة ومنهم من جعل السابعة سورة يونس..
٣ أي بعد الهجرة.
٤ في الجمل عن القرطبي: بسخطه.
مدنية باتفاق
[سورة التوبة (٩): آية ١]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- فِي أَسْمَائِهَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ فَقَالَ: تِلْكَ الْفَاضِحَةُ مَا زَالَ يَنْزِلُ: وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ، حَتَّى خِفْنَا أَلَّا تَدَعَ أَحَدًا. قَالَ القشيري أبو نصر عبد الرحيم: هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَنَزَلَتْ بَعْدَهَا. وَفِي أَوَّلِهَا نَبْذُ عُهُودِ الْكُفَّارِ إِلَيْهِمْ. وَفِي السُّورَةِ كَشْفُ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ. وَتُسَمَّى الْفَاضِحَةَ وَالْبَحُوثَ، لِأَنَّهَا تَبْحَثُ عَنْ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ. وَتُسَمَّى الْمُبَعْثِرَةَ وَالْبَعْثَرَةُ: الْبَحْثُ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَبَبِ سُقُوطِ الْبَسْمَلَةِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَقْوَالٍ خَمْسَةٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّهُ قِيلَ كَانَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ فِي زَمَانِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَإِذَا أَرَادُوا نَقْضَهُ كَتَبُوا إِلَيْهِمْ كِتَابًا وَلَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ بَسْمَلَةً فَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ بِنَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمش ركين بَعَثَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي ابن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِمِ وَلَمْ يُبَسْمِلْ فِي ذَلِكَ عَلَى ما جرت به عاد تهم فِي نَقْضِ الْعَهْدِ مِنْ تَرْكِ الْبَسْمَلَةِ. وَقَوْلٌ ثَانٍ- رَوَى النَّسَائِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرقاشي «١» قال قال
(٢). أي بعد الهجرة.
(٣). في الجمل عن القرطبي: بسخطه.
[سورة التوبة (٩): آية ٢]
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَسِيحُوا" رَجَعَ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ أَيْ قُلْ لَهُمْ سِيحُوا أَيْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ آمِنِينَ غَيْرَ خَائِفِينَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَرْبٍ وَلَا سَلْبٍ وَلَا قَتْلٍ وَلَا أَسْرٍ. يُقَالُ سَاحَ فُلَانٌ فِي الْأَرْضِ يَسِيحُ سِيَاحَةً وَسُيُوحًا وَسَيَحَانًا وَمِنْهُ السَّيْحُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي الْمُنْبَسِطِ وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَنِي | حَتَّى تَرَى أَمَامِي تَسِيحُ الثَّانِيَةُ |
يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا | حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا |
كُنْتَ لَنَا أَبًا وَكُنَّا وَلَدَا | ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا |
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا عَتَدَا | وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا |
فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا | أَبْيَضَ مِثْلَ الشَّمْسِ يَنْمُو صُعُدَا |
إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا | فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا |
إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا | وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا |
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدَا | وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا |
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ «٤» هُجَّدَا | وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا |
(٢). بيت القوم والعدو أوقع بهم ليلا.
(٣). راجع تاريخ الطبري وسيرة ابن هشام في فتح مكة.
(٤). في الأصول: (الحطيم). والتصويب عن سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري ومعجم ياقوت وكتب الصحابة في ترجمة (عمرو بن سالم الخزاعي). والوتير: اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة.
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
وأنشد ها إلى آخر ها، وَذَكَرَ فِيهَا الْمُهَاجِرِينَ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ- وَكَانَ قَبْلَ دلك قَدْ حُفِظَ لَهُ هِجَاءٌ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَابَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ إِذْ لَمْ يَذْكُرْهُمْ، فَغَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَصِيدَةٍ يَمْتَدِحُ فِيهَا الْأَنْصَارَ فَقَالَ:
مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ | فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ «٢» |
وَرِثُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ | إِنَّ الْخِيَارَ هُمُ بَنُو الْأَخْيَارِ |
الْمُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيَّ بِأَذْرُعٍ | كَسَوَافِلِ الْهِنْدِيِّ غَيْرِ قِصَارِ «٣» |
(٢). المقنب: الجماعة من الفوارس. [..... ]
(٣). السمهري: الرمح. وسافلة القناة: أعظمها وأقصر ها كعوبا. والهندي: الرماح.
وَالنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ | كَالْجَمْرِ غَيْرِ كَلِيلَةِ الْأَبْصَارِ |
وَالْبَائِعِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ | لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعَانُقٍ وَكِرَارِ |
يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكًا لَهُمْ | بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الْكُفَّارِ |
دَرِبُوا كَمَا دَرِبَتْ بِبَطْنِ خَفِيَّةٍ | غُلْبُ الرِّقَابِ مِنَ الْأُسُودِ ضَوَارِ «١» |
وَإِذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إِلَيْهِمُ | أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الْأَغْفَارِ «٢» |
ضَرَبُوا عَلِيًّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً | دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا جَمِيعُ نِزَارِ «٣» |
لَوْ يَعْلَمُ الْأَقْوَامُ عِلْمِي كُلَّهُ | فِيهِمْ لَصَدَّقَنِي الَّذِينَ أُمَارِي |
قَوْمٌ إِذَا خَوَتِ النُّجُومُ فَإِنَّهُمْ | لِلطَّارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَارِي «٤» |
(٢). المعاقل: الحصون. والاغفار: أولاد الاروية (الوعل) واحد ها غفر.
(٣). علي: هو علي بن بكر بن وائل. ويقال: هو على أخو عبد مناة بن خزيمة من أمه. وقالوا: هو علي بن مسعود بن مازن.
(٤). خوت: إذا لم يكن لها مطر. والمقاري: جمع مقرى الذي يقرى الضيف.
(٢). راجع ج ١٣٦ ص؟؟؟
[سورة التوبة (٩): آية ٣]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)
فِيهِ ثلاث مائل: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَذانٌ" الْأَذَانُ: الْإِعْلَامُ لُغَةً مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى" بَراءَةٌ"." إِلَى النَّاسِ" النَّاسُ هُنَا جَمِيعُ الْخَلْقِ." يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ" ظَرْفٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ" أَذانٌ". وَإِنْ كَانَ قَدْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ:" مِنَ اللَّهِ"، فَإِنَّ رَائِحَةَ الْفِعْلِ فِيهِ بَاقِيَةٌ، وَهِيَ عَامِلَةٌ فِي الظُّرُوفِ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ" مُخْزِي" وَلَا يَصِحُّ عَمَلُ" أَذانٌ"، لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقِيلَ: يَوْمُ عَرَفَةَ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ أَبِي أَوْفَى وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ. وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَرَوَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا فَقَالَ: (أَيُّ يَوْمٍ هَذَا) فَقَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ فَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ. وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ: الْحَجُّ الْأَصْغَرُ. فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، يُهْرَاقُ فِيهِ الدَّمُ، وَيُوضَعُ فِيهِ الشَّعْرُ، وَيُلْقَى فِيهِ التَّفَثُ،
(٢). القران (بالكسر): الجمع بين الحج والعمرة. والافراد: هو أن يحرم بالحج وحده.
[سورة التوبة (٩): آية ٤]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، الْمَعْنَى: أن الله برئ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا مِنَ الْمُعَاهِدِينَ فِي مُدَّةِ عهد هم. وقيل: الاستثناء منقطع، أي أن الله برئ مِنْهُمْ وَلَكِنَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ فَثَبَتُوا عَلَى الْعَهْدِ فأتموا إليهم عهد هم. وقوله: (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مَنْ خَاسَ «٢» بِعَهْدِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَى الْوَفَاءِ، فَأَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَقْضِ عَهْدِ مَنْ خَاسَ، وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ لِمَنْ بَقِيَ عَلَى عَهْدِهِ إِلَى مُدَّتِهِ. وَمَعْنَى" لَمْ يَنْقُصُوكُمْ" أَيْ من شروط العهد شيئا. (وَلَمْ يُظاهِرُوا) لَمْ يُعَاوِنُوا. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ" ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوكُمْ" بِالضَّادِ مُعْجَمَةً عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَهُمْ «٣». يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ يُرَادُ بِهِ بَنُو ضَمْرَةَ خاصة. ثم قال: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أَيْ وَإِنْ كانت أكثر من أربعة أشهر.
[سورة التوبة (٩): آية ٥]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ:
(٢). خاس عهده وبعهده: نقضه.
(٣). في ج وك وز: عهد كم.
إِذَا مَا سَلَخْتُ الشَّهْرَ أَهْلَلْتُ قَبْلَهُ «١» | كَفَى قَاتِلًا سَلْخِي الشُّهُورَ وَإِهْلَالِي |
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٦. [..... ]
(٣). راجع ج ٢ ص ٣٤٨.
(٤). راجع ص ١٠٩ فما بعد من هذا الجزء.
(٥). في ب وج وز وك وهـ: للكتابين.
وَلَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا إِخَالَكَ نَاسِيَا | أَنَّ الْمَنِيَّةَ لِلْفَتَى بِالْمَرْصَدِ |
أعاذل إن الجاهل مِنْ لَذَّةِ الْفَتَى | وَإِنَّ الْمَنَايَا لِلنُّفُوسِ بِمَرْصَدِ |
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٢٥.
(٣). في الأصول: (النابغة) والتصويب عن اللسان.
كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ «١»
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تابُوا) أَيْ مِنَ الشِّرْكِ. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَأَمُّلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْقَتْلَ عَلَى الشِّرْكِ، ثُمَّ قَالَ:" فَإِنْ تابُوا". وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَتْلَ مَتَى كَانَ الشرك يَزُولُ بِزَوَالِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي زَوَالَ الْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ الْقَتْلُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَهَذَا بَيِّنٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ التَّوْبَةَ وَذَكَرَ مَعَهَا شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى إِلْغَائِهِمَا. نَظِيرُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماء هم وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ (. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ أَفْقَهَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَانْتَظَمَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَاطَّرَدَا. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَسَائِرَ الْفَرَائِضِ مُسْتَحِلًّا كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَ السُّنَنَ مُتَهَاوِنًا فَسَقَ، وَمَنْ تَرَكَ النَّوَافِلَ لَمْ يَحْرَجْ، إِلَّا أَنْ يَجْحَدَ فَضْلَهَا فَيَكْفُرُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ رَادًّا عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا جَاءَ بِهِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مِنْ غَيْرِ جَحْدٍ لَهَا وَلَا اسْتِحْلَالٍ، فَرَوَى يونس ابن عبد الا على قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ وَهْبٍ يَقُولُ قَالَ مَالِكٌ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ وَأَبَى أَنْ يُصَلِّيَ قُتِلَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَجَمِيعُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَمَكْحُولٍ وَوَكِيعٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْجَنُ وَيُضْرَبُ وَلَا يُقْتَلُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ وَبِهِ يقول داود ابن عَلِيٍّ. وَمِنْ حُجَّتِهِمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إله
لدن بهز الكف بعسل متنه... فيه كما عسل.........
الأولى - قوله تعالى :" فإذا انسلخ الأشهر الحرم " أي خرج. وسلخت الشهر إذا صرت في أواخر أيامه، تسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجت منه. وقال الشاعر :
إذا ما سلختُ الشهر أهللت قبله١ | كفَى قاتلا سَلْخِي الشهور وإهلالي |
والأشهر الحرم فيها للعلماء قولان : قيل هي الأشهر المعروفة، ثلاثة سرد وواحد فرد. قال الأصم : أريد به من لا عقد له من المشركين، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ الحرم، وهو مدة خمسين يوما على ما ذكره ابن عباس ؛ لأن النداء كان بذلك يوم النحر. وقد تقدم هذا. وقيل : شهور العهد أربعة، قاله مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب. وقيل لها حرم لأن الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والتعرض لهم إلا على سبيل الخير.
الثانية - قوله تعالى :" فاقتلوا المشركين " عام في كل مشرك، لكن السنة خصت منه ما تقدم بيانه في سورة " البقرة٣ " من امرأة وراهب وصبي وغيرهم. وقال الله تعالى في أهل الكتاب :" حتى يعطوا الجزية٤ ". إلا أنه يجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب٥، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم، على ما يأتي بيانه. واعلم أن مطلق قوله :" اقتلوا المشركين " يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة. ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، وبالحجارة وبالرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق بعموم الآية. وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوما من أهل الردة يجوز أن يكون ميلا إلى هذا المذهب، واعتمادا على عموم اللفظ. والله أعلم.
الثالثة - قوله تعالى :" حيث وجدتموهم " عام في كل موضع. وخص أبو حنيفة رضي الله عنه المسجد الحرام، كما سبق في سورة " البقرة٦ " ثم اختلفوا، فقال الحسين بن الفضل : نسخت هذه كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء. وقال الضحاك والسدي وعطاء : هي منسوخة بقوله :" فإما منا بعد وإما فداء٧ " [ محمد : ٤ ]. وأنه لا يقتل أسير صبرا، إما أن يمن عليه وإما أن يفادى. وقال مجاهد وقتادة : بل هي ناسخة لقوله تعالى :" فإما منا بعد وإما فداء " وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل. وقال ابن زيد : الآيتان محكمتان. وهو الصحيح ؛ لأن المن والقتل والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم، وهو يوم بدر كما سبق. وقوله :" وخذوهم " يدل عليه. والأخذ هو الأسر. والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المن على ما يراه الإمام. ومعنى :" احصروهم " يريد عن التصرف إلى بلادكم والدخول إليكم، إلا أن تأذنوا لهم فيدخلوا إليكم بأمان.
الرابعة - قوله تعالى :" واقعدوا لهم كل مرصد " المرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال : رصدت فلانا أرصده، أي رقبته. أي اقعدوا لهم في مواضع الغرة حيث يرصدون. قال عامر بن الطفيل :
ولقد علمت وما إخالك ناسيا | أن المنية للفتى بالمَرْصَدِ |
أعاذل إن الجاهل من لذة الفتى | وإن المنايا للنفوس بمرصد |
كما عسل الطريق الثعلب٩
الخامسة - قوله تعالى :" فإن تابوا " أي من الشرك. " وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " هذه الآية فيها تأمل، وذلك أن الله تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال :" فإن تابوا ". والأصل أن القتل متى كان الشرك يزول بزواله، ودلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة. وهذا بين في هدا المعنى، غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما. نظيره قوله صلى الله عليه وسلم :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ). وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه :( والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال ) وقال ابن عباس : رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه. وقال ابن العربي : فانتظم القرآن والسنة واطردا. ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلا كفر، ومن ترك السنن متهاونا فسق، ومن ترك النوافل لم يحرج، إلا أن يجحد فضلها فيكفر ؛ لأنه يصير رادا على الرسول عليه السلام ما جاء به وأخبر عنه. واختلفوا فيمن ترك الصلاة من غير جحد لها ولا استحلال، فروى يونس بن عبدالأعلى قال : سمعت ابن وهب يقول قال مالك : من آمن بالله وصدق المرسلين وأبى أن يصلي قتل، وبه قال أبو ثور وجميع أصحاب الشافعي. وهو قول حماد بن زيد ومكحول ووكيع. وقال أبو حنيفة : يسجن ويضرب ولا يقتل، وهو قول ابن شهاب وبه يقول داود بن علي. ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ). وقالوا : حقها الثلاث التي قال النبي صلى الله عليه وسلم :( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس ). وذهبت جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها لغير عذر، وأبى من أدائها وقضائها وقال لا أصلي فإنه كافر، ودمه وماله حلالان، ولا يرثه ورثته من المسلمين، ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وحكم ماله كحكم مال المرتد، وهو قول إسحاق. قال إسحاق : وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا. وقال ابن خويز منداد : واختلف أصحابنا متى يقتل تارك الصلاة، فقال بعضهم في آخر الوقت المختار، وقال بعضهم آخر وقت الضرورة، وهو الصحيح من ذلك. وذلك أن يبقى من وقت العصر١٠ أربع ركعات إلى مغيب الشمس، ومن الليل أربع ركعات لوقت العشاء، ومن الصبح ركعتان قبل طلوع الشمس. وقال إسحاق : وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس والمغرب إلى طلوع الفجر.
السادسة - هذه الآية دالة على أن من قال : قد تبت أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحققة للتوبة، لأن الله عز وجل شرط هنا مع التوبة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليحقق بهما التوبة. وقال في آية الربا " وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم١١ " [ البقرة : ٢٧٩ ]. وقال :" إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا " [ البقرة : ١٦٠ ] وقد تقدم معنى هذا في سورة البقرة١٢.
٢ راجع ج ١٥ ص ٢٦.
٣ راجع ج ٢ ص ٣٤٨..
٤ راجع ص ١٠٩ فما بعد من هذا الجزء..
٥ في ب و ج و ز و ك و هـ: الكتابين..
٦ راجع ج ٢ ص ٣٥١..
٧ راجع ج ١٦ ص ٢٢٥..
٨ في الأصول: "النابغة" والتصويت عن اللسان..
٩ القائل هو ساعدة بن جؤية: وتمامه كما في اللسان وكتاب سيبويه:
لدن بهز الكف يعسل متنه ***فيه كما عسل........
١٠ في ب: من وقت الصلاة..
١١ راجع ج ٣ ص ٣٦٥..
١٢ راجع ج ٢ ص ١٨٧..
[سورة التوبة (٩): آية ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (٦)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ مِنَ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ بِقِتَالِهِمْ." اسْتَجارَكَ" أَيْ سَأَلَ جِوَارَكَ، أَيْ أَمَانَكَ وَذِمَامَكَ، فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ ليسمع القرآن، أي يفهم
(٢). راجع ج ٣ ص ٣٦٥.
(٣). راجع ج ٢ ص ١٨٧.
(٢). كذا في الأصول وتفسير ابن عطية. إلا ب، ففيها: محكمة مثبتة. ولا وجود لهذه الكلمة في قول الحسن في المراجع.
لَا تَجْزَعِي إِنْ مُنْفِسًا أَهْلَكْتُهُ | وَإِذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِي «١» |
[سورة التوبة (٩): آية ٧]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)
(٢). راجع ج ٢ ص ١. [..... ]
وَخَبَّرْتُمَانِي إِنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى | فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَةٌ «١» وَكَثِيبُ |
[سورة التوبة (٩): آية ٨]
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أَعَادَ التَّعَجُّبَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَهْدٌ مَعَ خُبْثِ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً. يُقَالُ: ظَهَرْتُ عَلَى فُلَانٍ أَيْ غَلَبْتُهُ، وَظَهَرْتُ الْبَيْتَ عَلَوْتُهُ، وَمِنْهُ" فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ" «٢» [الكهف: ٩٧] أي يعلوا عليه.
(٢). راجع ج ١١ ص ٦٢.)
مُؤَلَّلَتَانِ تَعْرِفُ الْعِتْقَ فِيهِمَا | كَسَامِعَتَيْ شَاةٍ بِحَوْمَلَ مُفْرَدِ «٢» |
لَعَمْرِكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ | كَإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ «٣» |
(٢). السامعتان: الأذنان. والمراد بالشاة هنا: الثور الوحشي وحومل: اسم رملة. شبة أذنيها بأذني ثور وحشي لتحد يدهما وصدق سمعهما، وأذن الوحشي أصدق من عينيه وجعله (مفردا) لأنه أشد لسمعه وارتياعه. (عن شرح الديوان).
(٣). السقب: ولد الناقة. والرأل: ولد النعام.
على حمير يأت كَأَنَّ عُيُونَهَا | ذِمَامُ الرَّكَايَا أَنْكَزَتْهَا الْمَوَاتِحُ «١» |
[سورة التوبة (٩): آية ٩]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩)
يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ فِي نَقْضِهِمُ الْعُهُودَ بِأَكْلَةٍ أَطْعَمَهُمْ إِيَّاهَا أَبُو سُفْيَانَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا بِالْقُرْآنِ مَتَاعَ الدُّنْيَا. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أَيْ أَعْرَضُوا، مِنَ الصُّدُودِ. أَوْ مَنَعُوا عَنْ سَبِيلِ الله، من الصد.
[سورة التوبة (٩): آية ١٠]
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ هَذَا تَكْرِيرًا، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَالثَّانِي لِلْيَهُودِ خَاصَّةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا" اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا" يَعْنِي الْيَهُودَ، بَاعُوا حُجَجَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيَانَهُ بِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَطَمَعٍ فِي شي. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) أَيِ الْمُجَاوِزُونَ الْحَلَالَ إِلَى الحرام بنقض العهد.
[سورة التوبة (٩): آية ١١]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
(٢). في الأصول: (ما لا يَرْضى) وهو تحريف.
قوله تعالى :" ونفصل الآيات " أي نبينها. " لقوم يعلمون " خصهم لأنهم هم المنتفعون بها. والله أعلم.
[سورة التوبة (٩): آية ١٢]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الاولى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ نَكَثُوا) النَّكْثُ النَّقْضُ، وَأَصْلُهُ فِي كُلِّ مَا فُتِلَ ثُمَّ حُلَّ. فَهِيَ فِي الْأَيْمَانِ وَالْعُهُودِ مُسْتَعَارَةٌ. قَالَ:
وَإِنْ حَلَفَتْ لَا يَنْقُضُ النَّأْيُ عَهْدَهَا | فَلَيْسَ لِمَخْضُوبِ الْبَنَانِ يَمِينُ |
(٢). في ب: سقيفة.
(٢). في ى: لأنا.
(٢). راجع ج ٧ ص ٤٠١.
(٣). في ب وج: وك أن يكون المراد بقاتلوا... أن من أقدم... إلخ. [..... ]
(٢). في ج وز: استغاثه.
(٣). بقره شقه وفتحه.
(٤). الأعلاق: نفائس الأموال.
(٥). قال القسطلاني:) لذهاب شهوته وفساد معدته بسبب عقوبة الله له في الدنيا، فلا يفرق بين الأشياء).
[سورة التوبة (٩): آية ١٣]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) تَوْبِيخٌ وَفِيهِ مَعْنَى التَّحْضِيضِ. نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا. (وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ) أَيْ كَانَ مِنْهُمْ سَبَبُ الْخُرُوجِ، فَأُضِيفَ الْإِخْرَاجُ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: أَخْرَجُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَدِينَةِ لِقِتَالِ أَهْلِ مَكَّةَ لِلنَّكْثِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ: عَنِ الْحَسَنِ. (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ) بِالْقِتَالِ. (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أَيْ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَأَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ. وَقِيلَ: بَدَءُوكُمْ بِالْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لِلْعِيرِ وَلَمَّا أَحْرَزُوا عِيرَهُمْ كَانَ يُمْكِنُهُمُ الِانْصِرَافُ، فَأَبَوْا إِلَّا الْوُصُولَ إِلَى بَدْرٍ وشرب الخمر بها، كما تقدم. (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) أَيْ تَخَافُوا عِقَابَهُ فِي تَرْكِ قِتَالِهِمْ مِنْ أَنْ تَخَافُوا أَنْ يَنَالَكُمْ فِي قِتَالِهِمْ مَكْرُوهٌ. وَقِيلَ: إِخْرَاجُهُمُ الرَّسُولَ مَنْعُهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالطَّوَافِ، وَهُوَ ابتداؤهم. والله أعلم.
[سورة التوبة (٩): الآيات ١٤ الى ١٥]
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قاتِلُوهُمْ" أَمْرٌ." يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ" جَوَابُهُ. وَهُوَ جَزْمٌ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخز هم وينصر كم عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْظَهُمْ كَانَ قَدِ اشْتَدَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ | رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ |
وَنَأْخُذَ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ | أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ «١» |
(٢). بنو كعب في خزاعة وهم قوم عمرو.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢٤ فما بعد.
[سورة التوبة (٩): آية ١٦]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمْ حَسِبْتُمْ) خروج من شي إلى شي. (أَنْ تُتْرَكُوا) فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ. وَعِنْدَ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَدْ حُذِفَ الثَّانِي. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُبْتَلَوْا بِمَا يَظْهَرُ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ الظُّهُورَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ." وَلَمَّا يَعْلَمِ" جُزِمَ بِلَمَّا وَإِنْ كَانَتْ مَا زَائِدَةً، فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ جَوَابًا لِقَوْلِكَ: قَدْ فَعَلَ كَمَا تَقَدَّمَ «١». وَكُسِرَتِ الْمِيمُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ." وَلِيجَةً" بِطَانَةً وَمُدَاخَلَةً مِنَ الْوُلُوجِ وَهُوَ الدُّخُولُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْكِنَاسُ «٢» الَّذِي تَلِجُ فِيهِ الْوُحُوشُ تَوْلَجًا. وَلَجَ يَلِجُ وُلُوجًا إِذَا دَخَلَ. وَالْمَعْنَى: دَخِيلَةُ مَوَدَّةٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وقال أبو عبيدة: كل شي أدخلته في شي لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ وَلِيجَةٌ وَالرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ وَلِيجَةٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوَلِيجَةُ الدَّخِيلَةُ وَالْوُلَجَاءُ الدُّخَلَاءُ فَوَلِيجَةُ الرَّجُلِ مَنْ يَخْتَصُّ بِدَخْلَةِ أَمْرِهِ دُونَ النَّاسِ. تَقُولُ: هُوَ وَلِيجَتِي وَهُمْ وَلِيجَتِي الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ فِيهِ سَوَاءٌ. قَالَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
فَبِئْسَ الْوَلِيجَةُ لِلْهَارِبِينَ | وَالْمُعْتَدِينَ وَأَهْلِ الرِّيَبِ |
(٢). مكانها في الإدغال.
(٣). راجع ج ٤ ص ٢٢٠ وص ١٧٨.
[سورة التوبة (٩): آية ١٧]
مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧)قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ) الْجُمْلَةُ مِنْ" أَنْ يَعْمُرُوا" فِي مَوْضِعِ رَفْعِ اسْمِ كَانَ." شاهِدِينَ" عَلَى الْحَالِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: أَرَادَ لَيْسَ لَهُمُ الْحَجُّ بَعْدَ مَا نُودِيَ فِيهِمْ بِالْمَنْعِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَانَتْ أُمُورُ الْبَيْتِ كَالسَّدَانَةِ وَالسِّقَايَةِ وَالرِّفَادَةِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِذَلِكَ، بَلْ أَهْلُهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَبَّاسَ لَمَّا أُسِرَ وَعُيِّرَ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ قَالَ: تذكرون مساوينا وَلَا تَذْكُرُونَ مَحَاسِنَنَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَكُمْ مَحَاسِنُ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنَّا لَنَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ وَنَسْقِي الْحَاجَّ وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رَدًّا عَلَيْهِ. فَيَجِبُ إِذًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَوَلِّي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ وَمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِهَا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" يَعْمُرُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ، مِنْ عَمَرَ يَعْمُرُ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ يَجْعَلُوهُ عَامِرًا أَوْ يعينوا على عمارته. وقرى" مَسْجِدَ اللَّهِ" عَلَى التَّوْحِيدِ أَيِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَابْنِ مُحَيْصِنٍ وَيَعْقُوبَ. وَالْبَاقُونَ" مَسَاجِدَ" عَلَى التَّعْمِيمِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، لِأَنَّهُ أعم وَالْخَاصُّ يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَامِّ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِقِرَاءَةِ الْجَمْعِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ خَاصَّةً. وَهَذَا جَائِزٌ فِيمَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجِنْسِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ إِلَّا فَرَسًا. وَالْقِرَاءَةُ" مَسَاجِدَ" أَصْوَبُ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قِرَاءَةِ قَوْلِهِ:" إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ" عَلَى الْجَمْعِ، قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا قَالَ مَسَاجِدَ وَهُوَ الْمَسْجِدُ الحرام، لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها. قوله تعالى: (شاهِدِينَ). قيل: أراد وهم شاهدون فلما طرح و" هم" نَصَبَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بالكفر سجودهم لأصنامهم، وأقر أرهم أنها مخلوقة.
[سورة التوبة (٩): آية ١٨]
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لِعُمَّارِ الْمَسَاجِدِ بِالْإِيمَانِ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَبَطَهُ بِهَا وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِمُلَازَمَتِهَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْمُرُ الْمَسْجِدَ فَحَسِّنُوا بِهِ الظَّنَّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ (إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ". وَفِي رِوَايَةٍ: (يَتَعَاهَدُ الْمَسْجِدَ). قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الصَّلَاحِ لَيْسَ فِي مَقَاطِعِ الشَّهَادَاتِ، فَإِنَّ الشَّهَادَاتِ لَهَا أَحْوَالٌ عِنْدَ الْعَارِفِينَ بِهَا فَإِنَّ مِنْهُمُ الذَّكِيَّ الْفَطِنَ الْمُحَصِّلَ لِمَا يَعْلَمُ اعْتِقَادًا وَإِخْبَارًا وَمِنْهُمُ الْمُغَفَّلُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يُنَزَّلُ عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَيُقَدَّرُ عَلَى صِفَتِهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) إِنْ قِيلَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَقَدْ خَشِيَ غَيْرَ اللَّهِ، وَمَا زَالَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْأَنْبِيَاءُ «٢» يخشون الاعداء من غير هم. قِيلَ لَهُ: الْمَعْنَى وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ مِمَّا يُعْبَدُ: فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَيَخْشَوْنَهَا وَيَرْجُونَهَا. جَوَابٌ ثَانٍ- أَيْ لَمْ يَخَفْ فِي بَابِ الدِّينِ إِلَّا اللَّهَ. الثَّالِثَةُ- فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَثْبَتَ الْإِيمَانَ فِي الْآيَةِ لِمَنْ عَمَرَ الْمَسَاجِدَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا، وَتَنْظِيفِهَا وَإِصْلَاحِ مَا وَهَى مِنْهَا، وَآمَنَ بِاللَّهِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ فِيهَا وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
(٢). في ك: الأولياء.
[سورة التوبة (٩): آية ١٩]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ «١»: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى:" أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ" التَّقْدِيرُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: أَجَعَلْتُمْ أَصْحَابَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ أَوْ أَهْلَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ مِثْلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ. وَيَصِحُّ أَنْ يُقَدَّرَ الْحَذْفُ فِي" مَنْ آمَنَ" أَيْ أَجَعَلْتُمْ عَمَلَ سَقْيِ الْحَاجِّ كَعَمَلِ مَنْ آمَنَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ. وَالسِّقَايَةُ مَصْدَرٌ كَالسِّعَايَةِ وَالْحِمَايَةِ. فَجَعَلَ الِاسْمَ بِمَوْضِعِ الْمَصْدَرِ إِذْ عُلِمَ مَعْنَاهُ، مِثْلَ إِنَّمَا السَّخَاءُ حَاتِمٌ، وَإِنَّمَا الشِّعْرُ زُهَيْرٌ. وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِثْلُ" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" [يوسف: ٨٢]. وَقَرَأَ أَبُو «٢» وَجْزَةَ" أَجَعَلْتُمْ سُقَاةَ الْحَاجِّ وَعَمَرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" سُقَاةُ جَمْعُ سَاقٍ وَالْأَصْلُ سُقْيَةٌ عَلَى فُعْلَةٍ، كَذَا يُجْمَعُ الْمُعْتَلُّ مِنْ هَذَا، نَحْوَ قَاضٍ وَقُضَاةٍ وَنَاسٍ وَنُسَاةٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَلًّا جُمِعَ عَلَى فُعَلَةٍ نَحْوَ نَاسِئٍ وَنُسَأَةٍ، لِلَّذِينَ كَانُوا يُنْسِئُونَ الشُّهُورَ. وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ" سُقَاةَ وَعَمَرَةَ" إِلَّا أَنَّ ابْنَ جُبَيْرٍ نَصَبَ" الْمَسْجِدَ" عَلَى إِرَادَةِ التَّنْوِينِ فِي" عَمَرَةً". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سُقَايَةً بِضَمِّ السِّينِ، وَهِيَ لُغَةٌ. وَالْحَاجُّ اسْمُ جِنْسِ الْحُجَّاجِ. وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: مُعَاهَدَتُهُ وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا مُبْطِلَةٌ قَوْلَ مَنِ افْتَخَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَمَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ. قَالَ: افْتَخَرَ عَبَّاسٌ بِالسِّقَايَةِ، وَشَيْبَةٌ بِالْعِمَارَةِ، وَعَلِيٌّ بِالْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ، فَصَدَّقَ اللَّهُ عَلِيًّا وَكَذَّبَهُمَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْعِمَارَةَ لَا تكون بالكفر،
(٢). في نسخ الأصل: (ابن أبي وجزة) إلا ى: وجزة. وهو تحريف.
(٢). راجع ج ١٦ ص ١٩٩.
[سورة التوبة (٩): آية ٢٠]
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)قَوْلُهُ تَعَالَى:" الَّذِينَ آمَنُوا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. وَخَبَرُهُ" أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ". وَ" دَرَجَةً" نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ، أَيْ مِنَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِالسَّقْيِ وَالْعِمَارَةِ. وَلَيْسَ لِلْكَافِرِينَ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ حَتَّى يُقَالَ: الْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ دَرَجَةً. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ قَدَّرُوا لِأَنْفُسِهِمُ الدَّرَجَةَ بِالْعِمَارَةِ وَالسَّقْيِ فَخَاطَبَهُمْ عَلَى مَا قَدَّرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ خَطَأً كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا" «١» [ان الفرق: ٢٤]. وَقِيلَ:" أَعْظَمُ دَرَجَةً" مِنْ كُلِّ ذِي دَرَجَةٍ، أَيْ لَهُمُ الْمَزِيَّةُ وَالْمَرْتَبَةُ الْعَلِيَّةُ." وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ" بذلك.
[سورة التوبة (٩): الآيات ٢١ الى ٢٢]
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ" أَيْ يُعْلِمُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. وَالنَّعِيمُ: لِينُ الْعَيْشِ وَرَغَدُهُ. (خالِدِينَ) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَالْخُلُودُ الْإِقَامَةُ. (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أَيْ أَعَدَّ لَهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ ذلك الثواب.
[سورة التوبة (٩): آية ٢٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً، وَهِيَ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي قَطْعِ الْوِلَايَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. وَرَوَتْ فِرْقَةٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْحَضِّ عَلَى الْهِجْرَةِ وَرَفْضِ بِلَادِ الْكَفَرَةِ. فَالْمُخَاطَبَةُ عَلَى هَذَا إِنَّمَا هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ وغيرها
يقولون لي دار الأحبة قد دنت*** وأنت كئيب إن ذا لعجيب
فقلت وما تغني ديار قريبة | إذا لم يكن بين القلوب قريب |
فكم من بعيد الدار نال مُرَادَهُ | وآخرُ جارُ الجنْبِ مات كئيبُ |
يَقُولُونَ لِي دَارُ الْأَحِبَّةِ قَدْ دَنَتْ | وَأَنْتَ كَئِيبٌ إِنَّ ذَا لَعَجِيبُ |
فَقُلْتُ وَمَا تُغْنِي دِيَارٌ قَرِيبَةٌ | إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقُلُوبِ قَرِيبُ |
فَكَمْ مِنْ بَعِيدِ الدَّارِ نَالَ مُرَادَهُ | وَآخَرُ جَارُ الْجَنْبِ مَاتَ كَئِيبُ |
[سورة التوبة (٩): آية ٢٤]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِأَبِيهِ وَالْأَبُ لِابْنِهِ وَالْأَخُ لِأَخِيهِ وَالرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ: إِنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْهِجْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَسَارَعَ
كَسَدْنَ مِنَ الْفَقْرِ فِي قَوْمِهِنَّ... وَقَدْ زَادَهُنَّ مَقَامِي كُسُودَا
(وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) يَقُولُ: وَمَنَازِلُ تُعْجِبُكُمُ الْإِقَامَةُ فِيهَا. (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) مِنْ أَنْ تُهَاجِرُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْمَدِينَةِ. وَ" أَحَبَّ" خَبَرُ كَانَ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ رَفْعُ" أَحَبَّ" عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَاسْمُ كَانَ مُضْمَرٌ فِيهَا. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
إِذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ: شَامِتٌ... وَآخَرُ مُثْنٍ بِالَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ «١»
وَأَنْشَدَ:
هِيَ الشِّفَاءُ لِدَائِي لَوْ ظَفِرْتُ بِهَا... وَلَيْسَ مِنْهَا شِفَاءُ الدَّاءِ مَبْذُولُ «٢»
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ. وَقَدْ مَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ" «٣» مَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ. (وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا) صِيغَتُهُ صِيغَةُ أَمْرٍ وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ. يَقُولُ: انْتَظِرُوا. (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)
(٢). البيت لهشام أخى ذي الرمة. (عن كتاب سيبويه).
(٣). راجع ج ٤ ص ٥٩.
[سورة التوبة (٩): الآيات ٢٥ الى ٢٧]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) لَمَّا بَلَغَ هَوَازِنَ فَتْحُ مَكَّةَ جَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَتِ الرِّيَاسَةُ فِي جَمِيعِ الْعَسْكَرِ إِلَيْهِ،
(٢). أي لم يلتفت ولم يعطف.
نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةً | وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ «١» وَأَقْشَعُوا |
وَعَاشِرُنَا لَاقَى الْحِمَامَ بِنَفْسِهِ | بِمَا مَسَّهُ فِي اللَّهِ لَا يَتَوَجَّعُ |
(٢). في ا، ج، ح، ل، هـ، ز. قال ابن عباس: والصواب ما أثبتناه من ك، ب، ى.
(٣). أي أصحاب الشجرة المسماة بالسمرة، وهي الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبية. [..... ]
(٤). في ب وج: أو ترابا.
(٢). راجع ج ٥ ص ١٢١.
نَصَرُوا نَبِيَّهُمْ وَشَدُّوا أَزْرَهُ | بِحُنَيْنٍ يَوْمَ تَوَاكُلِ الْأَبْطَالِ «٢» |
فَهُنَّ يَعْلُكْنَ حَدَائِدَاتِهَا
وَقَالَ النَّحَّاسُ: رَأَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَتَعَجَّبُ مِنْ هَذَا قَالَ: أَخَذَ قَوْلَ الْخَلِيلِ وَأَخْطَأَ فِيهِ، لِأَنَّ الْخَلِيلَ يَقُولُ فِيهِ: لَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّهُ جَمْعٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْوَاحِدِ، وَلَا يُجْمَعُ جَمْعَ التَّكْسِيرِ، وَأَمَّا بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فَلَا يَمْتَنِعُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا وَخَمْسُمِائَةٍ. وَقِيلَ: سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ عَنْ قِلَّةٍ. فَوُكِلُوا إِلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْهَزِيمَةِ فِي الِابْتِدَاءِ إِلَى أَنْ تَرَاجَعُوا، فَكَانَ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْغَلَبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِنَصْرِ اللَّهِ لَا بِالْكَثْرَةِ وَقَدْ قَالَ:" وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ" «٣» [آل عمران: ١٦٠]. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أَيْ مِنَ الْخَوْفِ، كَمَا قَالَ:
كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ | عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كفة حابل «٤» |
(٢). البيت لحسان بن ثابت.
(٣). راجع ج ٤ ص ٢٥٣ فما بعد
(٤). الكفة (بالكسر): حبالة الصائد. والحابل: الذي ينصب الحبالة.
[سورة التوبة (٩): آية ٢٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى وَصْفِ الْمُشْرِكِ بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغير هما: لِأَنَّهُ جُنُبٌ إِذْ غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ لَيْسَ بِغُسْلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: بَلْ مَعْنَى الشِّرْكِ هُوَ الَّذِي نَجَّسَهُ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مَنْ صَافَحَ مُشْرِكًا فَلْيَتَوَضَّأْ. وَالْمَذْهَبُ كُلُّهُ عَلَى إِيجَابِ الْغُسْلِ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ إِلَّا ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ. وَبِوُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ. وَأَسْقَطَهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَغْتَسِلَ. وَنَحْوُهُ لِابْنِ الْقَاسِمِ. وَلِمَالِكٍ قَوْلُ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْغُسْلَ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ. وَحَدِيثُ ثُمَامَةَ وَقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ يَرُدُّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ. رَوَاهُمَا أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِ مُسْنَدِهِ. وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِثُمَامَةَ يَوْمًا فَأَسْلَمَ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى حَائِطِ «١» أَبِي طَلْحَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ، فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُ صَاحِبِكُمْ) وأخرجه مسلم بمعناه. وفية: أن ثمامة
(٢). مخاليف جمع مخلاف، وهي قرى اليمن.
(٣). راجع ج ١٢ ص ٢٦٤.
وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ | وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يعيل |
(٢). تبالة: بلد باليمن خصبة. وجرش كزفر من مخاليف اليمن.
(٣). الودك: هو دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.
(٤). هو أحيحة كما في اللسان.
(٢). زيادة عن ابن العربي.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٦٣.
(٤). راجع ص ١٠٤ من هذا الجزء.
(٥). راجع ج ٢ ص ٢١٦.
[سورة التوبة (٩): آية ٢٩]
قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)
فيه خمس مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكُفَّارِ أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِمَا قُطِعَ عَنْهُمْ مِنَ التِّجَارَةِ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُوَافُونَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً" [التوبة: ٢٨] الْآيَةَ. عَلَى مَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ أَحَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْجِزْيَةَ وَكَانَتْ لَمْ تُؤْخَذْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَجَعَلَهَا عِوَضًا مِمَّا مَنَعَهُمْ مِنْ مُوَافَاةِ الْمُشْرِكِينَ بِتِجَارَتِهِمْ. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ" الْآيَةَ. فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمُقَاتَلَةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ لِإِصْفَاقِهِمْ «٤» عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، وَخَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ إِكْرَامًا لِكِتَابِهِمْ، وَلِكَوْنِهِمْ عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُلِ
(٢). راجع ج ١ ص ١١٢، ١٣ ١.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٨٢.
(٤). أصفق القوم على أمر واحد: أجمعوا عليه.
(٢). لقوله عليه الصلاة والسلام:" سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
فُرِضَتْ ثُمَّ تَرَهَّبَ لَمْ يُسْقِطْهَا تَرَهُّبُهُ. السَّادِسَةُ- إِذَا أَعْطَى أَهْلُ الْجِزْيَةِ الْجِزْيَةَ لَمْ يؤخذ منهم شي من ثمار هم وَلَا تِجَارَتِهِمْ وَلَا زُرُوعِهِمْ إِلَّا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي بِلَادٍ غَيْرِ بِلَادِهِمُ الَّتِي أُقِرُّوا فِيهَا وصولحوا عليها. فإن خرجوا
(٢). في ج: ما يتبينون.
(٣). اللدد: الخصومة الشديدة.
[سورة التوبة (٩): آية ٣٠]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)
فيه سبع مسائل: الاولى- قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ" عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ" بِتَنْوِينِ عُزَيْرٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّ" ابْنًا" عَلَى هَذَا خَبَرُ ابْتِدَاءٍ عَنْ عُزَيْرٌ وَ" عُزَيْرٌ" يَنْصَرِفُ عَجَمِيًّا كَانَ أَوْ عَرَبِيًّا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ" عُزَيْرُ ابْنُ" بِتَرْكِ التَّنْوِينِ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ" قل هو الله أحد الله الصمد" «٢» [الإخلاص: ٢ - ١]. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشِّعْرِ. وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ فِي ذَلِكَ:
يُجْزِيكَ أَوْ يُثْنِي عَلَيْكَ وَإِنَّ مَنْ | أَثْنَى عَلَيْكَ بِمَا فَعَلْتَ كَمَنْ جَزَى |
لَتَجِدَنِّي بِالْأَمِيرِ بَرَّا | وَبِالْقَنَاةِ مِدْعَسًا «٣» مِكَرَّا |
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ) هَذَا لَفْظٌ خَرَجَ عَلَى الْعُمُومِ وَمَعْنَاهُ الْخُصُوصُ، لِأَنَّ لَيْسَ كُلُّ الْيَهُودِ قَالُوا ذَلِكَ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى:" الَّذِينَ قالَ لَهُمُ
(٢). راجع ج ٢٠ ص ٢٤٤.
(٣). رجل مدعس (بالسين والصاد): طعان.
(٢). راجع ج ٦ ص ٤١٩.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٢٦٤.
(٤). راجع ج ٤ ص ٢٦٥ فما بعد. [..... ]
(٥). راجع ج ١٠ ص ٣٥٣.
(٦). راجع ج ١٦ ص ٢٦٨ وص ٧٤.
(٧). راجع ج ١٦ ص ٧٤.
(٨). في ج: النحاة.
ضَهْيَأَةٌ أَوْ عَاقِرُ جَمَادٍ «١»
ابْنُ عطية: من قال" يُضاهِؤُنَ" مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ ضَهْيَاءُ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ فِي (ضَاهَأَ) أَصْلِيَّةٌ، وَفِي (ضَهْيَاءَ) زَائِدَةٌ كَحَمْرَاءَ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أَيْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّ الْمَلْعُونَ كَالْمَقْتُولِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:" قاتَلَهُمُ اللَّهُ" هُوَ بِمَعْنَى التعجب. وقال ابن عباس: كل شي فِي الْقُرْآنِ قَتْلٌ فَهُوَ لَعْنٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ أبان ابن تَغْلِبَ:
قَاتَلَهَا اللَّهُ تَلْحَانِي وَقَدْ عَلِمَتْ | أَنِّي لِنَفْسِي إِفْسَادِي وَإِصْلَاحِي |
يَا قَاتَلَ اللَّهُ لَيْلَى كَيْفَ تُعْجِبُنِي | وَأُخْبِرُ النَّاسَ أني لا أباليها |
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)
قَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) الْأَحْبَارُ جَمْعُ حَبْرٍ، وَهُوَ الَّذِي يُحَسِّنُ الْقَوْلَ وَيُنَظِّمُهُ وَيُتْقِنُهُ بِحُسْنِ الْبَيَانِ عَنْهُ. وَمِنْهُ ثَوْبٌ مُحَبَّرٌ أَيْ جَمَعَ الزِّينَةَ. وَقَدْ قِيلَ فِي واحد الأحبار: حبر بكسر الحاء، والمفسرون على فتحها. واهل اللغة على كسرها. قال يونس: لم أسمعه إلا بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: [مِدَادُ] «٢» حِبْرٍ يُرِيدُونَ مِدَادَ عَالِمٍ، ثُمَّ كَثُرَ الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى قَالُوا لِلْمِدَادِ حِبْرٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الكسر
(٢). من ج وك وهـ وى.
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ | وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا |
افْرَحْ فَسَوْفَ تَأْلَفُ الْأَحْزَانَا | إِذَا شَهِدْتَ الْحَشْرَ وَالْمِيزَانَا |
وَسَالَ مِنْ جَبِينِكَ الْمَسِيحُ | كَأَنَّهُ جَدَاوِلٌ تَسِيحُ |
(٢). راجع ج ٤ ص ٨٨.
(٣). راجع ج ٦ ص ٢١.
[سورة التوبة (٩): آية ٣٢]
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢)قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ) أَيْ دَلَالَتَهُ وَحُجَجَهُ عَلَى تَوْحِيدِهِ. جَعَلَ الْبَرَاهِينَ بِمَنْزِلَةِ النُّورِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْبَيَانِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى نُورُ الْإِسْلَامِ، أَيْ أَنْ يُخْمِدُوا دِينَ اللَّهِ بِتَكْذِيبِهِمْ. (بِأَفْواهِهِمْ) جَمْعُ فَوْهٍ عَلَى الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي فَمٍ فَوْهٍ، مِثْلُ حَوْضٍ وَأَحْوَاضٍ. (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) يُقَالُ: كَيْفَ دَخَلَتْ" إِلَّا" وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ حَرْفُ نَفْيٍ، وَلَا يَجُوزُ ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا. فَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ" إِلَّا" إِنَّمَا دَخَلَتْ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ طَرَفًا مِنَ الْجَحْدِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْجَحْدُ وَالتَّحْقِيقُ لَيْسَا بِذَوِي أَطْرَافٍ. وَأَدَوَاتُ الْجَحْدِ: مَا، وَلَا، وَإِنْ، وَلَيْسَ: وَهَذِهِ لَا أَطْرَافَ لَهَا يُنْطَقُ بِهَا وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَرَادَ لَجَازَ كَرِهْتُ إِلَّا زَيْدًا، وَلَكِنَّ الْجَوَابَ أَنَّ الْعَرَبَ تَحْذِفُ مَعَ أَبَى. والتقدير: ويأبى الله كل شي إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: إِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي" أَبَى" لِأَنَّهَا مَنْعٌ أَوِ امْتِنَاعٌ فَضَارَعَتِ النَّفْيَ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَهَذَا حَسَنٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَهَلْ لِي أُمٌّ غَيْرُهَا إِنْ تَرَكْتُهَا | أَبَى اللَّهُ إِلَّا أن أكون لها ابنما |
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (بِالْهُدى) أَيْ بِالْفُرْقَانِ. (وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أَيْ بِالْحُجَّةِ وَالْبَرَاهِينِ. وَقَدْ أَظْهَرَهُ عَلَى شَرَائِعِ الدين حتى لا يخفى عليه شي مِنْهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ:" لِيُظْهِرَهُ" أَيْ لِيُظْهِرَ الدِّينَ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى كُلِّ دِينٍ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالضَّحَّاكُ: هَذَا عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ذَاكَ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ، لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ أَدَّى الْجِزْيَةَ. وَقِيلَ: الْمَهْدِيُّ هُوَ عِيسَى فَقَطْ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الصِّحَاحَ قَدْ
[سورة التوبة (٩): آية ٣٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى" لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ" دَخَلَتِ اللَّامُ عَلَى يَفْعَلُ، وَلَا تَدْخُلُ عَلَى فَعَلَ لِمُضَارَعَةِ يفعل الأسماء. والأحبار علماء اليهود. والرهبان مُجْتَهِدُو النَّصَارَى فِي الْعِبَادَةِ." بِالْباطِلِ" قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَمْوَالِ أَتْبَاعِهِمْ ضَرَائِبَ وَفُرُوضًا بِاسْمِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا يُوهِمُونَهُمْ أَنَّ النَّفَقَةَ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ وَالتَّزَلُّفِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُمْ خِلَالَ ذَلِكَ يَحْجُبُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ، كَالَّذِي ذَكَرَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ عَنِ الرَّاهِبِ الَّذِي اسْتَخْرَجَ كَنْزَهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيَرِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ غَلَّاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ضَرَائِبَ بِاسْمِ حِمَايَةِ الدِّينِ وَالْقِيَامِ بِالشَّرْعِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَرْتَشُونَ فِي الْأَحْكَامِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْيَوْمَ
وَلَمْ تَزَوَّدْ مِنْ جَمِيعِ الْكَنْزِ | غَيْرَ خيوط ورثيث بَزَّ «١» |
لَا دَرَّ دَرِّي إِنْ أَطْعَمْتُ جَائِعَهُمْ | قِرْفَ الْحَتِيِّ وَعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ |
(٢). المقل ثمر شجر الدوم ينضج ويؤكل
(٣). راجع ج ١٨ ص ١٠٩.
(٤). راجع ج ٤ ص ٢٤٩.
(٥). في ج وز: من؟. [..... ]
(٢). راجع ج ١ ص ٣٤٢ فما بعد.
(٢). ما بين الخطين موجود في نسخ الأصل غير موجود في سنن أبي داود. والذي في كتاب الدر المنثور للسيوطي: (... وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم).
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا | عِنْدَكَ رَاضٍ والرأي مختلف «٣» |
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي | بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي |
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٠٩.
(٣). البيت لقيس بن الخطيم.
(٤). هو ابن أحمر واسمه عمرو وصف في البيت رجلا كان بينه وبينه مشاجرة في بئر- وهو الطوى- فذكر أنه رماه بأمر يكرهه ورمى أباه بمثله على براءتهما منه من أجل المشاجرة التي كانت بينهما. (عن شرح الشواهد).
إن شرخ الشَّبَابِ وَالشَّعْرَ الْأَسْ | وَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونًا |
(٢). النغض (بالضم والفتح): أعلى الكتف وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرفه.
[سورة التوبة (٩): آية ٣٥]
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) " يَوْمَ" ظَرْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ يُحْمَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى تقدير: فبشر هم يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ لَا تَكُونُ حِينَئِذٍ. يُقَالُ: أَحْمَيْتُ الْحَدِيدَةَ فِي النَّارِ، أَيْ أَوْقَدْتُ عَلَيْهَا. وَيُقَالُ: أَحْمَيْتُهُ، وَلَا يُقَالُ: أَحْمَيْتُ عليه. وها هنا قَالَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ جَعَلَ" عَلَى" مِنْ صِلَةِ مَعْنَى الْإِحْمَاءِ، وَمَعْنَى الْإِحْمَاءِ الْإِيقَادُ. أَيْ يُوقَدُ عَلَيْهَا فَتُكْوَى. الْكَيُّ: إِلْصَاقُ الْحَارِّ مِنَ الْحَدِيدِ وَالنَّارِ بِالْعُضْوِ حَتَّى يَحْتَرِقَ الْجِلْدُ. وَالْجِبَاهُ جَمْعُ الْجَبْهَةِ، وَهُوَ مُسْتَوى مَا بَيْنَ الْحَاجِبِ إِلَى النَّاصِيَةِ. وَجَبَهْتُ فُلَانًا بِكَذَا، أَيِ اسْتَقْبَلْتُهُ بِهِ وَضَرَبْتُ جَبْهَتَهُ. وَالْجُنُوبُ جَمْعُ الْجَنْبِ. وَالْكَيُّ فِي الْوَجْهِ أَشْهَرُ وَأَشْنَعُ، وَفِي الْجَنْبِ وَالظَّهْرِ آلَمُ وَأَوْجَعُ، فَلِذَلِكَ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَقَالَ عُلَمَاءُ الصُّوفِيَّةِ: لَمَّا طَلَبُوا الْمَالَ وَالْجَاهَ شَانَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ، وَلَمَّا طَوَوْا كَشْحًا «١» عَنِ الْفَقِيرِ إِذَا جَالَسَهُمْ كُوِيَتْ جُنُوبُهُمْ، وَلَمَّا أسندوا ظهور هم إِلَى أَمْوَالِهِمْ ثِقَةً بِهَا وَاعْتِمَادًا عَلَيْهَا كُوِيَتْ ظهور هم. وَقَالَ عُلَمَاءُ الظَّاهِرِ: إِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لِأَنَّ الْغَنِيَّ إِذَا رَأَى الْفَقِيرَ زَوَى مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ «٢» وَقَبَضَ وَجْهَهُ. كَمَا قَالَ «٣»:
يَزِيدُ يَغُضُّ الطَّرْفَ عَنِّي «٤» كَأَنَّمَا | زَوَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَلَيَّ الْمَحَاجِمُ |
فَلَا يَنْبَسِطُ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ مَا انْزَوَى | وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ |
(٢). جمعه وقبضه.
(٣). القائل هو الأعشى كما في ديوانه. [..... ]
(٤). وفية: يغض الطرف دوني.
[سورة التوبة (٩): آية ٣٦]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.) فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ «١»: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) جَمْعُ شَهْرٍ. فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: لَا أُكَلِّمُكَ الشُّهُورَ، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يُكَلِّمُهُ حَوْلًا، قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: لَا يُكَلِّمُهُ أَبَدًا. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَرَى إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَنْ يَقْتَضِيَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ صيغة فعول في جمع فعل. ومعنى (عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَفِيمَا كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) أعربت" اثْنا عَشَرَ شَهْراً" دون نظائر ها، لِأَنَّ فِيهَا حَرْفَ الْإِعْرَابِ وَدَلِيلَهُ. وَقَرَأَ الْعَامَّةُ" عَشَرَ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالشِّينِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ" عَشْرَ" بِجَزْمِ الشِّينِ. (فِي كِتابِ اللَّهِ) يُرِيدُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ. وَأَعَادَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ" عِنْدَ اللَّهِ" لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْيَاءِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ:" إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ" «٢» [لقمان: ٣٤]. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إِنَّمَا قَالَ" يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" لِيُبَيِّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَضَعَ هَذِهِ الشُّهُورَ وَسَمَّاهَا بِأَسْمَائِهَا عَلَى ما رتبها عليه يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً". وَحُكْمُهَا باق
(٢). راجع ج ١٤ ص ٨٢.
(٢). راجع ج ٣ ص ٤٣.
[سورة التوبة (٩): آية ٣٧]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) هَكَذَا يَقْرَأُ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ عَنْ نَافِعٍ فيما علمناه" إِنَّمَا النَّسِيءُ" بِلَا هَمْزٍ إِلَّا وَرْشٌ وَحْدَهُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَسَأَهُ وَأَنْسَأَهُ إِذَا أَخَّرَهُ، حَكَى اللُّغَتَيْنِ الكسائي. الجوهري: النسي فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، مِنْ قَوْلِكَ: نَسَأْتُ الشَّيْءَ فَهُوَ مَنْسُوءٌ إِذَا أَخَّرْتَهُ. ثُمَّ يُحَوَّلُ مَنْسُوءٌ إلى نسئ كَمَا يُحَوَّلُ مَقْتُولٌ إِلَى قَتِيلٍ. وَرَجُلٌ نَاسِئٌ وَقَوْمٌ نَسَأَةٌ، مِثْلُ فَاسِقٍ وَفَسَقَةٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: النسي بالهمزة معناه الزيادة، يقال: نَسَأَ يَنْسَأُ إِذَا زَادَ. قَالَ: وَلَا يَكُونُ بِتَرْكِ الْهَمْزِ إِلَّا مِنَ النِّسْيَانِ، كَمَا قَالَ تعالى:
(٢). الأثر: الأجل، وسمي به لأنه يتبع العمر، وأصله من أثر مشيه في الأرض فإن من مات لا تبقى له حركة فلا يبقى لاقدامه في الأرض أثر. (عن شرح القسطلاني).
وَمِنَّا نَاسِئُ الشَّهْرِ الْقَلَمَّسُ
وَقَالَ الْكُمَيْتُ «٢»:
أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ | شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا |
(٢). في اللسان لعمير بن قيس بن جذل الطعان.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٥٨. [..... ]
(٣). راجع ج ١٧ ص ١٣٧ فما بعد.
(٤). راجع ج ١٤ ص ٣٢٤ فما بعد.
[سورة التوبة (٩): آية ٣٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨)فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا لَكُمْ) " مَا" حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ وَالتَّوْبِيخُ التقدير: أي شي يمنعكم عن كذا كما تقول: مالك عَنْ فُلَانٍ مُعْرِضًا. وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عِتَابًا عَلَى تَخَلُّفِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ بِعَامٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي آخِرِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالنَّفْرُ: هُوَ التَّنَقُّلُ بِسُرْعَةٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِأَمْرٍ يَحْدُثُ، يُقَالُ فِي ابْنِ آدَمَ: نَفَرَ إِلَى الام يَنْفِرُ نُفُورًا. وَقَوْمٌ نُفُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً" «١» [الاسراء: ٤٦]. وَيُقَالُ فِي الدَّابَّةِ: نَفَرَتْ تَنْفُرُ (بِضَمِّ الْفَاءِ وكسر ها) نِفَارًا وَنُفُورًا. يُقَالُ: فِي الدَّابَّةِ نِفَارٌ، وَهُوَ اسْمٌ مِثْلُ الْحِرَانِ. وَنَفَرَ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى نفرا. الثانية- قوله تعالى: (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى نَعِيمِ الْأَرْضِ، أَوْ إِلَى الْإِقَامَةِ بِالْأَرْضِ. وَهُوَ تَوْبِيخٌ عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ وَعِتَابٌ عَلَى التَّقَاعُدِ عَنِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخُرُوجِ، وَهُوَ نَحْوُ مَنْ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ. وَأَصْلُهُ تَثَاقَلْتُمْ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الثَّاءِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، وَاحْتَاجَتْ إِلَى أَلِفِ الْوَصْلِ لِتَصِلَ إلى النطق بالساكن، ومثله" ادَّارَكُوا" «٢» [الأعراف: ٣٨] و" فَادَّارَأْتُمْ" «٣» [البقرة: ٧٢] و" اطَّيَّرْنا" «٤» [النمل: ٤٧] و" ازَّيَّنَتْ" «٥» [يونس: ٢٤]. وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ:
تُولِي الضَّجِيعَ إِذَا مَا اسْتَافَهَا خَصْرًا | عَذْبَ الْمَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَلُ «٦» |
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٠٤.
(٣). راجع ج ١ ص ٤٥٥.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٢١٤.
(٥). راجع ج ٨ ص ٣٢٦.
(٦). ساف الشيء يسوفه ويسافه سوفا وساوفه واستافه كله شمه. والخصر: البارد من كل شي.
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً | مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طَهَيَانِ |
[سورة التوبة (٩): آية ٣٩]
إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ- وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" إِلَّا تَنْفِرُوا" شَرْطٌ، فَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ. وَالْجَوَابُ" يُعَذِّبْكُمْ"،" وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ" وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ مُؤَكَّدٌ فِي تَرْكِ النَّفِيرِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ مُحَقَّقَاتِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا وَرَدَ فَلَيْسَ فِي وُرُودِهِ أَكْثَرُ مِنِ اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ. فَأَمَّا الْعِقَابُ عِنْدَ التَّرْكِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا يقتضيه
(٢). راجع ج ١٦ ص ١٩٤.
(٣). هو يعلى بن مسلم بن قيس الشكري، كما في اللسان. وقيل إنه الأحول الكندي.
(٤). حمنان: مكة.
(٢). راجع ج ١ ص ١٩٨. [..... ]
[سورة التوبة (٩): آية ٤٠]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) يَقُولُ: تُعِينُوهُ بِالنَّفْرِ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. عَاتَبَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ انْصِرَافِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تَبُوكَ. قَالَ النَّقَّاشُ: هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنْ سُورَةِ [بَرَاءَةٌ]. وَالْمَعْنَى: إِنْ تَرَكْتُمْ نَصْرَهُ فَاللَّهُ يَتَكَفَّلُ بِهِ، إِذْ قَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنِ الْقِلَّةِ وَأَظْهَرَهُ عَلَى عَدُوِّهِ بِالْغَلَبَةِ وَالْعِزَّةِ. وَقِيلَ: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ بِتَأْنِيسِهِ لَهُ وَحَمْلِهِ عَلَى عُنُقِهِ، وَبِوَفَائِهِ وَوِقَايَتِهِ لَهُ بِنَفْسِهِ وَمُوَاسَاتِهِ لَهُ بِمَالِهِ. قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: مَا صَحِبَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ:" إِلَّا تَنْصُرُوهُ" الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وَهُوَ خَرَجَ بِنَفْسِهِ فَارًّا، لَكِنْ بِإِلْجَائِهِمْ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى فَعَلَهُ، فَنَسَبَ الْفِعْلَ إِلَيْهِمْ وَرَتَّبَ الْحُكْمَ فِيهِ عَلَيْهِمْ، فَلِهَذَا يُقْتَلُ الْمُكْرِهُ عَلَى الْقَتْلِ وَيَضْمَنُ الْمَالَ الْمُتْلَفَ بِالْإِكْرَاهِ، لِإِلْجَائِهِ الْقَاتِلَ وَالْمُتْلِفَ إِلَى الْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثانِيَ اثْنَيْنِ) أَيْ أَحَدَ اثْنَيْنِ. وَهَذَا كَثَالِثِ ثَلَاثَةٍ وَرَابِعِ أَرْبَعَةٍ. فَإِذَا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ فَقُلْتَ رَابِعُ ثَلَاثَةٍ وَخَامِسُ أَرْبَعَةٍ، فَالْمَعْنَى صَيَّرَ الثَّلَاثَةَ أَرْبَعَةً بِنَفْسِهِ وَالْأَرْبَعَةَ خَمْسَةً. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ أَخْرَجُوهُ مُنْفَرِدًا مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ أَبِي بَكْرٍ. وَالْعَامِلُ فِيهَا" نَصَرَهُ اللَّهُ" أَيْ نَصَرَهُ مُنْفَرِدًا وَنَصَرَهُ أَحَدُ اثْنَيْنِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: التَّقْدِيرُ فَخَرَجَ ثَانِي اثْنَيْنِ، مِثْلُ" وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ «١» نَباتاً" [نوح: ١٧]. وقرا جمهور الناس
هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا رَضِي لَكُمْ | مَاضِي الْعَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفَ «١» |
(٢). يريحها: يردها.
(٢). الخريت: الدليل الحاذق والماهر بطرق المفاوز.
(٣). في ج وك وهـ وز: وانطلق.
(٤). الساحل: موضع بعينه ولم يرد به ساحل البحر.
(٥). في ج: الكفر.
(٢). الخرق (بالضم): الحمق وضعف الرأى.
(٣). راجع ج ٩ ص ٦٢.
(٤). راجع ج ١١ ص ٢٢١ فما بعد.
(٥). راجع ج ١٣ ص ٣٤١ فما بعد
(٢). من ب وج وز وك وى.
(٣). من ب وك وى. واضطربت الأصول في هذا الاسم. والذي في أحكام القرآن لابن العربي المطبوع: (أبو الفضائل بن المعدل) وفي المخطوطة منه (أبو الفضائل المعدل).
(٤). راجع ج ١٣ ص ١٠٠ فما بعد.
(٥). من ج وهـ.
(٦). موضع بالبحرين.
(٢). في ج: أهل السنة. وفي ز: التفسير.
(٣). من هـ.
(٤). الثمام: نبت معروف في البادية.
(٥). في هـ: وألهم.
(٦). المغامرة: المخاصمة. راجع الحديث بطوله في صحيح البخاري في باب مناقب أبي بكر رضى الله عنه.
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ | نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا |
[سورة التوبة (٩): آية ٤١]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى سُفْيَانُ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ" انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا". وَقَالَ أَبُو الضحا كَذَلِكَ أَيْضًا. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٣١١ فما بعد. [..... ]
(٣). ص ٢٢٥ وص ٢٩٣ من هذا الجزء.
(٤). ص ٢٢٥ وص ٢٩٣ من هذا الجزء.
[سورة التوبة (٩): آية ٤٢]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)
لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَظْهَرَ اللَّهُ نِفَاقَ قَوْمٍ. وَالْعَرَضُ: مَا يُعْرَضُ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى: غَنِيمَةٌ قَرِيبَةٌ. أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ دُعُوا إِلَى غَنِيمَةٍ لَاتَّبَعُوهُ." عَرَضاً" خَبَرُ كَانَ." قَرِيباً" نَعْتُهُ." وَسَفَراً قاصِداً" عَطْفٌ عَلَيْهِ. وَحُذِفَ اسْمُ كَانَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. التَّقْدِيرُ: لَوْ كَانَ الْمَدْعُوَّ إِلَيْهِ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا- أَيْ سَهْلًا مَعْلُومَ الطُّرُقِ- لَاتَّبَعُوكَ. وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي جُمْلَةِ مَنْ خُوطِبَ بِالنَّفِيرِ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَذْكُرُونَ الْجُمْلَةَ ثُمَّ يَأْتُونَ بِالْإِضْمَارِ عَائِدًا عَلَى بَعْضِهَا، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها" «٢» [مريم: ٧١] أَنَّهَا الْقِيَامَةُ. ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ:" ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا" «٣» [مريم: ٧٢] يعني عز وجل جَهَنَّمَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ السُّنَّةِ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أنه يجد عظما سمينا
(٢). راجع ج ١١ ص ١٣١ فما بعد.
(٣). راجع ج ١١ ص ١٣١ فما بعد.
[سورة التوبة (٩): آية ٤٣]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) قِيلَ: هُوَ افْتِتَاحُ كَلَامٍ، كَمَا تَقُولُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ وَأَعَزَّكَ وَرَحِمَكَ! كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:" عَفَا اللَّهُ عَنْكَ"، حَكَاهُ مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ وَالنَّحَّاسُ. وَأَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ الذَّنْبِ لِئَلَّا يَطِيرَ قَلْبُهُ فَرَقًا «٣». وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ مَا كَانَ مِنْ ذَنْبِكَ فِي أَنْ أَذِنْتَ لَهُمْ، فَلَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:" عَفَا اللَّهُ عَنْكَ" عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. ثُمَّ قِيلَ: فِي الْإِذْنِ قَوْلَانِ: [الْأَوَّلُ [" لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ" فِي الْخُرُوجِ مَعَكَ، وَفِي خُرُوجِهِمْ بِلَا عِدَّةٍ وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ فَسَادٌ. [الثَّانِي [-" لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ" فِي الْقُعُودِ لَمَّا اعْتَلُّوا بِأَعْذَارٍ، ذكرهما الْقُشَيْرِيُّ قَالَ: وَهَذَا عِتَابُ تَلَطُّفٍ إِذْ قَالَ:" عَفَا اللَّهُ عَنْكَ". وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَذِنَ مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ نَزَلَ فِيهِ. قَالَ قَتَادَةُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: ثِنْتَانِ فَعَلَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] و [«٤» لم يؤمر
(٢). راجع ج ٤ ص ١٥٣.
(٣). الفرق بالتحريك: الخوف والجزع.
(٤). من ج.
[سورة التوبة (٩): الآيات ٤٤ الى ٤٥]
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أَيْ فِي الْقُعُودِ وَلَا فِي الْخُرُوجِ، بَلْ إِذَا أَمَرْتَ بِشَيْءٍ ابْتَدَرُوهُ، فَكَانَ الِاسْتِئْذَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ لِغَيْرِ عُذْر، وَلِذَلِك قَالَ: (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ). رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) نَسَخَتْهَا الَّتِي فِي (النُّورِ) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ- إِلَى قَوْلِهِ- غَفُورٌ رَحِيمٌ) «٢» " أَنْ يُجاهِدُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بإضمار في، عن الزجاج. وقيل: التقدير
(٢). راجع ج ١٢ ص ٣٢٠ فما بعد.
[سورة التوبة (٩): آية ٤٦]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أَيْ لَوْ أَرَادُوا الْجِهَادَ لَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ السَّفَرِ. فَتَرْكُهُمُ الِاسْتِعْدَادَ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَتِهِمُ التَّخَلُّفَ. (وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ) أَيْ خُرُوجَهُمْ مَعَكَ. (فَثَبَّطَهُمْ) أَيْ حَبَسَهُمْ عَنْكَ وَخَذَلَهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَنَا فِي الْجُلُوسِ أَفْسَدْنَا وَحَرَّضْنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ بَعْدَهُ" لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا". (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْإِذْنَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. قِيلَ: قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا فَأَخَذُوا بِظَاهِرِ لَفْظِهِ وَقَالُوا. قَدْ أَذِنَ لَنَا. وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخِذْلَانِ، أَيْ أَوْقَعَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْقُعُودَ. وَمَعْنَى (مَعَ الْقاعِدِينَ) أَيْ مَعَ أُولِي الضَّرَرِ وَالْعُمْيَانِ وَالزَّمْنَى والنسوان والصبيان.
[سورة التوبة (٩): آية ٤٧]
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)
هُوَ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي تَخَلُّفِ الْمُنَافِقِينَ عَنْهُمْ. وَالْخَبَالُ: الْفَسَادُ وَالنَّمِيمَةُ وَإِيقَاعُ الِاخْتِلَافِ وَالْأَرَاجِيفِ. وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً وَلَكِنْ طَلَبُوا الْخَبَالَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَزِيدُونَكُمْ فِيمَا يَتَرَدَّدُونَ [فِيهِ «٢»] مِنَ الرَّأْيِ إِلَّا خَبَالًا، فَلَا يكون الاستثناء منقطعا.
(٢). من ج وز ى.
قوله تعالى :" ولأوضعوا خلالكم " المعنى لأسرعوا فيما بينكم بالإفساد. والإيضاع، سرعة السير. وقال الراجز٢ :
يا ليتني فيها جذعْ *** أخبُّ فيها وأضَعْ
يقال : وضع البعير إذا عدا، يضع وضعا ووضوعا٣ إذا أسرع السير. وأوضعته حملته على العدو. وقيل : الإيضاع سير مثل الخبب. والخلل الفرجة بين الشيئين، والجمع الخلال، أي الفرج التي تكون بين الصفوف. أي لأوضعوا خلالكم بالنميمة وإفساد ذات البين. " يبغونكم الفتنة " مفعول ثان. والمعنى يطلبون لكم الفتنة، أي الإفساد والتحريض. ويقال : أبغيته كذا أعنته على طلبه، وبغيته كذا طلبته له. وقيل : الفتنة هنا الشرك. " وفيكم سماعون لهم " أي عيون لهم ينقلون إليهم الأخبار منكم. قتادة : وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم. النحاس : القول الأول أولى ؛ لأنه الأغلب من معنييه أن معنى سماع يسمع الكلام : ومثله " سماعون للكذب٤ " [ المائدة : ٤١ ]. والقول الثاني : لا يكاد يقال فيه إلا سامع، مثل قائل.
٢ هو دريد بن الصمة كما في اللسان..
٣ الذي في كتب اللغة أنه يقال: وضع البعير وضعا وموضوعا. أما الوضوع فهو من مصادر قولهم: وضع الرجل نفسه وضعا ووضوعا وضعة (بفتح الضاد وكسرها) إذا أذلها..
٤ راجع ج ٦ ص ١٨٢.
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ | أَخُبَّ فِيهَا وَأَضَعْ |
[سورة التوبة (٩): آية ٤٨]
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) أَيْ لَقَدْ طَلَبُوا الْإِفْسَادَ وَالْخَبَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُهُمْ، وَيَنْزِلَ الْوَحْيُ بِمَا أَسَرُّوهُ وَبِمَا سَيَفْعَلُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَرَادَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَفُوا عَلَى ثَنِيَّةِ «٤» الْوَدَاعِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ لِيَفْتِكُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أَيْ صَرَفُوهَا وَأَجَالُوا الرَّأْيَ فِي إِبْطَالِ مَا جِئْتَ بِهِ (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ) أي دينه" وَهُمْ كارِهُونَ"
(٢). الذي في كتب اللغة أنه يقال: وضع البعير وضعا وموضوعا. أما الوضوء فهو من مصادر قولهم: وضع الرجل نفسه وضعا وضوعا وضعه (بفتح الضاد وكسرها) إذا أذلها.
(٣). راجع ج ٦ ص ١٨٢.
(٤). الثنية: الطريقة في الجبل كالنقب، وقيل: الطريق العالي فيه. والواداع، واد بمكة وثنية الوداع منسوبة إليه.
[سورة التوبة (٩): الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) مِنْ أَذِنَ يَأْذَنُ. وَإِذَا أَمَرْتَ زِدْتَ هَمْزَةً مَكْسُورَةً وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ، وَلَا يَجْتَمِعُ هَمْزَتَانِ فَأُبْدِلَتْ مِنَ الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت ائذن. فَإِذَا وَصَلْتَ زَالَتِ الْعِلَّةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ، ثُمَّ هَمَزْتَ فَقُلْتَ:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي" وَرَوَى وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ" وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اوْذَنْ لِي" خَفَّفَ الْهَمْزَةَ «١». قَالَ النحاس: يقال ائذن لفلان ثم ائذن لَهُ هِجَاءُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَاحِدٌ بِأَلِفٍ وَيَاءٍ قبل الذال في الخط. فإن قلت: ائذن لِفُلَانٍ وَأْذَنْ لِغَيْرِهِ كَانَ الثَّانِي بِغَيْرِ يَاءٍ وَكَذَا الْفَاءُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ ثُمَّ وَالْوَاوُ أَنَّ ثُمَّ يُوقَفُ عَلَيْهَا وَتَنْفَصِلُ وَالْوَاوُ وَالْفَاءُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَنْفَصِلَانِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَخِي بَنِي سَلِمَةَ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى تَبُوكَ: (يَا جَدُّ، هَلْ لَكَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ تَتَّخِذُ مِنْهُمْ سَرَارِيَّ وَوُصَفَاءَ) فَقَالَ الْجَدُّ: قَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنِّي مُغَرَمٌ بِالنِّسَاءِ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ بَنِي الْأَصْفَرِ أَلَّا أَصْبِرَ عَنْهُنَّ فَلَا تَفْتِنِّي وَأْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ وَأُعِينُكَ بِمَالِيَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: (قَدْ أَذِنْتُ لَكَ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. أَيْ لَا تَفْتِنِّي بِصَبَاحَةِ وُجُوهِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عِلَّةٌ إِلَّا النِّفَاقَ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَالْأَصْفَرُ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ كَانَتْ لَهُ بَنَاتٌ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِهِنَّ أَجْمَلُ مِنْهُنَّ وَكَانَ بِبِلَادِ الرُّومِ. وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَشَةَ غَلَبَتْ عَلَى الرُّومِ، وَوَلَدَتْ لَهُمْ بَنَاتٍ فَأَخَذْنَ مِنْ بَيَاضِ الرُّومِ وَسَوَادِ الْحَبَشَةِ، فَكُنَّ صُفْرًا لُعْسًا «٢». قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي قَوْلِ ابْنِ ابن إِسْحَاقَ فُتُورٌ. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
(٢). اللعس: سواد اللثة والشفة. وقيل: اللعس واللعسة: سواد يعلو شفة المرأة البيضاء وقيل: هو سواد في حمرة.
وَسُوِّدَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ لِجُودِهِ | وَحُقَّ لِبِشْرِ بْنِ الْبَرَا أَنْ يُسَوَّدَا |
إِذَا مَا أَتَاهُ الْوَفْدُ أَذْهَبَ مَالَهُ | وَقَالَ خُذُوهُ إِنَّنِي عَائِدٌ غَدَا |
[سورة التوبة (٩): آية ٥١]
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا) قِيلَ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: مَا أَخْبَرَنَا بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّا إِمَّا أَنْ نَظْفَرَ فَيَكُونُ الظَّفَرُ حُسْنَى لنا، وإما أن نقتل
[سورة التوبة (٩): آية ٥٢]
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى" قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا" وَالْكُوفِيُّونَ يُدْغِمُونَ اللَّامَ فِي التَّاءِ. فَأَمَّا لَامُ الْمَعْرِفَةِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا الْإِدْغَامُ، كَمَا قَالَ عز وجل:" التَّائِبُونَ" [التوبة: ١١٢] لِكَثْرَةِ لَامِ الْمَعْرِفَةِ فِي كَلَامِهِمْ. وَلَا يَجُوزُ الإدغام في قوله:" قُلْ تَعالَوْا" [الانعام: ١٥١] لِأَنَّ" قُلْ" مُعْتَلٌّ، فَلَمْ يَجْمَعُوا عَلَيْهِ عِلَّتَيْنِ. وَالتَّرَبُّصُ الِانْتِظَارُ. يُقَالُ: تَرَبَّصَ بِالطَّعَامِ أَيِ انْتَظَرَ بِهِ إِلَى حِينِ الْغَلَاءِ. وَالْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ. وَوَاحِدُ الْحُسْنَيَيْنِ حُسْنَى، وَالْجَمْعُ الْحُسْنَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ إِلَّا مُعَرَّفًا. لَا يُقَالُ: رَأَيْتُ امْرَأَةً حُسْنَى. وَالْمُرَادُ بِالْحُسْنَيَيْنِ الْغَنِيمَةُ وَالشَّهَادَةُ، عن ابن عباس ومجاهد وغير هما. وَاللَّفْظُ اسْتِفْهَامٌ وَالْمَعْنَى تَوْبِيخٌ. (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) أَيْ عُقُوبَةٍ تُهْلِكُكُمْ كَمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ مِنْ قَبْلِكُمْ. (أَوْ بِأَيْدِينا) أَيْ يُؤْذَنُ لَنَا فِي قِتَالِكُمْ. (فَتَرَبَّصُوا) تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. أَيِ انْتَظِرُوا مَوَاعِدَ الشيطان إنا منتظرون مواعد الله.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٢١.
[سورة التوبة (٩): آية ٥٣]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣)فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ [الْأُولَى] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ إِذْ قَالَ ائْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ وَهَذَا مَالِي أُعِينُكَ بِهِ. وَلَفْظُ" أَنْفِقُوا" أَمْرٌ، وَمَعْنَاهُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ. وَهَكَذَا تَسْتَعْمِلُ العرب في مثل هذا تأتي بأو كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «١»:
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً | لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ |
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢٣٥.
(٢). الضحضاح في الأصل: مارق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين. فاستعاره للنار. [..... ]
[سورة التوبة (٩): آية ٥٤]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-[قَوْلُهُ تَعَالَى «٤»]: (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ) " أَنْ" الْأُولَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَالْمَعْنَى: وَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا كُفْرُهُمْ وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ" بِالْيَاءِ، لِأَنَّ النَّفَقَاتِ وَالْإِنْفَاقَ وَاحِدٌ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ صَلَّى وَإِنِ انْفَرَدَ لَمْ يُصَلِّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَرْجُو عَلَى الصَّلَاةِ ثَوَابًا وَلَا يَخْشَى فِي تَرْكِهَا عِقَابًا. فَالنِّفَاقُ يُورِثُ الْكَسَلَ فِي الْعِبَادَةِ لَا مَحَالَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [النِّسَاءِ «٥»] الْقَوْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ حَدِيثَ الْعَلَاءِ «٦» مُوعَبًا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا مَغْرَمًا وَمَنْعَهَا مَغْنَمًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهِيَ غَيْرُ مُتَقَبَّلَةٍ وَلَا مُثَابٍ عَلَيْهَا حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ.
(٢). راجع ج ١٤ ص
(٣). من ب وج وهـ وى.
(٤). من ك وج.
(٥). راجع ج ٥ ص ٤٢٢.
(٦). لعل صوابه: حديث الاعرابي.
[سورة التوبة (٩): الآيات ٥٥ الى ٥٦]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦)أَيْ لَا تَسْتَحْسِنْ مَا أَعْطَيْنَاهُمْ وَلَا تَمِلْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ اسْتِدْرَاجٌ" إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها" قَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنَّمَا يَرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَقِيلَ: يُعَذِّبُهُمْ بِالتَّعَبِ فِي الْجَمْعِ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَقَوْلِ الْحَسَنِ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، فَهُمْ يُنْفِقُونَ كَارِهِينَ فَيُعَذَّبُونَ بِمَا يُنْفِقُونَ. (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) نَصٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَمُوتُوا كَافِرِينَ، سَبَقَ بِذَلِكَ الْقَضَاءُ. (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) بَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ الْحَلِفَ بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ. نَظِيرُهُ" إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ" «١» [المنافقون: ١] الْآيَةَ. وَالْفَرَقُ الْخَوْفُ، أَيْ يَخَافُونَ أَنْ يُظْهِرُوا ما هم عليه فيقتلوا.
[سورة التوبة (٩): آية ٥٧]
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) كَذَا الْوَقْفُ عَلَيْهِ. وَفِي الْخَطِّ بِأَلِفَيْنِ: الْأُولَى هَمْزَةٌ، وَالثَّانِيَةُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوِينِ، وَكَذَا [رَأَيْتُ] جُزْءًا. وَالْمَلْجَأُ الْحِصْنُ، عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحِرْزُ، وَهُمَا سَوَاءٌ. يُقَالُ: لَجَأْتُ إِلَيْهِ لَجَأَ (بِالتَّحْرِيكِ) «٢» وَمَلْجَأً وَالْتَجَأْتُ إِلَيْهِ
(٢). هذه عبارة الجوهري في صحاحه. والذي في اللسان والقاموس أنه يقال لجأ لجأ مثل منع منعا. ولجئ لجأ مثل فرح فرحا.
الْحَمْدُ لِلَّهِ مُمْسَانَا وَمُصْبَحَنَا «٢»
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَغَارَاتُ الْغِيرَانُ وَالسَّرَادِيبُ، وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي يُسْتَتَرُ فِيهَا، وَمِنْهُ غَارَ الْمَاءُ وَغَارَتِ الْعَيْنُ. (أَوْ مُدَّخَلًا) مُفْتَعَلٌ مِنَ الدُّخُولِ، أَيْ مَسْلَكًا نَخْتَفِي بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَأَعَادَهُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْأَصْلُ فِيهِ مُدْتَخَلٌ، قُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا، لِأَنَّ الدَّالَ مَجْهُورَةٌ وَالتَّاءَ مَهْمُوسَةٌ وَهُمَا مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِيهِ مُتَدَخَّلٌ عَلَى مُتَفَعَّلٍ، كَمَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ:" أَوْ مُتَدَخَّلًا" وَمَعْنَاهُ دُخُولٌ بَعْدَ دُخُولٍ، أَيْ قَوْمًا يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ. الْمَهْدَوِيُّ: مُتَدَخِّلًا مِنْ تَدَخَّلَ مِثْلَ تَفَعَّلَ إِذَا تَكَلَّفَ الدُّخُولُ. وَعَنْ أُبَيٍّ أَيْضًا: مُنْدَخَلًا مِنِ انْدَخَلَ، وَهُوَ شَاذٌّ، لِأَنَّ ثُلَاثِيَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ:" أَوْ مَدْخَلًا" بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيُقْرَأُ" أَوْ مُدْخَلًا" بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ. الْأَوَّلُ مِنْ دَخَلَ يَدْخُلُ. وَالثَّانِي مِنْ أَدْخَلَ يُدْخِلُ. كَذَا الْمَصْدَرُ وَالْمَكَانُ وَالزَّمَانُ كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
مُغَارَ ابْنِ هَمَّامٍ عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا «٣»
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَعِيسَى وَالْأَعْمَشِ" أَوْ مُدَّخَّلًا" بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَالْخَاءِ. وَالْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَحْدَهَا، أَيْ مَكَانًا يُدْخِلُونَ فِيهِ أَنْفُسَهُمْ. فَهَذِهِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ. (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ)
(٢). هذا صدر بيت لامية ابن أبي الصلت. وعجزه:
بالخير صبحنا ربي ومسانا
(٣). هذا عجز بيت لحميد بن ثور. وصدره:
وما هي إلا في إزار وعلقة
وصف امرأة كانت صغيرة السن كانت تلبس العلقة وهي من لباس الجواري، وهي ثوب قصير بلا كمين تلبسه الصبية تلعب فيه ويقال له الاتب والبقيرة، وكانت تلبسه وقت إغارة ابن همام على هذا الحي. وخثعم قبيلة من اليمن. (عن شرح الشواهد).
الحمد لله ممسانا ومصبحنا٣
قال ابن عباس : المغارات الغيران والسراديب، وهي المواضع التي يستتر فيها، ومنه غار الماء وغارت العين. " أو مدخلا " مفتعل من الدخول، أي مسلكا نختفي بالدخول فيه، وأعاده لاختلاف اللفظ. قال النحاس : الأصل فيه مدتخل، قلبت التاء دالا، لأن الدال مجهورة والتاء مهموسة وهما من مخرج واحد. وقيل : الأصل فيه متدخل على متفعل، كما في قراءة أبي :" أو متدخلا " ومعناه دخول بعد دخول، أي قوما يدخلون معهم. المهدوي : متدخلا من تدخل مثل تفعل إذا تكلف الدخول. وعن أبي أيضا : مندخلا من اندخل، وهو شاذ، لأن ثلاثيه غير متعد عند سيبويه وأصحابه. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن :" أو مدخلا " بفتح الميم وإسكان الدال. قال الزجاج : ويقرأ " أو مدخلا " بضم الميم وإسكان الدال. الأول من دخل يدخل. والثاني من أدخل يدخل. كذا المصدر والمكان والزمان كما أنشد سيبويه :
* مغار ابن همام على حي خثعما*٤
وروي عن قتادة وعيسى والأعمش " أو مدخلا " بتشديد الدال والخاء. والجمهور بتشديد الدال وحدها، أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم. فهذه ست قراءات. " لولوا إليه " أي لرجعوا إليه. " وهم يجمحون " أي يسرعون، لا يرد وجوههم شيء. من جمح الفرس إذا لم يرده اللجام. قال الشاعر :
سبوحا جموحا وإحضارها*** كمعمعة السَّعَفِ الموقد٥
والمعنى : لو وجدوا شيئا من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هربا من المسلمين.
٢ كذا في الصحاح للجوهري "التميمي" والصواب أنه "التيمي" لأنه من تيم بن عبد مناة بن أدبن طابخة ومات عمر ابن لجأ بالأهواز وكان يهاجي جريرا (عن الشعر والشعراء)..
٣ هذا صدر بيت لأمية ابن أبي الصلت. وعجزه: بالخير صبحنا ربي ومسانا
.
٤ هذا عجز بيت لحميد بن ثور وصدره: *وما هي إلا في إزار وعلقة *
وصف امرأة كانت صغيرة السن كانت تلبس العلقة وهي من لباس الجواري، وهي ثوب قصير بلا كمين تلبسه الصبية تلعب فيه، ويقال له الأتب والبقيرة، وكانت تلبسه وقت إغارة ابن همام على هذا الحي وخثعم قبيلة من اليمن (عن شرح الشواهد)..
٥ البيت لامرئ القيس: والإحضار: العدو..
سَبُوحًا جَمُوحًا وَإِحْضَارُهَا | كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ الْمُوقَدِ «١» |
[سورة التوبة (٩): آية ٥٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ" أَيْ يَطْعَنُ عَلَيْكَ، عَنْ قَتَادَةَ. الْحَسَنُ: يَعِيبُكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ يَرُوزُكَ»
وَيَسْأَلُكَ. النَّحَّاسُ: وَالْقَوْلُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ. يُقَالُ: لَمَزَهُ يَلْمِزُهُ إِذَا عَابَهُ. وَاللَّمْزُ فِي اللُّغَةِ الْعَيْبُ فِي السِّرِّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اللَّمْزُ الْعَيْبُ، وَأَصْلُهُ الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ لمزه يلمزه ويلمزه وقرى بِهِمَا" وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ". وَرَجُلٌ لَمَّازٌ وَلُمَزَةٌ أَيْ عَيَّابٌ. وَيُقَالُ أَيْضًا: لَمَزَهُ يَلْمِزُهُ إِذَا دَفَعَهُ وَضَرَبَهُ. وَالْهَمْزُ مِثْلُ اللَّمْزِ. وَالْهَامِزُ وَالْهَمَّازُ الْعَيَّابُ، وَالْهُمَزَةُ مِثْلُهُ. يُقَالُ: رَجُلٌ هُمَزَةٌ وَامْرَأَةٌ هُمَزَةٌ أَيْضًا. وَهَمَزَهُ أَيْ دَفَعَهُ وَضَرَبَهُ. ثُمَّ قِيلَ: اللَّمْزُ فِي الْوَجْهِ، وَالْهَمْزُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ. وَصَفَ اللَّهُ قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ عَابُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْرِيقِ الصَّدَقَاتِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ لِيُعْطِيَهُمْ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ مَالًا إِذْ جَاءَهُ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ أَصْلُ الْخَوَارِجِ، وَيُقَالُ لَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: (وَيْلُكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ) فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَعِنْدَهَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلْ هَذَا الْمُنَافِقَ. فَقَالَ: (مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ منه كما يمرق السهم من الرمية (.
(٢). الروز: الامتحان والتقدير.
(
[سورة التوبة (٩): آية ٥٩]
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ" جَوَابُ" لَوْ" محذوف، التقدير لكان خيرا لهم.
[سورة التوبة (٩): آية ٦٠]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
فِيهِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ النَّاسِ بِالْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ شُكْرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِخْرَاجَ سَهْمٍ يُؤَدُّونَهُ إِلَى مَنْ لَا مَالَ لَهُ، نِيَابَةً عَنْهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا ضَمِنَهُ بِقَوْلِهِ:" وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها" «١» [هود: ٦]. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِلْفُقَراءِ" تَبْيِينٌ لِمَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ وَالْمَحَلِّ، حَتَّى لَا تَخْرُجَ عَنْهُمْ. ثُمَّ الِاخْتِيَارُ إِلَى مَنْ يُقْسَمُ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمَا. كَمَا يُقَالُ: السَّرْجُ لِلدَّابَّةِ وَالْبَابِ لِلدَّارِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: اللَّامُ لَامُ التَّمْلِيكِ، كَقَوْلِكَ: الْمَالُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: وَهَذَا كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَصْنَافٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ. وَاحْتَجُّوا بِلَفْظَةِ" إِنَّمَا" وَأَنَّهَا تَقْتَضِي الْحَصْرَ فِي وُقُوفِ الصَّدَقَاتِ عَلَى الثَّمَانِيَةِ الْأَصْنَافِ وَعَضَّدُوا هَذَا بِحَدِيثِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْعَثُ إِلَى قَوْمِي جَيْشًا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْبِسْ جَيْشَكَ فَأَنَا لَكَ بِإِسْلَامِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، وَكَتَبْتُ إِلَى قَوْمِي فَجَاءَ إِسْلَامُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ. فقال رسول الله صلى الله عليه
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ | وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ «١» |
لَمَّا رَأَى لُبَدَ النُّسُورِ تَطَايَرَتْ | رَفَعَ الْقَوَادِمَ كَالْفَقِيرِ الْأَعْزَلِ «٥» |
(٢). راجع ج ١١ ص ٣٣ فما بعده.
(٣). الفقرة (بالكسر) الفقرة والفقارة (بفتحهما): ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب.
(٤). راجع ج ٣ ص ٣٣٩.
(٥). البيت للبيد. ولبد: اسم آخر نسور لقمان بن عاد سماه بذلك لأنه لبد فبقى لا يذهب ولا يموت. والقوادم: أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح، الواحدة قادمة.
مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ | عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ |
إِذَا أَرَدْتَ شَرِيفَ الْقَوْمِ كُلِّهِمِ | فَانْظُرْ إِلَى مَلِكٍ فِي زِيٍّ مِسْكِينِ |
ذَاكَ الَّذِي عَظُمَتْ فِي اللَّهِ رَغْبَتُهُ | وَذَاكَ يَصْلُحُ لِلدُّنْيَا وَلِلدِّينِ |
(٢). راجع ج ٥ ص ٢٧ فما بعد.
(٣). من ج وز وك.
(٤). أي مستكبرة عاتية.
(٢). راجع ج ٢٠ ص ٩٩. [..... ]
(٣). الرضف: الحجارة المحماة على النار.
(٢). زيادة عن سنن الدارقطني والترمذي.
(٢). في ب وج وى وز: الزكوات.
(٣). من هـ.
(٤). الزيادة عن صحيح البخاري.
(٥). الزيادة عن صحيح البخاري.
(٦). في البخاري: (فإنها تقبل من الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين در هما).
(٧). راجع ص ٢٤٤ من هذا الجزء.
(٢). في ب وى: إلى.
(٣). اختلف في ضبطه فقيل بضم اللام وسكون التاء، وحكى فتحها. وقيل: بفتح اللام والمثناة واسمه عبد الله وكان من بني تولب حي من الأزد. وقيل: اللتبية أمه.
كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا | بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ «١» |
وَإِيقَاظِيَ الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا | إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ |
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ العبيد | بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ «٢» |
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإِ | فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ |
(٢). العبيد (مصغر): اسمع فرس العباس ابن مرداس.
(٣). ذو تدرأ (بضم التاء): أي ذو هجوم لا يتوقى ولا يهاب ففيه قوة على دفع أعدائه.
إِلَّا أَفَائِلَ أُعْطِيتُهَا | عَدِيدَ قَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ «١» |
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ | يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ |
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا | وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ |
(٢). في ب: فأعطى.
(٣). من ج وز وك وى. وفي أسد الغابة: ابن ربيعة بن يربوع.
(٤). المغموز: المتهم.
(٥). من ج وز.
(٢). في ب وج وك وز وى.
(٣). بدأ بمعنى ابتدأ. ويروى: بدا بمعنى ظهر. والروايتان صحيحتان والغربة تكون بمعنى كون الشيء في غير وطنه. وبمعنى منقطع النظير.
يتوب.
(٢). الذي في أحكام القرآن للكيا: (وذكر وجو ها بينة في منع ذلك منها أنه العتق.. ) إلخ.
(٣). أي جئت بالخطبة قصيرة وبالمسألة واسعة كثيرة. [..... ]
(٢). أي حتى يقوموا على رءوس الاشهاد قائلين: إن فلانا أصابته فاقة إلخ.
(٣). كذا رواية مسلم، أي اعتقده سحتا أو يؤكل سحتا. وفي غير مسلم بالرفع.
(٤). المدقع: الشديد، يفضى بصاحبه إلى الدقعاء، وهي التراب. وقيل: هو سوء احتمال الفقر.
(٥). المفظع: الشديد الشنيع.
(٦). هو أن يتحمل دية فيسعى فيها حتى يؤديها إلى أولياء المقتول، فإن لم يؤد ها قتل المتحمل عنه فيوجعه قتله.
(٢). بالمهملة كما في التاج: أبو محمد الخزاعي صحابي.
(٣). الزيادة عن صحيح البخاري.
إِنْ تَسْأَلُونِي عَنِ الْهَوَى فَأَنَا الْهَوَى | وَابْنُ الْهَوَى وَأَخُو الْهَوَى وَأَبُوهُ |
(٢). اجتاب القميص: لبسه. والنمار (بكسر النون): كل شملة مخططة من مآزر الاعراب، كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض.
(٣). تمعر: تغير.
(٤). راجع ج ٥ ص ١ فما بعد.
(٥). راجع ج ١٨ ص ٤٢ فما بعد. [..... ]
(٢). كذا في الأصول وصحيح مسلم. ورواية البخاري: (شك إسحاق في ذلك أن الأبرص) بغير لفظ (إلا).
(٣). أي صاحبا الإبل والبقر.
(٤). الحبال: جمع حبل. والمراد الأسباب التي يقطعها في طلب الرزق.
المائتين فَلَا يَجُوزُ. وَمِنْ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ مَنْ قَالَ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ
الأولى - قوله تعالى :" إنما الصدقات للفقراء " خص الله سبحانه بعض الناس بالأموال دون بعض نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بقوله :" وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها١ " [ هود : ٦ ].
الثانية – قوله تعالى :" للفقراء " تبيين لمصارف الصدقات والمحل، حتى لا تخرج عنهم. ثم الاختيار إلى من يقسم، هذا قول مالك وأبي حنيفة وأصحابهما. كما يقال : السرج للدابة والباب للدار. وقال الشافعي : اللام لام التمليك. كقولك : المال لزيد وعمرو وبكر، فلا بد من التسوية بين المذكورين. قال الشافعي وأصحابه : وهذا كما لو أوصى لأصناف معينين أو لقوم معينين. واحتجوا بلفظة " إنما " وأنها تقتضي الحصر في وقوف الصدقات على الثمانية الأصناف وعضدوا هذا بحديث زياد بن الحارث الصدائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبعث إلى قومي جيشا فقلت : يا رسول الله احبس جيشك فأنا لك بإسلامهم وطاعتهم، وكتبت إلى قومي فجاء إسلامهم وطاعتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا أخا صداء المطاع في قومه ). قال : قلت بل من الله عليهم وهداهم، قال : ثم جاءه رجل يسأل عن الصدقات، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من أهل تلك الأجزاء أعطيتك ) رواه أبو داود والدارقطني. واللفظ للدارقطني. وحكي عن زين العابدين أنه قال : إنه تعالى علم قدر ما يدفع من الزكاة وما تقع به الكفاية لهذه الأصناف، وجعله حقا لجميعهم، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم. وتمسك علماؤنا بقوله تعالى :" إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم٢ " [ البقرة : ٢٧١ ]. والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض. وقال صلى الله عليه وسلم :( أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم ). وهذا نص في ذكر أحد الأصناف الثمانية قرآنا وسنة، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وحذيفة. وقال به من التابعين جماعة. قالوا : جائز أن يدفعها إلى الأصناف الثمانية، وإلى أي صنف منها دفعت جاز. روى المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة في قوله :" إنما الصدقات للفقراء والمساكين " قال : إنما ذكر الله هذه الصدقات لتعرف وأي صنف منها أعطيت أجزأك. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " قال : في أيها وضعت أجزأ عنك. وهو قول الحسن وإبراهيم وغيرهما. قال الكيا الطبري : حتى ادعى مالك الإجماع على ذلك.
قلت : يريد إجماع الصحابة، فإنه لا يعلم لهم مخالف منهم على ما قال أبو عمر، والله أعلم. ابن العربي : والذي جعلناه فيصلا بيننا وبينهم أن الأمة اتفقت على أنه لو أعطي كل صنف حظه لم يجب تعميمه، فكذلك تعميم الأصناف مثله. والله أعلم.
الثالثة - واختلف علماء اللغة وأهل الفقه في الفرق بين الفقير والمسكين على تسعة أقوال : فذهب يعقوب بن السكيت والقتبي ويونس بن حبيب إلى أن الفقير أحسن حالا من المسكين. قالوا : الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، واحتجوا بقول الراعي :
أما الفقير الذي كانت حلوبته*** وَفق العيال فلم يترك له سَبَدُ٣
وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة والحديث منهم أبو حنيفة والقاضي عبدالوهاب، والوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام، يقال : حلوبته وفق عيال أي لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه، عن الجوهري. وقال آخرون بالعكس، فجعلوا المسكين أحسن حالا من الفقير. واحتجوا بقوله تعالى :" أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر٤ " [ الكهف : ٧٩ ]. فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر. وربما ساوت جملة من المال. وعضدوه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ من الفقر. وروي عنه أنه قال :" اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا ". فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير لتناقض الخبران، إذ يستحيل أن يتعوذ من الفقر ثم يسأل ما هو أسوأ حالا منه، وقد استجاب الله دعاءه وقبضه وله مما أفاء الله عليه، ولكن لم يكن معه تمام الكفاية، ولذلك رهن درعه. قالوا : وأما بيت الراعي فلا حجة فيه، لأنه إنما ذكر أن الفقير كانت له حلوبة في حال. قالوا : والفقير معناه في كلام العرب المفقور الذي نُزعِت فقرة٥من ظهره من شدة الفقر فلا حال أشد من هذه. وقد أخبر الله عنهم بقوله " لا يستطيعون ضربا في الأرض٦ " [ البقرة : ٢٧٣ ]. واستشهدوا بقول الشاعر :
لما رأى لُبَدَ النسور تطايرت*** رفعَ القوادمَ كالفقير الأعزل٧
أي لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع صلبه ولصق بالأرض. ذهب إلى هذا الأصمعي وغيره، وحكاه الطحاوي عن الكوفيين. وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه. وللشافعي قول آخر : أن الفقير والمسكين سواء، لا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم، وهو القول الثالث. وإلى هذا ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف.
قلت : ظاهر اللفظ يدل على أن المسكين غير الفقير، وأنهما صنفان، إلا أن أحد الصنفين أشد حاجة من الآخر، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما صنفا واحدا، والله أعلم. ولا حجة في قول من احتج بقوله تعالى :" أما السفينة فكانت لمساكين " [ الكهف : ٧٩ ] لأنه يحتمل أن تكون مستأجرة لهم، كما يقال : هذه دار فلان إذا كان ساكنها وإن كانت لغيره. وقد قال تعالى في وصف أهل النار :" ولهم مقامع من حديد٨ " [ الحج : ٢١ ] فأضافها إليهم. وقال تعالى :" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم٩ " [ النساء : ٥ ]. وقال صلى الله عليه وسلم :( من باع عبدا وله مال. . . ) وهو كثير جدا يضاف الشيء إليه وليس له. ومنه قولهم : باب الدار الدابة، وسرج الفرس، وشبهه. ويجوز أن يسموا مساكين على جهة الرحمة والاستعطاف، كما يقال لمن امتحن بنكبة أو دفع إلى بلية مسكين. وفي الحديث ( مساكين أهل النار ) وقال الشاعر :
مساكين أهلُ الحب حتى قبورهم | عليها تراب الذل بين المقابر |
إذا أردت شريف القوم كلهم | فانظر إلى ملك في زي مسكين |
ذاك الذي عظمت في الله رغبته | وذاك يصلح للدنيا وللدين |
قلت : وهذا القول عكس ما ثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو، وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبدالله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال نعم. قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال نعم. قال : فأنت من الأغنياء. قال : فإن لي خادما قال : فأنت من الملوك. وقول سادس : روي عن ابن عباس قال : الفقراء من المهاجرين، والمساكين من الأعراب الذين لم يهاجروا وقال الضحاك. وقول سابع : وهو أن المسكين الذي يخشع ويستكن وإن لم يسأل. والفقير الذي يتحمل ويقبل الشيء سرا ولا يخشع، قاله عبيدالله بن الحسن. وقول ثامن قاله مجاهد وعكرمة والزهري - المساكين الطوافون، والفقراء فقراء المسلمين. وقول تاسع قاله عكرمة أيضا - أن الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب. وسيأتي.
الرابعة - وهي فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين، هل هما صنف واحد أو أكثر تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين، فمن قال هما صنف واحد قال : يكون لفلان نصف الثلث وللفقراء والمساكين نصف الثلث الثاني. ومن قال هما صنفان يقسم الثلث بينهم أثلاثا.
الخامسة - وقد اختلف العلماء في حد الفقر الذي يجوز معه الأخذ - بعد إجماع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم - أن من له دارا وخادما لا يستغني عنهما أن له أن يأخذ من الزكاة، وللمعطي أن يعطيه. وكان مالك يقول : إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة عما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجز، ذكره ابن المنذر. وبقول مالك قال النخعي والثوري. وقال أبو حنيفة : من معه عشرون دينارا أو مائتا درهم فلا يأخذ من الزكاة. فاعتبر النصاب لقوله عليه السلام :( أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم ). وهذا واضح، ورواه المغيرة عن مالك. وقال الثوري وأحمد وإسحاق وغيرهم : لا يأخذ من له خمسون درهما أو قدرها من الذهب، ولا يعطي منها أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما، قاله أحمد وإسحاق. وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا تحل الصدقة لرجل له خمسون درهما ). في إسناده عبدالرحمن بن إسحاق ضعيف، وعنه بكر بن خنيس ضعيف أيضا. ورواه حكيم بن جبير عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال :( خمسون درهما ) وحكيم بن جبير ضعيف تركه شعبة وغيره، قال الدارقطني رحمه الله. وقال أبو عمر : هذا الحديث يدور على حكيم بن جبير وهو متروك. وعن علي وعبدالله قالا : لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو قيمتها من الذهب، ذكره الدارقطني وقال الحسن البصري : لا يأخذ من له أربعون درهما. ورواه الواقدي عن مالك. وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبدالله بن مسعود قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( من سأل الناس وهو غني جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش ). فقيل : يا رسول الله وما غناؤه ؟ قال :( أربعون درهما ). وفي حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا والأوقية أربعون درهما ). والمشهور عن مالك ما رواه ابن القاسم عنه أنه سئل : هل يعطى من الزكاة من له أربعون درهما ؟ قال نعم. قال أبو عمر : يحتمل أن يكون الأول قويا على الاكتساب حسن التصرف. والثاني ضعيفا عن الاكتساب، أو من له عيال. والله أعلم. وقال الشافعي وأبو ثور : من كان قويا على الكسب والتحرف مع قوة البدن وحسن التصرف حتى يغنيه ذلك عن الناس فالصدقة عليه حرام. واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة١٣ سوي ) رواه عبدالله بن عمر، وأخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني. وروى جابر قال : جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة فركبه الناس، فقال :( إنها لا تصلح لغني ولا لصحيح ولا لعامل ) أخرج
٢ راجع ج ٣ ص ٣٣٢..
٣ السبد: الوبر. وقيل الشعر والعرب تقول: ما له ولا لبد، أي ماله ذو وبر ولا صوف متلبد ويكنى بهما عن الإبل والغنم..
٤ راجع ج ١١ ص ٣٣ فما بعده..
٥ الفقرة (الكسر) والفقرة والفقارة (بفتحهما) : ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب..
٦ راجع ج ٣ ص ٣٣٩..
٧ البيت للبيد: ولبد : اسم آخر نسور لقمان بن عاد سماه بذلك لأنه لبد فبقي لا يذهب ولا يموت. والقوادم: أربع أو عشر يشات في مقدم الجناح. الواحدة قادمة..
٨ راجع ج ١٢ ص ٢٥..
٩ راجع ج ٥ ص ٢٧ فما بعد..
١٠ من ج و ز و ك..
١١ أي مستكبرة عاتية...
١٢ كذا في كل الأصول: هو محمد بن القاسم بن شعبان إليه انتهت رئاسة المالكية بمصر توفي عام ٣٥٥ وفي ج: ابن سفيان. وهو خطأ..
١٣ المرة (بالكسر): القوة والشدة. والسويّ: الصحيح الأعضاء..
[سورة التوبة (٩): آية ٦١]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١)
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ فِي الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ يَبْسُطُ لِسَانَهُ بِالْوَقِيعَةِ فِي أَذِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ: إِنْ عَاتَبَنِي حَلَفْتُ لَهُ بِأَنِّي مَا قُلْتُ هَذَا فَيَقْبَلُهُ، فَإِنَّهُ أُذُنٌ سَامِعَةٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ رَجُلٌ أُذُنٌ إِذَا كَانَ يَسْمَعُ مَقَالَ كُلِّ أَحَدٍ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" هُوَ أُذُنٌ" قَالَ: مُسْتَمِعٌ وَقَابِلٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَتَّابِ بْنِ قُشَيْرٍ، قَالَ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ يَقْبَلُ كُلَّ مَا قِيلَ لَهُ. وَقِيلَ: هُوَ نبتل بن الحارث، قال ابْنُ إِسْحَاقَ. وَكَانَ نَبْتَلُ رَجُلًا جَسِيمًا ثَائِرَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، آدَمَ أَحْمَرَ الْعَيْنَيْنِ أَسَفْعَ الْخَدَّيْنِ مُشَوَّهَ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَلِ بْنِ الْحَارِثِ). السُّفْعَةُ بِالضَّمِّ: سَوَادٌ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ. والرجل أسفع، عند الجوهري. وقرى" أُذُنٌ" بِضَمِّ الذَّالِ وَسُكُونِهَا. (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أَيْ هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ لَا أُذُنُ شَرٍّ، أَيْ يَسْمَعُ الْخَيْرَ وَلَا يَسْمَعُ الشَّرَّ. وَقَرَأَ" قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ" بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، الْحَسَنُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ. وَالْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ" وَرَحْمَةٍ" بِالْخَفْضِ. وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى" أُذُنُ"، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ وَهُوَ رَحْمَةٌ،
[الأعراف: ١٥٤] أَيْ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَقَوْلِهِ" رَدِفَ لَكُمْ" «٣» [النمل: ٧٢] وَهِيَ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، التَّقْدِيرُ: إِيمَانُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ تَصْدِيقُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا لِلْكُفَّارِ. أَوْ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَعْنَى يُؤْمِنُ يُصَدِّقُ، فَعُدِّيَ بِاللَّامِ كَمَا عُدِّيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ" «٤» [المائدة: ٤٦].
[سورة التوبة (٩): آية ٦٢]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ اجتمعوا، فيهم الجلاس بن سويد ووديعة ابن ثَابِتٍ، وَفِيهِمْ غُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُدْعَى عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ، فَحَقَّرُوهُ فَتَكَلَّمُوا وَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ. فَغَضِبَ الْغُلَامُ وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ وَأَنْتُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِمْ، فَحَلَفُوا أَنَّ عَامِرًا كَاذِبٌ، فَقَالَ عَامِرٌ: هُمُ الْكَذَبَةُ، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُفَرِّقْ بَيْنَنَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُ الصَّادِقِ وَكَذِبُ الْكَاذِبِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَفِيهَا" يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ". الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، ثُمَّ حَذَفَ، كَمَا قَالَ [بَعْضُهُمْ «٥»]:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا | عِنْدَكَ رَاضٍ والرأي مختلف |
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٩٢.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٢٣٠.
(٤). راجع ج ٢ ص ٣٦.
(٥). من ج.
[سورة التوبة (٩): آية ٦٣]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَالْحَسَنُ" تَعْلَمُوا" بِالتَّاءِ على الخطاب. (أَنَّهُ) في موضع نصب بيعلموا، وَالْهَاءُ كِنَايَةُ عَنِ الْحَدِيثِ. (مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. وَالْمُحَادَّةُ: وُقُوعُ هَذَا فِي حَدٍّ وَذَاكَ فِي حَدٍّ، كَالْمُشَاقَّةِ. يُقَالُ: حَادَّ فُلَانٌ فُلَانًا أَيْ صَارَ فِي حَدٍّ غَيْرِ حَدِّهِ. (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) يُقَالُ: مَا بَعْدَ الْفَاءِ فِي الشَّرْطِ مُبْتَدَأٌ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ" فَإِنَّ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَدْ أَجَازَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ" فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ" بالكسر. قال سيبويه: وهو جيد وأنشد:
(٢). من هـ.
(٣). راجع ج ٦ ص ٢٦٤.
وَعِلْمِي بِأَسْدَامِ الْمِيَاهِ فَلَمْ تَزَلْ | قَلَائِصُ تَخْدِي فِي طَرِيقٍ طَلَائِحُ |
وَأَنِّي إِذَا مَلَّتْ رِكَابِي مُنَاخَهَا | فَإِنِّي عَلَى حَظِّي مِنَ الْأَمْرِ جَامِحُ «١» |
[سورة التوبة (٩): آية ٦٤]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) خَبَرٌ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ أَنَّ مَا بَعْدَهُ" إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ" لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا عِنَادًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ وَاللَّهِ وَدِدْتُ لَوْ أَنِّي قُدِّمْتُ فَجُلِدْتُ مائة ولا ينزل فينا شي يَفْضَحُنَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ." يَحْذَرُ" أَيْ يَتَحَرَّزُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لِيَحْذَرْ، فَهُوَ أَمْرٌ، كَمَا يُقَالُ: يفعل ذلك.
(٢). راجع ج ١٣ ص ١٥٤ فما بعد.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٣٧.
حَذِرٌ أُمُورًا لَا تَضِيرُ وَآمِنٌ | مَا لَيْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الْأَقْدَارِ |
[سورة التوبة (٩): آية ٦٥]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَرَكْبٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يسيرون بين يديه فقالوا:
[سورة التوبة (٩): آية ٦٦]
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَفْعَلُوا مَا لَا يَنْفَعُ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَعَدَمِ الِاعْتِذَارِ مِنَ الذَّنْبِ. وَاعْتَذَرَ بِمَعْنَى أَعْذَرَ، أَيْ صَارَ ذَا عُذْرٍ. قَالَ لَبِيَدٌ:
وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرَ «٢»
وَالِاعْتِذَارُ: مَحْوُ أَثَرِ الْمَوْجِدَةِ، يُقَالُ: اعْتَذَرَتِ الْمَنَازِلُ دَرَسَتْ. وَالِاعْتِذَارُ الدُّرُوسُ. قَالَ الشَّاعِرُ «٣»:
أَمْ كُنْتَ تَعْرِفُ آيَاتٍ فَقَدْ جَعَلَتْ | أَطْلَالُ إِلْفِكَ بِالْوَدْكَاءِ تَعْتَذِرُ |
(٢). هذا عجز بيت وصدره:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
(٣). هو ابن أحمر الباهلي كما في اللسان مادة (عذر).
[سورة التوبة (٩): آية ٦٧]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) ابْتِدَاءٌ." بَعْضُهُمْ" ابْتِدَاءٌ ثَانٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، وَيَكُونُ الْخَبَرُ" مِنْ بَعْضٍ". وَمَعْنَى" بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ" أَيْ هُمْ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الدِّينِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ، هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ:" يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ" [التوبة: ٥٦] أَيْ لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، أَيْ مُتَشَابِهُونَ فِي الْأَمْرِ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَعْرُوفِ. وَقَبْضُ أَيْدِيهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ [تَرْكِ] الْجِهَادِ، وَفِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقٍّ. وَالنِّسْيَانُ: الترك هنا، أي تركوا ما أمر هم اللَّهُ بِهِ فَتَرَكَهُمْ فِي الشَّكِّ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ تَرَكُوا أَمْرَهُ حَتَّى صَارَ كَالْمَنْسِيِّ فَصَيَّرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ المنسي من ثوابه. وقال قتادة:" فَنَسِيَهُمْ" أَيْ مِنَ الْخَيْرِ، فَأَمَّا مِنَ الشَّرِّ فَلَمْ يَنْسَهُمْ. وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ وَالدِّينِ. وَقَدْ تقدم «٢».
(٢). راجع ج ١ ص ٢٤٤.
[سورة التوبة (٩): آية ٦٨]
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ) يُقَالُ: وَعَدَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَعْدًا. وَوَعَدَ بِالشَّرِّ وعيدا" خالِدِينَ" نصب على الحال والعامل محذوف، أَيْ يَصْلَوْنَهَا خَالِدِينَ. (هِيَ حَسْبُهُمْ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ هِيَ كِفَايَةٌ وَوَفَاءٌ لِجَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ. وَاللَّعْنُ: الْبُعْدُ، أَيْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي واصب دائم.
[سورة التوبة (٩): آية ٦٩]
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ" قَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ وَعَدَ اللَّهُ الْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ وَعْدًا كَمَا وَعَدَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَعَلْتُمْ كَأَفْعَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فِي الْأَمْرِ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَعْرُوفِ «٢»، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. وَقِيلَ: أَيْ أَنْتُمْ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَالْكَافُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ لِأَنَّهُ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ. وَلَمْ يَنْصَرِفْ" أَشَدَّ" لِأَنَّهُ أَفْعَلُ صِفَةٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَشْدَدُ، أَيْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً فَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُمْ ولا أمكنهم رفع عذاب الله عَزَّ وَجَلَّ. الثَّانِيَةُ- رَوَى سَعِيدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (تَأْخُذُونَ كَمَا أَخَذَتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ ذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَشِبْرًا بِشِبْرٍ وَبَاعًا بِبَاعٍ حَتَّى لَوْ أن أحدا من أولئك دخل
(٢). في ب وج: فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
(٢). النجيع: الدم. وقيل دم الجوف خاصة.
(٣). المجدح: خشبة في رأسها خشبتان معترضتان. [..... ]
(٤). من ج وك هـ.
(٥). راجع ج ٣ ص ٤٦.
(٦). راجع ج ١ ص ٢٤٨.
الأولى - قوله تعالى :" كالذين من قبلكم " قال الزجاج : الكاف في موضع نصب، أي وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم. وقيل : المعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف١، فحذف المضاف. وقيل : أي أنتم كالذين من قبلكم، فالكاف في محل رفع لأنه خبر ابتداء محذوف. ولم ينصرف " أشد " لأنه أفعل صفة. والأصل فيه أشدد، أي كانوا أشد منكم قوة فلم يتهيأ لهم ولا أمكنهم رفع عذاب الله عز وجل.
الثانية - روى سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( تأخذون كما أخذت الأمم قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه ). قال أبو هريرة : وإن شئتم فاقرؤوا القرآن :" كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم " قال أبو هريرة : والخلاق، الدين " فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم " حتى فرغ من الآية. قالوا : يا نبي الله، فما صنعت اليهود والنصارى ؟ قال :( وما الناس إلا هم ). وفي الصحيح عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) قالوا : يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال :( فمن ) ؟ وقال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم. ونحوه عن ابن مسعود.
الثالثة - قوله تعالى :" فاستمتعوا بخلاقهم " أي انتفعوا بنصيبهم من الدين كما فعل الذين من قبلهم. " وخضتم " خروج من الغيبة إلى الخطاب. " كالذي خاضوا " أي كخوضهم. فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، أي وخضتم خوضا كالذين خاضوا. و " الذي " اسم ناقص مثل من، يعبر به عن الواحد والجمع. وقد مضى في " البقرة٢ " ويقال : خضت الماء أخوضه خوضا وخياضا. والموضع مخاضة، وهو ما جاز الناس فيها مشاة وركبانا. وجمعها المخاض والمخاوض أيضا، عن أبي زيد. وأخضت دابتي في الماء. وأخاض القوم، أي خاضت خيلهم. وخضت الغمرات : اقتحمتها. ويقال : خاضه بالسيف، أي حرك سيفه في المضروب. وخوض في نجيعه٣ شدد للمبالغة. والمخوض للشراب كالمجدع٤ للسويق، يقال منه : خضت، الشراب. وخاض القوم في الحديث وتخاوضوا أي تفاوضوا فيه، فالمعنى : خضتم في أسباب الدنيا باللهو واللعب. وقيل : في أمر محمد صلى الله عليه وسلم٥ بالتكذيب. " أولئك حبطت " بطلت. وقد تقدم٦. " أعمالهم " حسناتهم. " وأولئك هم الخاسرون " وقد تقدم٧ أيضا.
٢ راجع ج ١ ص ٢١٢..
٣ النجيع: الدم. وقيل دم الجوف خاصة..
٤ المجدع: خشبة في رأسها خشبتان معترضتان..
٥ من ج و ك و هـ..
٦ راجع ج ٣ ص ٤٦..
٧ راجع ج ١ ص ٢٤٨..
[سورة التوبة (٩): آية ٧٠]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ) أَيْ خَبَرُ (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). والألف لِمَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالتَّحْذِيرِ، أَيْ أَلَمْ يَسْمَعُوا إِهْلَاكَنَا الْكُفَّارَ مِنْ قَبْلُ. (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ. (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) أَيْ نُمْرُودِ بْنِ كَنْعَانَ وَقَوْمِهِ. (وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) [مَدْيَنُ «١»] اسْمٌ لِلْبَلَدِ الَّذِي كَانَ فِيهِ شُعَيْبٌ، أُهْلِكُوا بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ. (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قِيلَ: يُرَادُ بِهِ قَوْمُ لُوطٍ، لِأَنَّ أَرْضَهُمُ ائْتَفَكَتْ بِهِمْ، أَيِ انْقَلَبَتْ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: الْمُؤْتَفِكَاتُ كُلُّ مَنْ أُهْلِكَ، كَمَا يُقَالُ: انْقَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا. (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) يَعْنِي جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: أَتَتْ أَصْحَابَ الْمُؤْتَفِكَاتِ رُسُلُهُمْ، فَعَلَى هَذَا رَسُولُهُمْ لُوطٌ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّهُ بَعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ رَسُولًا، وَكَانَتْ ثَلَاثَ قَرْيَاتٍ، وَقِيلَ أَرْبَعٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي موضع آخر:" والمؤتفكة" «٢» [النجم: ٥٣] عَلَى طَرِيقِ الْجِنْسِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالرُّسُلِ الْوَاحِدَ، كَقَوْلِهِ" يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ" «٣» [المؤمنون: ٥١] وَلَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِ غَيْرُهُ. قُلْتُ- وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «٤». وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الرُّسُلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [قَوْلُهُ تَعَالَى: [«٥» (فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أَيْ لِيُهْلِكَهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءَ. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بَعْدَ قِيَامِ الحجة عليهم.
[سورة التوبة (٩): آية ٧١]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١)
(٢). راجع ج ١٧ ص ١١٨ فما بعد في آية ٥٣ سورة النجم.
(٣). راجع ج ١٢ ص ١٢٧ آية ٥١ سورة المؤمنون.
(٤). راجع ج ٢ ص ٢١٥ وج ١٢ ص ١٢٧.
(٥). من ب وج وك وهـ.
الأولى - قوله تعالى :" بعضهم أولياء بعض " أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف. وقال في المنافقين " بعضهم من بعض " لأن قلوبهم مختلفة، ولكن يقسم بعضهم إلى بعض في الحكم.
الثانية - قوله تعالى :" يأمرون بالمعروف " أي بعبادة الله تعالى وتوحيده، وكل ما أتبع ذلك. " وينهون عن المنكر " عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك. وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال : كل ما ذكر الله١ في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين. وقد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة " المائدة٢ " و " آل عمران٣ " والحمد لله.
الثالثة - قوله تعالى :" ويقيمون الصلاة " تقدم في أول " البقرة " القول فيه٤. وقال ابن عباس : هي الصلوات الخمس، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة. ابن عطية : والمدح عندي بالنوافل أبلغ ؛ إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض.
الرابعة - قوله تعالى :" ويطيعون الله " في الفرائض " ورسوله " فيما سن لهم. والسين في قوله :" سيرحمهم الله " مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه وفضله تعالى زعيم بالإنجاز.
٢ راجع ج ٦ ص ٢٤٢ وما بعدها..
٣ راجع ج ٤ ص ٤٧..
٤ راجع ج ١ ص ١٦٤.
[سورة التوبة (٩): آية ٧٢]
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
(٢). راجع ج ٦ ص ٢٤٢ وما بعدها.
(٣). راجع ج ٤ ص ٤٧.
(٤). راجع ج ١ ص ١٦٤.
[سورة التوبة (٩): آية ٧٣]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَدْخُلُ فِيهِ أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ. قِيلَ: الْمُرَادُ جَاهِدْ بِالْمُؤْمِنِينَ الْكُفَّارَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُمِرَ بِالْجِهَادِ مَعَ الْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ، وَمَعَ الْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ وَشِدَّةِ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاهِدِ الْمُنَافِقِينَ بِيَدِكَ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِكَ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاكْفَهِرَّ «٢» فِي وُجُوهِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: جَاهِدِ الْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ وَبِاللِّسَانِ- وَاخْتَارَهُ قَتَادَةُ- وَكَانُوا أَكْثَرَ مَنْ يُصِيبُ الْحُدُودَ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا إِقَامَةُ الْحُجَّةِ بِاللِّسَانِ فَكَانَتْ دَائِمَةً وَأَمَّا بِالْحُدُودِ لِأَنَّ أَكْثَرَ إِصَابَةِ الْحُدُودِ كَانَتْ عِنْدَهُمْ فَدَعْوَى لَا بُرْهَانَ
(٢). اكفهر الرجل: إذا عبس. [..... ]
[سورة التوبة (٩): آية ٧٤]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٤٨.
(٣). روى البخاري ومسلم هذا الحديث في" باب مناقب عمر رضى الله عنه" قالا: استأذن عمر بن الخطاب عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده نسوة من قريش بكلمته يستكثرنه عالية أصواتهم على صوته فلما استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب فأذن لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل عمر ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحك فقال عمر: أضحك الله سنك يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" فقال عمر: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله. ثم قال عمر: يا عدوات أنفسهم أتهبنني ولا تهبن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فقلن: نعم! أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك".
(٤). راجع ج ١٣ ص ١٣٤.
(٥). راجع ج ١٠ ص ٢٣٦.
أَيْ بَعْدَ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِمْ. فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كُفَّارٌ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا" «١» [المنافقون: ٣] دَلِيلٌ قَاطِعٌ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يَكُونُ بِكُلِّ مَا يُنَاقِضُ التَّصْدِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ والافعال إلا في الصلاة. قال إسحاق ابن راهويه: ولقد أجمعوا في الصلاة على شي لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ، لِأَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ قَالُوا: مَنْ عُرِفَ بِالْكُفْرِ ثُمَّ رَأَوْهُ يُصَلِّي الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا حَتَّى صَلَّى صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً. وَلَمْ يَعْلَمُوا مِنْهُ إِقْرَارًا بِاللِّسَانِ أَنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ، وَلَمْ يَحْكُمُوا لَهُ فِي الصوم والزكاة بمثل دلك. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عَدَّهُمْ كُلَّهُمْ. فَقُلْتُ: أَلَا تَبْعَثُ إِلَيْهِمْ فَتَقْتُلُهُمْ؟ فَقَالَ: (أَكْرَهُ أَنْ تَقُولَ الْعَرَبُ لَمَّا ظَفِرَ بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم لله بِالدُّبَيْلَةِ). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الدُّبَيْلَةُ؟ قَالَ: (شِهَابٌ مِنْ جَهَنَّمَ يَجْعَلُهُ عَلَى نِيَاطِ فُؤَادِ أَحَدِهِمْ حَتَّى تَزْهَقَ نَفْسُهُ). فَكَانَ كَذَلِكَ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَقِيلَ هَمُّوا بِعَقْدِ التَّاجِ عَلَى رَأْسِ ابْنِ أُبَيٍّ لِيَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي هَذَا. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) أَيْ لَيْسَ يَنْقِمُونَ شَيْئًا، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
مَا نَقِمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا | أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا |
يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ | لِيَوْمِ الْحِسَابِ أو يعجل فينقم |
(٢). من ب وج وك.
[سورة التوبة (٩): الآيات ٧٥ الى ٧٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
(٢). كذا في ب وج وع وك وفي ا: زيد كلاهما روى عن القاسم.
(٣). في ع: ما هذه إلا جزية- ما هذه إلا أخت الجزية. وفي ج: أخية الجزية.
(٤). في ج وع: مجلسين.
(٢). في ع: يبكيان- تبكيان- يبكيان.
(٣). في ع: يبكيان- تبكيان- يبكيان.
(٤). من ع.
[سورة التوبة (٩): آية ٧٩]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
(٢). الصحيح أنهم ليسوا أنبياء لان عملهم مناف للعصمة.
[سورة التوبة (٩): آية ٨٠]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)
(٢). معناه: نحمل الحمل على ظهورنا بالأجرة وتتصدق من تلك الأجرة أو تتصدق بها كلها.
(٣). راجع ج ٧ ص ٦٢.
(٤). راجع ج ٣ ص ٢٩.
[سورة التوبة (٩): آية ٨١]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ) أَيْ بِقُعُودِهِمْ. قَعَدَ قُعُودًا وَمَقْعَدًا، أَيْ جَلَسَ. وَأَقْعَدَهُ غَيْرُهُ، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ. وَالْمُخَلَّفُ الْمَتْرُوكُ، أَيْ خَلَّفَهُمُ اللَّهُ وَثَبَّطَهُمْ، أَوْ خَلَّفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ لَمَّا عَلِمُوا تَثَاقُلَهُمْ عَنِ الْجِهَادِ، قَوْلَانِ، وَكَانَ هَذَا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. (خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ) مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ مَصْدَرًا. وَالْخِلَافُ الْمُخَالَفَةُ. وَمَنْ قَرَأَ" خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ" أَرَادَ التَّأَخُّرَ عَنِ الْجِهَادِ. (وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ذَلِكَ. (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ) أي قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ نَارُ جَهَنَّمَ. (أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ." حَرًّا" نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ، أَيْ مَنْ تَرَكَ أَمْرَ الله تعرض لتلك النار.
[سورة التوبة (٩): آية ٨٢]
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا" أَمْرٌ، مَعْنَاهُ مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَلَيْسَ أَمْرًا بِالضَّحِكِ. وَالْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ مَكْسُورَةً فَحُذِفَتِ الْكَسْرَةُ لِثِقَلِهَا. قَالَ الْحَسَنُ:" فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا" فِي الدُّنْيَا" وَلْيَبْكُوا كَثِيراً" فِي جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ. أَيْ إِنَّهُمْ سَيَضْحَكُونَ قَلِيلًا وَيَبْكُونَ كَثِيرًا." جَزاءً" مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ للجزاء.
الأولى - قوله تعالى :" فليضحكوا قليلا " أمر، معناه معنى التهديد وليس أمرا والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها. قال الحسن :" فليضحكوا قليلا " في الدنيا " وليبكوا كثيرا " في جهنم. وقيل : هو أمر بمعنى الخبر. أي إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا. " جزاء " مفعول من أجله، أي للجزاء.
الثانية - من الناس من كان لا يضحك اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف، وإن كان عبدا صالحا. قال صلى الله عليه وسلم :( والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات١ تجأرون إلى الله تعالى لوددت٢ أني كنت شجرة تعضد ) خرجه الترمذي. وكان الحسن البصري رضي الله عنه ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك. وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول : الله أضحك وأبكى. وكان الصحابة يضحكون، إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة. وفي الخبر :( أن كثرته تميت القلب ) وأما البكاء من خوف الله وعذابه٣ وشدة عقابه فمحمود، قال عليه السلام :( ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت ) خرجه ابن المبارك من حديث أنس وابن ماجة أيضا.
٢ قال الترمذي: ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قال: لوددت أني كنت شجرة تعضد..
٣ من ج و ع و ك و هـ..
[سورة التوبة (٩): آية ٨٣]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) أَيِ الْمُنَافِقِينَ. وَإِنَّمَا قَالَ:" إِلى طائِفَةٍ" لِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ مَا كَانُوا مُنَافِقِينَ بَلْ كَانَ فِيهِمْ مَعْذُورُونَ وَمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، ثُمَّ عفا عنهم وَتَابَ عَلَيْهِمْ، كَالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. وَسَيَأْتِي. (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) أَيْ عَاقِبْهُمْ بِأَلَّا تَصْحَبَهُمْ أَبَدًا. وَهُوَ كَمَا قَالَ في" سورة الفتح":" قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا" «٤» [الفتح: ١٥]. وَ" الْخَالِفِينَ" جَمْعُ خَالِفٍ، كَأَنَّهُمْ خَلَفُوا الْخَارِجِينَ. قال ابن عباس:
(٢). قال الترمذي: وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ: لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ.
(٣). من ج وع وك وهـ.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٢٧٠ فما بعد. [..... ]
[سورة التوبة (٩): آية ٨٤]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةِ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عبد الله بن أبي سَلُولٍ وَصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ. ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَتَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَقَدَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَجَبَذَ ثَوْبَهُ وَتَلَا عَلَيْهِ" وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً" الْآيَةَ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. وَالرِّوَايَاتُ الثَّابِتَةُ عَلَى خِلَافِ هَذَا، فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَتَانِ مِنْ [بَرَاءَةٌ] " وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً" وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ وَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ:" اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً" [التوبة: ٨٠] وسأزيد على
(٢). راجع ص ٢٧٢ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٢٨.
(٢). راجع ج ١٩ ص ٢٥٧.
(٣). في ع: فصلينا.
[سورة التوبة (٩): آية ٨٥]
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)
كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فيه.
[سورة التوبة (٩): آية ٨٦]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦)
انْتَدَبَ «١» الْمُؤْمِنُونَ إِلَى الْإِجَابَةِ وَتَعَلَّلَ الْمُنَافِقُونَ. فَالْأَمْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِدَامَةِ الْإِيمَانِ وَلِلْمُنَافِقِينَ بِابْتِدَاءِ الْإِيمَانِ. وَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ بِأَنْ آمِنُوا. وَ" الطَّوْلِ" الْغِنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَنْ لَا طَوْلَ لَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ." (وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) " أي العاجزين عن الخروج.
[سورة التوبة (٩): الآيات ٨٧ الى ٨٩]
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) "" الْخَوالِفِ" جَمْعُ خَالِفَةٍ، أَيْ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ مِنَ الرِّجَالِ. وَقَدْ يُقَالُ لِلرَّجُلِ: خَالِفَةٌ وَخَالِفٌ أَيْضًا إِذَا كَانَ غَيْرَ نَجِيبٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. يُقَالُ: فُلَانٌ خَالِفَةُ أَهْلِهِ إِذَا كَانَ دُونَهُمْ. قَالَ النحاس:
(٢). راجع ج ٥ ص ١٣٦.
[سورة التوبة (٩): آية ٩٠]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ" قَرَأَ الْأَعْرَجُ وَالضَّحَّاكُ" الْمُعْذَرُونَ" مُخَفَّفًا. وَرَوَاهَا أَبُو كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوَاهَا أَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ" وَجَاءَ الْمُعْذَرُونَ" مُخَفَّفَةً، مِنْ أَعْذَرَ. وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَهَكَذَا أُنْزِلَتْ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِلَّا أَنَّ مَدَارَهَا عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَهِيَ مِنْ أَعْذَرَ، وَمِنْهُ قَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، أَيْ قَدْ بَالَغَ فِي الْعُذْرِ مَنْ تَقَدَّمَ إِلَيْكَ فَأَنْذَرَكَ. وَأَمَّا" الْمُعَذِّرُونَ" بِالتَّشْدِيدِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَكُونُ الْمُحِقَّ، فَهُوَ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَذِرِ، لِأَنَّ لَهُ عُذْرًا. فَيَكُونُ" الْمُعَذِّرُونَ" عَلَى هَذِهِ أَصْلُهُ الْمُعْتَذِرُونَ، وَلَكِنَّ التَّاءَ قُلِبَتْ ذَالًا فَأُدْغِمَتْ فِيهَا وَجُعِلَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى العين، كما قرئ" يخصمون" «٤» [يس: ٤٩] بِفَتْحِ الْخَاءِ. وَيَجُوزُ" الْمُعِذِّرُونَ" بِكَسْرِ الْعَيْنِ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ. وَيَجُوزُ ضَمُّهَا اتِّبَاعًا لِلْمِيمِ. ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَالنَّحَّاسُ. إِلَّا أَنَّ النَّحَّاسَ حَكَاهُ عَنِ الْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ وَأَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْمُعْتَذِرُونَ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ، وَيَكُونُونَ الَّذِينَ لَهُمْ عُذْرٌ. قَالَ لَبِيَدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا | وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ |
(٢). راجع ج ١ ص ١٨٢، ٣٩ ٢.
(٣). راجع ج ١ ص ١٨٢، ٣٩ ٢.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٣٦ فما بعد.
[سورة التوبة (٩): الآيات ٩١ الى ٩٢]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢)
(٢). راجع ج ١٢ ص ٣١١ فما بعد.
(٣). في هـ وك وى: بعدكم.
(٤). راجع ج ٤ ص ٢٢١.
(٥). يقال: حفر الطريق إذا أثر فيها بمشيه عليها.
(٦). أي يمشى بينهما معتمدا عليهما من ضعفه وتمايله.
(٢). الذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشر وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها والكثير أذواد.
(٢). في ج وك: منسوق.
(٣). السلق: شدة الصوت.
(٤). راجع ج ٩ ص ١٤٤.
إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ | تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى |
[سورة التوبة (٩): آية ٩٣]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٩٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أَيِ الْعُقُوبَةُ وَالْمَأْثَمُ. (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) وَالْمُرَادُ الْمُنَافِقُونَ. كَرَّرَ ذِكْرَهُمْ للتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم.
[سورة التوبة (٩): آية ٩٤]
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ. (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أَيْ لَنْ نُصَدِّقَكُمْ. (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أَيْ أَخْبَرَنَا بسرائركم. (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) فيا تَسْتَأْنِفُونَ. (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أَيْ يُجَازِيكُمْ بِعَمَلِكُمْ. وقد مضى هذا كله مستوفي.
[سورة التوبة (٩): آية ٩٥]
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) أَيْ مِنْ تَبُوكَ. وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا عَلَى الْخُرُوجِ. (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أَيْ لتصفحوا عن
[سورة التوبة (٩): آية ٩٦]
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
حَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَلَّا يَتَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك وطلب أن يرضي عنه.
[سورة التوبة (٩): آية ٩٧]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) فيه مسألتان: الاولى- لما ذكر عز وجل أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ بِالْمَدِينَةِ ذَكَرَ مَنْ كَانَ خَارِجًا منها ونائيا عنها من الاعراب، فقال كفر هم أَشَدُّ. قَالَ قَتَادَةُ: لِأَنَّهُمْ أَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ السُّنَنِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ أَقْسَى قَلْبًا وَأَجْفَى قَوْلًا وَأَغْلَظُ طَبْعًا وَأَبْعَدُ عَنْ سَمَاعِ التَّنْزِيلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: (وَأَجْدَرُ) أَيْ أَخْلَقُ. (أَلَّا يَعْلَمُوا) " أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِحَذْفِ الْبَاءِ، تَقُولُ: أَنْتَ جَدِيرٌ بِأَنْ تَفْعَلَ وَأَنْ تَفْعَلَ، فَإِذَا حَذَفْتَ الْبَاءَ لَمْ يَصْلُحْ إِلَّا بِ"- أَنْ" وَإِنْ أَتَيْتَ بِالْبَاءِ صَلُحَ بِ"- أَنْ" وَغَيْرِهِ، تَقُولُ: أَنْتَ جَدِيرٌ أَنْ تقوم، وجدير بالقيام. ولو قلت:
(٢). راجع ج ٥ ص ٤١٠ فما بعد.
وَمَكْنُ الضِّبَابِ طَعَامُ الْعُرَيْبِ | وَلَا تَشْتَهِيهِ نُفُوسُ الْعَجَمِ «١» |
(٢). الجذيل تصغير الجذل وهو أصل الشجرة. والمحكك: الذي تتحكك به الإبل الجربي وهو عود يتصب في مبارك الإبل لذلك. والعذيق: تصغير العذق وهو النخلة. والمرجب: الذي جعل له رجبة وهي دعامة تبنى حولها من الحجارة. وهو من قول الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري يوم السقيفة عند بيعة أبي بكر رضى الله عنه يريد أنه قد جربته الأمور وله رأى وعلم يشتفى بهما كما تشفى الإبل الجربي باحتكاكها بالجذل.
الأولى - لما ذكر جل وعز أحوال المنافقين بالمدينة ذكر من كان خارجا منها ونائيا من الأعراب، فقال كفرهم أشد. قال قتادة : لأنهم أبعد عن معرفة السنن. وقيل : لأنهم أقسى قلبا وأجفى قولا وأغلظ طبعا وأبعد عن سماع التنزيل ؛ ولذلك قال الله تعالى في حقهم :" وأجدر " أي أخلق. " ألا يعلموا " " أن " في موضع نصب بحذف الباء، تقول : أنت جدير بأن تفعل وأن تفعل ؛ فإذا حذفت الباء لم يصلح إلا ب " أن " وإن أتيت بالباء صلح ب " أن " وغيره، تقول : أنت جدير أن تقوم، وجدير بالقيام. ولو قلت : أنت جدير القيام كان خطأ. وإنما صلح مع " أن " لأن أن يدل على الاستقبال فكأنها عوض من المحذوف. " حدود ما أنزل الله " أي فرائض الشرع. وقيل : حجج الله في الربوبية وبعثة الرسل لقلة نظرهم.
الثانية - ولما كان ذلك ودل على نقصهم وحطهم عن المرتبة الكاملة عن سواهم ترتبت على ذلك أحكام ثلاثة :
أولها : لا حق لهم في الفيء والغنيمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث بريدة، وفيه :( ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ).
وثانيها : إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة ؛ لما في ذلك من تحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة قال : لأنها لا تراعي كل تهمة، والمسلمون كلهم عنده على العدالة. وأجازها الشافعي إذا كان عدلا مرضيا ؛ وهو الصحيح لما بيناه في " البقرة١ ". وقد وصف الله تعالى الأعراب هنا أوصافا ثلاثة : أحدها : بالكفر والنفاق. والثاني : بأنه يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر. والثالث : بالإيمان بالله وباليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول، فمن كانت هذه صفته فبعيد ألا تقبل شهادته فيلحق بالثاني والأول، وذلك باطل. وقد مضى الكلام في هذا في " النساء٢ ". وثالثها : أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم الجمعة. وكره أبو مجلز إمامة الأعرابي. وقال مالك : لا يؤم وإن كان أقرأهم. وقال سفيان الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي : الصلاة خلف الأعرابي جائزة. واختاره ابن المنذر إذا أقام حدود الصلاة.
قوله تعالى :" أشد " أصله أشدد، وقد تقدم. " كفرا " نصب على البيان. " ونفاقا " عطف عليه. " وأجدر " عطف على أشد، ومعناه أخلق، يقال : فلان جدير بكذا أي خليق به، وأنت جدير أن تفعل كذا، والجمع جدراء وجديرون. وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء. فقوله : هو أجدر بكذا أي أقرب إليه وأحق به. " ألا يعلموا " أي بألا يعلموا. والعرب : جيل من الناس، والنسبة إليهم عربي بين العروبة، وهم أهل الأمصار. والأعراب منهم سكان البادية خاصة. وجاء في الشعر الفصيح أعاريب. والنسبة إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له، وليس الأعراب جمعا للعرب كما كان الأنباط جمعا لنبط، وإنما العرب اسم جنس. والعرب العاربة هم الخلص منهم، وأخذ من لفظه وأكد به، كقولك : ليل لائل. وربما قالوا : العرب العرباء. وتعرب أي تشبه بالعرب. وتعرب بعد هجرته أي صار أعرابيا. والعرب المستعربة هم الذين ليسوا بخلص، وكذلك المتعربة، والعربية هي هذه اللغة. ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية، وهو أبو اليمن كلهم. والعُرب والعَرب واحد، مثل العجم والعجم. والعريب تصغير العرب ؛ قال الشاعر :
ومَكْن الضِّبابِ طعام العريب*** ولا تشتهيه نفوس العجم٣
إنما صغرهم تعظيما، كما قال : أنا جذيلها المُحَكَّك، وعُذَيْقُهَا المُرَجَّب٤ كله عن الجوهري. وحكى القشيري وجمع العربي العرب، وجمع الأعرابي أعراب وأعاريب. والأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب. والمهاجرون والأنصار عرب لا أعراب. وسميت العرب عربا ؛ لأن ولد إسماعيل نشؤوا من عربة وهي من تهامة فنسبوا إليها. وأقامت قريش بعربة وهي مكة، وانتشر سائر العرب في جزيرتها.
٢ راجع ج ٥ ص ٤١٠ فما بعد..
٣ البيت لعبد المؤمن بن عبد القدوس. والمكن: بيض والجرادة ونحوها..
٤ الجذيل تصغير الجذل، وهو أصل الشجرة. والمحكك: الذي تتحكك به الإبل الجربي، وهو عود ينصب في مبارك الإبل لذلك والعذيق: تصغير العذق، وهو النخلة. والمرجب: الذي جعل له رجبة، وهي دعامة تبنى حولها من الحجارة. وهو من قول الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري يوم السقيفة عند بيعة أبي بكر رضي الله عنه يريد أنه قد جربته الأمور، وله رأي وعلم يشتفي بهما كما تشفى الإبل الجربي باحتكاكها بالجذل..
[سورة التوبة (٩): آية ٩٨]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ) " مِنَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ." مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً" مَفْعُولَانِ، وَالتَّقْدِيرُ يُنْفِقُهُ، فَحُذِفَتِ الْهَاءُ لِطُولِ الِاسْمِ." مَغْرَماً" مَعْنَاهُ غُرْمًا وَخُسْرَانًا وَأَصْلُهُ لُزُومُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ:" إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً" [الفرقان: ٦٥] «١» أَيْ لَازِمًا، أَيْ يَرَوْنَ مَا يُنْفِقُونَهُ فِي جِهَادٍ وَصَدَقَةٍ غُرْمًا وَلَا يَرْجُونَ عَلَيْهِ ثَوَابًا. (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) التَّرَبُّصُ الِانْتِظَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». وَالدَّوَائِرُ جَمْعُ دَائِرَةٍ، وَهِيَ الْحَالَةُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنِ النِّعْمَةِ إِلَى الْبَلِيَّةِ، أَيْ يَجْمَعُونَ إِلَى الْجَهْلِ بِالْإِنْفَاقِ سُوءَ الدَّخَلَةِ وَخُبْثَ الْقَلْبِ. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ السِّينِ هُنَا وَفِي الْفَتْحِ، وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى فَتْحِ السِّينِ فِي قَوْلِهِ:" مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ" «٣» [مريم: ٢٨]. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السُّوءَ بِالضَّمِّ الْمَكْرُوهُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ الْهَزِيمَةِ وَالشَّرِّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ. قَالَا: وَلَا يَجُوزُ امْرَأَ سُوءٍ بِالضَّمِّ، كَمَا لَا يُقَالُ: هُوَ امْرُؤُ عَذَابٍ وَلَا شَرٍّ. وَحُكِيَ عن محمد ابن يَزِيدَ قَالَ: السَّوْءُ بِالْفَتْحِ الرَّدَاءَةُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَرَرْتُ بِرَجُلِ صِدْقٍ، وَمَعْنَاهُ بِرَجُلِ صَلَاحٍ. وَلَيْسَ مِنْ صِدْقِ اللِّسَانِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ صِدْقِ اللِّسَانِ لَمَا قُلْتُ: مَرَرْتُ بِثَوْبِ صِدْقٍ. وَمَرَرْتُ بِرَجُلِ سَوْءٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ سُؤْتِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَرَرْتُ بِرَجُلِ فَسَادٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: السَّوْءُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ سُؤْتُهُ سَوْءًا وَمَسَاءَةً وَسُوَائِيَّةً. قَالَ غَيْرُهُ: وَالْفِعْلُ مِنْهُ سَاءَ يَسُوءُ. وَالسُّوءُ بِالضَّمِّ اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ البلاء والمكروه.
[سورة التوبة (٩): آية ٩٩]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
(٢). راجع ج ٣ ص ١٠٨.
(٣). راجع ج ١١ ص ٩٩.
[سورة التوبة (٩): آية ١٠٠]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الاولى- لما ذكر عز وجل أَصْنَافَ الْأَعْرَابِ ذَكَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمُ السَّابِقِينَ إِلَى الْهِجْرَةِ وَأَنَّ مِنْهُمُ التَّابِعِينَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَدَدِ طَبَقَاتِهِمْ وَأَصْنَافِهِمْ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا نُبَيِّنُ الْغَرَضَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى عمر ابن الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَرَأَ" وَالْأَنْصارِ" رَفْعًا عَطْفًا عَلَى السابقين. قال الأخفش: الخفض
إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ | فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا |
خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا | بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا |
الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ | وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا |
(٢). من ب وج وك وى.
(٣). في ب وج وى: مشيختنا.
(٢). كذا في ى. وفي ب وج وك وا وهـ: والخلاف. ولا يبدو له معنى. [..... ]
(٣). من ع.
(٤). راجع ج ١٨ ص ٩٢ وص ٣١.
(٥). راجع ج ١٨ ص ٩٢ وص ٣١.
(٦). راجع ج ٨ ص ٥٦.
فَخُذْهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ «١» عُرْوَةُ قَاسِمٌ | سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ «٢» سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ |
(٢). هو أبو بكر بن عبد الرحمن. كما في ج.
(٣). أم الدرداء الصغرى الدمشقية.
(٤). في التقريب: (السميط بفتح المهملة، ويقال بالضم).
[سورة التوبة (٩): آية ١٠١]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)
قَوْلُهُ تَعَالَى (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. أَيْ قَوْمٌ مُنَافِقُونَ، يَعْنِي مزينة وجهينة وأسلم وغفار وَأَشْجَعَ. (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أَيْ قَوْمٌ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ. وَقِيلَ:" مَرَدُوا" مِنْ نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، الْمَعْنَى. وَمِنْ حَوْلِكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَمَعْنَى:" مَرَدُوا" أَقَامُوا وَلَمْ يَتُوبُوا، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَجُّوا فِيهِ وَأَبَوْا غيره،
(٢). راجع ج ٤ ص ١٧٠.
(٣). راجع ج ٢ ص ١٥٢.
(٤). رواية أحمد: (وددت أني لقيت إخواني.. ) ويروى: (رأيت.. ).
(٥). في ع: بجاه.
[سورة التوبة (٩): آية ١٠٢]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)
أَيْ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ قَوْمٌ أَقَرُّوا بِذُنُوبِهِمْ، وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ يَحْكُمُ فِيهِمْ بِمَا يُرِيدُ. فَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ وَمَا مَرَدُوا على النفاق، ويحتمل
(٢). الثنة: مؤخر الرسغ وهي شعرات مدلاة مشرفات من خلف.
(٣). راجع ج ١٣ ص
(٤). من باب نصر وكرم.
(٥). راجع ص ٣٥ وص ١٦٤ من هذا الجزء.
(٦). راجع ص ٣٥ وص ١٦٤ من هذا الجزء.
فَقَالَ هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ هُوَ أَوَّلُ رَجُلٌ شَمَطَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهَؤُلَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ قَوْمٌ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ- قَالَ- وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ في ألوانهم شي خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَتَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَأَمَّا النَّهَرُ الْأَوَّلُ فَرَحْمَةُ اللَّهِ وأما النهر الثاني فنعمة الله.
[سورة التوبة (٩): آية ١٠٣]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، فَقِيلَ: هِيَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ، قَالَهُ جُوَيْبِرٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ فِيمَا ذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْهُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شي، وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ: إِذَا تَصَدَّقَ الرَّجُلُ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَجْزَأَهُ إِخْرَاجُ الثُّلُثِ، مُتَمَسِّكًا بِحَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَهُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِ فَلَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ سِوَاهُ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا سُقُوطُهَا بِسُقُوطِهِ وَزَوَالُهَا بِمَوْتِهِ. وَبِهَذَا تَعَلَّقَ مَانِعُو الزَّكَاةِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «٢»] وَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ يُعْطِينَا عِوَضًا مِنْهَا التَّطْهِيرَ وَالتَّزْكِيَةَ وَالصَّلَاةَ عَلَيْنَا وَقَدْ عَدِمْنَاهَا مِنْ غَيْرِهِ. وَنَظَمَ فِي ذَلِكَ شَاعِرُهُمْ فَقَالَ:
أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ بَيْنَنَا | فَيَا عَجَبًا مَا بَالُ مُلْكِ أَبِي بَكْرِ |
وَإِنَّ الَّذِي سَأَلُوكُمْ فَمَنَعْتُمُ | لَكَالتَّمْرِ أَوْ أَحْلَى لَدَيْهِمْ مِنَ التَّمْرِ |
سَنَمْنَعُهُمْ مَا دَامَ فِينَا بَقِيَّةٌ | كِرَامٌ عَلَى الضَّرَّاءِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ |
(٢). من ج وك وهـ.
وَاللَّهِ مَا بَلَغَتْ لِي قَطُّ مَاشِيَةٌ | حَدَّ الزَّكَاةِ وَلَا إِبِلٌ وَلَا مَالُ |
(٢). راجع ج ٢ ص ٢٧٢.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٠٢ فما بعد.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٣٠٢ فما بعد.
(٥). راجع ج ١٠ ص ١٧٤ فما بعد.
(٦). راجع ج ٥ ص ٣٦٣ فما بعد. [..... ]
(٧). من هـ.
(٨). راجع ج ١٤ ص.
(٩). راجع ج ١٨ ص ١٤٧.
(١٠). من ج وهـ.
(٢). تأثل مالا: اكتسبه واتخذه وثمره.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٧٣ - وص ١٣٥ فما بعد.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٧٣ - وص ١٣٥ فما بعد.
(٥). راجع ج ٧ ص ٩٨ وما بعدها.
(٦). راجع ج ٣ ص ٣٢١ وما بعدها.
(٢). زيادة عن صحيحي الدارقطني والترمذي.
(٣). المعافر: برود باليمن منسوبة إلى معافر وهي قبيلة باليمن. [..... ]
(٤). راجع ج ١٥ ص ١٦٥.
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ
وَقَرَأَ الْحَسَنُ تُطْهِرُهُمْ" بِسُكُونِ الطَّاءِ" وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالْهَمْزَةِ مِنْ طَهَرَ وَأَطْهَرْتُهُ، مِثْلَ ظَهَرَ وَأَظْهَرْتُهُ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أَصْلٌ فِي فِعْلِ كُلِّ إِمَامٍ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُتَصَدِّقِ بِالْبَرَكَةِ. رَوَى مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ) فَأَتَاهُ ابْنُ أَبِي أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى). ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى هَذَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً" [التوبة: ٨٤]. قَالُوا: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ خُصَّ بِذَلِكَ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً" «١» [النور: ٦٣] الْآيَةَ. وَبِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: لَا يُصَلَّى عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّ الْخِطَابَ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَأْتِي فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا. فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ برسول الله صلى الله
[سورة التوبة (٩): آية ١٠٤]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
فيه مسألتان: الاولى- قِيلَ: قَالَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مَعَنَا بِالْأَمْسِ، لَا يُكَلَّمُونَ وَلَا يُجَالَسُونَ، فَمَا لَهُمُ الْآنَ؟ وَمَا هَذِهِ الْخَاصَّةُ الَّتِي خُصُّوا بِهَا دُونَنَا، فَنَزَلَتْ:" أَلَمْ يَعْلَمُوا" فَالضَّمِيرُ فِي" يَعْلَمُوا" عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ. قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِينَ تَابُوا وَرَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" هُوَ" تَأْكِيدٌ لِانْفِرَادِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْأُمُورِ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَبُولُ رَسُولِهِ قَبُولًا مِنْهُ، فَبَيَّنَتِ «٢» الْآيَةُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ نبي ولا ملك.
(٢). في ب وهـ: فثبتت. وما أثبتناه من اوج وع وى.
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ | تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ |
(٢). من ج وهـ.
[سورة التوبة (٩): آية ١٠٥]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقُلِ اعْمَلُوا) خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ. (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) أَيْ بِإِطْلَاعِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ. وَفِي الْخَبَرِ: (لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ فِي صَخْرَةٍ لَا بَابَ لَهَا وَلَا كُوَّةَ لَخَرَجَ عَمَلُهُ إِلَى النَّاسِ كائنا ما كان).
[سورة التوبة (٩): آية ١٠٦]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
نَزَلَتْ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ مِنْ بَنِي وَاقِفٍ وَمُرَارَةَ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقِيلَ: ابْنِ رِبْعِيٍّ الْعُمَرِيِّ ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. كَانُوا قَدْ تَخَلَّفُوا عَنْ تَبُوكَ وَكَانُوا مياسر، على ما يأتي من ذكر هم. وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنْهُمْ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ، مِنْ أَرْجَأْتُهُ أَيْ أَخَّرْتُهُ. وَمِنْهُ قِيلَ: مُرْجِئَةٌ، لِأَنَّهُمْ أَخَّرُوا الْعَمَلَ. وقرا حمزة والكسائي" مُرْجَوْنَ" بغير همزة، فَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَرْجَيْتُهُ أَيْ أَخَّرْتُهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يُقَالُ أَرْجَيْتُهُ بِمَعْنَى أَخَّرْتُهُ، وَلَكِنْ يَكُونُ مِنَ الرَّجَاءِ." إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ"" إِمَّا" فِي الْعَرَبِيَّةِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَالِمٌ بِمَصِيرِ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنَّ الْمُخَاطَبَةَ للعباد على ما يعرفون، أي ليكن أمر هم عند كم عَلَى الرَّجَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعِبَادِ أَكْثَرُ مِنْ هذا.
[سورة التوبة (٩): آية ١٠٧]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧)
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٢٠.
(٢). من ع.
(٣). الموضع الذي مجثم؟ فيه وتبيض.
(٢). الانه ر: البيدر وهو الموضع الذي يداس فيه الطعام أي الحبوب. [..... ]
(٢). سمى غسيل الملائكة لأنه استشهد يوم أحد وغسلته الملائكة وذلك أنه كان قد ألم بأهله في حين خروجه إلى أحد ثم هجم عليه من الخروج في النفير ما أنساه الغسل وأعجله عنه فلما قتل شهيدا أَخْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الملائكة غسلته. (عن الاستيعاب).
الأولى - قوله تعالى :" والذين اتخذوا مسجدا " معطوف، أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا، عطف جملة على جملة. ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء والخبر محذوف كأنهم١ " يعذبون " أو نحوه. ومن قرأ " الذين " بغير واو وهي قراءة المدنيين فهي عنده رفع بالابتداء، والخبر " لا تقم " التقدير : الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا، أي لا تقم في مسجدهم، قاله الكسائي. وقال النحاس : يكون خبر الابتداء " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " [ التوبة : ١١٠ ]. وقيل : الخبر " يعذبون " كما تقدم. ونزلت الآية فيما روي في أبو عامر الراهب ؛ لأنه كان خرج إلى قيصر وتنصر ووعدهم قيصر أنه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضرار يرصدون مجيئه فيه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، وقد تقدمت قصته في الأعراف٢ وقال أهل التفسير : إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجدا ونبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا فيصلي لنا كما صلى في مسجد إخواننا، ويصلي فيه أبو عامر إذا قدم من الشام، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلة والليلة المطيرة، ونحب أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إني على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلينا لكم فيه ) فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضرار، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة، فقال :( انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ) فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بن الدخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الضرار، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن الأزعر، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف. وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد ابنا جارية، ونبتل بن الحارث، وبحزج، وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وثعلبة بن حاطب مذكور فيهم. قال أبو عمر بن عبدالبر : وفيه نظر ؛ لأنه شهد بدرا. وقال عكرمة : سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم بماذا أعنت في هذا المسجد ؟ فقال : أعنت فيه بسارية. فقال : أبشر بها سارية في عنقك من نار جهنم.
الثانية - قوله تعالى :" ضرارا " مصدر مفعول من أجله. " وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا " عطف كله. وقال أهل التأويل : ضرارا بالمسجد، وليس للمسجد ضرار، إنما هو لأهله. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا ضرر ولا ضرار من ضار ضار الله به ومن شاق الله عليه ). قال بعض العلماء : الضرر : الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة. والضرار : الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة. وقد قيل : هما بمعنى واحد، تكلم بهما جميعا على جهة التأكيد.
الثالثة - قال علماؤنا : لا يجوز أن يبني مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ. وكذلك قالوا : لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه. وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه. وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة٣فوجد الصلاة قد فاتته، فقيل له : إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد، فقال : لا أحب أن أصلي فيه ؛ لأنه بني على ضرار. قال علماؤنا : وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه. وقال النقاش : يلزم من هذا ألا يصلي في كنيسة ونحوها ؛ لأنها بنيت على شر.
قلت : هذا لا يلزم ؛ لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعا يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا. وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة. وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل. وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم.
الرابعة - قال العلماء : إن من كان إماما لظالم لا يصلي وراءه إلا أن يظهر عذره أو يتوب فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن جارية أن يصلي بهم في مسجدهم، فقال : لا ولا نعمة عين أليس بإمام مسجد الضرار فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه ولو علمت ما صليت بهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا قد عاشوا٤ على جاهليتهم وكانوا لا يقرؤون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب ما صنعت إثما ولا أعلم بما في أنفسهم فعذره عمر رضي الله عنهما٥ وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.
الخامسة - قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه فقال :( من بنى لله مسجدا ولو كمفحص٦ قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ) يهدم وينزع إذا كان فيه ضرر بغيره، فما ظنك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم. وذلك كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على الغير. وضابط هذا الباب : أن من أدخل على أخيه ضررا منع. فإن أدخل على أخيه ضررا بفعل ما كان له فعله في ماله فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضررا من الضرر الداخل على الفاعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول. مثال ذلك : رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الإطلاع على العورات محرم وقد ورد النهي فيه٧ فلحرمة الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر لأنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين ؛ إذ لم يكن بد من قطع أحدهما وهكذا الحكم في هذا الباب، خلافا للشافعي ومن قال بقوله. قال أصحاب الشافعي : لو حفر رجل في ملكه بئرا وحفر آخر في ملكه بئرا يسرق منها ماء البئر الأولة جاز ؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك. ومثله عندهم : لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفا يفسده عليه لم يكن له منعه ؛ لأنه تصرف في ملكه. والقرآن والسنة يردان هذا القول. وبالله التوفيق.
ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه، كدخان الفرن والحمام وغبار الأندر٨ والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه. وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب، فإن هذا مما لا غنى بالناس عنه، وليس مما يستحق به شيء ؛ فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم وأكبر من الصبر على ذلك ساعة خفيفة. وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه.
السادسة -ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه سئل عن امرأة عرض لها، يعني مسا من الجن، فكانت إذا أصابها زوجها وأجنبت أودنا منها يشتد ذلك بها. فقال مالك : لا أرى أن يقربها، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها.
السابعة - قوله تعالى :" وكفرا " لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد، قاله ابن العربي. وقيل :" وكفرا " أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قاله القشيري وغيره.
الثامنة - قوله تعالى :" وتفريقا بين المؤمنين " أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد.
التاسعة - تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال : لا تصلى جماعتان في مسجد واحد بإمامين. خلافا لسائر العلماء. وقد روي عن الشافعي المنع ؛ حيث كان تشتيتا للكلمة وإبطالا لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول : من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك عليهم. قال ابن العربي : وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة.
العاشرة - قوله تعالى :" وإرصادا لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر الراهب، وسمي بذلك لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافرا بقنسرين٩ بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين. فلما انهزمت هوازن خرج إلى الورم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين وقال : استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمدا من المدينة، فبنوا مسجد الضرار. وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غسيل١٠ الملائكة. والإرصاد : الانتظار. تقول : أرصدت كذا إذا أعددته مرتقبا له به. قال أبو زيد : يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر. وقال ابن الأعرابي : لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت. وقوله تعالى :" من قبل " أي من قبل بناء مسجد الضرار. " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسني، وهي الرفق بالمسلمين كما ذكروا لذي العلة والحاجة. وهذا يدل على أن الأفعال تختلف بالمقصود والإرادات ؛ ولذلك قال :" وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ". " والله يشهد إنهم لكاذبون " أي يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه.
٢ راجع ج ٧ ص ٣٢٠..
٣ كذا في ب و ج و ك وفي هـ: "بني عامرة" والذي في الطبري: "بني عامر"..
٤ في ب و ج: غشوا وفي هـ : عشوا. وفي ع: نشوا..
٥ من ع..
٦ الموضع الذي تجثم فيه وتبيض..
٧ في ع: عنه..
٨ الأندر: البيدر، وهو الموضع الذي يداس فيه الطعام، أي الحبوب..
٩ قنسرين (بكسر أوله وفتح ثانيه وتشديده ويكسر) : كورة بالشام..
١٠ سمي غسيل الملائكة لأنه استشهد يوم أحد وغسلته الملائكة، وذلك أنه كان قد ألم بأهله في حين خروجه إلى أحد، ثم هجم عليه من الخروج في النفير ما أنساه الغسل وأعجله عنه، فلما قتل شهيدا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة غسلته. (عن الاستيعاب)..
[سورة التوبة (٩): آية ١٠٨]
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) يَعْنِي مَسْجِدَ الضِّرَارِ، أَيْ لَا تَقُمْ فِيهِ لِلصَّلَاةِ. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَقُومُ اللَّيْلَ أَيْ يُصَلِّي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ... ، فَذَكَرَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَ لَا يَمُرُّ بِالطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا الْمَسْجِدُ، وَأَمَرَ بِمَوْضِعِهِ أَنْ يُتَّخَذَ كُنَاسَةً «١» تُلْقَى فِيهَا الْجِيَفُ وَالْأَقْذَارُ وَالْقُمَامَاتُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَبَداً"" أَبَداً" ظَرْفُ زَمَانٍ. وَظَرْفُ الزَّمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ: ظَرْفٌ مُقَدَّرٌ كَالْيَوْمِ، وَظَرْفٌ مُبْهَمٌ كَالْحِينِ وَالْوَقْتِ، وَالْأَبَدُ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ، وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ. وَتَنْشَأُ هُنَا مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ" أَبَدًا" وَإِنْ كَانَتْ ظَرْفًا مُبْهَمًا لَا عُمُومَ فِيهِ وَلَكِنَّهُ إِذَا اتَّصَلَ بِلَا النَّافِيَةِ أَفَادَ الْعُمُومَ، فَلَوْ قَالَ: لَا تَقُمْ، لَكَفَى فِي الِانْكِفَافِ الْمُطْلَقِ. فَإِذَا قَالَ:" أَبَدًا" فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَلَا فِي حِينٍ مِنَ الْأَحْيَانِ. فَأَمَّا النَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ إِذَا كَانَتْ خَبَرًا عَنْ وَاقِعٍ لَمْ تَعُمْ، وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ أَهْلُ اللِّسَانِ وَقَضَى بِهِ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ فَقَالُوا: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طالق أبدا طلقت طلقة واحدة.
(٢). الممارة: المجادلة.
(٣). من ج وهـ. وفي ع: قال هو.
لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الْحِجْرِ | أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ وَمِنْ دَهْرِ «٢» |
(٢). هذا البيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى مدح بها هرم بن سنان. والقنة (بالضم): أعلى الجبل وأراد بها هنا ما أشرف من الأرض. والحجر (بكسر الحاء): منازل ثمود بناحية الشام عند وادي القرى. وأقوين: خلون وأقفرن. والحجج: السنون. (راجع هذا البيت والكلام عليه في الشاهد الرابع والسبعين بعد السبعمائة من خزانة الأدب للبغدادي).
(٢). كذا في الأصول.
[سورة التوبة (٩): آية ١٠٩]
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ) أَيْ أَصَّلَ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ. وَ" مَنْ" بِمَعْنَى الَّذِي، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ" خَيْرٌ". وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَجَمَاعَةٌ" أَسَّسَ بُنْيانَهُ" عَلَى بِنَاءِ أُسِّسَ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ بُنْيَانُ فِيهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ] وَجَمَاعَةٌ [«٦» " أَسَّسَ بُنْيانَهُ" عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ بُنْيَانَهُ فِيهِمَا، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ لِكَثْرَةِ مَنْ قَرَأَ بِهِ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ سُمِّيَ فِيهِ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عاصم بن علي
(٢). راجع ج ١١ ص ١٧١ فما بعد.
(٣). دراهم ضربها رأس البغل لسيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه. [..... ]
(٤). زيادة عن ابن العربي.
(٥). المسربة (بفتح الراء وضمها): مجرى الحدث من الدبر يريد أعلى الحلقة.
(٦). من ج وع وك وهـ.
أَصْبَحَ الْمُلْكُ ثَابِتَ الْأَسَاسِ | فِي الْبَهَالِيلِ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ «١» |
يَسْتَنُّ فِي عَلْقًى وَفِي مُكُورِ «٣»
وَأَنْكَرَ سِيبَوَيْهِ التَّنْوِينَ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ." عَلى شَفا" الشَّفَا: الْحَرْفُ وَالْحَدُّ، وَقَدْ مَضَى فِي] آلِ عِمْرَانَ [«٤» مُسْتَوْفًى. وَ" جُرُفٍ" قُرِئَ بِرَفْعِ الرَّاءِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ بِإِسْكَانِهَا، مِثْلَ الشُّغُلِ وَالشُّغْلِ، وَالرُّسُلِ وَالرُّسْلِ، يَعْنِي جُرُفًا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ. وَالْجُرُفُ: مَا يَتَجَرَّفُ بِالسُّيُولِ مِنَ الْأَوْدِيَةِ، وَهُوَ جَوَانِبُهُ الَّتِي تَنْحَفِرُ بِالْمَاءِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَرْفِ وَالِاجْتِرَافِ، وَهُوَ اقْتِلَاعُ الشَّيْءِ مِنْ أَصْلِهِ." هَارٍ" سَاقِطٍ، يُقَالُ. تَهَوَّرَ الْبِنَاءُ إِذَا سَقَطَ، وَأَصْلُهُ هَائِرٌ، فَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ يُقْلَبُ وَتُؤَخَّرُ يَاؤُهَا، فَيُقَالُ: هَارٍ وَهَائِرٍ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَمِثْلُهُ لَاثَ الشَّيْءُ بِهِ إِذَا دَارَ، فَهُوَ لَاثٍ أَيْ لَائِثٍ. وَكَمَا قَالُوا: شَاكِي السِّلَاحِ وَشَائِكُ] السِّلَاحِ [«٥». قَالَ الْعَجَّاجُ:
لَاثٍ بِهِ الْأَشَاءُ وَالْعُبْرِيُّ
الْأَشَاءُ النَّخْلُ، وَالْعُبْرِيُّ السِّدْرُ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْأَنْهَارِ. وَمَعْنَى لَاثٍ بِهِ مُطِيفٌ بِهِ. وَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هَاوِرٍ، ثُمَّ يُقَالُ هَائِرٍ مِثْلِ صَائِمٍ، ثُمَّ يُقْلَبُ فَيُقَالُ هَارٍ. وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ وَمِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَأَنَّهُ يُقَالُ: تَهَوَّرَ وَتَهَيَّرَ. قُلْتُ: ولهذا يمال ويفتح.
(٢). هو العجاج. وصف ثورا يرتعى في ضروب من الشجر والعلقي والمكور: ضربان من الشجر. ومعنى يستن: يرتعى وسن الماشية رعيها. (عن شرح الشواهد).
(٣). هو العجاج. وصف ثورا يرتعى في ضروب من الشجر والعلقي والمكور: ضربان من الشجر. ومعنى يستن: يرتعى وسن الماشية رعيها. (عن شرح الشواهد).
(٤). راجع ج ٤ ص ١٦٤.
(٥). من ج وهـ.
[سورة التوبة (٩): آية ١١٠]
لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
(٢). راجع ج ١٠ ص ٤١٣.
(٣). راجع ج ٢٠ ص ١٦٦.
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً | وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ |
[سورة التوبة (٩): آية ١١١]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)
(٢). الوتين: عرق يسقى الكبد. الراغب. والوتين عرق في القلب. قاموس.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٨٧. [..... ]
الْجُودُ بِالْمَاءِ جُودٌ فِيهِ مَكْرُمَةٌ | وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ |
(٢). من ب وج وز وع وك وه وى.
(٣). من ع.
أُثَامِنُ بِالنَّفْسِ النَّفِيسَةِ رَبَّهَا | وَلَيْسَ لَهَا فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ ثَمَنْ |
بِهَا تُشْتَرَى الْجَنَّاتُ إِنْ أَنَا بِعْتُهَا | بِشَيْءٍ سِوَاهَا إِنَّ ذَلِكُمُ غَبَنْ |
لَئِنْ ذَهَبَتْ نَفْسِي بِدُنْيَا أَصَبْتُهَا | لَقَدْ ذَهَبَتْ نَفْسِي وَقَدْ ذَهَبَ الثَّمَنْ |
فإن تقتلونا نقتلكم...
أَيْ إِنْ تَقْتُلُوا بَعْضَنَا يَقْتُلْكُمْ بَعْضُنَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَقْدِيمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ هَذَا كَانَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ، وَأَنَّ الْجِهَادَ وَمُقَاوَمَةَ الْأَعْدَاءِ أَصْلُهُ مِنْ عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. و" وَعْداً" و" حَقًّا" مصدران مؤكدان.
[سورة التوبة (٩): آية ١١٢]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى" التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ" التَّائِبُونَ هُمُ الرَّاجِعُونَ عَنِ الْحَالَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَى الْحَالَةِ الْمَحْمُودَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَالتَّائِبُ هُوَ الرَّاجِعُ. وَالرَّاجِعُ إِلَى الطَّاعَةِ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الرَّاجِعِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ." الْعابِدُونَ" أَيِ الْمُطِيعُونَ الَّذِينَ قَصَدُوا بِطَاعَتِهِمُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ." الْحامِدُونَ" أَيِ الرَّاضُونَ بِقَضَائِهِ الْمُصَرِفُونَ نِعْمَتَهُ فِي طَاعَتِهِ، الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ." السَّائِحُونَ" الصَّائِمُونَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا. ومنه قوله تعالى:" عابِداتٍ سائِحاتٍ" «٣» [التحريم: ٥]. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّمَا قِيلَ لِلصَّائِمِ سَائِحٌ لِأَنَّهُ يَتْرُكُ اللَّذَّاتِ كُلِّهَا مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ:
وَبِالسَّائِحِينَ لَا يذوقون قطرة | لربهم والذاكرات العوامل |
(٢). راجع ج ١ ص ٢٣٨.
(٣). راجع ج ١٨ ص ١٩٢.
بَرًّا يُصَلِّي لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ | يَظَلُّ كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلَّهِ سَائِحَا |
(٢). من ج وهـ وز.
(٣). راجع ج ١٨ ص ١٩٣.
(٤). من ج.
[سورة التوبة (٩): آية ١١٣]
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وعبد الله بن أبي أمية ابن الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا عَمُّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ) فقال أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ" وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٨٢.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٨٢. [..... ]
(٤). راجع ج ١٥ ص ٣٨٢ - ٨٤ ٣.
(٥). من ب وج وع وك وهـ وز.
(٢). راجع ج ٩ ص ٤٣.
[سورة التوبة (٩): آية ١١٤]
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَقُلْتُ: أَتَسْتَغْفِرُ لَهُمَا وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَسْتَغْفِرْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ [لَهُ «٤»] فَنَزَلَتْ:" وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ". وَالْمَعْنَى: لَا حُجَّةَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنْ عِدَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ أَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَيَخْلَعَ الْأَنْدَادَ فَلَمَّا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ عَلِمَ أَنَّهُ عَدُوُّ اللَّهِ فَتَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُ فَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ:" إِيَّاهُ" تَرْجِعُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَالْوَاعِدُ أَبُوهُ. وَقِيلَ: الْوَاعِدُ إِبْرَاهِيمُ أَيْ وَعَدَ إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمَّا مَاتَ مُشْرِكًا تَبَرَّأَ مِنْهُ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا الوعد قوله:" سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي" «٥» [مريم: ٤٧]. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: تَعَلَّقَ النبي صلى الله عليه
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٢٦.
(٣). راجع ج ١٤ ص
(٤). من ع.
(٥). راجع ج ١١ ص ١١٠ فما بعد.
فأوه لذكراها إِذَا مَا ذَكَرْتُهَا | وَمِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنَا وَسَمَاءِ |
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ | تَأَوَّهَ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ |
[سورة التوبة (٩): الآيات ١١٥ الى ١١٦]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
(٢). وجيب القلب: خفقانه واضطرابه.
" «١» [الاسراء: ١٦] وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ" أَيْ أَمْرَ إِبْرَاهِيمَ أَلَّا يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً وَيُبَيِّنَ لَهُمُ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ عَامَّةً. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَشُدِّدَ فِيهَا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْرَبُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ" وَهَذِهِ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وغير هم الذين يقولون بخلق هدا هم وأيما نهم كَمَا تَقَدَّمَ «٢». قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) تَقَدَّمَ مَعْنُاهُ غير مرة «٣».
[سورة التوبة (٩): آية ١١٧]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧)
رَوَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزوة غزا ها حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ إِلَّا بَدْرًا وَلَمْ يُعَاتِبِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ إِنَّمَا خَرَجَ يُرِيدُ الْعِيرَ فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ مُغْوِثِينَ لِعِيرِهِمْ فَالْتَقَوْا عَنْ غَيْرِ موعد «٤»
(٢). راجع ج ١ ص ١٤٩، ٨٦ ١.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٤٩، ٢٦١. وج ٢ ص ٦٩. [..... ]
(٤). في ج وع وهـ: على غير وعد. وفي ك وى: من غير وعد.
(٢). راجع ص ١٥٤ وص ١ من هذا الجزء.
(٢). الفرث: السرجين (الزبل) ما دام في الكرش.
(٣). الناضح: البعير يستقى عليه ثم استعمل في كل بعير وإن لم يحمل الماء.
(٤). زيادة عن صحيح مسلم.
(٥). من هـ.
(٦). النطع: بساد من الأديم.
(٧). ربضة العنز (بضم الراء وتكسر): جثتها إذا بركت.
(٢). قراءة نافع بالتاء.
مِنْكَ أَرْجُو وَلَسْتُ أَعْرِفُ رَبًّا | يُرْتَجَى مِنْهُ بَعْضُ مَا مِنْكَ أَرْجُو |
وَإِذَا اشْتَدَّتِ الشَّدَائِدُ فِي الْأَرْ | ضِ عَلَى الْخَلْقِ فَاسْتَغَاثُوا وَعَجُّوا |
وَابْتَلَيْتَ الْعِبَادَ بِالْخَوْفِ وَالْجُو | عِ وَصَرُّوا «٢» عَلَى الذُّنُوبِ وَلَجُّوا |
لَمْ يَكُنْ لِي سِوَاكَ رَبِّي مَلَاذٌ | فَتَيَقَّنْتُ أَنَّنِي بِكَ أَنْجُو |
[سورة التوبة (٩): آية ١١٨]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) قِيلَ: عَنِ التَّوْبَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ «٣» مَعْنَى" خُلِّفُوا" تُرِكُوا، لِأَنَّ مَعْنَى خَلَّفْتُ فُلَانًا تَرَكْتُهُ وَفَارَقْتُهُ قَاعِدًا عَمَّا نَهَضْتُ فِيهِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بْنُ خالد" خُلِّفُوا" أي أقاموا
(٢). يريد (أصروا). [..... ]
(٣). في ع: ابن جرير.
(٢). في ج وع وك وهـ: عدو هم.
(٢). أي مطعونا عليه في دينه متهما بالنفاق.
(٣). هذا كناية عن كونه معجبا بنفسه ذا زهو وتكبر
(٤). المبيض (بكسر الياء): لابس البياض. والسراب: ما يظهر في الهواجر في البراري كأنه الماء. ويزول أي يتحرك.
(٢). تجد: تغضب.
(٣). أي وثبوا على.
(٢). قال الواقدي: هذا الرسول هو خزيمة بن ثابت.
[سورة التوبة (٩): آية ١١٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" هَذَا الْأَمْرُ بِالْكَوْنِ مَعَ أَهْلِ الصِّدْقِ حَسَنٌ بَعْدَ قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ حِينَ نَفَعَهُمُ الصِّدْقُ وَذَهَبَ بِهِمْ عَنْ مَنَازِلِ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ مُطَرِّفٌ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: قَلَّمَا كَانَ رَجُلٌ صَادِقًا لَا يَكْذِبُ إِلَّا مُتِّعَ بِعَقْلِهِ وَلَمْ يُصِبْهُ مَا يُصِيبُ غَيْرَهُ مِنَ الْهَرَمِ وَالْخَرَفِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ هُنَا بِالْمُؤْمِنِينَ وَالصَّادِقِينَ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيِ اتَّقُوا مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ." وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" أَيْ مَعَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَعَ الْمُنَافِقِينَ. أَيْ كُونُوا عَلَى مَذْهَبِ الصَّادِقِينَ وَسَبِيلِهِمْ. وَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، أَيْ كُونُوا مَعَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:" لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ" «٣» - الآية إلى قوله-" أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا" [البقرة: ١٧٧]. وَقِيلَ: هُمُ الْمُوفُونَ بِمَا عَاهَدُوا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ «٤» عَلَيْهِ" وَقِيلَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ، لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ السقيفة إن الله سمانا الصادقين
(٢). راجع ج ٦ ص ١٢.
(٣). راجع ج ٢ ص ٢٣٧.
(٤). راجع ج ١٤ ص.
(٢). من ع. وهو الصواب. وفي ب وك وهـ: الصفات. وهو خطأ.
(٣). في ع: سمعناه.
[سورة التوبة (٩): الآيات ١٢٠ الى ١٢١]
مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ) ظَاهِرُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ، كَقَوْلِهِ:" وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ" «١» [الأحزاب: ٣٥] وَقَدْ تَقَدَّمَ." أَنْ يَتَخَلَّفُوا" فِي مَوْضِعِ رَفْعِ اسْمِ كَانَ. وَهَذِهِ مُعَاتَبَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، كَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَغِفَارٍ وَأَسْلَمَ عَلَى التَّخَلُّفِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تَبُوكَ. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا، فَإِنَّ النَّفِيرَ كَانَ فِيهِمْ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُسْتَنْفَرُوا، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِنْفَارُ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ، وَخَصَّ هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوار هم، وأنهم أحق بذلك من غير هم. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أَيْ لَا يَرْضُوَا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْخَفْضِ وَالدَّعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَشَقَّةِ. يُقَالُ: رَغِبْتُ عَنْ كَذَا أَيْ تَرَفَّعْتُ عَنْهُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) أي عطش. وقرا عبيد ابن عُمَيْرٍ" ظَمَاءٌ" بِالْمَدِّ. وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ خَطَأٍ وخطاء. (وَلا نَصَبٌ) عطف، أي تعب، ولا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَكَذَا (وَلا مَخْمَصَةٌ) أَيْ مَجَاعَةٌ. وأصله ضمور البطن، ومنه رجل خميص
عَرَفْتُ بِبُرْقَةَ الْأَوْدَاهِ رَسْمًا | مُحِيلًا طَالَ عَهْدُكِ مِنْ رُسُومِ «٣» |
(٢). في ب وع وك وهـ: بالعطية. هما لغتان.
(٣). في ديوانه ومعجم البلدان لياقوت: (ببرقة الوداء) والوداء: واد أعلاه لبني العدوية والتيم وأسفله لبني كليب وضبة.
(٤). المرج: مرعى الدواب.
(٥). أدرب القوم: دخلوا أرض العدو.
(٦). سقط بعض من ب وع وك وهـ.
[سورة التوبة (٩): آية ١٢٢]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) هي أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ عَلَى الْأَعْيَانِ وَأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، إِذْ لَوْ نَفَرَ الْكُلُّ لَضَاعَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْعِيَالِ، فَلْيَخْرُجْ فَرِيقٌ مِنْهُمْ لِلْجِهَادِ وَلْيُقِمْ فَرِيقٌ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَحْفَظُونَ الْحَرِيمَ، حَتَّى إِذَا عَادَ النَّافِرُونَ أَعْلَمَهُمُ الْمُقِيمُونَ مَا تَعَلَّمُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَمَا تجدد نزول عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذِهِ الآية ناسخة لقوله تعالى:" إِلَّا تَنْفِرُوا" [التوبة: ٣٩] وَلِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقيم لا ينفر فيتركوه وحده." فَلَوْلا نَفَرَ" بعد ما عَلِمُوا أَنَّ النَّفِيرَ لَا يَسَعُ جَمِيعَهُمْ." مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ" وَتَبْقَى بَقِيَّتُهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
(٢). راجع ص ١٩٨ من هذا الجزء.
(٣). في الأصول: (ويقضون به على وجوب العمل) إلخ. والتصويب عن ابن العربي.
(٤). راجع ج ١٧ ص ٣١٥، ٣٢٢.
(٥). راجع ج ١٧ ص ٣١٥، ٣٢٢.
(٢). عبد القدوس روى عن أبي سعيد كما في الميزان.
(٣). كذا في الأصول: جميعا.
(٤). في هـ: يصح.
(٥). كذا في ع. وفي ب وهـ وك: سواهم.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢٣٦ فما بعد.
(٣). راجع ج ٤ ص ٤٠.
[سورة التوبة (٩): آية ١٢٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)
فيه مسألة واحدة- وهو أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَرَّفَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْجِهَادِ وَأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الْعَدُوِّ وَلِهَذَا بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرَبِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَصَدَ الرُّومَ وَكَانُوا بِالشَّامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَهِيَ مِنَ التَّدْرِيجِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقْتَ نُزُولِهَا الْعَرَبُ، فَلَمَّا فرغ منهم نزلت في الروم وغير هم:" قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" «٢» [التوبة: ٢٩]. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الدَّيْلَمُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ بِمَنْ يُبْدَأُ بِالرُّومِ أَوْ بِالدَّيْلَمِ؟ فَقَالَ بِالرُّومِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ قِتَالُ الدَّيْلَمِ وَالتُّرْكِ وَالرُّومِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ فِي قِتَالِ الْأَقْرَبِ فالأقرب، والأدنى فالأدنى.
(٢). راجع ص ١٠٩ من هذا الجزء. [..... ]
[سورة التوبة (٩): آية ١٢٤]
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤)
" مَا" صِلَةٌ، وَالْمُرَادُ الْمُنَافِقُونَ." أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً" قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ فِي سُورَةِ [آلِ عِمْرَانَ «١»]. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى السُّورَةِ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ «٢»، فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. وَكَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ «٣» (إِنَّ لِلْإِيمَانِ سُنَنًا وَفَرَائِضَ مَنِ اسْتَكْمَلَهَا فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ) قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: (فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ). ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ أَقُولَ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وإلا رددت القرآن.
[سورة التوبة (٩): آية ١٢٥]
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥)
(٢). راجع ج ١ ص ٦٥.
(٣). الذي في البخاري: (كتب عمر بن العزيز إلى عدى بن عدى.. ) إلخ فراجعه في كتاب الايمان.
[سورة التوبة (٩): آية ١٢٦]
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى. (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالْيَاءِ، خَبَرًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ بِالتَّاءِ خَبَرًا عَنْهُمْ وَخِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وقرا الأعمش" أو لم يَرَوْا". وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ" أَوَلَا تَرَى" وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَ" يُفْتَنُونَ" قَالَ الطَّبَرِيُّ: يُخْتَبَرُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْقَحْطِ وَالشِّدَّةِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَوْجَاعِ، وَهِيَ رَوَائِدُ الْمَوْتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: بِالْغَزْوِ وَالْجِهَادِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرَوْنَ مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ النَّصْرِ" ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ" لِذَلِكَ" وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ".
[سورة التوبة (٩): آية ١٢٧]
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) " مَا" صِلَةٌ، وَالْمُرَادُ الْمُنَافِقُونَ، أَيْ إِذَا حَضَرُوا الرَّسُولَ وَهُوَ يَتْلُو قُرْآنًا أُنْزِلَ فِيهِ فَضِيحَتُهُمْ أَوْ فَضِيحَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ جَعَلَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِ نَظَرَ الرُّعْبِ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ، يَقُولُ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِذَا تَكَلَّمْتُمْ بِهَذَا فَيَنْقُلُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُمْ بِنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُهُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْبِهِ. وَقِيلَ إِنَّ" نَظَرَ" فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى أَنْبَأَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ:" نَظَرَ" فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْضِعُ قَالَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ انْصَرَفُوا) أَيِ انْصَرَفُوا عَنْ طَرِيقِ الِاهْتِدَاءِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَمَا بَيَّنَ لَهُمْ كَشْفَ أسرار هم والاعلام بمغيبات أمور هم يَقَعُ لَهُمْ لَا مَحَالَةَ تَعَجُّبٌ وَتَوَقُّفٌ وَنَظَرٌ،
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٨٨.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢٤٥.
(٤). راجع ج ٤ ص ٢٨٢.
(٥). راجع ج ٩ ص ٢٩.
قوله تعالى :" ثم انصرفوا " أي انصرفوا عن طريق الاهتداء. وذلك أنهم حينما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة لإيمانهم، فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون١ فيه كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء، ولم يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سماع من يتدبره وينظر في آياته ؛ " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون٢ " [ الأنفال : ٢٢ ]. " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها٣ " [ محمد : ٢٤ ].
قوله تعالى :﴿ صرف الله قلوبهم ﴾ فيه ثلاث مسائل :
الأولى - قوله تعالى :" صرف الله قلوبهم " دعاء عليهم، أي قولوا لهم هذا. ويجوز أن يكون خبرا عن صرفها عن الخير مجازاة على فعلهم. وهي كلمة يدعي بها، كقوله :" قاتلهم الله " [ التوبة : ٣٠ ] والباء في قوله :" بأنهم " صلة ل " صرف ".
الثانية - قال ابن عباس : يكره أن يقال انصرفنا من الصلاة ؛ لأن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قضينا الصلاة، أسنده الطبري عنه. قال ابن العربي : وهذا فيه نظر وما أظنه بصحيح فإن نظام الكلام أن يقال : لا يقل أحد انصرفنا من الصلاة، فإن قوما قيل فيهم :" ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ".
أخبرنا محمد بن عبدالملك القيسي الواعظ حدثنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه يقول : كنا في جنازة فقال المنذر بها : انصرفوا رحمكم الله فقال : لا يقل أحد انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم :" ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم " ولكن قولوا : انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم :" فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم٤ سوء " [ آل عمران : ١٧٤ ].
الثالثة - أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه صارف القلوب ومصرفها وقالبها ومقلبها، ردا على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم وجوارحهم بحكمهم، يتصرفون بمشيئتهم ويحكمون بإراداتهم واختيارهم ؛ ولذلك قال مالك فيما رواه عنه أشهب : ما أبين هذا في الرد على القدرية " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم " [ التوبة : ١١٠ ]. وقوله عز وجل لنوح :" أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن٥ " [ هود : ٣٦ ] فهذا لا يكون أبدا ولا يرجع ولا يزول.
٢ راجع ٧ ص ٣٨٨..
٣ راجع ج ١٦ ص ٢٤٥..
٤ راجع ج ٤ ص ٢٨٢..
٥ راجع ج ٩ ص ٢٩..
[سورة التوبة (٩): الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي قَوْلِ أُبَيٍّ أَقْرَبُ الْقُرْآنِ بِالسَّمَاءِ عَهْدًا. وَفِي قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: آخَرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ" وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ" [البقرة: ٢٨١] عَلَى مَا تَقَدَّمَ «١». فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أُبَيٍّ: أَقْرَبُ الْقُرْآنِ بِالسَّمَاءِ عَهْدًا بَعْدَ قَوْلِهِ:" وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْخِطَابُ لِلْعَرَبِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ تَعْدِيدِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، إِذْ جَاءَ بِلِسَانِهِمْ وَبِمَا يَفْهَمُونَهُ، وَشَرُفُوا بِهِ غَابِرَ الْأَيَّامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ مُخَاطَبَةٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ وَالْمَعْنَى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا وَلَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَوْكَدُ لِلْحُجَّةِ أَيْ هُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لِتَفْهَمُوا عَنْهُ وَتَأْتَمُّوا بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْ أَنْفُسِكُمْ" يَقْتَضِي مَدْحًا لِنَسَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ وَخَالِصِهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ). وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنِّي مِنْ نِكَاحٍ وَلَسْتُ مِنْ سِفَاحٍ). مَعْنَاهُ أَنَّ نَسَبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنِ النَّسْلُ فِيهِ إِلَّا مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ يكن فيه زنى. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُسَيْطٍ الْمَكِّيُّ مِنْ" أَنْفُسِكُمْ" بِفَتْحِ الْفَاءِ مِنَ النِّفَاسَةِ، وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أشرفكم وأفضلكم من قولك: شي نَفِيسٌ إِذَا كَانَ مَرْغُوبًا فِيهِ. وَقِيلَ: مِنْ أنفسكم أي أكثر كم طاعة.
(٢). راجع ج ١ ص ١٠٣. وج ٢ ص ١٥٣، ١٥٨